اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

وقال تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [البينة : ١] ، وقال تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥] ، اتّفقوا على جر «المشركين» عطفا على أهل الكتاب ، ولم يعطف على العامل الرّافع قاله الواحدي.

يعني [بذلك](١) : أنّه أطلق الكفّار على أهل الكتاب ، وعلى عبدة الأوثان المشركين ، ويدلّ على أنّ المراد بالكفّار في آية المائدة «المشركون» ، قراءة عبد الله (٢) «ومن الّذين أشركوا» ورجّحت قراءة أبي عمرو أيضا بالقرب ، فإن المعطوف عليه قريب ، ورجّحت أيضا بقراءة أبيّ «ومن الكفّار» بالإتيان ب «من».

وأما قراءة الباقين ، فوجهها أنّه عطف على الموصول الأوّل ، أي : لا تتّخذوا المستهزئين ، ولا الكفّار أولياء ، فهو كقوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٢٨] ، إلّا أنه ليس في هذه القراءة تعرّض للإخبار باستهزاء المشركين ، وهم مستهزئون أيضا ، قال تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥] فالمراد به : مشركو العرب ، ولوضوح قراءة الجرّ قال مكي بن أبي طالب : «ولو لا اتّفاق الجماعة على النّصب ، لاخترت الخفض لقوّته في المعنى ، ولقرب المعطوف من المعطوف عليه».

ثم قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(٥٨)

[الضّمير في «اتّخذوها» يجوز](٣) أن يعود على الصّلاة وهو الظّاهر ، ويجوز أن يعود على المصدر المفهوم من الفعل ، أي : اتّخذوا المناداة ، ذكره الزّمخشري ، وفيه بعد ؛ إذ لا حاجة مع التّصريح بما يصلح أن يعود عليه الضّمير ، بخلاف قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

فصل

قال الكلبي : كان منادي رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، إذا نادى إلى الصّلاة وقام المسلمون إليها ، قالت اليهود : قاموا لا قاموا ، وصلّوا لا صلّوا على طريق الاستهزاء وضحكوا ، فأنزل الله هذه الآية الشّريفة (٤) ، وقال السّدّي : نزلت في رجل من النّصارى بالمدينة ، كان إذا سمع المؤذّن يقول : أشهد أن محمّدا رسول الله ـ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٦ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٢.

(٣) سقط في أ.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ١٤٦) عن الكلبي وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (٦ / ٢٧٥) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

٤٠١

قال : حرق الكاذب ، فدخل [خادمه] ذات ليلة بنار وهو وأهله نيام ، فتطايرت منها شرارة ، فاحترق البيت وأهله (١).

وقال آخرون (٢) : إن الكفّار لما سمعوا الأذان حسدوا المسلمين ، فدخلوا على رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وقالوا : يا محمّد : لقد ابتدعت شيئا لم يسمع به فيما مضى من الأمم ، فإن كنت تدّعي النّبوة فقد خالفت فيما أحدثت الأنبياء قبلك ، ولو كان فيه خيرا لكان أولى النّاس به الأنبياء ، فمن أين لك صياح كصياح العير ، فما أقبح من صوت ، وما أسمج من أمر ، فأنزل الله هذه الآية ، ونزل : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٣] قالوا : دلّت هذه الآية على ثبوت الأذان بنصّ الكتاب لا بالمنام وحده.

قال القرطبي (٣) : قال العلماء ـ رضي الله عنهم ـ ولم يكن الأذان بمكّة قبل الهجرة ، وإنما كانوا ينادون «الصّلاة جامعة» ، فلما هاجر النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان ، وبقي «الصّلاة جامعة» للأمر ، وكان النبي ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ قد أهمّه أمر الأذان حتى أريه عبد الله بن زيد ، وعمر بن الخطاب وأبو بكر الصّدّيق ـ رضي الله عنهم ـ وقد كان النبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ سمع الأذان ليلة الإسراء إلى السّماء ، وأما رؤيا عبد الله بن زيد وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فمشهورة ، وأمر النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ بلالا فأذّن بالصّلاة أذان اليوم ، وزاد بلال في الصّبح «الصّلاة خير من النّوم» ، فأقرّها رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، وليست فيما رآه الأنصاري ، ذكره ابن سعد عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ، ثمّ ذكر الدّارقطنيّ ؛ أن الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ أري الأذان ، وأنّه أخبر النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، وأن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ أمر بلالا بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد ، ذكره الدّار قطني في كتاب «المدبج» له في حديث النّبي ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ عن أبي بكر الصّدّيق ـ رضي الله عنه (٤).

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) مبتدأ وخبر ، أي : ذلك الاستهزاء مستقرّ ؛ بسبب عدم عقلهم.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)(٥٩)

لما حكى عنهم أنهم اتّخذوا دين الإسلام هزوا ولعبا ، فقال : ما الذي تجدون فيه ممّا يوجب اتّخاذه هزوا ولعبا؟

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٣١) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٢ / ٤٨.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٤٦.

(٤) ينظر : القرطبي ٦ / ١٤٦.

٤٠٢

قوله تعالى : (هَلْ تَنْقِمُونَ:) قراءة الجمهور بكسر القاف ، وقراءة (١) النّخعي ، وابن أبي عبلة ، وأبي حيوة بفتحها ، وهاتان القراءتان مفرّعتان على الماضي ، وفيه لغتان : الفصحى ، وهي التي حكاها ثعلب في «فصيحه» : نقم بفتح القاف ، ينقم بكسرها.

والأخرى : نقم بكسر القاف ينقم بفتحها ، وحكاها الكسائي ، ولم يقرأ في قوله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) [البروج : ٨] إلا بالفتح.

قال الكسائي (٢) : «نقم» بالكسر لغة ، ونقمت الأمر أيضا ، ونقمته إذا كرهته ، وانتقم الله منه إذا عاقبه ، والاسم منه : النّقمة ، والجمع نقمات ونقم مثل كلمة وكلمات وكلم ، وإن شئت سكّنت القاف ، ونقلت حركتها إلى النّون فقلت نقمة ، والجمع : نقم ، مثل نعمة ونعم ، نقله القرطبي وأدغم الكسائي لام «أهل» في تاء «تنقمون» ، ولذلك تدغم لام «هل» في التّاء والنّون ووافقه حمزة في التّاء والثّاء وأبو عمرو في «هل ترى» في موضعين.

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أتى رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ نفر من اليهود : أبو ياسر بن أخطب ، ورافع بن أبي رافع وغيرهما ، فسألوه : عمّن يؤمن به من الرّسل ، فقال : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) ، إلى قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فلما ذكر عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ جحدوا نبوته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أكثر خطأ في الدّنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرّا من دينكم ، فأنزل الله هذه الآية الكريمة(٣).

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) ، مفعول ل «تنقمون» بمعنى : تكرهون وتعيبون ، وهو استثناء مفرّغ.

و «منّا» متعلّق به ، أي : ما تكرهون من جهتنا ، إلّا الإيمان وأصل «نقم» أن يتعدّى ب «على» ، نقول : «نقمت عليه كذا» وإنّما عدّي هنا ب «من» لمعنى يأتي.

وقال أبو البقاء (٤) : و «منّا» مفعول «تنقمون» الثّاني ، وما بعد «إلّا» هو المفعول الأوّل ، ولا يجوز أن يكون «منّا» حالا من «أن» والفعل لأمرين :

أحدهما : تقدّم الحال على «إلّا».

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٧ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٣ ، والشواذ (٣٩).

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٥١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٣٢) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٢) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٠.

