اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

قوله تعالى : (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي : طريق الحقّ.

قال المفسّرون (١) : لمّا نزلت هذه الآية عيّر المسلمون أهل الكتاب ، وقالوا : يا إخوان القردة والخنازير ، فافتضحوا ونكّسوا رؤوسهم (٢) قال الشّاعر : [الرجز]

٢٠٠١ ـ فلعنة الله على اليهود

إنّ اليهود إخوة القرود (٣)

قوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ)(٦١)

قوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) : الضمير المرفوع لليهود المعاصرين ؛ فحينئذ : لا بدّ من حذف مضاف ، أي : وإذا جاءكم ذريتهم ، أو نسلهم ؛ لأنّ أولئك المجعول منهم القردة والخنازير ، لم يجيئوا ، ويجوز ألّا يقدّر مضاف محذوف ؛ وذلك على أن يكون قوله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) إلى آخره عبارة عن المخاطبين في قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) ، وأنه ممّا وضع فيه الظاهر موضع المضمر ، وكأنه قيل : أنتم ، كذا قاله أبو حيان (٤) ، وفيه نظر ؛ فإنه لا بدّ من تقدير مضاف في قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) ، تقديره : وجعل من آبائكم أو أسلافكم ، أو من جنسكم ؛ لأن المعاصرين ليسوا مجعولا منهم بأعيانهم ، فسواء جعله ممّا ذكر أم لا ، لا بدّ من حذف مضاف.

قوله تعالى : (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ) هذه جملة حالية ، وفي العامل فيها وجهان :

أحدهما ـ وبه بدأ أبو البقاء (٥) ـ : أنه «قالوا» ، أي : قالوا كذا في حال دخولهم كفرة وخروجهم كفرة ، وفيه نظر ؛ إذ المعنى يأباه.

والثاني : أنه «آمنّا» ، وهذا واضح ، أي : قالوا آمنّا في هذه الحال ، و «قد» في (وَقَدْ دَخَلُوا) «وقد خرجوا» لتقريب الماضي من الحال ، وقال الزمخشريّ : «ولمعنى آخر ، وهو : أنّ أمارات النفاق كانت لائحة عليهم ؛ فكان الرسول ـ عليه‌السلام ـ متوقّعا لإظهار الله تعالى ـ ما كتموه ، فدخل حرف التوقّع ، وهو متعلّق بقوله (قالُوا آمَنَّا) ، أي : قالوا ذلك وهذه حالهم» ، يعني بقوله : «وهو متعلق» ، أي : والحال ، وقوة كلامه تعطي : أنّ صاحب الحال وعاملها الجملة المحكيّة بالقول ، و «بالكفر» متعلق بمحذوف ؛ لأنه حال من فاعل «دخلوا» ، فهي حال من حال ، أي : دخلوا ملتبسين بالكفر ، أي : ومعهم الكفر ؛ كقولهم : «خرج زيد بثيابه» ، وقراءة من قرأ (٦) : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] ، أي : وفيها الدّهن ؛ ومنه ما أنشد الأصمعيّ : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ٣٠.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ١٥٣).

(٣) ينظر : القرطبي ٦ / ١٥٣.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣١.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢١.

(٦) ستأتي في المؤمنون آية ٢٠.

٤٢١

٢٠٠٢ ـ ومستنّة كاستنان الخرو

ف قد قطع الحبل بالمرود (١)

أي : ومروده فيه ، وكذلك «به» أيضا حال من فاعل «خرجوا».

فالباء في قوله تعالى : (دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) ، يفيد أنّ الكفر معهم حالة الدّخول والخروج من غير نقصان ، ولا تغيير ألبتّة ، كما تقول : «دخل زيد بثوبه وخرج» أي : ثوبه حال الخروج ، كما كان حال الدّخول.

وقوله : «وهم» مبتدأ ، و (قَدْ خَرَجُوا) خبره ، والجملة حال أيضا عطف على الحال قبلها ، وإنما جاءت الأولى فعليّة والثانية اسمية ؛ تنبيها على فرط تهالكهم في الكفر ؛ وذلك أنهم كان ينبغي لهم ، إذا دخلوا على الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يؤمنوا ؛ لما يرون من حسن شيمته وهيبته ، وما يظهر على يديه الشريفة من الخوارق والمعجزات ؛ ولذلك قال بعض الكفرة : «رأيت وجه من ليس بكذّاب» ، فلمّا لم ينجع فيهم ذلك ، أكّد كفرهم الثاني بأن أبرز الجملة اسمية صدرها اسم ، وخبرها فعل ؛ ليكون الإسناد فيها مرتين ، وقال ابن عطية (٢) : «وقوله : «وهم» تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ، ثم يؤمنوا ، ويخرج قوم ، وهم كفرة ، فكان ينطبق على الجميع ، وهم قد دخلوا بالكفر ، وقد خرجوا به ، فأزال الله الاحتمال بقوله : (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) ، أي : هم بأعيانهم» ، وهذا المعنى سبقه إليه الواحديّ ، فبسطه ابن عطيّة ، قال الواحديّ : (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أكّد الكلام بالضّمير ، تعيينا إياهم بالكفر ، وتمييزا لهم عن غيرهم ، وقال بعضهم : معنى «هم» التأكيد في إضافة الكفر إليهم ، ونفي أن يكون من الرسول ما يوجب كفرهم ؛ من سوء معاملته لهم ، بل كان يلطف بهم ويعاملهم أحسن معاملة ، فالمعنى : أنهم هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم ، لا أنّك أنت الذي تسبّبت لبقائهم في الكفر ، وقال أبو البقاء (٣) : «ويجوز أن يكون التقدير : وقد كانوا خرجوا به» ، ولا معنى لهذا التأويل ، والواو في قوله تعالى : (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون عاطفة لجملة حال على مثلها.

والثاني : أن تكون هي نفسها واو الحال ؛ وعلى هذا : يكون في الآية الكريمة حجة لمن يجيز تعدّد الحال لذي حال مفرد من غير عطف ، ولا بدل إلا في أفعل التفضيل ، نحو : «جاء زيد ضاحكا كاتبا» ؛ وعلى الأول : لا يجوز ذلك إلا بالعطف أو البدل ، وهذا شبيه بالخلاف في تعدّد الخبر.

قوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكُمْ) يعني : هؤلاء المنافقين وقيل : هم الذين آمنوا بالذي

__________________

(١) البيت لرجل من بني الحرث. ينظر : ابن يعيش ٨ / ٢٣ ، الكامل ٤٧٩ ، اللسان (خرف) ، رصف المباني (١٤٥) ، الدر المصون ٢ / ٥٦٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٤.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢١.

٤٢٢

أنزل على الّذين آمنوا وجه النّهار ، دخلوا على النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، وقالوا : آمنّا بك وصدّقناك فيما قلت ، وهم يسرّون الكفر.

«وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به» (١) أي : دخلوا كافرين وخرجوا كافرين ، والله أعلم بما يكتمون ، والغرض منه : المبالغة فيما في قلوبهم من الجدّ والاجتهاد في المكر بالمسلمين ، والكيد والبغض والعداوة لهم.

