اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

فصل

قال بعض النّصارى (١) : لما جاز إطلاق اسم الخليل على إنسان معيّن على سبيل الإعزاز والتّشريف فلم لا يجوز إطلاق الابن في حقّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ على سبيل الإعزاز والتشريف؟

وجوابهم : أن الفرق بينهما : بأن الخليل عبارة عن المحبّة المفرطة ، وذلك لا يقتضي الجنسيّة ، وأما الابن : فإنه يشعر بالجنسيّة ، وجلّ الإله عن مجانسة الممكنات ، ومشابهة المحدثات.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (١٢٦)

في تعلّق الآية بما قبلها وجوه :

أحدها : [أن المعنى](٢) أن الله لم يتّخذ إبراهيم خليلا لاحتياجه إليه في شيء كخلة الآدميّين ، وكيف (٣) يعقل ذلك ، وله ملك السّموات والأرض ، وإنما اتّخذه خليلا لمحض الكرم.

وثانيها : أنّه ـ تعالى ـ ذكر من أوّل السّورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من الأمر والنّهي ، والوعد والوعيد ، وذكر في هذه الآية أنّه إله المحدثات ، وموجد الكائنات ، ومن كان ملكا مطاعا ، وجب على كلّ عاقل أن يخضع لتكاليفه ، وينقاد لأمره.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لما ذكر الوعد والوعيد ، ولا يمكن الوفاء بهما إلا بأمرين :

أحدهما : القدرة التّامّة [المتعلّقة](٤) بجميع الكائنات والممكنات.

والثاني : [العلم](٥) المتعلّق بجميع الجزئيّات والكلّيات ؛ حتى لا يشتبه عليه المطيع ، والعاصي ، والمحسن والمسيء (٦) ؛ فدلّ على كمال قدرته بقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، وعلى كمال علمه بقوله : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً).

ورابعها : أنه ـ تعالى ـ لمّا وصف إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنه خليله ، بين أنّه مع هذه الخلّة عبد له ، وذلك أنّ له ما في السّموات وما في الأرض ، ونظيره قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] ويجري مجرى قوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢] يعني : أنّ الملائكة مع كمالهم في صفة القدرة ، والقوّة في صفة العلم والحكمة ، لم

__________________

ـ الحديث (٦٣١٦) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٥٢٥ ـ ٥٢٦ كتاب صلاة المسافرين باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه الحديث (١٨١ / ٧٦٣).

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٤٨.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : فكيف.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : بالسيىء.

٤١

يستنكفوا عن عبادة الله ؛ كذا ههنا ، يعني : إذا كان كل من في السّموات والأرض ملكه في تسخيره ، فكيف يعقل أن يقال : إن اتّخاذ الله إبراهيم خليلا ، يخرجه عن عبوديّة الله.

فصل

إنما قال : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ولم يقل «من» لأنه ذهب به مذهب الجنس ، والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ، ذكر ب «ما».

قوله : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) فيه وجهان :

أحدهما : المراد منه : الإحاطة في العلم.

والثاني : الإحاطة بالقدرة ؛ كقوله : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) [الفتح : ٢١].

قال القائلون بهذا (١) القول : وليس لقائل أن يقول : لمّا دل قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) على كمال القدرة ، لزم التّكرار ؛ لأنّا نقول إنّ قوله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [لا يفيد ظاهره](٢) إلا كونه (٣) قادرا على ما يكون خارجا عنهما ، ومغايرا [لهما](٤) ، فلما قال : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) دلّ ذلك على كونه قادرا على ما لا نهاية له من المقدورات خارج هذه السّموات والأرض.

قوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) [الآية](٥) الى قوله تعالعى (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً)(٦)

أي : يستخبرونك في النّساء.

قال الواحدي ـ رحمه‌الله (٧) ـ : الاستفتاء : طلب الفتوى ، يقال : استفتيت الرّجل في المسألة ؛ فأفتاني إفتاءا وفتيا وفتوى ، [وهما](٨) اسمان وضعا موضع الإفتاء ، ويقال : أفتيت فلانا في رؤيا رآها إذا عبّرها ، قال ـ تعالى ـ : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) [يوسف : ٤٦] ، ومعنى : أفتنا (٩) : إظهار المشكل ، وأصله : من الفتى : وهو الشّابّ (١٠) القوي ، فالمعنى : كأنّه يقوى بفتيانه ، والمشكل إذا زال إشكاله ببيانه ما أشكل ، يصير قويّا فتيّا.

__________________

(١) في ب : هذا

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : لا يكون.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٥٠.

(٨) سقط في ب.

(٩) في ب : الإفتاء.

(١٠) في أ : الثبات.

٤٢

واعلم : أنّ عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم ، أن يذكر الأحكام ، ثمّ يذكر عقيبه (١) آيات الوعد والوعيد ، والتّرغيب والتّرهيب ، ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله ـ تعالى ـ وجلال قدرته ، ثم يعود إلى بيان الأحكام ، وهذا أحسن أنواع التّرتيب ، وأقوى تأثيرا في القلوب ؛ لأن التّكليف بالأعمال الشّاقّة لا يقع موقع القبول ، إلا إذا اقترن (٢) بالوعد والوعيد ، وذلك لا يؤثّر إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد.

قوله [تعالى](٣) : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) الآية اعلم : أن الاستفتاء لا يقع عن ذوات النّساء ، وإنّما يقع عن حالة من أحوالهنّ ، وصفة من صفاتهن ، وتلك الحالة غير مذكورة في الآية ، فكانت مجملة غير دالّة على الأمر الذي (٤) وقع عنه الاستفتاء.

فصل في سبب نزول الآية

قال القرطبي (٥) : هذه الآية نزلت بسبب قوم من الصّحابة ، سألوا عن أمر النّساء وأحكامهن في الميراث (٦) وغير ذلك ، فأمر الله نبيّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يقول لهم : (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) أي : يبيّن لكم حكم ما سألتم عنه ، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السّورة من أمر النّساء ، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها ، فسألوا ؛ فقيل لهم : [إن](٧) الله يفتيكم فيهنّ.

[وروي عن مالك قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي ، وذلك في كتاب الله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ)](٨)(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) [البقرة : ٢٢٠] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٩] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) [طه : ١٠٥] و (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) [المائدة : ٤].

(وَما يُتْلى) : فيه سبعة أوجه ، وذلك أن موضع «ما» يحتمل أن يكون رفعا ، أو نصبا ، أو جرا ، فالرّفع من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مرفوعا ، عطفا على الضّمير المستكنّ في «يفتيكم» العائد على الله ـ تعالى ـ ، وجاز ذلك للفصل بالمفعول والجارّ والمجرور ، مع أن الفصل بأحدهما كاف.

والثّاني : أنه معطوف على لفظ الجلالة فقط ؛ ذكره أبو البقاء (٩) وغيره ، وفيه نظر ؛ لأنه: إمّا أن يجعل من عطف مفرد على مفرد ، فكان يجب أن يثنّى الخبر ، وإن توسّط بين المتعاطفين ، فيقال : «يفتيانكم» ، إلّا أنّ ذلك لا يجوز ، ومن ادّعى جوازه ، يحتاج إلى

__________________

(١) في أ : بعده.

(٢) في أ : قرن.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : التي.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٥٨.

(٦) في ب : الممات.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

(٩) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٦.

