اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

أبيح لك دخولها ، وحاصل الكلام أنّا إنّما عرفنا أنّ الأمر هنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل ، وهذه الآية متعلّقة بقوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يعني [إذا كان المانع من](١) حل الاصطياد هو الإحرام ، فإذا زال الإحرام وجب أن يزول المنع.

قوله سبحانه وتعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) قرأ الجمهور : «يجرمنكم» بفتح الياء من «جرم» ثلاثيا ، ومعنى «جرم» عند الكسائيّ وثعلب «حمل» ، يقال : جرمه على كذا ، أي : حمله عليه.

قال الشاعر : [الكامل]

١٩١٨ ـ ولقد طعنت أبا عيينة (٢) طعنة

[جرمت فزارة](٣) بعدها أن يغضبوا (٤)

فعلى هذا التّفسير يتعدّى «جرم» (٥) لواحد ، وهو الكاف والميم ، ويكون قوله : «أن تعتدوا» على إسقاط حرف الخفض ، وهو «على» أي : ولا يحملنّكم بغضكم لقوم على اعتدائكم عليهم ، فيجيء في محلّ «أن» الخلاف المشهور ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عبّاس وقتادة.

ومعناه عند أبي عبيدة والفرّاء : كسب ، ومنه فلان جريمة أهله أي : كاسبهم.

وعن الكسائيّ ـ أيضا ـ أنّ جرم وأجرم بمعنى : كسب غيره فالجريمة والجارم (٦) بمعنى الكاسب ، وأجرم فلان أي : اكتسب الإثم ، ومنه قوله : [الوافر]

١٩١٩ ـ جريمة ناهض في رأس نيق(٧)

ترى (٨) العظام ما جمعت صليبا (٩)

أي : كاسب قوّة ، والصّليب الودك.

قال ابن فارس (١٠) : يقال جرم وأجرم ، ولا جرم بمنزلة قولك : لا بدّ ولا محالة [وأصله](١١) من جرم أي : كسب ، فعلى هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّه متعدّ لواحد.

__________________

(١) في أ : أن المانع من.

(٢) في ب : أبا عبيدة.

(٣) في ب : حرمت قرارة.

(٤) البيت لأبي أسماء بن الضريبة. ينظر : لسان العرب (جرم) ، خزانة الأدب ١٠ / ٢٨٣ ، ٢٨٦ ، ٢٨٨ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ١٣٦ ، الكتاب ٣ / ١٣٨ ، أدب الكاتب ص ٦٢ ، الاشتقاق ص ١٩٠ ، جمهرة اللغة ص ٤٦٥ ، جواهر الأدب ص ٣٥٥ ، الصاحبي في فقه اللغة ص ١٥٠ ، المقتضب ٢ / ٣٥٢.

والقرطبي ٦ / ٣١.

(٥) في أ : ويحرم.

(٦) في أ : الخادم.

(٧) في ب : تلق.

(٨) في ب : يرى.

(٩) ينظر : القرطبي ٦ / ٣٢.

(١٠) ينظر : القرطبي ٦ / ٣٢.

(١١) سقط في أ.

١٨١

والثاني : [أنّه](١) متعدّ لاثنين ، [كما أنّ «كسب» كذلك ، وأمّا في الآية الكريمة فلا يكون إلّا متعدّيا لاثنين :](٢) أوّلهما : ضمير الخطاب ، والثّاني : (أَنْ تَعْتَدُوا) أي : لا يكسبنّكم بغضكم لقوم (٣) الاعتداء عليهم.

وقرأ (٤) عبد الله «يجرمنّكم» بضمّ الياء من «أجرم» رباعيّا.

وقيل : هو بمعنى «جرم» كما تقدم عن الكسائي.

وقيل : «أجرم» منقول من «جرم» بهمزة التّعدية.

قال الزّمخشريّ : «جرم» ؛ يجري مجرى «كسب» في تعديته إلى مفعول واحد وإلى اثنين ، تقول : جرم ذنبا أي كسبه ، وجرمته ذنبا ، أي كسبته إيّاه ، ويقال أجرمته ذنبا على نقل المتعدّي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين ، كقولك : أكسبته ذنبا ، وعليه قراءة عبد الله (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) وأوّل المفعولين (٥) على القراءتين ضمير المخاطبين. وثانيهما : (أَنْ تَعْتَدُوا) ا ه.

وأصل هذه المادة ـ كما قال ابن (٦) عيسى الرّمّاني ـ القطع ، فجرم حمل على الشّيء لقطعه عن غيره ، وجرم كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حقّ ؛ لأنّ الحقّ يقطع عليه.

قال الخليل : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي : لقد حقّ [هكذا](٧) قاله الرّمانيّ ، فجعل بين هذه الألفاظ قدرا مشتركا ، وليس عنده من باب الاشتراك اللّفظيّ.

و «شنآن» [معناه](٨) : بغض ، وهو مصدر شنىء ، أي : أبغض.

وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم (٩) «شنآن» بسكون النّون ، والباقون بفتحها ، وجوّزوا في كلّ منهما أن يكون مصدرا ، وأن يكون وصفا حتّى يحكى عن أبي عليّ أنّه قال : من زعم أنّ «فعلان» إذا سكّنت عينه لم يكن مصدرا فقد أخطأ ، لأنّ «فعلان» بسكون العين قليل في المصادر ، نحو : لويته دينه (١٠) ليّانا ، بل هو كثير في الصّفات نحو : سكران وبابه و «فعلان» بالفتح قليل في الصفات ، قالوا : حمار قطوان ، أي : عسر السير ، وتيس عدوان.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : لبعض.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٤٩ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٢.

(٥) في ب : المفعول.

(٦) في أ : أبو عيسى.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في ب.

(٩) ينظر : السبعة ٢٤٢ ، والحجة ٣ / ١٩٥ ، وحجة القراءات ٢١٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤١ ، والعنوان ٨٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٢٥ وشرح شعلة ٣٤٧ ، وإتحاف ١ / ٥٢٩.

(١٠) في أ : ذنبا.

١٨٢

قال : [الطويل]

١٩٢٠ ـ .................

كتيس (١) ظباء الحلّب العدوان (٢)

ومثله قول الآخر ، أنشده أبو زيد : [الطويل]

١٩٢١ ـ وقبلك ما هاب الرّجال ظلامتي

وفقّأت عين الأشوس الأبيان (٣)

بفتح الباء والياء ، بل الكثير أن يكون مصدرا ، نحو : الغليان والنّزوان (٤) ، فإن أريد ب «الشّنأن» السّاكن العين الوصف ، فالمعنى : ولا يجرمنكم بغيض قوم ، وبغيض بمعنى : مبغض ، اسم فاعل من «أبغض» ، وهو متعدّ ، ففعيل بمعنى الفاعل كقدير ونصير ، وإضافته ل «قوم» على هذا إضافة بيان ، أي : إنّ البغيض من بينهم ، وليس مضافا لفاعل ولا مفعول ، بخلاف ما إذا قدّرته مصدرا فإنه يكون مضافا إلى مفعوله أو فاعله كما سيأتي.