قالت المعتزلة (٢) : إنّه تعالى أضاف الكفر إليهم حالتي الدخول والخروج على سبيل الذّمّ ، وبالغ في تقرير تلك الإضافة بقوله : (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) ، فدلّ هذا على أنّه من العبد لا من الله تعالى.

والجواب : المعارضة بالعلم والداعي.

قوله تعالى : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٦٢)

قوله : «وترى» : يجوز أن تكون بصريّة ، فيكون «يسارعون» حالا ، وأن تكون العلميّة أو الظنيّة ، فينتصب «يسارعون» مفعولا ثانيا ، و «منهم» في محلّ نصب ؛ على أنه صفة ل «كثيرا» فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا منهم ، أو استقرّ منهم ، وقرأ (٣) أبو حيوة : «العدوان» بالكسر ، و «أكلهم» هذا مصدر مضاف لفاعله ، و «السّحت» مفعوله ، وقد تقدّم ما فيه.

فصل

الضّمير في «منهم» لليهود ، والمسارعة في الشّيء الشّروع فيه ، والمراد بالإثم الكذب ، وقيل : المعاصي ، والعدوان الظّلم ، وقيل : الإثم ما يختصّ بهم ، والعدوان ما يتعدّاهم إلى غيرهم ، وقيل : الإثم ما كتموا من التّوراة ، والعدوان ما زادوا فيها ، (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) الرّشوة (٤).

وقوله تعالى : (كَثِيراً مِنْهُمْ) لأنّهم كلّهم ما كانوا يفعلون ذلك ، لفظ المسارعة إنما [يستعمل](٥) في أكثر الأمر في الخير ، قال تعالى : (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [آل عمران : ١١٤] وقال تعالى : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) [المؤمنون : ٥٦] فكان اللّائق بهذا الموضع لفظ العجلة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٣٦) عن ابن عباس وقتادة والسدي وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤) عن قتادة وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا (٢ / ٥٢٤) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٣٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٣٢ ، والدر المصون ٢ / ٥٦٥.

(٤) في أ : الرشاة.

(٥) سقط في أ.

٤٢٣

فإن قيل : إنّه تعالى ذكر المسارعة [لفائدة ؛ وهي أنّهم](١) كانوا يقدمون على هذه المنكرات [كأنهم محقّون](٢) فيها وقد تقدّم حكم «ما» مع بئس ونعم.

قوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٦٣)

و «لو لا» : حرف تحضيض ومعناه التوبيخ أي : هلّا ، وقرأ الجرّاح وأبو واقد : «الرّبّيّون» مكان الرّبانيّين ، قال الحسن ـ رحمه‌الله ـ : «الرّبانيّون علماء أهل الإنجيل ، والأحبار علماء أهل التّوراة» (٣) ، وقال غيره (٤) : كلّهم في اليهود ؛ لأنّه متّصل بذكرهم ، والمعنى : أنّ الله استبعد من علماء أهل الكتاب أنّهم ما نهوا سفلتهم وعوامّهم عن المعاصي ، وذلك يدلّ على أنّ ترك النّهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه ؛ لأنّه تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد ، بل نقول : أنّ ذمّ تارك النهي عن المنكر أقوى ؛ لأنّه قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكلهم السّحت : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقال في العلماء (٥) التّاركين للنّهي عن المنكر : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) والصّنع أقوى من العمل ؛ فإنّما العمل يسمّى صناعة ، إذا صار مستقرّا راسخا متمكّنا ، فجعل [حرم](٦) العاملين ذنبا غير راسخ ، وذنب التّاركين للنهي المنكر ذنبا راسخا ، والأمر في الحقيقة راسخا كذلك ؛ لأنّ المعصية مرض الرّوح ، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه ، فإذا حصل هذا العلم ولم تزل المعصية ، كان كالمريض الذي يعالج بأدويته ، قلّ فيها الشّفاء ، ومثل هذا المرض صعب شديد لا يكاد يزول ، وكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دلّ على أنّ مرض فقد الإيمان في غاية القوّة والشّدّة.

روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : هي أشدّ آية في القرآن (٧) ، وعن الضّحّاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها (٨).

وقرأ (٩) ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ «بئسما» بغير لام قسم ، و «قولهم» مصدر مضاف لفاعله ، و «الإثم» مفعوله.

__________________

(١) في أ : لأنهم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ١٢٣) عن الحسن.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٣٤.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) سقط في أ.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٣٨) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٣٨) عن الضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥) وزاد نسبته لابن المبارك في «الزهد» وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٩) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٤ ، وفيه : «وقرأ عباس» وينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٢ ، والدر المصون ٢ / ٥٦٥.

٤٢٤

والظاهر أن الضمير في «كانوا» عائد على الأحبار والرّهبان ، ويجوز أن يعود على المتقدّمين.

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(٦٤)

في هذه الحكاية قولان :

أحدهما : أنه خبر محض ، وزعم بعضهم أنه على تقدير همزة استفهام ، تقديره : «أيد الله مغلولة»؟ قالوا ذلك لمّا قتّر عليهم معيشتهم ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير.

قال ابن الخطيب (١) : في هذا الموضع إشكال ، وهو أنّ الله تعالى حكى عن اليهود أنّهم قالوا ذلك ، ولا شكّ في أنّ الله تعالى صادق في كلّ ما أخبر عنه ، ونرى [اليهود](٢) مطبقين متّفقين على أنّا لا نقول ذلك ولا نعتقده ، والقول : بأنّ «يد الله مغلولة» باطل ببديهة العقل ؛ لأنّ قولنا : الله اسم لموجود قديم ، قادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه ، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة مقيّدة قاصرة ، وإلّا فكيف يمكنه ذلك مع قدرته النّاقصة حفظ العالم وتدبيره. إذا ثبت هذا فقد حصل الإشكال في كيفيّة تصحيح هذا النّقل وهذه الرّواية فنقول فيه وجوه :

الأوّل : لعلّ القوم إنّما قالوا هذا القول على سبيل الالتزام ؛ فإنّهم لمّا سمعوا قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] قالوا : لو احتاج إلى القرض لكان فقيرا عاجزا [فلما حكموا بأنّ الذي يستقرض من عباده شيئا فقير محتاج مغلول اليدين ، لا جرم حكى الله عنهم هذا الكلام](٣).

الثاني : لعلّ (٤) القوم لمّا رأوا أصحاب الرّسول عليه الصلاة والسلام في غاية الشّدّة والفقر والحاجة ، قالوا ذلك على ذلك سبيل السّخرية والاستهزاء.

قالوا : إنّ إله محمّد فقير مغلول اليد ، فلما قالوا ذلك حكى الله تعالى عنهم هذا الكلام.

الثالث : قال المفسّرون (٥) ـ رحمهم‌الله ـ : كانوا أكثر النّاس مالا وثروة ، فلما بعث الله محمدا ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فكذبّوه ضيّق الله عليهم المعيشة ، فعند

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٦ / ٣٥.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : فإنه يستقرض فإنه مغلول اليدين.

(٤) في ب : إن.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٣٥.

