اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

بني» متعلّق بوصف محذوف في الحقيقة ، لا بقولك «عندي» ، ويمكن أن يقال ـ وهو بعيد جدّا ـ إنه أراد التعلّق المعنويّ ؛ وذلك أنّ العامل في الموصوف عامل في صفته ، و «عليه» عامل في «جزاء» ، فهو عامل في صفته ، فالتعلّق من هذه الحيثيّة ، ولكن إنما يتأتّى ذلك حيث جعلنا الخبر عاملا في المبتدأ ، أو قلنا : إنّ الجارّ يرفع الفاعل ، ولو لم يعتمد وإنما ذكر هنا التوجيهات ؛ لأنّ القائلين بذلك ممّن لا يلغى قولهم بالكلية.

والألف في «ذوا» علامة الرفع ؛ لأنه مثنى ، وقد تقدّم الكلام في اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها [الآية ١٧٧ البقرة] ، وقرأ الجمهور : «ذوا» بالألف ، وقرأ (١) محمد بن جعفر الصادق : «ذو» بلفظ الإفراد ، قالوا : ولا يريد بذلك الوحدة ، بل يريد : يحكم به من هو من أهل العدل ، وقال الزمخشريّ (٢) : «وقيل : أراد الإمام» فعلى هذا تكون الوحدة مقصودة ، و «منكم» في محلّ رفع صفة ل «ذوا» ، أي : إنهما يكونان من جنسكم في الدّين ، ولا يجوز أن تكون صفة ل «عدل» ؛ لأنه مصدر قاله أبو البقاء (٣) ، يعني : أن المصدر ليس من جنسهم ، فكيف يوصف بكونه منهم؟

فصل

المعنى يحكم للجزاء رجلان عدلان قال ابن عبّاس : يريد يحكم به في جزاء الصّيد رجلان صالحان منكم ، من أهل قبلتكم ودينكم ، فقيهان عدلان ، فينظران إلى أشبه الأشياء من النّعم ، فيحكمان به (٤) ، وممّن ذهب إلى إيجاب المثل من النّعم : عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن عبّاس ، وغيرهم من الصّحابة حكموا في بلدان مختلفة ، وأزمان شتّى بالمثل من النّعم ، فحكم حاكمهم في النّعامة ببدنة ، وهي لا تساوي بقرة ، وفي الضّبع كبش وهو لا يساوي كبشا ، فدلّ على أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصّيد شبها من حيث الخلقة.

وروي عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس : أنّهم قضوا في حمام مكّة بشاة (٥).

وروى جابر بن عبد الله : أنّ عمر بن الخطّاب قضى في الضّبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة (٦).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٣ ، والدر المصون ٢ / ٦٠٩.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٩.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٢٦.

(٤) انظر تفسير الطبري (١٢ / ٧٧).

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٨٠) عن ابن عباس وعطاء وعزاه لابن أبي شيبة.

(٦) ورد الشطر الأول منه مرفوعا ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٨٠) عن جابر وعزاه لابن أبي شيبة والحاكم.

٥٢١

وقال ميمون بن مهران (١) : جاء أعرابيّ إلى أبي بكر الصّدّيق ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقال : إنّي أصيت من الصّيد كذا وكذا ، فسأل أبو بكر أبيّ بن كعب ، فقال الأعرابيّ : أتيتك أسألك ، وأنت تسأل غيرك ، فقال أبو بكر : وما أنكرت من ذلك؟ قال تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فشاورت صاحبي ، فإذا اتّفقنا على شيء أمرناك به (٢).

وعن قبيصة بن جابر ؛ أنه كان محرما ، فضرب ظبيا فمات ، فسأل عمر بن الخطّاب ، وكان إلى جنبه عبد الرّحمن بن عوف ، فقال عمر لعبد الرّحمن : ما ترى ، قال : عليه شاة ، قال : وأنا أرى ذلك ، قال اذهب فأهد شاة ، قال قبيصة : فخرجت إلى صاحبي ، وقلت : إنّ أمير المؤمنين لم يدر ما يقول ، حتى سأل غيره.

قال ففجأني عمر ، وعلاني بالدرّة ، وقال : أتقتل في الحرم وتسفّه الحكم؟ قال تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فأنا عمر ، وهذا عبد الرحمن بن عوف (٣). واحتجّ أبو حنيفة في إيجاب القيمة بأنّ التّقويم هو المحتاج إلى النّظر والاجتهاد ، وأما الخلقة والصّورة فظاهرة لا يحتاج فيها إلى الاجتهاد.

وأجيب : بأن المشابهة بين الصّيد وبين النّعم مختلفة وكثيرة ، فلا بد من الاجتهاد في تمييز الأقوى عن الأضعف.

فصل

الذي له مثل ضربان : فما حكمت فيه الصّحابة بحكم ، لا يعدل إلى غيره ؛ لأنّهم شاهدوا التّنزيل وحضروا التّأويل ، وما لم يحكم فيه الصحابة ، يرجع إلى اجتهاد عدلين.

وقال مالك : يجب التّحكيم فيما حكمت به الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، وفيما لم تحكم فيه.

فصل

يجوز أنّ القاتل أحد العدلين ، إن كان أخطأ فيه ، فإن تعمّد فلا يجوز ؛ لأنه يفسّق به.

وقال مالك : لا يجوز في تقويم المتلفات ، وأجيب : بأن الله تعالى أوجب أن يحكم به ذوا عدل ، وإذا صدر عنه القتل خطأ كان عدلا ، فإذا حكم هو وغيره ، فقد حكم به ذوا عدل.

وقد روي أنّ بعض الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ أوطأ فرسه ظبيا ، فسأل عمر عنه ، فقال عمر : احكم ، فقال : أنت أعدل يا أمير المؤمنين ، فاحكم ، فقال عمر ـ رضي الله

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٧٧.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٨١) عن ميمون بن مهران وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ٤٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٨١) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٢٢

عنه ـ إنّما أمرتك أن تحكم ، وما أمرتك أن تزكّيني ، فقال : أرى فيه جديا جمع الماء والشّجر ، فقال : افعل ما ترى (١).

فصل

لو حكم عدلان بمثل ، وحكم عدلان آخران بمثل آخر ففيه وجهان :

أحدهما : يتخيّر.

والثاني : يأخذ بالأغلظ.

فصل

استدلّ بهذه الآية بعض مثبتي القياس ، قالوا : لأنّه تعالى فرض تعيين المثل إلى اجتهاد النّاس وظنهم ، وهذا ضعيف ؛ لأن الشّارع تعبّدنا بالعمل بالظّنّ في صور كثيرة : منها الاجتهاد في القبلة ، والعمل بتقويم المقوّمين في قيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، والعمل بحكم الحاكمين في مثل جزاء الصّيد ، وعمل القاضي بالفتوى ، والعمل بمقتضى الظّنّ في مصالح الدّنيا ، إلّا أنّا نقول : إذا دعيتم إلى تشبيه صورة بصورة شرعيّة في الحكم الشّرعيّ ، وهو عين هذه المسائل الّتي عددناها ، فذلك باطل في بديهة العقل ، فإذا سلّمتم المغايرة ، ولم يلزم من كون الظّنّ حجّة في تلك الصّور ؛ كونه حجّة في مسألة القياس ، إلّا إذا قسنا هذه المسألة على تلك المسائل ، وذلك يقتضي إثبات القياس بالقياس ، وهو باطل ، وأيضا فالفرق ظاهر بين البابين ؛ لأنّ في جميع الصّور المذكورة الحكم إنّما ثبت في حقّ شخص واحد ، في زمان واحد ، في واقعة واحدة.

وأمّا الحكم الثّابت بالقياس ، فإنه شرع عامّ في جميع المكلّفين ، باق على وجه الدّهر ، والتّنصيص على أحكام الأشخاص الجزئيّة متعذر.

