اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

الثالث : أنّا إذا جعلنا (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) مبتدأ ، وخبره مضمر وهو الذي يقدّره «فيما (١) يتلى عليكم» بقي شيء آخر يتعلّق به الفاء في قوله : «فاقطعوا».

فإن قال : الفاء تتعلّق بالفعل الذي دلّ عليه قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) ، يعني : أنّه إذا أتى بالسّرقة فاقطعوا يده.

فنقول : إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول : السّارق والسّارقة تقديره : «من سرق» ، فاذكر هذا أوّلا ، حتى لا تحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته.

الرابع : أنا إذا اخترنا القراءة [بالنصب لم يدلّ ذلك على أنّ السّرقة علة لوجوب القطع ، وإذا اخترنا القراءة بالرّفع](٢) أفادت الآية هذا المعنى ثم إنّ هذا المعنى متأكد بقوله تعالى : (جَزاءً بِما كَسَبا) ، فثبت أنّ القراءة بالرّفع أولى.

الخامس : أنّ سيبويه (٣) قال : «وهم يقدمون الأهم ، والذي هم ببيانه (٤) أعنى» فالقراءة بالرّفع تقتضي تقديم ذكر كونه سارقا على ذكر وجوب القطع ، وهذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفا إلى شرح ما يتعلّق بحال السّارق من حيث إنّه سارق.

وأمّا قراءة النّصب ، فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقا ، ومعلوم أنّه ليس كذلك ، فإنّ المقصود في هذه الآية تقبيح السّرقة ، والمبالغة في الزّجر عنها ، فثبت أنّ القراءة بالرّفع هي المتعينة. انتهى ما زعم أنه ردّ على إمام الصّناعة ، والجواب عن الوجه الأوّل ما تقدّم جوابا عمّا قاله الزّمخشري [وقد تقدّم](٥) ، ويؤيّده نصّ سيبويه ، فإنّه قال : وقد يحسن ويستقيم : «عبد الله فاضربه» ، إذا كان مبنيّا على مبتدأ مظهر أو مضمر.

فأمّا في المظهر ، فقوله : «هذا زيد فاضربه» وإن شئت لم تظهر هذا ، ويعمل كعمله إذا كان مظهرا ، [وذلك] قولك (٦) : «الهلال والله فانظر إليه» ، فكأنّك قلت : «هذا الهلال» ، ثمّ جئت بالأمر.

ومن ذلك قول الشّاعر : [الطويل]

١٩٦٣ ـ وقائلة : خولان فانكح فتاتهم

وأكرومة الحيّين خلو كما هيا (٧)

__________________

(١) في أ : فيها.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ١٥.

(٤) في أ : بشأنه.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : كقولك.

(٧) ينظر : الأزهية ص ٢٤٣ ، أوضح المسالك ٢ / ١٦٣ ، الجنى الداني ص ٧١ ، خزانة الأدب ١ / ٣١٥ ، ٤٥٥ ، ٣٦٩ ، ٨ / ١٩ ، ١١ / ٣٦٧ ، الدرر ٢ / ٣٦ ، الرد على النحاة ص ١٠٤ ، رصف المباني ص ٣٨٦ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ٤١٣ ، شرح الأشموني ١ / ١٨٩ ، شرح التصريح ١ / ٢٩٩ ، شرح شواهد الإيضاح ص ٨٦ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤٦٨ ، ٢ / ٨٧٣ ، شرح المفصل ١ / ١٠ ، ٨ / ٩٥ ، ـ

٣٢١

هكذا سمع من العرب تنشده ، يعني برفع «خولان» ، فمع قوله : «يحسن ويستقيم» كيف [يكون] طاعنا في الرّفع؟.

وقوله : «وإن قال سيبويه ...» الخ فسيبويه لا يقول ذلك ، وكيف يقوله ، وقد رجح الرّفع بما أوضحته.

وقوله : «لم يقرأ بها إلّا عيسى» ليس كما زعم بل قرأ بها جماعة كإبراهيم بن أبي عبلة.

وأيضا فهؤلاء لم يقرءوها من تلقاء أنفسهم ، بل نقلوها إلى أن تتّصل بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غاية ما في الباب أنّها ليست في شهرة الأولى.

وعن الثاني : أنّ سيبويه لم يدّع ترجيح النّصب حتى يلزم بما قاله ، بل خرّج قراءة العامّة على جملتين ، لما ذكرت لك فيما تقدّم من دخول الفاء ، ولذلك لمّا مثّل سيبويه جملة الأمر والنّهي بعد الاسم مثلهما عاريتين من الفاء ، قال : وذلك قولك : «زيدا اضربه» و «عمرا امرر به».

[وعن](١) الثالث : ما تقدّم من الحكمة المقتضية للمجيء بالفاء ، وكونها رابطة للحكم بما قبله.

وعن الرابع : بالمنع أن يكون بين الرّفع والنّصب فرق ، بأنّ الرّفع يقتضي العلّة ، والنّصب لا يقتضيه ، وذلك أنّ الآية من باب التّعليل بالوصف المرتّب عليه الحكم ، ألا ترى أن قولك : «اقطع السّارق» يفيد العلّة ، [أي : إنّه](٢) جعل علّة القطع اتّصافه بالسّرقة ، فهذا يشعر بالعلّة مع التصريح بالنصب.

الخامس : أنهم يقدّمون الأهمّ ، حيث اختلفت النّسبة الإسنادية كالفاعل مع المفعول ، ولنسرد نصّ سيبويه ليتبين ما ذكرناه.

قال سيبويه (٣) : فإن قدّمت المفعول ، وأخّرت الفاعل جرى اللّفظ كما جرى في «الأوّل» ، يعني في «ضرب عبد الله زيدا» قال : «وذلك : ضرب زيدا عبد الله لأنّك إنّما أردت به مؤخّرا ما أردت به مقدّما ، ولم ترد أن يشتغل الفعل بأوّل منه ، وإن كان مؤخّرا في اللّفظ ، فمن ثمّ كان حدّ اللّفظ أن يكون فيه مقدّما ، وهو عربي جيد كثير ، لأنهم يقدّمون الذي بيانه أهمّ لهم ، وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم». والآية الكريمة ليست من ذلك.

قوله : «أيديهما» جمع واقع موقع التّثنية : لأمن اللّبس ، لأنّه معلوم أنّه يقطع من كل

__________________

ـ الكتاب ١ / ١٣٩ ، ١٤٣ ، لسان العرب (غلا) ، المقاصد النحوية ٢ / ٥٢٩ ، همع الهوامع ١ / ١١٠ العيني ٢ / ٥٢٩ ، الدرر ١ / ٧٩ ، الدر المصون ٢ / ٥٢٢.

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ١٤ ـ ١٥.