٤٠٣

والثاني : تقدم الصّلة على الموصول ، والتّقدير : هل تكرهون منّا إلّا إيماننا. انتهى.

وفي قوله : مفعول أوّل ، ومفعول ثان نظر ؛ لأنّ الأفعال الّتي تتعدّى لاثنين إلى أحدهما بنفسها ، وإلى الآخر بحرف الجرّ محصورة ك «أمر» ، و «اختار» ، و «استغفر» ، و «صدّق» و «سمّى» ، و «دعا» بمعناه ، و «زوّج» ، و «نبّأ» ، و «أنبأ» ، و «خبّر» ، و «أخبر» ، و «حدّث» غير مضمّنة معنى «أعلم» ، وكلّها يجوز فيها إسقاط الخافض والنّصب ، وليس هذا منها (١).

وقوله : «ولا يجوز أن يكون حالا» يعني : أنّه لو تأخّر بعد (أَنْ آمَنَّا) لفظة «منّا» ، لجاز أن تكون حالا من المصدر المؤوّل من «أن» وصلتها ، ويصير التّقدير : هل تكرهون إلّا الإيمان في حال كونه «منا» ، لكنّه امتنع من تقدّمه على (أَنْ آمَنَّا) للوجهين المذكورين.

أحدهما : تقدّمه على «إلّا» ويعني بذلك : أن الحال لا تتقدم على «إلّا».

قال شهاب الدّين (٢) : ولا أدري ما يمنع ذلك لأنه إذا جعل «منّا» حالا من «أن» و «ما» في حيزها كان حال الحال مقدرا (٣) ، ويكون صاحب الحال محصورا ، وإذا كان صاحب الحال محصورا وجب تقديم الحال عليه ، فيقال : «ما جاء راكبا إلّا زيد» ، و «ما ضربت مكتوفا إلا عمرا» ، ف «راكبا» و «مكتوفا» حالان مقدمان وجوبا لحصر صاحبيهما فهذا مثله.

وقوله : «[والثاني : تقدّم الصلة على الموصول](٤)» لم تتقدّم صلة على موصول.

بيانه : أنّ الموصول هو «أن» ، والصلة «آمنّا» ، و «منّا» ليس متعلّقا بالصلة ، بل هو معمول لمقدّر ، ذلك المقدر في الحقيقة منصوب ب «تنقمون» ، فما أدري ما توهمه حتى قال ما قال؟

على أنه لا يجوز أن يكون حالا ، لكن لا لما ذكر ؛ بل لأنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير : «هل تنقمون إلا إيماننا منا» فمن نفس قوله : «إيماننا» فهم أنّه منّا ، فلا فائدة فيه حينئذ.

فإن قيل : تكون حالا مؤكدة.

قيل : هذا خلاف الأصل ، وليس هذا من مظانّها ، وأيضا فإنّ هذا شبيه بتهيئة العامل للعمل ، وقطعه عنه ، فإن «تنقمون» يطلب هذا الجار طلبا ظاهرا.

وقرأ الجمهور «وما أنزل إلينا وما أنزل [من قبل](٥)» بالبناء للمفعول فيهما ، وقرأ (٦) أبو نهيك : «أنزل ، وأنزل» بالبناء للفاعل ، وكلتاهما واضحة.

__________________

(١) في أ : منا.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٥٣.

(٣) في أ : مقدم.

(٤) في ب : وأصل الكلام ، قدم الصلة على الموصول والموصول.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٠ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٧.

٤٠٤

فصل

المعنى : قل لأهل الكتاب : لم اتخذتم هذا الدين هزوا ولعبا ، ثم قال على سبيل التعجب : هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله؟! فهو رأس جميع الطاعات ، وإلّا الإيمان بمحمد ، وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق ؛ لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في ادعاء الرسالة والنبوة هو المعجزة. ثم رأينا أن المعجز حصل على يدي محمد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ فوجب الإقرار بكونه رسولا ، فأمّا الإقرار بالبعض ، وإنكار البعض فذلك تناقض ومذهب باطل.

قوله تعالى : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) قرأ الجمهور : «أنّ» مفتوحة الهمزة.

وقرأ (١) نعيم بن ميسرة بكسرها.

فأمّا قراءة الجمهور فتحتمل «أنّ» فيها أن تكون في محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، فالرفع من وجه واحد ، وهو أن تكون مبتدأ ، والخبر محذوف.

قال الزّمخشريّ (٢) : «والخبر محذوف ، أي : فسقكم ثابت معلوم عندكم ؛ لأنكم علمتم أنّا على الحق ، وأنتم على الباطل ، إلا أن حب الرئاسة ، وجمع الأموال لا يدعكم فتنصفوا».

فقدر الخبر متأخرا.

قال أبو حيّان (٣) : ولا ينبغي أن يقّدر الخبر إلا مقدما ؛ لأنه لا يبتدأ ب «أن» على الأصح إلا بعد «أمّا» انتهى.

ويمكن أن يقال : يغتفر في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في اللفظية ، لا سيما أنّ هذا جار مجرى تفسير المعنى ، والمراد إظهار ذلك الخبر [كيف] ينطق به ؛ إذ يقال : إنه يرى جواز الابتداء ب «أنّ» مطلقا ، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير.

وأمّا النّصب فمن ستّة أوجه :

أحدها : أن يعطف على (أَنْ آمَنَّا) واستشكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقدير : هل تكرهون إلا إيماننا ، وفسق أكثركم ، وهم لا يعترفون بأن أكثرهم فاسقون حتى يكرهونه.

وأجاب الزمخشري وغيره عن ذلك بأن المعنى : «وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا ، وبين تمرّدكم ، وخروجكم عن الإيمان ، كأنّه قيل : وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه».

ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المقابلة والازدواج ، يعني أنه لما نقم

__________________

(١) ينظر : الشواذ (٣٩) ، الدر المصون ٢ / ٥٥٣ ، البحر المحيط ٣ / ٥٢٧.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٥٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٢٧.

٤٠٥

اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل ، وهو مما لا ينقم ذكر في مقابلته فسقهم ، وهو مما ينقم ، ومثل ذلك حسن في الازدواج ، يقول القائل : «هل تنقم مني إلا أن عفوت عنك ، وأنّك فاجر» فيحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة.

وقال أبو البقاء (١) : والمعنى على هذا : إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم ، أي كرهتم مخالفتنا إياكم وهذا كقولك للرجل : «ما كرهت مني إلا أني محبّب للناس ، وأنك مبغض» ، وإن كان لا يعترف بأنه مبغض.

وقال ابن عطية (٢) : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) هو عند أكثر المتأوّلين معطوف على قوله: (أَنْ آمَنَّا) ، فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه وهذا لا يتجه معناه.

ثم قال بعد كلام : «وإنّما يتّجه على أن يكون معنى المحاورة : هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال من أنا مؤمنون وأنتم فاسقون ، ويكون (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) مما قرره المخاطب لهم ، وهذا [كما](٣) يقول لمن يخاصم : «هل تنقم عليّ إلا أن صدقت أنا ، وكذبت أنت» ، وهو لا يقرّ بأنه كاذب ، ولا ينقم ذلك ، لكن معنى كلامك : هل تنقم إلا مجموع هذه الحال» وهذا هو مجموع ما أجاب به الزّمخشريّ والواحديّ.

الوجه الثاني من أوجه النصب : أن يكون معطوفا على «أن آمنّا» أيضا ، ولكن في الكلام مضاف محذوف لصحة المعنى ، تقديره : «واعتقاد أنّ أكثركم فاسقون» وهو معنى واضح ، فإنّ الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم فاسقون.