٤٣

سماع من العرب ، فيقال : «زيد قائمان وعمرو» ، ومثل هذا لا يجوز ، وإمّا أن يجعل من عطف الجمل ، بمعنى : أنّ خبر الثّاني محذوف ، أي : وما يتلى عليكم ، يفتيكم ، فيكون هذا هو الوجه الثّالث ـ وقد ذكروه ـ فيلزم التّكرار.

والثالث من أوجه الرّفع : أنه رفع بالابتداء ، وفي الخبر احتمالان :

أحدهما : أنه الجارّ بعده ، وهو «في الكتاب» والمراد ب (ما يُتْلى) القرآن ، وب «الكتاب» : اللوح المحفوظ ، وتكون هذه الجملة معترضة بين البدل والمبدل منه ، على ما سيأتي بيانه ، وفائدة الإخبار بذلك : تعظيم المتلوّ ، ورفع شأنه ؛ كقوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤].

والاحتمال الثاني : أن الخبر محذوف ، أي : والمتلوّ عليكم في الكتاب يفتيكم ، أو يبيّن لكم أحكامهن.

وذلك المتلوّ في الكتاب هو قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] وحاصل الكلام : أنّهم قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النّساء ، فما كان منها غير مبيّن الحكم ، ذكر أن الله يفتيهم فيها ، وما كان فيها مبيّن الحكم في الآيات المتقدّمة ، ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها ، وجعل دلالة الكتاب على الحكم إفتاء (١) من الكتاب ؛ كما يقال في المجاز المشهور : كتاب الله يبيّن لنا هذا الحكم ، وكلام الزّمخشري يحتمل جميع الأوجه ، فإنه قال : (ما يُتْلى) في محلّ الرفع ، أي : الله يفتيكم ، والمتلوّ في الكتاب في معنى : اليتامى ، يعني قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣]. وهو من قولك : «أعجبني زيد وكرمه» انتهى ، يعني : أنّه من باب التّجريد ؛ إذ المقصود الإخبار بإعجاب كرم زيد ، وإنما ذكر زيد ؛ ليفيد هذا المعنى الخاصّ لذلك المقصود أنّ الذي يفتيهم هو المتلوّ في الكتاب ، وذكرت الجلالة للمعنى المشار ، وقد تقدّم تحقيق التّجريد في أوّل البقرة ، عند قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) [البقرة : ٩٥].

والجرّ من وجهين :

أحدهما : أن تكون الواو للقسم ، وأقسم الله بالمتلوّ في شأن النّساء ؛ تعظيما له ، كأنه قيل : وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب ؛ ذكره الزمخشري.

والثاني : أنه عطف على الضّمير المجرور ب «في» أي : يفتيكم فيهنّ وفيما يتلى ، وهذا منقول عن محمّد بن أبي موسى ، قال : «أفتاهم الله فيما سألوا عنه ، وفيما لم يسألوا» ، إلا أنّ هذا ضعيف من حيث الصّناعة ؛ لأنه عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ ؛ وهو رأي الكوفيّين ، وقد تقدّم مذاهب النّاس فيه عند قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ٢١٧].

__________________

(١) في أ : فتيا.

٤٤

قال الزّمخشريّ (١) : «ليس بسديد أن يعطف على المجرور في «فيهنّ» ؛ لاختلاله من حيث اللّفظ والمعنى» وهذا سبقه إليه أبو إسحاق (٢).

قال [الزجاج] : وهذا بعيد بالنّسبة إلى اللّفظ وإلى المعنى : أمّا اللّفظ ؛ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر ، وأما المعنى : فلأنه ليس المراد أنّ الله يفتيكم في شأن ما يتلى عليكم في الكتاب ، وذلك غير جائز ؛ كما لم يجز في قوله : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] يعني : من غير إعادة الجارّ.

وقد أجاب أبو حيّان (٣) عما ردّ به الزّمخشريّ والزجاج ؛ بأن التّقدير : يفتيكم في متلوّهنّ ، وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النّساء ، وحذف لدلالة قوله : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ، وإضافة «متلو» إلى ضمير «هنّ» سائغة ، إذ الإضافة إليهنّ ، كقوله : (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] لمّا كان المكر يقع فيهما ، صحّت إضافته إليهما ، ومثله قول الآخر : [الطويل].

١٨٨٥ ـ إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة

سهيل أذاعت غزلها في الغرائب (٤)

[قال شهاب الدين] : وفي هذا الجواب نظر.

والنّصب بإضمار فعل ، أي : ويبيّن لكم ما يتلى [عليكم] ؛ لأنّ «يفتيكم» بمعنى يبيّن لكم ، واختار أبو حيّان وجه الجرّ على العطف على الضّمير ، مختارا لمذهب الكوفيّين قال : لأنّ الأوجه كلّها تؤدّي إلى التّأكيد ، وأمّا وجه العطف على الضمير [المجرور] ، فيجعله تأسيسا ، قال : «وإذا دار الأمر بينهما ؛ فالتّأسيس أولى» ، وفي إفراد هذا الوجه بالتّأسيس دون بقيّة الأوجه نظر لا يخفى.

قوله : «في الكتاب» يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق ب «يتلى».

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من الضّمير المستكنّ في «يتلى».

والثالث : أنه خبر «ما يتلى» على الوجه الصّائر إلى أنّ «ما يتلى» مبتدأ ، فيتعلق بمحذوف أيضا ، إلّا أنّ محلّه على هذا الوجه رفع ، وعلى ما قبله نصب.

قوله : (فِي يَتامَى النِّساءِ) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه بدل من «الكتاب» وهو بدل اشتمال ، ولابد من حذف مضاف ، أي : في حكم يتامى ، ولا شك أن الكتاب مشتمل على ذكر أحكامهن.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٥٧٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ١٢٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٧٦.

(٤) ينظر البيت في المحتسب ٢ / ٢٢٨ واللسان (غرب) وابن يعيش ٣ / ٨ ، والمقرب ١ / ٢١٣ والدر المصون ٢ / ٤٣٢.

٤٥

والثاني : أن يتعلّق ب «يتلى».

فإن قيل : كيف يجوز تعلّق حرفي جرّ بلفظ واحد ، ومعنى واحد؟.

فالجواب أنّ معناهما مختلف ، لأن الأولى للظّرفية على بابها ، والثانية بمعنى الباء ، للسببية مجازا ، أو حقيقة عند من يقول بالاشتراك.

وقال أبو البقاء (١) : كما تقول : «جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد».

والثالث : أنه بدل من «فيهنّ» بإعادة العامل ، ويكون هذا بدل بعض من كلّ.

قال الزّمخشريّ : «فإن قلت : بم تعلّق قوله : (فِي يَتامَى النِّساءِ؟) قلت : في الوجه الأوّل هو صلة «يتلى» أي : يتلى عليكم في معناهنّ ، ويجوز أن يكون (فِي يَتامَى) بدلا من «فيهنّ» ، وأما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير» انتهى ، يعني بالوجه الأول : أن يكون (ما يُتْلى) مرفوع المحلّ.

قال أبو حيّان (٢) : «أمّا ما أجازه في وجه الرفع من كونه صلة «يتلى» فلا يجوز إلّا أن يكون بدلا من (فِي الْكِتابِ) أو تكون «في» للسّببية ، لئلا يتعلّق حرفا جر بلفظ واحد ، ومعنى واحد ، بعامل واحد ، وهو ممتنع إلّا في البدل والعطف ، وأمّا تجويزه أن يكون بدلا من «فيهن» فالظاهر أنه لا يجوز ؛ للفصل بين البدل والمبدل منه بالمعطوف ، ويصير هذا نظير قولك : «زيد يقيم في الدّار ، وعمرو في كسر منها» ففصلت بين «في الدّار» وبين «في كسر» ب «عمرو» ، والمعهود في مثل هذا التّركيب : «زيد يقيم في الدّار في كسر منها وعمرو».