٤٢٥

ذلك قالت اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي : مقبوضة من العطاء على جهة الصّفة بالبخل ، والجاهل إذا وقع في البلاء والشّدّة والمحنة يقول مثل هذه الألفاظ.

الرابع : لعلّه كان فيهم ممّن كان على مذهب الفلسفة ، وهو أنّه موجب لذاته ، وأنّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد وهو أنّه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه الّتي عليها تقع ، فعبّروا عن عدم الاقتدار على التّغيير والتبديل بغلّ اليد.

الخامس (١) : قال بعضهم : المراد منه ـ هو قول اليهود أنّ الله تعالى لا يعذّبنا إلا قدر الأيّام التي عبدنا فيها العجل ـ إلّا أنهم عبّروا على كونه تعالى غير معذّب لهم إلّا هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة ، واستوجبوا اللّعن بسبب فساد العبادة ، وعدم رعاية الأدب ، وهذا قول الحسن (٢).

قال البغوي (٣) بعد أن حكى قول المفسّرين ، ثم بعده قول الحسن : والأوّل أولى (٤) لمعنى قول المفسرين لقوله تعالى بعد ذلك : (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ).

وقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا) يحتمل الخبر المحض ، ويحتمل أن يراد به الدعاء عليهم أي : أمسكت أيديهم عن الخيرات ، والمعنى : أنّه ـ تعالى ـ يعلّمنا الدّعاء عليهم ، كما علّمنا الدّعاء على المنافقين في قوله تعالى : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] فإن قيل : كان ينبغي أن يقال : «فغلت أيديهم».

فالجواب : أنّ حرف العطف وإن كان مضمرا إلا أنّه حذف لفائدة ، وهي أنّه لما حذف كان قوله (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) كالكلام المبتدأ به ففيه [زيادة](٥) قوّة ؛ لأنّ الابتداء بالشّيء يدلّ على شدّة الاهتمام به وقوّة الاعتناء ، ونظيره في الحذف والتّعقيب قوله تعالى (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧] ولم يقل : فقالوا أتتّخذنا.

وقيل : هو من الغلّ يوم القيامة في النّار كقوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٧١].

(وَلُعِنُوا) عذّبوا (بِما قالُوا) فمن لعنهم ـ أنّه مسخهم قردة وخنازير ، وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة في الدّنيا ، وفي الآخرة بالنّار.

__________________

(١) في ب : الرابع.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ١٥٤) عن الحسن.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٥٠.

(٤) ما رجحه البغوي في تفسيره بعبارته «والأول أولى» هو الثالث في كلام ابن الخطيب هنا. ينظر : البغوي ٢ / ٥٠.

(٥) سقط في أ.

٤٢٦

قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ).

وفي مصحف عبد الله (١) : «بسطان» يقال : «يد بسط» على زنة «ناقة سرح» ، و «أحد» و «مشية سجح» ، أي : مبسوطة بالمعروف ، وقرأ (٢) عبد الله : «بسيطتان» ، يقال : يد بسيطة ، أي : مطلقة بالمعروف.

[وغلّ] اليد وبسطها هنا استعارة للبخل والجود ، وإن كان ليس ثمّ يد ولا جارحة ، وكلام العرب ملآن من ذلك ، قالت العرب : «فلان ينفق بكلتا يديه» ؛ قال : [الطويل]

٢٠٠٣ ـ يداك يدا مجد ، فكفّ مفيدة ،

وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق (٣)

وقال أبو تمام : [الطويل]

٢٠٠٤ ـ تعوّد بسط الكفّ حتّى لو أنّه

دعاها لقبض لم تطعه أنامله (٤)

وقد استعارت العرب ذلك حيث لا يد ألبتة ، ومنه قول لبيد : [الكامل]

٢٠٠٥ ـ ...............

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (٥)

وقال آخر : [الكامل]

٢٠٠٦ ـ جاد الحمى بسط اليدين بوابل

شكرت نداه تلاعه ووهاده (٦)

وقالوا : «بسط اليأس كفّيه في صدري» ، واليأس معنى ، لا عين ، وقد جعلوا له كفّين مجازا ، قال الزمخشريّ : «فإن قلت : لم ثنّيت اليد في (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ، وهي في (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) مفردة؟ قلت : ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدلّ على إثبات غاية السّخاء له ، ونفي البخل عنه ، وذلك أنّ غاية ما يبذله السّخيّ من ماله بنفسه : أن يعطيه بيديه جميعا ، فبنى المجاز على ذلك».

فصل

اعلم أنه قد ورد في القرآن آيات كثيرة ناطقة بإثبات اليد ، فتارة ذكر اليد من غير

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٦ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٣٥ ، والدر المصون ٢ / ٥٦٦.

(٢) ينظر : المصادر السابقة.

(٣) البيت للأعشى. ينظر : ديوانه (٢٢٥) ، البحر المحيط ٣ / ٥٣٥ ، تفسير الطبري ٤ / ٦٣٩ ، الدر المصون ٢ / ٥٦٦.

(٤) ينظر : ديوانه (٢٢٥) ، البحر المحيط ٣ / ٥٣٤ ، الدر المصون ٢ / ٥٦٦.

(٥) عجز بيت وصدره :

وغداة ريح قد وزعت وقدة

 ...

ينظر : ديوانه (١٧٦) ، شرح القصائد العشر (٢٩٧) ، العمدة ١ / ٢٦٩ ، البحر ٣ / ٥٣٥ ، روح المعاني (١٥ / ٥٦) ، الدر المصون ٢ / ٥٦٦.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٥ ، الكشاف ١ / ٦٢١ ، الدر المصون ٢ / ٥٦٦.

٤٢٧

بيان عدد كقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] ، وتارة ذكر اليدين كما في هذه الآية ، وفي قوله تعالى لإبليس عليه اللعنة (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، وتارة أثبت الأيدي قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١] ، وإذا عرف هذا فنقول : اختلفت الأمّة في تفسير يد الله تعالى.

فقالت المجسّمة : إنّها عضو جسمانيّ كما في حقّ كلّ أحد ، واحتجّوا بقوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥] ذكر ذلك قد جاء في إلاهيّة الأصنام ، لأجل أنّه ليس لها شيء من هذه الأعضاء ، فلو لم يحصل لله هذه لزم القدح في كونه إلها ، فلما بطل ذلك ، وجب إثبات هذه الأعضاء له ، قالوا : واسم اليد موضوع لهذا العضو ، فحمله على شيء آخر ترك للّغة (١) ، وإنّه لا يجوز.

والجواب عنه : أنّه تعالى ليس بجسم ؛ لأنّ الجسم لا ينفكّ عن الحركة والسّكون وهما محدثان ، وما لا ينفكّ عن المحدث فهو محدث ، ولأنّ كلّ جسم فهو متناه في المقدار ، وكلّ ما كان متناهيا في المقدار فهو محدث ، ولأنّ كلّ جسم فهو مؤلّف من الأجزاء ، وكلّ ما كان كذلك افتقر إلى ما يؤلّفه ويركّبه ، وكلّ ما كان كذلك فهو محدث ، فثبت بهذه الوجوه أنّه يمتنع كونه تعالى جسما ، فيمتنع أن يكون عضوا جسمانيا.

