اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) ، (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) ، (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ، (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

وتمام الطّهر في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) و (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إلى قوله : (عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) الآية ، و (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) [وقوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قال القرطبي : وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله عزوجل :](١)(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)(٢) ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة.

أما ما جاء في سورة «الجمعة» مخصوص بالجمعة ، وهو في هذه السورة عام في جميع الصلاة.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنه](٣) قرأ [سورة](٤) المائدة في حجة الوداع ، وقال : «يا أيها الناس ، إنّ سورة المائدة من آخر ما نزل ، فأحلّوا حلالها ، وحرّموا حرامها» (٥).

وقال الشعبي (٦) : لم ينسخ من هذه السورة غير قوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) الآية.

وقال بعضهم : نسخ منها : «وآخران من غيركم».

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)(١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بالعقود أي : بالعهود ، ويقال : وفّى بالعهد ، وأوفى به.

قال الزّجّاج : هي أوكد العهود (٧) ، ويقال : عاقدت فلانا ، وعقدت عليه ، أي :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٧) عن ابن ميسرة أيضا وعزاه للفريابي وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس كما في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٦) ، ينظر القرطبي ٦ / ٢٢.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٧٥) عن عامر الشعبي وذكره السيوطي في الدر المنثور» (٢ / ٤٤٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي داود في «ناسخه» وابن المنذر والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ، وينظر القرطبي ٦ / ٢٣.

(٧) في ب : العقود.

١٦١

ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل.

فالعهد إلزام ، والعقد التزام على سبيل الإحكام ، ولما كان الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأحكامه ، وكان من جملة أحكامه أنه يجب على الخلق إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه ـ أمر بالوفاء بالعقود ، أي : أنكم التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والطاعة بتلك العقود.

فصل في الكلام على فصاحة الآية

قال القرطبي (١) : هذه الآية مما تلوح فصاحتها (٢) وكثرة معانيها على قلة ألفاظها ، لكل بصير بالكلام ؛ فإنها (٣) تضمنت خمسة أحكام :

الأول : الأمر بالوفاء بالعقود.

الثاني : تحليل بهيمة الأنعام.

الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك.

الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يصاد.

الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.

وحكى النقاش أن أصحاب الكندي ، قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياما كثيرة ، ثم خرج ، فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة «المائدة» ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاما ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين [ولا](٤) يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.

فصل في الخطاب في الآية

واختلفوا في هذه العقود ، فقال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب (٥) ، يعني : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود ، التي عهدتها عليكم في شأن محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٨٧].

وقال آخرون : هو عام.

وقال قتادة : أراد بها الحلف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية (٦).

__________________

(١) ينظر القرطبي ٦ / ٢٣.

(٢) في أ : خصائصها.

(٣) في أ : لأنها.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٥٤) عن ابن جريج ، وينظر تفسير القرطبي ٦ / ٢٤.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٧) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة.

١٦٢

وقال ابن عباس : هي عهود الإيمان والقرآن.

قال ابن عباس : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي : بما أحل وبما حرم ، وبما فرض ، وبما حدّ في جميع الأشياء كذلك ، قاله مجاهد وغيره (١).

وقال ابن شهاب (٢) [الدين](٣) : قرأت كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى «نجران» ، وفي صدره : هذا بيان للناس من الله ورسوله ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الآية ، فكتب الآيات فيها ، إلى قوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٤) ، والمقصود أداء التكاليف فعلا وتركا.

وإنما [سميت التكاليف عقودا لأنه ـ تعالى ـ ربطها بعبادته كما يربط الشيء بالشيء بالحبل](٥) الموثق.

وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم.

فصل في فقه الآية

قال الشافعي (٦) : إذا نذر صوم [يوم](٧) العيد ، أو نذر ذبح الولد لغى.

وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : بل يصح ، واحتج بقوله : «أوفوا بالعقود» وبقوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢] ، وبقوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) [الإنسان : ٧] (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) [البقرة : ١٧٧] ولقوله عليه الصلاة والسلام : «أوف بنذرك».

وقال الشافعي : هذا نذر معصية ، فيكون لغوا ؛ لقوله عليه‌السلام : «لا نذر في معصية الله»(٨).

وقال أبو حنيفة : خيار المجلس غير ثابت ؛ لأن البيع والشراء قد انعقدا ، فحرم الفسخ لقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٥٢ ـ ٤٥٣) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٧) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «شعب الإيمان» ، وينظر تفسير القرطبي ٦ / ٢٤.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٤.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٥٤) عن ابن شهاب وذكره أيضا الطبري في تاريخه (٣ / ١٥٧).

والأثر من (السيرة النبوية» لابن هشام (٤ / ٢٤١).

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٩٨.

(٧) سقط في أ.

(٨) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٢٤٧ ، وأخرجه أبو داود في السنن ٣ / ٥٩٥ ـ ٥٩٦ كتاب الأيمان : باب من رأى عليه كفارة الحديث (٣٢٩٢) ، وأخرجه الترمذي في السنن ٤ / ١٠٣ ـ ١٠٤ كتاب النذور والأيمان : باب ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا نذر في معصية الحديث ١٥٢٥ واللفظ له ، وأخرجه النسائي في المجتبى من السنن ٧ / ٢٦ ، كتاب الأيمان باب كفارة النذر.

١٦٣

وقال الشافعي : يثبت ؛ لأن هذا العموم [قد خص بقوله عليه الصلاة والسلام : «المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا.

وقال أبو حنيفة : الجمع بين الطلقات](١) حرام ؛ لأن النكاح عقد ، فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع ، فيبقى فيما عداها على الأصل.

وقال الشافعي : ليس بحرام لتخصيص هذا العموم بالقياس ، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ ، وقد نفذ فلا يحرم.

قوله سبحانه : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) لما قرر أولا جميع التكاليف من حيث الجملة ، شرع في ذكرها من حيث التفصيل.

والبهيمة كل ذات أربع في البر والبحر [وقيل (٢) : ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم.