الرابع : أن يتعلّق بنفس الكتاب أي : فيما كتب في حكم اليتامى.

الخامس : أنه حال فيتعلّق بمحذوف ، وصاحب الحال هو المرفوع ب «يتلى» أي : كائنا في حكم يتامى النّساء ، وإضافة «يتامى» إلى النّساء من باب إضافة الخاصّ إلى العامّ ؛ لأنهن ينقسمن إلى يتامى وغيرهن.

وقال الكوفيّون : هو من إضافة الصّفة إلى الموصوف ؛ إذا الأصل : في النّساء اليتامى كقولك : يوم الجمعة وحق اليقين ، وهذا عند البصريّين لا يجوز ، ويؤوّلون ما ورد من ذلك ؛ ولأن الصفة والموصوف شيء واحد ، وإضافة الشيء إلى نفسه محال.

وقال الزّمخشريّ (٣) : فإن قلت : إضافة اليتامى إلى النّساء ما هي؟ قلت : هي إضافة ، بمعنى : «من» نحو : سحق عمامة.

قال أبو حيّان (٤) : «والذي ذكره النّحويّون من ذلك [إنّما هو] إضافة الشّيء إلى

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٧٧.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٥٧٠.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٧٨.

٤٦

جنسه ، نحو : «خاتم حديد» ويجوز الفصل : إمّا بإتباع ، نحو : «خاتم حديد» ، أو تنصبه تمييزا ، نحو : «خاتم حديدا» ، أو بجره ب «من» نحو : خاتم من حديد» ، قال : «والظّاهر أن إضافة «سحق عمامة» و «يتامى النّساء» بمعنى : اللام ، ومعنى اللام : الاختصاص». وهذا الردّ ليس بشيء ، فإنهم ذكروا [في] ضابط الإضافة التي بمعنى «من» أن تكون إضافة جزء إلى كلّ ، بشرط صدق اسم الكلّ على البعض ، ولا شك أن «يتامى» بعض من النّساء ، والنّساء يصدق عليهنّ ، وتحرّزنا بقولنا : «بشرط صدق الكلّ على البعض» من نحو : «يد زيد» فإنّ زيدا لا يصدق على اليد وحدها.

وقال أبو البقاء (١) : (فِي يَتامَى النِّساءِ) [أي :] في اليتامى منهنّ» وهذا تفسير معنى لا إعراب.

والجمهور على «يتامى» جمع : يتيمة.

وقرأ أبو عبد الله المدني (٢) : «ييامى» بياءين من تحت ، وخرّجه ابن جنّي (٣) : على أن الأصل «أيامى» فأبدل من الهمزة ياء ، كما قالوا : «فلان ابن أعصر ويعصر» ، والهمزة أصل ، سمّي بذلك ، لقوله : [الكامل]

١٨٨٦ ـ أبنيّ إنّ أباك غيّر لونه

كرّ اللّيالي واختلاف الأعصر (٤)

وهم يبدلون الهمزة من الياء ، كقولهم : «قطع الله أده» يريدون : يده ، فلذلك يبدلون منها الياء ، و «أيامى» : جمع «أيّم» بوزن : فيعل ، ثم كسّر على أيايم ، كسيّد وسيايد ، ثم قلبت اللّام إلى موضع العين ، والعين إلى موضع اللّام ، فصار اللّفظ «أيامي» ثم قلبت الكسرة فتحة ؛ لخفّتها ، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ؛ فصار : «أيامى» فوزنه فيالع.

وقال أبو الفتح أيضا : ولو قيل إنه كسّر أيّم على فعلى ، كسكرى ، ثم كسّر ثانيا على «أيامى» لكان وجها حسنا ، وسيأتي تحقيق هذه اللّفظة [إن شاء الله تعالى] عند قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢].

وقرىء (٥) : «ما كتب الله لهنّ» بتسمية الفاعل.

فصل في سبب نزول الآية

ذكروا في سبب نزول الآية قولين :

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١١٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٧٨ ، والدر المصون ٢ / ٤٣٤.

(٣) ينظر : المحتسب ١ / ٢٠٠.

(٤) البيت لأعصر بن سعد. ينظر الخصائص ٢ / ٨٦ واللسان (عصر) والمحتسب ١ / ٢٠٠ والدر المصون ٢ / ٤٣٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٧٨.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٧٨ ، والدر المصون ٢ / ٤٣٤.

٤٧

الأوّل : أن العرب كانت لا تورث النّساء والصّبيان شيئا من الميراث ؛ كما ذكرنا (١) في أوّل السّورة ، فنزلت هذه الآية في توريثهم ، قال ابن عبّاس : يريد ما فرض لهنّ من الميراث (٢).

الثاني : أن الآية نزلت في توفية الصّداق لهنّ ، وكانت (٣) اليتيمة تكون عند الرّجل ، فإن كانت جميلة ومال إليها ، تزوّج بها وأكل مالها ، وإن كانت ذميمة ، منعها الأزواج حتى تموت ، فأنزل الله هذه الاية (٤).

قوله : «وترغبون» فيه أوجه :

أحدها : ـ وهو الظاهر ـ أنه معطوف على الصّلة ، عطف جملة مثبتة على جملة منفية ، أي : اللّاتي لا تؤتونهنّ ، واللّاتي ترغبون أن تنكحوهنّ ؛ كقولك : «جاء الّذي لا يبخل ، ويكرم الضّيفان».

والثاني : أنه معطوف على الفعل المنفيّ ب «لا» أي : لا تؤتونهن ولا ترغبون.

والثالث : أنه حال من فاعل «تؤتونهن» أي : لا تؤتونهنّ ، وأنتم راغبون في نكاحهنّ ، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء (٥) ، وفيهما نظر : أمّا الأول : فلخلاف الظّاهر ، وأما الثّاني : فلأنه مضارع فلا تدخل عليه الواو إلا بتأويل لا حاجة لنا به ههنا.

و (أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) على حذف حرف الجرّ ، ففيه الخلاف المشهور : أهي في محل نصب أم جر؟ واختلف في تقدير حرف الجرّ.

فقيل : هو «في» أي : ترغبون في نكاحهنّ ؛ لقبحهن وفقرهنّ ، وكان الأولياء كذلك : إن رأوها جميلة موسرة ، تزوجها وليّها ، وإلّا رغب عنها ، والقول الأوّل مرويّ عن عائشة وطائفة كبيرة.

قال أبو عبيدة (٦) : هذه الآية [تحتمل](٧) الرّغبة والنّفرة (٨).

فإن حملته على الرّغبة ، كان المعنى : وترغبون أن تنكحوهنّ.

وإن حملته على النّفرة ، كان المعنى : وترغبون عن أن تنكحوهن ؛ لدمامتهن.

فإن قيل : إن النحاة ذكروا أن حرف الجرّ يجوز حذفه باطّراد مع «أن» و «أنّ» بشرط أمن اللّبس ، يعني : أن يكون الحرف متعيّنا ، نحو : «عجبت أن تقوم» أي : من أن تقوم ، بخلاف «ملت إلى أن تقوم» أو «عن أن تقوم» والآية من هذا القبيل.