وأما جمهور الموحّدين فلهم في لفظ اليد قولان :

أحدهما : قول من يقول : إنّ القرآن لمّا دلّ على إثبات اليد لله آمنّا بالله ، والعقل دلّ على أنّه يمتنع أن يكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركّب من الأجزاء والأبعاض آمنّا به ، فأمّا أنّ اليد ما هي وما حقيقتها ، فقد فوّضنا معرفتها إلى الله تعالى ، وهذه طريقة السّلف.

[وثانيهما : قول المتكلّمين فقالوا : اليد تذكر في اللّغة على وجوه :

أحدها : الجارحة](٢).

وثانيها : النّعمة : نقول : لفلان يد أشكره عليها.

وثالثها : القوّة : قال تعالى : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) [ص : ٤٥] فسّروه بذي القوّة والعقول.

وحكى سيبويه أنّهم قالوا : «لا يد لك بهذا» والمعنى : سلب كمال القدرة.

رابعها : الملك فقال في هذه الصّفة : في يد فلان ، أي : في ملكه قال تعالى : (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [البقرة : ٢٣٧] أي : يملك ذلك.

__________________

(١) في أ : للغلة.

(٢) سقط في أ.

٤٢٨

وخامسها : شدّة العناية والاختصاص ، قال : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، والمراد : تخصيص آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذا التّشريف ، فإنّه تعالى الخالق لجميع المخلوقات ، ويقال : «يدي رهن لك بالوفاء» إذا ضمنت له شيئا.

وإذا عرف هذا فنقول : اليد في حقّ الله تعالى ممتنع أن تكون الجارحة ، وأما سائر المعاني فكلّها حاصلة.

وهاهنا قول آخر : وهو أنّ أبا الحسن الأشعري زعم في بعض أقواله : أنّ اليد صفة قائمة بذات الله تعالى ، وهي صفة سوى القدرة ، ومن شأنها التّكوين على سبيل الاصطفاء.

قال : ويدلّ عليه أنّه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيده علة الكرامة لآدم واصطفائه ، فلو كانت اليد [عبارة](١) عن القدرة لامتنع كونه ـ عليه الصلاة والسلام ـ اصطفي ؛ لأنّ ذلك في جميع المخلوقات ، فلا بدّ من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتّكوين على سبيل الاصطفاء ، وأكثر العلماء زعموا : أنّ اليد في حقّ الله تعالى عبارة عن القدرة وهذا مشكل ؛ لأنّ قدرة الله واحدة ، ونصّ القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة وبإثبات الأيدي تارة أخرى ، وإن فسّرتموها بالنّعمة ، فنصّ القرآن ناطق بإثبات اليدين ، ونعم الله غير محدودة ، لقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [النحل : ١٨].

والجواب : إن اخترنا تفسير اليد بالقدرة ، كان الجواب عن الإشكال المذكور : أنّ القوم جعلوا قولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) كناية عن البخل ، فأجيبوا على وفق كلامهم ، فقيل : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ، أي : ليس الأمر على ما وصفتموه من البخل ، بل هو جواد على سبيل الكمال ، وأنّ من أعطى بيده فقد أعطى عطاء على أكمل الوجوه.

وأمّا إن اخترنا تفسير اليد بالنّعمة ، كان الجواب عن الإشكال المذكور من وجهين :

الأول : أنّ التّثنية بحسب الجنس يدخل تحت كلّ واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها ، نعمة الدنيا ونعمة الدين ، ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ، ونعمة النفع ونعمة الدفع ، ونعمة الشدة ونعمة الرخاء.

الثاني : أنّ المراد بالتّثنية المبالغة في وصف النّعمة ، ألا ترى قولك «لبّيك» ، معناه : مساعدة بعد مساعدة ، وليس المراد [منه طاعتين](٢) ولا مساعدتين ، فكذلك الآية معناها : أنّ النّعمة متظاهرة متتابعة ، ليست كما ادّعى اليهود أنّها مقبوضة ممتنعة.

قوله : «ينفق كيف يشاء» في هذه الجملة خمسة أوجه :

أحدها ـ وهو الظاهر ـ : أن لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها مستأنفة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : بطاعتين.

٤٢٩

والثاني : أنها في محلّ رفع ؛ لأنها خبر ثان ل «يداه».

والثالث : أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكنّ في «مبسوطتان» ؛ وعلى هذين الوجهين ؛ فلا بدّ من ضمير مقدّر عائد على المبتدأ ، أو على ذي الحال ، أي : ينفق بهما ، وحذف مثل ذلك قليل ، وقال أبو البقاء (١) : «ينفق كيف يشاء» مستأنف ، ولا يجوز أن يكون حالا من الهاء ـ يعني في «يداه» ـ ؛ لشيئين :

أحدهما : أنّ الهاء مضاف إليها.

والثاني : أنّ الخبر يفصل بينهما ، ولا يجوز أن تكون حالا من اليدين ؛ إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما. [قال شهاب الدين](٢) : قوله : «أحدهما : أنّ الهاء مضاف إليها» ليس ذلك بمانع ؛ لأن الممنوع إنما هو مجيء الحال من المضاف إليه ، إذا لم يكن المضاف جزءا من المضاف إليه ، أو كجزئه أو عاملا فيه ، وهذا من النوع الأول ، فلا مانع فيه ، وقوله : «والثاني : أن الخبر يفصل بينهما» هذا أيضا ليس بمانع ، ومنه : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] إذا قلنا : إن «شيخا» حال من اسم الإشارة ، والعامل فيه التنبيه. وقوله : «إذ ليس فيها ضمير» قد تقدّم أن العائد يقدّر ، أي : ينفق بهما.

الرابع : أنها حال من «يداه» ، وفيه خلاف ـ أعني مجيء الحال من المبتدأ ـ ووجه المنع : أنّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، والعامل في صاحبها أمر معنويّ لا لفظيّ ، وهو الابتداء ، وهذا على أحد الأقوال في العامل في الابتداء.

الخامس : أنها حال من الهاء في «يداه» ، ولا اعتبار بما منعه أبو البقاء ؛ لما تقدّم من تصحيح ذلك.

و «كيف» في مثل هذا التركيب شرطية ؛ نحو : «كيف تكون أكون» ومفعول المشيئة محذوف ، وكذلك جواب هذا الشرط أيضا محذوف مدلول عليه بالفعل السابق ل «كيف» ، والمعنى : ينفق كما يشاء أن ينفق ينفق ، ويبسط في السّماء ، كيف يشاء أن يبسطه يبسطه ، فحذف مفعول «يشاء» وهو «أن» وما بعدها ، وقد تقدّم أن مفعول «يشاء» و «يريد» لا يذكران إلا لغرابتهما ، وحذف أيضا جواب «كيف» وهو «ينفق» المتأخر و «يبسط» المتأخر ؛ لدلالة «ينفق ويبسط» الأولين ، وهو نظير قولك : «أقوم إن يقم زيد» ، ولا جائز أن يكون «ينفق» المتقدم عاملا في «كيف» ، لأنّ لها صدر الكلام ، وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا حرف الجر أو المضاف.