قالوا وأصله : كل حي لا عقل له فهو بهيمة](٣) من قولهم : استبهم الأمر على فلان إذا أشكل ، وهذا الباب مبهم ، أي : مسدود الطريق ، ثم اختص هذا الاسم بذوات الأربع ، وكل ما كان على وزن «فعيل» أو «فعيلة» حلقي العين ، جاز في فائه الكسر إتباعا لعينه ، نحو : بهيمة ، وشعيرة ، وصغيرة ، وبحيرة (٤).

والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ، قال تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ) [النحل : ٥] إلى قوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) [النحل : ٨] وقال تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١] إلى قوله : (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس : ٧٢] وقال : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) [الأنعام : ١٤٢].

وقال الواحدي (٥) : لا يدخل في اسم الأنعام الحافر ؛ لأنه مأخوذ من نعومة الوطء (٦) ، وقد تقدم في «آل عمران».

فإن قيل : البهيمة اسم جنس ، والأنعام اسم نوع ، فقوله : (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) يجري مجرى قول القائل : حيوان الإنسان ، فالحيوان إن قلنا (٧) إن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد ، فإضافة البهيمة إلى الأنعام [إما للبيان](٨) فهو كقولك : خاتم فضّة ، أي : من فضّة ، ومعناه [أنّ](٩) البهيمة من الأنعام ، أو للتأكيد كقولنا : نفس الشيء وذاته وعينه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٩٨.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : وتحريره.

(٥) ينظر تفسير الرازي ١١ / ٩٩.

(٦) في ب : النعومة حمولة.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٩٩.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

١٦٤

وإن قلنا : المراد بالبهيمة شيء ، والأنعام شيء آخر ، ففيه وجهان :

أحدهما : أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها ، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ، ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار ، فأضيف الاجترار إلى الأنعام لحصول المشابهة.

والثاني : أن المراد ببهيمة (١) الأنعام أجنة الأنعام ، روي عن ابن عباس [ـ رضي الله عنهما ـ] أن بقرة ذبحت ، فوجد في بطنها (٢) جنين ، فأخذ ابن عباس بذنبه ، وقال : هذا من بهيمة الأنعام (٣).

وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام (٤) ، وذكاته ذكاة أمه ، ومثله عن الشعبي.

وذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله ؛ لما روى أبو سعيد ، قال : قلنا : يا رسول الله : «ننحر الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله»؟ قال : «كلوه إن شئتم ، فإنّ ذكاته ذكاة أمّه» (٥) وشرط بعضهم الإشعار.

فإن قيل : لو قال : أحلت لكم الأنعام ، لكان الكلام تاما ؛ كقوله تعالى في آية أخرى : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) [الحج : ٣٠] فما فائدة زيادة لفظ «البهيمة» هنا؟

[الجواب : إن قلنا : إن بهيمة الأنعام هي الأجنة](٦) فالجواب : ما تقدم من الإضافة ، أعني (٧) إضافة بهيمة الأنعام.

فإن قيل : لم أفرد «البهيمة» وجمع لفظ «الأنعام»؟

فالجواب : إرادة للجنس.

فصل في الرد على شبهة الثنوية

قالت الثنوية (٨) : ذبح الحيوان إيلام ، والإيلام قبيح ، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم (٩) ، فيمتنع أن يكون الذبح حلالا مباحا بحكم الله ، وتحقيق ذلك (١٠) أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة على الدفع عن أنفسها ، ولا لها لسان تحتج به على من

__________________

(١) في أ : بهيمة.

(٢) في أ : بظنها.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٥٦) عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٥٦) عن ابن عمر.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣١ ، ٥٣ ، وأبو داود في السنن ٣ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، كتاب الأضاحي : باب ما جاء في ذكاة الجنين. وابن ماجه في السنن ٢ / ١٦٧ كتاب الذبائح : باب ذكاة الجنين ذكاة أمه الحديث (٣١٩٩).

(٦) سقط في أ.

(٧) في أوإن قلنا : إن البهيمة غير الأجنّة.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٩٩.

(٩) في ب : الحليم.

(١٠) في أ : وتحقق.

١٦٥

قصد إيلامها ، وإيلام من بلغ في العجز إلى هذا الحد أقبح.

وعند هذه الشبهة افترق المسلمون فرقا كثيرة :

فقالت المكرمية (١) : لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم (٢) عند الذبح ، بل لعلّ تعالى يرفع عنها ألم الذبح ، وهذا مكابرة للضروريات.

وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقا ، بل إنما يقبح إذا لم لم يكن مسبوقا بجناية ، ولا ملحوقا بعوض.

وها هنا الله تعالى عوض هذه الجنايات بأعواض شريفة ، فخرج هذا الذبح عن كونه ظلما.

ويدلّ على صحة ما قلناه أن ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل (٣) ألم الفصد والحجامة لطلب الصحة ، فإذا حسن تحمّل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة ، فكذا القول في الذبح.

وقال أهل السّنة : إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه ، والمسألة طويلة.

فصل

قال بعضهم (٤) : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) مجمل ؛ لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال ، وها هنا أضيف إلى الذات ، فتعذر إجراؤه على ظاهره ، فلا بدّ من إضمار فعل ، وليس إضمار الأفعال أولى من بعض ، فيحتمل (٥) أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها ، أو بعظمها ، أو صوفها ، أو لحمها ، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل (٦) ، فصارت الآية مجملة ، إلا أن قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [النحل : ٥] دل على أن المراد بقوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) إباحة الانتفاع من كل هذه الوجوه ، والله أعلم.

[قوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) هذا مستثنى من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) والمعنى : ما يتلى عليكم تحريمه](٧) وذلك قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) إلى قوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).

وفي هذا الاستثناء قولان :

__________________

(١) في أ : البكرية.

(٢) في أ : نتكلم.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير الرازي : ١١ / ٩٩.

(٥) في أ : فيحمل.

(٦) في أ : بالكل.

