اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

يكون الحد خارجا عن المحدود كقوله : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فإنّ النّهار منفصل عن الليل انفصالا محسوسا ، وقد لا يكون منفصلا كقولك : «بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف» ، فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس فإذا كان كذلك فامتياز المرفق عن السّاعد ليس له مفصل معين ؛ فوجب غسله.

وثانيا : سلّمنا أنّ المرفق لا يجب غسله ، إلّا أنّ المرفق اسم لما جاوز طرف العظم ؛ لأنّه هو الذي يرتفق به أي يتّكىء عليه ، ولا نزاع أنّ ما وراء طرف العظم لا يجب غسله ، قاله الزجاج(١).

فصل في غسل ما أمكن مما هو دون المرفق

فإن قطع ما دون المرفق ؛ وجب غسل ما بقي ؛ لأنّ محل التكليف باق وإن كان قطع مما فوق المرفق لم يجب ؛ لأنّ محلّ التّكليف زال ، وإن كان قطع من المرفق ؛ فقال الشافعي : يجب إمساس [الماء عند ملتقى العظمين ؛ وجب مساس](٢) لطرف العظم ؛ لأنّ غسل المرفق كان واجبا ، وهو عبارة عن ملتقى العظمين ، فوجب إمساس الماء عند ملتقى العظمين ، وجب إمساس لطرف العظم الباقي لا محالة.

قوله عزّ وعلا (٣) : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ).

في هذه «الباء» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها للإلصاق ، أي : ألصقوا المسح برؤوسكم.

قال الزمخشريّ (٤) : المراد إلصاق المسح بالرّأس ، وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه.

قال أبو حيّان (٥) : وليس كما ذكر ، يعني أنّه لا يطلق على [الماسح](٦) بعض رأسه ، أنّه ملصق المسح برأسه ، وهذا مشاحّة لا طائل تحتها (٧).

والثاني : أنها (٨) زائدة كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥].

وقوله : [البسيط]

١٩٣٢ ـ ................

 ... لا يقرأن بالسّور(٩)

وهو ظاهر كلام سيبويه (١٠) ، فإنّه حكى : خشّنت صدره وبصدره ، ومسحت رأسه وبرأسه ، والمعنى واحد.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢٦.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : فإذا وجب.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦١٠.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٥١.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : عنها.

(٨) سقط في أ.

(٩) تقدم.

(١٠) ينظر : الكتاب ١ / ٣٧.

٢٢١

وقال الفرّاء (١) : تقول العرب : خذ الخطام ، و [خذ] بالخطام. وهزّه وهزّ به ، وخذ برأسه ورأسه.

والثالث : أنّها للتبعيض ، كقوله : [الطويل]

١٩٣٣ ـ شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت

 ..................(٢)

وهذا قول ضعيف ، وتقدّم الكلام في ذلك في أول البسملة.

فصل في ذكر الخلاف في القدر الواجب من مسح الرأس

اختلف العلماء (٣) في قدر الواجب من مسح الرّأس ، فقال مالك وأحمد : يجب مسح جميع [الرأس كما يجب مسح جميع](٤) الوجه في التيمم وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرّأس.

وقال الشافعيّ : قدر ما يطلق عليه اسم المسح ، واحتج الشافعيّ بأنّه لو قال مسحت بالمنديل ، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بكلّه ، ولو قال : مسحت يدي بالمنديل ، فهذا يكفي في صدقه مسح اليد بجزء من أجزاء ذلك المنديل.

فقوله [سبحانه] : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) يكفي في العمل به مسح اليد بجزء من أجزاء الرّأس وذلك الجزء غير مقدّر في الآية ، فإن قدّرناه بمقدار معين لم يتعين ذلك المقدار إلا بدليل غير الآية ، فيلزم صيرورة الآية مجملة ، وهو خلاف الأصل ، وعلى ما قلناه تكون الآية مبينة مفيدة (٥) ، فهو أولى ، ويؤيّده ما روي عن المغيرة بن شعبة «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفّيه» (٦).

وأجاز أحمد المسح على العمامة (٧) ، ووافقه الأوزاعيّ [والنوويّ](٨) والثوريّ ، ومنعه غيره.

وحمل الحديث على أنّ فرض المسح سقط عنه بمسح النّاصية.

فصل

قال القرطبيّ (٩) : لو غسل المتوضّىء رأسه بدل المسح ، قال ابن العربيّ : لا نعلم

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ١٦٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٥.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : مقيدة.

(٦) أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٢٣ ـ ٢٣١ كتاب الطهارة : باب المسح على الناصية والعمامة الحديث (٨١ / ٢٧٤) و (٨٣ / ٢٧٤).

(٧) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٦.

(٨) سقط في ب.

(٩) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٦٠.

٢٢٢

خلافا في أن ذلك يجزئه إلا ما نقل عن بعضهم (١) أنّ ذلك لا يجزىء. وهذا مذهب أهل الظّاهر.

فإن قيل : هذه زيادة خرجت عن اللّفظ المتعبّد به.

قلنا : ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحلّ ، وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح.

قوله عزوجل : (وَأَرْجُلَكُمْ).

قرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم (٢) «أرجلكم» نصبا ، وباقي السبعة «وأرجلكم» جرّا.

والحسن بن أبي الحسن (٣) «وأرجلكم» رفعا.

فأمّا قراءة النّصب ففيها تخريجان :

أحدهما : أنها معطوفة على «أيديكم» ، فإن حكمها الغسل كالأوجه والأيدي. كأنه قيل: واغسلوا أرجلكم ، إلا أن هذا التّخريج أفسده بعضهم ؛ بأنّه (٤) يلزم منه الفصل بين المتعاطفين بجملة [غير](٥) اعتراضية ؛ لأنها منشئة حكما جديدا ، فليس [فيها](٦) تأكيد للأول (٧).

وقال ابن عصفور ـ وقد ذكر الفصل بين المتعاطفين ـ : وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، فدل [قوله](٨) على أنه لا يجوز تخريج الآية على ذلك.

وقال أبو البقاء (٩) عكس هذا ، فقال : هو معطوف على الوجوه ، ثم قال : وذلك جائز في العربيّة بلا خلاف.

وجعل السنّة الواردة بغسل الرّجلين مقوية لهذا التخريج ، فليس بشيء.

فإنّ لقائل أن يقول : يجوز أن يكون النّصب على محل المجرور [وكان حكمها المسح ، ولكنه نسخ ذلك بالسّنّة ، وهو قول مشهور العلماء.

والثاني : أنه منصوب عطفا على قبله](١٠) كما تقدم تقريره قبل ذلك.