الثالث : أنه منصوب بفعل مقدر ، تقديره : هل تنقمون منا إلا إيماننا ، ولا تنقمون فسق أكثركم.

الرابع : أنه منصوب على المعيّة ، وتكون «الواو» بمعنى «مع» ، تقديره : «وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون».

ذكر جميع هذه الأوجه أبو القاسم الزّمخشريّ (٤) ـ رحمه‌الله ـ.

الخامس : أنه منصوب عطفا على (أَنْ آمَنَّا) ، و (أَنْ آمَنَّا) مفعول من أجله فهو منصوب ، فعطف هذا عليه ، والأصل : «هل تنقمون إلا لأجل إيماننا ، ولأجل أن أكثركم فاسقون» ، فلمّا حذف حرف الجر من (أَنْ آمَنَّا) بقي منصوبا على أحد الوجهين المشهورين ، إلا أنه يقال هنا : النصب هنا ممتنع من حيث إنّه فقد شرط من المفعول له ، وهو اتحاد الفاعل ، والفاعل هنا مختلف ، فإن فاعل الانتقام غير فاعل الإيمان ، فينبغي أن يقدّر هنا محلّ (أَنْ آمَنَّا) جرا ليس إلّا ، بعد حذف حرف الجر ، ولا يجري فيه الخلاف المشهور بين الخليل وسيبويه في محل «أن» إذا حذف منها حرف الجر ، لعدم اتحاد الفاعل.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٠.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٥٠.

٤٠٦

وأجيب عن ذلك بأنّا وإن اشترطنا اتحاد الفاعل فإنّا (١) نجوّز اعتقاد النصب في «أن» و «أنّ» إذا وقعا مفعولا من أجله بعد حذف حرف الجر لا لكونهما مفعولا من أجله ، بل من حيث اختصاصهما من حيث هما بجواز حذف حرف الجر لطولهما بالصلة وفي هذه المسألة بخصوصها خلاف مذكور في بابه ، ويدلّ على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحب «النّظم» ، فإنّ صاحب «النظم» ذكر عن الزجاج (٢) معنى ، وهو : هل تكرهون إلا إيماننا وفسقكم ، أي : إنّما كرهتم إيماننا ، وأنتم تعلمون أنّا على حق ؛ لأنّكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم ، وهذا معنى قول الحسن : نقمتم علينا.

قال صاحب «النّظم» : فعلى هذا يجب أن يكون موضع «أن» في قوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) نصبا بإضمار «اللام» على تأوي ل «ولأن أكثركم» ، والواو زائدة ، فقد صرح صاحب النظم بما ذكرناه.

الوجه السادس : [أنه] في محل نصب على أنه مفعول من أجله ل «تنقمون» والواو زائدة كما تقدّم تقريره عن الزمخشري.

[وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير](٣) ليفهم معناه ، قال أبو حيّان (٤) بعد نقله الأوجه المتقدمة : «ويظهر وجه آخر [لعلّه] يكون الأرجح ، وذلك أن «نقم» أصله أن يتعدى ب «على» تقول : «نقمت عليه» ، ثم تبني منه [افتعل إذ ذاك](٥) ب «من» ويضمّن معنى الإصابة بالمكروه ، قال تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] ، ومناسبة التضمين فيها أنّ من عاب على شخص فعله ، فهو كاره له ، ومصيبه عليه بالمكروه ، فجاءت هنا «فعل» بمعنى «افتعل» ك «قدر» و «اقتدر» ، ولذلك عدّيت ب «من» دون «على» التي أصلها أن تتعدى بها ، فصار المعنى : وما تنالون منا ، وما تصيبوننا بما نكره ، إلا أن آمنّا ، [أي : إلّا لأن آمنا ،](٦) فيكون (أَنْ آمَنَّا) مفعولا من أجله ، ويكون (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) معطوفا على هذه العلة ، وهذا ـ والله أعلم ـ سبب تعديته ب «من» دون «على» انتهى ما قاله ، ولم يصرح بكونه حينئذ في محلّ نصب أو جرّ ، إلّا أن ظاهر حاله أن يعتقد كونه في محل جرّ ، فإنه إنّما ذكر في أوجه الجر.

وأمّا الجرّ فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه عطف على المؤمن به.

قال الزّمخشريّ (٧) : «أي : وما تنقمون منّا إلا الإيمان بالله ، وما أنزل ، وبأن أكثركم فاسقون» وهذا معنى واضح ، قال ابن عطية (٨) : «وهذا مستقيم المعنى ؛ لأن إيمان

__________________

(١) في أ : فإنما.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٠٥.

(٣) في أ : ويظهر وجه آخر إلى تقرير.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٢٨.

(٥) في ب : افعل فبعدانه.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : الكشاف ١ / ٦٥١.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٠.

٤٠٧

المؤمنين [بأنّ] أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ فسقة هو مما ينقمونه» (١).

الثاني : أنّه مجرور عطفا على علّة محذوفة ، تقديرها : ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم ، واتباعكم شهواتكم ، ويدلّ عليه تفسير الحسن البصري «لفسقكم نقمتم علينا ، ويروى لفسقكم تنقمون علينا الإيمان» ، [ويرو ى «لفسقهم نقموا علينا الإيمان». عطفا على محل (أَنْ آمَنَّا) إذا جعلناه مفعولا من أجله ، واعتقدنا أن «أن» في محل جر](٢).

الثالث : أنّه في محل جر بعد حذف الحرف وقد تقدم ذلك في الوجه الخامس ، فقد تحصّل في قوله تعالى : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) أحد عشر وجها وجهان في حالة الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر ، هل يقدّر مقدّما وجوبا أو جوازا؟ وقد تقدم ما فيه ، وستة أوجه أنها على الاستئناف ، أخبر أن أكثرهم فاسقون ، ويجوز أن تكون منصوبة المحلّ لعطفها على معمول القول ، أمر نبيه ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ أن يقول لهم : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) إلى آخره ، وأن يقول لهم : إنّ أكثركم فاسقون ، وهي قراءة [جليّة] واضحة.

فصل

وتفسير المعنى على وجوه الإعراب المتقدمة. قال ابن الخطيب (٣) فإن قيل : كيف تنقم اليهود على المسلمين وكون أكثرهم فاسقين.

فالجواب أنه كالتعريض ؛ لأنهم لم يتبعوهم (٤) على فسقهم (٥) أي : أن آمنّا ، وما فسقنا مثلكم وهو كقولهم : «ما تنقم مني إلا أني عفيف ، وأنت فاجر» ، على وجه المقابلة ، أو لأن أحد الخصمين إذا كان متصفا بصفات حميدة وخصمه بضد ذلك كان ذكر صفات الخير الحميدة مع صفات خصمه الذميمة أشد تأثيرا ونكاية من ألّا يذكر الذميمة ، فتكون الواو بمعنى «مع» أو هو على حذف مضاف أي : واعتقاد أن أكثركم فاسقون ، والمعنى : بأن أكثركم فاسقون نقمتم الإيمان علينا.

أو تعليل معطوف على محذوف كأنه قيل : نقمتم لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون.

فصل

اليهود كلهم فسّاق وكفّار فلم خصّ الأكثر بوصف الفسق؟ فالجواب من وجهين :

الأول : يعني أن أكثركم إنّما يقولون [ما يقولون](٦) ويفعلون ما يفعلون طلبا

__________________

(١) في ب : ينتقمون.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٣٠.

(٤) في أ : يبغونهم.

(٥) في ب : صنعهم.

(٦) سقط في أ.

