اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

أن يكون على حذف مضاف ، أي : سبل دار السلام ، ونظيره قوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٤ ـ ٥] ومعلوم أنّه ليس المراد هداية الاستدلال ، بل الهداية إلى طريق الجنّة.

ثم قال : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) أي : من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان «بإذنه» بتوفيقه و «بإذنه» متعلّق ب «يخرجهم» أي : بتيسيره أو بأمره ، و «الباء» للحال أي : مصاحبين لتيسيره أو للسّببيّة ، أي : بسبب أمره المنزّل على رسوله.

وقيل : «الباء» تتعلق بالاتّباع ، أي : يتّبع رضوانه بإذنه.

قال ابن الخطيب (١) : ولا يجوز أن تتعلّق بالهداية ، [ولا بالإخراج ؛ لأنّه لا معنى له ، فدلّ ذلك على أنّه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله منه ذلك].

ثم قال : (يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الدّين الحقّ.

قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٧)

وهم اليعقوبيّة من النّصارى ، يقولون : المسيح هو الله ، وهذا مذهب الحلوليّة ، فإنّهم يقولون : إنّ الله تعالى قد يحلّ في بدن إنسان معيّن أو في روحه ، ثم إنّه تعالى احتّج على فساد هذا المذهب بقوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً).

قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ) [الفاء عاطفة هذه الجملة على جملة مقدّرة قبلها ، والتقدير : قل كذبوا ، أو ليس الأمر ذكلك فمن يملك؟](٢) وقوله : (مِنَ اللهِ) فيه احتمالان:

أظهرهما : أنّه متعلّق بالفعل قبله.

والثاني : ذكره أبو البقاء (٣) : أنّه حال من «شيئا» ، يعني : من حيث إنّه كان صفة في الأصل للنّكرة ، فقدّم عليها [فانتصب حالا](٤) ، وفيه بعد أو منع.

وقوله «فمن» استفهام توبيخ وتقرير وهو (٥) دالّ على جواب الشّرط بعده عند الجمهور.

قوله : (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٢.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : وهذا.

٢٦١

وهذه جملة شرطيّة قدّم فيها الجزاء على الشّرط ، والتّقدير : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعا فمن الذي يقدر أن يدفعه عن مراده ومقدوره.

وقوله : «فمن يملك من الله شيئا» أي : فمن يملك من أفعال الله شيئا ، والملك هو القدرة ، أي : فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله.

وقوله (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، يعني : أنّ عيسى مشاكل من في الأرض في القدرة (١) والخلقة والتّركيب وتغيير الأحوال والصّفات (٢) ، فلما سلّمتم كونه تعالى خالقا للكلّ ، وجب أن يكون خالقا لعيسى.

قوله : (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من باب عطف التّامّ على الخاصّ ، حتى يبالغ في نفي الإلهيّة عنهما ، فكأنّه نصّ عليهما مرّتين ؛ مرّة بذكرهما مفردين ، ومرّة باندراجهما في العموم.

و «جميعا» : حال من المسيح وأمّه ومن في الأرض ، أو من «من» وحدها لعمومها.

ويجوز أن تكون منصوبة على التّوكيد مثل «كل» ، وذكرها بعض النّحاة من ألفاظ التوكيد.

ثم قال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثم قال : (وَما بَيْنَهُما) ، ولم يقل : بينهنّ ؛ لأنّه ذهب بذلك مذهب الصّنفين والنّوعين.

وقوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) جملة لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها ، وفي معناها وجهان:

الأول : يخلق ما يشاء ، فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنثى كما هو معتاد ، وتارة لا من الأب والأم (٣) كما في [حقّ آدم](٤) ، وتارة من الأمّ لا من الأب كما في حقّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

والثاني : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) يعني : أنّ عيسى إذا قدر صور الطير (٥) من الطّين ، فالله يخلق فيه الحياة والقدرة معجزة لعيسى ، وتارة يحيي الموتى ، وتارة يبرىء الأكمه والأبرص معجزة له ، [ولا اعتراض على الله](٦) في شيء من أفعاله ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(١٨)

واعلم : أنّ اليهود والنّصارى لا يقولون ذلك ؛ فلهذا ذكر المفسّرون (٧) وجوها :

__________________

(١) في ب : الصورة.

(٢) في ب : الصفات والأحوال.

(٣) في ب : ولا من الأم.

(٤) في أ : حواء وآدم.

(٥) في أ : الطين.

(٦) في أ : ولا على الله اعتراض.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٢.

٢٦٢

أحدها : أنّ هذا من باب حذف المضاف ، أي : نحن أبناء رسل الله ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].

الثاني : أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصّلب ، قد يطلق ـ أيضا ـ على من يتّخذ أبناء ، بمعنى تخصيصه بمزيد الشّفقة والمحبّة ، فالقوم لما ادّعوا عناية الله بهم ، ادّعوا [أنّهم أبناءلله](١).

الثالث : أنّ اليهود زعموا أنّ العزير [ابن الله](٢) ، والنّصارى زعموا أنّ المسيح ابن الله ، ثم زعموا أنّ العزير والمسيح كانا منهم كأنّهم قالوا : نحن أبناء الله ، ألا ترى أنّ أقارب الملك إذا فاخروا أحدا يقولون : نحن ملوك الدّنيا ، والمراد : كونهم (٣) مختصّين بالشّخص الذي هو الملك ، فكذا هاهنا.

الرابع : قال ابن عبّاس (٤) : إن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام ، وخوّفهم بعقاب الله تعالى ، فقالوا كيف تخوّفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحبّاؤه (٥) ، فهذه الرّواية [إنما](٦) وقعت عن تلك الطّائفة.

وأما النّصارى فإنّهم يتلون في الإنجيل أنّ المسيح قال لهم : أذهب إلى أبي وأبيكم ، وقيل : أرادوا أن الله تعالى كالأب لنا في الحنوّ والعطف ، ونحن كالأبناء [له] في القرب والمنزلة.

وقال إبراهيم النّخعي : إنّ اليهود وجدوا في التّوراة ، يا أبناء [أحباري ، فبدّلوا يا أبناء](٧) أبكاري فمن ذلك قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، وجملة الكلام أنّ اليهود والنّصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلا على سائر الخلق ، بسبب أسلافهم الأنبياء إلى أن ادّعوا ذلك.