٣٢٢

سارق يمينه ، فهو من باب (صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] ، ويدلّ على ذلك قراءة عبد الله : «فاقطعوا (١) أيمانهما» واشترط النّحويّون في وقوع الجمع موقع التّثنية شروطا ، من جملتها : أن يكون ذلك الجزء المضاف مفردا من صاحبه نحو : «قلوبكما» و «روس الكبشين» لأمن الإلباس ، بخلاف العينين واليدين والرّجلين ، لو قلت : «فقأت أعينهما» ، وأنت تعني عينيهما ، و «كتفت أيديهما» ، وأنت تعني «يديهما» لم يجز للّبس ، فلو لا أنّ الدّليل دلّ على أنّ المراد اليدان اليمنيان لما ساغ ذلك ، وهذا مستفيض في لسانهم ـ أعني وقوع الجمع موقع التّثنية بشروطه ـ قال تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ، ولنذكر المسألة ، فنقول : كلّ جزأين أضيفا إلى كليهما لفظا أو تقديرا ، وكانا مفردين من صاحبيهما جاز فيهما ثلاثة أوجه :

الأحسن : الجمع ، ويليه الإفراد عند بعضهم ، ويليه التّثنية ، وقال بعضهم : الأحسن الجمع ، ثم التّثنية ، ثم الإفراد ، نحو : «قطعت رءوس الكبشين ، ورأس الكبشين ورأسي الكبشين».

وقال سامحه الله وعفا عنه : [السريع أو الرجز]

١٩٦٤ ـ ومهمهين قذفين مرتين

ظهراهما مثل ظهور التّرسين (٢)

فقولنا : «جزآن» تحرّز من الشّيئين المنفصلين ، لو قلت : «قبضت دراهمكما» تعني : درهميكما لم يجز للّبس ، فلو أمن جاز ، كقوله : «اضرباه بأسيافكما» «إلى مضاجعكما» ، وقولنا : «أضيفا» تحرّز من تفرّقهما ، كقوله : (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [المائدة: ٧٨] ، وقولنا : «لفظا» ، تقدّم مثاله ، فإنّ الإضافة فيه لفظيّة.

وقولنا : «أو تقديرا» نحو قوله : [الطويل]

١٩٦٥ ـ رأيت بني البكريّ في حومة الوغى

كفاغري الأفواه عند عرين (٣)

فإن تقديره : كفاغرين أفواههما.

وقولنا : «مفردين» تحرّز من العينين ونحوهما ، وإنما اختير الجمع على التّثنية ، وإن كان (٤) الأصل لاستثقال توالي تثنيتين ، وكان الجمع أولى من المفرد لمشاركة التّثنية في الضّمّ ، وبعده المفرد لعدم الثّقل ، هذا عند بعضهم قال : لأنّ التّثنية لم ترد إلا ضرورة ، كقوله ـ رحمة الله عليه ـ [الطويل]

__________________

(١) قراءة عبد الله فاقطعوا أيمانهم ، وذلك كما في «المحرر الوجيز» ٢ / ١٨٨ والبحر المحيط ٣ / ٤٩٤.

وما أثبته المصنف ـ هنا بالتثنية ـ هو المذكور في الدر المصون ٢ / ٥٢٣.

(٢) البيت لخطام المجاشعي ، ينظر : الأشموني ١ / ٧٤ ، ابن يعيش ٤ / ١٥٥ ، ابن الشجري ١ / ٢٢ ، الدرر ٥ / ٥١٥ ، والدر المصون ٢ / ٥٢٣.

(٣) ينظر : الهمع ١ / ٥ ، الدرر اللوامع ١ / ٢٥ ، الدر المصون ٢ / ٥٢٤.

(٤) في أ : كانت.

٣٢٣

١٩٦٦ ـ هما نفثا في فيّ من فمويهما

على النّابح العاوي أشدّ رجام (١)

بخلاف الإفراد فإنّه ورد في فصيح الكلام ، ومنه : «مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما».

وقال بعضهم : الأحسن الجمع ، ثم التّثنية ، ثمّ الإفراد كقوله : [الطويل]

١٩٦٧ ـ حمامة بطن الواديين ترنّمي

سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها (٢)

وقال الزّمخشريّ : أيديهما : يديهما ، ونحوه : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف ، وأريد باليدين اليمنيان بدليل قراءة عبد الله : «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم» وردّ عليه أبو حيّان بأنهما ليسا بشيئين ، فإن النوع الأوّل مطّرد فيه وضع الجمع موضع التّثنية ، بخلاف الثاني فإنه لا ينقاس ، لأن المتبادر إلى الذّهن من قولك : «قطعت آذان الزّيدين» : «أربعة الآذان» وهذا الردّ ليس بشيء ؛ لأنّ الدليل دلّ على أنّ المراد اليمنيان.

فصل من أول من قطع في حد السرقة؟

قال القرطبي (٣) : أول من حكم بقطع [اليد](٤) في الجاهلية ابن المغيرة ، فأمر الله بقطعه في الإسلام ، فكان أول سارق قطعه رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في الإسلام ، من الرّجال الخيار بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف ومن النساء مرّة بنت سفيان من بني مخزوم ، وقطع أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يد الفتى الذي سرق العقد ، وقطع عمر ـ رضي الله عنه ـ يد ابن سمرة أخي عبد الرّحمن بن سمرة.

فصل لماذا بدأ الله بالسارق في الآية؟

قال القرطبيّ (٥) : بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل السّارقة ، وفي الزّنا بدأ بالزانية ، والحكمة في ذلك أن يقال : لما كان حبّ المال على الرجال أغلب ، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضعين.

قوله تعالى : «جزاء» فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدّر ، أي : جازوهما جزاء.

الثاني : أنّه مصدر [أيضا](٦) لكنه منصوب على معنى نوع المصدر ؛ لأنّ قوله : «فاقطعوا» في قوّة : جازوهما بقطع الأيدي جزاء.

__________________

(١) تقدم.

(٢) اختلف في نسبة هذا البيت فنسب إلى الشماخ وإلى توبة بن الحمير وهو في ملحق ديوان الشماخ (٤٣٨) وديوان توبة (٣٦) ، وينظر : المقرب ٢ / ١٢٨ ، وأمالي القالي ١ / ٨٨ ، الهمع ١ / ٥٥ ، الدرر ١ / ٢٦ ، والدر المصون ٢ / ٥٢٤.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٠٥.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١١٤.

(٦) سقط في أ.

٣٢٤

الثالث : أنّه منصوب على الحال ، وهذه الحال يحتمل أن تكون من الفاعل ، أي : مجازين لهما بالقطع بسبب كسبهما ، وأن تكون من المضاف إليه في «أيديهما» ، أي : في حال كونهما مجازين ، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه ، لأنّ المضاف جزؤه ، كقوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر : ٤٧].

الرابع : أنّه [مفعول] من أجله ، أي : لأجل الجزاء ، وشروط النصب موجودة.

و «نكالا» منصوب كما نصب «جزاء» ولم يذكر الزمخشريّ فيهما غير المفعول من أجله.

قال أبو حيان (١) : «تبع في ذلك الزّجّاج» (٢) ، ثم قال : «وليس بجيّد إلّا إذا كان الجزاء هو النّكال ، فيكون ذلك على طريق البدل ، وأمّا إذا كانا متباينين ، فلا يجوز ذلك إلا بوساطة حرف العطف».

