اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

ثمّ قال : إنّ القرآن نزل منه آي قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزلن ، ومنه آي : وقع تأويلهنّ (١) على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنه آي : وقع تأويلهنّ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيسير ، ومنه آي : وقع تأويلهن في آخر الزّمان ، ومنه آي : وقع تأويلهنّ يوم القيامة ، وهو ما ذكر من الحساب والجنّة والنّار ، فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ، ولم تلبسوا شيعا ، ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا وانهوا ، فإن اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية.

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا التّأويل عندي ضعيف ؛ لأنّ الآية خطاب عامّ للحاضر والغائب ، فكيف يخرج الحاضر ، ويخصّ الغائب. وروى أبو أميّة الشّعبانيّ قال : أتيت أبا ثعلبة ، فقلت : كيف نصنع في هذه الآية؟ فقال : أيّ آية؟ قلت : قول الله ـ عزوجل ـ : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتّى إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا بدّ لك منه ، فعليك نفسك ودع أمر العوامّ ، وإنّ وراءكم أيام الصّبر ، فمن صبر فيهنّ قبض على الجمر للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثله ، قال ابن المبارك : وزادني غيره ، قالوا : يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال : أجر خمسين منكم (٣).

فإن قيل : ظاهر الآية يوهم أنّ الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر غير واجب.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّ الآية لا تدلّ على ذلك ، بل تدلّ على أنّ المطيع لا يؤاخذ بذنوب العاصي ، وأمّا وجوب الأمر بالمعروف ، فثبت بما تقدّم من الدّلائل وغيرها.

وثانيها : أنّ الآية مخصوصة بالكفّار المصرّين على الكفر ، ولا يتركون الكفر بسبب الأمر بالمعروف ، فههنا يجب على الإنسان مخالفة الأمر بالمعروف.

وثالثها : أنّ الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر على نفسه وعرضه وماله.

ورابعها : المعنى : لا يضرّكم إذا اهتديتم ، فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضلّ ، فلم يقبل ذلك.

وخامسها : أنّه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ

__________________

(١) في أ : تأويلان.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٩٣.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٩٢ ، والطبراني في الكبير ١٧ / ١٣٨ ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٢) ، وذكره المجمع نحوه من طريق العرس بن عميرة وعزاه للطبراني وقال : رجاله ثقات.

٥٦١

إِلَّا نَفْسَكَ) [النساء : ٨٤] ، وذلك لم يدلّ على سقوط الأمر بالمعروف عن الرّسول ، فكذا هاهنا.

ثم قال تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ، أي : الضّال والمهتدي (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : يجازيكم بأعمالكم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(١٠٨)

لمّا أمر الله تعالى بحفظ النّفس في قوله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، أمر بحفظ المال في هذه الآية.

قال القرطبي (١) : ورد لفظ الشّهادة في القرآن على أنواع مختلفة :

الأول : بمعنى الحضور ، قال تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥].

الثاني : بمعنى قضى ، أي : أعلم قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨].

قال أبو عبيدة : الثالث : بمعنى أقرّ ، قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء : ١٦٦].

الرابع : شهد بمعنى حكم ، قال تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) [يوسف : ٢٦].

الخامس : شهد بمعنى حلف (٢) ، قال تعالى (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) [النور : ٦] أي : أن يشهد أربع شهادات بالله.

السادس : شهد بمعنى وصّى ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، وقيل معناها هنا (٣) الحضور للوصيّة ، يقال : «شهدت وصيّة فلان» أي : حضرت ، وذهب الطّبري إلى أنّ الشّهادة بمعنى اليمين ، فيكون المعنى : يمين ما بينكم أن يحلف اثنان ، ويدلّ على ذلك ، أنّه يعلم لله حكم يجب فيه على الشّاهد يمين ، وهذا

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٢٤.

(٢) في أ : جلد.

(٣) في أ : حب.

٥٦٢

القول اختاره القفّال (١) ، وسمّيت اليمين شهادة ؛ لأنّها يثبت بها الحكم بما يثبت بالشّهادة ، واختار ابن عطيّة (٢) هنا أنّها الشّهادة التي تحفظ فتؤدّى.

فصل في سبب نزول الآية

وسبب نزولها ما روي : أنّ تميم بن أوس الدّاريّ وعديّ بن زيد كانا نصرانيين ، خرجا من المدينة إلى الشّام للتجارة ، ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما مهاجرا ، فلمّا قدموا إلى الشّام مرض بديل ، فكتب كتابا فيه جميع ما معه من المتاع ، وألقاه في جوالق ، ولم يخبر صاحبيه بذلك ، فلمّا اشتدّ مرضه ، أوصى إلى تميم وعديّ ، وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات «بديل» ، ففتّشا متاعه ، وأخذا منه إناء فضّة منقوشا بالذّهب ، فيه ثلاثمائة مثقال من فضّة فغيّباه ، ثم قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة ، فدفعا المتاع إلى أهل البيت ، ففتّشوا وأصابوا الصّحيفة ، فيها تسمية ما كان معه ، فجاءوا تميما وعديّا ، فقالوا : هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ قالا : لا ، قالوا : فهل اتّجر تجارة؟ قالا : لا ، قالوا : فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا : لا ، فقالوا : إنّا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه ، وإنّا قد فقدنا منها إناء من فضّة مموّها بالذّهب ، فيه ثلاثمائة مثقال فضّة فقالا : ما ندري ، إنّما أوصى لنا بشيء ، وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه ، وما لنا علم بالإناء ، فاختصموا إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصرّا على الإنكار ، وحلفا فأنزل الله هذه الآية (٣).

قوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) : هذه الآية وما بعدها من أشكل القرآن حكما وإعرابا وتفسيرا ، ولم يزل العلماء يستشكلونها حتى قال مكيّ بن أبي طالب (٤) في كتابه المسمّى ب «الكشف» : «هذه الآية في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آي في القرآن وأشكلها ، قال : ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر» ؛ قال : «وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد» ، وقال ابن عطية (٥) : «وهذا كلام من لم يقع له الثّلج في تفسيرها ، وذلك بيّن من كتابه» ، وقال السّخاويّ : «لم أر أحدا من العلماء تخلّص كلامه فيها من أولها إلى آخرها» ، وقال الواحديّ : «وهذه الآية وما بعدها من أعوص ما في القرآن معنى وإعرابا وتفسيرا» قال شهاب الدين (٦) : وأنا أستعين الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها ممّا يختصّ بهذا الموضوع ، وبالله الحول والقوة.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٢٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٢.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٤٢) حديث (٣٠٦٠) والطبري (٥ / ١١٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٠٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان مولى أم هانىء عن ابن عباس عن تميم الداري.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٤٢٠.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٠.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٢٤.

٥٦٣

قرأ الجمهور «شهادة بينكم» برفع «شهادة» مضافة ل «بينكم» ، وقرأ (١) الحسن والأعرج والشّعبيّ برفعها منوّنة «بينكم» نصبا ، والسّلميّ والحسن والأعرج (٢) ـ في رواية عنهما ـ : «شهادة» منونّة منصوبة ، «بينكم» نصبا ، فأمّا قراءة الجمهور ، ففي تخريجها خمسة أوجه:

أحدها : أنها مرفوعة بالابتداء ، وخبرها «اثنان» ، ولا بدّ على هذا الوجه من حذف مضاف : إمّا من الأوّل ، وإمّا من الثاني ، فتقديره من الأول : ذوا شهادة بينكم اثنان ، أي صاحبا شهادة بينكم اثنان ، وتقديره من الثاني : شهادة بينكم شهادة اثنين ، وإنما اضطررنا إلى حذف من الأول أو الثاني ليتصادق المبتدأ والخبر على شيء واحد ؛ لأنّ الشهادة معنى ، والاثنان جثّتان ، ولا يجيء التقديران المذكوران في نحو : «زيد عدل» وهما جعله نفس المصدر مبالغة أو وقوعه موقع اسم الفاعل ؛ لأنّ المعنى يأباهما هنا ، إلا أنّ الواحديّ نقل عن صاحب «النّظم» ؛ أنه قال : «شهادة» مصدر وضع موضع الأسماء. يريد بالشهادة الشهود ؛ كما يقال : رجل عدل ورضا ، ورجال عدل ورضا وزور ، وإذا قدّرتها بمعنى الشّهود ، كان على حذف المضاف ، ويكون المعنى : عدّة شهود بينكم اثنان ، واستشهد بقوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) [البقرة : ١٩٧] ، أي : وقت الحجّ ، ولو لا ذلك لنصب أشهرا على تأويل : «الحج في أشهر» ، فعلى ظاهر هذا أنه جعل المصدر نفس الشهود مبالغة ، ولذلك مثله ب «رجال عدل» ، وفيه نظر.