وقال الحوفيّ : «كيف» سؤال عن حال ، وهي نصب ب «يشاء» ، قال أبو حيان(٣): «ولا يعقل هنا كونها سؤالا عن حال» ، وقد تقدم الكلام عليها مشبعا عند قوله : (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران : ٦].

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٢٢١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٦٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٥.

٤٣٠

فصل

ومعنى «ينفق كيف يشاء» أي : يرزق كيف يريد وكيف يشاء ، إن شاء قتّر ، وإن شاء وسّع. وقال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) [الشورى : ٢٧].

وقال تعالى : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد : ٢٦].

وقال عزوجل : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران : ٢٦] ، وهذه الآية ردّ على المعتزلة ؛ لأنّهم قالوا : يجب على الله إعطاء الثّواب للمطيع ، ويجب عليه ألّا يعاقبه ، فهذا المنع والقيد يجري مجرى الغلّ ، فهم في الحقيقة [قائلون بأنّ يد الله مغلولة](١).

وأمّا أهل السّنّة ـ رضي الله عنهم ـ [فهم] القائلون : بأنّ الملك ملكه ، وليس لأحد عليه استحقاق ولا اعتراض ، كما قال تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [المائدة : ١٧] فقوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) لا يستقيم إلا على هذا المذهب.

قوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) والمراد بالكثير: علماء اليهود ، يعني : ازدادوا عند نزول ما أنزل إليك من ربّك من القرآن والحجج غلوا في الكفر والإنكار ، كما يقال : «ما زادتك الموعظة إلا شرّا» ، وهم كلّما نزلت آية كفروا بها فازدادوا طغيانا وكفرا.

وقيل : إقامتهم [على الكفر](٢) زيادة منهم في الكفر.

قوله تعالى : (ما أُنْزِلَ) «ما» هنا موصولة اسميّة في محلّ رفع ؛ لأنها فاعل بقوله : «ليزيدنّ» ، ولا يجوز أن تكون «ما» مصدرية ، و «إليك» قائم مقام الفاعل ل «أنزل» ، ويكون التقدير : «وليزيدنّ كثيرا الإنزال إليك» ؛ لأنه لم يعلم نفس المنزّل ، والذي يزيدهم إنما هو المنزّل ، لا نفس الإنزال ، وقوله : «منهم» صفة ل «كثيرا» فيتعلّق بمحذوف ، و «طغيانا» مفعول ثان ل «يزيد».

فصل

دلّ هذا الكلام على أنّه تعالى لا يراعي مصالح الدّين والدّنيا ؛ لأنّه تعالى علم أنّهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات ، [كفرا وضلالا ، فلو كانت أفعاله معلّلة برعاية المصالح للعباد ، لامتنع عليه إنزال تلك الآيات](٣) فلما أنزلها علمنا أنّه تعالى ما يراعي مصالح

__________________

(١) في أ : عند من يقول «يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ».

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

٤٣١

العباد ، ونظيره قوله تعالى : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] ، فإن قالوا : علم الله تعالى من حالهم سواء أنزلها أو لم ينزلها ، فإنّهم يأتون بتلك الزّيادة من الكفر ، فلهذا حسن منه تعالى إنزالها.

قلنا : فعلى هذا التّقدير لم يكن ذلك الازدياد لأجل تلك الآيات ، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدياد الكفر إلى إنزال تلك الآيات باطلا ، وذلك تكذيب لنصّ القرآن.

قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) الضمير في «بينهم» يجوز أن يعود على اليهود والنّصارى ؛ لتقديم ذكرهم ، ولاندراج الصنفين في قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ)،ويجوز أن يعود على اليهود وحدهم ، لأنّهم فرق مختلفة ، فعلى هذين قال الحسن ومجاهد (١) : يعني بين اليهود والنّصارى ، لأنّ ذكرهم جرى في قوله : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى) ، وقيل : بين فرق اليهود ، فإنّ بعضهم جبريّة ، وبعضهم قدريّة ، وبعضهم [موحّدة](٢) وبعضهم مشبّهة (٣) ، وكذلك بين فرق النّصارى كالملكانيّة والنّسطوريّة واليعقوبيّة.

فإن قيل : فهذا المعنى حاصل بين فرق المسلمين ، فكيف يمكن جعله عيبا في اليهود والنّصارى؟

فالجواب : أنّ هذه البدع إنّما حدثت بعد عصر الصّحابة والتّابعين ، أما في ذلك الزّمان فلم يكن شيء من ذلك ، فلا جرم حسن جعل ذلك عيبا في اليهود والنّصارى.

ووجه اتّصال هذا الكلام بما قبله : أنّه تعالى بيّن أنّهم إنّما ينكرون نبوّته بعد ظهور الدّلائل على صحّتها لأجل الحسد ، ولأجل حبّ الجاه والمال والسّعادة ، فلمّا رجّحوا الدّنيا على الآخرة لا جرم حرمهم سعادة الدّين ، فلذلك حرمهم سعادة الدّنيا ؛ لأنّ كلّ فريق منهم مصرّ على مذهبه ، ومبالغ في نصرته ، ويطعن في كل ما سواه من المذاهب تعظيما لنفسه وترويجا لمذهبه ، فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشّديدة بين فرقهم ، انتهى الأمر فيه إلى أنّ بعضهم يكفّر بعضا.

وقوله تعالى : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلّق ب «ألقينا» ، ويجوز أن يتعلّق بقوله : «والبغضاء» ، أي : إنّ التباغض بينهم إلى يوم القيامة ، ولا يجوز أن يتعلّق بالعداوة ؛ لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبيّ ، وهو المعطوف ؛ وعلى هذا : فلا يجوز أن تكون المسألة من التنازع ؛ لأن شرطه تسلّط كلّ من العاملين ، والعامل الأول هنا لو سلّط على المتنازع فيه ، لم يجز للمحذور المذكور ، وقد نقل بعضهم : أنه يجوز التنازع في فعلي التعجّب مع التزام إعمال الثاني ؛ لأنه لا يفصل بين فعل التعجّب ومعموله ، وهذا

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٣٥ ، والبغوي ٢ / ٥٠.

(٢) في أ : حية.

(٣) في أ : مشيئة.

٤٣٢

مثله ، أي : يلتزم إعمال العامل الثاني ، وهو خارج عن قياس التنازع ، وتقدّم لك نظيره ، والفرق بين العداوة والبغضاء : أن العداوة كلّ شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس ، قاله ابن عطيّة (١) وقال أبو حيان (٢) : «العداوة أخصّ من البغضاء ؛ لأنّ كلّ عدوّ مبغض ، وقد يبغض من ليس بعدوّ».

قوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) ، وهذا نوع آخر من أنواع المحن في اليهود ، وهو أنّهم كلّما همّوا بأمر من الأمور جعلوا فيه خاسرين خائبين مقهورين مغلوبين.

قال المفسرون (٣) : يعني اليهود أفسدوا وخالفوا حكم التّوراة ، فبعث الله عليهم بختنصّر ثمّ أفسدوا فبعث عليهم طيطوس الرّومي ، ثم أفسدوا فسلّط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين.