قال شهاب الدّين : النّكال : نوع من الجزاء فهو بدل منه ، على أنّ الذي ينبغي أن يقال هنا إنّ «جزاء» مفعول من أجله ، العامل فيه «فاقطعوا» ، فالجزاء علة للأمر بالقطع ، و «نكالا» مفعول من أجله أيضا العامل فيه «جزاء» ، والنّكال علّة للجزاء ، فتكون العلة معلّلة بشيء آخر ، فتكون كالحال المتداخلة ، كما تقول : «ضربته تأديبا له إحسانا إليه» ، فالتأديب علّة للضرب ، والإحسان علة للتأديب ، وكلام الزمخشريّ والزّجاج لا ينافي (٣) ما ذكرنا فإنّه لا منافاة بين هذا وبين قولهما : «جزاء» مفعول من أجله ، وكذلك «نكالا» فتأمّله ، فإنه وجه حسن ، فطاح الاعتراض على الزمخشري والزّجّاج ، والتفصيل المذكور في قوله : «إلا إذا كان الجزاء هو النّكال» ، ثم ظفرت بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له أن ينصب مفعولا له آخر يكون علّة فيه ، وذلك أنّ المعربين أجازوا في قوله تعالى : (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً) [البقرة : ٩٠] أن يكون «بغيا» مفعولا له ، ثم ذكروا في قوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) أنه مفعول له ناصبه «بغيا» ، فهو علة له ، صرّحوا بذلك فظهر ما قلت ولله الحمد.

و «بما» متعلق ب «جزاء» ، و «ما» يجوز أن تكون مصدرية ، أي : بكسبهما ، وأن تكون بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف لاستكمال الشروط أي : بالذي كسباه ، والباء سببيّة.

فصل

قال بعض الأصوليّين (٤) : هذه الآية مجملة من وجوه :

أحدها : أنّ الحكم معلّق على السرقة ، ومطلق السرقة غير موجب القطع ، بل لا بد

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٩٥.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ١٩٠.

(٣) في ب : لا يبالي.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

٣٢٥

أن تكون هذه السرقة سرقة لمقدار مخصوص من المال ، وذلك القدر مذكور في الآية ، فكانت الآية مجملة.

وثانيها : أنّه تعالى أوجب قطع الأيمان والشمائل وبالإجماع لا يجب قطعهما معا فكانت الآية مجملة.

وثالثها : أن اليد اسم يتناول الأصابع وحدها ، ويقع على الأصابع مع الكفّ ، والسّاعد إلى المرفقين ، ويقع على كل ذلك إلى المنكبين (١) ، وإذا كان لفظ اليد محتملا لكلّ هذه الأقسام والتعيين غير مذكور في هذه الآية فكانت مجملة.

ورابعها : أن قوله : «فاقطعوا» خطاب مع قوم ، فيحتمل أن يكون هذا التكليف واقعا على مجموع الأمّة ، وأن يكون واقعا على طائفة مخصوصة منهم ، وأن يكون على شخص معين منهم ، وهو إمام الزمان كما ذهب إليه الأكثرون ، ولمّا لم يكن التعيين مذكورا في الآية كانت مجملة ، فثبت بهذه الوجوه أنّ هذه الآية مجملة على الإطلاق.

وقال قوم من المحقّقين (٢) : إنّ الآية ليست مجملة ألبتة ، وذلك لأنّا بيّنّا أنّ الألف واللام في قوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) قائمان مقام «الذي» والفاء في قوله «فاقطعوا» للجزاء ، وكما أنّ التقدير : الذي سرق فاقطعوا يده ، ثمّ تأكّد هذا بقوله تعالى : (جَزاءً بِما كَسَبا) وذلك أنّ الكسب لا بدّ وأن يكون المراد به ما تقدم ذكره ، وهو السّرقة ، فصار هذا الدليل على مناط الحكم [ومتعلقه](٣) هو ماهية السرقة ، ومقتضاه أن يعمّ الجزاء أينما حصل الشرط. اللهمّ إلا إذا قام دليل منفصل يقتضي تخصيص هذا العامّ ، وأمّا قوله : «الأيدي» عامّة ، فنقول : مقتضاه قطع الأيدي ، لكنّه لما انعقد الإجماع على أنه لا يجب قطعهما معا ، ولا الابتداء [باليد](٤) اليسرى ، أخرجناه من العموم.

وأمّا قوله : «لفظ اليد دائر بين أشياء».

فنقول : لا نسلّم ، بل اليد اسم لهذا العضو إلى المنكب ولهذا السّبب قال تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ولو لا دخول العضدين في هذا الاسم ، وإلّا لما احتيج إلى التّقييد بقوله «إلى المرافق». فظاهر الآية : يوجب قطع اليدين من المنكبين كما هو قول الخوارج ، إلّا أنّا تركنا ذلك لدليل منفصل وأما قوله «رابعا» يحتمل أن يكون الخطاب مع واحد معيّن.

قلنا : ظاهره أنّه خطاب مع [كل أحد](٥) ، ترك العمل به ، فلما صار مخصوصا بدليل منفصل فيبقى معمولا به في الباقي فالحاصل أنّا نقول : الآية عامة صارت

__________________

(١) في أ : المركبتين.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : واحد معين.

٣٢٦

مخصوصة بدلائل منفصلة في بعض الصّور ، فيبقى حجّة فيما عداها ، وهذا القول أولى من القول بأنها مجملة لا تفيد فائدة أصلا.

فصل لماذا لم يحد الزاني بقطع ذكره؟

قال القرطبي (١) : جعل الله حدّ السرقة قطع اليد لتناولها المال ، ولم يجعل حدّ الزّنا قطع الذّكر مع موافقة الفاحشة به لأمور :

أحدها : أن للسارق مثل يده التي قطعت ، فإن انزجر بها اعتاض بالباقية ، وليس للزّاني مثل ذكره ، إذا قطع ولم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه.

الثاني : أنّ الحدّ زجر للمحدود ولغيره (٢) ، وقطع يد السّارق ظاهر ، وقطع الذكر في الزنا باطن.

الثالث : أنّ قطع الذكر إبطال للنّسل وليس في قطع اليد إبطال للنسل.

فصل

قال جمهور الفقهاء (٣) : لا يجب القطع إلا بشرطين : قدر النصاب ، وأن تكون السرقة من حرز.

قال ابن عباس وابن الزّبير والحسن البصريّ ـ رضي الله عنهم ـ القدر غير معتبر ، والقطع واجب في القليل والكثير ، والحرز أيضا غير معتبر ، وهذا قول داود الأصفهاني وقول الخوارج ، وتمسكوا بعموم الآية ، فإنّه لم يذكر فيها النصاب ولا الحرز ، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وبالقياس غير جائز ، واحتج الجمهور بأنه لا حاجة إلى القول بالتخصيص ، بل نقول إنّ لفظ السرقة لفظ عربيّ ، ونحن بالضرورة ، نعلم أنّ أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبّة من حنطة الغير أو تبنة واحدة أو كسرة صغيرة أنّه سرق ماله ، فعلمنا أنّ أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمّى سرقة ، وأيضا فالسرقة مشتقّة من مسارقة عين المالك [وإنّما يحتاج إلى مسارقة عين المالك](٤) لو كان المسروق أمرا يتعلق به الرغبة في محلّ الشّحّ والضّنّة حتّى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير ، ولهذا الطريق اعتبرنا في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل ، لأنّ ما لا يكون موضوعا في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين ، فلا يسمّى أخذه سرقة.