الثاني : أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضا ، وخبرها محذوف يدلّ عليه سياق الكلام ، و «اثنان» على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو «شهادة» ، والتقدير : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان ، كذا قدّره الزمخشريّ وهو أحد قولي الزّجّاج (٣) ، وهو ظاهر جدّا ، و «إذا» على هذين الوجهين ظرف ل «شهادة» ، أي : ليشهد وقت حضور الموت ـ أي أسبابه ـ و (حِينَ الْوَصِيَّةِ) على هذه الأوجه ؛ فيه ثلاثة أوجه :

أوجهها : أنه بدل من «إذا» ، ولم يذكر الزمخشريّ غيره ، قال : «وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية».

الثاني : أنه منصوب بنفس الموت ، أي : يقع الموت وقت الوصية ، ولا بدّ من تأويله بأسباب الموت ؛ لأنّ وقت الموت الحقيقيّ لا وصية فيه.

الثالث : أنه منصوب ب «حضر» ، أي : حضر أسباب الموت حين الوصيّة.

الثالث : أنّ «شهادة» مبتدأ ، وخبره : (إِذا حَضَرَ) ، أي : وقوع الشهادة في وقت

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣ ، والدر المصون ٢ / ٦٢٥.

(٢) وقرأ بها أبو حيوة كما في المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٢. وانظر السابق.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٣٧.

٥٦٤

حضور الموت ، و «حين» على ما تقدّم فيه من الأوجه الثلاثة آنفا ، ولا يجوز فيه ، والحالة هذه : أن يكون ظرفا للشهادة ؛ لئلا يلزم الإخبار عن الموصول قبل تمام صلته ، وهو لا يجوز ؛ لما مرّ ، ولمّا ذكر أبو حيّان هذا الوجه ، لم يستدرك هذا ، وهو عجيب منه.

الرابع : أنّ «شهادة» مبتدأ ، وخبرها (حِينَ الْوَصِيَّةِ) ، و «إذا» على هذا منصوب بالشّهادة ، ولا يجوز أن ينتصب ب «الوصيّة» ، وإن كان المعنى عليه ؛ لأنّ المصدر المؤوّل لا يسبقه معموله عند البصريّين ، ولو كان ظرفا ، وأيضا : فإنه يلزم منه تقديم المضاف إليه على المضاف ؛ لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل ، والعامل لا يتقدّم ، فكذا معموله ، ولم يجوّزوا تقديم معمول المضاف إليه على المضاف إلا في مسألة واحدة ، وهي : إذا كان المضاف لفظة «غير» ؛ وأنشدوا : [البسيط]

٢٠٦١ ـ إنّ امرأ خصّني عمدا مودّته

على التّنائي لعندي غير مكفور (١)

ف «عندي» منصوب ب «مكفور» ؛ قالوا : لأنّ «غير» بمنزلة «لا» ، و «لا» يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها ، وقد ذكر الزمخشريّ ذلك آخر الفاتحة ، وذكر أنه يجوز «أنا زيدا غير ضارب» دون «أنا زيدا مثل ضارب» ، و «اثنان» على هذين الوجهين الأخيرين يرتفعان على أحد وجهين : إمّا الفاعلية أي : «يشهد اثنان» يدل عليه لفظ «شهادة» ، وإمّا على خبر مبتدأ محذوف مدلول عليه ب «شهادة» أيضا أي : الشاهدان اثنان.

الخامس : أنّ «شهادة» مبتدأ ، و «اثنان» فاعل سدّ مسدّ الخبر ، ذكره أبو البقاء (٢) وغيره ، وهو مذهب الفرّاء (٣) ، إلا أنّ الفرّاء قدّر الشّهادة واقعة موقع فعل الأمر ؛ كأنه قال : ليشهد اثنان» ، فجعله من باب نيابة المصدر عن فعل الطّلب ، وهو مثل (الْحَمْدُ لِلَّهِ) و (قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩] ؛ من حيث المعنى ، وهذا مذهب لبعضهم في نحو : «ضربي زيدا قائما» يدّعي أن الياء فاعل سدّت مسدّ الخبر ، وهذا مذهب ضعيف ردّه النّحويّون ، ويخصّون ذلك بالوصف المعتمد على نفي أو استفهام ؛ نحو : «أقائم أبواك» وعلى هذا المذهب ف «إذا» و «حين» ظرفان منصوبان على ما تقرّر فيهما في غير هذا الوجه ؛ وقد تحصّلنا فيما تقدّم أنّ رفع «شهادة» من وجه واحد ؛ وهو الابتداء ، وفي خبرها خمسة أوجه تقدّم ذكرها مفصّلة ، وأنّ رفع «اثنان» من خمسة أوجه :

الأول : كونه خبرا ل «شهادة» بالتّأويل المذكور.

الثاني : أنه فاعل ب «شهادة».

الثالث : أنه فاعل ب «يشهد» مقدّرا.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٩.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٢٣.

٥٦٥

الرابع : أنه خبر مبتدأ ، أي : الشّاهدان اثنان.

الخامس : أنه فاعل سدّ مسدّ الخبر ، وأنّ في «إذا» وجهين : إمّا النّصب على الظرفيّة ، وإمّا الرفع على الخبريّة ل «شهادة» ، وكل هذا بيّن مما لخّصته قبل ، وقراءة الحسن برفعها منونة تتوجه بما تقدّم في قراءة الجمهور من غير فرق.

وأمّا قراءة النصب ، ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها ـ وإليه ذهب ابن جنّي (١) ـ : أنها منصوبة بفعل مضمر ، و «اثنان» مرفوع بذلك الفعل ، والتقدير : ليقم شهادة بينكم اثنان ، وتبعه الزمخشريّ (٢). وقد ردّ أبو حيان (٣) هذا ؛ بأن حذف الفعل وإبقاء فاعله ، لم يجزه النحويون ، إلا أن يشعر به ما قبله ؛ كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) [النور : ٣٦ ـ ٣٧] في قراءة ابن عامر وأبي بكر ، أي : يسبّحه رجال ؛ ومثله : [الطويل]

٢٠٦٢ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح (٤)

وفيه خلاف : هل ينقاس أو لا؟ أو يجاب به نفي ؛ كقوله : [الطويل]

٢٠٦٣ ـ تجلّدت حتّى قيل : لم يعر قلبه

من الوجد شيء قلت : بل أعظم الوجد (٥)

أي : بل عراه أعظم الوجد ، أو يجاب به استفهام ؛ كقوله : [الطويل]

٢٠٦٤ ـ ألا هل أتى أمّ الحويرث مرسلي

نعم خالد إن لم تعقه العوائق (٦)

أي : بل أتاها أو يأتيها ، وما نحن فيه ليس من الأشياء الثلاثة.