__________________

(١) في ب : ذكروا.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : فكانت.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٦.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٥١.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : الثغرة والرغبة.

٤٨

فالجواب : أن المعنيين هنا صالحان ؛ يدل عليه ما ذكرت لك من سبب النّزول ، فصار كلّ من الحرفين مرادا على سبيل البدل.

فصل مذهب الأحناف فيمن له ولاية الإجبار

استدل الحنفيّة بهذه الآية ، على أنّه يجوز لغير الأب والجدّ تزويج الصّغيرة ، ولا حجّة لهم فيها ؛ لاحتمال أن يكون المراد : وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن ، ويدل على صحّة قولنا : إن قدامة بن مظعون زوّج ابنة أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر ، فخطبها المغيرة بن شعبة ، ورغّب أمّها في المال ، فجاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال قدامة : أنا عمّها ووصيّ أبيها (١) ، فقال النّبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّها صغيرة ولا تزوّج إلا بإذنها» وفرّق بينها وبين ابن عمر (٢) ، وليس في الآية أكثر من رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة ، وذلك لا يدلّ على الجواز.

[قوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : ـ أنه معطوف على (يَتامَى النِّساءِ) أي : ما يتلى عليكم في يتامى النّساء وفي المستضعفين ، والذي تلي عليهم فيهم قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] ، وذلك أنّهم كانوا يقولون : لا نورّث إلا من يحمي الحوزة ، ويذبّ عن الحرم ، فيحرمون المرأة والصّغير ؛ فنزلت].

(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) وهم الصّغار ، أن تعطوهم حقوقهم ؛ لأنّهم كانوا لا يورثون الصّغار ، يريد ما يتلى عليكم في باب «اليتامى» من قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] ، يعني : إعطاء حقوق الصّغار.

والثّاني : أنّه في محلّ جر ، عطفا على الضّمير في «فيهن» ؛ وهذا رأي كوفيّ.

والثالث : أنه منصوب عطفا على موضع «فيهن» أي : ويبيّن حال المستضعفين.

قال أبو البقاء (٣) : «وهذا التّقدير يدخل في مذهب البصريّين من غير كلفة» يعني : أنه خير من مذهب الكوفيين ، حيث يعطف على الضّمير المجرور من غير إعادة الجارّ.

قوله : (وَأَنْ تَقُومُوا) فيه خمسة أوجه :

الثلاثة المتقدمة قبله ، فيكون هو كذلك لعطفه على ما قبله ، والمتلوّ عليهم في هذا المعنى قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢].

والرابع : النّصب بإضمار فعل.

قال الزّمخشريّ : «ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار «يأمركم» ، بمعنى : ويأمركم أن

__________________

(١) في ب : أمها.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره ١١ / ٥١.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٦.

٤٩

تقوموا ، وهو خطاب للأئمة بأن ينظروا إليهم ، ويستوفوا لهم حقوقهم ، ولا يدعوا أحدا يهتضم جانبهم» ، فهذا الوجه من النّصب غير الوجه المذكور قبله.

والخامس : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : وقيامكم لليتامى بالقسط خير لكم ، وأول الأوجه أوجه ، والمعنى : أن تقوموا لليتامى بالقسط ، أي : بالعدل في مهورهن ، ومواريثهن.

ثم قال : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) يجازيكم به.

[قوله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(١٢٨)

وقوله : «وإن امرأة» : «امرأة» فاعل بفعل مضمر واجب الإضمار ، وهذه من باب الاشتغال ، ولا يجوز رفعها بالابتداء ، لأنّ أداة الشّرط لا يليها إلا الفعل عند جمهور البصريّين ، خلافا للأخفش ، والكوفيّين ، والتقدير : «وإن خافت امرأة خافت» ، ونحوه : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة : ٦] ، واستدلّ البصريّون على مذهبهم : بأن الفعل قد جاء مجزوما بعد الاسم الواقع بعد أداة الشّرط في قول عديّ : [الخفيف]

١٨٨٧ ـ ومتى واغل ينبهم يحيّو

ه وتعطف عليه كأس السّاقي (٢)

قال بعضهم : خافت ، أي : علمت ، وقيل : ظنّت. قال ابن الخطيب (٣) : ولا حاجة لترك الظّاهر ؛ لأن الخوف إنّما يكون عند ظهور أمارات [تدلّ عليه](٤) من جهة الزّوج ، إمّا قوليّة أو فعليّة.

قوله (مِنْ بَعْلِها) يجوز أن يتعلّق ب «خافت» وهو الظّاهر ، وأن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من : «نشوزا» إذ هو في الأصل صفة نكرة ، فلمّا قدّم عليها ، تعذّر جعله صفة ، فنصب حالا ، و «فلا» جواب الشّرط ، والبعل : يطلق على الزّوج ، وعلى السّيّد.

قوله (أَنْ يُصْلِحا) قرأ الكوفيون (٥) : «يصلحا» من أصلح ، وباقي السّبعة «يصّالحا» (١) سقط في ب.

__________________

(٢) ينظر البيت في ديوانه ص ١٥٦ ، والإنصاف ٢ / ٦١٧ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٦ ، ٩ / ٣٧ ، ٣٩ ، والدرر ٥ / ٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٨٨ ، والكتاب ٣ / ١١٣ ، وشرح المفصل ٩ / ١٠ ، ولسان العرب (وغل) ، والمقتضب ٢ / ٧٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٩ والدر المصون ٢ / ٤٣٦.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٥٢.

(٤) سقط في ب.

(٥) يعني عاصما وحمزة والكسائي.

ينظر : السبعة ٢٣٨ ، والحجة ٣ / ١٨٣ ، وحجة القراءات ٢١٣ ، والعنوان ٨٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٧ ، ١٣٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢١٧ وشرح شعلة ٣٤٤ ، وإتحاف ١ / ٥٢١.

٥٠

بتشديد الصّاد بعدها ألف ، وقرأ (١) عثمان البتي والجحدري : «يصّلحا» بتشديد الصّاد من غير ألف ، وعبيدة السّلمانيّ : «يصالحا» (٢) بضمّ الياء ، وتخفيف الصّاد ، وبعدها ألف من المفاعلة ، وابن مسعود ، والأعمش (٣) : «أن اصّالحا».

فأمّا قراءة الكوفيين فواضحة.

وقراءة باقي السّبعة ، أصلها : «يتصالحا» ، فأريد الإدغام تخفيفا ؛ فأبدلت التّاء صادا وأدغمت ، كقوله : «ادّاركوا». وأمّا قراءة عثمان ، فأصلها : «يصطلحا» فخفّف بإبدال الطّاء المبدلة من تاء الافتعال صادا ، وإدغامها فيما بعدها.

وقال أبو البقاء (٤) : «وأصله : «يصتلحا» فأبدلت التاء صادا وأدغمت فيها الأولى» وهذا ليس بجيّد ، لأنّ تاء الافتعال يجب قلبها طاء بعد الأحرف الأربعة ؛ كما تقدّم تحقيقه في البقرة ، فلا حاجة إلى تقديرها تاء ؛ لأنه لو لفظ بالفعل مظهرا لم يلفظ فيه بالتّاء إلا بيانا لأصله.

وأمّا قراءة عبيدة فواضحة ؛ لأنها من المصالحة.