٤٠٨

للرياسة ، والجاه وأخذ الرشوة ، والتقرب إلى الملوك ، فإنّهم في دينهم فسّاق لا عدول ، فإن الكافر المبتدع قد يكون عادلا في دينه ، وفاسقا في دينه ، ومعلوم أن كلهم ما كانوا كذلك فلهذا خص أكثرهم بهذا الحكم.

الثاني : ذكر أكثرهم لئلّا يظن أن من [آمن منهم داخل في ذلك](١).

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٦٠)

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) : قرأ الجمهور ، «أنبّئكم» بتشديد الباء من نبأ ، وقرأ (٢) إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «أنبئكم» بالتخفيف من أنبأ وهما لغتان فصيحتان والمخاطب في «أنبئكم» فيه قولان :

أحدهما : وهو الذي لا يعرف أهل التفسير غيره ـ أن المراد به أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم.

والثاني : أنه للمؤمنين.

قال ابن عطية (٣) : ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) هم اليهود والكفار ، والمتخذون ديننا هزوا ولعبا. قال ذلك الطبري ، ولم يسند في ذلك [إلى](٤) متقدم شيئا ، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين. انتهى.

فعلى كونه ضمير المؤمنين واضح ، وتكون «أفعل» التفضيل أعني «بشرّ» على بابها ؛ إذ يصير التقدير : قل هل أنبئكم يا مؤمنون بشر من حال هؤلاء الفاسقين ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله ، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم ، كذا قدره ابن عطية ، وإنما قدّره مضافا ، وهو حال ليصح المعنى ، فإن ذلك إشارة للواحد ، ولو جاء من غير حذف مضاف لقيل : بشر من أولئكم بالجمع.

قال الزمخشري (٥) : «ذلك» إشارة إلى المنقوم (٦) ، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل «من» تقديره : بشرّ من أهل ذلك ، أو دين من لعنه [الله] انتهى.

ويجوز ألّا يقدر مضاف محذوف لا قبل ولا بعد ، وذلك على لغة من يشير للمفرد والمثنى والمجموع تذكيرا وتأنيثا بإشارة الواحد المذكر ، ويكون «ذلك» إشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب ، كأنه قيل : بشرّ من أولئك ، يعني أن السّلف الذي لهم شرّ من الخلف ، وعلى هذا يجيء قوله : «من لعنه» مفسرا [لنفس «ذلك» وإن

__________________

(١) في أ : أمرهم أمر منهم داخل.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٨ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٧.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١١.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٥١.

(٦) في ب : التقدم.

٤٠٩

كان ضمير أهل الكتاب وهو قول عامة المفسرين فيشكل ويحتاج إلى جواب](١) ووجه الإشكال أنه يصير التقدير : هل أنبئكم يا أهل الكتاب بشرّ من ذلك ، و «ذلك» يراد به المنقوم ، وهو الإيمان ، وقد علم أنه لا شرّ في دين الإسلام ألبتة ، وقد أجاب الناس عنه ، فقال الزمخشري عبارة قرر بها الإشكال المتقدم ، وأجاب عنه بعد أن قال : فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف وقعت في الإساءة؟ قلت : وضعت موضع عقوبة ، فهو كقوله : [الوافر]

١٩٨٨ ـ ................

تحيّة بينهم ضرب وجيع (٢)

ومنه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] ، وتلك العبارة التي ذكرتها (٣) [لك] هي أن قال : «فإن قلت : المعاقب من الفريقين هم اليهود ، فلم شورك بينهم في العقوبة؟

قلت : كان اليهود ـ لعنوا ـ يزعمون أن المسلمين ضالّون مستوجبون للعقوبة ، فقيل لهم : من لعنه الله شرّ عقوبة في الحقيقة ، فاليقين لأهل الإسلام في زعمكم ودعواكم».

وفي عبارته بعض علاقة وهي قوله : «فلم شورك بينهم» أي : بين اليهود وبين المؤمنين.

وقوله : «من الفريقين» يعني بهما أهل الكتاب المخاطبين ب «أنبئكم» ، ومن لعنه الله وغضب عليه ، وقوله : «في العقوبة» ، أي : التي وقعت المثوبة موقعها ، ففسرها بالأصل ، وفسّر غيره المثوبة هنا بالرجوع إلى الله ـ تعالى ـ يوم القيامة ، ويترتب على التفسيرين فائدة تظهر قريبا.

قال القرطبي (٤) : المعنى فبشرّ من نقمكم علينا ، وقيل : من شر ما تريدون لنا من المكروه ، وهذا جواب لقولهم : «ما نعرف دينا أشرّ من دينكم».

و «مثوبة» نصب على التمييز ، ومميّزها «شرّ» ، وقد تقدّم في البقرة الكلام على اشتقاقها ووزنها ، فليلتفت إليه. قوله تعالى : (عِنْدَ اللهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق بنفس «مثوبة» ، إن قلنا : إنها بمعنى الرجوع ؛ لأنك تقول : «رجعت عنده» ، والعندية هنا مجازية.

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «مثوبة» ، وهو في محلّ نصب ، إن قلنا : إنها اسم محض ، وليست بمعنى الرجوع ، بل بمعنى عقوبة.

وقرأ الجمهور : «أنبّئكم» بتشديد الباء من «نبّأ» ، وقرأ (٥) إبراهيم النّخعيّ ويحيى بن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : ذكرها.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٥٢.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٢٨.

٤١٠

وثّاب : «أنبئكم» بتخفيفها من «أنبأ» ، وهما لغتان فصيحتان ، والجمهور (١) أيضا على «مثوبة» بضم الثاء وسكون الواو ، وقرأ (٢) الأعرج وابن بريدة ونبيح وابن عمران : «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو ، وجعلها ابن جنّيّ (٣) في الشذوذ ؛ كقولهم «فاكهة مقودة للأذى» ، بسكون القاف وفتح الواو ، يعني : أنه كان من حقّها أن تنقل حركة الواو إلى الساكن قبلها ، وتقلب الواو ألفا ، فيقال : مثابة ومقادة كما يقال : «مقام» والأصل : «مقوم».

قوله تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ) في محلّ «من» أربعة أوجه :

أحدها : أنه في محلّ رفع على خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : هو من لعنه الله فإنه لما قال : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) ، فكأنّ قائلا قال : من ذلك؟ فقيل : هو من لعنه الله.

ونظيره قوله تعالى : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) [الحج : ٧٢] أي : هو النار.

وقدّر (٤) مكيّ قبله مضافا محذوفا ، قال : «تقديره : لعن من لعنه الله» ، ثم قال : وقيل : «من» في موضع خفض على البدل من «بشرّ» بدل الشيء من الشّيء ، وهو هو ، وكان ينبغي له أن يقدّر في هذا الوجه مضافا محذوفا ؛ كما قدّره في حالة الرفع ؛ لأنه إن جعل «شرّا» مرادا به معنى ، لزمه التقدير في الموضعين ، وإن جعله مرادا به الأشخاص ، لزمه ألّا يقدّر في الموضعين.

الثاني : أنه في محل جر ، كما تقدّم بيانه عن مكيّ والمعنى : أنبئكم عن من لعنه الله.

الثالث : أنه في محلّ نصب على البدل من محل «بشرّ».

الرابع : أنه في محلّ نصب على أنه منصوب بفعل مقدّر يدل عليه «أنبّئكم» ، تقديره : أعرّفكم من لعنه الله ، ذكره أبو البقاء (٥) ، و «من» يحتمل أن تكون موصولة ، وهو الظاهر ، ونكرة موصوفة ، فعلى الأوّل : لا محلّ للجملة التي بعدها ، وعلى الثاني : لها محلّ بحسب ما يحكم على «من» بأحد الأوجه السابقة ، وقد حمل على لفظها أولا في قوله «لعنه» و «عليه» ، ثم على معناها في قوله : «منهم القردة» ، ثم على لفظها في قوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ثم على لفظها في قوله : «أولئك» ، فجمع في الحمل عليها أربع مرّات.