الثاني : أن «شهادة» بدل من اللفظ بفعل ، أي : إنها مصدر ناب مناب الفعل ، فيعمل عمله ، والتقدير : ليشهد اثنان ، ف «اثنان» فاعل بالمصدر ، لنيابته مناب الفعل ، أو بذلك الفعل المحذوف ، على حسب الخلاف في أصل المسألة ، وإنما قدّرته «ليشهد اثنان» ، فأتيت به فعلا مضارعا مقرونا بلام الأمر ، ولم أقدّره فعل أمر بصيغة «افعل» ؛ كما يقدّره النحويّون في نحو : «ضربا زيدا» ، أي : «اضرب» لأنّ هذا قد رفع ظاهرا وهو «اثنان» ، وصيغة «افعل» لا ترفع إلا ضميرا مستترا إن كان المأمور واحدا ؛ ومثله قوله : [الطويل]

٢٠٦٥ ـ ................

فندلا زريق المال ندل الثّعالب (٧)

__________________

(١) ينظر : المحتسب ١ / ٢٢٠.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٣.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : أوضح المسالك ٢ / ٩٢ ، تخليص الشواهد ص (٤٧٨) ، شرح الأشموني ١ / ١٧٢ ، شرح التصريح ١ / ٢٧٣ ، المقاصد النحوية ٢ / ٤٥٣ ، الدر المصون ٢ / ٦٢٧.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٤٠ ، الدر المصون ٢ / ٦٢٧.

(٧) تقدم.

٥٦٦

ف «زريق» يجوز أن يكون منادى ، أي : يا زريق ، والثاني : أنه مرفوع ب «ندلا» على أنه واقع «ليندل» ، وإنما حذف تنوينه ؛ لالتقاء الساكنين ؛ على حدّ قوله : [الطويل]

٢٠٦٦ ـ ...............

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (١)

الثالث : أنّ «شهادة» بدل من اللفظ بفعل أيضا ، إلا أنّ هذا الفعل خبريّ ، وإن كان أقلّ من الطلبيّ ، نحو : «حمدا وشكرا لا كفرا» ، و «اثنان» أيضا فاعل به ، تقديره : يشهد شهادة اثنان ، وهذا أحسن التخاريج المذكورة في قول امرىء القيس : [الطويل]

٢٠٦٧ ـ وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

 ................. (٢)

«وقوفا» مصدر بدل من فعل خبريّ رفع «صحبي» ونصب «مطيّهم» تقديره : وقف صحبي ، وقد تقدّم أنّ الفرّاء في قراءة الرفع قدّر أن «شهادة» واقعة موقع فعل ، وارتفع «اثنان» بها ، وقد تقدم أنّ ذلك يجوز أن يكون ممّا سدّ فيه الفاعل مسدّ الخبر ، و «بينكم» في قراءة من نوّن «شهادة» نصب على الظرف ، وهي واضحة.

وأمّا قراءة الجرّ فيها ، فمن باب الاتّساع في الظّروف ، أي : بجعل الظرف كأنه مفعول لذلك الفعل ، ومثله : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨] وكقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] فيمن رفع ، قال أبو حيان (٣) : «وقال الماتريديّ ـ وتبعه الرازيّ ـ : إنّ الأصل «ما بينكم» فحذف «ما» ، قال الرازيّ : و «بينكم» كناية عن التنازع ؛ لأنه إنما يحتاج إلى الشهود عند التنازع ، وحذف «ما» جائز عند ظهوره ؛ ونظيره كقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) في قراءة من نصب» قال أبو حيان (٤) : «وحذف «ما» الموصولة غير جائز عند البصريّين ، ومع الإضافة لا يصحّ تقدير «ما» ألبتة ، وليس قوله «هذا فراق بيني» نظير (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) لأن هذا مضاف ، وذلك باق على ظرفيته فيتخيّل فيه حذف «ما» ؛ بخلاف «هذا فراق بيني» و (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) ؛ فإنه لا يتخيّل فيه تقدير «ما» ؛ لأنّ الإضافة أخرجته عن الظرفيّة وصيّرته مفعولا به على السّعة» ، قال شهاب الدين (٥) : هذا الذي نقله الشيخ عنهما قاله أبو عليّ الجرجانيّ بعينه ، قال ـ رحمه‌الله تعالى ـ : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) ، أي : ما بينكم ، و «ما بينكم» كناية عن التنازع والتشاجر ، ثم أضاف الشهادة إلى التنازع ؛ لأن الشهود إنّما يحتاج إليهم في التنازع الواقع فيما بين القوم ، والعرب تضيف الشيء إلى الشيء ، إذا كان منه بسبب ؛ كقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) [الرحمن :

__________________

(١) تقدم.

(٢) صدر بيت وعجزه :

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

ينظر : ديوانه (٣١) ، شرح القصائد العشر (٥٥) ، الدر المصون ٢ / ٦٢٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٣.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٤.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٢٨.

٥٦٧

٤٦] ، أي : مقامه بين يدي ربّه ، والعرب تحذف كثيرا ذكر «ما» و «من» في الموضع الذي يحتاج إليهما فيه ؛ كقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) [الإنسان : ٢٠] أي : ما ثمّ ، وكقوله : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨] و (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] أي ما بيني ، وما بينكم ، وقول أبي حيّان (١) «لا يتخيّل فيه تقدير «ما» إلى آخره» ممنوع ؛ لأنّ حالة الإضافة لا تجعلها صلة للموصول المحذوف ، ولا يلزم من ذلك : أن تقدّرها من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب ؛ نظرا إلى الأصل ، وأمّا حذف الموصول ، فقد تقدّم تحقيقه.

فصل

واختلفوا في هاتين الآيتين ، فقال قوم : هما الشّاهدان يشهدان على وصيّة.

وقال غيرهم : هما الوصيّان ؛ لأنّ الآية نزلت فيهما ؛ ولأنّه قال : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ) ، ولا يلزم الشّاهد يمين ، وجعل الوصيّ اثنين تأكيدا ، فعلى هذا تكون الشّهادة بمعنى : الحضور ، كقولك : «شهدت وصيّة فلان» ، بمعنى : حضرت وشهدت العين ، وقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٢] يريد الحضور.

فصل

وقوله : «ذوا» صفة لاثنين ، أي : صاحبا عدل ، وكذلك قوله «منكم» صفة أيضا لاثنين ، وقوله : «أو آخران» نسق على اثنين ، و (مِنْ غَيْرِكُمْ) صفة لآخرين ، والمراد ب «منكم» من قرابتكم وعترتكم ، ومن غيركم من المسلمين الأجانب ، وقيل : «منكم» من أهل دينكم ، و (مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الذمة ، ورجّح النحّاس (٢) الأول ، فقال : «هذا ينبني على معنى غامض في العربية ، وذلك أنّ معنى «آخر» في العربية من جنس الأوّل تقول : «مررت بكريم وكريم آخر» ولا يجوز «وخسيس آخر» ولا : «مررت بحمار ورجل آخر» ، فكذا هاهنا يجب أن يكون «أو آخران» : أو عدلان آخران ، والكفار لا يكونون عدولا» وردّ أبو حيان ذلك ؛ فقال : «أمّا ما ذكره من المثل ، فصحيح ؛ لأنه مثّل بتأخير «آخر» ، وجعله صفة لغير جنس الأوّل ، وأمّا الآية ، فمن قبيل ما يقدّم فيه «آخر» على الوصف ، واندرج «آخر» في الجنس الذي قبله ، ولا يعتبر وصف جنس الأول ، تقول : «مررت برجل مسلم وآخر كافر ، واشتريت فرسا سابقا ، وآخر بطيئا» ، ولو أخّرت «آخر» في هذين المثالين ، فقلت : «مررت برجل مسلم كافر آخر» ، لم يجز ، وليس الآية من هذا ؛ لأن تركيبها «اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم» ف «آخران» من جنس قوله «اثنان» ، ولا سيما إذا قدّرته : «رجلان اثنان» ف «آخران» هما من جنس قول ه «رجلان اثنان» ، ولا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٤.