وقال صاحب هذا القول : يقال : رجل شنآن ، وآمرأة شنآنة ، كندمان ، وندمانة ، وقياس هذا أن يكون من فعل متعد [وحكي : رجل شنآن ، وامرأة شنأى ك «سكران وسكرى» وقياس هذا أن يكون من فعل لازم](٥) ، ولا بعد في ذلك ، فإنّهم قد يشتقّون من مادّة واحدة القاصر والمتعدّي ، قالوا : فغرت فاه ، وفغر فوه أي : فتحته فانفتح ، [وإن](٦) أريد به المصدر فواضح ، ويكون مضافا إلى مفعوله ، أي : بغضكم لقوم ، فحذف الفاعل ، ويجوز أن يكون مضافا إلى فاعله ، أي بغض قوم إيّاكم ، فحذف مفعوله.

والأوّل أظهر في المعنى ، وحكم شنآن بفتح النّون مصدرا وصفة حكم إسكانها ، وقد تقدّم تقرير ذلك ، ومن مجيء شنآن السّاكن العين مصدرا قول الأحوص : [الطويل]

١٩٢٢ ـ وما الحبّ إلّا ما تلذّ وتشتهي(٧)

وإن لام فيه الشّنان وفنّدا (٨)

أراد الشّنآن بسكون النّون فنقل حركة الهمزة إلى النّون السّاكنة ، وحذف الهمزة [ولو لا سكون النّون لما جاز النّقل ولو قال قائل : إنّ الأصل الشّنآن بفتح النون](٩) وخفض الهمزة بحذفها رأسا ، كما قرىء (١٠)(إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) [المدثر : ٣٥] بحذف

__________________

(١) في ب : لبئيس.

(٢) عجز بيت لامرىء القيس وصدره :

مكرّ مفر مقبل مدبر معا

(٣) البيت لأبي المجشّر ، جاهلي ، ينظر : اللسان (أبي) ، الدر المصون ٢ / ٤٨٢.

(٤) في أ : والغزوان.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : يلذ ويشتهى.

(٨) ينظر : ديوانه (٩٩) ، مجاز القرآن (١ / ١٤٧) ، البحر المحيط ٣ / ٤٣٧ ، الدر المصون ٢ / ٤٨٣.

(٩) سقط في أ.

(١٠) ستأتي في المدثر آية (٣٥).

١٨٣

همزة «إحدى» لكان قولا يسقط به الدليل لاحتماله ، و «الشّنآن» بالفتح عمّا شذّ عن القاعدة الكلّيّة.

قال سيبويه : كلّ بناء من المصادر على وزن «فعلان» بفتح العين لم يتعدّ فعله إلّا أن يشذّ شيء كالشّنآن ، يعني أنّه مصدر على «فعلان» بالفتح ، ومع ذلك فعله متعدّ ، وفعله أكثر الأفعال مصادر سمع له ستّة عشر مصدرا ، قالوا : شنىء (١) ـ يشنأ [شنئا](٢) وشنآنا مثلّثي الشّين ، فهي ستّ لغات.

وقرأ ابن وثّاب ، والحسن ، والوليد عن يعقوب (٣) «يجرمنكم» بسكون النّون جعلوها نون التوكيد الخفيفة ، والنّهي في اللّفظ للشّنآن ، وهو في المعنى للمخاطبين نحو : «لا أرينك هاهنا» و (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] قاله مكّيّ.

فصل

قال القفّال (٤) : هذا معطوف على قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) إلى قوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) يعني : لا يحملنكم عداؤكم لقوم من أجل أنّهم صدّوكم عن المسجد الحرام أن [تعتدوا فتمنعوهم](٥) عن المسجد الحرام ، فإنّ الباطل لا يجوز أن يعتدى (٦) به.

قال محمد بن جرير (٧) : هذه السورة نزلت بعد قصّة «الحديبية» ، فكان الصّدّ قد تقدّم ، وليس للناس أن يعين بعضهم بعضا على العدوان ، حتى إذا تعدّى واحد منهم على الآخر [تعدّى ذلك الآخر](٨) عليه ، لكنّ الواجب أن يعين بعضهم بعضا على ما فيه البرّ والتّقوى.

قوله سبحانه وتعالى : (أَنْ صَدُّوكُمْ).

قرأ أبو عمرو ، وابن كثير (٩) ، بكسر «إن» ، والباقون بفتحها ، فمن كسر فعلى أنّها شرطيّة ، والفتح على أنها علّة للشنآن ، أي لا يكسبنّكم (١٠) أو لا يحملنّكم بغضكم لقوم لأجل صدّهم إيّاكم عن المسجد الحرام ، وهي قراءة واضحة ، وقد استشكل [الناس](١١) قراءة الأخوين من حيث إنّ الشّرط يقتضي أنّ الأمر المشروط لم يقع والغرض أن صدّهم

__________________

(١) في أ : شنأن.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٣٦ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٤.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٠٣.

(٥) في ب : يعتدوا فيمنعوهم.

(٦) في أ : تعتدوا.

(٧) ينظر : تفسير الطبري ٤ / ٤٠٤.

(٨) سقط في أ.

(٩) ينظر : السبعة ٢٤٢ ، والحجة ٣ / ٢١٢ ، وحجة القراءات ٢٢٠ ، والعنوان ٨٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٣ ، وشرح شعلة ٣٤٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٢٥ ، وإتحاف ١ / ٥٢٩.

(١٠) في ب : يكسنيكم.

(١١) سقط في أ.

١٨٤

عن البيت الحرام كان قد وقع ، ونزول هذه الآية متأخر عنه بمدّة ، فإنّ الصّدّ وقع عام «الحديبية» وهي سنة ستّ ، والآية نزلت سنة ثمان.

وأيضا ، فإنّ «مكّة» كانت عام الفتح في أيديهم ، فكيف يصدّون عنها.

قال ابن جريج والنّحاس وغيرهما : هذه القراءة (١) منكرة ، واحتجّوا بما تقدّم من الإشكال.

قال شهاب الدّين رحمه‌الله : ولا إشكال في ذلك ، والجواب عمّا قالوه من وجهين :

أحدهما : ألّا نسلم أن الصّدّ كان قبل نزول الآية ؛ فإنّ نزولها عام الفتح ليس مجمعا عليه.

وذكر اليزيديّ أنّها نزلت قبل الصّدّ ، فصاد الصدّ أمرا منتظرا.