أمّا التّنصيص على الأحكام الكلّيّة العامّة ، الباقية إلى آخر الدّهر غير متعذّر ، فظهر الفرق.

قوله : «هديا» فيه ستة أوجه :

أظهرها : أنه حال من الضمير في «به» قال الزجاج (٢) : «هو منصوب على الحال ، المعنى : يحكم به مقدّرا أن يهدى» يعني أنه حال مقدّرة ، لا مقارنة ، وكذا قال الفارسيّ كقولك: «معه صقر صائدا به غدا» ، أي مقدّرا الصّيد.

الثاني : أنه حال من «جزاء» ، سواء قرىء مرفوعا أم منصوبا ، منونا أم مضافا ، وقال الزمخشريّ (٣) : «هديا» حال من «جزاء» فيمن وصفه ب «مثل» ؛ لأنّ الصفة خصّصته ، فقرب من المعرفة ، وكذا خصّصه أبو حيان (٤) ، وهذا غير واضح ، بل الحالية جائزة مطلقا ؛ كما تقدّم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٢٩.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٩.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٣.

٥٢٣

الثالث : أنه منصوب على المصدر ، أي : يهديه هديا ، ذكره مكي (١) وأبو البقاء (٢).

الرابع : أنه منصوب على التّمييز ، قاله أبو البقاء (٣) ومكيّ (٤) ، إلا أنّ مكّيا ، قال : «على البيان» ، وهو التمييز في المعنى ، وكأنهما ظنّا أنه تمييز لما أبهم في المثلية ؛ إذ ليس هنا شيء يصلح للتمييز غيرها ، وفيه نظر ؛ من حيث إنّ التمييز إنما يرفع الإبهام عن الذّوات ، لا عن الصفات ، وهذا كما رأيت إنما رفع إبهاما عن صفة ؛ لأنّ الهدي صفة في المعنى ؛ إذ المراد به مهدى.

الخامس : أنه منصوب على محلّ «مثل» فيمن خفضه ؛ لأنّ محلّه النصب بعمل المصدر فيه تقديرا ؛ كما تقدّم تحريره.

السادس : أنه بدل من «جزاء» فيمن نصبه. و (بالِغَ الْكَعْبَةِ) صفة ل «هديا» ، ولم يتعرّف بالإضافة ؛ لأنه عامل في الكعبة النصب تقديرا ، ومثله : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] وقول الآخر : [البسيط]

٢٠٥٢ ـ يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم

لاقى مباعدة منكم وحرمانا (٥)

في أنّ الإضافة فيها غير محضة ، وقرأ (٦) الأعرج : «هديّا» بكسر الدال وتشديد الياء.

فصل

المعنى : يحكمان به هديا يساق إلى الكعبة ، فينحر هناك ، وهذا يؤيّد قول من أوجب المثل من طريق الخلقة ؛ لأنه تعالى لم يقل : يحكمان به شيئا يشترى به هدي ، وإنّما قال : يحكمان به هديا ، وهذا صريح في أنّهما يحكمان بالهدي لا غير ، وأن يكون المعنى : يحكمان به شيئا يشترى به ما يكون هديا وهذا بعيد عن الظّاهر.

وسمّيت الكعبة كعبة لارتفاعها ، والعرب تسمّي كل بيت مرتفع كعبة ، والكعبة هنا إنّما أريد بها كلّ الحرم ؛ لأنّ الذبح والنّحر لا يفعلان في الكعبة ، ولا عندها ملاصقا لها ، ونظيره قوله تعالى: (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣] ، والمراد ببلوغه للكعبة : أن يذبح بالحرم ، ويتصدّق باللّحم على مساكين الحرم.

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٥.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٧.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٥.

(٥) البيت لجرير ينظر : ديوانه ١٦٣ ، الكتاب ١ / ٤٢٧ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ٥٤ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٧١٢ ، شرح التصريح ٢ / ٢٨ ، لسان العرب (عرض) ، المقاصد النحوية ٣ / ٣٦٤ ، المقتضب ٤ / ١٥٠ ، مغني اللبيب ١ / ٥١١ ، همع الهوامع ٢ / ٤٧ ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٤٥٧ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٩٠ المقتضب ٣ / ٢٢٧ ، ٤ / ٢٨٩ ، شرح الأشموني ٢ / ٣٠٥ ، وينظر : الدر المصون ٢ / ٦١٠.

(٦) ينظر : الشواذ ٤١ ، البحر ٤ / ٢٣.

٥٢٤

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : له أن يتصدّق به حيث شاء ، كما أنّ له أن يصوم حيث شاء ، وحجّة القول الأوّل : أنّ الذبح إيلام ، فلا يجوز أن يكون قربة ، بل القربة إيصال اللّحم إلى الفقراء.

قوله : «أو كفّارة» عطف على قوله : «فجزاء» و «أو» هنا للتخيير ، ونقل عن ابن عباس ؛ أنها ليست للتخيير ، بل للترتيب ، وهذا على قراءة من رفع «فجزاء» ، وأمّا من نصبه ، فقال الزمخشريّ (١) : جعلها خبر مبتدأ محذوف ؛ كأنه قيل : أو الواجب عليه كفّارة ، ويجوز أن تقدّر : فعليه أن يجزي جزاء ، أو كفارة ، فتعطف «كفّارة» عل ى «أن يجزي» ، يعني أنّ «عليه» يكون خبرا مقدّما ، و «أن يجزي» مبتدأ مؤخّرا ، فعطفت «الكفّارة» على هذا المبتدأ ، وقرأ (٢) نافع وابن عامر بإضافة «كفّارة» لما بعدها ، والباقون بتنوينها ، ورفع ما بعدها.

فأمّا قراءة الجماعة ، فواضحة ، ورفع «طعام» على أحد ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل من «كفّارة» ؛ إذ هي من جنسه.

الثاني : أنه بيان لها ؛ كما تقدّم ، قاله الفارسيّ. وردّه أبو حيان (٣) ؛ بأنّ مذهب البصريّين اختصاص عطف البيان بالمعارف دون النكرات ، قال شهاب الدين (٤) : أبو عليّ يخالف في ذلك ، ويستدلّ بأدلّة ، منها قوله تعالى : (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) [النور : ٣٥] ، ف «زيتونة» عنده عطف بيان ل «شجرة» ، وكذا قوله تعالى : (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) [إبراهيم : ١٦] ، ف «صديد» عنده بدل من «ماء» ، والبدل فيهما محتمل ؛ فلا حجّة له ، والبدل قد يجيء للبيان.

الثالث : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي طعام ، أي : تلك الكفارة.

وأمّا قراءة نافع وابن عامر ، فوجهها : أنّ الكفارة ، لمّا تنوّعت إلى تكفير الطعام ، وتكفير بالجزاء المماثل ، وتكفير بالصيام ، حسن إضافتها لأحد أنواعها تبيينا لذلك ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة ؛ كقوله : [الطويل]

٢٠٥٣ ـ إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة

سهيل أذاعت غزلها في القرائب (٥)

أضاف الكوكب إليها ؛ لقيامها عند طلوعه ؛ فهذا أولى ، ووجّهها الزمخشريّ (٦) فقال : «وهذه الإضافة مبيّنة ، كأنه قيل : أو كفارة من طعام مساكين ؛ كقولك : «خاتم

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٩.

(٢) ينظر : السبعة ٢٤٩ ، والحجة ٣ / ٢٥٧ ، وحجة القراءات ٢٣٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٩ ، والعنوان ٨٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٥ ، ٢٣٦ ، وشرح شعلة ٣٥٤ ، وإتحاف ١ / ٥٤٢.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦١٠.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٩.

