اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

ولا يجوز له ترك جميعها ، ومتى أتى بأيّ واحد من هذه الثلاثة خرج عن العهدة ، فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة ، فذلك هو الواجب المخيّر.

وقال بعض الفقهاء : الواجب واحد لا بعينه ، وهذا الكلام يحمل أمرين :

__________________

ـ بواحد من الإطعام ، والكسوة ، والعتق ، ومع ذلك يجوز إخراج الجميع.

وقسم لا يجوز الجمع وتكون أفراده محصورة أيضا ؛ كما إذا مات الإمام الأعظم ، ووجدنا جماعة قد استعدوا للإمامة ، أي : اجتمعت فيهم الشرائط ؛ فإنه يجب على الناس أن ينصبوا منهم واحدا ، ولا يجوز نصب زيادة عليه.

وكون هذا الواجب واحدا مبهما من أمور معينة ، أي : أحدها لا بعينه ، نقله في «المحصول» و «المنتخب» عن الفقهاء فقط ، ولم ينقل عن الأصوليين تصريحا بموافقتهم ولا مخالفتهم ، بل ظاهر كلامه المخالفة ؛ لأنه أبطل ما استدلوا به وكذلك فعل صاحب «الحاصل والتحصيل» ، نعم ، نقله الآمدي عن الفقهاء والأشاعرة وارتضاه ، واختاره أيضا ابن الحاجب.

والواجب المخير بقسميه : هو محل النزاع بين العلماء ، فقد اختلفوا فيه على النحو التالي :

أولا : ذهب الجمهور من الأشاعرة وعامة الفقهاء إلى أنه يجوز الأمر بواحد مبهم ، من أمور معينة على سبيل التخيير ، فيجب على المكلّف الإتيان بأحدها في الجملة ، ولا يجوز له الإخلال به بأن يترك الجميع.

ثانيا : ذهب المعتزلة إلى أن الأمر بأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل ـ وفسره أبو الحسين وهو أحدهم ؛ بأنه على معنى أنه لا يجوز للمكلف ترك جميع الأفراد ، ولا يلزم الجمع بينها ، بل له أن يختار منها ما شاء. وقال الإمام في «البرهان» : إن أبا هاشم اعترف بأن تارك خصال الكفارة لا يأثم إثم من ترك واجبات ، ومن أتى بها جميعا لا يثاب ثواب واجبات ؛ لحصول الامتثال بواحدة.

وبناء على ذلك التفسير والنقل عنهم ، يكون قولهم موافقا لقول الجمهور ، فلا حاجة إلى إبطال دعواهم ؛ لأن الخلاف في اللفظ والتعبير وليس في المعنى.

ثالثا : أن الأمر بواحد من أشياء على التخيير يقتضي أن يكون الواجب واحدا معيّنا عند الله ، وإن كان مبهما عندنا.

وهذا القول يحتمل أحد الأمرين :

الأول : أنه معيّن لا يختلف باختلاف المكلفين ، فإن صادفه المكلف وفعله ، فالأمر ظاهر ، وإن فعل غيره ، سقط هو به.

الثاني : أنه معين يختلف باختلاف المكلفين ، وهو ما يختاره المكلف ويفعله بتوفيقه إلى اختيار ما عينه له ، أو هو ما يعينه الله باختيار العبد.

ولما لم يكن صاحب هذا القول معروفا عبر عنه العلماء بقولهم : وقيل. فهو قول مجهول النسب ، يرجم به الأشاعرة المعتزلة ، ويرجم به المعتزلة الأشاعرة ؛ ولذا سمي قول التراجم ، وهو باطل باتفاق الفريقين المأخوذ من رمي كل منهما الآخر به.

ينظر : المعتمد ١ / ٨٧ ـ ٩٧ ، المستصفى ١ / ٤٣ ، المحصول ١ / ٢ / ٢٦٦ ، الإحكام للآمدي ١ / ١٤٢ ، منتهى الوصول لابن الحاجب ص ٢٤ ، المنهاج بشرحي البدخشي والإسنوي ١ / ٧٣ ، العدة لأبي يعلى ١ / ٣٠٢ ، روضة الناظر ص ١٧ ، المسودة ص ٢٧ ، التبصرة للشيرازي ص ٧٠ ، التمهيد للإسنوي ص ٧٩ ، شرح التنقيح للقرافي ص ١٥٢ ، الإبهاج ١ / ٨٤ ، ١١٤ ، تيسير التحرير ٢ / ٢١٢ ، وفواتح الرحموت ١ / ٦٨.

٥٠١

الأوّل : أن يقال : الواجب عليه أن يدخل واحدا من هذه الثلاثة لا بعينه ، وهذا محال في العقول ؛ لأنّ الشيء الذي يكون معيّنا في نفسه يكون ممتنع الوجود لذاته ، وما كان كذلك ، فإنّه لا يرد به التّكليف.

والثاني : أن يقال : الواجب عليه واحد معيّن في نفسه وفي علم الله تعالى ، إلّا أنّه مجهول العين عند الفاعل ، وذلك أيضا محال ؛ لأنّ كون ذلك الشّيء واجبا بعينه في علم الله تعالى هو أنّه لا يجوز تركه بحال ، واجتمعت الأمّة على أنّه يجوز له تركه بتقييد الإتيان بغيره ، والجمع بين هذين القولين جمع بين النّفي والإثبات ، وهو محال ، وتمام هذا البحث مذكور في أصول الفقه.

فإن قيل : أيّ فائدة لتقديم الإطعام على العتق مع أنّ العتق أفضل؟ فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّ المقصود منه التّنبيه على أنّ هذه الكفّارة وجبت على التّخيير لا على التّرتيب ، لأنها لو وجبت على التّرتيب لوجبت البداية بالأغلظ.

وثانيها : قدّم الإطعام ؛ لأنّه أسهل ، ولكون الطّعام أعمّ وجودا ، والمقصود منه التّنبيه على أنّه تعالى يراعي التّخفيف والتّسهيل في التّكاليف.

وثالثها : أنّ الإطعام أفضل ؛ لأن الحرّ الفقير قد لا يجد طعاما ، ولا يكون هناك من يعطيه الطّعام ، فيقع في الضّرّ.

وأمّا العبد فيجب على مولاه إطعامه وكسوته.

قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) إذا عجز الذي لزمته كفّارة اليمين عن الإطعام ، أو الكسوة ، أو تحرير رقبة ، يجب عليه صوم ثلاثة أيّام ، والعاجز ألّا يفضل من ماله عن قوته ، وقوت عياله وحاجته ما يطعم ، أو يكسو ، أو يعتق ، فإنّه يصوم ثلاثة أيام ، وقال بعضهم : إذا ملك ما يمكنه الإطعام ، وإن لم يفضل عن كفايته ، فليس له صيامّ ، وهو قول الحسن ، وسعيد بن جبير (١).

واختلفوا في وجوب التّتابع في هذا الصّيام ، فذهب جماعة إلى أنّه لا يجب فيه التّتابع ، بل إن شاء تابع وإن شاء فرّق ، والتّتابع أفضل ، وهو أحد قولي الشّافعيّ ـ رضي الله عنه ـ.

وذهب قوم إلى وجوب التّتابع فيه ، قياسا على كفّارة القتل والظّهار ، وهو قول الثّوري وأبي حنيفة ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وتدلّ عليه قراءة (٢) ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ «فصيام ثلاثة أيام متتابعات».

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٦١.

(٢) وقرأ بها أبي والنخعي كما في المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٢ ، والبحر المحيط ٤ / ١٤ وينظر الكشاف ١ / ٦٧٣.