و «جعل» هنا بمعنى «صيّر» فيكون «منهم» في محل نصب مفعولا ثانيا ، قدّم على

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١١ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٩ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٧.

(٢) ينظر : الشواذ (٣٩) ، والمحتسب ١ / ٢١٣ ، البحر ٣ / ٥٢٩ ، الدر المصون ٢ / ٥٥٧.

(٣) ينظر : المحتسب ١ / ٢١٣.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٣٦.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٠.

٤١١

الأول ، فيتعلق بمحذوف ، أي : صيّر القردة والخنازير كائنين منهم ، وجعلها الفارسيّ في كتاب «الحجّة» له بمعنى «خلق» ، قال ابن عطية : «وهذه منه ـ رحمه‌الله ـ نزعة اعتزاليّة ؛ لأن قوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، تقديره : ومن عبد الطّاغوت ، والمعتزلة لا ترى أن الله تعالى يصيّر أحدا عابد طاغوت» انتهى ، والذي يفرّ منه في التّصيير هو بعينه موجود في الخلق.

وجعل أبو حيان (١) قوله تعالى (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) إلى آخره ـ من وضع الظاهر موضع المضمر ؛ تنبيها على الوصف الذي به حصل كونهم شرّا مثوبة ، كأنه قيل : قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك عند الله مثوبة؟ أنتم ، أي : هم أنتم ، ويدلّ على هذا المعنى قوله بعد : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) ، فيكون الضمير واحدا ، وجعل هذا هو الذي تقتضيه فصاحة الكلام ، وقرأ (٢) أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ : «من غضب الله عليهم وجعلهم قردة» وهي واضحة.

فصل

المراد (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) يعني : اليهود ، (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) : وهم أصحاب السّبت ، و «الخنازير» : وهم كفّار مائدة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وروي [عن](٣) عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنّ الممسوخين من أصحاب السّبت فشبابهم مسخوا قردة ، ومشايخهم مسخوا خنازير (٤).

قوله تعالى : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) في هذه الآية أربع وعشرون قراءة (٥) ، اثنتان في السّبع ، وهما (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) على أنّ «عبد» فعل ماض مبنيّ للفاعل ، وفيه ضمير يعود على «من» ؛ كما تقدّم ، وهي قراءة جمهور السّبعة [غير حمزة] أي : جعل منهم من (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي : أطاع الشّيطان فيما سوّل له ، ويؤيده قراءة ابن مسعود «ومن عبدوا الطّاغوت».

والثانية : «وعبد الطّاغوت» بضم الباء ، وفتح الدال ، وخفض الطاغوت ، وهي قراءة حمزة (٦) ـ رحمه‌الله ـ والأعمش ويحيى بن وثّاب ؛ وتوجيهها كما قال الفارسيّ وهو أن

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣١.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١١ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٩ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٨.

(٣) سقط في أ.

(٤) تقدم هذا الأثر في سورة البقرة.

(٥) ينظر : السبعة ٢٤٦ ، والشواذ (٣٩ ، ٤٠) ، المحرر الوجيز ٢ / ٢١١ ـ ٢١٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٩ ـ ٥٣١ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٩ ـ ٥٦٣.

(٦) ينظر : السبعة ٢٤٦ ، والحجة ٣ / ٢٣٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٧ ، والعنوان ٨٨ ، وحجة القراءات ٢٣١ ، وشرح شعلة ٣٥٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٣ ، وإتحاف ١ / ٥٣٩.

٤١٢

«عبدا» واحد يراد به الكثرة ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [النحل : ١٨] وليس بجمع «عبد» ؛ لأنه ليس في أبنية الجمع مثله ، قال : «وقد جاء على فعل ؛ لأنه بناء يراد به الكثرة والمبالغة في نحو يقظ وندس ؛ لأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلّ مذهب ، وبهذا المعنى أجاب الزمخشريّ (١) أيضا ، قال ـ رحمه‌الله تعالى ـ : معناه الغلّو في العبوديّة ؛ كقولهم : «رجل حذر وفطن» للبليغ في الحذر والفطنة ؛ وأنشد لطرفة : [الكامل]

١٩٨٩ ـ أبني لبينى ، إنّ أمّكم

أمة ، وإنّ أباكم عبد (٢)

وقد سبقهما إلى هذا التوجيه أبو إسحاق ، وأبو بكر بن الأنباريّ ، قال أبو بكر : «وضمّت الباء للمبالغة ؛ كقولهم للفطن : «فطن» وللحذر : «حذر» ، يضمّون العين للمبالغة ؛ قال أوس بن حجر : [الكامل]

١٩٩٠ ـ أبني لبينى ، إنّ أمّكم

أمة ، وإنّ أباكم عبد (٣)

بضمّ الباء». ونسب البيت لابن حجر ، وقد تقدّم أنه لطرفة ، وممّن نسبه لطرفة الشيخ شهاب الدين أبو شامة.

وقال أبو إسحاق (٤) : ووجه قراءة حمزة : أنّ الاسم بني على «فعل» ؛ كما تقول : «رجل حذر» ، وتأويله أنه مبالغ في الحذر ، فتأويل «عبد» : أنّه بلغ الغاية في طاعة الشيطان ، وكأنّ هذا اللفظ لفظ واحد يدلّ على الجمع ؛ كما تقول للقوم «عبد العصا» تريد : عبيد العصا ، فأخذ أبو عليّ هذا ، وبسطه. ثم قال «وجاز هذا البناء على عبد ؛ لأنه في الأصل صفة ، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء ، لا يزيله ذلك عن حكم الوصف ، كالأبطح والأبرق استعملا استعمال الأسماء حتّى جمعا جمعها في قولهم : أبارق وأباطح كأجادل ، جمع الأجدل ، ثم لم يزل ذلك عنهما حكم الصفة ؛ يدلّك على ذلك منعهم له الصّرف ؛ كأحمر ، وإذا لم يخرج العبد عن الصفة ، لم يمتنع أن يبنى بناء الصفات على فعل ، نحو : يقظ».

وقال البغوي (٥) : هما لغتان : «عبد» بجزم الباء ، و «عبد» بضمها ، مثل سبع ، وسبع.

وطعن بعض الناس على هذه القراءة ، ونسب قارئها إلى الوهم ؛ كالفراء (٦) ،

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٥٢.

(٢) البيت لأوس بن حجر وليس لطرفة. ينظر : ديوانه ٢١ ، اللسان (عبد) ، البحر المحيط ٣ / ٥٣٠ ، الدر المصون ٢ / ٥٥٨.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٠٦.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٤٩.

(٦) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣١٥.

٤١٣

والزجاج (١) ، وأبي عبيد ، ونصير الرازيّ النحويّ صاحب الكسائيّ ؛ قال الفرّاء : «إنما يجوز ذلك في ضرورة الشّعر ـ يعني ضمّ باء «عبد» ـ فأمّا في القراءة فلا» ، وقال أيضا : «إن تكن لغة مثل حذر وعجل ، جاز ذلك ، وهو وجه ، وإلّا فلا تجوز في القراءة» ، وقال الزّجّاج : «هذه القراءة ليست بالوجه ؛ لأنّ عبدا على فعل ، وهذا ليس من أمثلة الجمع» ، وقال أبو عبيد : «إنما معنى العبد عندهم الأعبد ، يريدون خدم الطّاغوت ، ولم نجد هذا يصحّ عند أحد من فصحاء العرب أن العبد يقال فيه عبد ، وإنما عبد وأعبد» ، وقال نصير الرازيّ : «هذا وهم ممّن قرأ به ، فليتّق الله من قرأ به ، وليسأل عنه العلماء حتى يوقف على أنه غير جائز». قال شهاب الدين (٢) : قد سألوا العلماء عن ذلك ووجدوه صحيحا في المعنى بحمد الله تعالى ، وإذا تواتر الشيء قرآنا ، فلا التفات إلى منكره ؛ لأنه خفي عليه ما وضح لغيره.