٥٢٥

فضّة» بمعنى من فضّة» ، قال أبو حيان (١) : «أمّا ما زعمه ، فليس من هذا الباب ؛ لأنّ «خاتم فضّة» من باب إضافة الشيء إلى جنسه ، والطعام ليس جنسا للكفارة ، إلا بتجّوز بعيد جدّا». انتهى ، قال شهاب الدين (٢) : كان من حقّه أن يقول : والكفّارة ليست جنسا للطّعام ؛ لأنّ الكفارة في التركيب نظير «خاتم» في أنّ كلّا منهما هو المضاف إلى ما بعده ، فكما أن «خاتما» هو المضاف إلى جنسه ينبغي أن يقال : الكفّارة ليست جنسا للطعام ؛ لأجل المقابلة ، لكن لا يمكن أن يقال ذلك ، فإنّ الكفارة كما تقدّم جنس للطعام ، والجزاء ، والصّوم ، فالطريق في الردّ على الزمخشريّ أن يقال : شرط الإضافة بمعنى «من» : أن يضاف جزء إلى كلّ بشرط صدق اسم الكلّ على الجزء ؛ نحو : «خاتم فضّة» ، و (كَفَّارَةٌ طَعامُ) ليس كذلك ، بل هي إضافة «كلّ» إلى جزء ، وقد استشكل جماعة هذه القراءة ؛ من حيث إنّ الكفارة ليست للطعام ، إنما هي لقتل الصيد ، كذا قاله أبو عليّ الفارسيّ وغيره ، وجوابه ما تقدّم. ولم يختلف السبعة في جمع «مساكين» هنا ، وإن اختلفوا في البقرة ، قالوا : والفرق بينهما أنّ قتل الصّيد لا يجزىء فيه إطعام مسكين واحد ، على أنه قد قرأ عيسى بن عمر والأعرج بتنوين «كفّارة» ، ورفع «طعام مسكين» بالتوحيد ، قالوا : ومرادهما بيان الجنس ، لا التوحيد.

قوله : «أو عدل» نسق على «فجزاء» ، والجمهور على فتح العين ، وقرأ (٣) ابن عباس وطلحة بن مصرّف والجحدري بكسرها.

قال الفرّاء (٤) : «العدل» بالكسر : ما عادل الشّيء من جنسه ، والعدل : المثل ، تقول : عندي عدل غلامك أو شاتك إذا كان غلام بعدل غلامه ، أو شاة تعدل شاته ، أمّا إذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين ، فقلت : عدل.

وقال أبو الهيثم (٥) : العدل : المثل ، والعدل : القيمة ، والعدل : اسم معدول بحمل آخر مسوى به ، والعدل : تقويمك الشّيء بالشيء من غير جنسه.

وقال الزّجّاج ، وابن الأعرابيّ (٦) : العدل والعدل سواء ، وقد تقدّم الكلام عليه في البقرة ، عند قوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [الآية : ٤٨].

قوله : «صياما» نصب على التميز كقولك : «عندي رطلان عسلا» لأنّ المعنى : أو قدر ذلك صياما ، والأصل فيه إدخال حرفين تقول : رطلان من العسل ، وعدل ذلك من الصّيام. [وأصل «صياما» : «صواما» فأعلّ كما تقدّم مرارا].

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦١٠.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٤ ، والدر المصون ٢ / ٦١١.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٨٠.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

٥٢٦

فصل

معنى الآية : أنّه في جزاء الصّيد مخيّر بين أن يذبح المثل من النّعم ، فيتصدّق باللّحم على مساكين الحرم ، وبين أن يقوّم المثل بدراهم ويشتري بالدّراهم طعاما ، فيتصدّق بالطّعام على مساكين الحرم ، لكلّ مسكين مدّ من طعام ، أو يصوم عن كلّ مدّ يوما ، وله أن يصوم حيث شاء ؛ لأنّه لا نفع فيه للمساكين.

وقال مالك : إن لم يخرج المثل يقوّم الصّيد ، ثمّ تجعل القيمة طعاما ، فيتصدّق به أو يصوم.

وقال أبو حنيفة : لا يجب المثل من النّعم ، بل يقوّم الصّيد ، فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النّعم ، وإن شاء إلى الطّعام فيتصدّق به ، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع من برّ أو صاع من غيره يوما.

وقال الشّعبي ، والنّخعي : جزاء الصّيد على التّرتيب ، والجمهور على التّخيير ، وأنّ قاتل الصّيد مخيّر في تعيين أحد هذه الثلاثة ، وقال محمّد بن الحسن : التّخيير إلى الحكمين ، لقوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً) أي : كذا ، أو كذا.

وجوابه : أن الله أوجب على قاتل الصّيد أحد هذه الثلاثة على التّخيير ، فوجب أن يكون قاتل الصّيد مخيّرا بين أيّها شاء ، وأمّا الذي يحكم به ذوا العدل ، فهو تعيين المثل الخلقة أو القيمة.

قوله : «ليذوق» فيه ستة أوجه :

أحدها : أنه متعلق ب «جزاء» قاله الزمخشريّ (١) ، وقال أبو حيان (٢) : إنما يتأتّى ذلك حيث يضاف إلى «مثل» ، أو ينوّن «جزاء» ، وينصب «مثل» ، وعلّل ذلك بأنه إذا رفع مثلا ، كان صفة للمصدر ، وإذا وصف المصدر ، لم يعمل إلا أن يتقدّم المعمول على وصفه ؛ نحو : «يعجبني الضّرب زيدا الشّديد» ، فيجوز. قال شهاب الدين (٣) : وكذا لو جعله بدلا أيضا أو خبرا ؛ لما تقدّم من أنه يلزم أن يتبع الموصول أو يخبر عنه قبل تمام صلته ، وهو ممنوع ، وقد أفهم كلام الشيخ بصريحه ؛ أنه على قراءة إضافة الجزاء إلى «مثل» يجوز ما قاله الزمخشري ، وأنا أقول : لا يجوز ذلك أيضا ؛ لأنّ «ليذوق» من تمام صلة المصدر ، وقد عطف عليه قول ه «أو كفارة أوعدل» ؛ فيلزم أن يعطف على الموصول قبل تمام صلته ؛ وذلك لا يجوز لو قلت : «جاء الذي ضرب وعمرو زيدا» لم يجز للفصل بين الصّلة ـ أو أبعاضها ـ والموصول بأجنبيّ ، فتأمّله.

الثاني : أنه متعلّق بفعل محذوف يدلّ عليه قوّة الكلام ؛ كأنه قيل : جوزي بذلك ليذوق.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦١١.

٥٢٧

الثالث : أنه متعلّق بالاستقرار المقدّر قبل قوله : «فجزاء» ؛ إذ التقدير : فعليه جزاء ليذوق.

الرابع : أنه متعلّق ب «صيام» ، أي : صومه ليذوق.

الخامس : أنه متعلّق ب «طعام» ، أي : طعام ليذوق ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء (١) ، وهي ضعيفة جدّا ، وأجودها الأول.

السادس : أنها تتعلّق ب «عدل ذلك» ، نقله أبو حيان (٢) عن بعض المعربين ، قال : «غلط».

والوبال : سوء العاقبة وما يخاف ضرره ، قال الراغب (٣) : والوابل : المطر الثقيل القطر ، ولمراعاة الثّقل ، قيل للأمر الذي يخاف ضرره : وبال ، قال تعالى : ف (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) [الحشر : ١٥] ، ويقال : «طعام وبيل» ، و «كلأ وبيل» يخاف وباله ؛ قال تعالى : (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل : ١٦] ، وقال غيره : «والوبال في اللغة ؛ ثقل الشيء في المكروه ، يقال : «مرعى وبيل» ، إذا كان يستوخم ، و «ماء وبيل» إذا كان لا يستمرأ ، واستوبلت الأرض : كرهتها خوفا من وبالها». والذّوق هنا استعارة بليغة.