وأمّا قراءة الجرّ ففيها أربعة تخاريج :

__________________

(١) نسب هذا لفخر الإسلام الشاشي عن أبي العباس بن القاص. ينظر : القرطبي ٦ / ٦٠.

(٢) ينظر : السبعة ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، والحجة ٣ / ٢١٤ ، وحجة القراءات ٢٢١ ، والعنوان ٨٧ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٤٣ ، وشرح شعلة ٣٤٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٢٦ ، وإتحاف ١ / ٥٣٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٥٢ ، والدر المصون ٢ / ٤٩٣.

(٤) في أ : لأنه.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : للأولى.

(٨) سقط في أ.

(٩) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٨.

(١٠) سقط في أ.

٢٢٣

أحدها : أنها منصوب في المعنى عطفا على الأيدي المغسولة ، وإنّما خفض (١) على الجوار ، كقولهم : هذا جحر ضبّ خرب ، بجر «خرب» ، وكان حقه الرفع ؛ لأنّه صفة في المعنى ل الجحر» لصحة اتصافه به ، والضّب لا يوصف به ، وإنما جره على الجوار.

وهذه المسألة عند النّحويين لها شرط ، وهو أن يؤمن اللّبس كما تقدم تمثيله ، بخلاف : قام غلام زيد العاقل ، إذا جعلت العاقل نعتا للغلام ، امتنع جره على الجوار لأجل اللّبس.

وأنشدوا ـ أيضا ـ قول الشاعر : [البسيط]

١٩٣٤ ـ كأنّما ضربت قدّام أعينها(٢)

قطنا بمستحصد الأوتار محلوج (٣)

وقول الآخر : [الوافر]

١٩٣٥ ـ فإيّاكم وحيّة بطن واد

هموز النّاب ليس لكم بسيّ (٤)

وقول الآخر : [الطويل]

١٩٣٦ ـ كأنّ ثبيرا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمّل (٥)

وقول الآخر : [الرجز]

١٩٣٧ ـ كأنّ نسج العنكبوت المرمل (٦)

بجر «محلوج» وهو صفة ل «قطنا» المنصوب وبجر «هموز» ، وهو صفة ل «حية» المنصوب ، وبجر «المزمّل» وهو صفة «كبير» ؛ لأنّه بمعنى الملتف ، وبجر «المرمل» وهو صفة «نسج» ، وإنما جرت هذه لأجل المجاورة.

وقرأ (٧) الأعمش : «إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين» بجر «المتين» مجاورة ل

__________________

(١) في أ : انخفض.

(٢) في ب : عينها.

(٣) البيت لذي الرمة ، ينظر : ديوانه ص ٩٩٥ ، لسان العرب (حمش) ، الإنصاف ص ٦٠٥ ، أسرار العربية ص ٣٣٨ ، تذكرة النحاة ص ٦١٠ ، خزانة الأدب ٥ / ٩١ ، معاني الفراء ٢ / ٧٤. الدر المصون ٢ / ٤٩٤ ، ورواية اللسان :

كأنما ضربت قدام أعينها

قطن بمستحمش الأوتار محلوج

(٤) البيت للحطيئة ينظر : ديوانه (٦٩) ، الخصائص ٣ / ٢٢٠ ، الخزانة ٢ / ٣٢١ ، ابن يعيش ٢ / ٨٥ ، الإنصاف (٦٠٦) ، الدر المصون ٢ / ٤٩٤.

(٥) البيت لامرىء القيس. ينظر : ديوانه (٦٢) ، أمالي ابن الشجري ١ / ٩٠ ، المحتسب ١ / ١٩٢ ، ٢ / ١٣٥ ، العمدة ١ / ٢٩٩ ، شرح المعلقات للتبريزي (١٢٧) ، الخزانة ٥ / ٩٨ ، المغني ٢ / ٥١٥ ، تذكرة النحاة ص ٣٠٨ ، ٣٤٦ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٨٣ ، لسان العرب (عقق) ، الأشباه والنظائر ٢ / ١٠ ، الدر المصون ٢ / ٤٩٤.

(٦) البيت للعجاج. ينظر : ديوانه ١ / ١٣ ، الكتاب ١ / ٢١٧ ، الخصائص ٣ / ٢٢١ ، الخزانة ٢ / ٣٢١ ، الإنصاف (٦٠٥) ، الدر المصون ٢ / ٤٩٤.

(٧) ينظر : الشواذ ١٤٦ ونسبها ليحيى بن وثاب ، وينظر : الدر المصون ٢ / ٤٩٤.

٢٢٤

«القوة» وهو صفة ل «الرزاق» ، وهذا وإن كان واردا إلا أن التخريج عليه ضعيف لضعف الجوار من حيث الجملة.

وأيضا فإن الخفض (١) على الجوار إنّما ورد في النعت لا في العطف ، وقد ورد في التوكيد قليلا في ضرورة الشّعر.

قال (٢) : [البسيط]

١٩٣٨ ـ يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات (٣) كلّهم

أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذّنب (٤)

بجر «كلهم» وهو توكيد ل «ذوي» المنصوب ، وإذا لم يردا إلّا في النّعت ، وما شذّ من غيره ، فلا ينبغي أن يخرّج عليه كتاب الله [تعالى ، وهذه المسألة قد أوضحتها وذكرت شواهدها في «شرح التسهيل»](٥) ، وممن نص على ضعف تخريج الآية على الجوار مكي ابن أبي طالب وغيره.

قال مكي (٦) ، وقال الأخفش (٧) ، وأبو عبيدة (٨) : الخفض فيه على الجوار ، والمعنى للغسل ، وهو بعيد لا يحمل القرآن عليه.

وقال أبو البقاء (٩) : وهو الإعراب الذي يقال : هو على الجوار ، وليس بممتنع أن يقع في القرآن لكثرته ، فقد جاء في القرآن والشعر.

فمن القرآن قوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ) [الواقعة : ٢٢] على قراءة من جرّ (١٠) وهو معطوف على قوله : (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) [الواقعة : ١٨] وهو مختلف المعنى ؛ إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مخلّدون بحور عين.

وقال النّابغة : [البسيط]

١٩٣٩ ـ لم يبق إلّا أسير غير منفلت

أو موثق في حبال القوم (١١) مجنوب (١٢)(١٣)

والقوافي مجرورة ، والجوار مشهور عندهم في الإعراب [ثم ذكر أشياء كثيرة زعم أنها مقوية لمدّعاه منها قلب الإعراب](١٤) في الصفات كقوله تعالى : (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ)

__________________

(١) في ب : الأخفش.

(٢) في ب : نحو قوله.