(٧) سقط في أ.

١٦٦

أحدهما : أنه متصل.

والثاني : أنه منقطع حسب ما فسر به المتلوّ عليهم ، كما سيأتي بيانه.

وعلى تقدير كونه [استثناء](١) متصلا يجوز في محلّه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب ؛ لأنه استثناء متصل من موجب ، ويجوز أن يرفع على أنه نعت ل «بهيمة» على ما قرر في علم النحو.

ونقل ابن عطيّة عن الكوفيين وجهين آخرين :

أحدهما : أنه يجوز رفعه على البدل من «بهيمة».

والثاني : أن «لا» حرف عطف ، وما بعدها عطف على ما قبلها ، ثم قال : وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، نحو : جاء الرجال إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد ، وقوله : وذلك ظاهره أنه مشار به إلى الوجهين : البدل والعطف.

وقوله : إلا من نكرة غير ظاهر ؛ لأن البدل لا يجوز ألبتة من موجب عند أحد من الكوفيين [والبصريين.

ولا يشترط في البدل التوافق تعريفا وتنكيرا وأما العطف فذكره بعض الكوفيين](٢).

وأما الذي اشترط البصريون فيه التنكير ، أو ما قاربه ، فإنما اشترطوه في النعت ب «إلّا» فيحتمل (٣) أنه اختلط على أبي محمد شرط النعت ، فجعله شرطا في البدل ، هذا كله إذا أريد بالمتلوّ عليهم تحريمه في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) إلى آخره.

وإن أريد به الأنعام والظباء وبقر الوحش وحمره ، فيكون منقطعا بمعنى «لكن» عند البصريين ، وبمعنى «بل» عند الكوفيين.

وسيأتي بيان هذا المنقطع [بأكثر من هذا](٤) في نصب «غير».

قوله : «غير» في نصبه خمسة أوجه :

أحدها : أنه حال من الضمير المجرور في «لكم» ، وهذا قول الجمهور ، وإليه ذهب الزمخشري ، وابن عطية وغيرهما.

وقد ضعف هذا الوجه بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام لهم بحال كونهم غير محلّي الصيد ، وهم حرم ؛ إذ يصير معناه : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) [في حال كون انتفاء كونكم تحلون الصيد ، وأنتم حرم ، والغرض أنهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام](٥)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : فيجتهد.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

١٦٧

في هذه الحال وفي غيرها ، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعام نفسها.

وأما إذا عني بها الظباء ، وحمر (١) الوحش ، وبقره على ما فسّره بعضهم ، فيظهر للتقييد بهذه الحالة فائدة ؛ إذ يصير المعنى (أُحِلَّتْ لَكُمْ) هذه الأشياء حال انتفاء كونكم تحلّون الصيد وأنتم حرم ، فهذا (٢) معنى صحيح ، ولكن التركيب [الذي قدرته لك](٣) فيه قلق ولو أريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه.

القول الثاني : وهو قول الأخفش وجماعة أنه حال من فاعل «أوفوا» ، والتقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلّين الصيد وأنتم حرم ، وقد ضعفوا هذا المذهب (٤) من وجهين :

الأول : أنه يلزم [منه](٥) الفصل بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية ، ولا يجوز الفصل إلا بجمل الاعتراض ، وهذه الجملة وهي قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ليست اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاما ومبينة لها.

وجملة الاعتراض إنما تفيد تأكيدا وتسديدا.

والثاني : أنه يلزم تقييد الأمر بإيفاء (٦) العقود بهذه الحالة ، ويصير التقدير ؛ كما تقدم ، فإذا اعتبرنا مفهومه يصير المعنى : فإذا انتفت هذه الحال فلا توفوا بالعقود ، والأمر ليس كذلك فإنهم مأمورون بالإيفاء بالعقود على كل حال من إحرام وغيره.

الوجه الثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير المجرور في «عليكم» [أي](٧) : لا [ما](٨) يتلى عليكم ، حال انتفاء كونكم محلّين الصيد ، وهو ضعيف أيضا بما تقدم من أن المتلو عليهم لا يتقيد بهذا الحال دون غيرها ، بل هو متلو عليهم في هذه الحال ، وفي غيرها.

الوجه الرابع : أنه حال من الفاعل المقدر يعني الذي حذف ، وأقيم المفعول مقامه في قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ، فإن التقدير عنده : أحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محلي لكم الصيد وأنتم حرم ، فحذف الفاعل ، وأقام المفعول مقامه ، وترك الحال من الفاعل باقية.

وهذا الوجه فيه ضعف من وجوه :

الأول : أن الفاعل المنوب عنه صار نسيا (٩) منسيا غير ملتفت (١٠) إليه ، نصّوا على

__________________

(١) في أ : واحمير.

(٢) في ب : هذا.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : الوجه.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : بالفاء.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : شيئا.

(١٠) في أ : متلفت.

١٦٨

ذلك ، لو قلت : أنزل الغيث مجيبا لدعائهم ، وتجعل مجيبا حال من الفاعل المنوب عنه ؛ فإن التقدير : أنزل الله الغيث حال إجابته لدعائهم ، لم يجز ، فكذلك هذا ، ولا سيما إذا قيل : بأن بنية الفعل المبني للمفعول بنية مستقلة غير محلولة (١) من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين ، وجماعة من البصريين.

الثاني : أنه يلزم منه [التقييد بهذه الحال إذا عني بالأنعام الثمانية الأزواج ، وتقييد إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم والله تعالى قد أحل لهم هذه مطلقا](٢).

الثالث : أنه كتب «محلّي» بصيغة الجمع ، فكيف يكون حالا من الله تعالى ، وكأن هذا القائل زعم أن (٣) اللفظ «محل» من غير ياء ، وسيأتي ما يشبه هذا القول.

الوجه الخامس (٤) : أنه منصوب على الاستثناء المكرر ، يعني أنه هو وقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) (٥) مستثنيان من شيء واحد ، وهو بهيمة الأنعام.