وإنّما سمّى الله تعالى ذلك وبالا ؛ لأنّه خيّره بين ثلاثة أشياء ، اثنان منها توجب تنقيص المال ، وهو ثقيل على الطّبع (٤) ، وهما الجزاء بالمثل والإطعام ، والثّالث يوجب إيلام البدن وهو الصّوم ، وذلك أيضا يثقل على الطّبع ، وذلك حتّى يحترز عن قتل الصّيد في الحرم ، وفي حال الإحرام.

قوله : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) يعني : قبل التّحريم ، ونزول الآية وقال السدّيّ : عما سلف في الجاهليّة (٥).

وقيل : هذا إبدال على قول من لا يوجب الجزاء ، إلّا في المرّة الأولى ، أمّا في المرّة الثّانية : فإنه لا يوجب الجزاء عليه ، ويقول : إنّه أعظم من أن يكفّره التّصدّق بالجزاء ، فعلى هذا المراد عفا الله عما سلف في المرّة الأولى بسبب أداء الجزاء ، ومن عاد إليه مرّة ثانية ، فلا كفّارة لجرمه ، بل الله ينتقم منه ، وحجّة هذا القول : أنّ «الفاء» في قوله «فينتقم الله منه» فاء الجزاء ، والجزاء هو الكافي ، فهذا يقتضي أنّ هذا الانتقام كما في هذا الذّنب ، وكونه كافيا (٦) يمنع من وجوب شيء آخر ، فلا يجب عليه الجزاء.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥.

(٣) ينظر : المفردات ٥٤٧.

(٤) في أ : الطمع.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٨٤) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ من طريق نعيم بن قعنب عن أبي ذر.

(٦) في أ : فأنما.

٥٢٨

قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) «من» يجوز أن تكون شرطية ، فالفاء جوابها ، و «ينتقم» خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فهو ينتقم ، ولا يجوز الجزم مع الفاء ألبتة ، قال : سيبويه : «الفاء» في قوله : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ، وفي قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) [البقرة : ١٢٦] ، و (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) [الجن : ١٣] إنّ في هذه الآيات إضمارا مقدّرا ، والتّقدير : ومن عاد فهو ينتقم الله منه ومن كفر فأنا أمتّعه ، ومن يؤمن بربه فهو لا يخاف ، وبالجملة فلا بد من إضمار مبتدأ يكون ذلك الفعل خبرا عنه ؛ لأنّ الفعل يصير بنفسه جزاء ، فلا حاجة إلى إدخال حرف الجزاء عليه ، فيصير إدخال حرف «الفاء» على الفعل لغوا ، أما إذا أضمرنا المبتدأ ، احتجنا إلى إدخال «الفاء» عليه ؛ ليرتبط بالشّرط فلا تصير «الفاء» لغوا.

ويجوز أن تكون «من» موصولة ، ودخلت الفاء في خبر المبتدأ ، لمّا أشبه الشرط ، فالفاء زائدة ، والجملة بعدها خبر ، ولا حاجة إلى إضمار مبتدأ بعد الفاء ؛ بخلاف ما تقدّم. قال أبو البقاء (١) : «حسّن دخول الفاء كون فعل الشرط ماضيا لفظا».

فصل

معنى الآية : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) : في الآخرة (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ).

واعلم : أنّه إذا تكرّر من المحرم قتل الصّيد ، فيتكرر (٢) عليه الجزاء عند عامّة أهل العلم.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : إذا قتل المحرم صيدا متعمّدا ، يسأل هل قتلت قبلها شيئا من الصّيد؟ فإن قال : نعم ، لم يحكم عليه ، ويقال : اذهب فينتقم الله منك (٣).

وإن قال : لم أقتل قبله شيئا حكم عليه [فإن عاد بعد ذلك ، لم يحكم عليه](٤) ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وجيعا ، وكذلك حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صيد «وجّ» ـ وهو واد بالطّائف ـ ، واختلفوا في المحرم ، هل يجوز له أكل لحم الصّيد؟

فذهب قوم إلى أنّه لا يحلّ له بحال ، يروى ذلك عن ابن عبّاس ، وهو قول طاوس ، وبه قال سفيان الثّوري ، لما روى عبد الله بن عبّاس عن الصّعب بن جثامة اللّيثيّ : أنّه أهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمارا وحشيّا ، وهو في الأبواء أو بودان ، فردّه رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما في وجهي ، قال : «إنّا لم نردّه عليك إلّا أنّا حرم» (٥)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٧.

(٢) في أ : فينفرد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٦٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٨٤) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه مالك في الموطأ ١ / ٣٥٣ ، كتاب الحج ، باب ما لا يحل للمحرم أكله من الصيد (٨٣) ، والبخاري ٥ / ٢٦٠ ، كتاب الهبة : باب من لم يقبل الهدية لعلة (٢٥٩٦) ومسلم ٢ / ٨٥٠ ، كتاب الحج : باب تحريم الصيد للمحرم (٥٠ ـ ١١٩٣).

٥٢٩

وذهب الأكثرون إلى أنّه يجوز للمحرم أكله ، إذا لم يصطد بنفسه ، ولا صيد لأجله أو بإشارته ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وأبي هريرة ، وبه قال عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وهو مذهب مالك ، والشّافعيّ ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرّأي ، وإنّما ردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصّعب بن جثامة ؛ لأنّه ظنّ أنّه صيد من أجله.

ويدلّ على الجواز ، ما روى نافع ـ مولى أبي قتادة بن ربعيّ الأنصاري : أنّه كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتّى إذا كان ببعض طريق مكّة ، تخلّف مع أصحاب له محرمين ـ وهو غير محرم ـ ، فرأى حمارا وحشيا ، فاستوى على فرسه ، فسأل أصحابه أن يناولوه سوطا فأبوا ، فسألهم رمحه فأبوا ، فأخذه ، ثمّ شدّ على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبى بعضهم ، فلمّا أدركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه عن ذلك فقال : إنّما هي طعمة أطعمكموها الله (١) وروى جابر بن عبد الله : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لحم الصّيد لكم في الإحرام حلال ، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم (٢).

فصل

وإذا أتلف المحرم شيئا من الصّيد لا مثل له من النّعم ، مثل بيض أو طائر دون

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ ١ / ٣٥٠ ، كتاب الحج : باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد (٧٦) والبخاري ٦ / ١١٥ ، كتاب الجهاد والسير : باب ما قيل في الرماح (٢٩١٤) ، وكتاب الذبائح والصيد : باب ما جاء في التصيد (٥٤٩٠) ، ومسلم ٢ / ٨٥٢ ، كتاب الحج : باب تحريم الصيد للمحرم (٥٧ ـ ١١٠٦).

(٢) أخرجه أبو داود ٢ / ١٧١ ، كتاب المناسك : باب لحم الصيد للمحرم (١٨٥١) ، والترمذي ٣ / ٢٠٤ كتاب الحج : باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم (٨٤٦) والنسائي ٥ / ١٨٦ ، ١٨٧ كتاب الحج : باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله (٢٨٢٧) ، والحاكم ١ / ٤٥٢ ، كتاب المناسك : باب حلّيّة لحم الصيد للمحرم ما لم يصده أو يصاد له ، وابن حبان موارد ص ٢٤٣ ، كتاب الحج. باب ما جاء في الصيد للمحرم وجزائه (٩٨٠).