(٢) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٢٥.

٥٦٨

يعتبر وصف قوله : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، وإن كان مغايرا لقوله «من غيركم» ، كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك : «عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران» ؛ إذ ليس من شرط «آخر» إذا تقدّم أن يكون من جنس الأول بقيد وصفه ، وعلى ما ذكرته جاء لسان العرب ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٢٠٦٨ ـ كانوا فريقين يصفون الزّجاج على

قعس الكواهل في أشداقها ضخم

وآخرين ترى الماذيّ فوقهم

من نسج داود أو ما أورثت إرم (١)

التقدير : كانوا فريقين : فريقا ـ أو ناسا ـ يصفون الزجاج ، ثم قال : «وآخرين ترى الماذيّ ، ف «آخرين» من جنس قولك «فريقا» ، ولم يعتبره بوصفه بقول ه «يصفون الزجاج» ؛ لأنه قسّم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنس» ، قال : «وهذا الفرق قلّ من يفهمه ؛ فضلا عمّن يعرفه».

وقوله : «أو» الظاهر أنها للتخيير ، وهو واضح على القول بأن معنى (مِنْ غَيْرِكُمْ) : من غير أقاربكم من المسلمين ، يعني : الموصي مخيّر بين أن يشهد اثنين من أقاربه ، أو من الأجانب المسلمين ، وقيل : «أو» للترتيب ، أي : لا يعدل عن شاهدين منكم إلا عند فقدهما ، وهذا لا يجيء إلا إذا قلنا : (مِنْ غَيْرِكُمْ) : من غير أهل ملّتكم.

قوله : (إِنْ أَنْتُمْ) «أنتم» مرفوع بمحذوف يفسّره ما بعده ، وهي مسألة الاشتغال ، والتقدير : إن ضربتم ، فلما حذف الفعل ، انفصل الضمير ، وهذا مذهب جمهور البصريّين ، وذهب الأخفش (٢) منهم والكوفيّون إلى جواز وقوع المبتدأ بعد «إن» الشرطيّة ؛ كما أجازوه بعد «إذا» أيضا ، ف «ضربتم» لا محلّ له عند الجمهور ؛ لكونه مفسّرا ، ومحلّه الرفع عند الكوفيين والأخفش ؛ لكونه خبرا ؛ ونحوه : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة : ٦] ، (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١]. وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه قوله تعالى : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ) ، ولكنّ تقدير هذا الجواب يتوقّف على خلاف في هذا الشرط : هل هو قيد في أصل الشهادة ، أو قيد ف ي «آخران من غيرهم» فقط؟ بمعنى : أنه لا يجوز العدول في الشهادة على الوصيّة إلى أهل الذمة ، إلا بشرط الضرب في الأرض ، وهو السفر ، فإن قيل : هو شرط في أصل الشهادة ، فتقدير الجواب : إن ضربتم في الأرض ، فليشهد اثنان منكم أو من غيركم ، وإن كان شرطا في العدول إلى آخرين من غير الملّة ، فالتقدير : فأشهدوا آخرين من غيركم ، أو فالشاهد آخران من غيركم ، فقد ظهر أنّ الدّالّ على جواب الشرط : إمّا مجموع قوله : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ) .. إلى آخره» على القول الأوّل ، وإمّا (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فقط على القول الثاني.

__________________

(١) البيتان لزهير. ينظر : ديوانه (٥١٨) ، البحر المحيط ٤ / ٤٦ ، الدر المصون ٢ / ٦٢٨.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٤٦.

٥٦٩

والفاء في «فأصابتكم» عاطفة هذه الجملة على نفس الشرط ، وقوله تعالى : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنها في محلّ رفع صفة ل «آخران» ؛ وعلى هذا : فالجملة الشرطية وما عطف عليها معترضة بين الصفة وموصوفها ؛ فإنّ قوله «تحبسونهما» صفة لقوله «آخران» ، وإلى هذا ذهب الفارسيّ ، ومكّي (١) بن أبي طالب ، والحوفيّ ، وأبو البقاء (٢) ، وابن عطيّة (٣) ، وقد أوضح الفارسيّ ذلك بعبارة خاصّة ، فقال : «تحبسونهما» صفة ل «آخران» واعترض بقوله : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ، وأفاد الاعتراض : أنّ العدول إلى آخرين من غير الملّة ، أو القرابة حسب اختلاف العلماء فيه ؛ إنما يكون مع ضرورة السّفر ، وحلول الموت فيه ، واستغني عن جواب «إن» ؛ لما تقدّم في قوله (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، فقد ظهر من كلامه : أنه يجعل الشرط قيدا في (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فقط لا قيدا في أصل الشهادة ، فتقدير الجواب على رأيه ؛ كما تقدّم : «فاستشهدوا آخرين من غيركم» أو «فالشاهدان آخران من غيركم».

والثاني : أنه لا محلّ له ؛ لاستئنافه ، وإليه ذهب الزمخشريّ (٤) ؛ قال : «فإن قلت : ما موقع قوله : «تحبسونهما»؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما : فكيف نعمل ، إن ارتبنا فيهما؟ فقيل : تحبسونهما» ، وهذا الذي ذكره الزمخشريّ أوفق للصناعة ؛ لأنه يلزم في الأوّل الفصل بكلام طويل بين الصفة وموصوفها ، وقال : «بعد اشتراط العدالة» ؛ بناء على مختاره في قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، أي : أو عدلان آخران من الأجانب.

قال أبو حيان (٥) : «في قوله : «إن أنتم ضربتم» إلى آخره التفات من الغيبة إلى الخطاب ، إذ لو جرى على لفظ (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، لكان التركيب : إن هو ضرب في الأرض ، فأصابته ، وإنما جاء الالتفات جمعا ؛ لأنّ «أحدكم» معناه : إذا حضر كلّ واحد منكم الموت» ، وفيه نظر ؛ لأن الخطاب جار على أسلوب الخطاب الأوّل من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) إلى آخره ، وقال ابن عبّاس : «في الكلام حذف ، تقديره : فأصابتكم مصيبة الموت ، وقد أشهدتموهما على الإيصاء» ، وعن سعيد بن جبير : تقدير ه «وقد أوصيتم» ، قال بعضهم : «هذا أولى ؛ لأنّ الوصيّ يحلف ، والشّاهد لا يحلف». والخطاب في «تحبسونهما» لولاة الأمور لا لمن خوطب بإصابته الموت ؛ لأنه يتعذّر ذلك فيه ، و «من بعد» متعلّق ب «تحبسونهما» ، ومعنى الحبس : المنع ، يقال : حبست وأحبست فرسي في سبيل الله ، فهو محبس وحبيس ، ويقال لمصنع الماء :

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٥٠.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٢.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٧.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٦.

٥٧٠

«حبس» ؛ لأنه يمنعه ، ويقال : «حبّست» بالتشديد أيضا بمعنى وقفت وسبلت ؛ وقد يكون التشديد للتكثير في الفعل ؛ نحو : «حبّست الرّجال» ، والألف واللام في «الصّلاة» فيها قولان :

أحدهما : أنها للجنس ، أي : بعد أيّ صلاة كانت.

والثاني ـ وهو الظاهر ـ أنها للعهد كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.

فصل

معنى الآية : أنّ الإنسان إذا حضره الموت ، أن يشهد اثنين ذوي عدل أي : أمانة وعقل.

ومعنى قوله : «منكم» أي : أهل دينكم يا معشر المؤمنين ، (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، من غير دينكم قول أكثر المفسّرين (١) ، قاله ابن عبّاس ، وأبو موسى الأشعري ، وهو قول سعيد بن المسيّب ، وإبراهيم النّخعي ، وسعيد بن جبير [وشريح](٢) ، ومجاهد ، وعبيدة ، ثمّ اختلف هؤلاء في حكم الآية.