نقل ذلك بعضهم عن البصريين ، قال : والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد ، وأنتم محرمون ، بخلاف قوله تعالى : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) [الذاريات : ٣٢] على ما سيأتي بيانه.

قال هذا القائل : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ؛ لأنه مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذا معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلّي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. انتهى.

وقال أبو حيان : إنما عرض الإشكال من جعلهم غير محلّي الصيد حالا من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلّل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم وغرّهم في ذلك كونه كتب «محلّي» بالياء ، وقدروه هم أنه اسم [فاعل](٦) من «أحلّ» وأنه مضاف إلى «الصيد» إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة ، وأصله غير محلّين الصيد (٧) ، إلا في قول من (٨) جعله [حالا](٩) من الفعل (١٠) المحذوف ، فإنه لا يقدر حذف نون ، بل حذف تنوين ، وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : (مُحِلِّي الصَّيْدِ) من باب قولهم : حسان النّساء ، والمعنى : النساء الحسان ، فكذلك [هذا](١١) أصله غير الصيد المحلّ ، [والمحل](١٢) صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف.

__________________

(١) في أ : محوله.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : لك.

(٤) في أ : السادس.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : للصيد.

(٨) في أ : ابن.

(٩) سقط في أ.

(١٠) في أ : الفاعل.

(١١) سقط في أ.

(١٢) سقط في أ.

١٦٩

ووصف الصيد أنه «محل» على وجهين :

أحدهما : أن يكون معناه دخل في الحل (١) ، كما تقول : أحلّ الرجل إذا دخل في الحلّ ، وأحرم (٢) إذا دخل في الحرم.

والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حلّ أي : حلالا بتحليل الله تعالى ، وذلك أن الصيد على قسمين : حلال وحرام.

ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال ، لكنه يختصّ به شرعا ، وقد تجوزت العرب ، فأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحلّ ولا حرمة.

كقوله : [البسيط]

١٩١٣ ـ ليث بعثّر يصطاد الرّجال إذا

ما اللّيث كذّب عن أقرانه صدقا (٣)

وقول الآخر : [الطويل]

١٩١٤ ـ وقد ذهبت سلمى بعقلك كلّه

فهل غير صيد أحرزته حبائله (٤)

وقول امرىء القيس : [المتقارب]

١٩١٥ ـ وهرّ تصيد قلوب الرّجال

وأفلت منها ابن عمرو حجر (٥)

ومجيء «أفعل» على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب ، فمن مجيء «أفعل» لبلوغ (٦) المكان ، ودخوله قولهم : أحرم الرجل ، وأعرق ، وأشأم ، وأيمن ، وأتهم ، وأنجد ، إذا بلغ هذه الأماكن ، وحلّ بها.

ومن مجيء «أفعل» بمعنى صار (٧) ذا كذا قولهم : أعشبت الأرض وأبقلت ، وأغدّ البعير (٨) وألبنت الشاة ، وغيرها ، وأجرت الكلب ، وأصرم النخل ، وأتلت (٩) الناقة ، وأحصد الزرع ، وأجرب الرجل ، وأنجبت المرأة.

وإذا تقرّر أنّ الصيد بوصف بكونه محلا باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ أو صار ذا حلّ ، اتّضح كونه استثناء ثانيا ، ولا يكون استثناء من استثناء ؛ إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكم ؛ لأنّ المستثنى من المحلل (١٠) محرّم ، [والمستثنى من المحرم

__________________

(١) في ب : صار ذا حل.

(٢) في أ : وأم.

(٣) البيت لزهير : ينظر : ديوانه (٧٧) ، ابن يعيش ١ / ٦١ ، البحر ٣ / ٤٣١ المنصف ٣ / ١٢١ ، الكشاف ٤ / ٤٦٩ ، الدر المصون ١ / ٤٧٨.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٣١ ، الدر المصون ١ / ٤٧٨.

(٥) ينظر : ديوانه ٩٥ ، البحر المحيط ٣ / ٤٣١ ، الدر المصون ٢ / ٤٧٨.

(٦) في ب : قبل بلوغ.

(٧) في أ : طار.

(٨) في أ : وأعز البعير.

(٩) في ب : وأبليت.

(١٠) في أ : المحل.

١٧٠

محلل](١) بل إن كان المعني بقوله : بهيمة الأنعام الأنعام أنفسها ، فيكون استثناء منقطعا وإن كان المراد الظّباء ، وبقر الوحش وحمره (٢) ، فيكون استثناء متصلا على أحد تفسيري المحل ، استثنى الصّيد الذي بلغ الحلّ في حال كونهم ، محرمين.

فإن قلت : ما فائدة هذا الاستثناء بعد بلوغ الحل ، والصيد الذي في الحرم لا يحلّ أيضا؟

قلت : الصيد الذي في الحرم لا يحلّ للمحرم ولا لغير المحرم ، وإنّما يحلّ لغير المحرم الصيد الذي في الحلّ ، فنبّه بأنّه إذا كان الصيد [الذي](٣) في الحلّ يحرم على المحرم ـ وإن كان حلالا لغيره ـ فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم ، وعلى هذا التفسير [يكون](٤) قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ) الآية استثناء منقطعا ؛ إذ لا تختصّ الميتة وما ذكر معها بالظّباء ، وبقر الوحش وحمره (٥) ، فيصير التقدير : لكن ما يتلى عليكم أي : تحريمه فهو محرّم (٦) وإن كان المراد ببهيمة الأنعام [الأنعام](٧) والوحوش ، فيكون الاستثناءان راجعين إلى المجموع (٨) على التّفصيل ، فيرجع (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) إلى «ثمانية» الأزواج ، ويرجع (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) إلى الوحوش ؛ إذ لا يمكن أن يكون الثّاني استثناء من الاستثناء الأوّل ، وإذا لم يمكن ذلك ، وأمكن رجوعه (٩) إلى الأوّل بوجه (١٠) ما رجع إلى الأول.