قوله تعالى : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) هذه الفاء جواب شرط مقدّر ، وهو ظاهر كلام الزّمخشري ، فإنّه قال : فإن صح أنكم (٨) أبناء الله وأحبّاؤه فلم تذنبون وتعذّبون؟ ويجوز أن يكون الكلام كالفاء قبلها في كونها عاطفة على جملة مقدّرة ، أي : كذبتم فلم يعذّبكم ، و «الباء» في «بذنوبكم» سببية ، و (مِمَّنْ خَلَقَ) صفة ل «بشر» فهو في محلّ رفع متعلّق بمحذوف.

فإن قيل : القوم إما أن يدعوا أنّ الله عذّبهم في الدّنيا أو يدّعوا أنّه سيعذّبهم في

__________________

(١) أنه ابنا لله.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : كأنهم.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٢.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره (٤ / ٥٠٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٧٦) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الدلائل».

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : أنهم.

٢٦٣

الآخرة ، فإن كان موضع الإلزام عذاب الدّنيا ، فهذا لا يقدح في ادّعائهم كونهم أحبّاء الله ؛ لأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعى هو وأمّته أحبّاء الله ، ثم إنّهم ما خلوا عن محن الدّنيا كما في وقعة أحد وغيرها ، وإن كان موضع الإلزام هو أنّه تعالى سيعذّبهم في الآخرة ، فالقوم ينكرون ذلك ، ومجرد إخبار محمّد ـ عليه‌السلام ـ ليس بكاف في هذا الباب ، فكان هذا استدلالا ضائعا.

الجواب : من وجوه :

أحدها : أنّ موضع الإلزام هو عذاب الدّنيا ، والمعارضة بيوم أحد غير لازمة ؛ لأنّا نقول : لو كانوا أبناء الله وأحباءه ، لم عذّبهم في الدّنيا؟ ومحمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنّما ادّعى أنّه من أحبّاء الله ولم يدّع أنّه من أبناء الله.

الثاني : أنّ موضع الإلزام عذاب الآخرة ، واليهود والنّصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة ، كما أخبر الله عنهم أنّهم قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠].

الثالث : أن قوله : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) أي : لم عذّب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير ، إلّا أنّهم لما كانوا من جنس أولئك المتقدّمين ، حسنت (١) هذه الإضافة وهذا أولى ؛ لأنّه تعالى لم يكن ليأمر رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يحتجّ عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود.

قال تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) كسائر بني آدم يجزون بالإحسان والإساءة ، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) : فضلا ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) : عدلا ، ليس لأحد عليه [حقّ يوجب عليه](٢) أن يغفر له ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

ومذهب المعتزلة (٣) : أنّ كلّ من أطاع الله واحترز عن الكبائر ، فإنّه يجب على الله عقلا إيصال الرّحمة والنّعمة إليه أبد الآباد ، ولو قطع عنه تلك النّعمة لحظة واحدة لبطلت الإلهيّة ، وهذا أعظم من قول اليهود والنّصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه.

كما أنّ قوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) إبطالا لقول اليهود ، فبأن يكون إبطالا لقول (٤) المعتزلة أولى.

ثم قال تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) يعني : من كان هكذا أو قدرته هكذا ، كيف يستحق البشر الضّعيف عليه حقا واجبا؟ وكيف يملك عليه الجاهل بعبادته (٥) النّاقصة دينا لازما؟ (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف : ٥].

__________________

(١) في أ : حيث.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٣.

(٤) في أ : لقوله.

(٥) في ب : لعمادته.

٢٦٤

ثم قال : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي : وإليه يؤول أمر الخلق ؛ لأنّه لا يملك الضّرّ والنّفع هناك إلّا هو.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٩)

قوله : (يُبَيِّنُ لَكُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : إن المبين هو الدّين والشّرائع ، وإنما حسن حذفه ؛ لأنّ كل أحد يعلم أنّ الرّسول إنّما أرسل لبيان الشّرائع ؛ لدلالة اللّفظ عليه.

الثاني : أن يكون التّقدير : يبيّن (١) لكم البيان ، وحذف المفعول أكمل ؛ لأنّه يصير أعمّ فائدة ، وتقدّم الكلام في «يبيّن» (٢).

قوله : (عَلى فَتْرَةٍ) فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّه متعلّق [ب «جاءكم»](٣) أي : جاءكم على حين فتور (٤) من إرسال الرّسل ، وانقطاع من الوحي ذكره الزّمخشريّ.

والثاني : أنّه حال من فاعل «يبيّن» أي يبيّن في حال كونه على فترة.

والثالث : أنّه حال من الضّمير المجرور في «لكم» ، فيتعلّق على هذين الوجهين بمحذوف ، و (مِنَ الرُّسُلِ) صفة ل «فترة» ، على أن معنى «من» : ابتداء الغاية ، أي : فترة صادرة من إرسال الرّسل.

فصل

قال ابن عبّاس : يريد على انقطاع من الأنبياء (٥) ، يقال : فتر الشيء يفتر فتورا إذا سكنت حركته ، فصار أقلّ ما كان عليه ، وسمّيت المدّة بين الأنبياء فترة ؛ لفتور الدّواعي في العمل بترك الشّرائع.

واختلفوا في مدّة الفترة بين عيسى ومحمّد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ قال أبو عثمان النهدي (٦) : ستمائة سنة ، وقال قتادة : خمسمائة سنة وستّون (٧) سنة ، وقال معمر والكلبيّ : خمسمائة سنة وأربعون سنة (٨).

__________________

(١) في أ : يبذل.

(٢) في الآية ١٥ من المائدة.

(٣) في أ : بحكم.

(٤) في أ : فقدر.

(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١١ / ١٥٢) عن ابن عباس.

(٦) في ب : المهدوي.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٠٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٧٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد من طريق معمر عن قتادة.

(٨) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٧) قال : قال معمر : قال الكلبي. فذكره.

٢٦٥

وعن الكلبيّ بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألفا نبيّ ، وبين عيسى ومحمد أربعة من الأنبياء ؛ ثلاثة من بني إسرائيل ، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي (١).

والفائدة في بعثة محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ على فترة من الرّسل ؛ لأنّ التّحريف والتّغيير قد تطرّق إلى الشّرائع المتقدّمة ، لتقادم عهدها وطول أزمانها ، ولهذا السّبب اختلط (٢) الحقّ بالباطل ، والصّدق بالكذب ، فصار عذرا للخلق في إعراضهم عن العبادات.