وقيل : كلّما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمّد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وأوقدوا نارا لمحاربته أطفأها الله ، فردّهم وقهرهم ونصر دينه ونبيّه ، وهذا قول الحسن (٤) وقال قتادة : هذا عامّ في كل حرب طلبته اليهود ، فلا تلقى اليهود في بلد إلا وجدتهم من أذلّ النّاس (٥).

قوله تعالى : (لِلْحَرْبِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «أوقدوا» ، أي : أوقدوها لأجل الحرب.

والثاني : أنه صفة ل «نارا» فيتعلّق بمحذوف ، وهل الإيقاد حقيقة أو مجاز؟ قولان.

و «أطفأها الله» جواب «كلّما» ، وهو أيضا حقيقة أو مجاز ؛ على حسب ما تقدّم ، والحرب مؤنثة في الأصل مصدر وقد تقدّم الكلام عليها في البقرة ، وقوله : «فسادا» قد تقدّم نظيره [الآية ٣٣ من المائدة] ، وأنه يجوز أن يكون مصدرا من المعنى ؛ وحينئذ لك اعتباران :

أحدهما : ردّ الفعل لمعنى المصدر ، والثاني : ردّ المصدر لمعنى الفعل ، وأن يكون حالا ، أي: يسعون سعي فساد ، أو : يفسدون بسعيهم فسادا ، أو : يسعون مفسدين ، وأن يكون مفعولا من أجله ، أي : يسعون لأجل الفساد والألف واللام في «الأرض» يجوز أن تكون للجنس وأن تكون للعهد.

ثم قال : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ، وهذا يدلّ على أنّ السّاعي في الأرض بالفساد ممقوت عند الله.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٦.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٥٠.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٤٣).

(٥) أخرجه الطبري (٤ / ٦٤٣) وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٦) عن قتادة.

٤٣٣

جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٦٦)

وقد تقدّم الكلام على نظير قوله : «ولو أنّ».

واعلم أنّه تعالى لما بالغ في ذمّهم وتهجين طريقهم ، بيّن أنهم لو آمنوا بمحمّد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ واتقوا لكفّرنّا عنهم سيّئاتهم ، ولأدخلناهم جنات النّعيم.

فإن قيل : الإيمان وحده سبب مستقلّ [باقتضاء تكفير](٢) السّيّئات ، وإعطاء الحسنات ، فلم ضمّ إليه شرط آخر وهو التّقوى.

فالجواب : أنّ المراد كونه آتيا الإيمان لغرض التّقوى ، والطّاعة لا لغرض آخر من الأغراض العاجلة كما يفعله المنافقون.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الآية لما بيّن تعالى في الآية الأولى أنّهم لو آمنوا لفازوا بسعادة الآخرة ، بيّن في هذه الآية أيضا ، أنّهم لو آمنوا لفازوا بسعادة الدّنيا ووجدوا طيّباتها وخيراتها ، وفي إقامة التّوراة والإنجيل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يعملوا بما فيهما من الوفاء بالعهود ، ومن الإقرار باشتمالهما على الدّلائل الدّالّة على بعثة محمّد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ.

وثانيها : أنّ المراد إقامة أحكامهما وحدودهما ، كما يقال : أقام الصّلاة إذا قام بحدودها وحقوقها ، ولا يقال لمن لم يوفّ بشرائطها أنّه أقامها.

وثالثها : [أنّ المراد](٣) جعلوهما نصب أعينهم ، لئلّا يزلّوا في شيء من حدودهما.

وقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني : القرآن وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيل مثل كتب شعيب ، وكتاب حيقوق ، وكتاب دانيال ، فإنّ هذه الكتب مملوءة من البشارة بمبعث محمّد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ.

قوله تعالى : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) : مفعول الأكل هنا محذوف اقتصارا ، أي : لوجد منهم هذا الفعل ، و «من فوقهم» متعلّق به ، أي : لأكلوا من الجهتين ، وقال أبو البقاء (٤) : «إنّ (مِنْ فَوْقِهِمْ) صفة لمفعول محذوف ، أي : لأكلوا رزقا كائنا من فوقهم».

فصل

اعلم أنّ اليهود لما أصرّوا على تكذيب سيّدنا محمّد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ أصابهم القحط والشّدّة ، وبلغوا إلى حيث قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ، فبيّن الله لهم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : لتكفير الذنوب.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢١.

٤٣٤

أنّهم لو تركوا ذلك الكفر لانقلب [الأمر](١) وحصل الخصب والسّعة.

قوله تعالى : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).

قيل : المراد منه المبالغة في شرح السّعة والخصب ، والمعنى : لأكلوا أكلا متّصلا كثيرا ، كما يقال : «فلان في الخير من فوقه إلى قدمه» يريد كثرة الخير عنده ؛ قاله الفرّاء (٢).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : المراد (مِنْ فَوْقِهِمْ) نزول المطر ، و (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) خروج النّبات (٣) كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] ، وقيل : الأكل من فوق كثرة الأشجار المثمرة ، ومن تحت الأرجل الزّروع المغلة ، وقيل : يرزقهم الله تعالى الجنان البالغة الثّمار ما ينزل منها من رؤوس الشّجر ، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم ، وهذا إشارة إلى ما جرى على اليهود من بني قريظة وبني النّضير ، من قطع نخيلهم ، وإفساد زروعهم وقوله تعالى : (مِنْهُمْ) خبر مقدّم ، و «أمّة» مبتدأ ، و «مقتصدة» صفتها ، وعلى رأي الأخفش يجوز أن تكون «أمّة» فاعلا بالجار ، وقوله : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) تنويع في التفصيل ، فأخبر في الجملة الأولى ، بالجارّ والمجرور ، ووصف المبتدأ بالاقتصاد ، ووصف المبتدأ في الجملة الثانية ب «منهم» ، وأخبر عنه بجملة قوله : (ساءَ ما يَعْمَلُونَ) ؛ وذلك لأنّ الطائفة الأولى ممدوحة ، فوصفوا بالاقتصاد ، وأخبر عنهم بأنّهم من جملة أهل الكتاب ؛ فإنّ الوصف ألزم من الخبر ؛ فإنهم إذا أسلموا ، زال عنهم هذا الاسم ، وأما الطائفة الثانية ، فإنهم وصفوا بكونهم من أهل الكتاب ؛ فإنّ الوصف ألزم ، وهم كفّار فهم منهم ، وأخبر عنهم بالجملة الذّمّيّة ، فإنّ الخبر ليس بلازم ، وقد يسلم منهم ناس ، فيزول عنهم الإخبار بذلك.

فصل

المراد بالأمّة المقتصدة : مؤمنو أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام من اليهود والنّجاشيّ من النّصارى ، «مقتصدة» أي : عادلة غير غالية ولا مقصّرة ، والاقتصاد في اللّغة : الاعتدال في العمل من غير غلوّ ولا تقصير.

وقيل : المراد بالأمّة المقتصدة : كفّار أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم ، ولا يكون فيهم عناد شديد ولا غلظة ، كما قال تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٧٥].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٤٠.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٤٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس

٤٣٥

قوله تعالى : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) ، وفيه معنى التعجّب ، كأنّه قيل [كثير](١) منهم ما أسوأ عملهم.