وقد ذكروا في توجيه هذه القراءة وجوها : منها ما تقدّم [من أنّهم](٣) ضمّوا الباء للمبالغة ، كقولهم : «حذر» و «فطن» ومنها ما نقله البغوي وغيره (٤) : أنّ «العبد» و [«العبد»](٥) لغتان كقولهم سبع ، وسبع.

ومنها : أن العبد جمعه عباد ، والعباد جمع عبد ، كثمار وثمر ، فاستثقلوا ضمّتين متواليتين فأبدلت الأولى فتحة.

ومنها : يحتمل أنهم أرادوا أعبد الطّاغوت ، مثل فلس وأفلس ثم [حذفت «الهمزة» ونقلت حركتها إلى «العين».

ومنها : أنه أراد : وعبدة الطّاغوت ، ثم](٦) حذفت الهاء وضم الباء لئلّا يشبه الفعل. وأمّا القراءات الشاذّة فقرأ أبيّ : «وعبدوا» بواو الجمع ؛ مراعاة لمعنى «من» ، وهي واضحة ، وقرأ الحسن البصريّ في رواية عبّاد : «وعبد الطّاغوت» بفتح العين والدال ، وسكون الباء ، ونصب التاء من «الطّاغوت» ، وخرّجها ابن عطية على وجهين أحدهما : أنه أراد : «وعبدا الطّاغوت» ، فحذف التنوين من «عبدا» ؛ لالتقاء الساكنين ؛ كقوله : [المتقارب]

١٩٩١ ـ ................

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (٧)

والثاني : أنه أراد «وعبد» بفتح الباء على أنه فعل ماض ؛ كقراءة الجماعة ، إلا أنه سكّن العين على نحو ما سكّنها في قول الآخر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق ٢ / ٢٠٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٥٩.

(٣) في ب : في أولها.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٤٩ ، الرازي ١٢ / ٣٢.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) تقدم.

٤١٤

١٩٩٢ ـ وما كلّ مغبون ولو سلف صفقه

 ................. (١)

بسكون اللام ، ومثله قراءة أبي السّمّال : (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) [المائدة : ٦٤] بسكون العين ، قال شهاب الدين : ليس ذلك مثل «لعنوا» ؛ لأنّ تخفيف الكسر مقيس ؛ بخلاف الفتح ؛ ومثل «سلف» قول الآخر : [الرمل]

١٩٩٣ ـ إنّما شعري ملح

قد خلط بجلجلان (٢)

من حيث إنه خفّف الفتحة. وقال أبو حيان (٣) ـ بعد أن حكى التخريج الأوّل عن ابن عطية ـ : لا يصحّ ؛ لأنّ عبدا لا يمكن أن ينصب الطاغوت ؛ إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، فالتخريج الصحيح أن يكون تخفيفا من «عبد» ك «سلف» في «سلف» ، قال شهاب الدين (٤) : لو ذكر التخريجين عن ابن عطيّة ، ثم استشكل الأول ، لكان إنصافا ؛ لئلا يتوهّم أن التخريج الثاني له ، ويمكن أن يقال : إنّ «عبدا» لما في لفظه من معنى التذلل والخضوع دلّ على ناصب للطاغوت حذف ، فكأنه قيل : من يعبد هذا العبد؟ فقيل : يعبد الطاغوت ، وإذا تقرّر أنّ «عبد» حذف تنوينه فهو منصوب عطفا على القردة ، أي : وجعل منهم عبدا للطّاغوت.

وقرأ (٥) الحسن أيضا في رواية أخرى كهذه القراءة ، إلا أنه جرّ «الطّاغوت» وهي واضحة ، فإنه مفرد يراد به الجنس أضيف إلى ما بعده ، وقرأ الأعمش والنخعيّ وأبو جعفر : «وعبد» مبنيّا للمفعول ، «الطّاغوت» رفعا ، وقراءة عبد الله كذلك ، إلا أنّه زاد في الفعل تاء التأنيث ، وقرأ : «وعبدت الطاغوت» والطاغوت يذكّر ويؤنّث ؛ قال تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الزمر : ١٤] وقد تقدّم في البقرة [الآية : ٢٥] ، قال ابن عطية (٦) : «وضعّف الطبريّ هذه القراءة ، وهي متجهة» ، يعني : قراءة البناء للمفعول ، ولم يبيّن وجه الضعف ، ولا توجيه القراءة ، ووجه الضعف : أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصّلة من رابط يربطها بالموصول ؛ إذ ليس في (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) ضمير يعود على (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) ، لو قلت : «أكرمت الذين أهنتهم وضرب زيد» على أن يكون «وضرب» عطفا على «أكرمت» لم يجز ، فكذلك هذا ، وأمّا توجيهها ، فهو كما قال الزمخشريّ : إنّ العائد محذوف ، تقديره : «وعبد الطّاغوت فيهم أو بينهم».

__________________

(١) صدر بيت للأخطل وعجزه :

 .................

براجح ما قد فاته برداد

ينظر : ديوانه (١٨) ، والدر المصون ٢ / ٥٥٩.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٥٩.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٣٤ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٩.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٣.

٤١٥

وقرأ ابن مسعود في رواية عبد الغفّار عن علقمة عنه : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) بفتح العين ، وضمّ الباء ، وفتح الدال ، ورفع «الطّاغوت» ، وفيها تخريجان :

أحدهما : ـ ما ذكره ابن عطية ـ وهو : أن يصير له أن عبد كالخلق والأمر المعتاد المعروف ، فهو في معنى فقه وشرف وظرف ، قال شهاب الدين (١) : يريد بكونه في معناه ، أي : صار له الفقه والظّرف خلقا معتادا معروفا ، وإلّا فمعناه مغاير لمعاني هذه الأفعال.

والثاني : ـ ما ذكره الزمخشري ـ وهو : أن صار معبودا من دون الله ك «أمر» ، أي : صار أميرا ، وهو قريب من الأوّل ، وإن كان بينهما فرق لطيف.

وقرأ ابن عبّاس في رواية عكرمة عنه ومجاهد ويحيى بن وثّاب : «وعبد الطّاغوت» بضم العين والباء ، وفتح الدال وجر «الطّاغوت» ، وفيها أقوال :

أحدها : ـ وهو قول الأخفش ـ : أنّ عبدا جمع عبيد ، وعبيد جمع عبد ، فهو جمع الجمع ، وأنشد : [الرمل]

١٩٩٤ ـ أنسب العبد إلى آبائه

أسود الجلدة من قوم عبد (٢)

وتابعه الزمخشريّ على ذلك ، يعني أنّ عبيدا جمعا بمنزلة رغيف مفردا فيجمع جمعه ؛ كما يقال : رغيف ورغف.

الثاني ـ وهو قول ثعلب ـ : أنه جمع عابد كشارف وشرف ؛ وأنشد : [الوافر]

١٩٩٥ ـ ألا يا حمز للشّرف النّواء

فهنّ معقّلات بالفناء (٣)

والثالث : أنه جمع عبد ؛ كسقف وسقف ورهن ورهن.