٥٠٢

وأجيب : بأنّ القراءة الشّاذّة مردودة ، إذ لو كانت قرآنا ، لنقلت نقلا متواترا ، ولو جوّزنا في القرآن ألا ينقل متواترا ، لزم طعن الرّوافض والملاحدة في القرآن ، وذلك باطل ، فعلمنا أن القراءة الشّاذّة مردودة ، فلا تصلح أن تكون حجّة.

وأيضا نقل عن أبيّ بن كعب أنّه (١) قرأ : «فعدة من أيام أخر متتابعات» ، مع أنّ التّتابع هناك ما كان شرطا وأجابوا عنه أنّه روي عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ أنّ رجلا قال له : عليّ أيّام رمضان أفأقضيها متفرّقات ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدّرهم بالدّرهم أما كان يجزيك؟ قال : بلى قال : فالله تعالى أحقّ أن يغفر ويصفح» (٢) وهذا الحديث وإن وقع جوابا عن هذا السّؤال في صوم رمضان ، إلّا أنّ لفظه عامّ ، وتعليله عامّ في جميع الصّيامات ، وقد ثبت في الأصول أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب ، فهذا من أقوى الدّلائل على جواز التّفريق هاهنا.

قوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) ، ذلك إشارة إلى ما تقدّم من الإطعام والكسوة ، وتحرير الرّقبة يكفّر عنكم حنث اليمين وقت حلفكم و (إِذا حَلَفْتُمْ) قال أبو البقاء (٣) : «منصوب على الظّرف وناصبه «كفّارة» ، أي : ذلك الإطعام ، أو ما عطف عليه يكفّر عنكم حنث اليمين وقت حلفكم» ، وقال الزمخشريّ (٤) : «ذلك المذكور كفّارة ، ولو قيل : «تلك كفارة» ، لكان صحيحا بمعنى تلك الأشياء ، أو التأنيث للكفّارة ، والمعنى : «إذا حلفتم حنثتم ، فترك ذكر الحنث ؛ لوقوع العلم بأن الكفّارة ، إنما تجب بالحنث بالحلف لا بنفس الحلف ، كقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤] أي: فأفطر». ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشريّ ، وهو تقدير الحنث ، ولذلك عيب على أبي البقاء قوله : «العامل في «إذا» كفارة أيمانكم ؛ لأن المعنى : ذلك يكفّر أيمانكم وقت حلفكم» ، فقيل له : الكفّارة ليست واقعة في وقت الحلف ، فكيف يعمل في الظرف ما لا يقع فيه؟ وظاهر الآية أنّ «إذا» متمحّضة للظرفيّة ، وليس فيها معنى الشرط ، وهو غير الغالب فيها ، وقد يجوز أن تكون شرطا ، ويكون جوابها محذوفا على قاعدة البصريّين يدلّ عليه ما تقدّم ، أو هو نفس المتقدّم عند أبي زيد والكوفيين ، والتقدير : إذا حلفتم وحنثتم ، فذلك كفارة إثم أيمانكم ؛ كقولهم : «أنت ظالم إن فعلت».

فصل

اختلفوا في تقديم الكفّارة على الحنث ؛ فذهب قوم إلى جوازه لقول النّبيّ ـ صلّى

__________________

(١) آية ١٨٤ من البقرة ، وينظر : البحر المحيط ٢ / ٤١ ، والكشاف ١ / ٢٢٦.

(٢) أخرجه الدار قطني (٢ / ١٩٤) حديث (٧٧) عن محمد بن المنكدر مرسلا.

قال الدار قطني : إسناده حسن إلّا أنه مرسل ولا يثبت متصلا.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٤.

٥٠٣

الله عليه وعلى آله وسلّم ـ : «من حلف بيمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليكفّر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير» (١) وهو قول ابن عمر ، وابن عبّاس وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ وبه قال الحسن وابن سيرين ، وإليه ذهب مالك ، والأوزاعيّ ، والشّافعيّ ـ رضي الله عنهم ـ ، إلّا أنّ الشّافعيّ يقول : إن كفّر بالصّوم قبل الحنث لا يجوز ، لأنه بدنيّ ، إنّما يجوز الإطعام والكسوة والعتق ؛ لأنّه ماليّ ، فأشبه تعجيل الزّكاة ، كما يجوز تقديم الزّكاة على الحول ، ولا يجوز تعجيل صوم رمضان.

قالوا : وقوله : «إذا حلفتم» فيه دقيقة ، وهو التّنبيه على أنّ تقديم الكفّارة قبل اليمين لا يجوز ، وأمّا بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز ، لانعقاد سببها وهو اليمين ، فصارت كملك النّصاب.

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : لا يجوز تقديم الكفّارة على الحنث.

قوله تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) قيل : المراد به ترك الحلف ، أي : لا تحلفوا ، وقيل : المراد تقليل الأيمان ، أي : لا تكثروا منها.

قال الشّاعر : [الطويل]

٢٠٥٠ ـ قليل الألايا حافظ ليمينه

فإن سبقت منه الأليّة برّت (٢)

والصحيح : أنّ المراد : حفظ اليمين على الحنث ، هذا إذا لم يكن حلف بيمينه على ترك مندوب أو فعل مكروه ، فإن حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه ، فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفّر للحديث المتقدّم.

قوله تعالى : (كَذلِكَ) هذه الكاف نعت لمصدر محذوف عند جماهير المعربين ، أي : يبيّن الله آياته تبيينا مثل ذلك التبيين ، وعند سيبويه (٣) أنه حال من ضمير ذلك المصدر على ما عرف.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(٩١)

هذا هو النّوع الثّالث من الأحكام المذكورة هنا ، ووجه اتّصاله بما قبله ، أنّه ـ تعالى ـ قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ، إلى قوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت لكثير عزة. ينظر : ديوانه ٢ / ٢٢٠ ، والبحر ١ / ١٧٦ ، والقرطبي ٣ / ٦٥ ، واللسان (ألا) ، والصحاح (ألا) ، والنظم المستعذب ٢ / ١٧٨ ، والفخر الرازي ١٢ / ٦٦ ، وروي سبقت بدل نذرت.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.

٥٠٤

رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) ، ثم كان من جملة الأمور المستطابة للجمهور الخمر والميسر ، فبيّن الله ـ تعالى ـ أنّهما غير داخلين في المحلّلات ، بل في المحرّمات ، وقد تقدّم بيان الخمر والميسر في سورة البقرة [البقرة ٢١٩] ، وبيان الأنصاب والأزلام في أوّل هذه السّورة [المائدة ٣].

وفي اشتقاق الخمر وجهان :

أحدهما : سمّي خمرا لمخامرته العقل ، أي : خالطته فسترته (١).

الثاني : قال ابن الأعرابي (٢) : تركت فاختمرت ، أي : تغيّر ريحها.

فصل

قال القرطبي (٣) : تحريم الخمر كان بالتّدريج ونوازل كثيرة ، لأنّهم كانوا مولعين بشربها ، وأوّل ما نزل في أمرها : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] ، أي : في تجارتهم ، فلما نزلت هذه الآية تركها بعض النّاس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير.

وقال بعضهم : نأخذ منفعتها ونترك إثمها ، فنزلت (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] فتركها بعضهم ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها بعضهم في غير أوقات الصّلاة ، حتى نزلت هذه الآية ، فصارت حراما عليهم ، وذلك في ستة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحد.