والثاني : أنّه وإن سلّمنا أنّ الصّدّ [كان متقدّما على نزولها ، فيكون المعنى : إن وقع صدّ مثل ذلك الصدّ](٢) الذي وقع زمن «الحديبية» «فلا يجرمنكم».

قال مكّي : ومثله عند سيبويه قول الفرزدق : [الطويل]

١٩٢٣ ـ أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا

 ................. (٣)

[وذلك شيء قد كان وقع ، وإنما معناه :](٤) إن وقع مثل ذلك الغضب (٥) ، وجواب الشّرط ما قبله ، يعني : وجواب الشرط ما دلّ عليه ما قبله ؛ لأنّ البصريّين يمنعون تقديم الجواب إلّا أبا زيد.

وقال مكّي ـ أيضا ـ : ونظير ذلك أن يقول الرجل لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدّار ، بكسر «إن» لم تطلّق بدخولها الأوّل ؛ لأنّه أمر ينتظر ، ولو فتح لطلّقت عليه ؛ لأنّه أمر كان ووقع ، ففتح «أن» لما هو علّة لما كان ووقع ، وكسرها إنّما هو لأمر منتظر ، والوجهان حسنان على معنييهما وهذا الذي قاله مكّي فصّل فيه الفقهاء بين من يعرف النحو ، وبين من لا يعرفه ، ويؤيّد (٦) هذه القراءة قراءة (٧) عبد الله بن مسعود : «إن يصدّوكم».

__________________

(١) في أ : الآية.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : ديوانه ٢ / ٣١١ ، الازهية من ٧٣ ، خزانة الأدب ٤ / ٢٠ ، ٩ / ٧٨ ، ٨١ ، الدرر ٤ / ٥٨ ، شرح شواهد المغني ١ / ٨٦ ، الكتاب ٣ / ١٦١ ، مراتب النحويين ص ٣٦ ، أمالي ابن الحاجب ١ / ٢١٨ ، الجنى الداني ص ٢٢٤ ، جواهر الأدب ص ٢٠٤ ، مغني اللبيب ١ / ٢٦ ، همع الهوامع ٢ / ١٩ ، الدر المصون ٢ / ٤٨٤.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : الصعب.

(٦) في أ : ويفيد.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٤.

١٨٥

قال أبو عبيدة : حدثنا حجّاج عن هارون ، قال : قرأ ابن مسعود فذكرها قال : وهذا لا يكون إلّا على استئناف الصّدّ ، يعني إن وقع صدّ آخر ، مثل ما تقدّم في عام «الحديبية».

ونظم هذه الآيات على ما هي عليه من أبلغ ما يكون وأفصحه ، وليس فيها تقديم ولا تأخير كما زعم بعضهم ، فقال : أصل تركيب الآية الأولى (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فإذا حللتم فاصطادوا.

وأصل تركيب الثّانية : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ).

ونظّره (١) بآية البقرة يعني : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) ، وهذا لا حاجة إليه مع أنّ التقديم والتّأخير عند الجمهور من ضرائر الشّعر ، فيجب تنزيه (٢) القرآن عنه ، وليست الجملة ـ أيضا ـ من قوله : «فإذا (حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) معترضة بين قوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) وبين قوله: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) ، بل هي مؤسّسة ومنشئة حكما ، وهو حلّ الاصطياد عند التّحلّل من الإحرام ، والجملة المعترضة إنّما تفيد توكيدا وتسديدا ، وهذه مفيدة حكما جديدا كما تقدم.

وقوله : (أَنْ تَعْتَدُوا) قد تقدم أنّه من متعلقات (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) على أنّه مفعول ثان ، أو على حذف حرف الجر ، فمن كسر (أَنْ صَدُّوكُمْ) يكون الشرط وجوابه المقدّر في محلّ جرّ صفة ل «قوم» ، أي : شنآن قوم هذه صفتهم ومن فتحها فمحلّها (٣) الجرّ والنّصب ، لأنّها على حذف لام العلّة كما تقدم.

قال الزّمخشريّ : والمعنى : ولا يكسبنّكم بغض قوم ؛ لأنّ صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه.

قال أبو حيّان : وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ؛ لأنّه يمتنع أن يكون مدلول «جرم» حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما ، فيمتنع أن يكون [أن تعتدوا](٤) في محلّ مفعول به ، ومحلّ مفعول على إسقاط حرف الجر.

قال شهاب الدّين : هذا الذي قاله لا يتصوّر أن يتوهمه من له أدنى بصر بالصّناعة حتى ينبّه عليه.

وقد تقدم قراءة (٥) البزّي في نحو : (وَلا تَعاوَنُوا) وأنّ الأصل : [«تتعاونوا»

__________________

(١) في أ : ونظيره.

(٢) في أ : أن ينزه.

(٣) في أ : فحكمها.

(٤) في أ : تعدوا.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٨٥ ، وإتحاف ١ / ٥٢٩.

١٨٦

فأدغم](١) وحذف الباقون إحدى التاءين عند قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) [البقرة : ٢٦٧].

قوله عزوجل : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي : ليعن بعضكم بعضا على البر والتقوى.

قيل : البرّ : متابعة الأمر ، والتّقوى مجانبة النّهي.

وقيل : البرّ : الإسلام ، والتقوى : السّنة.

(وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).

قيل الإثم : الكفر (٢) ، والعدوان : الظلم (٣). وقيل : الإثم : المعصية والعدوان : البدعة.

وقال النّواس بن سمعان الأنصاريّ : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البر والإثم ، فقال : «البرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك (٤) في [صدرك](٥) ، وكرهت أن يطّلع عليه الناس» (٦) ، ثم قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، والمراد منه التهديد والوعيد.

قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣)

وقوله عزوجلا : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) الآية.

وهذا هو المستثنى من الإباحة في قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وهو أحد عشر نوعا ، وقد تقدم إعراب : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وأصلها.

واعلم أنّ تحريم الميتة موافق للمعقول ؛ لأنّ الدم جوهر لطيف جدا فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفّن وفسد ؛ وحصل من أكله مضرّة.

وأمّا الدم فقال الزّمخشريّ : كانوا يملؤون المعى من الدّم ويشوونه (٧) ويطعمونه للضيف ، فحرّم الله ذلك عليهم.

__________________

(١) في أ : فتعاونوا فأدغموا.

(٢) في ب : الظلم.

(٣) في ب : الكفر.

(٤) في ب : جاءك.

(٥) في أ : نفسك.

(٦) أخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ١٩٨٠. كتاب البر باب تفسير البر والإثم الحديث (١٤ / ٢٥٥٣).

(٧) في أ : ويشونه.