قال داود (٥) : نحن لا نوجب القطع في سرقة الجبّة الواحدة ، بل في أقلّ شيء يسمّى مالا ، وفي أقلّ شيء يجري فيه الشّحّ والضّنّة ، وذلك لأن مقادير القلّة والكثرة غير

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١١٤.

(٢) في أ : وتفسير له.

(٣) ينظر : تفسير الرازي (١١ / ١٧٧).

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧٨.

٣٢٧

مضبوطة ، فربّما استحقر (١) الملك الكبير آلافا مؤلّفة ، وربما استعظم الفقير طسّوجا (٢) ، ولهذا قال الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ : لو قال : لفلان عليّ مال عظيم ، ثم فسره بالحبة ، يقبل قوله فيه لاحتمال أنّه كان عظيما في نظره ، أو كان عظيما عنده لغاية فقره وشدة احتياجه إليه ، ولما كانت مقادير القلّة والكثرة غير مضبوطة ، وجب بناء الحكم على أقل ما يسمّى مالا.

وليس لقائل أن يستبعد ويقول : كيف يجوز [القطع في سرقة](٣) الطسوجة الواحدة ، فإنّ الملحد قد جعل هذا طعنا في الشريعة فقال : اليد لما كانت قيمتها خمسمائة دينار من الذّهب ، فكيف تقطع لأجل القليل من المال؟ ثم إن أجبنا عن هذا الطعن ، بأنّ الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمّل الدناءة والخساسة (٤) في سرقة ذلك القدر القليل ، فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة بهذه العقوبة العظيمة ، وإذا كان هذا الجواب مقبولا منّا في إيجاب القطع في القليل والكثير ، قال : وممّا يدل على أنّه لا يجوز تخصيص عموم القرآن هاهنا بخبر الواحد ، وذلك لأن القائلين بتخصيص هذا العموم اختلفوا على وجوه :

قال الشافعيّ : يجب القطع في ربع دينار ، وروى فيه قوله عليه الصلاة والسلام «لا قطع إلّا في ربع دينار» (٥) وقال أبو حنيفة : لا يجب إلّا في عشرة دراهم مضروبة ، وروى قوله عليه الصلاة والسلام «لا قطع إلا في ثمن المجنّ» (٦) قال : والظاهر أنّ ثمن المجنّ لا يكون أقلّ من عشرة دراهم.

وقال مالك وأحمد وإسحاق : يقدر بثلاثة دراهم أو ربع دينار وقال ابن أبي ليلى : مقدّر بخمسة دراهم ، وكلّ واحد من هؤلاء المجتهدين يطعن في الخبر الذي يرويه الآخر ، فعلى هذا التقدير : فهذه المخصصات صارت متعارضة ، فوجب ألّا يلتفت إلى شيء منها ، ويرجع في معرفة حكم الله تعالى إلى ظاهر القرآن.

قال (٧) : وليس لأحد أن يقول : إن الصحابة أجمعوا على أنّه لا يجب القطع إلّا في مقدار معيّن ، قال : لأنّ الحسن البصريّ كان يوجب القطع بمجرد السّرقة ، وكان يقول :

__________________

(١) في أ : استحقوا.

(٢) ثبت في هامش (ب) وهو ربع دانق.

(٣) في ب : قطع اليد في السرقة.

(٤) في أ : الخامسة.

(٥) أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (٧ / ٢٠٩ ـ ٢١٠) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣ / ١٦٦) من حديث عمرة عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لا قطع إلّا في ربع دينار.

وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٣٣٤٥) وعزاه لابن حبان.

(٦) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٥ / ٣٨٤) رقم (١٣٣٤٨) وعزاه للبغوي. وأخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٨٣١) كتاب الحدود ما يجب فيه القطع وذكره البغوي في شرح السنة» (٥ / ٤٨٦) بمعناه.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧٨.

٣٢٨

احذر من قطع درهم ، ولو كان الإجماع منعقدا لما خالف الحسن البصري فيه مع قربه من زمن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، وشدة احتياطه فيما يتعلق بالدين ، فهذا تقرير مذهب الحسن البصريّ ومذهب داود الأصفهاني ، وأمّا الفقهاء فقالوا : لا بدّ في وجوب القطع من القدر.

فقال الشافعيّ : القطع في ربع دينار فصاعدا وهو نصاب السرقة ، وسائر الأشياء تقوّم به ، وقال أبو حنيفة والثّوريّ لا يجب القطع في أقل من عشرة دراهم مضروبة. ويقوّم غيرها به ، وقال مالك وأحمد : ربع دينار [أو](١) ثلاثة دراهم ، وقال ابن أبي ليلى : خمسة دراهم ، وحجة الشافعي ـ رضي الله عنه ـ ما روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : «القطع في ربع دينار فصاعدا» (٢).

وحجّة مالك ـ رضي الله عنه ـ ما روي عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قطع سارقا في مجنّ ثمنه ثلاثة دراهم (٣).

وروي عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أنّه قطع السارق في أترجّة قوّمت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر دينار ، واحتجّ أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بأنّه قول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ، وبأن المجنّ قيمته عشرة دراهم (٤) ، واحتج ابن أبي ليلى ـ رحمه‌الله ـ بما روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : «لعن الله السّارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده» (٥).

قال الأعمش (٦) : كانوا يرون أنّه بيض الحديد والحبل ، يرون أنه منها تساوي ثلاثة دراهم ، ويحتج بهذا من يرى القطع في الشيء القليل ، وعند الأكثرين محمول على ما قاله الأعمش لحديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه الشافعي ٢ / ٨٣ ، الباب الثاني في حد السرقة (٢٧١) ، والبخاري ١٢ / ٩٩ ، كتاب الحدود : باب قول الله تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (٦٧٨٩) ، وطرفه في (٦٧٩٠ ـ ٦٧٩١) ، ومسلم ٣ / ١٣١٢ كتاب الحدود : باب حد السرقة ونصابها (١ ـ ١٦٨٤).

(٣) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٨٣١ ، في الحدود : باب ما يجب فيه القطع والبخاري ١٢ / ٩٩ في الحدود : باب قول الله تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ (٦٧٩٥) ، وأطرافه في (٦٧٩٦ ـ ٦٧٩٧ ـ ٦٧٩٨) ، ومسلم ٣ / ١٣١٣ ، في الحدود : باب حد السرقة (٦ ـ ١٦٨٦). وأبو داود (٤٣٨٦) والنسائي (٢ / ٢٥٨) والدارمي (٢ / ١٧٣) وابن ماجه (٢٥٨٤) والطحاوي في شرح معاني الآثار (٢ / ٩٣) والبيهقي (٨ / ٢٥٦).

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه البخاري ١٢ / ٨٣ ، في الحدود : (٦٧٨٣) ، وطرفه في (٦٧٩٩) ، ومسلم ٣ / ١٣١٤ ، كتاب الحدود : باب حد السرقة (٧ ـ ١٦٨٧).

(٦) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٥.