قوله تعالى : (رِجْسٌ:) خبر عن هذه الأشياء المتقدّمة ، فيقال : كيف أخبر عن جمع بمفرد؟ فأجاب الزمخشريّ (٤) بأنه على حذف مضاف ، أي : إنما شأن الخمر ، وكذا وكذا ، ذكر ذلك عند تعرّضه للضّمير في «فاجتنبوه» كما سيأتي ، وكذا قدّره أبو البقاء ، فقال (٥) : «لأنّ التقدير : إنما عمل هذه الأشياء». قال أبو حيان (٦) بعد حكايته كلام الزمخشريّ : ولا حاجة إلى هذا ، بل الحكم على هذه الأربعة نفسها أنّها رجس أبلغ من تقدير هذا المضاف ؛ كقوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] ، وهو كلام حسن ، وأجاب أبو البقاء (٧) أيضا بأنه يجوز أن يكون «رجس» خبرا عن «الخمر» ، وحذف خبر المعطوفات ؛ لدلالة خبر الأول عليها ، قال شهاب الدين (٨) : وعلى هذا : فيجوز أن يكون خبرا عن الآخر ، وحذف خبر ما قبله ؛ لدلالة خبر ما بعده عليه ؛ لأنّ لنا في نحو قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) هذين التقديرين ، وقد تقدّم تحقيقهما مرارا.

__________________

(١) في ب : فغيره.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٦٦.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٨٥.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٥.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٧.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

(٨) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٠٤.

٥٠٥

والرجس قال الراغب (١) : «هو الشيء القذر ، رجل رجس ، ورجال أرجاس» ، ثم قال : «وقيل : رجس ورجز للصّوت الشديد ، يقال : بعير رجّاس : شديد الهدير ، وغمام راجس ورجّاس : شديد الرعد» ، وقال الزجّاج (٢) : هو اسم لكلّ ما استقذر من عمل قبيح ، يقال : رجس ورجس بكسر الجيم وفتحها يرجس رجسا إذا عمل عملا قبيحا ، وأصله من الرّجس بفتح الراء ، وهو شدة صوت الرعد ؛ قال : [الرجز]

٢٠٥١ ـ وكلّ رجّاس يسوق الرّجسا (٣)

وفرّق ابن دريد بين الرّجس والرّجز والرّكس ، فجعل الرّجس : الشرّ ، والرّجز : العذاب ، والرّكس : العذرة والنّتن ، ثم قال : «والرّجس يقال للاثنين» ، فتحصّل من هذا ؛ أنه اسم للشيء القذر المنتن ، أو أنه في الأصل مصدر.

وقوله تعالى : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) في محلّ رفع ؛ لأنه صفة ل «رجس».

وهذا أيضا مكمّل لكونه رجسا ؛ لأنّ الشّيطان نجس خبيث ؛ لأنه كافر ، والكافر نجس لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] والخبيث لا يدعو إلّا إلى الخبيث لقوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) [النور : ٢٦] والهاء في «فاجتنبوه» تعود على الرّجس ، أي: فاجتنبوا الرّجس الذي أخبر به مما تقدّم من الخمر وما بعدها ، وقال أبو البقاء (٤) : «إنها تعود على الفعل» ، يعني الذي قدّره مضافا إلى الخمر وما بعدها ، وإلى ذلك نحا الزمخشريّ أيضا ، قال (٥) : «فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : فاجتنبوه؟ قلت : إلى المضاف المحذوف ، أو تعاطيهما ، أو ما أشبه ذلك ، ولذلك قال : رجس من عمل الشّيطان» ، وقد تقدّم أن الأحسن : أن هذه الأشياء جعلت نفس الرّجس مبالغة.

قوله تعالى : (فِي الْخَمْرِ:) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه متعلق ب «يوقع» ، أي : يوقع بينكم هذين الشيئين في الخمر ، أي : بسبب شربها ، و «في» تفيد السببية ؛ كقوله عليه‌السلام : «إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة».

الثاني : أنها متعلّقة بالبغضاء ؛ لأنه مصدر معرف ب «أل».

الثالث : أنه متعلق ب «العداوة» ، وقال أبو البقاء (٦) : «ويجوز أن تتعلّق «في» بالعداوة ، أو ب «البغضاء» ، أي : [أن] تتعادوا وأن تتباغضوا بسبب شرب الخمر» ؛ وعلى هذا الذي ذكره : تكون المسألة من باب التنازع ، وهو الوجه الرابع ، إلّا أنّ في ذلك

__________________

(١) ينظر : المفردات ١٩٣.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٢٤.

(٣) البيت للعجاج ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٢٢٤ ، اللسان «رجس» الدر المصون ٢ / ٦٠٤. ورواية اللسان «الرّجّسا» بضم الراء وبتشديد الجيم مفتوحة.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٥.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

٥٠٦

إشكالا ، وهو أنّ من حقّ المتنازعين ؛ أن يصلح كلّ منهما للعمل ، وهذا العامل الأول ، وهو العداوة ، لو سلّط على المتنازع فيه ، لزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبيّ وهو المعطوف ، وقد يقال : إنه في بعض صور التنازع يلتزم إعمال الثاني ، وذلك في فعلي التعجّب ، إذا تنازعا معمولا فيه ، وقد تقدّم هذا مشبعا في البقرة.

فصل في مفاسد الأشياء المذكورة في الآية

اعلم أنّه تعالى لمّا أمر باجتناب هذه الأشياء ، ذكر فيها نوعين من المفسدة :

الأول : ما يتعلّق بالدّنيا وهو قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ).

والثاني : المفسدة المتعلّقة بالدّين ، وهو قوله تعالى : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ).

فأمّا شرح هذه العداوة [والبغضاء أولا في الخمر ثمّ في الميسر](١) : وأمّا الخمر ، فاعلم : أنّ الظاهر فيمن يشرب الخمر ، أنّه يشربها مع جماعة ، ويكون غرضه الاستئناس برفقائه ، ويفرح بمحادثتهم ، ويكون بذلك الاجتماع تأكيد المحبّة والألفة ، إلّا أنّ ذلك في الأغلب ينقلب إلى الضّدّ ؛ لأنّ الخمر يزيل العقل ، وإذا أزال العقل استولت الشّهوة والغضب من غير مدافعة العقل ، وعند استلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأحباب ، وتلك المنازعة ربّما أدّت إلى الضّرب والقتل ، والمشافهة بالفحش ، وذلك يورث أشدّ العداوة والبغضاء ، كما فعل الأنصاريّ الذي شجّ رأس سعد بن أبي وقّاص بلحي الجمل.

وروي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر ، وانتشوا فعبث بعضهم على بعض ، فلما [صحوا رأى بعضهم في وجه] بعض آثار ما فعلوا ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فجعل بعضهم يقول : لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا ، فحدثت بينهم الضّغائن ، فالشّيطان يسوّل أنّ الاجتماع على الشّرب يوجب تأكيد الألفة والمحبّة بين الأخوة ، فينقلب الأمر ، وتحصل العداوة والبغضاء.

وأمّا الميسر ، ففيه بإزاء التّوسعة على المحتاجين من الإجحاف بأرباب الأموال ؛ لأنّ من صار مغلوبا في القمار مرّة ، دعاه ذلك إلى اللّجاح فيه ، يرجو بذلك إلى أن يصير غالبا ، وقد يتّفق أنّه لا يحصل له ذلك ، إلى أن لا يبقى له شيء من المال ، وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده.

قال قتادة : كان الرّجل يقامر على الأهل والمال ، ثم يبقى مسلوب الأهل والمال ، ولا شكّ أنّه يبقى بعد ذلك فقيرا مسكينا ، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين غلبوه ،

__________________

(١) سقط في أ.