(٣) في ب : الراحات.

(٤) البيت لابن الغريب : ينظر : الهمع ٢ / ٥٥ ، الدرر ٢ / ٧٠ ، شرح الشذور ٣٣١ ، الدر المصون ٢ / ٤٩٤.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٢١.

(٧) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٥٥.

(٨) ينظر : مجاز القرآن ١ / ١٥٥.

(٩) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٩.

(١٠) وهي قراءة حمزة والكسائي. ينظر : السبعة ٦٢٢.

(١١) في ب : القد.

(١٢) في ب : محبوب.

(١٣) ينظر : ديوانه (٩٢) ، الدر المصون ٢ / ٤٩٥. وموثق : مقيد ، حبال القوم : الشراك المنصوبة.

(١٤) سقط في أ.

٢٢٥

[هود : ٨٤] ، واليوم ليس بمحيط ، وإنّما المحيط هو العذاب.

ومثله قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨] ، وعاصف ليس من صفة اليوم بل من صفة الريح.

ومنها قلب بعض الحروف إلى بعض كقوله عليه‌السلام : «ارجعن مأزورات غير مأجورات» (١) ، والأصل : موزورات ، ولكن أريد التّواخي.

وكذلك قولهم : [إنّه](٢) ليأتينا بالغدايا والعشايا ، يعني أن الأصل بالغداوى ؛ لأنّها من الغدوة ، ولكن لأجل ياء العشايا جاءت بالياء دون الواو.

ومنها تأنيث المذكّر كقوله تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] ، فحذف التاء من «عشر» ، وهي مضافة إلى «الأمثال» ، وهي مذكرة ، ولكن لما جاورت الأمثال ضمير المؤنّث أجري عليها حكمه ، وكذلك قوله : [الكامل]

١٩٤٠ ـ لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت(٣)

سور المدينة والجبال الخشّع (٤)

وقولهم : ذهبت بعض أصابعه يعني أن «سور» مذكرة ، و «بعض» ـ أيضا ـ كذلك ، ولكن لما جاورا المؤنث أعطيا حكمه.

ومنها : قامت هند لما لم يفصلوا ، أتوا بالتّاء ، ولمّا فصلوا لم يأتوا بها ، ولا فرق إلا المجاورة وعدمها.

[ومنها :](٥) استحسانهم النّصب في الاشتغال بعد جملة فعليّة ، في قولهم : قام زيد وعمرا كلمته لمجاورة الفعل.

ومنها : قلبهم الواو المجاورة للظّرف همزة نحو : أوائل بخلاف طواويس لبعدها من مجاورة الظرف.

قال : وهذا موضع يحتمل أن يكتب فيه أوراق من الشواهد ، قد بوّب له النحويون له [باب](٦) ورتّبوا عليه مسائل ، وأصّلوه بقولهم : هذا جحر ضبّ خرب.

[حتى](٧) اختلفوا في جواز جرّ التثنية والجمع ، فأجاز الإتباع فيهما جماعة من حذّاقهم قياسا على المفرد المسموع ، ولو كان لا وجه له بحال لاقتصروا فيه على

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه ١ / ٥٠٣ ، في الجنائر : باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز (١٥٧٨) ، قال البوصيري في «زوائده» ١ / ٥١٧ : هذا إسناد مختلف فيه من أجل دينار وإسماعيل بن سليمان أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية من هذا الوجه ورواه الحاكم من طريق إسرائيل ومن طريق الحاكم البيهقي في السنن الكبرى ٤ / ٧٧ ، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث أنس بن مالك.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : تخشعت.

(٤) تقدم.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

٢٢٦

المسموع فقط ، ويتأيّد ما ذكرناه أن الجرّ في الآية قد أجيز غيره وهو الرّفع والنّصب ، والرّفع والنّصب غير قاطعين ولا ظاهرين ، على أن حكم الرّجلين المسح ، فكذلك الجرّ يجب أن يكون كالنّصب والرفع في الحكم دون الإعراب. انتهى.

قال شهاب الدين : أمّا قوله : إنّ (وَحُورٌ عِينٌ) [الواقعة : ٢٢] من هذا الباب فليس بشيء ؛ لأنّه إمّا أن يقدّر عطفهما على ما [تقدّم بتأويل](١) ذكره الناس كما سيأتي ، أو بغير تأويل.

وإما ألّا يعطفهما ، [فإن عطفهما على ما تقدم ، وجب الجر ، وإن لم يعطفهما لم يجب الجر ، وأمّا جرهما على ما ذكره الناس فقيل : لعطفهما](٢) على المجرور بالياء قبلهما على تضمين الفعل المتقدم «يتلذّذون وينعمون بأكواب وكذا وكذا».

أو لا يضمّن الفعل شيئا ، ويكون لطواف الولدان بالحور العين على أهل الجنّة لذاذة لهم بذلك ، والجوار (٣) إنّما يكون حيث يستحقّ الاسم غير الجر ، فيجر لمجاورة ما قبله ، وهذا كما ترى قد صرّح هو أنّه معطوف على «بأكواب».

غاية (٤) ما في الباب أنّه جعله مختلف المعنى ، يعني أن عنده لا يجوز عطفهما على «بأكواب» إلا بمعنى آخر ، وهو تضمين الفعل ، وهذا لا يقدح في العطفية.

وأمّا البيت فجرّ «موثّق» ليس لجواره ل «منفلت» (٥) وإنّما هو مراعاة للمجرور ب «غير» ؛ لأنّهم نصوا على أنّك إذا جئت بعد «غير» ومخفوضها يتابع جاز أن يتبع لفظ «غير» ، وأن يتبع المضاف إليه ، وأنشدوا البيت ، ويروى : [البسيط]

١٩٤١ ـ لم يبق [فيها طريد] (٦) غير منفلت

أو موثق في حبال القوم مجنوب (٧)

وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليست من المجاورة التي توثر في التغيير ، أي تغيير الإعراب ، وقد تقدّم أنّ النّحويين خصّصوا ذلك بالنّعت ، وأنّه قد جاء في التوكيد ضرورة.

والتّخريج الثاني : أنّه معطوف على «برءوسكم» لفظا ومعنى ، ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل ، وهو حكم باق ، وبه قال جماعة ، أو يحمل مسح الأرجل على بعض الأحوال ، وهو لبس الخفّ ، ويعزى للشافعيّ.

التخريج الثالث : أنّها جرّت منبهة على عدم الإسراف باستعمال الماء ؛ لأنّها مظنّة لصبّ الماء [كثيرا](٨) ، فعطفت على الممسوح ، والمراد غسلها كما تقدّم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : الحواب.