وسمّيت فترة ؛ لأنّ الرّسل كانت تترى (٣) بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ من غير انقطاع إلى عيسى ، ولم يكن بعد عيسى سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ما تقدّم عن الكلبي.

قوله : «أن تقولوا» مفعول من أجله ، فقدّره الزّمخشري (٤) «كراهة أن تقولوا».

وأبو البقاء (٥) «مخافة أن تقولوا» ، والأوّل أولى وقوله : «يبيّن» يجوز ألّا يراد له مفعول ألبتّة ، والمعنى : يبذل لكم البيان ، ويجوز أن يكون محذوفا إمّا لدلالة اللّفظ عليه ، وهو ما تقدّم من قوله : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً) وإمّا لدلالة الحال أي : يبيّن لكم ما كنتم تختلفون فيه.

و (مِنْ بَشِيرٍ) فاعل زيدت فيه «من» لوجود الشّرطين ، و «لا نذير» عطف على لفظه ، ولو قرىء برفعه (٦) مراعاة لوضعه جاز.

وقوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ) عطف على جملة مقدّرة ، أي : لا تعتذروا فقد جاءكم ، وما بعد هذا من الجمل واضح الإعراب لما تقدّم من نظائره.

ثم قال : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، والمعنى : [أنّ](٧) حصول الفترة يوجب احتياج الخلق إلى بعثة الرّسل عليهم‌السلام ، والله قادر على البعثة ؛ لأنّه رحيم كريم قادر على البعثة ، فوجب (٨) في رحمته وكرمه أن يبعث إليهم الرّسل.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١١ / ١٥٤) عن الكلبي.

(٢) في أ : يختلط.

(٣) في أ : ترسل.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦١٩.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٢.

(٦) في أ : برفقة.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : يوجب.

٢٦٦

دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢٥)

الواو في قوله : «وإذ قال» واو عطف ، وهو متّصل بقوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، كأنّه قيل : أخذ عليهم الميثاق ، وذكر موسى نعم الله وأمرهم بمحاربة الجبّارين ، فخالفوا الميثاق ، وخالفوا في محاربة الجبّارين.

واعلم : أنّه تعالى منّ عليهم بثلاثة أمور (١) :

أوّلها : جعل فيهم أنبياء ؛ لأنّه ما بعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء ، فمنهم السّبعون الذين اختارهم موسى من قومه فانطلقوا معه إلى الجبل ، وكانوا من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وهؤلاء الثّلاثة من أكابر الأنبياء بالاتّفاق ، وأولاد يعقوب ـ أيضا ـ كانوا أنبياء على قول الأكثرين (٢) ، والله تعالى أعلم موسى أنّه لا يبعث من الأنبياء إلا من ولد يعقوب ومن ولد إسماعيل ، [فهذا الشّرف](٣) حصل بمن مضى من الأنبياء ، وبالّذين كانوا حاضرين مع موسى ، وبالّذين أخبر الله موسى أنّه يبعثهم من ولد يعقوب وإسماعيل بعد ذلك.

وثانيها : قوله (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) ، قال ابن عبّاس : أصحاب خدم وحشم (٤).

قال قتادة : كانوا أوّل من ملك الخدم ، ولم يكن قبلهم خدم (٥) ، وعن أبي سعيد الخدريّ عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحد خادم وامرأة ودابّة يكتب ملكا» (٦).

وقال أبو عبد الرّحمن السّلمي (٧) : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا فقراء (٨) المسلمين المهاجرين؟ فقال له عبد الله : «ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم ، قال : ألك سكن تسكنه؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : لي خادم ، قال : فأنت من الملوك» (٩).

__________________

(١) في ب : بأمور ثلاثة.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٤.

(٣) في أ : فمنه.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥١٠) عن ابن عباس.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥١٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٧) عن قتادة.

(٦) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» عن أبي سعيد الخدري مرفوعا كما في «الدر المنثور» (٢ / ٤٧٨).

وللحديث شواهد عن زيد بن أسلم.

أخرجه الزبير بن بكار في «الموفقيات» كما في «الدر» (٢ / ٤٧٨) ومن طريقه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥١٠) بلفظ : من كان له بيت وخادم فهو ملك وأخرجه أبو داود في مراسيله (٢٠٤).

(٧) في أ : الحنبلي.

(٨) في أ : فعل.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥١٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٧٨) وزاد نسبته لسعيد بن منصور عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

٢٦٧

وقال السديّ : وجعلكم [ملوكا](١) أحرارا تملكون أمر أنفسكم ، بعد ما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم (٢).

وقال الضّحّاك : كانت منازلهم واسعة ، فيها مياه جارية (٣) ، فمن كان مسكنه واسعا وفيه نهر جار ، فهو ملك.

وقيل : إنّ كل من كان رسولا ونبيّا كان ملكا ؛ لأنّه يملك أمر (٤) أمّته وكان نافذ الحكم عليهم فكان ملكا ، ولهذا قال (٥) تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤].

وقيل : كان في أسلافهم وأخلافهم الملوك والعظماء (٦) ، وقد يقال لمن حصل فيهم الملوك : أنتم ملوك على سبيل الاستعارة.

قال الزّجّاج (٧) : الملك من لا يدخل عليه أحد إلا بإذنه.

وثالثها : قوله تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) وذلك لأنّه تعالى خصّهم بأنواع عظيمة من الإكرام ، فلق البحر لهم وأهلك عدوّهم وأورثهم أموالهم ، وأنزل عليهم المنّ والسّلوى ، وأخرج لهم المياه الغزيرة من الحجر ، وأظلّ فوقهم الغمام ، ولم يجتمع (٨) الملك والنّبوّة لقوم كما اجتمعا لهم ، وكانوا في تلك الأيّام هم العلماء بالله ، وهم أحباب الله وأنصار دينه.

ولما ذكر هذه النّعم وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بجهاد العدوّ ، فقال : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

وقرأ ابن (٩) محيصن هنا وفي جميع القرآن «يا قوم» مضموم الميم.

وتروى قراءة (١٠) عن ابن كثير [ووجهها أنّها](١١) لغة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلّم كقراءة (قالَ)(١٢)(رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢] ، وقد تقدّمت هذه [المسألة](١٣).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١١ / ١٥٤) عن السدي. وينظر : البغوي ٢ / ٢٤.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) في أ : له.

(٥) في أ : قاله.