٥٠٧

فظهر أنّ الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداء والبغضاء بين النّاس ، والعداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن ، وذلك مضادّ لمصالح العباد.

فلو قيل : لما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ، ثم أفردهما في آخر الآية.

قلنا : لأنّ لهذه الآية خطاب مع المؤمنين ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر ، وإنّما ضمّ الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر ، إظهارا (١) أنّ هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة ، فلما كان المقصود من الآية النّهي عن الخمر والميسر ، لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذّكر.

قال شهاب الدين (٢) : ويظهر شيء آخر ، وهو أنه لم يفرد الخمر والميسر بالذّكر [آخرا] ، بل ذكر معهما شيئا يلزم منه عدم الأنصاب والأزلام [فكأنه] تكملة ذكر الجميع ، بيانه أنه قال : «في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله» بعبادة الأنصاب أو بالذبح عليها للأصنام على ما علم تفسيره أوّل السّورة ، و «عن الصلاة» باشتغالكم بالأزلام ، وقد تقدّم ، فذكر الله والصّلاة منبّهان على الأنصاب والأزلام.

وأمّا النّوع الثّاني من المفاسد الموجودة في الخمر والميسر : المفاسد المتعلّقة بالدّين ، وهو قوله تعالى : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) ، أمّا كون شرب الخمر يمنع عن ذكر الله وعن الصّلاة ، فظاهر ؛ لأنّ شرب الخمر يورث الطّرب واللّذّة الجسمانيّة ، والنّفس إذا استغرقت في اللّذّات الجسمانيّة ، غفلت عن ذكر الله وعن الصّلاة ، وأمّا كون الميسر مانعا عن ذكر الله وعن الصلاة ، إن كان غالبا صار استغراقه في لذّة الغلبة من أن يخطر بباله شيء سواه ، وإن صار مغلوبا صار شدّة اهتمامه بأن يحتال بحيلة ، حتّى يصير غالبا مانعا من أن يخطر بباله شيء سواه ، ولا شكّ أن هذه الحالة مما يصدّ عن ذكر الله وعن الصّلاة ، ولمّا بيّن تعالى اشتمال شرب الخمر ، واللّعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدّين ، قال تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

فصل

قال القرطبي (٣) : فهم الجمهور من تحريم الخمر ، وإطلاق الرّجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها ، وخالفهم في ذلك ربيعة ، واللّيث بن سعد ، والمزنيّ ، وبعض المتأخّرين من البغداديّين والقرويّين ، وقالوا : إنّها طاهرة وأنّ المحرّم إنما هو شربها ؛ لأنّ الميسر والأنصاب والأزلام ليسوا بنجس ، فكذلك الخمر ، ولجواز سكبها

__________________

(١) في ب : الظاهر.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٠٥.

(٣) ينظر : القرطبي ٦ / ١٨٦.

٥٠٨

[في](١) طرق المدينة ، مع نهي النبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ عن التّخلّي في الطريق.

قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) هذا الاستفهام فيه معنى الأمر ، أي : انتهوا.

روي أنّه لمّا نزل قول الله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] قال عمر بن الخطّاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ : «اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا» فلما نزلت هذه الآية قال عمر ـ رضي الله عنه ـ : «انتهينا يا ربّ ، انتهينا يا ربّ» ويدلّ على أن المراد منه الأمر أيضا : عطف الأمر الصّريح عليه في قوله «وأطيعوا» ، كأنه قيل : انتهوا عن شرب الخمر ، وعن كذا ، وأطيعوا ، فمجيء هذه الجملة الاستفهامية المصدّرة باسم مخبر عنه باسم فاعل دالّ على ثبوت النهي واستقراره ـ أبلغ من صريح الأمر.

قال ابن الخطيب (٢) : وإنما حسن هذا المجاز ؛ لأنّ الله تعالى ذمّ هذه الأفعال ، وأظهر قبحها للمخاطب ، فلما استفهم بعد ذلك عن تركها ، لم يقدر المخاطب إلّا على الإقرار بالتّرك ، وكأنّه قيل له : أتفعله وقد ظهر من قبحه ما ظهر ؛ فصار (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ؛ جاريا مجرى تنصيص الله تعالى على وجوب الانتهاء ، مقرونا بإقرار المكلّف بوجوب الانتهاء.

واعلم : أنّ هذه الآية دالّة على وجوب تحريم شرب الخمر من وجوه :

أحدها : تصدير الجملة ب «إنّما» وهي للحصر ، فكأنّه قال : لا رجس ولا شيء من أعمال الشّيطان إلّا هذه الأربعة.

وثانيها : أنّه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان ، ومنه قوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «شارب خمر كعابد وثن».

وثالثها : قال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحا ، كان الارتكاب خيبة.

ورابعها : ما تقدّم من اشتمال الاستفهام على المنفي.

قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٩٢)

وخامسها : قوله تعالى بعد ذلك : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) وظاهر الأمر بالطّاعة ، فيما تقدّم ذكره من أمرهم بالاجتناب عن الخمر والميسر.

وقوله «واحذروا» أي : احذروا عن مخالفتهما في هذا التّكليف.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٦٨.

٥٠٩

وسادسها : قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، وهذا تهديد عظيم ووعيد شديد في حقّ من خالف في هذا التّكليف ، وأعرض عن حكم الله تعالى ؛ لأنّ معناه إن تولّيتم فالحجّة قد قامت عليكم ، والرّسول قد خرج عن عهدة التّبليغ والإعذار ، فأمّا ما وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التّكليف وأعرض ، فذلك إلى الله تعالى ، وهذا تهديد عظيم ، وهذا نصّ صريح في أنّ كلّ مسكر حرام ؛ لاشتماله على ما تشتمل عليه الخمر.

قال ـ عليه الصّلاة والسلام ـ : «كلّ مسكر حرام وإن حتما على الله أن لا يشربه عبد في الدّنيا إلّا سقاه الله يوم القيامة من طينة الخبال ، هل تدرون ما طينة الخبال؟» قلنا : لا. قال : «عرق أهل النّار» ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من شرب الخمر في الدّنيا ، ثمّ لم يتب منها حرمها في الآخرة».

وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال : أشهد أنّي سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وهو يقول : «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها ، وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها» (١).

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٩٣)

سبب نزول هذه الآية : أنّ الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين ، لمّا نزل تحريم الخمر ، قالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يشربون الخمر ، ويأكلون من مال الميسر ؛ فنزلت هذه الآية (٢) ، والمعنى لا إثم عليهم ؛ لأنّهم شربوها حال ما كانت محلّلة ، وهذه الآية مشابهة لقوله تعالى في نسخ القبلة من بيت المقدس للكعبة : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] أي : أنّكم حين استقبلتم بيت المقدس ، استقبلتموه بأمري ، فلا أضيّع ذلك.

قوله تعالى : (إِذا مَا اتَّقَوْا) : ظرف منصوب بما يفهم من الجملة السابقة ، وهي : «ليس» وما في حيّزها ، والتقدير : لا يأثمون ، ولا يؤاخذون وقت اتّقائهم ، ويجوز أن يكون ظرفا محضا ، وأن يكون فيه معنى الشرط ، وجوابه محذوف ، أو متقدّم على ما مرّ.

فصل

الطعام في الأغلب من اللّغة خلاف الشّراب ، ولذلك يقال : الطعم خلاف الشّرب ، إلّا أن اسم الطعام يقع على المشروبات ، كقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩] ، وعلى هذا يجوز أن يكون قوله : (فِيما طَعِمُوا) أي : شربوا الخمر ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

٥١٠

ويجوز أن يكون معنى الطّعم راجعا إلى التّلذّذ بما يؤكل ويشرب.

