اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً)(١٠٧)

في كيفية النّظم وجوه :

أحدها : أنّه ـ تعالى ـ لما شرح أحوال المنافقين وأمر بالمحاربة ، وما يتّصل بها من الأحكام الشّرعيّة ، مثل قتل المسلم خطأ (٢) وصلاة المسافر ، وصلاة الخوف ، رجع بعد ذلك إلى بيان أحوال المنافقين ؛ لأنّهم كانوا يحاولون [حمل](٣) الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على أن يحكم بالباطل ويترك الحكم بالحقّ ، فأمره الله ـ تعالى ـ بألّا يلتفت إليهم في هذا الباب.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ لمّا بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السّورة ، بيّن أنّها كلها إنّما عرفت بإنزال الله ـ تعالى ـ ، وأنّه ليس للرّسول أن يحيد عن شيء منها ؛ طلبا لرضا (٤) القوم.

وثالثها : أنّه ـ تعالى ـ لما أمر بالمجاهدة مع الكفّار ، بيّن أن الأمر وإن كان كذلك ، لكنه لا يجوز الخيانة معهم (٥) ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأنّ كفر الكافر لا يصحّ المسامحة له ، بل الواجب في الدّين : أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله ، وإن كان لا يلحق الكافر حيف ؛ لأجل رضى المنافق

[قوله : «بالحقّ» : في محلّ نصب على الحال المؤكّدة ، فيتعلّق بمحذوف ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : الخطأ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : لنرضى.

(٥) في أ : منهم.

٣

وصاحب الحال هو الكتاب ، أي : أنزلناه ملتبسا بالحقّ ، و «لتحكم» : متعلّق ب «أنزلنا» ، و «أراك» متعدّ لاثنين : أحدهما : العائد المحذوف ، والثاني : كاف الخطاب ، أي : بما أراكه الله. والإراءة هنا : يجوز أن تكون من الرّأي ؛ كقولك : «رأيت رأي الشّافعي» ، أو من المعرفة ، وعلى كلا التّقدرين ؛ فالفعل قبل النّقل بالهمزة متعدّ لواحد ، وبعده متعدّ لاثنين].

وقال أبو عليّ الفارسي (١) : [قوله](٢)(أَراكَ اللهُ) إمّا أن يكون منقولا بالهمزة من «رأيت» ، الّتي يراد بها رؤية البصر ، أو من «رأيت» [الّتي](٣) تتعدّى إلى مفعولين ، أو من «رأيت» الّتي يراد بها الاعتقاد.

والأوّل : باطل ؛ لأنّ الحكم في الحادثة لا يرى بالبصر.

والثاني : أيضا باطل ؛ لأنّه يلزم أن يتعدّى إلى ثلاثة مفاعيل بسبب التعدية (٤) ومعلوم : أنّ هذا اللّفظ لم يتعدّ إلّا إلى مفعولين : أحدهما : كاف الخطاب ، والآخر المفعول المقدّر ، وتقديره : بما أراكه الله ، ولمّا بطل القسمان ، بقي الثّالث ، وهو أنّ المراد منه : «رأيت» بمعنى : الاعتقاد.

فصل في معنى الآية

معنى الآية : بما أعلمك الله ، وسمّي ذلك العلم بالرّؤية ؛ لأن العلم اليقينيّ المبرّأ عن الرّيب يكون جاريا مجرى الرّؤية في القوّة والظّهور ، وكان عمر يقول : لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أراني [الله](٥) ، فإن الله ـ تعالى ـ لم يجعل ذلك إلا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما الواحد منّا فرأيه يكون ظنّا ، ولا يكون علما.

وإذا ثبت ذلك قال المحققون (٦) : دلّت هذه الآية على أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما كان يحكم إلا بالوحي والنّصّ ، وإذا كان كذلك ، فيتفرّع عليه مسألتان :

الأولى : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجز له الاجتهاد.

والثانية : أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا لم يجز له أن يحكم إلا بالنّصّ ، وجب أن تكون أمّته كذلك ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَاتَّبِعُوهُ) [الأعراف : ١٥٨] وإذا كان كذلك ، حرم العمل بالقياس.

والجواب : أنه لما قامت الدّلالة على أنّ القياس حجّة ، كان العمل بالقياس عملا

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٢٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : التعددية.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٢٧.