وقد نصّ النحويون : أنّه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض جعل الكلّ مستثنى من الأوّل ، نحو : قام القوم إلا زيدا إلا عمرا إلا بكرا ، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريج الغريب ، وهو كون المحلّ من صفة الصّيد ، لا من صفة النّاس ، ولا من صفة الفاعل المحذوف يأباه رسمه في المصحف «محلّي» بالياء ، ولو كان من صفة الصّيد دون الناس لكتب «محلّ» من غير ياء ، وكون القرّاء وقفوا عليه بالياء أيضا يأبى ذلك.

قلت : لا يعكّر ذلك على هذا التخريج ؛ لأنّهم قد رسموا في المصحف الكريم أشياء تخالف النّطق بها ككتابتهم : (لَأَذْبَحَنَّهُ) [النمل : ٢١] ، (وَلَأَوْضَعُوا) [التوبة : ٤٧] ، ألفا بعد لام الألف [وكتابتهم (بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم «أولئك» (١١) بزيادة واو ونقص ألف بعد اللّام ، وكتابتهم : «الصّالحات» [ونحوه](١٢) بسقوط العين إلى غير ذلك.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : وحماره.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : وحماره.

(٦) في أ : محرام.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : مجموع.

(٩) في أ : رجوعها.

(١٠) في أ : ترجع.

(١١) في أ : ويبدأ.

(١٢) سقط في أ.

١٧١

وأمّا وقفهم عليه بالياء فلا يجوز ؛ إذ لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه.

وإن وقف واقف فإنّما يكون بقطع نفس واختيار.

على أنّه يمكن توجبه كتابته بالياء والوقف عليه بها ، وهو أن لغة «الأزد» (١) يقفون فيها على «بزيد ، بزيدي» بإبدال التّنوين ياء ، فكتب «محلّي» على الوقف على هذه اللّغة ـ بالياء ، وهذا توجيه شذوذ رسميّ ، ورسم المصحف ممّا لا يقاس عليه ، انتهى.

قال شهاب الدين : وهذا الذي ذكره ، وأجازه ، وغلّط النّاس فيه ليس بشيء ، وما ذكره من توجيه ثبوت الياء خطّا ووقفا ، فخطأ محض ؛ لأنه على تقدير تسليم ذلك في تلك اللّغة ، فأين التنوين الذي في «محلّ»؟ وكيف يكون فيه تنوين ، وهو مضاف حتّى يقول : إنّه قد يوجّه بلغة «الأزد»؟

وما ذكره من كونه يحتمل ممّا يكونون قد كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة ، فشيء لا يعوّل عليه ؛ لأنّ خطّ المصحف سنّة متبعة لا يقاس عليها ، فكيف يقول : يحتمل أن يقاس هذا على تلك الأشياء؟

وأيضا فإنهم لم يعربوا [غير](٢) إلّا حالا ، حتّى نقل بعضهم الإجماع على ذلك.

وإنما اختلفوا في صاحب الحال ، فقوله : إنه استثناء ثان مع هذه الأوجه الضّعيفة خرق للإجماع إلا ما تقدّم نقله عن بعضهم من أنّه استثناء ثان (٣) ، وعزاه للبصريين (٤) ، لكن لا على هذا المدرك الذي ذكره الشيخ.

وقديما وحديثا استشكل النّاس هذه الآية.

وقال ابن عطيّة : وقد خلط (٥) الناس في هذا الموضع في نصب «غير» وقدّروا تقديمات وتأخيرات ، وذلك كلّه غير مرض ؛ لأنّ الكلام على اطّراده ، فيمكن استثناء بعد استثناء.

وهذه الآية ممّا اتضح للفصحاء (٦) والبلغاء فصاحتها وبلاغتها ، حتى يحكى أنّه قيل للكنديّ : أيّها الحكيم ، اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم أعمل لكم مثل بعضه ، فاحتجب أيّاما كثيرة ، ثمّ خرج فقال : والله لا يقدر أحد على ذلك ، إنّني فتحت [سورة](٧) من المصحف فخرجت (٨) سورة «المائدة» ، فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النّكث ، وحلّل تحليلا عامّا ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثمّ أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين.

__________________

(١) في أ : الأردء.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : بأن.

(٤) في أ : بعض البصريين.

(٥) في ب : غلط.

(٦) في ب : تعرف الفصحاء.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : فخرج.

١٧٢

والجمهور على نصب «غير» ، وقرأ ابن أبي عبلة (١) برفعه ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنّه نعت ل (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) والموصوف ب «غير» لا يلزم فيه أن يكون مماثلا لما بعدها [في جنسه](٢) تقول : مررت برجل غير حمار ، هكذا قالوه ، وفيه نظر ، ولكن ظاهر هذه القراءة يدلّ لهم.

والثاني : أنّه نعت للضمير في «يتلى».

قال ابن عطيّة : لأنّ (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) في المعنى بمنزلة غير مستحلّ إذا كان صيدا ، وفيه تكلّف ، والصيد في الأصل مصدر : صاد يصيد ويصاد ، ويطلق على المصيد ، كدرهم ضرب الأمير.

وهو في الآية الكريمة يحتمل الأمرين أي من كونه باقيا على مصدريّته ، كأنّه قيل : أحلّ لكم بهيمة الأنعام ، غير محلّين الاصطياد وأنتم محرمون ، ومن كونه واقعا موقع المفعول أي : غير محلّين الشّيء [المصيد](٣) وأنتم محرمون.

وقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال ، وما هو صاحب هذه الحال؟

فقال الزّمخشريّ : هي حال عن (مُحِلِّي الصَّيْدِ) ، كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد ، وأنتم محرمون ، لئلّا نتحرّج عليكم.

قال أبو حيّان : وقد بيّنا فساد هذا القول بأنّ الأنعام مباحة ، مطلقا لا بالتّقييد بهذا الحال.

قال شهاب الدين : وهذا الرّد ليس بشيء ؛ لأنّه [إذا](٤) أحلّ لهم بعض الأنعام في حال امتناعهم من الصيد ، فأن يحلّها لهم وهم غير محرمين بطريق الأولى و «حرم» جمع «حرام» بمعنى محرم.