وقد تقول العرب : تطعّم حتى تطعم أي : ذق حتى تشتهي ، فإذا كان معنى الكلمة راجعا إلى الذّوق ، صلح للمأكول والمشروب معا.

فإن قيل : إنه تعالى شرط نفي الجناح بحصول التّقوى والإيمان مرّتين ، وفي المرّة الثّالثة : بحصول التّقوى والإحسان.

وللنّاس في هذا قولان :

أحدهما : أنّ هذا من باب التوكيد ، ولا يضرّ حرف العطف في ذلك ؛ كقوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٣ ، ٤] ، حتى إنّ ابن مالك جعل هذا من التوكيد اللفظيّ المبوب له في النحو.

والثاني : أنه للتأسيس ، إلا أنّه جعل التغاير حاصلا بتقدير المتعلّقات.

واختلفوا في تفسير هذه المراتب الثّلاثة على وجوه :

أحدها : قال الأكثرون : الأوّل : عمل الاتّقاء.

والثاني : دوام الاتّقاء والثبات عليه.

والثالث : اتقاء ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه.

وثانيها : أن الأول اتّقاء جميع المعاصي قبل نزول هذه الآية.

والثاني : اتّقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية.

والثالث : اتّقاء ما يجب تحريمه بعد هذه الآية [وهذا قول الأصمّ](١).

وثالثها : اتّقوا الكفر ثمّ الكبائر ، ثمّ الصّغائر.

ورابعها : قال القفّال (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : التّقوى الأولى عبارة عن الاتقاء من القدح في صحّة النّسخ ؛ وذلك لأنّ اليهود يقولون : النّسخ يدلّ على البداء ، فأوجب (٣) على المؤمنين عند سماع تحريم الخمر ، بعد أن كانت مباحة أن يتّقوا عن هذه الشّبهة الفاسدة.

والتقوى الثانية : الإتيان بالعمل المطابق لهذه الآية وهي الاحتراز عن شرب الخمر. والتقوى الثالثة : عبارة عن المداومة على التّقوى المذكورة في الأولى والثانية ، ثم يضمّ إلى هذه التّقوى الإحسان إلى الخلق.

وخامسها : أنّ المقصود من هذا التّكرير التّأكيد ، والمبالغة في الحثّ على الإيمان ، والتّقوى.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٧٠.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) في ب : فإذا وجب.

٥١١

فإن قيل : لم شرط دفع الجناح عن تناول المطعومات بشرط الإيمان والتّقوى ؛ مع أنّ المعلوم أن من لم يؤمن ومن لم يتّق ، ثمّ تناول شيئا من المباحات فإنّه لا جناح عليه في ذلك التّناول ، بل إنما عليه جناح في ترك التّقوى والإيمان ، إلّا أن ذلك لا تعلّق له بتناول ذلك المباح ، فذكر هذا الشّرط في هذا المعرض غير جائز.

فالجواب : ليس هذا اشتراط ، بل لبيان أنّ أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية ، كانوا على هذه الصّفة ثناء عليهم ، وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتّقوى والإحسان.

ومثاله أن يقال لك : «هل على زيد فيما فعل جناح» ، وقد علمت أنّ ذلك الأمر مباح ؛ فتقول : ليس على أحد جناح في المباح إذا اتّقى المحارم وكان مؤمنا محسنا ، تريد أنّ زيدا إن بقي مؤمنا محسنا ، فإنّه غير مؤاخذ بما فعل.

فصل

قال ابن الخطيب (١) : زعم بعض الجهّال : أنّ [الله](٢) تعالى لمّا بيّن في الخمر أنّها محرّمة عند ما تكون موقعة للعداوة والبغضاء ، وصادّة عن ذكر الله وعن الصّلاة ، بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعمها ، إذا لم يحصل معه شيء من تلك (٣) المفاسد ، بل حصّل أنواع المصالح من التّقوى والطّاعة (٤) والإحسان إلى الخلق ، قالوا : ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التّحريم ؛ لأنه لو كان المراد ذلك لقال : ما كان جناح على الّذين طعموا ، كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة ، فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] ولكنه لم يقل ذلك ، بل قال : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، إلى قوله تعالى: (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ، وهذا للمستقبل لا للماضي ، وهذا القول مردود بإجماع الأمّة ، وقولهم: إنّ كلمة «إذا» للمستقبل ، فجوابه : ما روى أبو بكر الأصمّ ـ رحمه‌الله ـ أنّه لمّا نزل تحريم الخمر ، قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : يا رسول الله كيف بإخواننا الّذين ماتوا ، وقد شربوا الخمر ، وفعلوا القمار ، وكيف بالغائبين عنّا في البلدان لا يشعرون أنّ الله حرّم الخمر وهم يطعمونها (٥) ؛ فأنزل الله هذه الآيات ، وعلى هذا التقدير ، فالحلّ قد ثبت في الزّمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية ، لكن في حقّ الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النّصّ.

قوله تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي : أنّه تعالى ما جعل الإحسان شرطا في نفي الجناح فقط ، بل وفي أن يحبّه الله ، وهذا أشرف الدرجات.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٧٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : ذلك.

(٤) في ب : الطاعة والتقوى.

(٥) تقدم.

٥١٢

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٤)

اللام جواب قسم محذوف ، أي : والله ، ليبلونّكم ، وقد تقدّم أنه تجب اللام وإحدى النونين في مثل هذا الجواب واللام في «ليبلونّكم» مفتوحة لالتقاء الساكنين. قوله تعالى : (بِشَيْءٍ) متعلّق ب «ليبلونّكم» أي : ليختبرنّكم بشيء ؛ وقوله تعالى : (مِنَ الصَّيْدِ:) في محلّ جرّ صفة ل «شيء» فيتعلّق بمحذوف ، و «من» الظاهر أنها تبعيضية ؛ لأنه لم يحرّم صيد الحلال ، ولا صيد الحلّ ، ولا صيد البحر ، وقيل : إنها لبيان الجنس ، وقال مكيّ (١) : «وقيل «من» لبيان الجنس ، فلما قال «بشيء» لم يعلم من أي جنس هو ، فبيّن ، فقال : (مِنَ الصَّيْدِ) ؛ كما تقول : لأعطينّك شيئا من الذّهب» ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، ثم قال (٢) : «وقيل : إنّها للتبعيض» ، وكونها للبيان فيه نظر ؛ لأنّ الصّحيح أنها لا تكون للبيان ، والقائل بأنها للبيان يشترط أن يكون المبيّن بها معرّفا بأل الجنسيّة ؛ كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ، وبه قال ابن عطيّة (٣) أيضا ، والزّجّاج هو الأصل في ذلك ، فإنه قال (٤) : وهذا كما تقول : «لأمتحننّك بشيء من الرّزق» ، وكما قال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).

والمراد بالصّيد : المصيد ، لقوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) والصّيد إذا كان بمعنى المصدر يكون حدثا ، وإنما يوصف بنيل الأيدي والرّماح ما يكون عينا.

قوله تعالى : (تَنالُهُ) في محلّ جر ؛ لأنّه صفة ثانية ل «شيء» ، وأجاز أبو البقاء (٥) أن يكون حالا : إمّا من الصّيد ، وإمّا من «شيء» ، وإن كان نكرة ؛ لأنه قد وصف فتخصّص ، واستبعد أبو حيان جعله حالا من الصّيد ، ووجه الاستبعاد : أنه ليس المقصود بالحديث عنه ، وقرأ الجمهور : «تناله» بالمنقوطة فوق ؛ لتأنيث الجمع ، وابن وثّاب والنخعي (٦) بالمنقوطة من تحت ؛ لأنّ تأنيثه غير حقيقيّ.