فقال النّخعي ، وجماعة : هي منسوخة (٣) ، وكانت شهادة أهل الذمّة مقبولة في الابتداء ، ثمّ نسخت ، وذهب قوم إلى أنّها ثابتة ، وقالوا : إذا لم يجد مسلمين يشهد كافرين قال شريح (٤) : من كان بأرض غربة ، ولم يجد مسلما يشهد على وصيّته ، فأشهد كافرين على أيّ دين كانا من أهل الكتاب ، أو عبدة الأوثان ، فشهادتهم جائزة ، ولا تجوز شهادة كافر على مسلم إلّا على وصيّة في سفر (٥).

وعن الشّعبيّ : أنّ رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ، ولم يجد مسلما يشهده على وصيّته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة بتركته وأتيا أبا موسى الأشعري.

فقال الأشعريّ : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأحلفهما بالله ما خانا ولا كذبا ، ولا بدّلا ، ولا غيّرا ، وأنّها لوصيّة الرّجل وتركته ، وأمضى شهادتهما (٦) وقال آخرون : قوله : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : من حيّ الموصي ، (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، أي : من غير حيّكم وعشيرتكم ، وهو قول الحسن والزّهري وعكرمة

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٧٣ ، والفخر الرازي ١٢ / ٩٦.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ١٢٤) عن ابن عباس.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٧٤.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٠٥) عن إبراهيم النخعي.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٠٦) عن الشعبي.

٥٧١

[وجمهور الفقهاء] ، وقالوا : لا يجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام.

وقوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ، أي : إن وقع الموت في السّفر ، ولم يكن معكم أحد من المسلمين ، أو من أقاربكم ، فاستشهدوا أجنبيّين على الوصيّة ، إمّا من ملتكم ، أو من غير ملّتكم على الخلاف.

واحتجّ من قال : المراد بقوله : (مِنْ غَيْرِكُمْ) : الكفّار ؛ بأنّه تعالى قال في أوّل الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فعمّ بهذا الخطاب جميع المؤمنين ، فلما قال بعده (مِنْ غَيْرِكُمْ) كان المراد غير المؤمنين.

وأيضا كما شرط هذا الاستشهاد بحالة السّفر علمنا أن المراد بالآية : الكفّار ؛ لأنّ جواز الاستشهاد بالمسلم غير مشروط بالسّفر.

وأيضا فالآية تدلّ على وجوب تحليف الشّاهدين بعد الصلاة ، والإجماع على أنّ الشّاهد المسلم ، لا يجب عليه الحلف ، فعلمنا أنّ هذين الشّاهدين ليسا من المسلمين وأيضا بسبب النّزول ، ما ذكرنا من شهادة النّصرانيّين ، وقصّة أبي موسى الأشعري ، إذ قضى بشهادة اليهوديّين ، ولم ينكر عليه أحد من الصّحابة ، فكان إجماعا ، فهذه حالة ضرورة ، والضّرورات قد تبيح المحظورات ، كجواز التّيمّم ، والقصر ، والفطر في رمضان ، وأكل الميتة في حال الضّرورة ، والمسلم إذا حضره الموت في السّفر ، ولم يجد مسلما يشهده على وصيّته ، ولم تكن شهادة الكافرين مقبولة ، فإنّه يضيّع أكثر مهمّاته ، وربّما كان عنده ودائع وديون في ذمّته.

كما تجوز شهادة النّساء فيما يتعلّق بأحوالهنّ ، كالحيض والحبل والولادة والاستهلال ؛ لعدم إمكان وقوف الرّجال على هذه الأحوال ، فاكتفي (١) بشهادة النّساء فيها للضّرورة ، فكذا هاهنا ، والقول بأنّ هذا الحكم صار منسوخا بعيد ؛ لاتّفاق أكثر الأمّة على أنّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن ، وليس فيها منسوخ ، واحتجّ الآخرون بقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] ، والكافر لا يكون عدلا.

وأجيب بأنّه لم لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب ، لا من كان عدلا في الدّين والاعتقاد ؛ لإجماعنا على قبول شهادة أهل الأهواء والبدع ، مع أنّهم ليسوا عدولا في مذاهبهم عندنا لكفرهم ، [ولكنهم](٢) لمّا كانوا عدولا في الاحتراز عن الكذب ، قبلنا شهادتهم ، فكذا هاهنا. سلّمنا أنّ الكافر ليس بعدل ، إلّا أن قوله : (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عامّ ، وقوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) خاصّ ؛ فإنّه أوجب شهادة العدل منّا في الحضر ، واكتفى بشهادة من لا يكون منّا في السّفر ، فهذه الآية خاصّة ، والآية التي ذكروها عامّة ، والخاصّ مقدّم على العامّ ، لا سيّما

__________________

(١) في أ : والنّفاء.

(٢) سقط في أ.

٥٧٢

إذا كان الخاصّ متأخّرا في النزول ، والمائدة متأخرّة ، فكان تقديم هذه الآية الخاصّة واجب بالاتّفاق.

وقوله : «تحبسونهما» أي : تستوقفونهما من بعد صلاة أهل دينهما.

وقال عامّة المفسّرين (١) : من بعد صلاة العصر ، قاله الشّعبي ، والنّخعي ، وسعيد بن جبير ، وقتادة وغيرهم (٢) ؛ لأنّ جميع أهل الأديان يعظّمون ذلك الوقت ، ويجتنبون فيه الحلف الكاذب.

وقال الحسن : من بعد صلاة الظّهر (٣).

واحتجّ الجمهور بما تقدّم ، وبأنّه روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية ، صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر ، ودعا ب «عديّ» و «تميم» فأستحلفهما عند المنبر.

وقال بعضهم : بعد أداء أيّ صلاة كانت ؛ لأنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

قال بعض العلماء (٤) : الأيمان تغلّظ في الدّماء ، والطّلاق ، والعتاق ، والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزّمان والمكان ، فيحلف بعد صلاة العصر بمكّة بين الرّكن والمقام ، وفي المدينة عند المنبر ، وفي بيت المقدس عند الصّخرة ، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد.

وقال أبو حنيفة : لا يختصّ الحلف بزمان ولا مكان.

قوله : «فيقسمان» في هذه الفاء وجهان :

أظهرهما : أنها عاطفة هذه الجملة على جملة قوله : «تحبسونهما» ، فتكون في محلّ رفع ، أو لا محلّ لها حسبما تقدّم من الخلاف.

والثاني : أنها فاء الجزاء ، أي : جواب شرط مقدّر ، وقال الفارسيّ : «وإن شئت ، لم تجعل الفاء ؛ لعطف جملة ، بل تجعله جزاء ؛ كقول ذي الرّمّة : [الطويل]

٢٠٦٩ ـ وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو ، وتارات يجمّ فيغرق (٥)

تقديره عندهم : إذا حسر بدا ، وكذا في الآية : إذا حبستموهما أقسما». [وقال

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٢٨.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ١١٠ ، ١١١) عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ٩٧) عن الحسن.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٥٨.

(٥) ينظر : ديوانه ص (٤٦٠) ، خزانة الأدب ٢ / ١٩٢ ، الدرر ٢ / ١٧ ، المقاصد النحوية ١ / ٥٧٨ ، ولكثير في المحتسب ١ / ١٥٠ ، والأشباه والنظائر ٣ / ١٠٣ ، ٧ / ٢٥٧ ، أوضح المسالك ٣ / ٣٦٢ ، تذكرة النحاة ص (٦٦٨) ، شرح الأشموني ١ / ٩٢ ، مجالس ثعلب ص (٦١٢) ، مغني اللبيب ٢ / ٥٠١ ، المقرب ١ / ٨٣ ، همع الهوامع ١ / ٩٨ ، الدر المصون ٢ / ٦٣٠ ، المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٣ ، البحر المحيط ٤ / ٤٧.