قال الحافظ في التلخيص : وعمرو مختلف فيه وإن كان من رجال الصحيحين ، ومولاه قال الترمذي : لا يعرف له سماع عن جابر ، وقال في موضع آخر : قال محمد : لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلّا قوله : حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول : لا نعرف له سماعا من أحد من الصحابة ، وقد رواه الشافعي عن الدراوردي عن عمرو عن رجل من الأنصار عن جابر ، قال الشافعي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى أحفظ من الدراوردي ومعه سليمان بن بلال يعني : أنهما قالا فيه : عن المطلب قال الشافعي : وهذا الحديث أحسن شيء في هذا الباب ، قلت : ورواه الطبراني في الكبير من رواية يوسف بن خالد السمتي عن عمرو عن المطلب عن أبي موسى ويوسف متروك ، ووافقه إبراهيم بن سويد عن عمرو وعنه الطحاوي وقد خالفه إبراهيم بن أبي يحيى وسليمان بن بلال والدراوردي ، ويحيى بن عبد الله بن سالم ويعقوب بن عبد الرحمن ومالك قيل وآخرون وهم أحفظ منه وأوثق ، ورواه الخطيب في الرواة عن مالك من رواية عثمان بن عفان بن خالد المخزومي عن مالك عن نافع عن ابن عمر وعثمان ضعيف جدا ، وقال الخطيب : تفرد به عن مالك ، وهو في كامل ابن عدي وضعفه بعثمان.

٥٣٠

الحمام ، ففيه قيمته يصرفها إلى الطّعام ، فيتصدّق به ، أو يصوم عن كلّ مدّ يوما ، واختلفوا في الجراد : فرخّص فيه بعضهم ، وقال : هو صيد البحر ، والأكثرون على تحريمه ، وإن أصابها فعليه صدقة ، قال عمر : في الجرادة تمرة.

وروي عنه ، وعن ابن عبّاس : قبضة من طعام.

قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٩٦)

والمراد بالبحر : جميع المياه ، قال عمر : صيده ما اصطيد (١) ، وجميع ما يصطاد من البحر ثلاثة أجناس : الحيتان وجميع أنواعها حلال ، والضّفادع وجميع أنواعها حرام ، واختلفوا فيما سوى هذين.

فقال أبو حنيفة : إنّه حرام ، وقال الأكثرون : إنّه حلال لعموم هذه الآية.

قوله : «وطعامه» : نسق على «صيد» ، أي : أحلّ لكم الصيد وطعامه ، فالصّيد الاصطياد ، والطّعام بمعنى الإطعام ، أي : إنه اسم مصدر ، ويقدّر المفعول حينئذ محذوفا ، أي : إطعامكم إياه أنفسكم ، ويجوز أن يكون الصّيد بمعنى المصيد ، والهاء في «طعامه» تعود على البحر على هذا أي : أحلّ لكم مصيد البحر وطعام البحر ؛ فالطعام على هذا غير الصّيد وعلى هذا ففيه وجوه :

أحسنها ما ذكره أبو بكر الصّدّيق ، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ : أنّ الصّيد ما صيد بالحيلة حال حياته ـ والطّعام ما رمى به البحر ، أو نضب عنه الماء من غير معالجة (٢).

وقال سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيّب ، ومقاتل ، والنّخعي ، وعكرمة ، وقتادة : صيد البحر هو الطّريّ ، وطعامه هو المملّح منه (٣) ، وهو ضعيف ؛ لأنّ المملّح كان طريّا وصيدا في أوّل الأمر فيلزم التكرار.

وأيضا : فإنّ الاصطياد قد يكون للأكل ، وقد يكون لغيره كاصطياد الصّدف لأجل اللّؤلؤ ، واصطياد بعض الحيوانات البحريّة لأجل عظامها وأسنانها ، فحصل التّغاير بين الاصطياد من البحر ، وبين الأكل من طعام البحر.

روي عن ابن عبّاس ـ وابن عمر ، وأبي هريرة : طعامه ما قذفه الماء إلى السّاحل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٦٤).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٨٥) وعزاه لأبي الشيخ من طريق قتادة عن أنس عن أبي بكر الصديق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٦٤ ـ ٦٥) من حديث ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي وسعيد بن المسيب.

وذكره السيوطي عن سعيد (٢ / ٥٨٦) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

٥٣١

ميتا (١) ، ويجوز أن تعود الهاء على هذا الوجه أيضا على الصيد بمعنى المصيد ، ويجوز أن يكون «طعام» بمعنى مطعوم ، ويدلّ على ذلك قراءة (٢) ابن عبّاس وعبد الله بن الحارث : «وطعمه» بضم الميم وسكون العين.

قوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ) في نصبه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المصدر ، وإليه ذهب مكي (٣) وابن عطيّة (٤) وأبو البقاء (٥) وغيرهم ، والتقدير : متّعكم به متاعا تنتفعون وتأتدمون به ، وقال مكيّ : لأنّ قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ) بمعنى أمتعتكم به إمتاعا ؛ كقوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤].

والثاني : أنه مفعول من أجله ، قال الزمخشريّ (٦) : «أي : أحلّ لكم تمتيعا لكم ، وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢] في باب الحال ؛ لأنّ قوله (مَتاعاً لَكُمْ) مفعول له مختصّ بالطعام ؛ كما أنّ «نافلة» حال مختصّ بيعقوب ، يعني أحلّ لكم طعامه تمتيعا لتنائكم تأكلونه طريّا ولسيّارتكم يتزوّدونه قديدا». انتهى ، فقد خصّص الزمخشريّ كونه مفعولا له بكون الفعل ، وهو «أحلّ» مسندا لقوله : «طعامه» ، وليس علّة لحلّ الصيد ، وإنما هو علّة لحلّ الطعام فقط ، وإنما حمله على ذلك مذهبه ـ وهو مذهب أبي حنيفة ـ ؛ من أنّ صيد البحر منقسم إلى ما يؤكل ، وإلى ما لا يؤكل ، وأن طعامه هو المأكول منه ، وأنه لا يقع التمثيل إلا بالمأكول منه طريّا وقديدا ، وقوله «نافلة» ، يعني أنّ هذه الحال مختصة بيعقوب ؛ لأنه ولد ولد ؛ بخلاف إسحاق ، فإنه ولده لصلبه ، والنافلة إنما تطلق على ولد الولد ، دون الولد ، فكذا «متاعا» ، إلّا أنّ هذا يؤدّي إلى أنّ الفعل الواحد يسند لفاعلين متعاطفين [يكون] في إسناده إلى أحدهما معلّلا وإلى الآخر ليس كذلك ، فإذا قلت : «قام زيد وعمرو إجلالا لك» ، فيجوز أن يكون «قيام زيد» هو المختصّ بالإجلال ، أو بالعكس ، وهذا فيه إلباس ، وأمّا ما أورده من الحال في الآية الكريمة ، فثمّ قرينة أوجبت صرف الحال إلى أحدهما ، دون ما نحن فيه من الآية الكريمة ، وأمّا غير مذهبه ؛ فإنه يكون مفعولا له غير مختص بأحد المتعاطفين وهو ظاهر جليّ ، و «لكم» إن قلنا : «متاعا» مصدر ، فيجوز أن يكون صفة له ، ويكون مصدرا مبيّنا لكونه وصف ، وإن قلنا : إنه مفعول له ، فيتعلّق بفعل محذوف ، أي : أعني لكم ؛ نحو : «قمت إجلالا لك» ، ويجوز أن تكون اللام مقوية لتعدية المصدر ؛ إذ التقدير : لأن أمتّعكم ، ولأن أجلّك ، وهكذا ما جاء من نظائره.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٥ / ٦٦ ـ ٦٧) عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٨٦) عن أبي هريرة وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ والبيهقي في سننه.

(٢) ينظر : الشواذ ٤١ ، البحر ٤ / ٢٦.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٦.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤١.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٧.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٠.

٥٣٢

فصل

معنى (مَتاعاً لَكُمْ) أي : منفعة لكم ، وللسّيّارة يعني : المارّة ، وجملة حيوانات الماء على قسمين : سمك ، وغيره ، أمّا السّمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها ، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أحلّت لنا ميتتان السّمك والجراد» (١) ، ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب.

وعند أبي حنيفة : لا يحلّ إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر ، أو انحسار الماء عنه ، ونحو ذلك.