٤

بالنّصّ في الحقيقة ؛ لأنّه يصير التّقدير : أنه ـ تعالى ـ قال : متى غلب على ظنّك أن حكم الصّورة المسكوت عنها ، مثل حكم الصّورة المنصوص عليها ، بسبب أمر جامع [فاعلم : أنّه تكليفي في حقّك أن تعمل](١) بموجب ذلك الظّنّ ، وإذا كان كذلك ، كان العمل بالقياس عملا بالنّصّ.

قوله : «للخائنين» متعلّق ب «خصيما» واللام : للتّعليل ، على بابها ، وقيل : هي بمعنى : «عن» ، وليس بشيء ؛ لصحّة المعنى بدون ذلك ، ومفعول «خصيما» : محذوف ، تقديره : «خصيما البرآء» ، وخصيم : يجوز أن يكون مثال مبالغة ، كضريب ، وأن يكون بمعنى : مفاعل ، نحو : خليط وجليس بمعنى : مخاصم ومخالط ومجالس.

قال الواحدي (٢) : خصمك الذي يخاصمك ، وجمعه : الخصماء ، وأصله من الخصم : وهو ناحية الشّيء ، والخصم : طرف الزّاوية ، وطرف الأشفار ، وقيل للخصمين : خصمان ؛ لأنّ كل واحد منهما في ناحية من الحجّة والدّعوى ، وخصوم السّحابة : جوانبها.

فصل : في سبب نزول الآية

روى الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار ، يقال له : طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث ، سرق درعا من جار له يقال له : قتادة بن النّعمان ، وكانت الدّرع في جراب له فيه دقيق ، فجعل الدّقيق ينتثر من خرق في الجراب ، حتى انتهى إلى الدّار ، ثم خبّأها عند رجل من اليهود ، يقال له : زيد ابن السّمين ، فالتمست الدّرع عند طعمة ، فحلف بالله ما أخذها وما له بها من علم ، فقال أصحاب الدّرع : لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره ، فلما حلف ، تركوه واتّبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهوديّ ؛ فأخذوه منه ، فقال اليهوديّ : دفعها إليّ طعمة بن أبيرق ، فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا له : إنك إن لم تفعل ، افتضح صاحبنا ، فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعاقب اليهودي (٣).

ويروى عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في رواية أخرى : أن طعمة سرق الدّرع في جراب فيه نخالة ، فخرق الجراب حتّى كان يتناثر منه النّخالة طول الطّريق ، فجاء به إلى

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٢٧.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٤٧٧.

٥

دار زيد السّمين وتركه على بابه ، وحمل الدّرع إلى بيته ، فلما أصبح صاحب الدّرع ، جاء على أثر النّخالة إلى دار زيد السّمين ، فأخذه وحمله إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقطع يد زيد اليهودي.

وقال مقاتل : إن زيدا السّمين أودع درعا عند طعمة فجحدها طعمة ، فأنزل الله تعالى قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ)(١) بالأمر ، والنّهي ، والفصل ، (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) : بما علّمك الله وأوحى إليك ، (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) : طعمة ، «خصيما» : معينا مدافعا عنه.

وهذه القصّة تدلّ على أن طعمة وقومه كانوا منافقين ؛ لأنهم طلبوا الباطل ، ويؤكّده قوله ـ تعالى ـ : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) [النساء : ١١٣]. ثم روي : أن طعمة هرب إلى مكّة وارتدّ ، وثقب حائطا ؛ ليسرق ، فسقط الحائط عليه فمات.

فصل

قال الطّاعنون في عصمة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ : دلّت هذه الآية على صدور الذّنب من الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنّه لو لا أن الرسول ـ [عليه الصلاة والسلام](٢) أراد أن يخاصم لأجل الخائن (٣) ويذب عنه (٤) ، وإلّا لما ورد النّهي عنه.

والجواب : أنه لمّا ثبت في الرّواية : أنّ قوم طعمة لما التمسوا من الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يذبّ عن طعمة ، وأن يلحق السّرقة باليهوديّ توقف وانتظر الوحي ، فنزلت الآية ، وكان الغرض من هذا النّهي : تنبيه النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ على أنّ طعمة كذّاب ، وأن اليهوديّ بريء من ذلك الجرم.

فإن قيل : الدّليل على أنّ الجرم قد وقع من النّبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله بعد ذلك: (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) والأمر بالاستغفار ، يدل على صدور الذّنب.