١٨٧

وأما الخنزير فقال العلماء (١) : الغذاء يصير جزءا من جوهر المتغذّي ولا بدّ أن يحصل للمتغذّي أخلاق (٢) وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء ، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات (٣) ، فحرّم الله أكله على الإنسان لئلّا يتكيّف بتلك الكيفيّة ؛ وذلك لأنّ الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المشتهيات ، وأورثهم عدم الغيرة ، [فإنّ الخنزير يرى الذّكر من الخنزير ينزو على الأنثى التي له لا يتعرض إليه ؛ لعدم الغيرة ، وقد](٤) تقدم الكلام على الخنزير واشتقاقه في سورة البقرة.

وأمّا الشاة فإنها حيوان في غاية السّلامة ، وكأنّها ذات عارية عن جميع الأخلاق ، فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكلها كيفيّة أجنبيّة عن أحوال الإنسان.

وأمّا ما (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ، والإهلال رفع الصوت ، ومنه يقال : فلان أهلّ بالحجّ إذا لبّى ، ومنه استهلال الصّبي وهو صراخه إذا ولد ، وكانوا يقولون عند الذّبح باسم اللّات والعزّى ، فحرم الله ذلك ، وقدّم هنا لفظ الجلالة في قوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وأخّرت (٥) في البقرة [آية ١٧٣] ؛ لأنّها هناك فاصلة ، أو تشبه الفاصلة بخلاف هاهنا ، فإنّ بعدها معطوفات.

والمنخنقة وهي التي تموت خنقا ، وهو حبس النّفس سواء فعل بها ذلك [آدميّ أو] اتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه.

وذكر قتادة أنّ أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها ، فإذا ماتت أكلوها ، وذكر نحوه ابن عباس (٦).

والموقوذة : وهي التي وقذت أي : ضربت حتى ماتت من وقذه أي ضربه حتى استرخى ، ومنه وقذه النّعاس أي : غلبه ووقذه الحلم ، أي : سكنه وكأنّ المادة دالّة على سكون واسترخاء ، ويدل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات ، وهي ـ أيضا ـ في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة ، فإنها ماتت ولم يسل دمها.

والمتردّية : من تردّى ، أي : سقط من علوّ فهلك ، ويقال : ما يدرى أين (٧) «ردى»؟

أي : ذهب ، وردى وتردّى بمعنى هلك.

قال تعالى : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) [الليل : ١١] ، والمتردّي أنواع : فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف أو في بئر فتموت ، فهذه ميتة ، لأنّها ماتت وما سال

__________________

(١) ينظر : الرازي ١١ / ١٠٥.

(٢) في ب : الخلاف.

(٣) في أ : المنهيات.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : وأخبرت.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٩٥) عن قتادة.

(٧) في أ : من.

١٨٨

منها الدم ، ويدخل فيه إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض ؛ فإنه يحرّم أكله ؛ لأنّه لا يعلم مات بالتّردّي أو بالسّهم.

ودخلت الهاء في هذه الكلمة (١) ؛ لأنّ المنخنقة هي الشاة المنخنقة ، كأنه قيل : حرّمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة والمتردية ، وخصّ الشاة ؛ لأنّها من أعمّ [ما يأكل](٢) الناس ، والكلام يخرّج (٣) على الأعمّ الأغلب (٤) ، ويكون المراد هو الكلّ.

و «النّطيحة» «فعيلة» بمعنى «مفعولة» ، وكان من حقّها ألّا تدخلها تاء التأنيث كقتيل وجريح ، إلّا أنّها جرت مجرى الأسماء ، أو لأنّها لم يذكر موصوفها ؛ لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أم امرأة ، ومثله : الذّبيحة والنّسيكة. كذا قاله أبو البقاء ، وفيه نظر ؛ لأنّهم [إنّما](٥) يلحقون التاء إذا لم يذكر الموصوف (٦) لأجل اللّبس ، نحو : مررت بقتيلة بني فلان ، لئلا يلتبس بالمؤنث وهنا اللّبس منتف ، وأيضا فحكم الذكر والأنثى في هذا سواء.

والنّطيحة هي التي تنطحها الأخرى فتموت ، وهذه ـ أيضا ـ لأنها ماتت من غير سيلان الدّم.

قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) «ما» الأولى بمعنى «الّذي» ، وعائده محذوف ، أي : وما أكله السّبع ، ومحلّ هذا الموصول الرفع عطفا على ما لم يسمّ فاعله ، وهذا غير ماش على ظاهره ؛ لأنّ ما أكله السبع وفرغ منه لا يذكّى ، فلا بدّ من حذف. ولذلك قال الزّمخشريّ : وما أكل بعضه السبع.

وقرأ الحسن (٧) والفياض وأبو حيوة : «السّبع» بسكون الباء ، وهو تسكين المضموم ، ونقل فتح السين والباء معا.

والسّبع : كلّ ذي ناب ومخلب كالأسد والنّمر ، ويطلق على ذي المخلب من الطيور قال : [الخفيف]

١٩٢٤ ـ وسباع الطّير تغدو بطانا

[تتخطّاهم فما تستقل(٨)] (٩)

__________________

(١) في ب : الكلمات.

(٢) في أ : بكل.

(٣) في ب : تخريج.

(٤) في أ : إلّا عليه.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : المؤنث.

(٧) وقرأ بها طلحة بن سليمان كما في المحرر الوجيز ٢ / ١٥١ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٣٨ ، وقال : «ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور ، ورويت عن أبي عمرو». وينظر : الدر المصون ٢ / ٤٨٥.

(٨) ينظر : البحر ٣ / ٤٤٦ ، الدر المصون ٢ / ٤٨٥.

(٩) سقط في ب.

١٨٩

فصل

معنى الكلام ما يريد ما بقي مما أكل السبع. قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي ، فحرمه الله (١).

قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) فيه قولان :

أحدهما : أنه استثناء متصل ، والقائلون بهذا اختلفوا ، فقال عليّ ، وابن عباس ، والحسن وقتادة : هو مستثنى من قوله : «والمنخنقة» إلى قوله : «وما أكل السّبع» وعلى هذا إن أدركت ذكاته (٢) بأن وجدت عينا تطرف ، أو ذنبا يتحرّك ، أو رجلا تركض فاذبح فإنّه حلال ، فإنّ هذه الحال تدل على بقاء الحياة فيه بتمامها.

وقال أبو البقاء : والاستثناء راجع إلى المتردّية ، والنّطيحة وأكيلة السبع ، وليس إخراجه المنخنقة [منه بجيّد](٣).

ومنهم من قال : هو مستثنى مما أكل السبع خاصّة.

والقول الثاني : أنّه منقطع ، أي : ولكن (٤) ما ذكيتم من غيرها فحلال ، أو فكلوه ، كأنّ

هذا القائل رأى أنّها وصلت بهذه الأسباب إلى الموت ، أو إلى حالة قريبة فلم تفد تزكيتها عنده شيئا.