فإن قيل : نزلت هذه الآية عا م «الحديبية» ، وكانوا محرمين ابتلاهم الله بالصّيد ، وكانت الوحوش تغشى رحالهم من كثرتها ، فهمّوا بأخذها ، فنزلت هذه الآية أي : ليختبرنّكم.

وفائدة البلوى : إظهار المطيع من العاصي ، وإنّما بعّض الصّيد ؛ لأنه ابتلاهم بصيد البرّ خاصّة ، وقيل : صيد الإحرام دون صيد الإحلال.

وقوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) يعني : الفرخ والبيض ، وما لا يقدر أن يضرّ من صغار

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٣.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٦.

(٤) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٢٧.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٦.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٦٠٥.

٥١٣

الصّيد ، و «رماحكم» يعني : الكبار من الصّيد (لِيَعْلَمَ اللهُ) قاله الواحدي (١) وغيره ، وقال مقاتل بن حيان : كانت الوحوش والطّير تغشاهم في رحالهم ، حتى يقدرون على أخذها بالأيدي ، وصيدها بالرّماح (٢).

وقال بعضهم : هذا غير جائز ؛ لأن الصّيد المتوحّش هو الممتنع دون ما لا يمتنع.

(لِيَعْلَمَ اللهُ) قيل : اللام متعلّقة ب «ليبلونّكم» ، والمعنى : ليتميّز أو ليظهر لكم ، وقد مضى تحقيقه في البقرة ، وأنّ هذه تسمّى لام كي ، وقرأ بعضهم (٣) : «ليعلم» بضم الياء وكسر اللام من «أعلم» ، والمفعول الأوّل على هذه القراءة محذوف ، أي : ليعلم الله عباده ، والمفعول الثاني هو قوله : (مَنْ يَخافُهُ) ف «أعلم» منقولة بهمزة التعدية لواحد بمعنى «عرف» وهذا مجاز ؛ لأنّه ـ تعالى ـ عالم لم يزل ولا يزال ، واختلفوا في معناه ، فقيل : يعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم ، وقيل : ليظهر المعلوم ، وهو خوف الخائف ، وقيل : هذا بحذف المضاف والتّقدير : ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب ، وقيل : ليرى الله لأنّه قد علمه.

وقوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) أي : يخاف الله ولم يره ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [الأنبياء : ٤٩] أي : يخافون ، فلا يصطادون في حال الإحرام ، وكقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ، وقيل : معنى يخافه بالغيب أي : بإخلاص وتحقيق ، ولا يختلف الحال بسبب حضور واحد أو غيبته ، كما في حقّ المنافقين الذين (إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤].

قوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) في محلّ نصب على الحال من فاعل «يخافه» ، أي : يخافه ملتبسا بالغيب ، وقد تقدّم معناه في البقرة [الآية ٣].

والمعنى : من يخافه حال كونه غائبا عن رؤيته ، كقوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [ق : ٣٣].

وجوّز أبو البقاء (٤) ثلاثة أوجه :

أحدها : ما ذكرناه.

والثاني : أنه حال من «من» في «من يخافه».

والثالث : أنّ الباء بمعنى «في» ، والغيب مصدر واقع موقع غائب ، أي : يخافه في المكان الغائب عن الخلق ، فعلى هذا يكون متعلّقا بنفس الفعل قبله ، وعلى الأوّلين يكون متعلّقا بمحذوف على ما عرف.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٧١.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧٦) عن مقاتل بن حيان وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) قرأ بها الزهري كما في المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٦٠٦.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٦.

٥١٤

قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : اصطاد بعد تحريمه ، فله عذاب أليم ، والمراد : عذاب الآخرة ، والتّعزير في الدّنيا.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : هذا العذاب هو أن يضرب ظهره وبطنه ضربا وجيعا ، وينتزع ثيابه (١).

قال القفّال : وهذا غير جائز ؛ لأن اسم العذاب قد يقع على الضّرب ، كما سمّي جلد الزّانيين عذابا (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) [النور : ٢] ، وقال تعالى : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء : ٢٥] وقال تعالى حاكيا عن سليمان ـ عليه‌السلام ـ في الهدهد (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) [النمل : ٢١].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٩٥)

في المراد بالصّيد قولان :

الأوّل : الذي توحّش ، سواء كان مأكولا أو لم يكن ، فعلى هذا المحرم إذا قتل سبعا لا يؤكل لحمه ضمن ، ولا يجاوز به قيمة شاة ، وهو قول أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ.

وقال زفر : [يجب](٢) قيمته بالغا ما بلغ (٣).

الثاني : أنّ الصّيد هو ما يؤكل لحمه ، فعلى هذا لا يجب الضّمان ألبتّة في قتل السّبع ، وهو قول الشّافعيّ [ـ رضي الله عنه ـ] وغيره ، وحكم أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ أنّه لا يجب الجزاء في قتل الفواسق الخمس ، وفي قتل الذّئب ، واستدلّ الشافعيّ بقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ، فأحلّ الصّيد خارج الإحرام ، فثبت أنّ الصيد هو ما أحلّ أكله.

وقال ـ عليه الصّلاة والسلام ـ : «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم : الغراب ، والحدأة ، والحيّة ، والعقرب ، والكلب العقور» (٤). وفي رواية «والسّبع العادي» (٥) ،

__________________

(١) أخرجه أبو الشيخ من طريق أبي صالح عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧٧).

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٧٣.

(٤) أخرجه البخاري ٦ / ٣٨٩ في الأنبياء (٣٣٥٩) ومسلم (٤ / ١٧٥٧) ، في السلام باب استحباب قتل الوزغ (٤٢ / ٢٢٣٧).

(٥) أخرجه أبو داود ٢ / ١٧٠ ، كتاب المناسك : باب ما يقتل المحرم من الدواب (١٨٤٨) ، والترمذي ٣ / ١٩٨ ، كتاب الحج ، باب ما يقتل المحرم من الدواب (٨٣٨) ، وابن ماجه ٢ / ١٠٣٢ ، كتاب المناسك : باب ما يقتل المحرم (٣٠٨٩) قال البوصيري في مصباح الزجاجة : ٣ / ٣٩ ، ٤٠ هذا إسناد ضعيف ، ـ

٥١٥

فوصفوها بكونها فواسق ، فدلّ على أنّ كونها فواسق علّة لحلّ قتلها.

ومعنى كونها فواسق كونها مؤذية ، والأذى في السّباع أقوى منها ، فوجب جواز قتلها.

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) : في محلّ نصب على الحال من فاعل «تقتلوا» ، و «حرم» جمع حرام ، وحرام يكون للمحرم ، وإن كان في الحلّ ، ولمن في الحرم ، وإن كان حلالا ، وهما سيّان في النهي عن قتل الصيد وهل يدخل فيه المحرم بالعمرة؟ فيه خلاف ، وهذه الآية نزلت في رجل يقال له : أبو اليسر شدّ على حمار وحشيّ وهو محرم فقتله ، وهذا يدلّ على المنع من القتل ابتداء ، والمنع منه تسبّبا ، فليس له أن يتعرّض للصّيد ما دام محرما ، لا بالسّلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطّير ، سواء كان الصّيد صيد الحلّ أو الحرم ، وأمّا الحلال فله أن يتصيّد في الحلّ وفي الحرم.