٣٢٩

فإن قيل : إذا سرق المال من السّارق ، فقال الشافعيّ : لا يقطع لأنّه سرق من غير مالك ومن غير حرز.

وقال أصحاب مالك (١) : حرمة المالك عليه لم تنقطع عنه ، ويد السارق كلا يد كالغاصب إذا سرق منه المال المغصوب قطع ، فإن قيل : حرزه كلا حرز. فالجواب : الحرز قائم والمالك قائم ، ولم يبطل الملك فيه.

فصل المذاهب فيما إذا كرر السارق السرقة

قال الشافعي (٢) : الرجل إذا سرق أولا قطعت يده اليمنى ، وفي الثانية رجله اليسرى وإذا سرق في الثالثة تقطع يده اليسرى ، وفي الرابعة : رجله اليمنى ؛ لأنّ السرقة علّة القطع وقد وجدت وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ وأحمد والثّوريّ ـ رضي الله عنهم ـ : لا يقطع في الثالثة والرابعة ، بل يحبس.

فصل

قال أبو حنيفة والثّوريّ (٣) : لا يجمع بين القطع والغرم ، فإن غرّم فلا قطع ، وإن قطع سقط الغرم ، وقال الشافعي وأحمد ـ رضي الله عنهما ـ يغرّم إن تلف المسروق ، وإن كان باقيا ردّه.

وقال مالك : يقطع بكلّ حال ، ويغرّم إن كان غنيا ، ولا يلزمه إن كان فقيرا ، واستدل الشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» (٤) ، ولأنّ المسروق لو كان باقيا وجب ردّه بالإجماع ، ولأنّ حق الله لا يمنع حقّ العباد ، بدليل اجتماع الجزاء والقيمة في الصّيد المملوك ، ولأنّه باق على ملك مالكه إلى وقت القطع (٥).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٦ / ١٠٨.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٧٩.

(٣) ينظر : المصدر السابق ١١ / ١٨٠.

(٤) أخرجه أبو داود ٣ / ٢٩٦ ، في البيوع : باب في تضمين العارية (٣٥٦١) ، والترمذي ٣ / ٥٦٦ ، في البيوع : باب ما جاء في أن العارية مؤداة (١٢٦٦) ، وقال حسن صحيح وابن ماجه ٢ / ٨٠٢ ، في الصدقات : باب العارية (٢٤٠٠) ، وأحمد في المسند ٥ / ٨ ، والدارمي في السنن ٢ / ٢٦٤ ، في البيوع ، باب في العارية مؤداة ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٤٧ ، في البيوع : باب لا يجوز لامرأة في مالها وقال صحيح الإسناد على شرط البخاري وأقره الذهبي وأخرجه البيهقي ٦ / ٩٠ ، في العارية مضمونة ٩٥١ ، ٨ / ٢٧٦ ، والطبراني في الكبير ٧ / ٢٥٢ ، وابن أبي شيبة ٦ / ١٤٦ ، وابن الجارود في المنتقى (١٠٢٤) ، وقال الحاكم تخريجه له على شرط البخاري ونازعه ابن دقيق العيد ورده ابن حزم بأن قال الحسن لم يسمع من سمرة وهو أحد مذاهب ثلاثة فيه ورأى البخاري وجماعة أنه سمع منه مطلقا.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٨٠.

٣٣٠

فإن قيل : الحرز عادة ما نصب لحفظ الأموال ، وهو يختلف في كلّ شيء بحسب عادته(١).

قال ابن المنذر : ليس فيه خبر ثابت.

فالجواب (٢) : وإن سرق من غير حرز لا قطع لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا قطع في ثمر معلّق ولا في حريسة جبل ، وإذا آواها المراح والحرز فالقطع فيما بلغ ثمن المجنّ» وقال عليه الصلاة والسلام : «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» (٣).

وإذا سرق من مال فيه شبهة ، كالعبد المسروق في مال سيّده ، والولد من مال والده ، والوالد من مال ولده ، وأحد الشريكين من مال المشترك لا قطع عليه.

فصل فيما إذا اشترك جماعة في سرقة

إذا اشترك جماعة في سرقة نصاب من حرز ، فلا يخلو : إمّا أنّ بعضهم يقدر على إخراجه أو لا يقدر إلا بمعاونتهم ، فإن كان الأول فقيل : يقطع ، وقيل : لا يقطع ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، فإذا نقب واحد الحرز وأخذ الآخر ، فإن كان انفرد كل واحد بفعله دون اتفاق منهما ، فلا قطع على واحد منهما ، وإن تفاوتا في النّقب وانفرد أحدهما بالاخراج خاصة ، فإن دخل أحدهما وأخرج المتاع إلى باب الحرز فأدخل الآخر يده فأخذه ، فعليه القطع ويعاقب الأول ، وقيل: يقطعان وإن وضعه خارج الحرز فعليه القطع لا على الآخذ.

فصل في حكم النبّاش

والقبر والمسجد حرز فيقطع النّباش عند الجمهور ، وقال أبو حنيفة : لا يقطع ؛ لأنّه سرق من غير حرز مالا معرّضا (٤) للتّلف لا مالك له ؛ لأنّ الميّت لا يملك.

فصل

قال الشافعي (٥) ـ رضي الله عنه ـ للمولى إقامة الحدّ على مماليكه ، وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : لا يملك ذلك.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٤.

(٢) ينظر : المصدر السابق ٢ / ٣٥.

(٣) أخرجه أبو داود ٤ / ١٣٨ في الحدود : باب القطع في الخلسة والخيانة (٤٣٩٢ ـ ٤٣٩٣) والترمذي ٤ / ٤٢ ، في الحدود : باب ما جاء في الخائن والمختلس (١٤٤٨) والنسائي ٨ / ٨٩ ، في السرقة : باب ما لا قطع فيه (٤٩٧٥) ، وابن ماجه ٢ / ٨٦٤ ، في الحدود : باب الخائن والمنتهب (٢٥٩١) ، وابن حبان ذكره الهيثمي في موارد الظمآن (٣٦١) ، باب فيمن لا قطع فيه (١٥٠٢) ، (١٥٠٣) ، وقال الزيلعي في نصب الراية : وسكت عنه عبد الحق في أحكامه وابن القطان بعد ، فهو صحيح عندهما.

(٤) في أ : بمالا معرض.

(٥) ينظر : الرازي ١١ / ١٨٠ ـ ١٨١.

٣٣١

فصل في وجوب نصب إمام

احتجّوا بهذه الآية على أنّه يجب على الأمّة أن ينصّبوا لأنفسهم إماما معيّنا ، لأنّه تعالى أوجب بهذه الآية إقامة الحدّ على السّرّاق والزّناة فلا بدّ من شخص يكون مخاطبا بهذا الخطاب ، وأجمعت الأمة على أنّه ليس لآحاد الرعيّة إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلّا الإمام ، فلمّا كان هذا تكليفا جازما ، ولا يمكن الخروج من عهدته ، إلا بوجود الإمام وجب نصبه ؛ لأنّ ما لا يأتي الواجب إلا به ، وكان مقدورا للمكلّف فهو واجب.

فصل

قالت المعتزلة : قوله تعالى : (جَزاءً بِما كَسَبا) يدلّ على تعليل أحكام الله تعالى ؛ لأنّه صريح في أنّ القطع إنّما وجب معلّلا بالسرقة.