والتّذكية : الذّبح ، وذكت النّار : ارتفعت ، وأصل الذّكاة تمام الشيء ومنه الذّكاء في الفهم ، وهو تمامه [والذكاء](٥) في السّن ، وهو النهاية في الشباب ، ذكى الرجل أي : أسنّ ، قال : [الوافر]

١٩٢٥ ـ على أعراقه تجري المذاكي

وليس على تقلّبه (٦) وجهده (٧)

وقيل : الاستثناء من التحريم لا من المحرمات ، يعني : حرّم عليكم ما مضى إلّا ما ذكّيتم فإنه لكم حلال ، فيكون الاستثناء منقطعا ـ أيضا ـ.

وإذا قيل (٨) : أصل التذكية الإتمام ، فالمراد ههنا إتمام فري الأوداج وإنهار الدّم.

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ما أنهر الدّم ، وذكر (٩) اسم الله عليه فكل ليس السّنّ والظّفر» (١٠).

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «تفسيره» (٩ / ٥٠٠) عن قتادة.

(٢) في أ : ذكوته.

(٣) في أ : يحيده.

(٤) في ب : يكن.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : بقلبه.

(٧) ينظر : البحر ٣ / ٤٢٦ ، الدر المصون ٢ / ٤٨٦.

(٨) في ب : كان.

(٩) في أ : وذكى.

(١٠) متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٥ / ١٣١ ، كتاب الشركة ، باب قسمة الغنم الحديث ـ

١٩٠

قال القرطبيّ (١) : جمهور العلماء على أنّ كلّ ما أفرى الأوداج فأنهر الدم فهو من آلات الذّكاة ما خلى السّنّ والظّفر والعظم ، وعلى هذا تواترت الأخبار.

وقال به (٢) فقهاء الأمصار ، والسنّ والظّفر المنهيّ عنهما في التذكية (٣) هما غير المنزوعين ؛ لأنّ ذلك يصير خنقا ، ولذلك قال ابن عباس : ذلك الخنق.

فأمّا المنزوعان إذا فريا الأوداج فالذكاة جائزة بهما (٤) عندهم.

وكره قوم السنّ والظفر والعظم على كلّ حال منزوعان كانا أو غير منزوعين ، منهم إبراهيم والحسن واللّيث بن سعد ، وهو مرويّ عن الشّافعي.

وأقلّ الذّكاة في الحيوان المقدور عليه قطع الحلقوم والمري ، وكماله أن يقطع الودجين معهما ، ويجوز بكل محدّد يجرح من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر أو غيره إلّا السّنّ والظفر للحديث المتقدم.

وإنّما يحلّ ما ذكيته بعد ما جرحه السبع فأكل منه شيئا إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته ، فأمّا ما يجرح السبع فيخرجه إلى حالة المذبوح فهو في حكم الميتة فلا يكون حلالا ، والمتردية والنّطيحة إذا أدركتهما حيّة ، قبل أن تصيد إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالا ، ولو رمي صيد في الهواء فأصابه فسقط على الأرض [ومات كان حلالا ؛ لأنّ الوقوع على الأرض ضرورته ، فإن سقط على شجر أو جبل فتردّى منه](٥) فمات فلا يحلّ ؛ لأنّه من المتردية ، إلّا أن يكون السهم ذبحه في الهواء فيحلّ كيفما وقع ؛ لأنّ الذبح قد حصل قبل التردية.

فصل

واختلفوا [فيمن رفع](٦) [يده](٧) قبل تمام الذّكاة ثم رجع [على الفور](٨) وأكمل الذّكاة فقيل : يجزئه ، وقيل : لا يجزئه.

فالأول أصحّ ؛ لأنّه جرحه (٩) ثم ذكّاه بعد وحياته مستجمعة فيه.

__________________

ـ (٢٤٨٨) ، وفي ٩ / ٦٣٨ ، كتاب الذبائح والصيد باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش الحديث (٥٥٠٩) ومسلم في الصحيح ٣ / ١٥٥٨ ، كتاب الأضاحي باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم الحديث (٢٠ / ١٩٦٨).

(١) ينظر : القرطبي ٦ / ٣٧.

(٢) في أ : بعض.

(٣) في أ : ليذك.

(٤) في ب : بها.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : في المذبوح.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : حتى.

(٩) في ب : جريحة.

١٩١

قوله : «وما ذبح على النّصب» رفع ـ أيضا ـ عطفا على «الميتة».

واختلفوا في النّصب ، فقيل : هي حجارة ، كانوا يذبحون عليها ، ف «على» هنا واضحة.

وقيل : هي الأصنام ؛ لأنّها تنصب لتعبد ، فعلى هذا في «على» وجهان :

أحدهما : أنها بمعنى اللام (١) ، أي : وما ذبح لأجل الأصنام ، كذا ذكره أبو البقاء وفيه نظر ، وهو كونه قدّر المتعلّق شيئا خاصا.

والجمهور على «النّصب» بضمتين ، فقيل : هو جمع «نصاب» (٢).

وقيل : هو مفرد ويدل له قول الأعشى : [الطويل]

١٩٢٦ ـ وذا النّصب المنصوب لا تقربنّه

ولا تعبد الشّيطان والله فاعبدا (٣)

وفيه احتمال.

وقرأ طلحة بن مصرّف (٤) بضم النّون وإسكان الصّاد ، وهو تخفيف القراءة الأولى.

وقرأ عيسى (٥) بن عمر : «النّصب» بفتحتين.

قال أبو البقاء : وهو اسم بمعنى : المنصوب ، كالقبض والنّقص ، بمعنى : المقبوض والمنقوص.

والحسن (٦) النّصب بفتح النون وسكون الصاد ، وهو مصدر واقع موقع المفعول به ، ولا يجوز أن تكون تخفيفا كقراءة عيسى بن عمر ؛ لأنّ الفتحة لا تخفّف.

فصل

«النّصب» يحتمل أن يكون جمعا وأن يكون واحدا ، فإن كان جمعا ففي واحده وجوه :

أحدها : أنّ واحده نصاب ونصب ، كحمار وحمر.

وثانيها : أنّ واحدة نصب فقولك : نصب ونصب كسقف وسقف ، وهو قول لابن الأنباري (٧).

__________________

(١) في أ : الكلام.

(٢) في ب : خطاب.

(٣) ينظر : ديوانه (١٣٧) ، الكتاب (٣ / ٥١٠) ، الإنصاف (٢ / ٦٥٧) ابن الشجري (١ / ٣٨٤) ، التصريح (٢ / ٢٠٨) ، شرح المفصل ٩ / ٣٩ ، المغني (٢ / ٣٧٢) ، الأشموني ٣ / ٢٢٦ ، الهمع (٢ / ٧٨) ، شواهد المغني (٢٦٨) ، الدرر (٢ / ٩٥) ، الدر المصون ٢ / ٤٨٦ البحر ٣ / ٤٢٧.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٥٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٣٩ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٦.