(٤) في أ : عليه.

(٥) في أ : منقلب.

(٦) في أ : لا أسير.

(٧) تقدم : ١٩٣٩.

(٨) سقط في أ.

٢٢٧

وإليه ذهب الزمخشريّ (١) ، قال : «وقيل : إلى الكعبين» فجيء بالغاية إماطة لظن ظانّ يحسبهما ممسوحة ؛ لأنّ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة.

وكأنّه لم يرتض هذا القول الدافع لهذا الوهم ، وهو كما قال.

التخريج الرابع : أنها (٢) مجرورة بحرف جر مقدر ، دلّ عليه المعنى ، ويتعلّق هذا الحرف بفعل محذوف أيضا يليق بالمحلّ ، فيدّعى حذف جملة فعلية وحذف حرف جر ، قالوا : وتقديره : «وافعلوا بأرجلكم غسلا».

قال أبو البقاء (٣) : وحذف حرف الجرّ ، وإبقاء الجرّ جائز ؛ كقوله : [الطويل]

٩٤٢ ـ مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها (٤)

وقال الآخر : [الطويل]

١٩٤٣ ـ بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (٥)

فجر بتقدير الباء ، وليس بموضع ضرورة.

قوله : وإبقاء [الجرّ](٦) ليس على إطلاقه ، وإنّما يطرد منه مواضع نصّ عليها أهل اللّسان ليس هذا منها.

وأمّا البيتان فالجرّ فيهما عند النّحاة يسمّى العطف على التوهّم (٧) يعني كأنّه توهم وجود الباء زائدة في خبر «ليس» ، لأنها يكثر زيادتها ، ونظّروا ذلك بقوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠] بجزم «أكن» عطفا على «فأصّدق» على توهّم سقوط الفاء من «فأصدّق» نص عليه سيبويه وغيره ، فظهر فساد هذا التخريج.

وأما قراءة الرّفع فعلى الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : وأرجلكم مغسولة ، أو ممسوحة على ما تقدّم في حكمها [والكلام](٨) في قوله (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) كالكلام في «إلى المرفقين».

«والكعبان» فيهما قولان [مشهوران](٩).

أشهرهما (١٠) : أنّهما العظمان الناتئان عند مفصل السّاق والقدم في كل رجل كعبان.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦١١.

(٢) في أ : إنما هي.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٠.

(٤) تقدم.

(٥) البيت لزهير. ينظر : ديوانه (٢٨٧) ، الكتاب ١ / ٨٣ ، ابن يعيش ٢ / ٥٢ ، الدرر اللوامع ٢ / ١٠٥ ، الدر المصون ٢ / ٤٩٦.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : المتوهم.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

(١٠) في أ : أظهرهما.

٢٢٨

والثاني : أنّه العظم النّاتىء في وجه القدم ، حيث يجتمع شراك النّعل ، ومراد الاية هو الأوّل.

والكعبة : كلّ بيت مربّع ، وسيأتي [بيانه] في موضعه إن شاء الله ـ تعالى ـ (١).

فصل

قد تقدّم كلام النّحاة في الآية.

وقال المفسّرون (٢) : من قرأ بالنصب على تقدير : «فاغسلوا وجوهكم ، وأيديكم ، واغسلوا أرجلكم» ومن قرأ بالجرّ فذهب بعضهم إلى أنّه يمسح على الرجلين.

روي عن ابن عباس أنّه قال : «الوضوء غسلتان ومسحتان» (٣) ، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادة.

قال الشّعبيّ : نزل جبريل بالمسح ، وقال : ألا ترى التيمّم ما كان غسلا ، ويلقى ما كان مسحا (٤).

وقال محمّد بن جرير (٥) : يتخير المتوضىء بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين ، وذهب جماعة من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم كقوله : (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [هود : ٢٦] ، فالأليم صفة العذاب ، ولكنّه جرّ للمجاورة كقولهم : «جحر ضبّ خرب». ويدلّ على وجوب غسل الرّجلين ما روى عبد الله بن عمرو ، قال : تخلف عنا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في سفر سافرناه ، فأدركنا وقد راهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضّأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادانا بأعلى صوته : «ويل للأعقاب من النّار» (٦).

والأحاديث الواردة في صفة وضوء النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كثيرة ، وكلهم وصفوا غسل الرجلين.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٩٧.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٦٩) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٦٤) وزاد نسبته لعبد الرزاق. وينظر : تفسير البغوي (٢ / ١٦).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٧٠) عن عامر الشعبي والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٦٥) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٦.

(٥) ينظر : تفسير الطبري ٤ / ٤٧٠ ، ٤٧١.

(٦) أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٢١٤ ، كتاب الطهارة : باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما الحديث (٢٦ / ٢٤١) ونحوه عند البخاري في الصحيح ١ / ١٤٣ ، كتاب العلم : باب من رفع صوته بالعلم الحديث (٦٠) والعقب : مؤخر القدم. وينظر : تفسير البغوي : ٢ / ١٦.

٢٢٩

وقال بعضهم (١) : أراد بقوله (وَأَرْجُلَكُمْ) : المسح على الخفين ، كما روي أنّ النّبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ «كان إذا ركع وضع يده على ركبتيه» ، وليس المراد منه أنّه لم يكن بينهما حائل ، ويقال : قبّل فلان رأس الأمير ويده ، وإن كانت العمامة على رأسه ويده في كمه فالواجب في غسل أعضاء الوضوء هذه الأربعة.

فصل : حكم النيّة في الوضوء

اختلفوا في وجوب النية فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العبادات ، ولقوله عليه‌السلام : «إنّما الأعمال بالنيّات» وذهب النووي وأصحاب الرّأي إلى عدم وجوبها.

فصل [حكم الترتيب]

واختلفوا في وجوب الترتيب (٢) وهو أن يغسل أعضاءه على التّرتيب المذكور في الآية فذهب مالك والشافعيّ ، وأحمد وإسحاق إلى وجوبه ، ويروى ذلك عن أبي هريرة ، واحتجّوا (٣) بقول الله (٤) تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فاقتضى وجوب الابتداء بغسل الوجه ؛ لأنّ الفاء للتّعقيب ، وإذا أوجب الترتيب في هذا العضو ؛ وجب في غيره ، إذ لا قائل بالفرق.

[قالوا : فاء التعقيب إنما دخلت](٥) في جملة هذه الأعمال ، فجرى [الكلام](٦) مجرى قوله : إذا قمتم إلى الصلاة ، فأتوا بمجموع هذه الأفعال.