قال : [الطويل]

١٩١٦ ـ فقلت لها : فيئي إليك فإنّني

حرام وإنّي بعد ذاك لبيب (٥)

أي : ملبّ (٦) ، وأحرم إذا (٧) دخل في الحرم ، أو في الإحرام.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٤٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٣٣ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) البيت للمخبل السعدي : ينظر : أمالي ابن الشجري ١ / ١٧٤ ، أمالي القالي ٢ / ١٧١ ، الخزانة ١ / ٢٧٠ ، اللسان (لبب) ، البحر ٣ / ٤٣٣ ، الدر المصون ١ / ٤٨٠.

(٦) في أ : ملت.

(٧) في أ : أي.

١٧٣

وقال مكي بن أبي طالب : هو في موضع نصب على الحال [من](١) المضمر في «محلّي» ، وهذا هو الصحيح.

و [أما](٢) ما ذكره الزّمخشريّ ، فلا يظهر فيه مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة (٣).

وقرأ يحيى بن وثّاب (٤) ، وإبراهيم والحسن «حرم» بسكون الراء.

وقال أبو الحسن البصريّ : هي لغة «تميم» ، يعني يسكّنون ضمة «فعل» جمعا ، نحو : «رسل». قد تقدم كلام المعربين في الآية الكريمة.

قال المفسرون : معنى الآية ، أحلّت لكم الأنعام كلّها ، إلا ما كان منها وحشيّا ؛ [فإنه صيد](٥) لا يحلّ لكم في حال الإحرام ، وقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) استثناء مجمل ، واستثناء المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملا ، إلّا أن المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من هذا الاستثناء هو قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ووجه هذا أن قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه ، ثمّ بيّن أنّها إن كانت ميتة أو موقوذة أو متردّية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله فهي محرمة.

وقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) معناه : أنه لما أحلّ بهيمة الأنعام ، ذكر الفرق بين صيدها وغيره ، فبيّن أنّ كلّ ما كان صيدا ، فإنّه حلال في الإحلال دون الإحرام ، وما لم يكن صيدا فإنّه حلال في الحالين جميعا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) وحق صاحب الحال ألّا يكون مجرورا بالإضافة ، كما لا يكون صاحب الخبر ؛ لأن المضاف إليه مكمل للمضاف وواقع منه موقع التنوين ، فإن كان المضاف بمعنى الفعل حسن جعل المضاف إليه صاحب الحال ؛ لأنه في المعني فاعل أو مفعول نحو : إليه مرجعكم جميعا ، وعرفت قيام زيد مسرعا وجوز بعض البصريين وصاحب البسيط مجيء الحال من المضاف إليه مطلقا ، وخرجوا عليه : إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ، وقوله : خلق الحديد مضاعفا يتلهب* وجوزه الأخفش ، وابن مالك إن كان المضاف جزء ما أضيف إليه أو مثل جزئه ، نحو : ما في صدورهم من غل إخوانا ، ملة إبراهيم حنيفا ، لأنه لو استغني به عن المضاف وقيل : ونزعنا ما فيهم إخوانا ، واتبع إبراهيم حنيفا لصحّ وردّه أبو حيان ، وقال : إن النصب في «إخوانا» على المدح ، و «حنيفا» حال من ملة بمعنى : دين ، أو من الضمير في اتبع قال وإنما لم يجز الحال من المضاف إليه لما تقرر من أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، وعامل المضاف إليه اللام أو الإضافة ، وكلاهما لا يصلح أن يعمل في الحال ، وفي مجيء الحال من المنادى مذاهب.

ينظر : همع الهوامع ١ / ٢٤٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٤٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٨٠.

(٥) سقط في ب.

١٧٤

وظاهر هذه الآية يقتضي أنّ الصيد مطلقا حرام على المحرم ، [إلّا أنّه تعالى أباح في آية أخرى أنّ الصيد المحرّم على المحرم](١) إنّما هو صيد البرّ لا صيد البحر ، بقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) [المائدة : ٩٦] فبيّن ذلك الإطلاق.

ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) أي أنّ الله تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال ، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض ، فلو قال قائل : ما السبب في هذا التفصيل والتّخصيص ، كان جوابه : أنّه تعالى مالك (٢) الأشياء وخالقها (٣) فلا اعتراض عليه في حكمه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) الآية لما حرّم [الله](٤) الصيد على المحرم نهى في هذه الآية عن مخالفة تكاليف الله تعالى.

قال المفسّرون : نزلت في الحطم (٥) ، واسمه : شريح بن ضبيعة البكريّ ، أتى المدينة ، وخلّف خيله خارج المدينة ، ودخل وحده على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال [له :](٦) إلام تدعو الناس إليه؟ ، فقال : «إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة» ، فقال حسن ، إلّا (٧) أنّ لي أمراء (٨) لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلّي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : «يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان» (٩) ثم خرج شريح من عنده ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بقفا غادر ، وما الرّجل بمسلم» ، فمرّ بسرح المدينة فاستاقه وانطلق ، فتبعوه ولم يدركوه ، فلما كان العام المقبل خرج حاجّا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ، ومعه تجارة عظيمة ، وقد قلّدوا الهدي ، فقال المسلمون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا الحطم قد خرج حاجّا ، فخلّ بيننا وبينه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّه قد قلّد الهدي» ، فقالوا : يا رسول الله هذا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : خالق.

(٣) في ب : ومالكها.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : الحطيم.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : حسبي.

(٨) في ب : تأمر ـ أمرا.

(٩) في أ : بكلام.

١٧٥

شيء كنا نفعله في الجاهلية ، فأبى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) الآية (١).

قال ابن عباس ومجاهد : هي مناسك الحج (٢) ، وكان المشركون يحجّون فيهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فناههم الله عن ذلك.