٥٧٣

مكيّ (١) نحوه ؛ فإنه قال : «ويجوز أن تكون الفاء جواب جزاء ؛ لأن «تحبسونهما» معناه الأمر بذلك ، وهو جواب الأمر الذي دلّ عليه الكلام ؛ كأنه قيل : إذا حبستموهما أقسما»] قال شهاب الدين (٢) : ولا حاجة داعية إلى شيء من تقدير شرط محذوف ، وأيضا : فإنه يحوج إلى حذف مبتدأ قبل قوله «فيقسمان» ، أي : فهما يقسمان ، وأيضا ف «إن تحبسوهما» تقدّم أنها صفة ، فكيف يجعلها بمعنى الأمر ، والطّلب لا يقع وصفا؟ وأمّا البيت الذي أنشده أبو عليّ ، فخرّجه النحويّون على أنّ «يحسر الماء تارة» جملة خبرية ، وهي وإن لم يكن فيها رابط ، فقد عطف عليها جملة فيها رابط بالفاء السّببية ، وفاء السببية جعلت الجملتين شيئا واحدا.

و «بالله» متعلّق بفعل القسم ، وقد تقدّم أنه لا يجوز إظهار فعل القسم إلا معها ؛ لأنها أمّ الباب ، وقوله : (لا نَشْتَرِي بِهِ) جواب القسم المضمر في «يقسمان» ، فتلقّي بما يتلقّى به ، وقوله : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شرط ، وجوابه محذوف ، تقديره : إن ارتبتم فيهما ، فحلّفوهما ، وهذا الشرط وجوابه المقدّر معترض بين القسم وجوابه.

والمعنى : إن ارتبتم في شأنهما فحلّفوهما ، وهذا الشّرط حجّة من يقول : الآية نازلة في إشهاد الكفّار ؛ لأنّ تحليف الشّاهد المسلم غير مشروع.

ومن قال : الآية نازلة في المسلم قال : إنها منسوخة.

وعن عليّ ـ رضي الله عنه ـ (٣) : أنّه كان يحلّف الشّاهد والرّاوي عند التّهمة. وليس هذه الآية ممّا اجتمع فيه شرط وقسم ، فأجيب سابقهما ، وحذف جواب الآخر ؛ لدلالة جوابه عليه ؛ لأنّ تلك المسألة شرطها أن يكون جواب القسم صالحا لأن يكون جواب الشرط ؛ حتّى يسدّ مسدّ جوابه ؛ نحو : «والله إن تقم لأكرمنّك» ، لأنك لو قدّرت «إن تقم أكرمتك» ، صحّ ، وهنا لا يقدّر جواب الشرط ما هو جواب للقسم ، بل يقدّر جوابه قسما برأسه ؛ ألا ترى أنّ تقديره هنا : «إن ارتبتم ، حلفوهما» ولو قدّرته : إن ارتبتم ، فلا نشتري ، لم يصحّ ، فقد اتفق هنا أنه اجتمع شرط وقسم ، وقد أجيب سابقهما ، وحذف جواب الآخر ، وليس من تيك القاعدة ، وقال الجرجانيّ : «إنّ ثمّ قولا محذوفا ، تقديره : يقسمان بالله ويقولان هذا القول في أيمانهما ، والعرب تضمر القول كثيرا ؛ كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] أي : يقولون سلام عليكم» ، قال شهاب الدين : ولا أدري ما حمله على إضمار هذا القول؟.

قوله : «به» في هذه الهاء ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها تعود على الله تعالى.

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٥١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٣٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٩٨.

٥٧٤

الثاني : أنها تعود على القسم.

الثالث ـ وهو قول أبي عليّ ـ : أنها تعود على تحريف الشهادة ، وهذا قوي من حيث المعنى ، وقال أبو البقاء (١) : «تعود على الله ، أو القسم ، أو الحلف ، أو اليمين ، أو تحريف الشهادة ، أو على الشهادة ؛ لأنها قول» ، قال شهاب الدين (٢) : قول ه «أو الحلف أو اليمين» لا فائدة فيه ؛ إذ هما شيء واحد ، وكذلك قول من قال : إنها تعود على الله تعالى ، لا بد أن يقدّر مضافا محذوفا ، أي : لا نشتري بيمين الله أو قسمه ونحوه ؛ لأنّ الذات المقدّسة لا يقال فيها ذلك ، وقال مكي (٣) : «وقيل : الهاء تعود على الشّهادة ، لكن ذكّرت ؛ لأنها قول كما قال تعالى : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) [النساء : ٨] فردّ الهاء على المقسوم ؛ لدلالة القسمة على ذلك» ، والاشتراء هنا ، هل هو باق على حقيقته ، أو يراد به البيع؟ قولان ، أظهرهما الأول ، وبيان ذلك مبنيّ على نصب «ثمنا» ، وهو منصوب على المفعوليّة ، قال الفارسيّ : «وتقديره : لا نشتري به ذا ثمن ؛ ألا ترى أنّ الثمن لا يشترى ، وإنما يشترى ذو الثمن» ، قال : «وليس الاشتراء هنا بمعنى البيع ، وإن جاء لغة ، لأنّ البيع إبعاد عن البائع ، وليس المعنى عليه ، إنما معناه التمسّك به والإيثار له على الحقّ» ، وقد نقل أبو حيان (٤) هذا الكلام بعينه ولم يعزه لأبي عليّ.

وقال مكيّ (٥) : «معناه ذا ثمن ، لأنّ الثمن لا يشترى ، إنما يشترى ذو الثمن ، وهو كقوله : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً) [التوبة : ٩] ، أي ذا ثمن» ، وقال غيره : «إنه لا يحتاج إلى حذف مضاف» ، قال أبو البقاء (٦) : «ولا حذف فيه ؛ لأنّ الثمن يشترى كما يشترى به ، وقيل : التقدير : ذا ثمن» ، وقال بعضهم : «لا نشتري : لا نبيع بعهد الله بغرض نأخذه ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران : ٧٧] ، فمعنى الآية : لا نأخذ بعهد الله ثمنا ؛ بأن نبيعه بعرض من الدنيا» قال الواحديّ : «ويستغنى بهذا عن كثير من تكلّف أبي عليّ ، وهذا معنى قول القتيبيّ والجرجانيّ».

قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) الواو هنا كالتي سبقت في قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧٠] من أنها يحتمل أن يقال عاطفة ، أو حالية ، وأنّ جملة الامتناع حال معطوفة على حال مقدّرة ؛ كقوله : «أعطوا السّائل ، ولو على فرس» ، فكذا هنا تقديره : لا نشتري به ثمنا في كلّ حال ، ولو كان الحال كذا ، واسم «كان» مضمر فيها يعود على المشهود له ، أي : ولو كان المشهود له ذا قرابة.

قوله : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) الجمهور على رفع ميم «نكتم» على أنّ «لا» نافية ، والجملة تحتمل وجهين :

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٣١.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢٥١.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٨.

(٥) ينظر : المشكل ١ / ٢٥١.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٩.

٥٧٥

أحدهما ـ وهو الظاهر ـ : كونها نسقا على جواب القسم ، فتكون أيضا مقسما عليها.