قوله تعالى : (مِنْكُمْ) في محل نصب على الحال من فاعل «قتله» ، أي : كائنا منكم ، وقيل : «من» للبيان ، وليس بشيء ؛ لأنّ كلّ من قتل صيدا حكمه كذلك ، فإن قلت : هذا وارد أيضا على جعله حالا ، فالجواب : لم يقصد لذلك مفهوم ؛ حتّى إنه لو قتله غيركم ، لم يكن عليه جزاء ؛ لأنّه قصد بالخطاب معنى آخر ، وهو المبالغة في النهي عن قتل الصيد.

قوله : «متعمّدا» حال أيضا من فاعل «قتله» ، فعلى رأي من يجوّز تعدّد الحال ، يجيز ذلك هنا ، ومن منع يقول : إنّ «منكم» للبيان ؛ حتّى لا تتعدّد الحال ، و «من» يجوّز أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وموصولة ، والفاء لشبهها بالشرطية ، ولا حاجة إليه وإن كانوا فعلوه في مواضع. قوله تعالى : (فَجَزاءٌ) الفاء جواب الشرط أو زائدة ؛ لشبه المبتدأ بالشرط ؛ فعلى الأوّل : الجملة بعدها في محلّ جزم ؛ وعلى الثّاني : في محلّ رفع ، وما بعد «من» على الأول في محلّ جزم ؛ لكونه شرطا ؛ وعلى الثاني : لا محلّ له لكونه صلة ، وقرأ الكوفيّون (١) : «فجزاء مثل» بتنوين «جزاء» [ورفعه] ورفع «مثل» ، وباقي السبعة برفعه مضافا إلى «مثل» ، ومحمّد بن مقاتل (٢) بتنوين «جزاء» ، ونصبه ، ونصب «مثل» ، والسّلمي (٣) برفع «جزاء» منونا ، ونصب «مثل» ، وقرأ (٤) عبد الله «فجزاؤه» برفع «جزاء» مضافا لضمير «مثل» رفعا.

__________________

ـ يزيد بن أبي زياد ضعيف وإن أخرج له مسلم فإنما أخرج له مقرونا بغيره ومع ضعفه فقد اختلط بأخرة.

(١) ينظر : الحجة ٣ / ٢٥٤ ، وحجة القراءات ٢٣٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٩ ، والعنوان ٨٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٥ ، وشرح شعلة ٣٥٤ ، وإتحاف ١ / ٥٤٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٢ ، والدر المصون ٢ / ٦٠٧.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) ينظر : السابق.

٥١٦

فأمّا قراءة الكوفيّين فواضحة لأنّ «مثل» صفة ل «جزاء» ، أي : فعليه «جزاء» موصوف بكونه «مثل ما قتله» أي مماثله.

قالوا : ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل ، ألا ترى أنّه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة ، إنّما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول الذي لم يقتله.

وجوّز مكي (١) وأبو البقاء (٢) وغيرهما أن يرتفع «مثل» على البدل ، وذكر الزجّاج (٣) وجها غريبا ، وهو أن يرتفع «مثل» على أنه خبر ل «جزاء» ، ويكون «جزاء» مبتدأ ، قال: «والتقدير : فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل» ؛ قال شهاب الدين : ويؤيّد هذا الوجه قراءة عبد الله : «فجزاؤه مثل» ، إلّا أن الأحسن أن يقدّر ذلك المحذوف ضميرا يعود على المقتول ، لا أن يقدّره : «فجزاء ذلك الفعل» و «مثل» بمعنى مماثل قال مكيّ : قاله الزمخشريّ (٤) ، وهو معنى اللّفظ ، فإنّها في قوّة اسم فاعل ، إلّا أنّ مكّيّا توهّم أن «مثلا» قد يكون بمعنى غير مماثل ؛ فإنه قال : «ومثل» في هذه القراءة ـ يعني قراءة الكوفيين ـ بمعنى مماثل ، والتقدير : فجزاء مماثل لما قتل ، يعني في القيمة ، أو في الخلقة ؛ على اختلاف العلماء ، ولو قدّرت مثلا على لفظه ، لصار المعنى : فعليه جزاء مثل المقتول من الصّيد ، وإنما يلزم جزاء المقتول بعينه لا جزاء مثله ؛ لأنه إذا ودى جزاء مثل المقتول ، صار إنما ودى جزاء ما لم يقتل ؛ لأنّ مثل المقتول لم يقتله ، فصحّ أن المعنى : فعليه جزاء مماثل للمقتول ، ولذلك بعدت القراءة بالإضافة عند جماعة ، قال شهاب الدين (٥) : «مثل» بمعنى مماثل أبدا ، فكيف يقول «ولو قدّرت مثلا على لفظه»؟ وأيضا فقوله : «لصار المعنى إلى آخره» هذا الإشكال الذي ذكره لا يتصوّر مجيئه في هذه القراءة أصلا ، وإنما ذكره الناس في قراءة الإضافة ؛ كما سيأتي ، وكأنه نقل هذا الإشكال من قراءة الإضافة إلى قراءة التنوين.

وأمّا قراءة باقي السّبعة ، فاستبعدها جماعة ، قال الواحديّ : «ولا ينبغي إضافة الجزاء إلى المثل ؛ لأنّ عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله ، فإنه لا جزاء عليه لمّا لم يقتله».

وقال مكيّ (٦) بعد ما تقدّم عنه : «ولذلك بعدت القراءة بالإضافة عند جماعة ؛ لأنها توجب جزاء مثل الصيد المقتول» ولا التفات إلى هذا الاستبعاد ؛ فإنّ أكثر القراء عليها ، وقد أجاب الناس عن ذلك بأجوبة سديدة ، لمّا خفيت على أولئك طعنوا في المتواتر ، منها : أنّ «جزاء» مصدر مضاف لمفعوله ؛ تخفيفا ، والأصل : فعليه جزاء مثل ما قتل ، أي : أن يجزي مثل ما قتل ، ثم أضيف ، كما تقول : «عجبت من ضرب زيدا» ثم «من

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٤.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٦.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٢٨.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٨.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٠٧.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٣٤٤.

٥١٧

ضرب زيد» ذكر ذلك الزمخشريّ (١) وغيره ، وبسط ذلك ؛ أنّ الجزاء هنا بمعنى القضاء ، والأصل : فعليه أن يجزى المقتول من الصيد مثله من النّعم ، ثم حذف المفعول الأوّل ؛ لدلالة الكلام عليه ، وأضيف المصدر إلى ثانيهما ؛ كقولك : «زيد فقير ويعجبني إعطاؤك الدّرهم» ، أي : إعطاؤك إيّاه ، ومنها : أنّ «مثل» مقحم ؛ كقولهم : «مثلك لا يفعل ذلك» ، [أي : أنت لا تفعل ذلك] وأنا أكرم مثلك أي : أنا أكرمك ، ونحو قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) [البقرة : ١٣٧] أي : بما آمنتم به ، وكقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، والتقدير ليس كهو شيء ف «مثل» زائدة. وقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢] ، ومنها أن يكون المعنى «فجزاء من مثل ما قتل من النّعم» كقولك : «خاتم فضّة» أي : «خاتم من فضة» ، وهذا خلاف الأصل فالجواب ما تقدّم و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسميّة ، أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف على كلا التقديرين ، أي : مثل ما قتله من النّعم.

فمن رفع «جزاء» ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره : فعليه جزاء.

والثاني : أنه خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : فالواجب جزاء.