وقال أبو عبيدة (٣) : «شعائر الله» هي الهدايا [المشعرة لقوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [الحج : ٣٦] ، وهذا ضعيف ؛ لأنّه تعالى ذكر (شَعائِرَ اللهِ)](٤) ثم عطف عليها الهدايا ، والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف [عليه](٥) ، والإشعار من الشعار (٦) وهي العلامة ، وإشعارها إعلامها بما يعرف أنّها هدي ، والشّعائر جمع ، والأكثرون على أنّه جمع شعيرة (٧).

وقال ابن فارس (٨) : واحدتها شعارة ، والشّعيرة : فعيلة بمعنى مفعلة والمشعرة : المعلمة ، والإشعار : الإعلام ، وكلّ شيء أشعر فقد أعلم ، وهو هاهنا أن يطعن في صفحة سنان (٩) البعير بحديدة حتّى يسيل الدّم ، فيكون ذلك علامة أنها هدي ، وهي (١٠) سنّة في الهدايا إذا كانت من الإبل.

وقاس الشّافعيّ البقر على الإبل في الإشعار ، وأمّا الغنم فلا تشعر بالجرح ، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها.

وعند أبي حنيفة لا يشعر الهدي.

وروى عطيّة (١١) عن ابن عباس : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) في أن تصيد وأنت محرم لقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١٢).

وقال السّدّيّ : أراد حرم الله ، وقيل المراد النّهي عن القتل في الحرم (١٣).

وقال عطاء : (شَعائِرَ اللهِ) حرمات الله (١٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٧٢) عن السدي.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٦٣) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٤٩) عن مجاهد وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٢٠٧.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : الأشعار.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٠١.

(٨) ينظر : المصدر السابق.

(٩) في أ : صفحة سنام.

(١٠) في ب : وهو.

(١١) في ب : عطفه.

(١٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٦٤) عن ابن عباس.

(١٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٦٣) عن السدي.

(١٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٦٢) عن عطاء وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٠) وزاد نسبته لابن المنذر.

١٧٦

ثم قال : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي بالقتال فيه ، قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة : ٣٦] فقيل هي : ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب ، فقوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) يجوز أن يكون المراد رجب ، لأنّه أكمل هذه الأشهر الأربعة في هذه الصفة (١).

وقال ابن زيد (٢) : هي النّسيء ؛ لأنّهم كانوا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما.

قال : (وَلَا الْهَدْيَ).

قال الواحدي (٣) : الهدي ما أهدي إلى بيت الله الحرام من ناقة أو بقرة أو شاة ، واحدها هدية بتسكين الدّال ، ويقال [أيضا](٤) : هديّة ، وجمعها هديّ قال الشاعر : [الوافر]

١٩١٧ ـ حلفت بربّ مكّة والمصلّى

وأعناق الهديّ مقلّدات (٥)

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ، وقوله : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : ٢٥].

قوله سبحانه : (وَلَا الْقَلائِدَ) [أي : ولا ذوات القلائد](٦) عطف على الهدي مبالغة في التوصية بها ؛ لأنّها أشرف الهدي ، كقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] كأنّه قيل : وذوات القلائد منها خصوصا.

قال القرطبيّ (٧) : فمن قال المراد بالشّعائر (٨) المناسك ، قال : ذكر الهدي تنبيها على تخصيصه ، ومن قال : الشّعائر الهدي قال : الشّعائر ما كان مشعرا ، أي : معلما بإسالة الدّم من سنامه ، والهدي ما لم يشعر ، [اكتفى فيه بالتّقليد ، وقيل : الشعائر هي البدن من الأنعام ، والهدي البقر والغنم والثّياب وكلّ ما يهدى](٩).

وقال الجمهور : الهدي عامّ في كلّ ما يتقرّب به من الذّبائح والصّدقات ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «المبكّر للجمعة كالمهدي بدنة» ، إلى أن قال : «كالمهدي بيضة» فسمّاها هديا ، وتسمية البيضة هديا إنّما يراد به الصّدقة وكذلك قال العلماء : إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدّق به ؛ إلّا أنّ الإطلاق ينصرف (١٠) إلى أحد الأصناف

__________________

(١) في أ : الصيف.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٧.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٠٢.

(٤) سقط في أ.

(٥) البيت للفرزدق. ينظر ديوانه ص ١٠٠ ، واللسان (قلد) والقرطبي ٢ / ٢٥٢ ، والفخر الرازي ١١ / ١٠٢.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر تفسير القرطبي ٦ / ٢٨.

(٨) في أ : القلائد.

(٩) سقط في أ.

(١٠) في أ : يتفرق.

١٧٧

الثّلاثة من الإبل والبقر والغنم ، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه ، وهذا إنّما يلقّى من عرف الشّرع.

قال تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة : ١٩٦] وأراد به الشّاة ، وقال : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ، وأقلّه شاة عند الفقهاء.

وقال مالك (١) : «إذا قال : ثوبي هدي ، يجعل ثمنه في هدي».

ويجوز أن يكون المراد «والقلائد» حقيقة ، ويكون فيه مبالغة في النّهي عن التّعرّض للهدي المقلّد بها ، كقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [النور : ٣١] ؛ لأنّه نهى عن إظهار الزّينة ، فما بالك بمواضعها من الأعضاء ، والقلائد : جمع قلادة وهي الّتي تشدّ على عنق البعير.

وقال عطاء : أراد أصحاب القلائد ، وذلك أنّهم كانوا في الجاهليّة إذا أرادوا الخروج من الحرم قلّدوا أنفسهم وإبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم ، كيلا يتعرّض لهم (٢) ، فنهى الشّرع عن استحلال شيء منها.

قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ).

أي : ولا تحلّوا قوما آمين ، أي : قاصدين ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : لا تحلّوا قتال قوم [أو أذى](٣) قوم آمّين.

وقرأ (٤) عبد الله ومن تبعه : «ولا آمّي البيت الحرام» بحذف النّون ، وإضافة اسم الفاعل إلى معموله ، والبيت نصب على المفعول به ب «آمين» [أي :](٥) قاصدين البيت ، وليس ظرفا.