وجوابه ما تقدم في قوله (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا).

قوله تعالى (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) والمعنى : عزيز في انتقامه ، حكيم في شرائعه وتكاليفه ، قال الأصمعيّ : كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابيّ. فقرأت هذه الآية فقلت : والله غفور رحيم ، سهوا فقال الأعرابيّ : كلام من هذا ، فقلت : كلام الله ، فقال : أعد ، فأعدت : والله غفور رحيم ثمّ تنبّهت فقلت : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقال : الآن أصبت.

قلت : كيف عرفت؟ فقال : يا هذا ، عزّ فحكم فأمر بالقطع ، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع.

قوله تعالى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) الجارّ [والمجرور في قوله : (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ)](١) متعلّق ب «تاب» و «ظلم» مصدر مضاف إلى فاعله ، أي : من بعد أن ظلم غيره بأخذ ماله.

وأجاز بعضهم أن يكون مضافا للمفعول ، أي : من بعد أن ظلم نفسه ، وفي جواز هذا نظر ؛ إذ يصير التقدير : من بعد أن ظلمه ، ولو صرّح بهذا الأصل لم يجز ؛ لأنّه يؤدّي إلى تعدّي فعل المضمر إلى ضميره المتصل ، وذلك لا يجوز إلا في باب : «ظن وفقد وعدم» ، كذلك قاله أبو حيان.

وفي نظره نظر ؛ لأنّا إذا حللنا المصدر لحرف مصدريّ وفعل ، فإنّما يأتي بعد الفعل بما يصحّ تقديره ، وهو لفظ النّفس ، أي : من بعد أن ظلم نفسه. انتهى.

__________________

(١) سقط في أ.

٣٣٢

فصل في معنى الآية

المعنى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ) سرقته «وأصلح» العمل ، (فَإِنَّ اللهَ) تعالى (يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا فيما بينه وبين الله تعالى ، فأمّا القطع فلا يسقط بالتّوبة عند الأكثرين.

قال مجاهد (١) : السارق لا توبة له ، فإذا قطع حصلت التوبة ، والصحيح : أن القطع جزاء على الجناية لقوله تعالى : (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) فلا بدّ من التّوبة بعد ، وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل ، وهذه الآية تدلّ على أنّ من تاب من بعد ظلمه وأصلح ، فإنّ الله تعالى يقبل توبته.

فإن قيل : قوله «وأصلح» يدلّ على أنّ مجرد التوبة غير مقبول. فالجواب : المراد وأصلح التوبة بنية صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض.

فصل في أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى

دلّت الآية على أنّ قبول التوبة غير واجب على الله تعالى ، لأنّه يمدح بقبول التوبة ، والتمدّح إنما يكون بفعل التّفضّل والإحسان لا بأداء الواجبات.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية.

لما ذكر عقاب السّارق ، ثمّ ذكر أنّه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فيعذب من يشاء ، ويغفر لمن يشاء وإنّما قدم التعذيب على المغفرة ، لأنّه في مقابلة السرقة ، والسرقة مقدمة على التوبة.

قال السديّ والكلبيّ (٢) : يعذب من يشاء ممّن مات على كفره ، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يعذب من يشاء على الصّغيرة ، ويغفر لمن يشاء الكبيرة والله غفور رحيم.

قال القرطبيّ (٣) : هذه الاية خطاب للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أي : لا قرابة لأحد بينه وبين الله توجب المحاباة حتى يقول قائل : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ، والحدود تقام على كلّ من قارف حدّا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٦.

(٢) ينظر : البغوي ٢ / ٣٦.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١١٤.

٣٣٣

أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٤١)

قد تقدم أنّ «يحزن» يقرأ (١) بفتح الياء وضمّها وأنهما لغتان ، وهل هما بمعنى ، أو بينهما فرق.

والنّهي للنبيّ في الظاهر ، وهو من باب قوله : «لا أرينك هاهنا» ، أي : لا تتعاط أسبابا يحصل لك بها حزن من جهتهم ، وتقدم لك تحقيق ذلك مرارا.

وقول أبي البقاء (٢) في «يحزنك» : «والجيد فتح الياء وضمّ الزّاي ، ويقرأ بضمّ الياء ، وكسر الزّاي من : أحزنني وهي لغة» ـ ليس بجيّد ؛ لأنها قراءة متواترة ، وقد تقدّم دليلها في آل عمران [الآية ٧٦]. و «يسارعون» من المسارعة ، و «في الكفر» متعلق بالفعل قبله ، وقد تقدم نظيرها في آل عمران. واعلم أنه تعالى خاطب النبيّ عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) في مواضع كثيرة ، ولم يخاطبه بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) إلّا في موضعين في هذه السورة.

أحدهما : هاهنا ، والثانية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) [المائدة : ٦٧] وهذا خطاب تشريف وتعظيم.

واعلم أنه تعالى لما بيّن بعض التكاليف والشرائع ، وكان قد علم من بعض النّاس المسارعة إلى الكفر لا جرم صبّر رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على تحمّل ذلك ، وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك أي : لا تهتمّ ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفران في موالاة الكفار ، فإنهم لن يعجزوا الله شيئا.

قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا) يجوز أن يكون [حالا من](٣) الفاعل في «يسارعون» أي : يسارعون حال (٤) كونهم بعض الذين قالوا ، ويجوز أن يكون حالا من نفس الموصول ، وهو قريب من معنى الأول ، ويجوز أن يكون «من» بيانا لجنس الموصول الأول ، وكذلك «من» الثانية ، فتكون تبيينا وتقسيما للذين يسارعون في الكفر ، ويكون «سمّاعون» على هذا خبر مبتدأ محذوف و «آمنّا» منصوب ب «قالوا» [و «أفواههم» متعلق ب «قالوا» لا ب «آمنّا»](٥) بمعنى أنه لم يجاوز قولهم أفواههم ، إنّما نطقوا به غير معتقدين له بقلوبهم. وقوله : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) جملة حاليّة.

قال بعض المفسّرين : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : من الذين قالوا : آمّنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وهؤلاء هم المنافقون.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٩٩ ، والدر المصون ٢ / ٥٢٦.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٥.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : رجال.

(٥) سقط في أ.

٣٣٤

قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) فيه وجهان :

أحدهما : ما تقدّم ، وهو أن يكون معطوفا على (مِنَ الَّذِينَ قالُوا) بيانا وتقسيما.

والثاني : أن يكون خبرا مقدما ، و «سمّاعون» مبتدأ ، والتقدير : «ومن الذين هادوا قوم سماعون» ، فتكون جملة مستأنفة ، إلّا أن الوجه الأول مرجّح بقراءة الضّحّاك : «سمّاعين» على الذّمّ بفعل محذوف ، فهذا يدلّ على أن الكلام ليس جملة مستقلة ، بل قوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا) عطف على (مِنَ الَّذِينَ قالُوا).

وقوله «سماعون» مثال مبالغة ، و «للكذب» فيه وجهان :

أحدهما : أنّ «اللام» زائدة ، و «الكذب» هو المفعول ، أي : سمّاعون الكذب ، وزيادة اللام هنا مطّردة لكون العامل فرعا ، فقوي باللام ، ومثله (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦].