والثاني : أنه إخبار من أنفسهم بأنهم لا يكتمون الشهادة ؛ ويتأيّد بقراءة الحسن والشّعبيّ (١) : (وَلا نَكْتُمُ) على النهي ، وهذه القراءة جاءت على القليل ؛ من حيث إنّ دخول «لا» الناهية على فعل المتكلّم قليل ؛ ومنه : [الطويل]

٢٠٧٠ ـ إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد

بها أبدا ما دام فيها الجراصم (٢)

والجمهور على «شهادة الله» بالإضافة ، وهي مفعول بها ، وأضيفت إليه تعالى ؛ لأنه هو الآمر بها وبحفظها ، وألّا تكتم ، ولا تضيّع ، وقرأ (٣) عليّ رضي الله عنه ونعيم بن ميسرة والشّعبيّ في رواية : «شهادة الله» بتنوين شهادة ، ونصبها ، ونصب الجلالة ، وهي واضحة ، ف «شهادة» مفعول ثان ، والجلالة نصب على التعظيم وهي الأوّل ، والأصل : ولا نكتم الله شهادة ؛ وهو كقوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] وإنما قدّمت هنا للاهتمام بها ؛ فإنها المحدّث عنها ، وفيها وجه ثان ـ نقله الزهراويّ ـ وهو : أن تكون الجلالة نصبا على إسقاط حرف القسم ، والتقدير : ولا نكتم شهادة والله ، فلمّا حذف حرف الجر ، نصب المقسم به ، ولا حاجة إليه ؛ لأنه يستدعي حذف المفعول الأوّل للكتمان ، أي : ولا نكتم أحدا شهادة والله ، وفيه تكلّف ، وإليه ذهب أبو البقاء (٤) أيضا قال : «على أنه منصوب بفعل القسم محذوفا».

ويروى عن أبي (٥) جعفر «شهادة» منونة «ألله» بقطع الألف وكسر الهاء ، من غير استفهام على ابتداء اليمين ، أي : والله (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) ، أي : إن كتمناها نكون من الآثمين.

وقرأ عليّ ـ رضي الله عنه ـ والسّلميّ والحسن البصريّ (٦) : «شهادة» بالتنوين والنصب ، «آلله» بمدّ الألف التي للاستفهام ، دخلت للتقرير ، وتوقيف نفوس الخلق الحالفين ، وهي عوض عن حرف القسم المقدّر ثمّ. وهل الجرّ بها أم بالحرف المحذوف؟ خلاف. وقرأ (٧) الشعبيّ في رواية وغيره : «شهاده» بالهاء ويقف عليها ، ثم

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٨ ، والدر المصون ٢ / ٦٣٢.

(٢) البيت للفرزدق في : الأزهية ص (١٥٠) ، مغني اللبيب ١ / ٢٤٧ ، وللوليد بن عقبة في شرح التصريح ٢ / ٢٤٦ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٦٣٣ ، المقاصد النحوية ٤ / ٤٢٠ ، أوضح المسالك ٤ / ٢٠٠ ، شرح الأشموني ٣ / ٥٧٤ ، البحر المحيط ٤ / ٤٨ ، الدر المصون ٢ / ٦٣٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٨ ، والدر المصون ٢ / ٦٣٢.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٣٢.

(٦) وقرأ بها عبد الله بن حبيب كما في المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٣ ، وينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٨ ، والدر المصون ٢ / ٦٣٢.

(٧) ينظر : القراءة السابقة.

٥٧٦

يبتدىء «آلله» بقطع همزة الوصل وبمدّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدّم ، وجرّ الجلالة ، وهمزة القطع تكون عوضا من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ، تقول : يا زيد ، ألله ، لأفعلنّ ، والذي يعوّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصّة ثلاثة : ألف الاستفهام ، وقطع همزة الوصل ، وها التي للتنبيه ؛ نحو : «ها الله» ، ويجوز مع «ها» قطع همزة الجلالة ووصلها ، وهل الجرّ بالحرف المقدّر ، أو بالعوض؟ تقدّم أنّ فيه خلافا ، ولو قال قائل : إن قولهم «الله ، لأفعلنّ» بالجرّ وقطع الهمزة ؛ بأنها همزة استفهام لم يردّ قوله ، فإن قيل : همزة الاستفهام ، إذا دخلت على همزة الوصل التي مع لام التعريف ، أو ايمن في القسم ، وجب ثبوت همزة الوصل ، وحينئذ إمّا : أن تسهّل ، وإمّا أن تبدل ألفا ، وهذه لم تثبت بعدها همزة وصل ، فتعيّن أن تكون همزة وصل قطعت عوضا عن حرف القسم ، فالجواب : أنهم إنما أبدلوا ألف الوصل أو سهّلوها بعد همزة الاستفهام ؛ فرقا بين الاستفهام والخبر ، وهنا اللّبس مأمون فإنّ الجرّ في الجلالة يؤذن بذلك ؛ فلا حاجة إلى بقاء همزة الوصل مبدلة أو مسهّلة ، فعلى هذا قراءة : ألله ، وآلله بالقصر والمدّ تحتمل الاستفهام ، وهو تخريج حسن ، قال ابن جني (١) في هذه القراءة : «الوقف على «شهاده» بسكون الهاء ، واستئناف القسم ـ حسن ؛ لأنّ استئنافه في أول الكلام أوجه له وأشدّ هيبة من أن يدخل في عرض القول» ، ورويت هذه القراءة ـ أعني : «ألله» بقطع الألف من غير مدّ وجرّ الجلالة ـ عن أبي بكر عن عاصم وتقدّم أيضا أنها رويت عن أبي جعفر ، وقرىء (٢) : «شهادة الله» بنصب الشهادة منونة ، وجر الجلالة موصولة الهمزة ، على أن الجرّ بحرف القسم المقدّر من غير عوض منه بقطع ، ولا همزة استفهام ، وهو مختصّ بذلك.

وقوله تعالى : (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) هذه الجملة لا محلّ لها ؛ لأنها استئنافية ، أخبروا عن أنفسهم بأنهم من الآثمين ، إن كتموا الشهادة ؛ ولذلك أتوا ب «إذن» المؤذنة بالجزاء والجواب ، وقرأ الجمهور : «لمن الآثمين» من غير نقل ، ولا إدغام ، وقرأ ابن محيصن والأعمش (٣) : «لملّاثمين» بإدغام نون «من» في لام التعريف ، بعد أن نقل إليها حركة الهمزة في «آثمين» ، فاعتدّ بحركة النقل فأدغم ، وهي نظير قراءة من قرأ (٤) : عادا لولى [النجم : ٥٠] بالإدغام ، على ما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

فصل في معنى الآية

ومعنى الآية : إنكم إذا سافرتم في الأرض ، فأصابتكم مصيبة الموت ، فأوصيتم

__________________

(١) ينظر : المحتسب ١ / ٢٢٠.

(٢) تقدمت هذه القراءة.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٨ ، والدر المصون ٢ / ٦٣٣ ، والتخريجات النحوية والصرفية ٣٢٧ ، ٣٥٥.

(٤) ستأتي في النجم آية ٥٠.

٥٧٧

إليهما ، ودفعتم إليهما مالكم ، فاتّهمهما بعض الورثة ، وادّعوا عليهما خيانة فما الحكم فيه؟

«أن تحبسونهما» أي : تستوقفونهما بعد الصّلاة.

قال السّدي : بعد صلاة أهل دينهما ؛ لأنّهما لا يباليان بصلاة العصر ، ولا صلاة الظّهر على ما تقدّم ، فيحلفان (بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي : شككتم ووقعت لكم الرّيبة في قول الشّاهدين وصدقهما ، إذا كانا من غير دينكم ، فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) ، أي : لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه ، أو حقّ نجحده (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ، ولو كان المشهود له ذا قرابة منّا (١).

وقيل : لو كان ذلك الشّيء حبوة (٢) في قربى (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) وأضاف الشّهادة إلى الله تعالى ؛ لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) ، إن كتمنا الشّهادة.

روي لما نزلت هذه الآية ، صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر ، ودعا تميما وعديا ، فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلّا هو ، أنّهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما ، فحلفا على ذلك ، وخلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيلهما (٣).

قوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ:) مبنيّ للمفعول ، والقائم مقام فاعله الجارّ بعده ، أي : فإن اطّلع على استحقاقهما الإثم يقال : عثر الرّجل يعثر عثورا : إذا هجم على شيء ، لم يطّلع عليه غيره ، وأعثرته على كذا أطلعته عليه ؛ ومنه قوله تعالى : (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) [الكهف : ٢٦] ، قال أهل اللغة : وأصله م ن «عثرة الرجل» وهي الوقوع ، وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه ، فإن عثر به ، اطّلع عليه ، ونظر ما هو ، فقيل لكلّ أمر كان خفيّا ، ثم اطّلع عليه : «عثر عليه» ، وقال الليث : «عثر يعثر عثورا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره ، وعثر يعثر عثرة وقع على شيء» ففرّق بين الفعلين بمصدريهما ، وفرّق أبو البقاء (٤) بينهما بغير ذلك ؛ فقال : «عثر مصدره العثور ، ومعناه اطّلع ، فأمّا «عثر» في مشيه ، ومنطقه ، ورأيه ، فالعثار» ، والراغب (٥) جعل المصدرين على حدّ سواء ؛ فإنه قال : «عثر الرّجل بالشيء يعثر عثورا وعثارا : إذا سقط عليه ، ويتجوّز به فيمن يطّلع على أمر من غير طلبه ، يقال : «عثرت على كذا» ، وقوله : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) [الكهف : ٢١] ، أي : وقّفناهم عليهم من غير أن طلبوا».

قوله تعالى : (فَآخَرانِ) فيه أربعة أوجه :

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره ٥ / ١١١.

(٢) في أ : حياة.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

(٥) ينظر : المفردات ٣٣٣.

٥٧٨

الأول : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : فالشّاهدان آخران ، والفاء جواب الشرط ، دخلت على الجملة الاسمية ، والجملة من قوله : «يقومان» في محلّ رفع صفة ل «آخران».

الثاني : أنه مرفوع بفعل مضمر ، تقديره : فليشهد آخران ، ذكره مكيّ (١) وأبو البقاء (٢) ، وقد تقدّم أن الفعل لا يحذف وحده إلّا في مواضع ذكرتها عند قوله : (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) [المائدة : ١٠٦].

الثالث : أنه خبر مقدّم ، و «الأوليان» مبتدأ مؤخّر ، والتقدير : فالأوليان بأمر الميّت آخران يقومان مقامهما ، ذكر ذلك أبو عليّ ، قال : «ويكون كقولك : تميميّ أنا».

الرابع : أنه مبتدأ ، وفي الخبر حينئذ احتمالات :

أحدها : قوله : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ) ، وجاز الابتداء به ؛ لتخصّصه بالوصف ، وهو الجملة من «يقومان».

والثاني : أنّ الخبر «يقومان» و (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ) صفة المبتدأ ، ولا يضرّ الفصل بالخبر بين الصفة وموصوفها ، والمسوّغ أيضا للابتداء به : اعتماده على فاء الجزاء ، وقال أبو البقاء (٣) ، لمّا حكى رفعه بالابتداء : «وجاز الابتداء هنا بالنّكرة ؛ لحصول الفائدة» ، فإن عنى أنّ المسوّغ مجرّد الفائدة من غير اعتبار مسوّغ من المسوّغات التي ذكرتها ، فغير مسلّم.

الثالث : أنّ الخبر قوله : «الأوليان» نقله أبو البقاء (٤) ، وقوله «يقومان» و (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ) كلاهما في محلّ رفع صفة ل «آخران» ، ويجوز أن يكون أحدهما صفة ، والآخر حالا ، وجاءت الحال من النكرة ؛ لتخصّصها بالوصف ، وفي هذا الوجه ضعف ؛ من حيث إنه إذا اجتمع معرفة ونكرة ، جعلت المعرفة محدّثا عنها ، والنكرة حديثا ، وعكس ذلك قليل جدّا أو ضرورة ؛ كقوله : [الوافر]

٢٠٧١ ـ ...............

يكون مزاجها عسل وماء (٥)

وكقوله : [الطويل]

٢٠٧٢ ـ وإنّ حراما أنّ أسبّ مجاشعا

بآبائي الشّمّ الكرام الخضارم (٦)

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٥٢.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص (٧١) ، الأشباه والنظائر ٢ / ٢٩٦ ، خزانة الأدب ٩ / ٢٢٤ ، الدرر ٢ / ٧٣ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ٥٠ ، شرح شواهد المغني ص (٨٤٩) ، شرح المفصل ٨ / ٩٣ ، الكتاب ١ / ٤٩ ، لسان العرب (سبأ) ، (رأس) ، (جنى) ، المحتسب ١ / ٢٧٩ ، المقتضب ٤ / ٩٢ ، مغني اللبيب ص (٤٥٣) ، همع الهوامع ١ / ١١٩ ، الدر المصون ٢ / ٦٣٤.

(٦) تقدم.

٥٧٩

وقد فهم ممّا تقدّم أنّ الجملة من قوله «يقومان» والجارّ من قوله : (مِنَ الَّذِينَ) : إمّا مرفوع المحلّ صفة ل «آخران» أو خبر عنه ، وإمّا منصوبه على الحال : إمّا من نفس «آخران» ، أو من الضّمير المستكنّ في «آخران» ، ويجوز في قوله (مِنَ الَّذِينَ) أن يكون حالا من فاعل «يقومان».

قوله : «استحقّ» قرأ الجمهور «استحقّ» (١) مبنيّا للمفعول ، «الأوليان» رفعا ، وقرأ حفص عن عاصم (٢) : «استحقّ» مبنيّا للفاعل ، «الأوليان» كالجماعة ، وهي قراءة عبد الله بن عبّاس وأمير المؤمنين عليّ ـ رضي الله عنهم ـ ورويت عن ابن كثير أيضا ، وحمزة (٣) وأبو بكر عن عاصم : «استحقّ» مبنيّا للمفعول كالجماعة ، «الأوّلين» جمع «أوّل» جمع المذكر السّالم ، والحسن (٤) البصريّ : «استحقّ» مبنيّا للفاعل ، و «الأوّلان» مرفوعا تثنية «أوّل» ، وابن سيرين (٥) كالجماعة ، إلا أنه نصب الأوليين تثنية «أولى» ، وقرىء : «الأولين» بسكون الواو وفتح اللام ، وهو جمع «أولى» كالأعلين في جمع «أعلى» ، ولما وصل أبو إسحاق الزجاج (٦) إلى هذا الموضوع ، قال : «هذا موضع من أصعب ما في القرآن إعرابا». قال شهاب الدين : ولعمري ، إنّ القول ما قالت حذام ؛ فإن الناس قد دارت رؤوسهم في فكّ هذا التركيب ، وقد اجتهدت ـ بحمد الله تعالى ـ فلخّصت الكلام فيها أحسن تلخيص ، ولا بدّ من ذكر شيء من معاني الآية ؛ لنستعين به على الإعراب ؛ فإنه خادم لها.

فأمّا قراءة الجمهور ، فرفع «الأوليان» فيها أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره «آخران» ، تقديره : فالأوليان بأمر الميّت آخران ، وتقدّم شرح هذا.

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هما الأوليان ؛ كأنّ سائلا يسأل فقال : «من الآخران»؟ فقيل : هما الأوليان.

الثالث : أنه بدل من «آخران» ، وهو بدل في معنى البيان للمبدل منه ؛ نحو : «جاء زيد أخوك» وهذا عندهم ضعيف ؛ لأنّ الإبدال بالمشتقّات قليل.

الرابع : أنه عطف بيان ل «آخران» بيّن الآخرين بالأوليين ، فإن قلت : شرط عطف

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، والحجة ٣ / ٢٦٠ ، ٢٦١ ، وحجة القراءات ٢٣٨ ، والعنوان ٨٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٩ ، ١٥٠ ، وشرح شعلة ٣٥٥ وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٧ ، وإتحاف ١ / ٥٤٣.

(٢) ورويت عن أبيّ كما في البحر المحيط ٤ / ٤٩ ، وينظر : الدر المصون ٢ / ٦٣٤.

(٣) ينظر : التخريجات السابقة على القراءة.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٩ ، والدر المصون ٢ / ٦٣٤.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٣٩.

٥٨٠