(٦) في ب : والعلماء.

(٧) ينظر : الرازي ١١ / ١٥٥.

(٨) في أ : يجمع.

(٩) وروي ذلك عن ابن كثير.

ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٧٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٦٩ ، والدر المصون ٢ / ٥٠٦.

(١٠) في أ : وترد.

(١١) في أ : ووجها أنه.

(١٢) سقط في أ.

(١٣) سقط في أ.

٢٦٨

وقرأ ابن (١) السميفع : «يا قومي ادخلوا» بفتح الياء ، وروي أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لما صعد [جبل لبنان](٢) ، فقال الله تعالى له : «انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس ، وهو ميراث لذريتك» (٣).

والأرض المقدّسة هي الأرض المطهّرة من الآفات ؛ لأنّ التّقديس هو التّطهير ، وقال المفسّرون (٤) طهّرت من الشّرك ، وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء ، وفيه نظر ؛ لأنّ تلك الأرض لما أمرهم موسى بدخولها ما كانت مقدّسة عن الشّرك ، وما كانت مقرّا للأنبياء ، وقد يجاب عنه بأنّها كانت كذلك فيما قبل.

واختلفوا في تلك الأرض ، فقال عكرمة ، والسديّ ، وابن زيد : هي أريحا (٥).

وقال الكلبيّ : هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن (٦) ، وقال الضّحّاك : هي إيليا وبيت المقدس ، وقال مجاهد : هي الطّور وما حوله (٧). وقال قتادة : هي الشّام كلّها (٨). وقال كعب : وجدت في كتاب الله المنزّل [أنّ الشّام](٩) كنز الله من أرضه ، وبها كثرة من عباده.

وقوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يعني : في اللّوح المحفوظ أنّها لكم مساكن.

وقال ابن إسحاق (١٠) : وهب الله لكم ، وقيل : جعلها لكم [قال السديّ : أمركم الله بدخولها](١١).

فإن قيل : لم قال (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، ثم قال (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ)(١٢) [المائدة : ٢٦].

فالجواب : قال ابن عبّاس : كانت هبة ثمّ حرّمها عليهم بشؤم تمرّدهم وعصيانهم (١٣) ، وقيل: اللّفظ وإن كان عامّا لكنّ المراد به الخصوص ، فكأنّها كتبت لبعضهم ، وحرّمت على بعضهم.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٠٦.

(٢) في ب : الجبل ليناد.

(٣) ينظر : الرازي ١١ / ١٥٦.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٦.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥١٤) عن ابن عباس والسدي وابن زيد.

(٦) ذكره الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥١٣) عن الكلبي.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥١٣) عن ابن عباس ومجاهد.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥١٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٧٨) عن قتادة وعزاه لعبد بن حميد وعبد الرزاق.

(٩) سقط في أ.

(١٠) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٢٤.

(١١) سقط في أ.

(١٢) انظر هذه الآثار في «التفسير الكبير» للرازي (١١ / ١٥٦).

(١٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٦.

٢٦٩

وقيل : إنّ الوعد بقوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) مشروط بقيد الطّاعة ، فلما لم يوجد الشّرط لم يوجد المشروط.

وقيل : إنّها محرّمة عليهم أربعين سنة ، فلما مضى الأربعون حصل ما كتب.

وفي قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) فائدة ، وهي (١) أنّ القوم وإن كانوا جبّارين ، إلّا أنّ الله تعالى لمّا وعد هؤلاء الضّعفاء بأنّ تلك الأرض لهم ، فإن كانوا مؤمنين مقرّبين بصدق الأنبياء ، علموا قطعا أنّ الله ينصرهم عليهم ، فلا بدّ وأن يعزموا على قتالهم من غير خوف ولا جبن.

قوله : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) فالجار والمجرور [حال من فاعل «ترتدوا» أي : لا ترتدوا منقلبين ، ويجوز أن](٢) يتعلّق بنفس الفعل قبله.

وقوله : «فتنقلبوا» فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه مجزوم عطفا على فعل النّهي.

والثاني : أنّه منصوب بإضمار «أن» بعد الفاء في جواب النّهي.

و «خاسرين» حال.

وفي المعنى وجهان :

أحدهما : لا يرجعوا عن الدّين الصّحيح في نبوّة موسى ؛ لأنّه ـ عليه‌السلام ـ لما أخبر الله تعالى جعل تلك الأرض لهم ، [أو](٣) كان هذا وعدا بأنّ الله ينصرهم (٤) عليهم ، فلو لم يقطعوا بهذه النّصرة ، صاروا شاكّين في صدق موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيصيروا (٥) كافرين بالنبوّة والإلهيّة.

والثاني : لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى الأرض الّتي خرجتم عنها ، يروى أنّهم عزموا على الرّجوع إلى مصر.

وقوله : (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي : في الآخرة يفوتكم الثّواب ويلحقكم العقاب.

وقيل : ترجعون إلى الذّلّة ، وقيل : تمزّقون (٦) في التّيه ، ولا تصلون (٧) إلى شيء من مطالب الدّنيا ومنافع الآخرة.

قوله : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) والجبّار : فعّال من جبره على الأمر ، بمعنى : أجبره عليه ، وهو الذي يجبر النّاس على ما يريد ، وهذا اختيار الفرّاء والزّجّاج (٨).

__________________

(١) في ب : وهو.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : ينصركم.

(٥) في ب : فصيروا.

(٦) في ب : تموتون.

(٧) في ب : تقبلون.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٧.

٢٧٠

قال الفرّاء (١) : لا أسمع فعّالا من أفعل إلّا في حرفين وهما : جبّار من أجبر ، ودرّاك من أدرك.

وقيل : مأخوذ من قولهم : نخلة جبّارة ، إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها ، ويقال : رجل جبّار ، إذا كان طويلا عظيما قويّا تشبيها بالجبّار من النّخل ، والقوم كانوا في غاية القوّة وعظم الإجسام ، بحيث ما كانت أيدي قوم موسى تصل إليهم ، فسموهم جبّارين لهذا المعنى.

فصل

قال المفسّرون (٢) : لما خرج موسى من مصر ، وعدهم الله ـ تعالى ـ إسكان أرض الشّام ، وكان بنو إسرائيل يسمّون أرض الشّام أرض المواعيد ، ثم بعث موسى ـ عليه‌السلام ـ اثني عشر نقيبا من الأنبياء ، يتجسّسون لهم أحوال تلك الأراضي (٣).