والثاني : أنّها على بابها من التعليل ، ويكون مفعول «سمّاعون» محذوفا ، أي : سمّاعون أخباركم وأحاديثكم ليكذبوا فيها بالزيادة والنّقص والتّبديل ، بأن يرجفوا بقتل المؤمنين في السّرايا كما نقل من مخازيهم.

وقوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ) يجوز أن تكون هذه تكريرا للأولى ، فعلى هذا يجوز أن يتعلّق قوله : «لقوم» بنفس الكذب ، أي : يسمعون ليكذبوا لأجل قوم [ويجوز أن تتعلق اللام بنفس «سمّاعون» أي : سمّاعون لأجل قوم لم يأتوك ؛](١) لأنهم لبغضهم لا يقربون مجلسك ، وهم اليهود ، و «لم يأتوك» في محلّ جرّ ؛ لأنّها صفة ل «قوم».

فصل

ذكر الفرّاء والزّجّاج هاهنا وجهين (٢).

الأول : أنّ الكلام إنّما يتمّ عند قوله (وَمِنَ الَّذِينَ) ثم يبتدأ الكلام من قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) [وتقدير الكلام : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ، ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سمّاعين لقوم آخرين](٣).

الوجه الثاني : أن الكلام تمّ عند قوله : (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) ثم ابتدأ فقال : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) وعلى هذا التقدير : فقوله : «سمّاعون» صفة محذوف والتقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم سمّاعون.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١١ / ١٨٣.

(٣) سقط في أ.

٣٣٥

وحكى الزّجّاج في قوله تعالى (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) وجهين :

الأوّل : معناه : قائلون للكذب ، فالسمع يستعمل ، والمراد منه القبول كما تقول : لا تسمع من فلان ، أي : لا تقبل منه ، ومنه : «سمع الله لمن حمده» ، وذلك الكذب الذي يقبلونه هو ما يقوله رؤساؤهم من الأكاذيب في دين الله تعالى ، وفي تحريف التوراة ، وفي الطعن في سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.

والوجه الثّاني : أنّ المراد من قوله «سمّاعون» نفس السّماع ، واللام في قوله «للكذب» لام كي أي : يسمعون منك لكي يكذبوا عليك ، وذلك أنّهم كانوا يسمعون من الرّسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ثم يخرجون ويقولون : سمعنا منه كذا وكذا ، ولم يستمعوا ذلك منه ، وأمّا (لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) والمعنى أنهم (١) أعين وجواسيس لقوم آخرين لم يأتوك ، ولم يحضروا عندك ليبلّغوا إليهم أخبارك ، وهم بنو قريظة والنّضير.

قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ) يجوز أن يكون صفة ل «سمّاعون» ، أي : سمّاعون محرّفون ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في «سماعون» ويجوز أن يكون مستأنفا لا محلّ له.

ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : هم محرّفون.

ويجوز أن يكون في محلّ جرّ صفة ل «قوم» ، أي : لقوم محرّفين.

و (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) تقدم في النّساء [الآية ٤٦].

و «يقولون» ك «يحرّفون» ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير «يحرّفون» ، والجملة شرطيّة من قوله : (إِنْ أُوتِيتُمْ) [مفعولة بالقول ، و «هذا» مفعول ثان ل «أوتيتم»](٢) فالأول قائم مقام الفاعل ، و «الفاء» جواب الشرط ، وهي واجبة لعدم صلاحيّة الجزاء لأن يكون شرطا ، وكذلك الجملة من قوله : (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ).

فصل في معنى الآية

ومعنى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي : من بعد أن وضعه الله ـ عزوجل ـ في مواضعه ، أي فرض دينه ، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه. قال المفسرون (٣) : إنّ رجلا وامرأة من أشراف خيبر زنيا ، وكان حدّ الزّنا في التوراة الرّجم ، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما ، فأرسلوا قوما إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن حكمه في الزّانيين إذا أحصنا وقالوا : إن أمركم بالجلد فاقبلوا ، وإن أمركم بالرّجم فلا تقبلوا. فلمّا

__________________

(١) في أ : لأنهم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٧.

٣٣٦

سألوا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن ذلك فنزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به ، فقال جبريل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريّا ووصفه له. فقال لهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : [هل](١) تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له : ابن صوريّا؟

قالوا : نعم ، قال : فأيّ رجل هو فيكم قالوا : هو أعلم يهوديّ بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بن عمران في التّوراة قال : فأرسلوا إليه. ففعلوا فأتاهم ، فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أنت ابن صوريّا قال : نعم ، فقال له عليه الصلاة والسلام : «أنشدك الله الذي لا إله إلّا هو الذي أنزل التوراة على موسى ، وأخرجكم من مصر ، وفلق لكم البحر ، وأنجاكم ، وأغرق آل فرعون ، وظلل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المنّ والسّلوى ، ورفع فوقكم الطّور ، وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرّجم على من أحصن.

قال ابن صوريّا : نعم ، والذي ذكّرتني به لو لا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت [أو بدلت](٢) ما اعترفت لك ، ولكن كيف هي في كتابكم يا محمد؟ قال : إذا شهد أربعة رهط عدول ، أنّه قد أدخل فيها ذكره كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرّجم ، فقال ابن صوريّا : والّذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله التوراة على موسى فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم : [فماذا كان](٣) أوّل ما ترخّصتم به أمر الله عزوجل قال : كنّا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدّ ، فكثر الزّنا في أشرافنا حتى زنى ابن عمّ [ملك] لنا فلم نرجمه ، ثم زنا رجل آخر في أسوة من النّاس ، فأراد ذلك الملك رجمه ، فقام دونه قومه ، فقالوا : والله لا نرجمه حتى نرجم فلانا ابن عمّ الملك. فقلنا : تعالوا نجتمع فنضع شيئا دون الرجم يكون على الشّريف والوضيع ، فوضعنا الجلد والتّحميم ؛ وهو أن يجلدا أربعين جلدة بحبل مطليّ بالقار ، ثم يسوّد وجوههما ، ثمّ يحملا على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار ، ويطاف بهما ، فجعلوا هذا مكان الرجم. فقال اليهود [لابن صوريا](٤) : ما أسرع ما أخبرته به ، وما [كنت لما أثنينا](٥) عليك بأهل ، ولكنّك كنت غائبا ، فكرهنا أن نغتابك ، فقال لهم ابن صوريا : إنّه قد أنشدني بالتوراة ، ولو لا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته ، فأمر بهما النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فرجما عند باب المسجد ، وقال : اللهم ، إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : فإنه.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : وما كنت لما أتينا.

٣٣٧

فقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) جمع كلمة ، وذكر الكناية ردّا على لفظها الكلم (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي : وضعوا الجلد مكان الرجم.