وأمّا غير السّمك فقسمان :

قسم يعيش في البرّ ، كالضفدع والسّرطان ، فلا يحل أكله.

وقال مالك ، وأبو مجلز (٢) ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم : كلّ (٣) ما يعيش في البرّ ، وله فيه حياة ، فهو صيد البرّ إن قتله المحرم وداه (٤) ، وزاد أبو مجلز (٥) في ذلك الضفدع ، والسّلاحف ، والسّرطان.

وقسم يعيش في الماء ، ولا يعيش في البرّ إلّا عيش المذبوح ، فاختلف فيه ، فقيل : لا يحلّ شيء منه إلّا السّمك ، وهو قول أبي حنيفة.

وقيل : إنّ ميت الماء كلّها حلال ، لأنّ كلّها سمك ، وإن اختلفت صورتها كالجريث ، يقال: إنّه حيّة الماء ، وهو على شكل الحيّة ، وأكله مباح بالاتّفاق ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وابن عبّاس ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريرة ، وبه قال شريح ، والحسن وعطاء ، وهو قول مالك ، وظاهر مذهب الشّافعي.

وذهب قوم إلى أنّ ما له نظير في البرّ يؤكل ، فميتته من حيوانات البحر حلال ، مثل بقر الماء ونحوه ، وما لا يؤكل نظيره في البرّ لا تحلّ ميتته من حيوانات البحر ، مثل كلب الماء والخنزير والحمار ونحوها.

وقال الأوزاعيّ : كلّ شيء عيشه في الماء فهو حلال قيل : والتّمساح؟ قال : نعم.

وقال الشّعبي : لو أنّ أهلي أكلوا الضّفادع لأطعمتهم.

وقال سفيان الثّوري : أرجو ألّا يكون بالسّرطان بأس ، وظاهر الآية حجّة لمن أباح جميع حيوانات البحر ، وكذلك الحديث ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو الطّهور ماؤه والحلّ ميتته» (٦).

__________________

(١) تقدم.

(٢) في أ : مجلف.

(٣) في أ : قلما.

(٤) في أ : أو أذاه.

(٥) في أ : مجلف.

(٦) تقدم.

٥٣٣

وقوله : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ذكر تعالى تحريم الصّيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السّورة ، وهي قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١] إلى قوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] ، وقوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥] ، وقوله : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ، واتّفق المسلمون على تحريم الصّيد على المحرم ، وهو الحيوان الوحشيّ الذي يحلّ أكله ، فأمّا ما لا يحلّ أكله ، فلا يحرم بالإحرام ، ويحرم أخذه وقتله ، ولا جزاء على من قتله ، لقوله ـ عليه الصّلاة والسلام ـ : «خمس من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور» (١).

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «يقتل المحرم السّبع العادي» (٢).

وقال سفيان بن عيينة (٣) : الكلب العقور : كلّ سبع يعقر ومثله عن مالك ، وذهب أصحاب الرّأي إلى وجوب الجزاء في قتل ما لا يؤكل لحمه ، كالفهد ، والنمر ، والخنزير ، ونحوها إلّا الأعيان المذكورة في الخبر ، وقاسوا (٤) عليها : الذّئب ، ولم يوجبوا فيه الكفّارة.

فأمّا المتولّد من المأكول وغيره ، فيحرم أكله ، ويجبّ فيه الجزاء ؛ لأنّ فيه جزاء من الصّيد ، واختلفوا في الصّيد الذي يصيده الحلال هل يحرّم على المحرم؟

فقال عليّ ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وطاوس : إنّه حرام على المحرم بكلّ حال ، وهو قول الثّوري وإسحاق ، لظاهر الآية.

وروي : أنّ الحارث كان خليفة عثمان على الطّائف ، فصنع لعثمان طعاما وصنع فيه الحجل (٥) ، واليعاقيب (٦) ، ولحوم الوحوش ، فبعث إلى عليّ بن أبي طالب ، فجاءه الرّسول فقال عليّ : أطعمونا قوتا حلالا [فإنا حرم](٧) ، ثم قال علي : أنشد الله من كان هاهنا من أشجع ، أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى إليه رجل حمارا وحشيّا ، وهو محرم فأبى أن يأكله ، فقالوا : نعم(٨).

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : البغوي ٢ / ٦٧.

(٤) في أ : وقالوا.

(٥) طائر في حجم الحمام أحمر المنقار والرجلين طيب اللحم ينظر : المعجم الوسيط ١ / ١٥٨.

(٦) اليعقوب ذكر الحجل. قال الجواليقيّ : وهو عربيّ صحيح ، وأمّا «يعقوب» اسم نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو أعجميّ ؛ كيوسف ، ويونس ، واليسع. وقال الجوهريّ : يعقوب ، اسم رجل لا ينصرف في المعرفة للعجمة ، والتعريف ، واليعقوب ذكر الحجل مصروف ؛ لأنه عربيّ لم يغيّر ، وإن كان مزيدا في أوّله فليس على وزن الفعل. ويوصف «اليعقوب» بكثرة العدو وشدّته.

والمراد باليعاقيب : ذكور القبج ، وقال بعضهم : إنه هنا العقاب والمشهور الأوّل ، واليعقوب والقبج والحجل راجع إلى نوع واحد.

ينظر : حياة الحيوان ٢ / ٤٨١. ٤٨٢.

(٧) سقط في أ.

(٨) تقدم

٥٣٤

وقال الشّافعيّ : لحم الصّيد حلال للمحرم بشرط ألّا يصطاده المحرم ، ولا يصطاد له ، كقوله ـ عليه‌السلام ـ : «صيد البرّ لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» (١).

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حلّ له ؛ لأنّ أبا قتادة اصطاد حمارا وحشيّا ، وهو حلال في أصحاب محرمين ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : فيكم أحد أمر أن يحمل عليها أو أشار إليها ، قالوا : لا. قال : فكلوا ما بقي من لحمها.

وفي رواية : «هل بقي معكم منه شيء؟» قالوا : نعم ، فناولته العضد فأكلها ، وهذا يدلّ على تخصيص القرآن بخبر الواحد.

قوله : (ما دُمْتُمْ حُرُماً) «ما» مصدرية ، و «دمتم» صلتها وهي مصدرية ظرفية أي: حرّم عليكم صيد البر مدة دوامكم محرمين. والجمهور على ضمّ دال «دمتم» من لغة من قال : دام يدوم. وقرأ يحيى (٢) : «دمتم» بكسرها من لغة من يقول : دام يدام كخاف يخاف ، وهما كاللغتين في مات يموت ويمات ، وقد تقدّم [الآية ٥٧ آل عمران]. والجمهور على «وحرّم» مبنيا للمفعول ، «صيد» رفعا على قيامه مقام الفاعل ، وقرىء (٣) : «وحرّم» مبنيا للفاعل ، «صيد» نصبا على المفعول به. والجمهور أيضا على «حرما» بضم الحاء والراء جمع «حرام» بمعنى محرم ك «قذال» و «قذل». وقرأ ابن عباس (٤) «حرما» بفتحهما ، أي : ذوي حرم أي إحرام ، وقيل : جعلهم بمنزلة المكان الممنوع منه ، والأحسن أن يكون من باب «رجل عدل» جعلهم نفس المصدر فإنّ «حرما» بمعنى إحرام ، وتقدم أن المصدر يقع للواحد فما فوق بلفظ واحد. والبرّ معروف ، قال الليث : «ويستعمل نكرة يقال : جلست برّا ، وخرجت برّا». قال الأزهري (٥) : «وهو من كلام المولدين» وفيه نظر لقول سلمان الفارسي : «إنّ لكلّ امرىء جوّانيّا وبرّانيا» أي باطن وظاهر ، وهو من تغيير النسب ، وقد تقدم استيفاء هذه المادة في البقرة [الآية ٤٤] ثمّ قال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) والمقصود منه التّهديد ، ليكون المرء مواظبا على الطّاعة محترزا عن المعصية وقدّم «إليه» على «تحشرون» للاختصاص أي : تحشرون إليه لا إلى غيره ، أو لتناسب رؤوس الآي.

قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٧ ، والدر المصون ٢ / ٦١٣.

(٣) قرأ بها ابن عباس كما في البحر المحيط ٤ / ٢٧ ، والدر المصون ٢ / ٦١٣.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : تهذيب اللغة ١٥ / ١٨٤.

٥٣٥

وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٠٠)

لمّا حرّم الله تعالى الاصطياد على المحرمين ، وبيّن أنّ الإحرام سبب لأمن الوحش والطّير ، بيّن هاهنا أنّ ذلك التّحريم الذي حرّمه الإحرام ؛ إنّما سببه حرمة هذا البيت الحرام ، فكما أنّه سبب لأمن الوحش والطّير ، فكذلك هو سبب لأمن النّاس عن الآفات والمخافات.

قوله : (جَعَلَ اللهُ) : فيها وجهان :

أحدهما : أنها بمعنى «صيّر» فتتعدّى لاثنين ، أولهما «الكعبة» والثاني «قياما».

والثاني : أن تكون بمعنى «خلق» ، فتتعدّى لواحد ، وهو «الكعبة» ، و «قياما» نصب على الحال ، وقال بعضهم : إنّ «جعل» هنا بمعنى «بيّن» و «حكم» ، وهذا ينبغي أن يحمل على تفسير المعنى لا تفسير اللغة ؛ إذ لم ينقل أهل العربية ؛ أنها تكون بمعنى «بيّن» ولا «حكم» ، ولكن يلزم من الجعل البيان ، وأمّا «البيت» ، فانتصابه على أحد وجهين : إما البدل ، وإما عطف البيان ، وفائدة ذلك : أن بعض الجاهليّة ـ وهم خثعم ـ سمّوا بيتا الكعبة اليمانية ، فجيء بهذا البدل ، أو البيان ، تبيينا له من غيره ، وقال الزمخشريّ (١) : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح ، لا على جهة التوضيح ؛ كما تجيء الصفة كذلك» ، واعترض عليه أبو حيان بأن شرط البيان الجمود ، والجمود لا يشعر بمدح ، وإنما يشعر به المشتقّ ، ثم قال : «إلّا أن يريد أنه لمّا وصف البيت بالحرام اقتضى المجموع ذلك فيمكن».

والكعبة لغة : كلّ بيت مربّع ، وسمّيت الكعبة كعبة لذلك ، وأصل اشتقاق ذلك من الكعب الذي هو أحد أعضاء الآدميّ ، قال الراغب (٢) : «كعب الرجل» العظم الذي عند ملتقى الساق والقدم ، والكعبة كلّ بيت على هيئتها في التّربيع ، والعرب تسمّي كلّ بيت مربّع كعبة ؛ لانفرادها من البناء.

وقيل : سمّيت كعبة لارتفاعها من الأرض ، وأصلها من الخروج والارتفاع ، وسمّي الكعب كعبا لنتوئه ، وخروجه من جانبي القدم ، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثدياها تكعّبت والكعبة لمّا ارتفع ذكرها سمّيت بهذا الاسم ، ويقولون لمن عظم أمره «فلان علا كعبه» وذو الكعبات : بيت كان في الجاهلية لبني ربيعة ، وتقدّم الكلام في هذه المادة أول السورة [آية ٦].

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨١.

(٢) ينظر : المفردات ٤٥٠.

٥٣٦

فصل

قالوا : بنيت الكعبة الكريمة خمس مرّات :

الأولى : بناء الملائكة قبل آدم ـ عليه‌السلام ـ.

والثانية : بناء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

والثالثة : بناء قريش في الجاهليّة ، وحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا البناء.

والرابعة : بناء ابن الزّبير ـ رضي الله عنه ـ.

والخامسة : بناء الحجّاج وهو البناء الموجود اليوم ، وهكذا كانت في زمن الرّسول ـ عليه‌السلام ـ قال الماوردي في «الأحكام السّلطانيّة» : كانت الكعبة بعد إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مع «جرهم» والعمالقة إلى أن انقرضوا ، وخلفتهم فيها قريش بعد استيلائهم على الحرم لكثرتهم بعد القلّة ، وعزهم بعد الذّلّة ، فكان أوّل من جدّد بناء الكعبة بعد إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قصيّ بن كلاب ، وسقّفها بخشب الدوم وجريد النّخل ، ثمّ بنتها قريش بعده ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن خمس وعشرين سنة ، وشهد بناءها ، وكان بابها بالأرض ، فقال أبو حذيفة بن المغيرة : يا قوم ، ارفعوا باب الكعبة حتّى لا يدخل [أحد](١) إلّا بسلّم ، فإنّه لا يدخلها حينئذ الآن إلّا ما أردتم ، فإن جاء أحد ممن تكرهون ، رميتم به فسقط ، وصار نكالا لمن يراه ، ففعلت قريش ذلك ، وكان سبب بنائها أنّ الكعبة استهدمت وكانت فوق القامة ، فأرادوا تعليتها.

قوله : «قياما» [قراءة الجمهور بألف بعد الياء ، وابن عامر (٢) : «قيما» دون ألف بزنة «عنب» ، والقيام هنا يحتمل أن يكون مصدرا ل «قام ـ يقوم» ، والمعنى : أنّ الله جعل الكعبة سببا لقيام النّاس إليها ، أي : لزيارتها والحجّ إليها ، أو لأنّها يصلح عندها أمر دينهم ودنياهم ، فيها يقومون ، ويجوز أن يكون القيام بمعنى القوام ، فقلبت الواو ياء ؛ لانكسار ما قبلها ، كذا قال الواحديّ ، وفيه نظر ؛ إذ لا موجب لإعلاله ؛ إذ هو ك «السّواك» ، فينبغي أن يقال : إنّ القيام والقوام بمعنى واحد ؛ قال : [الرجز]

٢٠٥٤ ـ قوام دنيا وقوام دين (٣)

فأمّا إذا دخلها تاء التأنيث ، لزمت الياء ؛ نحو : «القيامة» ، وأمّا قراءة ابن عامر ، فاستشكلها بعضهم بأنه لا يخلو : إمّا أن يكون مصدرا على فعل ، وإما أن يكون على

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : السبعة ٢٤٨ ، والحجة ٣ / ٢٥٨ ، وحجة القراءات ٢٣٧ ، والعنوان ٨٨ ، وشرح شعلة ٣٥٤ ، وإتحاف ١ / ٥٤٣.

(٣) البيت لحميد الأرقط ينظر : مجاز القرآن ١ / ١٧٧ ، البحر ٤ / ٢٨ ، الطبري ٥ / ٧٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٣ ، الدر المصون ٢ / ٦١٤.

٥٣٧

فعال ، فإن كان الأوّل ، فينبغي أن تصحّ الواو ك «حول» و «عور» ، وإن كان الثاني ، فالقصر لا يأتي إلا في شعر ، وقرأ الجحدريّ (١) : «قيّما» بتشديد الياء ، وهو اسم دالّ على ثبوت الصفة ، وقد تقدّم تحقيقه أوّل النساء [الآية ٥]].

فصل في معنى الآية

معنى كونه قياما للنّاس أي : سبب لقوام مصالح النّاس في أمر دينهم ودنياهم أمّا الدّين ؛ فلأنّ به يقوم الحجّ والمناسك ، وأمّا الدّنيا : فبما يجبى إليه من الثّمرات ، وكانوا يأمنون فيه من النّهب والغارة ، فلا يتعرّض لهم أحد من الحرم ، فكأنّ أهل الحرم آمنين على أنفسهم وأموالهم ، حتّى لو لقي الرّجل قاتل أبيه وابنه لم يتعرّض له ، ولو جنى الرّجل أعظم الجنايات ثمّ التجأ إلى الحرم ، لم يتعرّض له ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧].