فلمّا دخلوا تلك الأماكن رأوا أجساما عظيمة ، قال المفسّرون : فأخذهم أحد أولئك الجبّارين ، وجعلهم في كمّه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه ، وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه ، وقال متعجّبا للملك : هؤلاء يريدون قتالنا ، فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم ، وأخبروه بما شاهدتم.

قال ابن كثير : وهذه هذيانات من وضع جهّال (٤) بني إسائيل ، ولو كان هذا صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في امتناعهم عن القتال (٥) ، وقد ذمّهم الله تعالى على مخالفتهم وترك جهادهم ، وعاقبهم بالتّيه ، ثمّ انصرف أولئك النّقباء إلى موسى وأخبروه بالواقعة ، وأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه ، فلم يقبلوا قوله إلا رجلان منهم ، وهم : يوشع ابن نون ، وكالب بن يوقنا فإنهما سهّلا الأمر ، وقالا : هي بلاد طيّبة كثيرة النعم والأقوام (٦) ، وإن كانت أجسامهم عظيمة ، إلّا أنّ قلوبهم ضعيفة.

وأما العشرة الباقية فإنّهم أوقعوا الجبن في قلوب النّاس حتّى أظهروا الامتناع من غزوهم ، وقالوا لموسى : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها ما دامُوا فِيها ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، فدعا عليهم موسى ، فعاقبهم الله تعالى بأن أبقاهم في التّيه أربعين سنة.

وقالوا : وكانت مدّة غيبة النّقباء المتجسّسين أربعين يوما ، فعوقبوا بالتّيه أربعين سنة.

قالوا : ومات أولئك العصاة بالتّيه ، وأهلك النّقباء العشرة في التّيه بعقوبة غليظة (٧) ،

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٥.

(٣) في ب : الأرض.

(٤) في أ : جهالة.

(٥) في ب : قتالهم.

(٦) في أ : والأقوان.

(٧) في ب : عظيمة.

٢٧١

وقال بعضهم : إنّ موسى وهارون ماتا ـ أيضا ـ في التّيه.

وقال آخرون : إنّ موسى بقي ، وخرج معه يوشع بن نون وكالب ، وقاتل الجبّارين وغلبهم ، ودخلوا تلك البلاد.

وروي أنّه لم يخرج من التّيه [أحد](١) ممن دخله ، [بل](٢) ماتوا كلّهم في مدّة أربعين سنة ، ولم يبق إلا ذراريهم يوشع بن نون وكالب ـ عليهما الصلاة والسلام ـ.

قال المفسّرون : إنّ بني إسرائيل دخلوا البريّة عند سيناء في الشّهر الثالث من خروجهم من «مصر» ، وكان خروجهم في أوّل السّنة التي شرعت لهم ، وهي أوّل فصل الرّبيع ، فكأنّهم دخلوا التّيه في أوّل فصل الصّيف.

قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ).

قالوا هذا القول على سبيل الاستبعاد ، كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠].

وقوله : (فَإِنَّا داخِلُونَ) أي : فإنّا داخلون الأرض ، فحذف المفعول للدلالة عليه.

قوله : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) هذا الجارّ والمجرور في محلّ رفع صفة ل «رجلان» ، ومفعول «يخافون» محذوف تقديره : «يخافون الله» ، أو يخافون العدوّ [ولكن ثبّتهما الله تعالى] بالإيمان والثّقة به ، حتى قالوا هذه المقالة ، ويؤيّد التّقدير الأوّل التّصريح بالمفعول في قراءة ابن مسعود (٣) «يخافون الله» ، وهذان [التّأويلان](٤) بناء على ما هو المشهور عند الجمهور ، من كون الرّجلين القائلين ذلك من قوم موسى ، وهما : يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف فتى موسى ، والآخر : كالب بن يوفنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران ، وكان من سبط يهوذا.

وقيل : الرّجلان من الجبّارين ، ولكن أنعم الله عليهما بالإيمان حتّى قالا هذه المقالة يحرّضونهم (٥) على قومهم لمعاداتهم لهم في الدّين ، وعلى هذا القول فيحتمل أن يكون المفعول «يخافون» كما تقدّم ، أي : يخافون الله أو العدو ، والمعنى كما تقدّم ويحتمل أنّ في المفعول ضميرا عائدا على الموصول ، ويكون الضّمير المرفوع في «يخافون» ضمير بني إسرائيل ، فالتّقدير : [من](٦) الّذين يخافهم بنو إسرائيل.

وأيّد الزّمخشريّ هذا التّأويل بقراءة من قرأ (٧) «يخافون» مبنيّا للمفعول [وبقوله

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٧٥ ، والدر المصون ٢ / ٥٠٦.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : بحرصهم.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : الكشاف ١ / ٦٢٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٧٠ والمحرر الوجيز ٢ / ١٧٥ ، والدر المصون ٢ / ٥٠٦.

٢٧٢

أيضا](١) «أنعم الله عليهما ، فإنّه قال : «وقراءة من قرأ «يخافون» بالضّمّ شاهدة له ، ولذلك أنعم الله عليهما ، كأنّه قيل : من المخوفين» انتهى.

والقراءة المذكورة مرويّة عن ابن عبّاس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وأبدى الزّمخشري ـ أيضا ـ في هذه القراءة احتمالا آخر ، وهو أن تكون من الإضافة ومعناه : من الّذين يخوّفون (٢) من الله بالتّذكرة والموعظة ، أو يخوّفهم وعيد الله بالعقاب.

وتحتمل القراءة ـ أيضا ـ وجها آخر ، وهو : أن يكون المعنى : يخافون ، أي : يهابون [ويوقّرون (٣) ، ويرجع] إليهم لفضلهم وخيرهم.

ومع هذين الاحتمالين الأخيرين ، فلا ترجيح في هذه القراءة لكون الرّجلين من الجبّارين [أما قوله كذلك : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) ، أي : في كونه مرجّحا أيضا لكونهما من الجبارين] فغير ظاهر ، لكون هذه الصّفة مشتركة بين يوشع (٤) وكالب ، وبين غيرهما ممّن أنعم الله عليه.

قوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) في هذه الجملة خمسة أوجه :

أظهرها : أنّها صفة ثانية فمحلّها الرّفع ، وجيء (٥) هنا بأفصح الاستعمالين من كونه قدّم الوصف بالجارّ على الوصف بالجملة لقربه من المفرد.