(٥) ينظر : القراءة السابقة.

(٦) ينظر : القراءة السابقة.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٠٦.

١٩٢

وثالثها : أنّ واحده النّصبة. قال اللّيث : [النّصب](١) جمع النّصبة ، وهي علامة تنصب للقوم ، وإن قلنا : النصب واحد ، فجمعه أنصاب ، مثل عنق وأعناق.

قال الأزهريّ (٢) : وقد جعل الأعشى النّصب واحدا ، وذكر البيت المتقدّم لكن رواه على وجه آخر ، قال : [الطويل]

١٩٢٧ ـ ولا النّصب المنصوب لا تعبدنّه

لعافية والله ربّك فاعبدا (٣)

فصل

قال بعضهم (٤) : النّصب الأوثان ، واستبعده قوم ؛ لأنّ هذا معطوف على قوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وذلك هو الذّبح على اسم الأوثان ، والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه.

وقال ابن زيد : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ، (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) هما واحد (٥).

وقال مجاهد وقتادة وابن جريح : كانت حول البيت ثلاثمائة وستّون [حجرا منصوبة](٦) كان أهل الجاهليّة يعبدونها ويعظّمونها ويذبحون (٧) لها وليست هي بأصنام ، إنّما الأصنام هي المصوّرة المنقوشة ، وكانوا يلطّخونها بتلك الدماء (٨) ، ويضعون اللحوم عليها. فقال المسلمون (٩) يا رسول الله : كان أهل [الجاهلية](١٠) يعظمون البيت بالدّم ، فنحن أحقّ أن نعظّمه ، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك ، فأنزل الله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) [الحج: ٣٧].

وقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).

[فيه وجهان :

أحدهما : وما ذبح على الاعتقاد وتعظيم النّصب](١١).

والثاني : وما ذبح للنّصب ، و «اللّام» و «على» يتعاقبان. قال تعالى : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٩١] [أي : فسلام عليك](١٢) ، وقال : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] أي فعليها.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تهذيب اللغة ١٢ / ٢١١.

(٣) ينظر : تخريج البيت السابق.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٠٦.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٠٩) عن ابن زيد.

(٦) في أ : صنما.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٠٨) عن ابن جريج ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٤) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٨) في أ : الأدمية.

(٩) في ب : وقال.

(١٠) سقط في أ.

(١١) سقط في ب.

(١٢) سقط في ب.

١٩٣

قوله سبحانه : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) «أن» وما في حيّزها في محلّ رفع عطفا على «الميتة».

والأزلام : القداح ، واحدها : زلم ، وزلم بفتح الزّاي وضمّها ذكره الأخفش.

وإنّما سمّيت القداح بالأزلام ؛ لأنّها زلمت أي : سوّيت ، ويقال : رجل مزلم ، وأمرأة مزلمة إذا كان خفيفا قليل العلائق ، ويقال : قدح مزلم وزلم (١) إذا حرّر وأجيد قدّه وصفته ، وما أحسن ما زلم سهمه ، أي : سوّاه ، ويقال لقوائم البقر : أزلام شبّهت بالقداح (٢) للطافتها.

وفي الاستقسام بالأزلام قولان :

الأوّل : كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة [أو نكاحا](٣) أو أمرا آخر ضرب بالقداح ، وكانوا قد كتبوا على بعضها أمرني ربّي ، وعلى بعضها نهاني ربّي ، وتركوا بعضها خاليا عن الكتابة ، فإن خرج الأمر أقدم على العمل ، وإن خرج النّهي أمسك وأعاد ، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرّة أخرى.

وذكر البغويّ (٤) أنّ أزلامهم كانت سبعة أقداح مستوية من شوحط يكون عند [سادن](٥) الكعبة ، مكتوب على واحد منها : نعم ، وعلى واحد : لا ، وعلى واحد منها : منكم ، وعلى واحد من غيركم ، وعلى واحد : ملصق ، وعلى واحد : العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، وكانو إذا أرادوا أمرا أو تداوروا في نسب أو اختلفوا في تحمّل عقل جاءوا إلى هبل ، وهو أعظم أصنام قريش ، وجاءوا بمائة درهم وجزور فأعطوها صاحب القداح حتى يجيل القوم ويقولون : يا إلهنا إنّا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم فعلوا ، وإن خرج : لا ، لم يفعلوا ذلك ، ثم عادوا إلى القداح ثانية ، وإذا أجالوا على نسب ، فإن خرج منكم [كان وسيطا منهم ، وإن خرج من غيركم كان حليفا ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا](٦) نسب له ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانيا حتى يخرج المكتوب فنهى الله تعالى عن ذلك وحرّمه.

قال القرطبيّ (٧) : وإنّما قيل لهذا الفعل استقسام (٨) ؛ لأنّهم كانوا يستقسمون به [الرّزق](٩) فيما يريدون ، كما يقال : الاستقسام في الاستدعاء للسقي ، ونظير هذا الذي

__________________

(١) في أ : وزليم.

(٢) في ب : بالأقداح.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : البغوي ٢ / ٩.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٤٠.

(٨) في أ : أنت مقام.

(٩) سقط في ب.

١٩٤

حرّمه [الله](١) قول المنجّم : لا يخرج من أجل نجم (٢) كذا ، وأخرج من أجل نجم كذا.

وقال المؤرّج وكثير من أهل اللّغة : الاستقسام هاهنا هو الميسر والقمار ، ووجه ذكرها مع هذه المطاعم أنّها كانت تقع (٣) عند البيت معها.

وقال سعيد بن جبير : الأزلام حصى بيض يضربون بها (٤) ، وقال مجاهد هي كعاب فارس والرّوم التي يتقامرون بها (٥).

وقال الشّعبيّ : الأزلام للعرب والكعاب للعجم.

وقال سفيان بن وكيع : هي الشّطرنج (٦) ، قال عليه الصلاة والسلام : «من تكهّن أو استقسم أو تطيّر طيرة تردّه عن سفره لن يلج الدرجات العلى من الجنّة» (٧).

قوله : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) مبتدأ وخبر ، واسم الإشارة راجع إلى الاستقسام بالأزلام خاصّة ، وهو مرويّ عن ابن عبّاس ؛ لأنّ معناه : حرّم عليكم تناول الميتة [وكذا](٨) ، فرجع اسم الإشارة إلى هذا المقدّر ، فإن قيل : لم صار الاستقسام بالأزلام فسقا والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحبّ الفأل [الحسن](٩)؟

فالجواب : قال الواحدي (١٠) : إنّما حرّم ذلك ؛ لأنّه طلب لمعرفة الغيب ، وذلك حرام لقوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) [لقمان : ٣٤] وقوله تعالى : (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل : ٦٥] ، والحديث المتقدم.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) «اليوم» ظرف منصوب ب «يئس» ، والألف واللام فيه للعهد.