وأما قراءة : «يصطلحا» فأوضح ، ولم يختلف في «صلحا» مع اختلافهم في فعله.

وفي نصبه أوجه :

فإنه على قراءة الكوفيين : يحتمل أن يكون مصدرا ، وناصبه : إمّا الفعل المتقدّم وهو مصدر على حذف الزّوائد ، وبعضهم يعبّر عنه بأنه اسم مصدر كالعطاء والنّبات ، وإمّا فعل مقدر أي : فيصلح حالهما صلحا. وفي المفعول على هذين التّقديرين وجهان :

أحدهما : أنه «بينهما» اتسّع في الظّرف فجعل مفعولا به.

والثاني : أنه محذوف و «بينهما» ظرف أو حال من «صلحا» فإنه صفة له في الأصل ، ويحتمل أن يكون نصب «صلحا» على المفعول به ، إن جعلته اسما للشيء المصطلح عليه ؛ كالعطاء بمعنى : المعطى ، والثبات بمعنى : المثبت.

وأمّا على بقية القراءات : فيجوز أن يكون مصدرا على أحد التّقديرين المتقدمين : أعني : كونه اسم المصدر ، أو كونه على حذف الزّوائد ، فيكون واقعا موقع «تصالحا ، أو اصطلاحا ، أو مصالحة» حسب القراءات المتقدّمة ، ويجوز أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجرّ ، أي : بصلح ، أي : بشيء يقع بسبب المصالحة ، إذا جعلناه اسما للشيء المصطلح عليه.

والحاصل أنه في بقيّة القراءات ينتفي عنه وجه المفعول به المذكور في قراءة

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١١٩ ، والدر المصون ٢ / ٤٣٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١١٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٧٩ ، والدر المصون ٢ / ٤٣٦.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٧.

٥١

الكوفيّين ، وتبقى الأوجه الباقية جائزة في سائر القراءات.

قوله : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) : مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة قال الزمخشري (١) فيها وفي التي بعدها : «إنهما اعتراض» ولم يبيّن ذلك ، وكأنه يريد أنّ قوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) معطوف على قوله : (فَلا جُناحَ) فجاءت الجملتان بينهما اعتراضا ؛ هكذا قال أبو حيّان.

قال شهاب الدين : وفيه نظر ، فإن بعدهما جملا أخر ، فكان ينبغي أن يقول الزّمخشري في الجميع : إنها اعتراض ، ولا يخص : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) ، وأحضرت الأنفس [الشّح] بذلك ، وإنما يريد الزّمخشريّ بذلك : الاعتراض بين قوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ) وقوله : (وَإِنْ تُحْسِنُوا) فإنهما شرطان متعاطفان ، ويدلّ عليه تفسيره له بما يفيد هذا المعنى ، فإنه قال : «وإن تحسنوا بالإقامة على نسائكم ، وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن ، وتتقوا النّشوز والإعراض» انتهى.

فصل

والألف واللّام في الصّلح يجوز أن تكون للجنس ، وأن تكون للعهد ؛ لتقدّم ذكره ، نحو : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٦].

فعلى الأوّل وهو أنه مفرد محلّى بالألف واللّام فهل يفيد العموم ، أم لا؟ فإن قلنا : يفيد العموم ؛ فإذا حصل هناك معهود (٢) سابق ، فهل يحمل على العموم ، أم على المعهود السّابق؟ [و](٣) الأولى : حمله على المعهود السّابق ، لأنا إنّما حملناه على الاستغراق ضرورة أنّا لو لم نقل ذلك لخرج عن الإفادة ، وصار مجملا ، فإذا حصل معهود سابق ، اندفع هذا المحذور ، فوجب حمله عليه.

وإذا عرفت هذه المقدّمة : فمن حمله على المعهود السّابق ، قال : الصّلح بين الزّوجين خير من الفرقة ، ومن حمله على الاستغراق ، تمسّك به في أنّ الصّلح على (٤) الإنكار جائز ، وهم الحنفيّة و «خير» : يحتمل أن تكون للتّفضيل على بابها ، والمفضّل عليه محذوف ، فقيل : تقديره : من النّشوز ، والإعراض ، وقيل : خير من الفرقة ، والتّقدير الأول أولى ؛ للدلالة اللّفظيّة ، ويحتمل أن تكون صفة مجرّدة ، أي : والصّلح خير من الخيور ؛ كما أنّ الخصومة شرّ من الشّرور.

فصل في سبب نزول الآية

هذه الآية نزلت في عمرة ويقال : خولة بنت محمّد بن مسلمة ، وفي زوجها سعد ابن الرّبيع ، ويقال : رافع بن خديج تزوّجها وهي شابّة ، فلما علاها الكبر ، تزوّج عليها

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٥٧١.

(٢) في ب : محصول.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : بين.

٥٢

امرأة شابّة ، فآثرها عليها ، وجفا ابنه محمّد بن مسلمة (١) ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشكت ذلك إليه ، فنزلت الآية (٢).

وقيل : نزلت في سودة بنت زمعة ، حين أراد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلّقها ، فالتمست أن يمسكها وتجعل نوبتها لعائشة (٣) ، فأجازه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يطلقها.

وروي عن عائشة ، أنها قالت : نزلت في المرأة تكون عند الرّجل ، ويريد أن يستبدل [بها](٤) غيرها ، فتقول : أمسكني ، وتزوج بغيري (٥) ، وأنت في حلّ من النّفقة [والقسم (٦)](٧).

وقال سعيد بن جبير : نزلت في أبي السّائب ، كان له امرأة قد كبرت ، وله منها أولاد ، فأراد أن يطلّقها ويتزوّج بغيرها ، فقالت : لا تطلّقني ، ودعني على ولدي ، فاقسم لي من كلّ شهرين إن شئت ، وإن شئت فلا تقسم لي ، فقال : إن كان يصلح ذلك ؛ فهو أحبّ إليّ ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك. فأنزل الله (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ)(٨) أي : علمت قيل : وظنّت ، وقيل : مجرّد الخوف عند [ظهور](٩) أمارات النّشوز ، وهو البغض والشّقاق ، من النّشر : وهو ما ارتفع عن الأرض.

قال الكلبيّ (١٠) : نشوز الرّجل : ترك مجامعتها ، وإعراضه بوجهه عنها ، وقلة مجالستها ، (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي : على الزّوج والمرأة أن يتصالحا ، والصّلح إنّما يحصل في شيء يكون حقّا له ، وحقّ المرأة على الزّوج : إما المهر ، أو النّفقة ، أو القسم. فهذه الثلاثة هي التي تقدر المرأة على طلبها (١١) من الزّوج ، شاء أم أبى ، وأما الوطء فلا يجبر عليه إلّا في بعض الصّور ، وإذا كان كذلك ، فإذا بذلت المرأة ما تستحقّه ، أو بعضه للزّوج ، وتصالحا على ذلك جاز ، فإن رضيت ، كانت هي المحسنة ، ولا تجبر على ذلك ، وإن لم ترض ، كان على الزّوج أن يوفّيها حقها من القسم والنّفقة [أو يسرّحها بإحسان ، فإن أمسكها ووفّاها حقّها مع كراهيّته ، فهو المحسن.