والثاني : أنها معترضة وهو ـ أيضا ـ ظاهر.

الثالث : أنّها حال من الضّمير في «يخافون» قاله مكّي (٦).

الرابع : أنّها حال من «رجلان» ، وجاءت الحال من النّكرة ، لأنّها تخصّصت بالوصف.

الخامس : أنّها حال من الضّمير المستتر في الجارّ والمجرور ، وهو (مِنَ الَّذِينَ) لوقوعه صفة لموصوف ، وإذا جعلتها حالا فلا بدّ من إضمار (٧) «قد» مع الماضي ، على خلاف سلف [في المسألة](٨).

فصل

قوله : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) مبالغة في الوعد بالنّصر والظفر ؛ كأنّه قيل : متى دخلتم باب بلدهم انهزموا ، ولم يبق منهم أحد ، وإنّما جزم هذان الرّجلان في قولهما : (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) ؛ لأنّهما كانا عارفين صدق موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فلمّا

__________________

(١) في أ : وكذلك.

(٢) في أ : يخافون.

(٣) في أ : ويؤثرون.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : وهي.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٢٤.

(٧) في أ : احتمال.

(٨) سقط في أ.

٢٧٣

أخبرهم موسى بأنّ الله قال : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [فقد تبيّن أنّه أوعدهم](١) بأنّ النّصرة والغلبة لهم ، ولذلك ختموا كلامهم بقولهم : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، يعني : توكّلوا على الله تعالى في حصول هذا النصر لكم إن كنتم مؤمنين بوجود الإله القادر ، ومؤمنين بنبوّة موسى ـ عليه‌السلام ـ.

قوله : (قالُوا : يا مُوسى ، إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها ما دامُوا فِيها) [«ما»](٢) مصدريّة ظرفية و «داموا» صلتها ، وهي «دام» النّاقصة ، وخبرها الجارّ (٣) بعدها ، وهذا الظّرف بدل من «أبدا» وهو بدل بعض من كلّ ؛ لأنّ الأبد يعمّ الزّمن المستقبل كله ، ودوام [الجبّارين](٤) فيها بعضه ، وظاهر عبارة الزّمخشريّ يحتمل أن يكون بدل [كلّ](٥) من كلّ أو عطف بيان ، والعطف قد يقع بين النّكرتين على كلام فيه تقدّم.

قال الزّمخشريّ (٦) : «وأبدا» تعليق للنّفي المؤكّد بالدّهر المتطاول ، «و (ما دامُوا فِيها): [بيان الأمر](٧) ، فهذه العبارة تحتمل أنّه بدل بعض من كلّ ، لأنّ بدل البعض من الكلّ مبيّن للمراد ، نحو : «أكلت الرّغيف ثلثه» ، ويحتمل أن يكون بدل كلّ من كلّ ، فإنّه بيان أيضا للأوّل ، وإيضاح له ، نحو : رأيت زيدا أخاك ، ويحتمل أن يكون عطف بيان.

قوله : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) [في : «وربّك»](٨) أربعة أوجه :

أحدها : أنّه مرفوع عطفا على الفاعل المستتر في «اذهب» ، وجاز ذلك للتّأكيد بالضّمير.

الثاني : أنّه مرفوع بفعل محذوف ، أي : وليذهب ربّك ، ويكون من عطف الجمل ، وقد تقدّم [لي نقل](٩) هذا القول والرّدّ عليه ، ومخالفته لنصّ سيبويه عند قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥].

الثالث : أنّه مبتدأ ، والخبر محذوف ، و «الواو» للحال.

الرابع : أنّ «الواو» للعطف ، وما بعدها مبتدأ محذوف والخبر ـ أيضا ـ ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها دعاء ، والتّقدير : وربّك يعينك.

قوله : «هاهنا قاعدون» «هنا» وحده هو الظّرف المكاني الّذي لا ينصرف إلا بجرّه ؛ ب «من» و «إلى» ، و «ها» قبله للتّنبيه كسائر أسماء [الإشارة](١٠) وعامله «قاعدون» ، وقد أجيز أن يكون خبر [«إنّ»](١١) و «قاعدون» خبر ثان ، [وهو بعيد](١٢).

__________________

(١) في أ : قطعا.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : الحال.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٦٢١.

(٧) في أ : يأتي للأبد.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في أ.

(١١) في أ : كان.

(١٢) سقط في أ.

٢٧٤

وفي غير القرآن إذا اجتمع ظرف يصحّ الإخبار به مع وصف آخر ، ويجوز أن يجعل (١) الظّرف خبرا ، والوصف (٢) حالا ، وأن يكون الخبر الوصف ، والظّرف منصوب به كهذه الآية.

فصل

قولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) فيه وجوه :

أحدها : لعلّ القوم كانوا مجسّمة ، يجوّزون الذّهاب والمجيء على الله تعالى.

وثانيها : يحتمل ألّا يكون المراد حقيقة الذهاب ، بل كما يقال : كلّمته فذهب يجيبني ، أي : يريد أن يجيبني ، فكأنّهم قالوا : كن أنت وربّك مريدين لقتالهم.

ثالثها : التّقدير اذهب أنت وربّك معين لك بزعمك فأضمر خبر الابتداء.

فإن قيل : إذا أضمرنا الخبر فكيف يجعل (٣) قوله : «فقاتلا» خبرا أيضا.

فالجواب : لا يمتنع خبر بعد خبر.

رابعها : أراد بقوله : «وربّك» أخوه (٤) هارون ، وسمّوه [ربّا](٥) لأنّه كان أكبر من موسى.

قال المفسّرون (٦) : قولهم : «اذهب (أَنْتَ وَرَبُّكَ) ، إن قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر ، وإن قالوه على وجه التّمرّد عن الطّاعة فهو فسق ، ولقد فسقوا بهذا الكلام لقوله تعالى في هذه القصة : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

والمقصود من هذه القصّة : شرح حال هؤلاء اليهود ، وشدّة بغضهم [وغلّوهم](٧) في المنازعة مع الأنبياء قديما ، ثمّ إنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ لمّا سمع منهم هذا الكلام قال : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) في إعراب «أخي» ستّة أوجه :

أظهرها : أنّه منصوب عطفا على «نفسي» ، والمعنى (٨) : لا أملك إلّا أخي مع ملكي لنفسي دون غيرنا.