والمراد بقوله : (قِياماً لِلنَّاسِ) أي : لبعض النّاس وهم العرب ، وإنّما حسن هذا المجاز ؛ لأنّ أهل كلّ بلد إذا قالوا : النّاس فعلوا [وصنعوا](٢) كذا» ، فهم لا يريدون إلّا أهل بلدهم ، فلهذا السّبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم.

قوله : (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) عطف على «الكعبة» ، والمفعول الثاني أو الحال محذوف ، لفهم المعنى ، أي : جعل الله أيضا الشّهر والهدي والقلائد قياما.

واعلم : أنّه تعالى جعل هذه الأربعة أشياء أسبابا لقيام النّاس وقوامهم ، فأحدها : الكعبة كما تقدّم بيانه. وثانيها : الشّهر الحرام ، ومعنى كونه سببا لقيام النّاس : هو أنّ العرب كان يقتل بعضهم بعضا ، ويغير بعضهم على بعض في سائر الأشهر ، فإذا دخل الشّهر الحرام زال الخوف ، وسافروا للتّجارات ، وأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، وحصّلوا في الشّهر الحرام قوتهم طول السّنة ، فلو لا الشّهر الحرام لفنوا وهلكوا من الجوع والشّدّة ، فكان الشّهر الحرام سببا لقوام معيشتهم.

والمراد بالشّهر الحرام : الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة وذو الحجّة ورجب.

وثالثها : الهدي ، ومعنى كونه سببا لقيام النّاس : لأنّ الهدي ما يهدى إلى البيت ، ويذبح هناك ويفرّق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكا للمهدي ، وقواما لمعيشة الفقراء.

ورابعها : القلائد ، ومعنى كونها قواما للناس : أنّ من قصد البيت في الشّهر الحرام أو في غير الشّهر الحرام ، ومعه هدي قد قلّده ، وقلّد نفسه من لحاء شجر الحرم ، لم يتعرّض له أحد ، حتّى إنّ أحدا من العرب يلقى الهدي مقلّدا ، وهو يموت من الجوع فلا

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٩ ، والدر المصون ٢ / ٦١٤.

(٢) سقط في أ.

٥٣٨

يتعرّض له ألبتّة ، ولم يتعرّض لها صاحبها أيضا ، وكلّ ذلك إنّما كان ؛ لأنّ الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت الحرام.

فصل

قال القرطبي (١) : ذكر العلماء في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس ، أنّ الله تعالى خلق الخلق على سليقة الآدميّين ، من التّحاسد ، والتّنافر ، والتّقاطع ، والتدابر ، والسّلب ، والغارة ، والقتل ، والثّأر ، فلم يكن بدّ في الحكمة الإلهيّة أن يكون مع الحال وازع يحمد (٢) معه المآل ، فقال تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] فأمرهم الله تعالى بالخلافة ، وجعل أمورهم إلى واحد يمنعهم من التّناوش ، ويحملهم على التّآلف من التّقاطع ، وردّ المظالم عن المظلوم ، ويقرّر (٣) كلّ يد على ما تستولي عليه.

واعلم : أنّ جور السّلطان عام واحد أقلّ أذاه (٤) كون النّاس فوضى لحظة واحدة ، فأنشأ الله تعالى الخليقة لهذه الفائدة ، لتجري على رأيه (٥) الأمور ، ويكف الله تعالى به عادية الأمور فعظّم الله تعالى في قلوبهم البيت الحرام ، [وأوقع في قلوبهم هيبته](٦) وعظّم بينهم حرمته ، فكان من لجأ إليه معصوما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧].

قوله «ذلك» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الحكم الذي حكمناه ذلك لا غيره.

والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : ذلك الحكم هو الحقّ لا غيره.

الثالث : أنه منصوب بفعل مقدّر يدلّ عليه السّياق ، أي : شرع الله ذلك ، وهذا أقواها ؛ لتعلّق لام العلّة به ، و «تعلموا» منصوب بإضمار «أن» بعد لام كي ، لا بها ، و «أنّ الله» وما في حيّزها سادّة مسدّ المفعولين أو أحدهما على حسب الخلاف المتقدّم ، و (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) نسق على «أنّ» قبلها.

فإن قيل : أيّ اتّصال لهذا الكلام بما قبله.

قيل : لمّا علم في الأزل أنّ مقتضى طباع العرب الحرص الشّديد على القتل والغارة ، وعلم أنّ هذه الحالة لو دامت بهم ، لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه ، وأدّى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلّيّة ، دبّر في ذلك تدبيرا لطيفا ، وهو أنّه تعالى ألقى في قلوبهم تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه ، فصار ذلك سببا لحصول الأمن في البلد

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢١٠.

(٢) في أ : يحمل.

(٣) في أ : وتقدر.

(٤) في أ : إيدائه.

(٥) في أ : ذاته.

(٦) في أ : مما وقع في تقويم هيبته.

٥٣٩

الحرام وفي الشّهر الحرام ، فلمّا حصل الأمن في هذا المكان ، وفي هذا الزّمان ، قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا المكان ، فاستقامت مصالح معايشهم ، وهذا التّدبير لا يمكن إلّا إذا كان في الأزل عالما بجميع المعلومات من الكلّيّات والجزئيّات ، وأنّه بكلّ شيء عليم.

وقيل في الجواب : أنّ الله جعل الكعبة قياما للنّاس ، لأنّه يعلم صلاح العباد ، كما يعلم ما في السّماء وما في الأرض.

وقال الزّجّاج (١) : وقد سبق في هذ السّورة الإخبار عن الغيوب ، والكشف عن الأسرار ، مثل قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) [المائدة : ٤١] ، ومثل إخباره بتحريفهم الكتب (٢) فقوله ذلك ليعلموا أنّ الله يعلم ما في السّموات وما في الأرض راجع إليه.

وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، لمّا ذكر تعالى أنواع رحمته لعباده ، ذكر بعده شدّة العقاب ؛ لأنّ الإيمان لا يتمّ إلا بالرّجاء والخوف.

قال ـ عليه‌السلام ـ : «لو وزن المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» (٣) ، ثمّ ذكر بعده ما يدلّ على الرّحمة ، وهو كونه غفورا رحيما ، وهذا يدلّ على أنّ جانب الرّحمة أغلب ؛ لأنّه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه ، ثمّ ذكر أنّه شديد العقاب ، ثمّ ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة ، وهو كونه غفورا رحيما ، وهذا يدلّ على تغليب جانب الرّحمة على جانب العذاب.

قوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) لما قدّم التّرغيب والتّرهيب بقوله : (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أتبعه بذكر التّكليف ، فقال تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) يعني : أنّه مكلّف بالتّبليغ ، فلما بلّغ خرج عن العهدة ، وبقي الأمر من جانبنا ، وإذا علم بما تبدون وما تكتمون فإن خالفتم ، فاعلموا أنّ الله شديد العقاب ، وإن أطعتم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم.

قوله : (إِلَّا الْبَلاغُ) : في رفعه وجهان :

أحدهما : أنه فاعل بالجارّ قبله ؛ لاعتماده على النفي ، أي : ما استقرّ على الرّسول إلا البلاغ.

والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره الجارّ قبله ، وعلى التقديرين ، فالاستثناء مفرّغ.

والبلاغ يحتمل أن يكون مصدرا [ل «بلّغ» مشدّدا ، أي : ما عليه إلا التبليغ ، فجاء على حذف الزوائد ، ك «نبات» بعد «أنبت» ، ويحتمل أن يكون مصدرا] ل «بلغ» مخفّفا

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٦٨.

(٢) في أ : الكذب.

(٣) تقدم.

٥٤٠