قلنا : فاء التّعقيب إنّما دخلت على الوجه لالتصاقها بذكر الوجه ، وبواسطة دخولها على الوجه ، دخلت على سائر الأفعال ، فكان دخولها على الوجه أصل ، ودخولها على المجموع تبع لدخولها على غسل الوجه ، فنحن اعتبرنا دلالة الفاء في الأصل ، واعتبرتموها في التبع ، فكان قولنا أولى (٧).

وأيضا فقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ابدءوا بما بدأ الله به» (٨) يقتضي العموم ، وأيضا فإهمال الترتيب في الكلام مستقبح فيجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ، وكونه تعالى أدرج ممسوحا بين مغسولين ، وقطع النّظير عن النظير ، يدلّ على أنّ التّرتيب مراد.

وأيضا فإن وجوب الوضوء غير معقول المعنى ؛ لأنّ الحدث يخرج من موضع

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٦.

(٢) ينظر تفسير البغوي ٢ / ١٧.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢١.

(٤) في ب : بقوله.

(٥) في أ. جعلت.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢١.

(٨) أخرجه مسلم (٢ / ٨٨٦ ـ ٨٨٧) كتاب الحج باب حج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٤٧ / ١٢١٨) من حديث جابر.

٢٣٠

والغسل يجب في موضع آخر ، وأعضاء المحدث طاهرة ، لأنّ الميت لا ينجس حيّا ولا ميتا ، وتطهير الطّاهر محال.

وأقيم التيمم مقام الوضوء وهو ضدّ النظافة والوضاءة ، وأقيم المسح على الخفين مقام الغسل ، وذلك لا يفيد في نفس العضو نظافة ألبتّة.

والماء [العفن](١) الكدر يفيد الطّهارة ، وماء (٢) الورد لا يفيدها ، وإذا كان غير معقول المعنى وجب الاعتماد فيه على مورد النّصّ لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور إما لمحض التعبد ، أو لحكمة خفية لا نعرفها ، ولهذا السّبب أوجبنا الترتيب في أركان الصلاة ، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة إلى أن الترتيب ليس بواجب ، قالوا : لأنّ ذلك زيادة على النّصّ فلا يجوز ؛ لأنّه نسخ. والواوات المذكورة [في الآية للجمع](٣) لا للترتيب كالواوات في قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) الآية [التوبة : ٦٠].

واتفقوا (٤) على أنه لا يجب الترتيب في صرف الصّدقات ، فكذلك هنا (٥).

وأجيبوا بأن قولهم : الزيادة على النّص نسخ ، ممنوع على قيد في علم الأصول.

وأمّا الصّدقات : فلم يرو (٦) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه راعى التّرتيب فيها.

وفي الوضوء لم ينقل أنّه توضّأ إلا مرتبا ، وبيان الكتاب يؤخذ من السّنّة ، قال تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] وقال [الله] تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج : ٧٧] ، ولم ينقل عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه قدم السّجود على الرّكوع ، بل راعى الترتيب ، فكذلك هاهنا.

فصل حكم المولاة

الموالاة أوجبها مالك وأحمد ، وقال أبو حنيفة والشّافعيّ [في الجديد](٧) ليست شرطا لصحة الوضوء (٨).

فصل

لو كان على وجهه أو بدنه نجاسة فغسلها أو نوى الطّهارة عن الحدث بذلك الغسل ، فقال بعض العلماء : يكفي لأنّه أمر بالغسل ، وقد أتى به ، فيخرج عن العهدة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «لكلّ امرىء ما نوى» (٩). فيجب أن يحصل له المنوي.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : وأما.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٧.

(٥) في ب : ههنا.

(٦) في ب : ينقل.

(٧) سقط في أ.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢٢.

(٩) تقدم.

٢٣١

فصل

لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ، ونوى رفع الحدث ، فقيل : لا يصحّ ؛ لأنه أمر بالغسل ، والغسل عمل وهو لم يأت بالعمل ، وقيل : يصحّ ؛ لأنّ الغسل عبارة عن الفعل المفضي [إلى الانغسال](١) ووقوفه تحت الميزاب فعل مفض إلى الاغتسال ، فكان غسلا (٢).

فصل

إذا غسل هذه الأعضاء ثم بعد ذلك تقشّرت الجلدة عنها ، فما ظهر من تحت (٣) الجلدة غير مغسول ، فالأظهر وجوب غسله ؛ لأنّه تعالى أمر بغسل هذه الأعضاء ، وذلك الموضع غير مغسول ، إنّما المغسول هو الجلدة التي زالت (٤).

فصل

لو أخذ الثّلج وأمرّه على هذه الأعضاء ، فإن كان الهواء حارّا يذيب الثّلج ويسيله جاز وإلا فلا ، خلافا للأوزاعي.

لنا : أنّ هذا لا يسمّى غسلا ، فأمر بالغسل (٥).

فصل في التسمية في الغسل

التّسمية في أوّل الغسل والوضوء : قال أحمد وإسحاق : واجبة.

وقال غيرهما : هي سنّة ؛ لأنّها ليست مذكورة في الآية ، واستدلّوا عليه بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا صلاة إلّا بوضوء ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (٦).

قوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).

قال الزّجّاج (٧) : معناه تطهّروا ؛ لأن «التّاء» تدغم في «الطّاء» ؛ لأنّهما من مكان

__________________

(١) في أ : عن الأغسال.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢٣.

(٣) في ب : تلك.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢٣.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) أخرجه أبو داود ١ / ٢٥ كتاب الطهارة باب التسمية على الوضوء (١٠١) وابن ماجه ١ / ١٤٠ ، كتاب الطهارة وسننها : باب ما جاء في التسمية في الوضوء (٣٩٩) ، والبيهقي ١ / ٤٤ ، من حديث أيوب بن النجار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة لكن أعله بالانقطاع. وله شاهد من حديث سعيد بن زيد أخرجه الترمذي ١ / ٣٨ ، أبواب الطهارة : باب ما جاء في التسمية عند الوضوء (٢٥) ، وابن ماجه ١ / ١٤٠ ، كتاب الطهارة وسننها ما جاء في التسمية في الوضوء (٣٩٨) ، وفي سنده مجهول وينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٢٤.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٠.

٢٣٢

واحد ، فإذا أدغمت «التّاء» في «الطّاء» سكّن أوّل الكلمة فزيد ألف وصل ليبتدأ بها ، فقيل: «اطّهّروا».