الثاني : أنّه منصوب عطفا على اسم «إنّ» ، وخبرها محذوف للدّلالة اللّفظيّة عليه ، أي: وإنّ أخي لا يملك إلا نفسه.

الثالث : أنّه مرفوع عطفا على محلّ اسم «إنّ» ؛ لأنّه يعدّ استكمال الخبر على خلاف في ذلك ، وإن كان بعضهم قد ادّعى (٩) الإجماع على جوازه.

__________________

(١) في أ : يحصل.

(٢) في أ : والموصوف.

(٣) في ب : يكون.

(٤) في أ : أخاه.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٨.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : والضمير.

(٩) في أ : أدى.

٢٧٥

الرابع : أنّه مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف للدّلالة المتقدّمة ، ويكون قد عطف جملة غير مؤكّدة على جملة مؤكّدة [ب «إنّ»](١).

الخامس : أنّه مرفوع عطفا على الضّمير المستكنّ في «أملك» ، والتّقدير : ولا يملك أخي إلا نفسه ، [وجاز ذلك للفصل بقوله : (إِلَّا نَفْسِي)](٢) وقال بهذا الزّمخشريّ (٣) ، ومكّي (٤) ، وابن عطيّة (٥) ، وأبو البقاء (٦) وردّ أبو حيّان (٧) هذا الوجه ، بأنّه يلزم منه أنّ موسى وهارون لا يملكان إلّا نفس موسى فقط [وليس المعنى على ذلك](٨) ، وهذا الرّدّ ليس بشيء ؛ لأنّ القائل بهذا الوجه صرّح بتقدير المفعول بعد الفاعل المعطوف.

وأيضا اللّبس مأمون ، فإن كلّ أحد يتبادر إلى ذهنه أنّه يملك أمر نفسه.

السادس : أنّه مجرور عطفا على «الياء» في «نفسي» ، أي : إلّا نفسي ونفس أخي ، وهو ضعيف على قواعد البصريّين للعطف على الضّمير المجرور من غير إعادة الجارّ ، وقد تقدّم ما فيه.

والحسن البصريّ (٩) يقرأ بفتح [ياء](١٠) «نفسي» ، و «أخي».

وقرأ يوسف بن داود وعبيد بن عمير (١١) «فافرق» بكسر الرّاء ، وهي لغة : فرق يفرق ك «يضرب» قال الراجز : [الرجز]

١٩٤٩ ـ يا رب فافرق بينه وبيني(١٢)

أشدّ ما فرّقت بين اثنين (١٣)

وقرأ ابن السّميفع (١٤) «ففرّق» مضعّفا ، وهي مخالفة للرّسم ، و «بين» معمولة ل «افرق» ، وكان من حقّها ألا تكرّر في العطف ، تقول : المال بين زيد وعمرو ، وإنّما كرّرت للاحتياج إلى تكرر الجارّ في العطف على الضّمير المجرور ، وهو يؤيّد مذهب البصريّين.

فإن قيل : لم قال : «لا أملك إلّا نفسي وأخي» وكان معه الرّجلان المذكوران؟.

فالجواب : كأنّه لم يثق بهما كلّ الوثوق لما رأى [من](١٥) إطباق الأكثرين على

__________________

(١) في أ : بأل.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٢٢.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٢٥.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٧٦.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٣.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٧١ ـ ٤٧٢.

(٨) في أ : دليل المعنى عليه على ذلك.

(٩) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٧٦ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٧٢ ، والدر المصون ٢ / ٥٠٨.

(١٠) سقط في أ.

(١١) ينظر : تخريج القراءة السابقة.

(١٢) في أ : بيني وبينه.

(١٣) ينظر : مجاز القرآن ١ / ١٦٠ ، البحر المحيط ٣ / ٤٧٢ ، الطبري ٤ / ٥٢٢ ، الدر المصون ٢ / ٥٠٨.

(١٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٧٢ ، والدر المصون ٢ / ٥٠٨.

(١٥) سقط في أ.

٢٧٦

التّمرّد (١) ، ولعلّه إنّما قال ذلك تقليلا لمن وافقه ، أو يكون المراد بالأخ من يؤاخيه في الدّين ، وعلى هذا يدخل الرّجلان.

والمراد بقوله : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي : افصل بيننا وبينهم ، بأن تحكم لنا بما تستحقّ وتحكم عليهم بما يستحقّون ، وهو في معنى الدّعاء عليهم ، أو يكون المعنى : خلّصنا من صحبتهم ، وهو كقوله : (نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص : ٢١].

قوله تعالى : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

قوله : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) أي الأرض المقدسة محرّمة عليهم أبدا ، لم يرد تحريم تعبّد ، وقيل تحريم منع (٢). [في](٣) قوله : (أَرْبَعِينَ سَنَةً) وجهان :

أظهرهما : أنّه منصوب ل «محّرمة» ، فإنّه روي في القصّة أنهم (٤) بعد الأربعين دخلوها ، فيكون قد قيّد تحريمها عليهم بهذه المدّة ، وأخبر أنّهم «يتيهون» ، ولم يبيّن كميّة التّيه ، وعلى هذا ففي «يتيهون» احتمالان :

أحدهما : أنه مستأنف.

الثاني : أنّه حال من الضّمير في «عليهم».

الوجه الثاني : أن «أربعين» منصوب ب «يتيهون» ، فيكون قيّد التّيه [ب «الأربعين»](٥).

[وأمّا](٦) التّحريم فمطلق ، فيحتمل أن يكون مستمرا ، أو يكون منقطعا وأنّها أحلت لهم.

وقد قيل بكلّ من الاحتمالين ، روي أنّه لم يدخلها أحد ممّن كان في التّيه ، ولم يدخلها إلا أبناؤهم [وأمّا الآباء فماتوا ، وما أدري ما الّذي حمل أبا محمّد بن عطيّة على تجويزه أن يكون العامل في «أربعين» مضمرا يفسره](٧) «يتيهون» المتأخر ، ولا ما اضطرّه إلى ذلك من مانع صناعي أو معنوي ، وجواز (٨) الوقف والابتداء بقوله : «عليهم» ، و «يتيهون» [مفهومان ممّا](٩) تقدم من الإعراب.

والتّيه : الحيرة ، ومنه : أرض تيهاء [لحيرة سالكها](١٠) قال : [الطويل]

__________________

(١) في أ : التردد.

(٢) في أ : تعبد.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : لهم.

(٥) في أ : الأربعين.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : أو مجاز.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في أ.