والمراد بهم : الأجلاف المبغضون ، مثل كعب بن الأشرف وأصحابه و «ساء» هذه يجوز فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون تعجبا ؛ كأنه قيل : ما أسوأ عملهم ، ولم يذكر الزمخشريّ (٢) غيره ، ولكن النحاة لمّا ذكروا صيغ التعجّب لم يعدّوا فيها «ساء» ، فإن أراد من جهة المعنى ، لا من جهة التعجّب المبوب له في النحو فقريب.

الثاني : أنها بمعنى «بئس» فتدلّ على الذّمّ ؛ كقوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف : ١٧٧].

وقال البغوي (٣) : بئس ما يعملون ، بئس شيئا عملهم.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : عملوا بالقبيح مع التّكذيب بالنّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ.

وعلى هذين القولين ف «ساء» غير متصرّفة ، لأن التعجّب وباب المدح والذمّ لا تتصرّف أفعالهما.

الثالث : أن تكون «ساء» المتصرّفة ؛ نحو : ساء يسوء ، ومنه : (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) [الإسراء : ٧] (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [تبارك : ٢٧] ، والمتصرّفة متعدية ؛ قال تعالى: (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) فإن قيل فأين مفعول هذه؟ قيل : هو محذوف ، تقديره : ساء عملهم المؤمنين ، والّتي بمعنى «بئس» لا بدّ لها من مميّز ، وهو هنا محذوف ، تقديره : ساء عملا الذي كانوا يعملونه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٦٧)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية : ناداه المولى سبحانه بأشرف الصّفات البشرية ، وقوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [وهو قد بلّغ!!] فأجاب الزمخشريّ (٤) بأن المعنى : جميع ما أنزل إليك ، أي : أيّ شيء أنزل غير مراقب في تبليغه أحدا ، ولا خائف أن ينالك مكروه ، وأجاب ابن عطية (٥) بقريب منه ، قال : «أمر الله رسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال ؛ لأنه كان قد بلّغ» ، وأجاب غيرهما بأنّ المعنى

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٥٨.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٥١.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٥٨.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٧.

٤٣٦

على الديمومة ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) [الأحزاب : ١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [النساء : ١٣٦].

وقوله : «ما» يحتمل أن تكون اسمية بمعنى «الّذي» ولا يجوز أن تكون نكرة موصوفة ؛ لأنه مأمور بتبليغ الجميع كما مرّ ، والنكرة لا تفي بذلك ؛ فإن تقديرها : «بلّغ شيئا أنزل إليك» ، وفي «أنزل» ضمير مرفوع يعود على ما قام مقام الفاعل ، وتحتمل على بعد أن تكون «ما» مصدريّة ؛ وعلى هذا ؛ فلا ضمير في «أنزل» ؛ لأنّ «ما» المصدرية حرف على الصّحيح ؛ فلا بدّ من شيء يقوم مقام الفاعل ، وهو الجارّ بعده ؛ وعلى هذا : فيكون التقدير : بلّغ الإنزال ، ولكنّ الإنزال لا يبلّغ فإنه معنى ، إلا أن يراد بالمصدر : أنه واقع موقع المفعول به ، ويجوز أن يكون المعنى : «اعلم بتبليغ الإنزال» ، فيكون مصدرا على بابه.

والمعنى أظهر تبليغه ، كقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤].

فصل

روي عن مسروق [قال](١) : قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «من حدّثك أنّ محمّدا ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ كتم شيئا ممّا أنزل الله ، فقد كذب» وهو سبحانه وتعالى يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية (٢).

وروي عن الحسن : أنّ الله لمّا بعث رسوله ، وعرف أنّ من النّاس من يكذّبه ، فنزلت هذه الآية (٣) ، وقيل : نزلت في عيب من اليهود وذلك (٤) أنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ دعاهم إلى الإسلام ، فقالوا : أسلمنا قبلك (٥) ، وجعلوا يستهزئون به فيقولون : تريد أن نتّخذك حنانا كما اتّخذ النّصارى عيسى حنانا ، فلمّا رأى النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ذلك سكت ، فنزلت هذه الآية (٦) ، فأمره أن يقول لأهل الكتاب : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) الآية.

وقيل : بلّغ الإنزال ما أنزل إليك من الرّجم (٧) والقصاص في قصّة اليهود ، وقيل : نزلت في أمر زينب بنت جحش ونكاحها (٨).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ١٥٧) ، والبغوي ٢ / ٥١.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٨) وعزاه لأبي الشيخ عن الحسن والأثر في «تفسير الرازي» (١٢ / ٤١) عن الحسن.

(٤) في ب : واستهزائهم بالدين وذلك.

(٥) في أ : قبلنا.

(٦) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٢ / ٤٢.

(٧) انظر المصدر السابق.

(٨) انظر المصدر السابق.

٤٣٧

وقيل : نزلت في الجهاد (١) وذلك أنّ المنافقين كرهوه ، كما قال تعالى : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد : ٢٠] فكرهه بعض المؤمنين.

قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) [النساء : ٧٧] الآية ، وكان النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ يمسك في بعض الأحايين عن الحثّ عن الجهاد لما يعلم من كراهة بعضهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى : بلّغ واصبر على تبليغ ما أنزله إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم ، فإنّ الله تعالى يعصمك من كيدهم ومكرهم ، وقيل : نزلت في حجّة الوداع ، لمّا بيّن الشّرائع والمناسك قال : هل بلّغت؟ قالوا : نعم قال : اللهم فاشهد (٢) ، وقيل : لمّا نزلت آية التّخيير وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) [الأحزاب : ٢٨] فلم يعرضها عليهنّ خوفا من اختيارهنّ للدّنيا فنزلت.

قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ، أي : وإن لم تفعل التبليغ ، فحذف المفعول به ، ولم يقل : «وإن لم تبلّغ فما بلّغت» لما تقدّم في قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) في البقرة [آية : ٢٤] ، والجواب لا بدّ أن يكون مغايرا للشرط ؛ لتحصل الفائدة ، ومتى اتّحدا ، اختلّ الكلام ، لو قلت : «إن أتى زيد ، فقد جاء» ، لم يجز ، وظاهر قوله : «وإن لم تفعل ، فما بلّغت» اتحاد الشرط والجزاء ، فإن المعنى يئول ظاهرا إلى قوله : وإن لم تفعل ، لم تفعل ، وأجاب الناس عن ذلك بأجوبة ؛ أسدّها : ما قاله الزمخشريّ ، وقد أجاب بجوابين :

أحدهما : أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرّسالات وكتمها كلّها ؛ كأنه لم يبعث رسولا ـ كان أمرا شنيعا لا خفاء بشناعته ، فقيل : إن لم تبلّغ أدنى شيء ، وإن كلمة واحدة ، فكنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلّها ، كما عظّم قتل النفس في قوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢].

والثاني : المراد : وإن لم تفعل ذلك ، فلك ما يوجب كتمان الوحي كلّه من العقاب ، فوضع السّبب موضع المسبّب ؛ ويؤيده : «فأوحى الله إليّ : إن لم تبلّغ رسالاتي ، عذّبتك».