والثالث : أنه فاعل بفعل محذوف ، أي : فيلزمه الجزاء ، أو يجب عليه جزاء.

الرابع : أنه مبتدأ وخبره «مثل» ، وقد تقدّم أن ذلك مذهب أبي إسحاق الزجّاج ، وتقدم أيضا رفع «مثل» في قراءة الكوفيين ؛ على أحد ثلاثة أوجه : النعت ، والبدل ، والخبر ؛ حيث قلنا : «جزاء» مبتدأ عند الزجّاج.

وأمّا قراءة «فجزاؤه مثل» ، فظاهرة أيضا ، وأمّا قراءة «فجزاء مثل» برفع «جزاء» وتنوينه ، ونصب «مثل» ، فعلى إعمال المصدر المنوّن في مفعوله ، وقد تقدّم أنّ قراءة الإضافة منه ، وهو نظير قوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤ ـ ١٥] وفاعله محذوف ، أي : فجزاء أحدكم أو القاتل ، أي : أن يجزى القاتل للصّيد ، وأما قراءة : «فجزاء مثل» بنصبهما ف «جزاء» منصوب على المصدر ، أو على المفعول به ، و «مثل» صفته بالاعتبارين ، والتقدير : فليجز جزاء مثل ، أو : فليخرج جزاء ، أو فليغرّم جزاء مثل.

قوله : «من النّعم» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه صفة ل «جزاء» مطلقا ، أي : سواء رفع أم نصب ، نوّن أم لم ينوّن ، أي : إنّ ذلك الجزاء يكون من جنس النّعم ، فهذا الوجه لا يمتنع بحال.

الثاني : أنه متعلق بنفس «جزاء» ؛ لأنه مصدر ، إلا أنّ ذلك لا يجوز إلا في قراءة من

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٩.

٥١٨

أضاف «جزاء» إلى «مثل» ، فإنه لا يلزم منه محذور ؛ بخلاف ما إذا نوّنته ، وجعلت «مثل» صفته ، أو بدلا منه ، أو خبرا له ؛ فإنّ ذلك يمتنع حينئذ ، لأنّك إن جعلته موصوفا ب «مثل» كان ذلك ممنوعا من وجهين :

أحدهما : أنّ المصدر الموصوف لا يعمل ، وهذا قد وصف.

والثاني : أنه مصدر ، فهو بمنزلة الموصول ، والمعمول من تمام صلته ، وقد تقرّر أنه لا يتبع الموصول إلا بعد تمام صلته ؛ لئلا يلزم الفصل بأجنبيّ ، وإن جعلته بدلا ، لزم أن يتبع الموصول قبل تمام صلته ، وإن جعلته خبرا ، لزم الإخبار عن الموصول قبل تمام صلته ، وذلك كلّه لا يجوز.

الثالث : ذكره أبو البقاء (١) وهو أن يكون حالا من عائد الموصول المحذوف ؛ فإنّ التقدير : فجزاء مثل الذي قتله حال كونه من النّعم ، وهذا وهم ؛ لأن الموصوف بكونه من النّعم ، إنما هو جزاء الصيد المقتول ، وأمّا الصيد نفسه ، فلا يكون من النعم ، والجمهور على فتح عين «النّعم» ، وقرأ الحسن (٢) بسكونها ، فقال ابن عطيّة (٣) : «هي لغة» ، وقال الزمخشريّ (٤) : استثقل الحركة على حرف الحلق ، كما قالوا : «الشّعر» في «الشّعر».

فصل

اختلفوا في هذا العمد : فقال قوم : هو تعمّد قتل الصّيد مع نسيان الإحرام ، أمّا إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه ، فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله تعالى ؛ لأنّه أعظم من أن يكون له كفّارة ، وهو قول مجاهد والحسن (٥).

وقال آخرون : هناك فرق بين أن يعمد المحرم قتل الصّيد ذاكرا لإحرامه ، فعليه الكفّارة ، واختلفوا فيما لو قتله خطأ ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ العمد والخطأ واحد في لزوم الكفّارة.

قال الزّهري : على المتعمّد بالكتاب ، وعلى المخطىء بالسّنّة (٦) وقال سعيد بن جبير : لا تجب كفّارة الصّيد بقتل الخطأ (٧) ، وهو قول داود.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٢ ، والدر المصون ٢ / ٦٠٨.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٨.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٩.

(٥) أخرجه الطبري (٥ / ٤٣) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

(٦) أخرجه الطبري (٥ / ٤٣) عن الزهري.

(٧) أخرجه الطبري (٥ / ٤٣) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧٨) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٥١٩

فصل

المراد بالمثل ما يقرب من الصّيد المقتول شبها من حيث الخلقة ، لا من حيث القيمة.

وقال محمّد بن الحسن : الصّيد ضربان : ما له مثل ، وما له مثل له.

فما له مثل يضمن بمثله من النّعم ، وما لا مثل له يضمن بالقيمة.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل الواجب هو القيمة.

فصل

إذا قتل المحرم الصّيد وأدّى جزاءه ، ثم قتل صيدا آخر لزمه جزاء آخر ، وقال داود : لا يجب ، وحجّة الجمهور هذه الآية ، فإنّ ظاهرها يقتضي أن يكون علّة وجوب الجزاء هو القتل ، فوجب أن يتكرّر الحكم بتكرار العلّة ، فإن قيل : إذا قال الرّجل لنسائه من دخلت منكنّ الدّار فهي طالق ، فدخلت واحدة مرّتين ، لم يقع الطّلاق مرّتين.

فالجواب أنّ القتل علّة لوجوب الجزاء ، فيلزم تكرار الوجوب لتكرار العلّة ، وأمّا دخول الدّار فهو شرط لوقوع الطّلاق ، فلم يلزم تكرار الحكم عند تكرار الشّرط ، واحتجّ داود بقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) فجزاء العائد الانتقام لا الكفّارة.

قوله : «يحكم به ذوا عدل» في موضع نصب على الحال منه ، أو على النّعت ل «جزاء» فيمن نصبه ، وخصّص أبو البقاء (١) كونه صفة بقراءة تنوين «جزاء» ، والحال بقراءة إضافته ، ولا فرق ، بل يجوز أن تكون الجملة نعتا أو حالا بالاعتبارين ؛ لأنه إذا أضيف إلى «مثل» ، فهو باق على تنكيره ؛ لأنّ «مثلا» لا يتعرّف بالإضافة ، وكذا خصّص مكي (٢) الوصف بقراءة إضافة الجزاء إلى «مثل» فإنه قال : «ومن النّعم في قراءة من أضاف الجزاء إلى «مثل» صفة ل «جزاء» ، ويحسن أن تتعلّق «من» بالمصدر ، فلا تكون صفة ، وإنما المصدر معدى إلى (مِنَ النَّعَمِ) ، وإذا جعلته صفة ، ف «من» متعلّقة بالخبر المحذوف ، وهو فعليه» ، وفي هذا الكلام نظر من وجهين :

أحدهما : قد تقدّم ، وهو التخصيص بقراءة الإضافة.

والثاني : أنه حين جعل «من النّعم» صفة علّقها بالخبر المحذوف لما تضمّنه من الاستقرار ؛ وليس كذلك ؛ لأنّ الجارّ ، إذا وقع صفة تعلّق بمحذوف ، ذلك المحذوف هو الوصف في الحقيقة ، وهذا الذي جعله متعلّقا لهذه الصفة ليس صفة للموصوف في الحقيقة ، بل هو خبر عنه ؛ ألا ترى أنك لو قلت : «عندي رجل من بني تميم» أنّ «من

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٦.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٥.

٥٢٠