قيل : أراد به يوم «عرفة» وهو يوم «الجمعة» عام حجّة الوداع نزلت هذه الآية فيه بعد العصر.

[وقيل : هو يوم](١١) دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مكّة» سنة تسع.

وقيل : [سنة](١٢) ثمان.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : محل.

(٣) في أ : ترفع

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥١١) عن سعيد بن جبير.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٢١٥) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٤) وعزاه لعبد بن حميد وحده.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥١١) وقال : قال لنا سفيان بن وكيع : هو الشطرنج.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٥) وعزاه للطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء بلفظ : لن يلج الدرجات العلى من تكهّن أو استقسم أو رجع من سفر تطيّرا.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

(١٠) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٠٧.

(١١) سقط في أ.

(١٢) سقط في أ.

١٩٥

وقال الزّجّاج ـ وتبعه الزّمخشريّ ـ : إنّها ليست للعهد ، ولم يرد ب «اليوم» [يوما](١) معيّنا ، وإنّما أراد به الزمان الحاضر وما يدانيه من الأزمنة الماضية والآتية كقولك : كنت بالأمس شابّا (٢) ، وأنت اليوم أشيب ، لا تريد بالأمس الذي قبل يومك ، و [لا](٣) باليوم الزّمن الحاضر فقط ، ونحوه «الآن» في قول الشّاعر : [الكامل]

١٩٢٨ ـ الآن لمّا ابيضّ مسربتي

وعضضت من نابي على جذم (٤)

ومثله أيضا قول زهير : [الطويل]

١٩٢٩ ـ وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم (٥)

لم يرد بهذه حقائقها.

والجمهور على «يئس» بالهمزة ، وقرأ يزيد (٦) بن القعقاع «ييس» بياءين من غير همزة.

ورويت ـ أيضا ـ عن أبي عمرو ، ويقال : يئس ييئس ويئيس بفتح عين المضارع وكسرها ، فهو شاذّ.

ويقال : أيس [أيضا](٧) مقلوب من «يئس» فوزنه «عفل» ويدلّ على القلب كونه لم يعلّ ، إذ لو لم يقدر ذلك للزم إلغاء المقتضى ، وهو تحرّك حرف العلّة ، وانفتاح ما قبله ، لكنّه لما كان في معنى ما لم يعلّ صحّ.

واليأس : انقطاع الرّجاء ، وهو ضدّ الطّمع.

(مِنْ دِينِكُمْ) متعلق ب «يئس» ، ومعناها ابتداء الغاية ، وهو على حذف مضاف ، أي : من إبطال أمر دينكم.

فصل

لمّا حرّم وحلّل فيما تقدم ، وختم الكلام بقوله : (ذلِكُمْ)(٨)(فِسْقٌ) ، ثمّ حرّضهم على التمسّك بما شرع لهم ، فقال : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أي : فلا تخافوا المشركين في خلافكم لهم (٩) في الشّرائع والأديان ، فإنّي أنعمت عليكم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : بلسان.

(٣) سقط في أ.

(٤) البيت للحارث بن وعلة الذهلي. ينظر : اللسان (سرب) شواهد الكشاف ٤ / ٥٢٠ ، البحر المحيط ٣ / ٤٤٠.

(٥) ينظر : ديوانه (٢٩) ، التهذيب ٣ / ٢٤٥ ، معاهد التنصيص ١ / ٣٢٥ ، اللسان (عمى) ، الدر المصون ٢ / ٤٨٧.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٥٤ ، وفيه أنها رويت عن أبي عمرو وينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٤١ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٧.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : ذلك.

(٩) في أ : ولأنا.

١٩٦

بالدولة القاهرة ، وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم ، وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم ، وإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم وأن تقبلوا على طاعة الله تعالى ، والعمل بشرائعه.

وفي قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) قولان :

الأول : يئسوا من أن يحلّلوا الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة.

والثاني : يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم ؛ لأنّ الله تعالى قد وعد بإعلاء هذا الدين على كلّ الأديان بقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة : ٣٣] فحقّق ذلك النّصر ، وأزال الخوف.

واستدلّوا بهذه الآية على أنّ التقيّة جائزة عند الخوف ؛ لأنّ الله تعالى أمرهم بإظهار الشّرائع عند زوال الخوف من الكفّار ، فدلّ على جواز تركها عند الخوف (١).

قوله سبحانه وتعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) في قوله : «اليوم» [كالكلام في «اليوم»](٢) قبله.

نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجّة الوداع ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وشرف وكرم ومجد وعظم](٣) واقف بعرفات على ناقته العضباء فكاد عضد الناقة ينقدّ من ثقلها ، فبركت.

عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ رجلا من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر يهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أيّ آية؟ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة (٤).

أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان لنا عيدا.

قال ابن عباس : كان ذلك اليوم خمسة أعياد ، جمعة وعرفة وعيد اليهود والنّصارى والمجوس ، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده (٥).

وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما يبكيك يا عمر؟» فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، [فأما إذ](٦) كمل فإنّه لم يكمل (٧) شيء إلا نقص ، قال : «صدقت» ، فكانت هذه الآية نعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٨).

__________________

(١) في ب : عند قيام الخوف.

(٢) في ب : الكلام في قوله.

(٣) سقط في ب.

(٤) تقدم في سورة البقرة.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ١٠).

(٦) في أ : فإذا.

(٧) في أ : يبق.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٢٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٦) وزاد نسبته لابن أبي شيبة عن هارون بن عنترة عن أبيه.

١٩٧

وعاش بعدها إحدى وثمانين يوما ، ومات يوم الاثنين بعد ما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشر من الهجرة ، وقيل : يوم الاثنين يوم الثاني عشر من ربيع الأول ، وكانت هجرته في الثاني عشر منه.

فقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يعني يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم الفرائض والسّنن ، والحدود والجهاد ، والحلال والحرام ، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض ، وهذا [معنى](١) قول ابن عباس (٢).

وروي عنه أنّ آية الرّبا نزلت بعدها ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فلم يحجّ معكم مشرك ، وقيل : أظهرت دينكم وأمّنتكم من العدوّ (٣) ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يقتضي أن الدين كان ناقصا قبل ذلك ، وذلك يوجب أنّ الدين الذي كان عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مواظبا عليه أكثر عمره كان ناقصا ، وإنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدّة قليلة.

وأجابوا عنه بوجوه :

أحدها : أنّ المراد ما تقدم من إزالة الخوف عنهم ، كما يقول الملك إذا استولى على عدوه وقهره قهرا كلّيا : كمل ملكنا ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصا فينبغي على هذا أن يقال : إنّ دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ناقصا قبل ذلك اليوم.