وقوله : «يبتغون» حال من الضّمير في «آمّين» ، أي : حال كون «الآمّين» مبتغين فضلا ، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة صفة ل «آمّين» ؛ لأنّ اسم الفاعل متى وصف بطل عمله على الصّحيح. وخالف (٦) الكوفيّون في ذلك.

وأعرب مكي هذه الجملة صفة ل «آمين» ، وليس بجيّد لما (٧) تقدّم ، وكأنّه تبع في ذلك الكوفيّين.

وهاهنا سؤال ، وهو أنّه لم لا قيل بجواز إعماله قبل وصفه كما في هذه الآية قياسا

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٨.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٠) وعزاه لعبد بن حميد ، وينظر تفسير البغوي ٢ / ٧.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٤٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٣٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٨١.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : وأخطأ.

(٧) في أ : يحبذ كما.

١٧٨

على المصدر ، فإنّه يعمل قبل أن يوصف ، نحو : يعجبني ضرب زيدا شديد.

والجمهور على «يبتغون» بياء الغيبة ، وقرأ حميد بن قيس ، والأعرج (١) «تبتغون» بتاء الخطاب ، على (٢) أنّه خطاب للمؤمنين ، وهي قلقة ، لقوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) ولو أريد خطاب المؤمنين ، لكان تمام المناسبة «تبتغون (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) و (مِنْ رَبِّهِمْ) ، يجوز أن يتعلّق بنفس الفعل ، وأن يتعلّق بمحذوف على أنّه صفة ل «فضلا» ، أي : فضلا كائنا (مِنْ رَبِّهِمْ).

وقد تقدّم الخلاف في ضمّ راء «رضوان» في آل عمران.

وإذا علّقنا (مِنْ رَبِّهِمْ)(٣) بمحذوف على أنّه صفة ل «فضلا» ، فيكون قد حذف صفة «رضوان» لدلالة ما قبله عليه ، أي : ورضوانا من ربّهم.

وإذا علّقناه بنفس الفعل لم يحتج إلى ذلك.

فصل

قيل : المراد ب «الفضل» الرّزق بالتّجارة و «الرّضوان» ، أي : على زعمهم ؛ لأنّ الكافر لا نصيب له في الرّضوان.

قال العلماء (٤) : المشركون كانوا يقصدون بحجّهم رضوان الله ، وإن كانوا لا ينالون ذلك فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب ذلك (٥) القصد نوع من الحرمة.

وقيل : المراد بفضل الله الثّواب ، وبالرّضوان أن يرضى الله عنهم ؛ وذلك لأنّ الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرّضوان لكنّه يظنّ [أنّه بفعله طالب لهما](٦) فوصف بذلك بناء على ظنه ، كقوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) [طه : ٩٧] ، وقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩].

فصل

قال قوم : هذه الآية منسوخة ؛ لأنّ قوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) يقتضي حرمة القتال [في](٧) الشّهر الحرام ، وذلك منسوخ يقول الله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ، وقوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) يقتضي حرمة منع

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٣٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٨١ ، إلّا أن السمين عكس ، فقال : والجمهور على «تبتغون» بتاء الخطاب ، على أنه خطاب للمؤمنين ، وهي قلقة لقوله : «مِنْ رَبِّهِمْ».

وبمقارنة النصين يتضح أن هناك سقط من عبارة «السمين».

(٢) في أ : علما.

(٣) في أ : وبهم.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٠٢.

(٥) في أ : بذلك.

(٦) في أ : ذلك من زعمه.

(٧) سقط في أ.

١٧٩

المشركين عن المسجد الحرام ، وذلك منسوخ بقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] وهو قول ابن عبّاس ومجاهد والحسن وقتادة (١).

وقال الشّعبيّ : لم ينسخ من سورة المائدة إلّا هذه الآية ، وقال آخرون (٢) : هذه الآية غير منسوخة ، وهؤلاء لهم طريقان :

الأوّل : أنّ الله تعالى أمر في هذه الآية ألّا نخيف (٣) من يقصد بيته من المسلمين ، وحرّم علينا أخذ الهدي من المهدين إذا كانوا مسلمين لقوله أوّل الآية : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) وهذا إنّما يليق بنسك المسلمين لا بنسك الكفّار ، وقوله آخر الآية : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) وهذا إنّما يليق بالمسلم لا بالكافر.

والثاني : قال أبو مسلم (٤) : المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلمّا زال [العهد زال] الحظر ، ولزم المراد بقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨].

قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) وقرىء (٥) «أحللتم» وهي لغة في «حلّ» ، يقال : أحلّ من إحرامه ، كما يقال : حلّ.

وقرأ الحسن بن عمران وأبو واقد والجرّاح (٦) بكسر الفاء العاطفة وهي قراءة ضعيفة مشكلة.

وخرّجها الزّمخشريّ على أنّ الكسر في الفاء بدل من كسر الهمزة [في](٧) الابتداء.

وقال ابن عطيّة : هي قراءة مشكلة ، ومن (٨) توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذا ابتدأ فكسر الفاء مراعاة ، وتذكّرا لكسر ألف الوصل.

وقال أبو حيّان : وليس هو عندي كسرا محضا ، بل هو إمالة محضة لتوهّم وجود كسر همزة الوصل ، كما أمالوا «فإذا» لوجود كسر الهمزة.

فصل

هذا أمر إباحة ، أباح للحلّال أخذ الصّيد ، وظاهر الأمر وإن كان للوجوب فهو هنا للإباحة ، كقوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠] ، وهو كقول القائل : «لا تدخلنّ هذه الدّار حتّى تؤدّي ثمنها ، فإذا أدّيت فادخلها» أي : فإذا أدّيت فقد

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٦٥) عن ابن عباس وقتادة.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٠٣.

(٣) في ب : لا نخيف.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٠٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٣٦ ، والدر المصون ٢ / ٤٨١.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٤٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٣٦ ، والدر المصون ٢ / ٤٨١.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : وفي.

١٨٠