__________________

(١) في ب : سلمة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٢٧٥) وينظر تفسير البغوي (١ / ٤٨٦) وأسباب النزول للواحدي ص ١٣٧.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٣٢) كتاب تفسير القرآن باب سورة النساء حديث (٣٠٤٠) والطيالسي (٢ / ١٧ ـ منحة) حديث (١٩٤٤) والبيهقي (٧ / ٢٩٧) من حديث ابن عباس.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤١٠) وزاد نسبته للطبراني وابن المنذر.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : غيري.

(٦) سقط في ب.

(٧) أخرجه البخاري (٩ / ٢٦٦) والطبري (٩ / ٢٧١) من حديث عائشة وكذلك البيهقي (٧ / ٢٩٦).

(٨) ينظر : تفسير الرازي (١١ / ٥٢) عن سعيد بن جبير.

(٩) سقط في ب.

(١٠) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٨٦.

(١١) في أ : طلاقها.

٥٣

وروى سليمان بن يسار ، عن ابن عبّاس : فإن صالحته عن بعض حقها من القسم والنّفقة،](١) فذلك جائز ما رضيت ، فإن أنكرت بعد الصّلح ، فذلك لها ، ولها حقّها.

ثم قال : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [يعني : إقامتها](٢) بعد تخييره إيّاها ، والمصالحة على ترك بعض حقّها ، خير من الفرقة.

كما روي أن سودة كانت امرأة كبيرة ، أراد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفارقها ، فقالت : لا تطلّقني ، وكفاني أن أبعث في نسائك ، وقد جعلت نوبتي لعائشة ، فأمسكها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة.

فصل

قال ـ تعالى ـ : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا) ، وذلك يوهم أنّه رخصة ، والغاية فيه: ارتفاع الإثم ، فبين ـ تعالى ـ أنّ هذا الصّلح كما أنّه لا جناح فيه ولا (٣) إثم ، ففيه خير عظيم.

قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) «حضر» يتعدى إلى مفعول ، واكتسب بالهمزة مفعولا ثانيا ، فلمّا بني للمفعول ، قام أحدهما مقام الفاعل ، فانتصب الآخر ، والقائم مقام الفاعل هنا يحتمل وجهين :

أظهرهما ـ وهو المشهور من مذاهب النّحاة ـ : أنه الأول وهو «الأنفس» فإنه الفاعل في الأصل ، إذ الأصل : «حضرت الأنفس الشحّ».

والثاني : أنه المفعول الثاني ، والأصل : وحضر الشحّ الأنفس ، ثم أحضر الله الشحّ الأنفس ، فلما بني الفعل للمفعول أقيم الثاني ـ وهو الأنفس ـ مقام الفاعل ، فأخّر الأوّل وبقي منصوبا ، وعلى هذا يجوز أن يقال : «أعطي درهم زيدا» و «كسي جبّة عمرا» ، والعكس هو المشهور كما تقدّم ، وكلام الزّمخشري (٤) يحتمل كون الثاني هو القائم مقام الفاعل ؛ فإنه قال : «ومعنى إحضار الأنفس الشحّ : أنّ الشحّ جعل حاضرا لها ، لا يغيب عنها أبدا ولا ينفكّ» يعني : أنها مطبوعة عليه ، فأسند الحضور إلى الشحّ كما ترى ، ويحتمل أنه جعله من باب القلب ، فنسب الحضور إلى الشحّ ، وهو في الحقيقة منسوب إلى الأنفس. وقرأ العدوي (٥) : «الشّحّ» بكسر الشين وهي لغة ، والشّحّ : البخل مع حرص ؛ فهو أخصّ من البخل.

قال القرطبي (٦) : وهذه الآية إخبار في كلّ أحد ، وأنّ الإنسان لا بد أن يشح بحكم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : لا يحتاج فيه فلا.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٥٧١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٨٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٣٧.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٦٠.

٥٤

خلقته ، وجبلّته ، حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره ، ويقال : الشحّ : هو البخل ، وحقيقته : الحرص على منع الخير. والمراد به ههنا : شح كل واحد من الزّوجين بنصيبه من الآخر ، فتشحّ المرأة : ببذل حقّها ، ويشحّ الزّوج : بأن ينقضي عمره معها مع دمامة وجهها ، وكبر سنّها ، وعدم حصول اللّذّة بمجالستها.

فصل

قال القرطبي (١) : والشّحّ : الضبط على المعتقدات والإرادة (٢) ، وفي الهمم والأموال ، ونحو ذلك ، فما أفرط (٣) منه على الدّين ، فهو محمود ، وما أفرط منه في غيره ، ففيه بعض المذمّة. وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) [التغابن : ١٦] الآية ، وما صار منه إلى حيّز منع (٤) الحقوق [الشّرعيّة](٥) أو الّتي تقتضيها المروءة ، فهو البخل ؛ [و](٦) هي رذيلة ، وإذا آل البخل إلى هذه الأخلاق المذمومة ، لم يبق [معه](٧) خير ولا صلاح.

روى الماورديّ : أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأنصار : من سيّدكم؟ قالوا : الجدّ بن قيس على بخل فيهه ؛ فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأي داء أدوى من البخل» قالوا : وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال : إنّ قوما نزلوا بساحل ، فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم ، فقالوا : ليبعد [الرّجال](٨) منّا عن النّساء ؛ حتى يعتذر الرّجال إلى الأضياف ببعد النّساء ، ويعتذر النّساء ببعد الرّجال ، ففعلوا وطال ذلك فيهم ، فاشتغل الرّجال بالرّجال ، والنّساء بالنّساء.

ثم قال : (وَإِنْ تُحْسِنُوا) أي : تصلحوا (٩) «وتتّقوا» : الجور.

وقيل : هذا خطاب مع الأزواج ، أي : وإن تحسنوا بالإقامة معها مع الكراهة ، وتتقوا ظلمها بالنّشوز والإعراض.

وقيل [هو](١٠) خطاب لغيرهما ، أي : تحسنوا في الصّلح بينهما ، وتتّقوا الميل إلى واحد منهما ، فإن الله كان بما تعملون خبيرا ، فيجزيكم بأعمالكم.

حكى صاحب الكشّاف : أن عمران بن حطّان الخارجيّ (١١) كان من أذمّ بني آدم ، وامرأته من أجملهم ، فنظرت إليه يوما ، ثم قالت : الحمد لله ، فقال : ما لك؟ فقالت حمدت الله على أنّي وإيّاك من أهل الجنّة ؛ لأنك رزقت مثلي ، فشكرت ، ورزقت مثلك ؛ فصبرت ، وقد وعد الله بالجنّة الشّاكرين والصّابرين.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٦٠.

(٢) في أ : إلا زادات.

(٣) في ب : أقول.

(٤) في ب : تقع.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : تصتلموا.

(١٠) سقط في ب.

(١١) في ب : الجارحي.

٥٥

قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً)(١٣٠)

وفيه قولان :

الأول : لن (١) تقدروا في التّسوية بينهنّ في ميل الطّباع ، من الحبّ وميل القلب ، وإذا لم تقدروا (٢) عليه ، لم تكونوا مكلّفين به.

قالت المعتزلة (٣) : هذا يدلّ على أن تكليف ما لا يطاق ، غير واقع ولا جائز الوقوع ، وقد تقدّم إلزامهم (٤) في العلم والدّاعي ، وقد يجاب أيضا : بأنه ـ تعالى ـ إنما نفى الاستطاعة الّتي هي من جهة المكلّف (٥) ، ولم ينف التّكليف الّذي (٦) هو من جهة الشّارع ، فالآية لا تدلّ على نفي التّكليف ، وإنما تدلّ على نفي استطاعة المكلّف (٧).