ولمّا ذكر تعالى كيفيّة الطّهارة الصّغرى ، ذكر بعدها الطّهارة الكبرى ، وهي الغسل من الجنابة. ولمّا كانت الطّهارة الصّغرى مخصوصة ببعض الأعضاء ، لا جرم ذكر تلك الأعضاء على التّعيين ، ولما كانت الطّهارة الكبرى في كلّ البدن أمر بها على الإطلاق.

روت عائشة أنّ النّبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم توضّأ كما يتوضّأ للصّلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلّل بها أصول شعره ، ثم يصبّ الماء على رأسه ثلاث غرفات بيده ، ثم يفيض الماء على جلده كلّه (١).

فصل

قال القرطبي (٢) : قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) أمر بالاغتسال بالماء ، وكذلك رأى عمر وابن مسعود : أنّ الجنب لا يتيّمم ألبتّة ، بل يدع الصّلاة حتى يجد الماء ، وهذا يردّه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «وجعل لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» وقوله : «التّراب طهور المسلم ، ما لم يجد الماء عشر سنين» ، وحديث عبادة ، وحديث عمران بن الحصين أنّ النّبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ رأى رجلا معه ماء لم يصلّ في القوم الحديث (٣).

فصل

ولحصول الجنابة سببان :

الأوّل : نزول المنيّ ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّما الماء من الماء» (٤).

والثاني : في التقاء الختانين ، وقال زيد بن ثابت ، ومعاذ [وأبو سعيد الخدري :](٥) لا يجب الغسل إلّا عند نزول الماء.

لنا : قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا التقى الختانان وجب الغسل ، وإن لم ينزل» (٦) ، وختان الرّجل : هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة ، وأما ختان المرأة

__________________

(١) متفق عليه : أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ٣٦٠ ، كتاب الغسل : باب الوضوء قبل الغسل الحديث (٢٤٨). ومسلم في الصحيح ١ / ٢٥٣. كتاب الحيض : باب صفة غسل الجنابة الحديث (٣٥ / ٣١٦) وينظر تفسير البغوي ٢ / ١٧.

(٢) ينظر : القرطبي ٦ / ٦٩.

(٣) تقدمت هذه الأحاديث.

(٤) أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٢٦٩ ، كتاب الحيض : باب إنما الماء من الماء الحديث (٨٠ / ٣٤٣) و (٨١ / ٣٤٣).

(٥) في أ : بن شعبة.

(٦) أخرجه الشافعي في مسنده ١ / ٣٧ حديث (١٠١) والأم ١ / ٣١. وأحمد ٦ / ٩٧.

٢٣٣

فشفران (١) محيطان بثلاثة أشياء : ثقبة في أسفل الفرج وهو مدخل الذّكر ومخرج الحيض والولد ، وثقبة [أخرى](٢) فوق [هذه](٣) مثل إحليل الذّكر وهي مخرج البول لا غير ، [وفوق](٤) ثقبة البول موضع ختانها ، وهناك جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الدّيك ، وقطع هذه الجلدة هو ختانها ، فإذا غابت الحشفة حتى حاذى ختانه ختانها ، فقد وجب الغسل (٥).

فصل في حكم الدلك

الدّلك غير واجب ؛ لأنّه لم يذكر في الآية ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما سئل عن الاغتسال من الجنابة ـ قال : «أمّا أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فأنا قد طهرت» (٦) ولم يذكر الدّلك (٧).

قال مالك : هو واجب.

فصل

والمضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل عند أبي حنيفة وأحمد ، وقال الشّافعيّ : لا يجبان ؛ لأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمّا أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات» ولم يذكرهما ، واحتجّ الأوّلون بقوله : «فاطّهّروا» فأمر بتطهير جميع الأجزاء (٨) وترك العمل به في الأجزاء الباطنة لتعذّر تطهيرها ، وداخل الأنف والفم يمكن تطهيرها فدخلا تحت النّصّ ، وبقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «بلّوا الشّعر وانتفوا البشرة ، فإنّ تحت كلّ شعرة جنابة» (٩) ، فيدخل الأنف ؛ لأنّ في داخله شعر ، وقوله : «وانتفوا البشرة» يدخل فيه جلدة داخل الفم ؛ لأنّ حكمها حكم الظّاهر بحيث لو وضع في فمه لم يفطر ، ولو وضع فيه خمرا لم يحدّ.

والأكثرون على عدم وجوب التّرتيب في الغسل ، وقال إسحاق : يجب البداءة على البدن(١٠)(١١).

__________________

(١) في ب : فشفرها.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣.

(٦) أخرجه البيهقي (١ / ١٧٩) والطبراني في «الكبير» (١٠ / ٣٦٦) وأبو نعيم في «تاريخ أصفهان» (١ / ٢١١) من حديث أبي هريرة.

(٧) ينظر : الرازي ١١ / ١٣٠.

(٨) في ب : جميع الأجزاء أجزاء النفس.

(٩) أخرجه أبو داود (١ / ٦٥) كتاب الطهارة : باب الغسل من الجنابة حديث (٢٤٨) والترمذي (١ / ١٧٨) كتاب الطهارة : باب ما جاء في أن تحت كل شعرة جنابة حديث (١٠٦) وابن ماجه (١ / ١٩٦) كتاب الطهارة : باب تحت كل شعرة جنابة حديث (٥٩٧) والبيهقي (١ / ١٧٥) من حديث أبي هريرة.

وقال البغوي في شرح السنة (١ / ٣٤٦ ـ بتحقيقنا) : هو غريب الإسناد. وقد بينا ضعفه هناك.

(١٠) في ب : البداء بالملاء.

(١١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٠ ، ١٣١.

٢٣٤

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

قال مكّي : من جعل الصّعيد : الأرض ، أو وجه الأرض نصب «صعيدا» على الظّرف ، ومن جعل الصّعيد : التّراب نصب على أنّه مفعول به ، حذف منه حرف الجرّ : بصعيد ، و «طيّبا» نعته ، أي : نظيف.

وقيل : طيّبا معناه : حلالا ، فيكون نصبه على المصدر ، أو على الحال.

فصل

وهذا يدلّ على جواز التّيمّم للمريض ، ولا يقال : إنّه شرط فيه عدم الماء ؛ لأنّ عدم الماء يبيح التّيمّم بغير مرض ، وإنّما يرجع قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا)(١)(ماءً) إلى المسافر.

والمرض ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يخاف الضّرر والتّلف باستعمال الماء ، فهذا يجوز له التّيمّم بالاتّفاق.

والثاني : ألّا يخاف الضّرر [ولا](٢) التّلف ، فقال الشّافعيّ : لا يجوز له التّيمّم ، وقال مالك وأبو حنيفة : يجوز لقوله : «وإن كنتم مرضى».