والرابع : أنه جمع عباد ، وعباد جمع «عبد» ، فيكون أيضا جمع الجمع ؛ مثل «ثمار» هو جمع «ثمرة» [ثم يجمع على «ثمر»] ، وهذا ؛ لأنّ «عبادا» و «ثمارا» جمعين بمنزلة «كتاب» مفردا ، و «كتاب» يجمع على «كتب» فكذلك ما وازنه.

وقرأ الأعمش : «وعبّد» بضمّ العين وتشديد الباء مفتوحة وفتح الدّال ، «الطّاغوت» بالجرّ ، وهو جمع : عابد ؛ كضرّب في جمع ضارب ، وخلّص في جمع خالص.

وقرأ ابن مسعود أيضا في رواية علقمة : «وعبد الطّاغوت» بضمّ العين وفتح الباء والدال ، و «الطّاغوت» جرّا ؛ وتوجيهها : أنه بناء مبالغة ؛ كحطم ولبد ، وهو اسم جنس مفرد يراد به الجمع ، والقول فيه كالقول في قراءة حمزة ، وقد تقدّمت.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٦٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٣٧١ ، اللسان (عبد) ، الدر المصون ٢ / ٥٦٥ ، البحر ٣ / ٥٣٠.

(٣) ينظر : اللسان والتاج (شرق) ، الدر المصون ٢ / ٥٦٠.

٤١٦

وقرأ ابن مسعود في رواية علقمة أيضا : «وعبّد الطّاغوت» بضمّ العين ، وبشد الباء مفتوحة ، وفتح الدال ، ونصب «الطّاغوت» ؛ وخرّجها ابن عطية على أنها جمع عابد ؛ كضرّب في جمع ضارب ، وحذف التنوين من «عبّدا» ؛ لالتقاء الساكنين ؛ كقوله : [الطويل]

١٩٩٦ ـ ................

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (١)

قال : «وقد تقدّم نظيره» ، يعني قراءة : «وعبد الطّاغوت» بفتح العين والدال ، وسكون الباء ، ونصب التاء ، وكان ذكر لها تخريجين ، أحدهما هذا ، والآخر لا يمكن ، وهو تسكين عين الماضي ، وقرأ بريدة الأسلميّ فيما نقله عنه ابن جرير «وعابد الشّيطان» بنصب «عابد» وجرّ «الشّيطان» بدل الطّاغوت ، وهو تفسير ، لا قراءة ، وقرأ أبو واقد الأعرابيّ : «وعبّاد» بضمّ العين وتشديد الباء بعدها ألف ونصب الدال ، والطّاغوت بالجرّ ، وهي جمع عابد ؛ كضرّاب في ضارب.

وقرأ بعض البصريّين : «وعباد الطّاغوت» بكسر العين ، وبعد الباء المخفّفة ألف ، ونصب الدال ، وجرّ «الطّاغوت» ، وفيها قولان :

أحدهما : أنه جمع عابد ؛ كقائم وقيام ، وصائم وصيام.

والثاني : أنها جمع عبد ؛ وأنشد سيبويه : [الوافر]

١٩٩٧ ـ أتوعدني بقومك يا بن حجل

أشابات يخالون العبادا (٢)

قال ابن عطية (٣) : «وقد يجوز أن يكون جمع «عبد» ، وقلّما يأتي «عباد» مضافا إلى غير الله تعالى ، وأنشد سيبويه : «أتوعدني» البيت ، قال أبو الفتح (٤) : يريد عباد آدم ـ عليه‌السلام ـ ولو أراد عباد [الله] فليس ذلك بشيء يسبّ به أحد ، فالخلق كلّهم عباد الله» قال ابن عطيّة (٥) : «وهذا التعليق بآدم شاذّ بعيد ، والاعتراض باق ، وليس هذا ممّا تخيّل الشاعر قصده ، وإنما أراد العبيد ، فساقته القافية إلى العباد ؛ إذ قد يقال لمن يملكه ملكا مّا ، وقد ذكر أن عرب الحيرة سمّوا عبادا ؛ لدخولهم في طاعة كسرى ، فدانتهم مملكته» ، قال شهاب الدين (٦) : قد اشتهر في ألسنة الناس أن «عبدا» المضاف إلى الله تعالى يجمع على «عباد» وإلى غيره على «عبيد» ، وهذا هو الغالب ، وعليه بنى أبو محمّد.

وقرأ عون العقيليّ في رواية العبّاس بن الفضل عنه : «وعابد الطّاغوت» بضمّ الدال ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكتاب ، ١ / ١٥٣ ، المحتسب ١ / ٢١٥ ، ابن الشجري ١ / ٦٦ ، الدر المصون ٢ / ٥٦١ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٢١٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٢.

(٤) ينظر : المحتسب ١ / ٢١٦.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٢.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٦١.

٤١٧

وجرّ الطاغوت ؛ كضارب زيد ، قال أبو عمرو : تقديره : «وهم عابد الطّاغوت» ، قال ابن عطية (١) : «فهو اسم جنس» ، قلت : يعني أنه أراد ب «عابد» جماعة ، قلت : وهذه القراءة يجوز أن يكون أصلها «وعابدو الطّاغوت» جمع عابد جمع سلامة ، فلمّا لقيت الواو لام التعريف ، حذفت لالتقاء الساكنين ، فصار اللفظ بدال مضمومة ؛ ويؤيّد فهم هذا أنّ أبا عمرو قدّر المبتدأ جمعا ، فقال : «تقديره : هم عابدو» ، اللهم إلا أن ينقلوا عن العقيليّ أنه نصّ على قراءته أنها بالإفراد ، أو سمعوه يقف على «عابد» ، أو رأوا مصحفه بدال دون واو ؛ وحينئذ تكون قراءته كقراءة ابن عبّاس : «وعابدو» [بالواو] ، وعلى الجملة ، فقراءتهما متّحدة لفظا ، وإنّما يظهر الفرق بينهما على ما قالوه في الوقف أو الخطّ.

وقرأ ابن عبّاس في رواية أخرى لعكرمة : «وعابدو» بالجمع ، وقد تقدّم ذلك ، وقرأ ابن بريدة : «وعابد» بنصب الدال ؛ كضارب زيد ، وهو أيضا مفرد يراد به الجنس ، وقرأ ابن عبّاس وابن أبي عبلة : «وعبد الطّاغوت» بفتح العين والباء والدال ، وجرّ «الطّاغوت» ؛ وتخريجها : أنّ الأصل : «وعبدة الطّاغوت» وفاعل يجمع على فعلة ، كفاجر وفجرة ، وكافر وكفرة ، فحذفت تاء التأنيث للإضافة ؛ كقوله : [الرجز]

١٩٩٨ ـ قام ولاها فسقوه صرخدا (٢)

أي : ولاتها ؛ وكقوله : [البسيط]

١٩٩٩ ـ ................

وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا (٣)

أي : عدة الأمر ، ومنه : (وَإِقامَ الصَّلاةِ) [الأنبياء : ٧٣] أي : إقامة الصلاة ، ويجوز أن يكون «عبد» اسم جنس لعابد ؛ كخادم وخدم ، وحينئذ : فلا حذف تاء تأنيث لإضافة ، وقرىء : «وعبدة الطّاغوت» بثبوت التاء ، وهي دالّة على حذف التاء للإضافة في القراءة قبلها ، وقد تقدّم توجيهها أنّ فاعلا يجمع على «فعلة» كبارّ وبررة ، وفاجر وفجرة.