الثاني : لا يستطيعون التّسوية بينهن في الأقوال والأفعال ؛ لأن التّفاوت في الحبّ ، يوجب التّفاوت في نتائج الحبّ ؛ لأن الفعل بدون الدّاعي ، [و](٨) مع قيام الصّارف محال.

ثم قال : (فَلا تَمِيلُوا) أي : إلى التي تحبّونها ، «كلّ الميل» في القسمة ، واللّفظ والمعنى : أنكم لستم تحترزون عن حصول التّفاوت في الميل القلبي ؛ لأن ذلك خارج عن وسعكم ، ولكنكم منهيّون عن إظهار ذلك [التفاوت](٩) في القول والفعل.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أنه](١٠) كان يقسم ، ويقول : «هذا قسمي فيما أملك ، وأنت أعلم بما لا أملك» (١١).

__________________

(١) في ب : أن لا.

(٢) في ب : يقدروا.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٥٤.

(٤) في ب : لإلزامهم.

(٥) في ب : التكيف.

(٦) في أ : الديني.

(٧) في ب : التكليف.

(٨) سقط في ب.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في ب.

(١١) هذا الحديث مخرج من وجهين الأول : من رواية أبي قلابة مرسلا أخرجه الترمذي في السنن ٣ / ٤٤٦ ، كتاب النكاح باب ما جاء في التسوية بين الضرائر عقب الحديث (١١٤٠) ، وقال : (وهذا ـ أي الإرسال ـ أصحّ من حديث حماد بن سلمة) وحديث حماد بن سلمة ، من طريق عائشة مرفوعا ، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير ٣ / ١٣٩ ، كتاب النكاح (٤٤) ، في التخفيف في النكاح ، الحديث (١٤٦٦) (وأعلّه النسائي ، والترمذي ، والدار قطني بالإرسال ، وقال أبو زرعة : لا أعلم أحدا تابع حماد بن سلمة على وصله).

الثاني : عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا ، أخرجه أحمد في المسند ٦ / ١٤٤ ، وأخرجه الدارمي في السنن ٢ / ١٤٤ ، كتاب النكاح ، باب في القسمة بين النساء ، وأخرجه أبو داود في السنن ٢ / ٦٠١ ، كتاب النكاح ، باب في القسم بين النساء ، الحديث (٢١٣٤) ، وأخرجه الترمذي في السنن ٣ / ٤٤٦ ،

٥٦

قوله : (كُلَّ الْمَيْلِ) : نصب على المصدرية ، وقد تقرر أن «كل» بحسب ما تضاف إليه ، إن أضيفت إلى مصدر ـ كانت مصدرا ـ أو ظرف ، أو غيره ؛ فكذلك.

قوله : «فتذروها» فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب بإضمار «أن» في جواب النّهي.

والثاني : أنه مجزوم عطفا على الفعل قبله ، أي : فلا تذروها ، ففي الأوّل نهي عن الجمع بينهما ، وفي الثاني نهي عن كلّ على حدته وهو أبلغ ، والضّمير في «تذروها» يعود على المميل عنها ؛ لدلالة السّياق عليها.

قوله : «كالمعلّقة» : حال من «ها» في «تذروها» فيتعلّق بمحذوف ، أي : فتذروها مشبهة المعلّقة ، ويجوز عندي : أن يكون مفعولا ثانيا ؛ لأن قولك : «تذر» بمعنى : تترك ، و «ترك» يتعدّى لاثنين إذا كان بمعنى : صيّر.

والمعنى : لا تتّبعوا هواكم ، فتدعوا الأخرى كالمعلّقة (١) لا أيّما ، ولا ذات بعل ؛ كما أن الشّيء المعلّق لا [يكون](٢) على الأرض ، ولا على السّماء ، وفي قراءة (٣) أبيّ : «فتذروها كالمسجونة» ، وفي الحديث : «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما ، جاء يوم القيامة وأحد شقّيه مائل» (٤).

قوله : (وَإِنْ تُصْلِحُوا) بالعدل في القسم ، و «تتّقوا» : الجور (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لما حصل في القلب من الميل إلى بعضهنّ دون بعض.

وقيل المعنى : وإن تصلحوا ما مضى من ميلكم ، وتتداركوه بالتّوبة ، وتتّقوا (٥) في

__________________

ـ كتاب النكاح ، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر ، الحديث (١١٤٠) واللفظ له ، وأخرجه النسائي في المجتبى من السنن ٧ / ٦٣ ـ ٦٤ ، كتاب عشرة النساء (٣٦) ، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه ... ، وأخرجه ابن ماجه في السنن ١ / ٦٣٣ ، كتاب النكاح ، باب القسمة بين النساء (٤٧) الحديث (١٩٧١) وأخرجه ابن حبان ، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ، ص ٣١٧ ، كتاب النكاح (١٧) ، باب ما جاء في القسم ، الحديث (١٣٠٥) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ١٨٧ ، كتاب النكاح ، باب التشديد في العدل ... ، وقال : (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي.

(١) في أ : كالنوطة.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٢١ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٨١.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣٤٧ ، وأخرجه الدارمي في السنن ٢ / ١٤٣ ، كتاب النكاح ، باب العدل بين النساء وأخرجه أبو داود في السنن ٢ / ٦٠٠ ـ ٦٠١ كتاب النكاح : باب في القسم بين النساء الحديث (٣١٣٣) ، وأخرجه الترمذي في السنن ٣ / ٤٤٧ ، كتاب النكاح ، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر الحديث (١١٤١) واللفظ له ، وأخرجه النسائي في المجتبى من السنن ٧ / ٦٣ ، كتاب عشرة النساء باب ميل الرجل إلى بعض نسائه وأخرجه ابن ماجه في السنن ١ / ٦٣٣ كتاب النكاح باب القسمة بين النساء الحديث (١٩٦٩) وأخرجه ابن حبان ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص ٣١٧ ، كتاب النكاح باب في غيرة النساء (١٣٠٧).

(٥) في أ : وتنفقوا.

٥٧

المستقبل عن مثله ، غفر الله لكم ذلك ، وهذا أولى ؛ لأن التّفاوت في الميل القلبي ليس في الوسع ، فلا يحتاج إلى المغفرة.

قوله (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) يعني : الزّوج والمرأة بالطّلاق ، (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) : من رزقه ، يعني : المرأة بزوج آخر ، والزّوج بامرأة أخرى.

وقيل : يغني الله كل واحد منهما عن صاحبه بعد الطّلاق ، (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) وصف نفسه بكونه واسعا ؛ ولم يضفه إلى شيء ؛ لأنه ـ تعالى (١) ـ واسع الفضل (٢) ، واسع الرّزق ، واسع النّعمة ، واسع الرّحمة ، واسع القدرة ، واسع العلم ، واسع في جميع الكمالات ، فلو قال : واسع في كذا ، لاختصّ بذلك المذكور ، وقوله : «حكيما» قال ابن عبّاس (٣) : يريد فيما أمر ونهى ، وقال الكلبيّ (٤) : فيما حكم على الزّوج من إمساكها بمعروف ، أو تسريح بإحسان.