وأجاب ابن عطية (٣) : أي : وإن تركت شيئا ، فقد تركت الكلّ ، وصار ما بلّغت غير معتدّ به ، فمعنى «وإن لم تفعل» : «وإن لم تستوف» ؛ ونحو هذا قول الشاعر : [الطويل]

٢٠٠٧ ـ سئلت فلم تبخل ، ولم تعط نائلا ،

فسيّان لا حمد عليك ولا ذمّ (٤)

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٨.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٩ ، المحرر الوجيز ٢ / ٢١٨ ، الدر المصون ٢ / ٥٧٠.

٤٣٨

أي : فلم تعط ما يعدّ نائلا ، وإلّا يتكاذب البيت ، يعني بالتكاذب أنه قد قال : «فلم تبخل» فيتضمّن أنه أعطى شيئا ، فقوله بعد ذلك : «ولم تعط نائلا» لو لم يقدّر نائلا يعتدّ به ، تكاذب ، وفيه نظر ؛ فإن قوله «لم تبخل ولم تعط» لم يتواردا على محلّ واحد ؛ حتّى يتكاذبا ، فلا يلزم من عدم التقدير الذي قدّره ابن عطية كذب البيت ، وبهذا الذي ذكرته يتعيّن فساد قول من زعم أنّ هذا البيت ممّا تنازع فيه ثلاثة عوامل : سئلت وتبخل وتعط ، وذلك لأن قوله : «ولم تبخل» على قول هذا القائل متسلّط على طائل ، فكأنه قيل : فلم تبخل بطائل ، وإذا لم يبخل به ، فقد بذله وأعطاه ، فيناقضه قوله بعد ذلك «ولم تعط نائلا».

وقد أفسد ابن الخطيب (١) جواب ابن عطيّة فقال : «أجاب الجمهور ب «إن لم تبلّغ واحدا منها ، كنت كمن لم يبلّغ شيئا» ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ من ترك البعض وأتى بالبعض ، فإن قيل : إنه ترك الكلّ ، كان كذبا ، ولو قيل : إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المحال الممتنع ؛ فسقط هذا الجواب ، والأصحّ عندي : أن يقال : خرج هذا الجواب على قانون قوله : [الرجز]

٢٠٠٨ ـ أنا أبو النّجم وشعري شعري (٢)

ومعناه : أنّ شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة إلى حيث متى قيل : إنه شعري ، فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يزاد عليها ، وهذا الكلام يفيد المبالغة التامّة من هذا الوجه ، فكذا هنا ، كأنه قال : فإن لم تبلّغ رسالاته ، فما بلّغت رسالاته ، يعني : أنه لا يمكن أن يوصف ترك التبليغ بتهديد أعظم من أنه ترك التبليغ ، فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد».

قال أبو حيان (٣) : «وما ضعّف به جواب الجمهور لا يضعّف به ؛ لأنه قال : «فإن قيل : إنه ترك الكلّ ، كان كذبا» ، ولم يقولوا ذلك ، إنما قالوا : إنّ بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإن لم تؤدّ بعضها ، فكأنّك أغفلت أداءها جميعها ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلّها ؛ لإدلاء كلّ منها بما يدلي به غيرها ، وكونها كذلك في حكم شيء واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلّغا غير مبلّغ ، مؤمنا به غير مؤمن به ؛ فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتدّ به» ، قال شهاب الدين (٤) : وهذا الكلام الأنيق ، أعني : ما وقع به الجواب عن اعتراض الرّازيّ كلام الزمخشري أخذه ونقله إلى هنا ، وتمام كلام الزمخشريّ : أن قال بعد قوله : «غير مؤمن» ، وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «إن كتمت آية لم تبلّغ رسالاتي» (٥) ، وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «بعثني الله برسالاته ، فضقت بها ذرعا ، فأوحى الله إليّ : إن لم تبلّغ رسالاتي ، عذّبتك وضمن لي

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ٤٨.

(٢) تقدم ٩٩٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٧١.

(٥) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ١٥٧) عن ابن عباس.

٤٣٩

العصمة ؛ فقويت» (١) ، قال أبو حيّان (٢) : «وأما ما ذكر من أن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكلّ محال ممتنع ، فلا استحالة فيه ؛ لأن لله تعالى أن يرتّب على الذنب اليسير العقاب العظيم ، وبالعكس ، ثم مثّل بالسارق الآخذ خفية يقطع ويردّ ما أخذ ، وبالغاصب يؤخذ منه ما أخذ دون قطع».

وقال الواحديّ : أي : إن يترك إبلاغ البعض ، كان كمن لم يبلّغ ؛ لأنّ تركه البعض محبط لإبلاغ ما بلّغ ، وجرمه في كتمان البعض كجرمه في كتمان الكلّ ؛ في أنه يستحقّ العقوبة من ربّه ، وحاشا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكتم شيئا ممّا أوحى الله تعالى إليه ، وقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «من زعم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم شيئا من الوحي ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ (٣) بَلِّغْ) ، ولو كتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من الوحي ، لكتم قوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) [الأحزاب : ٣٧] الآية» ، وهذا قريب من الأجوبة المتقدّمة ؛ ونظير هذه الآية في السؤال المتقدّم الحديث الصحيح عن عمر بن الخطّاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ : «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» : فإنّ نفس الجواب هو نفس الشرط ، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقدير تحصل به المغايرة ، فقالوا : «تقديره : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيّة وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا ، ويمكن أن يأتي فيه جواب الرّازيّ الذي اختاره.

وقرأ (٣) نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : «رسالاته» جمعا ، والباقون : «رسالته» بالتوحيد ، ووجه الجمع : أنه عليه‌السلام بعث بأنواع شتّى من الرسالة ؛ كأصول التوحيد ، والأحكام على اختلاف أنواعها ، والإفراد واضح ؛ لأنّ اسم الجنس المضاف يعمّ جميع ذلك ، وقد قال بعض الرسل : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) [الأعراف : ٦٢] ، وبعضهم قال : (رِسالَةَ رَبِّي) [الأعراف : ٧٩] ؛ اعتبارا للمعنيين.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي : يحفظك ، ويمنعك من النّاس.

روي أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها ، فأتاه أعرابيّ ـ وهو نائم ـ ، فأخذ سيفه واخترطه ، وقال : يا محمّد من يمنعك منّي؟ فقال : «الله» فرعدت يد الأعرابيّ ، وسقط من يده ، وضرب برأسه الشّجرة حتى انتثر دماغه (٤) ، فأنزل الله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٨) وعزاه لأبي الشيخ عن الحسن مرسلا.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٩.

(٣) ينظر : السبعة ٢٤٦ ، والحجة ٣ / ٢٣٩ ، وحجة القراءات ٢٣٢ ، والعنوان ٨٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٣ ، وشرح شعلة ٣٥٣ ، وإتحاف ١ / ٥٤٠.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٤٨) عن محمد بن كعب القرظي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٣٠) وعزاه للطبري وحده.

٤٤٠