ثانيها : [أنّ](٤) المراد أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعاليم الحلال والحرام ، وهذا ـ أيضا ـ ضعيف ؛ لأنه لو لم يبيّن قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع ، كان ذلك تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة ، وأنه لا يجوز.

وثالثها : وهو المختار ما ذكره القفّال (٥) وهو أن الدين ما كان ناقصا ألبتّة ، بل كان كاملا أبدا ، وكانت الشرائع النازلة من عند الله تعالى في كل وقت كافية في ذلك إلا أنه تعالى كان عالما في أوّل وقت المبعث في أن هذا اليوم ليس بكامل في الغد ، ولا مصلحة فيه ، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت ، وكان ينزل بعد العدم ، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة ، وحكم ببقائها إلى يوم الدّين (٦).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٣٠) عن ابن عباس. وينظر : تفسير البغوي ٢ / ١١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤١٩) عن قتادة وسعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٦) عن قتادة وعزاه لابن جرير الطبري وعن سعيد بن جبير وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير الطبري.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : الرازي ١١ / ١٠٩.

(٦) في ب : القيامة.

١٩٨

فالشرع أبدا [كان](١) كاملا ، إلّا أنّ الأوّل كمال إلى زمان مخصوص والثاني : كمال إلى يوم القيامة ، فلهذا قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

وأجاب القرطبي (٢) : يقال : لم قلت إن كل نقص فهو عيب ، أرأيت نقصان الشّهر عيبا؟ ونقصان صلاة المسافر أهو عيب ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) [فاطر : ١١] أهو عيب؟ وكذلك نقصان أيّام الحيض عن المعهود؟ ونقصان أيام الحمل؟ ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه؟ فنقصان الدين في الشرع قبل أن يلحق الله الأجزاء الباقية في علم الله تعالى ليس بعيب ، فمعنى قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يخرج على وجهين :

أحدهما : أن المراد بلّغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدّرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا عما كان عند الله تعالى لكنه يوصف بنقصان مقيّد ، فيقال : أكمل الله ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه كالرجل يبلغه الله تعالى مائة سنة ، فيقال : أكمل الله عمره [فلا يلزم من ذلك أن يكون عمره](٣) ناقصا حين كان ابن ستّين سنة نقص قصور وخلل (٤) ، فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول (٥) : «من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر» (٦). وقد بلغ الله بالظّهر والعصر والعشاء أربع ركعات ، فلو قيل : أكملها كان الكلام صحيحا ، ولا يلزم من ذلك أنّها حين كانت ركعتين كانت ناقصة نقص قصور وخلل ، ولو قيل : كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامّه إليها وزائده عليها لكان ذلك صحيحا ، فهكذا هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدّين منتهاه الذي كان له عنده.

الثاني : أنّ المراد بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أنّه وفّقهم إلى الحجّ الذي لم يكن بقي عليهم من أركان دينهم (٧) غيره ، فحجّوا فاستجمع (٨) لهم الدّين أداء لأركانه ، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «بني الإسلام على خمس» الحديث ، وقد كانوا تشهّدوا وصلّوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجّوا ، فلما حجّوا ذلك اليوم أنزل الله تعالى وهم بالموقف هذه الآية.

فصل رد شبه الاستدلال بهذه الآية على بطلان القياس

استدلّوا بهذه الآية على بطلان القياس ، لأنّ الآية دلت على أنه تعالى قد نصّ على

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : القرطبي ٦ / ٤٢.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : وحلك.

(٥) في أ : لقوله.

(٦) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٥ / ٦٧١) رقم (٤٢٦٦٨) وعزاه للرامهرمزي في «الأمثال» عن أبي هريرة مرفوعا.

(٧) في ب : الدين.

(٨) في ب : فاجتمع.

١٩٩

الحكم في جميع الوقائع ، [إذ لو بقي بعضها غير مبيّن الحكم لم يكن الدين كاملا ، وإذا حصل النص في جميع الوقائع](١) فالقياس إن كان [على](٢) وفق النصّ كان عبثا ، وإن كان خلافه كان باطلا.

وأجيب (٣) بأن المراد بإكمال الدين أنّه تعالى بيّن حكم جميع الوقائع بعضها بالنص ، وبعضها بيّن طريق الحكم فيها بالقياس فإنّه تعالى لما جعل الوقائع قسمين :

أحدهما : التي (٤) نصّ على أحكامهما (٥).

والثاني : أنواع يمكن استنباط (٦) الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول ، ثم إنّه تعالى أمر بالقياس ، وتعبّد المكلفين به فكان ذلك في الحقيقة بيانا لكل الأحكام.

قال نفاة القياس : الطريق المقتضية لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص ، إمّا أن تكون قطعيّة أو غير قطعيّة.

فإن كانت قطعيّة فلا نزاع في صحته ، فإنّا نسلم أن القياس المبنيّ على المقدمات اليقينيّة حجة ، وهذا القياس يكون المصيب فيه واحدا ، ومخالفه يستحقّ العقاب وينقض به قضاء القاضي ، وأنتم لا تقولون بذلك ، وإن كانت طريقة ظنية (٧) كان كل واحد يمكنه أن يحكم بما غلب على ظنّه من غير أن يعلم [هل](٨) هو دين الله أم لا؟ وهل هو الحكم الذي حكم [به الله](٩) أم لا؟ ومثل هذا لا يكون إكمالا للدّين ، بل يكون ذلك (١٠) إلقاء للخلق في ورطة الظّنون ، وأجيب (١١) بأنه إذا كان كلّ مجتهد مكلّفا بالعمل بمقتضى ظنّه [كان](١٢) ذلك إكمالا ويكون كلّ مكلف قاطعا بأنّه عامل بحكم الله تعالى.

قوله سبحانه : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) «عليكم» متعلق ب «أتممت» ، فلا يجوز [تعلّقه](١٣) ب «نعمتي» ، وإن كان فعلها يتعدّى ب «على» نحو : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٣٧] ؛ لأن المصدر لا يتقدّم عليه معموله (١٤) ، إلا أن ينوب منابه.

قال أبو البقاء : فإن جعلته على التّبيين أي : «أتممت» أعني «عليكم» جاز ولا حاجة إلى ما ادّعاه.

ومعنى (أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي : أنجزت وعدي في قوله : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : واجيبوا.

(٤) في أ : أنه.

(٥) في ب : أحكامها.

(٦) في أ : استيفاء.

(٧) في ب : طيبة.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

(١٠) في أ : هو.

(١١) في أ : وأجيبوا.

(١٢) سقط في أ.

(١٣) سقط في أ.

(١٤) في أ : معمولا.

٢٠٠