فصل

حكم الرّجل إذا كان تحته امرأتان أو أكثر ، يجب عليه التّسوية بينهنّ في القسم ، فإن ترك التّسوية بينهنّ في القسم ، عصى الله ـ تعالى ـ ، وعليه القضاء للمظلومة ، والتّسوية (٥) شرط في البينونة أمّا في الجماع (٦) فلا ؛ لأنه يدور على النّشاط وليس ذلك إليه ، ولو كانت تحته حرّة وأمة فإنّه يبيت عند الحرّة ليلتين ، وعند الأمة ليلة ، وإذا تزوّج جديدة على قديمة ، يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال على التّوالي إن كانت بكرا ، وإن كانت ثيّبا ، فثلاث ليال ، ثم يسوّي بعد ذلك بين الكلّ ، ولا يجب قضاء هذه الثلاث للقديمات ؛ لقول أنس : من السّنّة إذا تزوّج البكر على الثّيّب أن يقيم عندها سبعة ، وإذا تزوّج الثّيّب على البكر ، أن يقيم عندها ثلاثا ، فإن أحبّت الثّيّب أن يقيم عندها سبعا ، فعل ، ثم قضاه للبواقي ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تزوّج أمّ سلمة أقام عندها سبعا ، ثم قال : ليس بك هوان على أهلك ، إن شئت سبّعت لك ، وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي (٧) ، وإذا أراد الرّجل سفر حاجة ، فيجوز له أن يحمل بعض نسائه [معه بالقرعة بينهنّ](٨) ، ولا يجب عليه [أن](٩) يقضي (١٠) للباقيات مدّة سفره وإن طالت إذا لم يزد مقامه في بلدة على مدّة المسافرين ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد سفرا ، أقرع بين نسائه ، فأيّتهن خرج(١١) سهمها ،

__________________

(١) في أ : يقال.

(٢) في أ : الفعل.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٥٥.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) في أ : والتسمية.

(٦) في ب : الاجماع.

(٧) أخرجه مسلم في الصحيح ٢ / ١٠٨٣ ، كتاب الرضاع (١٧) باب قدر ما تستحقه البكر الحديث (٤٢ / ١٤٦٠).

(٨) سقط في ب.

(٩) سقط في ب.

(١٠) في ب : القضاء.

(١١) في ب : فأيهن خرجت.

٥٨

خرج بها معه ، أما إذا أراد سفر نقلة ، فليس له تخصيص (١) بعضهن ، لا بقرعة ولا بغيرها.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(١٣٢)

(٢) في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجهان :

الأوّل [أنه ـ تعالى ـ لمّا](٣) قال : (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) أشار إلى ما هو كالتّفسير لكونه واسعا ؛ فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعني : من كان كذلك ، [فإنه](٤) يكون واسع العلم ، والقدرة ، والجود ، والفضل ، والرّحمة.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ لمّا أمر بالعدل ، والإحسان إلى اليتامى والنّساء ، بيّن أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه لأعمال العباد ؛ لأن من كان له ما في السّموات وما في الأرض ، كيف يكون محتاجا إلى عمل الإنسان مع ضعفه وقصوره ، وإنما أمر بها رعاية لما هو الأحسن لهم في دنياهم وأخراهم.

ثم قال (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني : أهل التّوراة ، والإنجيل ، وسائر الأمم المتقدّمة في كتبهم ، والكتاب : اسم جنس يتناول الكتب السّماويّة ، «وإيّاكم» : يا أهل القرآن في كتابكم ، (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي : وحّدوه وأطيعوه ، وتقوى الله مطلوبة من جميع الأمم ، في سائر الشّرائع لم تنسخ ، وهي وصيّة الله في الأوّلين والآخرين.

قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) فيه وجهان (٥) :

الأول : أنه متعلّق ب «وصّينا» يعني : ولقد وصّينا من قبلكم [الّذين أوتوا الكتاب.

والثاني : أنه متعلّق ب «أوتوا» يعني : الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم](٦) ، وصيناهم بذلك ، والأوّل أظهر.

قوله : (وَإِيَّاكُمْ) : عطف على (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهو واجب الفصل هنا ؛ لتعذّر الاتّصال ، واستدلّ بعضهم على أنّه إذا قدر على الضمير المتّصل يجوز أن يعدل إلى المنفصل بهذه الآية ؛ لأنه كان يمكن أن يقال : «ولقد وصيناكم والذين أوتوا الكتاب» ، وكذلك استدلّ بقوله ـ تعالى ـ : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) [الممتحنة : ١] ، إذ يمكن أن يقال : يخرجونكم والرّسول ، وهذا ليس يدلّ له :

__________________

(١) في ب : أن يخصص.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : توجيهان.

(٦) سقط في ب.

٥٩

أمّا الآية الأولى : فلأنّ الكلام فيها جاء على التّرتيب الوجودي ، فإنّ وصيّة من قبلنا قبل وصيّتنا ، فلمّا قصد هذا المعنى ، استحال ـ والحالة هذه ـ أن يقدر عليه متّصلا.

وأما الآية الثّانية : فلأنّه قصد فيها تقدّم ذكر الرّسول ؛ تشريفا له ، وتشنيعا على من تجاسر على مثل ذلك الفعل الفظيع ، فاستحال ـ والحالة هذه ـ أن يجاء به متّصلا ، و (مِنْ قَبْلِكُمْ) : يجوز أن يتعلّق ب «أوتوا» ، ويجوز أن يتعلّق ب «وصّينا» ؛ والأول أظهر.

قوله : (أَنِ اتَّقُوا) يجوز في «أن» وجهان :

أحدهما : أن تكون مصدريّة على حذف حرف الخفض ، تقديره : بأن اتّقوا ، فلما حذف الحرف جرى فيها الخلاف المشهور.

والثاني : أن تكون المفسّرة ؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول ، لا حروفه وهو الوصيّة ، والظاهر أن قوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا) جملة مستأنفة ؛ للإخبار بأن هذه الحال ليست داخلة في معمول الوصيّة.

وقال الزّمخشري (١) : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ) عطف على «اتّقوا» لأنّ المعنى : أمرناهم ، وأمرناكم بالتّقوى ، وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا» وفي كلامه نظر ، لأنّ تقديره القول ، ينفي كون الجملة الشرطية مندرجة في حيّز الوصيّة بالنّسبة إلى الصّناعة النّحوية ، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط ، بل قصده هو وتفسير الإعراب ؛ بدليل قوله : عطف على «اتّقوا» ، و «اتّقوا» داخل في حيّز الوصيّة ، سواء أجعلت «أن» مصدريّة أم مفسّرة.

فصل

ومعنى [قوله :](٢)(أَنِ اتَّقُوا اللهَ) ؛ كقولك : أمرتك الخير ، قال الكسائيّ : يقال : أوصيتك أن افعل (٣) كذا ، وأن تفعل (٤) كذا ، ويقال : ألم آمرك أن ائت (٥) زيدا ، وأن تأتي زيدا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : [و](٦)(أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام : ١٤] ، وقوله : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) [النمل : ٩١] وتقدّم الكلام على (وَإِنْ تَكْفُرُوا).

قوله : (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) في تعلّقه وجهان :

الأول : أنه ـ تعالى ـ خالقهم ومالكهم ، والمنعم عليهم بأصناف (٧) النّعم كلّها ، فحقّ على كل عاقل أن ينقاد لأوامره ونواهيه ، ويرجو ثوابه ، ويخاف عقابه.

والثاني : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من أصناف المخلوقات من

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٥٧٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : تفصل.

(٤) في أ : تفصل.

(٥) في أ : أثبت.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : بأنواع.

٦٠