٢٧٧

١٩٥٠ ـ بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (١)

ويقال : «تاه يتيه وهو أتيه منه ، وتاه يتوه وهو أتوه منه» [فقول من قال : يتيه ، وتوهته](٢) من التّداخل ، ومثله : «طاح» في كونه سمع في عينيه الوجهان ، وأن فيه التّداخل ـ أيضا ـ فإنّ من قال : «يطيح» قال : «طوّحته» ، وهو «أطوح منه».

واختلفوا في التّيه ، قال [الرّبيع :](٣) مقدار ستة فراسخ ، وقيل : تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا ، وقيل : ستّة فراسخ في اثني عشر فرسخا.

وقيل : كانوا ستمائة ألف فارس.

فإن قيل : كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصّغير من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتّفق لأحد منهم أن يجد طريقا إلى الخروج عنها؟ ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشّمس أو الكواكب لخرجوا منها (٤) ، ولو كانوا في البحر العظيم فكيف في المفازة الصغيرة؟.

فالجواب فيه وجهان : الأوّل : أن انخراق العادات في زمن الأنبياء غير مستبعد ، إذ لو فتحنا باب الاستبعاد لزم الطّعن في جميع المعجزات ، وهو باطل.

الثاني : إذا (٥) جعلنا ذلك التّحريم تحريم تعبد (٦) ، زال السّؤال ؛ لأن الله تعالى حرّم عليهم الرّجوع إلى أوطانهم ، وأمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاء لهم على سوء صنيعهم.

قال القرطبي (٧) : [قال](٨) أبو علي : قد يكون ذلك بأن يحول (٩) الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا فيردّهم إلى المكان الذي ابتدؤوا (١٠) منه ، وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب [المانعة من](١١) الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة.

قال بعضهم : إنّ هارون وموسى لم يكونا فيهم ، والصّحيح : أنّهما كانا فيهم ، ولم يكن لهما عقوبة لكن كما كانت النّار على إبراهيم بردا وسلاما وإنما كانت العقوبة لأولئك الأقوام ، ومات في التّيه كل من دخلها ممن جاز عشرين سنة غير يوشع وكالب ، ولم يدخل أريحاء أحد ممّن قالوا : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً)(١٢) فلما هلكوا وانقضت الأربعون

__________________

(١) تقدم.

(٢) في أ : تقول من تقول من قال يتيه وتوهته.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : اخرجوا.

(٥) في ب : إنه.

(٦) في أ : بقيد.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٨٦.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : يجعل.

(١٠) في أ : ابتدأهم.

(١١) في أ : المبالغة في.

(١٢) سقط في أ.

٢٧٨

سنة ، ونشأت [النّواشىء](١) من ذراريهم ساروا إلا حرب الجبّارين ، واختلفوا فيمن تولّى الحرب وعلى يدي من كان الفتح فقيل : إنّما فتح أريحاء موسى ، وكان يوشع على مقدمته ، فسار موسى عليه‌السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع ، فقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى ، وأقام فيها ما شاء الله ، ثم قبضه الله إليه ، ولا يعلم قبره أحد ، وهذا أصحّ الأقوال. وقيل : إنما قاتل الجبّارين يوشع ، ولم يسر إليهم إلا بعد موت موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وقالوا : مات موسى وهارون جميعا في التّيه.

قال القرطبيّ (٢) : روى مسلم عن أبي هريرة قال : أرسل الله ملك الموت إلى موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فلما جاءه ، صكّه وفقأ عينه ، فرجع إلى ربّه فقال : «أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» ، قال : فردّ الله إليه عينه ، وقال : ارجع إليه وقل له : يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة. قال : «أي رب ثم مه» ، قال : «ثم الموت» قال : «فالآن» ؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلو كنت ثمّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر» فهذا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علم قبره ووصف موضعه ، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء ، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم ؛ ولعل ذلك لئلا يعبد ، والله أعلم. ويعني بالطريق طريق بيت المقدس. ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطّور مكان الطريق. واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال ؛ منها : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة ، وهذا باطل ، لأنه يؤدّي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له.

ومنها : أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة ، وهذا مجاز لا حقيقة. ومنها : أنه عليه‌السلام لم يعرف ملك الموت ، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها ؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن. وهذا وجه حسن ؛ لأنه حقيقة في العين والصّك ؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة ، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث ؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : «يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت ؛ وأيضا قوله في الرواية الأخرى : «أجب ربك» يدلّ على تعريفه بنفسه. والله أعلم. ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب ، إذا غضب طلع الدّخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبّته ؛ وسرعة غضبه كانت سببا لصكّه ملك الموت.

قال ابن العربي : وهذا كما ترى ، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب. ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : القرطبي ٦ / ٨٧.

٢٧٩

والسلام عرف ملك الموت ، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير ، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من «أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيّره» فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه ، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت ؛ إذ لم يصرح له بالتخيير. ومما يدل على صحة هذا ، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم ، والله بغيبه أحكم وأعلم. هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه‌السلام. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها ؛ وفي الصحيح غنية عنها. انتهى.

فصل

وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت؟ فقال : «كشاة تسلخ وهي حية».

وقوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي لا تحزن.

[والأسى : الحزن ، يقال : أسي ـ بكسر العين ـ يأسى ، بفتحها ، ولام الكلمة تحتمل أن تكون من واو ، وهو الظاهر لقولهم : «رجل أسوان» بزنة سكران ، أي : كثير الحزن ، وقالوا في تثنية الأسى : أسوان ، وإنما قلبت الواو في «أسي» ياء لانكسار ما قبلها ، ويحتمل أن تكون ياء فقد حكي «رجل أسيان» أي كثير الحزن ، فتثنيته على هذا «أسيان». والله أعلم بغيبه](١).

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٣٠)

(وَاتْلُ)(٢)(عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) الآية.

في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوه :

__________________

(١) في أ :

تم الجزء الثاني من كتاب تفسير القرآن العظيم تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة والعمدة الحبر البحر الفهامة وحيد دهره وفريد عصره الفاضل الأكمل والمتبحر الأمثل ابن عادل أعاد الله علينا من بركاته في الدنيا والآخرة آمين ويتلوه الجزء الثالث أوله قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) ... الآية.

(٢) في أ : بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم اختم بخير يا كريم.

٢٨٠