وقيل : سبب نزول هذه الآية : أنّ بني النضير كان لهم فضل على بني قريظة ، فقال بنو قريظة : يا محمد إخواننا بنو النضير وأبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد ، وإذا قتلوا منّا قتيلا لم يقيدونا ، وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر. وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل ، وأخذوا منّا الضّعف مائة وأربعين وسقا من تمر. وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا ، وبالرجل منهم الرجلين منّا ، وبالعبد حرا منّا ، وجراحاتهم على الضّعف من جراحاتنا. فاقض بيننا وبينهم ، فأنزل الله هذه الآية ، والأول أصح لأنّ الآية في الرّجم.

فصل

قال القرطبي (١) : الجمهور على ردّ شهادة الذّمّيّ ؛ لأنّه ليس من أهلها فلا تقبل على مسلم ، ولا على كافر وقبل شهادتهم جماعة من الناس إذا لم يوجد مسلم ، على ما يأتي في آخر السورة (٢).

فإن قيل : قد حكم بشهادتهم ورجم الزّانيين.

فالجواب : أنّه إنّما تقدم عليهم بما علم أنّه حكم التّوراة ، وألزمهم العمل به على نحو ما عملت به بنو إسرائيل ؛ إلزاما للحجة عليهم ، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم ، فكان منفذا لا حاكما.

قوله تعالى : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي : إن أمركم بحدّ الجلد فاقبلوا ، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) «من» مفعول مقدم ، وهي شرطية.

وقوله : (فَلَنْ تَمْلِكَ) جوابه ، و «الفاء» أيضا واجبة لما تقدم.

و «شيئا» مفعول به ، أو مصدر ، و (مِنَ اللهِ) متعلق ب «تملك».

وقيل : هو حال من «شيئا» ؛ لأنّه صفته في الأصل.

فصل

قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي : كفره وضلاله ، وقال الضحاك : هلاكه (٣).

وقال قتادة : عذابه (٤).

ولمّا كان لفظ الفتنة محتمل لجميع أنواع المفاسد ، وكان هذا اللفظ مذكورا عقيب أنواع كفرهم التي شرحها الله تعالى وجب أن يكون المراد من هذه الفتنة تلك الكفريات

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١١٧.

(٢) في ب : البقرة.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١١ / ١٨٤.

(٤) انظر المصدر السابق.

٣٣٨

المذكورة ، ويكون المعنى : ومن يرد الله كفره وضلالته ، فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه ، ثمّ أكّد ذلك بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).

قال أهل السّنّة : دلّت هذه الآية على أن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر ، وأنّه لم يطهر قلبه من الشّرك ، ولو فعل ذلك لآمن.

وذكر المعتزلة في تعبير هذه الفتنة وجوها :

أحدها : أنّ الفتنة هي العذاب. قال تعالى : (عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] أي : يعذّبون ، فالمراد هنا : يريد عذابه لكفره.

وثانيها : ومن يرد الله فضيحته.

وثالثها : المراد الحكم بضلاله ، وتسميته ضالّا.

ورابعها : الفتنة : الاختبار ؛ والمعنى : من يرد الله اختباره [فيما يبتليه](١) من التكاليف فيتركها ولا يقوم بأدائها ، فلن تملك له من الله ثوابا ولا نفعا.

وأمّا قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) فذكروا فيه وجوها :

أحدها : لم يرد الله أن يهدي قلوبهم بالألطاف ؛ [لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنّها لا تنجح في قلوبهم](٢).

ثانيها : لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الحرج والغمّ والوحشة الدّالة على كفرهم.

وثالثها : أنّ هذه الاستعارة [عبارة](٣) عن سقوط وقعه عند الله ، وأنّه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله ، وقد تقدم [الكلام](٤) على هذه الوجوه.

قوله تعالى : (أُولئِكَ:) مبتدأ ، و (لَمْ يُرِدِ اللهُ) جملة فعلية خبره.

ثم قال تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وخزي المنافقين الفضيحة ، وهتك السّتر بإظهار نفاقهم ، وخوفهم من القتل ، وخزي اليهود : الجزية ، وفضيحتهم ، وظهور كذبهم ، في كتمان نصّ الله تعالى في إيجاب الرّجم.

قوله تعالى (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو الخلود في النّار.

قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٢)

قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) : يجوز أن يكون مكرّرا للتّوكيد إن كان من وصف المنافقين ، وغير مكرّر إن كان من وصف بني إسرائيل.

__________________

(١) في أ : بالتسلية.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

٣٣٩

وإعراب مفرداته تقدّم ، ورفعه على خبر ابتداء مضمر ، أي : هم سمّاعون.

وكذلك (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) في «اللّام» الوجهان المذكوران في قوله : «للكذب».

و «السّحت» الحرام ، سمّي بذلك ؛ لأنّه يذهب البركة ويمحقها ، يقال : سحته الله ، وأسحته ، أي : أهلكه وأذهبه.

قال الزّجّاج : أصله من : سحتّه إذ استأصلته ، قال تعالى : (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه: ٦٢] أي : يستأصلهم ، أو لأنّه مسحوت البركة.

قال الله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٦].

وقال اللّيث بن سعد : إنّه حرام يحصل منه العار.

وعن الفرّاء : «السّحت» : شدّة الجوع ، يقال : رجل مسحوت المعدة إذا كان أكولا ، لا يلفى إلّا جائعا أبدا وهو راجع إلى الهلكة.

وقد قرىء قوله تعالى : (فَيُسْحِتَكُمْ) بالوجهين : مهن سحتّه ، وأسحتّه.

وقال الفرزدق : [الطويل]

١٩٦٨ ـ وعضّ زمان يا بن مروان لم يدع

من المال إلّا مسحتا أو مجلّف (١)

وقرأ نافع وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة (٢) : «السّحت» بضمّ السّين وسكون الحاء ، والباقون بضمهما ، وزيد بن علي ، وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء ، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقرىء بفتحتين (٣) ، فالضمتان : اسم للشيء المسحوت ، والضمة والسكون تخفيف هذا الأصل ، والفتحتان والكسر والسّكون اسم له أيضا.

وأمّا المفتوح السين السّاكن الحاء ، فمصدر أريد به اسم المفعول ، كالصّيد بمعنى المصيد ، ويجوز أن يكون تخفيفا من المفتوح ، وهو ضعيف.

والمراد بالسّحت : الرّشوة في الحكم (٤) ، ومهر البغيّ (٥) ، وعسيب

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : السبعة ٢٤٣ ، والحجة ٣ / ٢٢١ ، وحجة القراءات ٢٢٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٥ ، والعنوان ٨٧ ، وشرح شعلة ٣٤٩ ، وإتحاف ١ / ٥٣٥ والشواذ ٣٩.

ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٠١ ، والدر المصون ٢ / ٢٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٠١ ، والدر المصون ٢ / ٥٢٧.

(٤) أخرجه الطبري في تفسيره (٤ / ٥٧٩ ـ ٥٨٠) عن ابن مسعود ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٢) عن ابن مسعود وزاد نسبته لعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ عن ابن مسعود.

وأخرجه الطبري (٤ / ٥٨١) وعبد بن حميد وابن مردويه كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٢) عن ابن عمر مرفوعا بلفظ وما السحت؟ قال : الرشوة في الحكم.

(٥) أخرجه الطبري (٤ / ٥٨١) عن ابن هريرة موقوفا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٣) وزاد ـ

٣٤٠