الثّالث : أن يخاف الزّيادة في العلّة ، وبطء البرء ، فيجوز له التّيمّم عند أحمد ، وفي أصحّ القولين للشّافعيّ ، وبه قال مالك وأبو حنيفة ، فإن خاف بقاء شين (٣) في العضو ، فقال بعضهم: لا يتيمم ، وقال آخرون (٤) : يتيمم وهو الصّحيح.

فصل

يجوز التيمم في السّفر القصير ، للآية ، وقال بعضهم : لا يجوز (٥) ؛ إذا كان معه ماء وحيوان مشرف على الهلاك جاز له التّيمّم ، ووجب صرف الماء إلى [ذلك](٦) الحيوان.

فصل

فإن لم يكن معه ماء ، وكان مع غيره ، ولا يمكنه أن يشتريه إلّا بالغبن الفاحش جاز له التيمّم ، لقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] ، فإن وهب منه ذلك الماء ، فقيل : لا يجب قبوله لما فيه من المنّة ، فإن (٧) أعير [منه](٨) الدّلو والرشاء ، فقال الأكثرون (٩) : لا يجوز له التّيمّم لقلّة المنّة في هذه العادة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : شيئين.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣١.

(٥) ينظر : المصدر السابق ١١ / ١٣٢.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : فإذا.

(٨) سقط في أ.

(٩) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٢.

٢٣٥

فصل

إذا جاء من الغائط وجب عليه الاستنجاء ، إمّا بالحجارة ، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «فليستنج بثلاثة أحجار» (١).

وقال أبو حنيفة (٢) : لا يجب ؛ لأنّه تعالى أوجب عند المجيء من الغائط الوضوء والتّيمّم ؛ ولم يوجب غسل موضع الحدث.

ظاهر قوله (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) يدلّ على انتقاض وضوء اللّامس ، وأمّا انتقاض وضوء الملموس فغير مأخوذ من الآية ، وإنّما أخذ من الخبر أو من القياس الجليّ](٣).

[فصل انتقاض وضوء اللامس والملموس]

يجوز الوضوء بماء البحر ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : «لا يجوز (٤) بل يتيمم».

ولنا : أنّ التيمّم شرطه عدم الماء ، ومن وجد ماء البحر فإنّه واجد للماء (٥).

فصل

قال أكثر العلماء (٦) : لا بدّ في التّيمّم من النّيّة ؛ لأنّ التّيمّم عبارة عن القصد ، وقال زفر: لا تجب (٧).

فصل في الخلاف في حد تيمم المرفقين

قال الشّافعيّ وأبو حنيفة : [التيمّم](٨) في اليدين إلى المرفقين ، وعن عليّ وابن عبّاس ـ رضي الله عنهم ـ إلى الرّسغين ، وعن مالك وغيره إلى الكوعين ، [وعن](٩) الزّهري إلى الآباط(١٠).

فصل في وجوب استيعاب العضو بالتراب

يجب استيعاب العضوين في التّيمّم ، ونقل الحسن بن زياد عن أبي حنيفة : إذا

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٣.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه البيهقي (٤ / ٣٣٤) عن ابن عمرو بلفظ : ماء البحر لا يجزي من وضوء ولا من جنابة.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٤.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٥.

(٧) في ب : يجب.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

(١٠) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٥.

٢٣٦

يمّم (١) الأكثر جاز ؛ لأن «الباء» في قوله : «برؤوسكم» يقتضي مسح البعض ، فكذا هاهنا(٢).

فصل في صفة التراب

إذا لم يكن للتّراب غبار يعلق باليد لم يجز التّيمم به وهو قول الشّافعيّ وأبي يوسف ، وقال أبو حنيفة ومالك : [يجزئه ، وقال الشافعي : لا يجوز التّيمّم إلا بالتّراب الخالص ، وقال أبو حنيفة](٣) : يجوز بالتّراب وبالرّمل وبالخزف المدقوق والجصّ والمدر والزّرنيخ.

لنا : ما روى ابن عبّاس أنه قال : «الصّعيد هو التّراب» (٤).

فصل

لو وقف في مهبّ الرّياح ، فسفت عليه التّراب وأمرّ يده [عليه](٥) أو لم يمرّها ، فظاهر مذهب الشّافعيّ أنّه لا يكفي. وقال بعض المحقّقين (٦) : إنّه يكفي ؛ لأنّه قصد استعمال الصّعيد في أعضائه.

فصل

قال الشّافعيّ وأحمد (٧) : لا يجوز التيمّم إلا بعد دخول الوقت ، لقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [والقيام إلى الصلاة](٨) لا يكون إلّا بعد دخول وقتها.

فصل

إذا ضرب ثوبا فارتفع منه غبار ، فقال أبو حنيفة : يجوز التّيمّم به ، وقال أبو يوسف : لا يجوز (٩).

فصل

لا يجوز التّيمّم بتراب نجس ، لقوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) والنّجس لا يكون طيّبا.

وفروع [التّيمّم](١٠) كثيرة مذكورة في كتب الفقه.

قوله ـ سبحانه ـ «منه» في محلّ نصب متعلّقا ب «امسحوا» ، و «من» فيها وجهان :

أظهرهما : أنّها للتّبعيض.

__________________

(١) في أ : يتيمم.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٦.

(٣) سقط في أ.

(٤) تقدم.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٦.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٣٦.

(٨) سقط في أ.

(٩) ينظر : المصدر السابق.

(١٠) سقط في أ.

٢٣٧

والثاني : أنّها لابتداء الغاية ، ولهذا لا يشترط عند هؤلاء أن يتعلّق [باليد](١) غبار.

وقوله تعالى : «ليجعل» : الكلام في هذه «اللّام» كالكلام عليها في قوله (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦] ، إلا أنّ من جعل مفعول الإرادة محذوفا ، وعلّق به «اللّام» من «ليجعل» زاد «من» في الإيجاب في قوله : «من حرج» ، وساغ ذلك ؛ لأنّه في حيّز النّفي ، وإن لم يكن النّفي واقعا على فعل الحرج ، و «من حرج» مفعول «ليجعل».

و «الجعل» : يحتمل أنّه بمعنى الإيجاد والخلق ، فيتعدّى لواحد وهو (مِنْ حَرَجٍ) و «من» مزيدة فيه كما تقدّم ، ويتعلّق «عليكم» حينئذ بالجعل ، ويجوز أن يتعلّق ب «حرج».