وقرأ عبيد بن عمير : «وأعبد الطّاغوت» جمع عبد ، كفلس وأفلس ، وكلب وأكلب ، وقرأ ابن عبّاس : «وعبيد الطّاغوت» جمع عبد أيضا ، وهو نحو : «كلب وكليب» قال : [الطويل]

٢٠٠٠ ـ تعفّق بالأرطى لها وأرادها

رجال فبذّت نبلهم وكليب (٤)

وقرىء أيضا : «وعابدي الطّاغوت» ، وقرأ عبد الله بن مسعود : «ومن عبدوا» ، فهذه أربع وعشرون قراءة ، وكان ينبغي ألّا يعدّ فيها : «وعابد الشّيطان» ؛ لأنها تفسير ، لا قراءة. وقال ابن عطيّة : «وقد قال بعض الرواة في هذه الآية : إنها تجويز ، لا قراءة»

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٢.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣١٤ ، تفسير الطبري ٤ / ٦٣٥ ، الدر المصون ٢ / ٥٦٢.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم برقم ١٢٠٧.

٤١٨

يعني : لمّا كثرت الروايات في هذه الآية ، ظنّ بعضهم ؛ أنه قيل على سبيل الجواز ، لا أنها منقولة عن أحد ، وهذا لا ينبغي أن يقال ، ولا يعتقد ؛ فإنّ أهلها إنما رووها قراءة تلوها على من أخذوا عنه ، وهذا بخلاف و «عابد الشّيطان» ، فإنّه مخالف للسّواد الكريم.

وطريق ضبط القراءة في هذا الحرف بعد ما عرف القرّاء : أن يقال : سبع قراءات مع كون «عبد» فعلا ماضيا ، وهي : وعبد ، وعبدوا ، ومن عبدوا ، وعبد ، وعبدت ، وعبد ، وعبد في قولنا : إنّ الباء سكنت تخفيفا ، ك «سلف» في «سلف» ، وتسع قراءات مع كونه جمع تكسير ، وهي : وعبد ، وعبّد ، مع جرّ الطاغوت ، وعبّد مع نصبه ، وعبّاد ، وعبد على حذف التاء للإضافة ، وعبدة ، وأعبد ، وعبيد ، وستّ مع المفرد : وعبد ، وعبد ، وعابد الطّاغوت ، وعابد الطاغوت بضم الدال ، وعابد الشيطان ، وعبد الطّاغوت ، وثنتان مع كونه جمع سلامة : وعابدو بالواو ، وعابدي بالياء ، فعلى قراءة الفعل يجوز في الجملة وجهان :

أحدهما : أن تكون معطوفة على الصّلة قبلها ، والتقدير : من لعنه الله وعبد الطّاغوت.

والثاني : أنه ليس داخلا في حيّز الصلة ، وإنما هو على تقدير «من» ، أي : ومن عبد ؛ ويدلّ له قراءة عبد الله بإظهار «من» ، إلّا أنّ هذا ـ كما قال الواحديّ ـ يؤدّي إلى حذف الموصول وإبقاء صلته ، وهو ممنوع عند البصريّين ، جائز عند الكوفيين ، وسيأتي جميع ذلك في قوله تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) [العنكبوت : ٤٦] ، أي : وبالذي أنزل ، وعلى قراءة جمع التكسير ، فيكون منصوبا عطفا على القردة والخنازير ، أي : جعل منهم القردة وعباد وعبّاد وعبيد ، وعلى قراءة الإفراد كذلك أيضا ، ويجوز النصب فيها أيضا من وجه آخر ، وهو العطف على «من» في «من لعنه الله» ، إذا قلنا بأنه منصوب على ما تقدّم تحريره قبل ، وهو مراد به الجنس ، وفي بعضها قرىء برفعه ؛ نحو : «وعابد الطّاغوت» ، وتقدّم أن أبا عمرو يقدّر له مبتدأ ، أي : هم عابدو وتقدّم ما في ذلك.

قال شهاب الدين (١) : وعندي أنه يجوز أن يرتفع على أنه معطوف على «من» في قوله تعالى (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) ؛ ويدلّ لذلك : أنهم أجازوا في قراءة عبد الله : «وعابدو» بالواو هذين الوجهين ، فهذا مثله ، وأما قراءة جمع السلامة ، فمن قرأ بالياء ، فهو منصوب ؛ عطفا على القردة ، ويجوز فيه وجهان آخران :

أحدهما : أنه منصوب عطفا على «من» في (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) إذا قلنا : إنّ محلّها نصب كما مرّ.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٦٣.

٤١٩

والثاني : أنه مجرور ؛ عطفا على (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أيضا ، إذا قلنا بأنّها في محلّ جرّ بدلا من «بشرّ» ؛ كما تقدّم إيضاحه ، وهذه أوجه واضحة عسرة الاستنباط ، والله أعلم.

ومن قرأ بالواو فرفعه : إمّا على إضمار مبتدأ ، أي : هم عابدو الطّاغوت ، وإمّا نسق على «من» في قوله تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) كما تقدّم.

فصل

قيل : الطّاغوت العجل ، وقيل : الأحبار ، وكلّ من أطاع أحدا في معصية فقد عبده.

واحتجّوا بهذه الآية على أنّ الكفر بقضاء الله ، قالوا : لأنّ تقدير الآية : وجعل الله منهم من عبد الطّاغوت ، وإنّما يعقل معنى (١) هذا الجعل ، إذا كان هو الذي جعل فيهم تلك العبادة ، إذ لو كانوا هم الجاهلون لكان الله تعالى [ما](٢) جعلهم عبدة الطّاغوت ، بل كانوا هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك وذلك خلاف الآية.

قالت المعتزلة (٣) : معناه أنّه تعالى حكم (٤) عليهم بذلك كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا (٥) الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] وقد تقدّم الكلام فيه.

[قوله تعالى : (أُولئِكَ شَرٌّ) مبتدأ وخبر ، و «مكانا» نصب على التمييز ، نسب الشّر للمكان وهو لأهله ، كناية عن نهايتهم في ذلك] كقولهم : فلان طويل النّجاد كثير الرّماد ، وحاصله يرجع إلى الإشارة إلى الشّيء بذكر لوازمه وتوابعه و «شرّ» هنا على بابه من التفضيل ، والمفضّل عليه فيه احتمالان :

أحدهما : أنهم المؤمنون ، فإن قيل : كيف يقال ذلك ، والمؤمنون لا شرّ عندهم ألبتة؟ فالجواب من وجهين :

أحدهما : ـ ما قاله النحاس (٥) ـ أنّ مكانهم في الآخرة شرّ من مكان المؤمنين في الدّنيا ؛ لما يلحقهم فيه من الشّرّ ، يعني : من الهموم الدنيوية ، والحاجة ، والإعسار ، وسماع الأذى ، والهضم من جانبهم ، قال : «وهذا أحسن ما قيل فيه».

والثاني : أنه على سبيل التنازل والتسليم للخصم على زعمه ؛ إلزاما له بالحجّة ، كأنه قيل : شرّ من مكانهم في زعمكم ، فهو قريب من المقابلة في المعنى.

والثاني من الاحتمالين : أنّ المفضّل عليه هم طائفة من الكفار ، أي : أولئك الملعونون المغضوب عليهم المجعول منهم القردة والخنازير العابدون الطّاغوت ـ شرّ مكانا من غيرهم من الكفرة الذين لم يجمعوا بين هذه الخصال الذّميمة.

__________________

(١) في أ : هذا.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٦ / ٣٢.

(٤) في أ : حكى.

(٥) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٠٧.

٤٢٠