فإن قيل : هو مصدر ، والمصدر لا يتقدّم معموله عليه ، قيل : ذلك في المصدر المؤوّل بحرف مصدريّ وفعل ، لأنه بمعنى الموصول ، وهذا ليس مؤوّلا بحرف مصدريّ ، [ويجوز أن يكون الجعل بمعنى التّصيير] ، فيكون «عليكم» هو المفعول الثّاني.

فصل في معنى الآية

المعنى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ) : بما فرض من الوضوء والغسل والتّيمّم ، (مِنْ حَرَجٍ) : من ضيق ، «ولكن يريد ليطهّركم» : من الأحداث والجنابات (٢) والذّنوب.

فصل

قالت المعتزلة : دلّت هذه الآية على أنّ الأصل في المضارّ ألّا تكون مشروعة ، فإنّه تعالى ما جعل علينا في الدّين من حرج ، وقال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (٣) وأيضا فدفع الضّرر مستحسن في العقول ، فوجب أن يكون كذلك في الشّرع.

قوله ـ سبحانه ـ : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ).

اختلفوا في تفسير هذا التّطهير ، قال جمهور الحنفيّة : إنّ عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكميّة ، والمقصود من هذا التّطهير إزالة [تلك](٤) النجاسة الحكميّة ، وهذا بعيد لوجوه :

إحداها : قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] ، وكلمة «إنّما» للحصر ، وهذا يدلّ على أنّ المؤمن لا تنجس أعضاؤه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : والأنجاس.

(٣) تقدم.

(٤) سقط في أ.

٢٣٨

وثانيها : قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «المؤمن لا تنجس أعضاؤه لا حيّا ولا ميّتا»(١).

وثالثها : أجمعت الأمّة على أنّ بدن المحدث لو كان رطبا ، فأصابه ثوب لم ينجس الثّوب ، ولو حمله إنسان وصلّى به لم تفسد صلاته.

ورابعها : لو كان الحدث يوجب نجاسة الأعضاء ، ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل الأعضاء ، لوجب ألّا يختلف ذلك باختلاف الشّرائع ، والأمر ليس كذلك.

وخامسها : أنّ خروج النّجاسة من موضع ، كيف يوجب تنجّس موضع آخر؟.

وسادسها : أنّ المسح على الخفّين قائم مقام غسل الرّجلين ، ومعلوم أنّ هذا لا يزيل شيئا ألبتّة عن الرّجلين.

وسابعها : أنّ الذي يراد زواله إن كان جسما ، فالحسّ يشهد ببطلان ذلك ، وإن كان عرضا فهو محال ؛ لأنّ انتقال الأعراض محال.

القول الثاني : أنّ المراد به التّطهير من المعاصي والذّنوب ، وهو المراد بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا توضّأ العبد خرجت خطاياه من وجهه وكذا يديه ورأسه ورجليه».

وقوله تعالى : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ).

قال محمّد بن كعب (٢) : إتمام النّعمة تكفير الخطايا بالوضوء ، وهذا الكلام متعلّق بما ذكره أوّل السّورة من إباحة الطّيّبات من المطاعم والمناكح ، ثمّ بيّن بعده كيفيّة فرض الوضوء ، كأنّه قال: إنّما ذكرت ذلك لتتمّ النّعمة المذكورة أوّلا ، وهي نعمة الدّنيا ، وهذه النّعمة المذكورة الثّانية وهي نعمة الدّين.

وقيل : المراد (لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بالرخص بالتّيمّم ، والتّخفيف في حال المرض والسّفر ، فاستدلّوا بذلك على أنّه تعالى يخفّف عنكم يوم القيامة ، بأن يعفو عن ذنوبكم ، ويتجاوز عن سيّئاتكم.

قوله ـ جلا وعلا ـ : «عليكم» فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّه متعلّق ب «يتمّ».

والثاني : أنّه متعلّق ب «نعمته».

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب الجنائز باب غسل الميت ووضوؤه ومسلم (١ / ١٩٤) وأبو داود (١ / ٩٢) رقم (٢٣١) والنسائي (١ / ٥١) والترمذي (١ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨) حديث (١٢١) وابن ماجه (٥٣٤) وأحمد (٢ / ٢٣٥ ، ٣٨٢ ، ٤٧١) من حديث أبي هريرة بلفظ المؤمن لا ينجس.

ورواية الترمذي لفظها : المسلم لا ينجس.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٧.

٢٣٩

والثالث : أنّه متعلّق بمحذوف على أنّه حال من «نعمته».

ذكر هذين الوجهين الأخيرين أبو البقاء (١) ، وهذه الآية بخلاف التي قبلها [في قوله](٢) : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ، حيث امتنع تعلّق الجارّ بالنّعمة ؛ لتقدّم معمول المصدر [عليه](٣) كما تقدّم بيانه.

قال الزّمخشريّ : وقرىء (٤) «فأطهروا» أي : أطهروا [أبدانكم](٥) ، وكذلك «ليطهركم» ، يعني : أنّه قرىء «أطهروا» أمر من «أطهر» رباعيّا ك «أكرم» ، ونسب النّاس القراءة الثّانية ، أعني قوله : «ليطهركم» لسعيد بن المسيّب.

ثم قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، والكلام في لعلّ مذكور في البقرة عند قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ١٨٣].

قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)(٧)

قوله ـ سبحانه ـ : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الآية.

لما ذكر التّكاليف أردفه بما يوجب عليهم القبول والانقياد ، وذلك من وجهين :

الأوّل : كثرة نعم الله عليهم ؛ لأنّ كثرة النّعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم ، والانقياد لأوامره ونواهيه.

وقال : (نِعْمَةَ اللهِ) ولم يقل «نعم الله» ؛ لأنّ هذا الجنس لا يقدر عليه غير الله ؛ لأنّ نعمة الحياة ، والصّحّة ، والعقل ، والهداية ، والصّون من الآفات ، وإيصال الخيرات في الدّنيا والآخرة شيء لا يعلمه إلّا الله تعالى ، وإنّما المراد [التّأمّل](٦) في هذا النّوع من حيث إنّه ممتاز عن نعمة غيره.

والوجه الثاني في السبب الموجب للانقياد للتّكاليف : هو الميثاق الذي واثقكم به.

فإن قيل : [قوله](٧)(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) مشعر بسبق (٨) النّسيان ، وكيف يمكن نسيانها [مع أنها](٩) متواترة متوالية [علينا](١٠) في جميع السّاعات والأوقات؟ فالجواب : أنّها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد ، فصارت غلبة ظهورها وكثرتها سببا لوقوعها محلّ النّسيان(١١).

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦١١.

(٥) في أ : أيديكم.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : يشعر سبق.

(٩) في أ : هي.

(١٠) في أ : عليها.

(١١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٤١.

٢٤٠