فالجواب : من وجوه :

الأوّل : لعله مال طبعه ، إلى نصرة طعمة ؛ بسبب أنه كان في الظّاهر من المسلمين ؛ فأمر بالاستغفار لهذا القدر ، وحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

الثّاني : أن القوم لما شهدوا ببراءة طعمة ، وعلى اليهوديّ بالسّرقة ، ولم يظهر للرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما يوجب القدح في شهادتهم ، همّ بأن يقضي بالسّرقة

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ١٨٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن السدي.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : الخائنين.

(٤) في ب : عنهم.

٦

على اليهودي ، ثمّ لما أطلعه الله على كذب أولئك الشّهود ، عرف أنّ ذلك القضاء لو وقع ، لكان خطأ في نفسه ، وإن كان معذورا عند الله [ـ تعالى ـ](١) [فيه](٢).

الثالث : قوله : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) يحتمل أن يكون المراد : واستغفر الله لأولئك الّذين يذبّون عن طعمة ، ويريدون أن يظهروا براءته (٣).

الرابع : قيل : الاستغفار في حقّ الأنبياء بعد النّبوّة على أحد الوجوه الثّلاثة : إما لذنب تقدّم قبل النّبوّة ، أو لذنوب أمّته وقرابته ، أو لمباح جاء الشّرع بتحريمه ، فيتركه بالاستغفار ، والاستغفار يكون معناه : السّمع (٤) والطّاعة لحكم الشّرع.

ثم قال : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي : يظلمون أنفسهم بالخيانة والسّرقة وقبلها. أمر بالاستغفار على طريق التّسبيح ؛ كالرجل يقول : أستغفر الله ، على وجه التّسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب.

وقيل : الخطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد : ابن أبيرق ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) [الأحزاب : ١] [وقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ)](٥) [يونس : ٩٤] والمراد بالذين يختانون طعمة ومن عاونه من قومه ، والاختيان : كالخيانة ؛ يقال : خانه واختانه ، وقد تقدّم عند قوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ١٨٧] ، [وإنما قال لطعمة وللذّابّين عنه: إنهم يختانون أنفسهم](٦) ؛ لأن من أقدم على المعصية ، فقد حرم نفسه الثّواب ، وأوصلها إلى العقاب ، فكان ذلك منه خيانة لنفسه ؛ ولهذا المعنى ، قيل لمن ظلم غيره : إنّه ظلم نفسه ، وفي الآية تهديد شديد على إعانة (٧) الظّالم ؛ لأن الله ـ تعالى ـ عاتب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على همّه بإعانة طعمة ، مع أنّه لم يكن عالما بظلمه ، فكيف حال من يعلم ظلم الظّالم ، ويعينه عليه.

ثم قال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ) أي : لا يرضى عن (٨)(مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) يريد : خوّانا في الدّرع ، أثيما في رميه اليهوديّ.

وقيل : إنّه خطاب مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به : غيره ؛ كقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) [يونس : ٩٤].

فإن قيل : قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) صيغة مبالغة تدلّ على تكرار ذلك [الفعل مع أن الصّادر عنه خيانة واحدة ، وإثم واحد].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : إيمانه.

(٤) في ب : الشرع.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : إهانة.

(٨) في أ : عنه.

٧

فالجواب : أنّ الله ـ تعالى ـ علم أنه](١) كان في طبع ذلك الرّجل الخيانة الكثيرة والإثم الكبير ، فذكر اللّفظ الدّالّ على المبالغة ؛ بسبب ما كان في طبعه من الميل إلى ذلك ، ويدلّ عليه : ما ذكر [أنّه](٢) بعد هذه الواقعة هرب إلى مكّة ، وارتدّ ونقب حائط إنسان ؛ لأجل السرقة ، فسقط الحائط عليه ومات ، ومن كانت خاتمته كذلك ، لم يشكّ في حاله ، وأيضا : فإنّه طلب من النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يرفع السّرقة عنه ، ويلحقها باليهوديّ ، وهذا (٣) يبطل رسالة الرّسول ، ومن حاول إبطال رسالة الرّسول وأراد كذبه ، فقد كفر ؛ فلهذا المعنى وصفه الله [ـ تعالى ـ](٤) بالمبالغة في الخيانة والإثم.

وقد قيل : إذا عثرت من رجل على سيّئة ، فاعلم أنّ لها أخوات.

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ : أنّه أخذ يقطع يد سارق ، فجاءته أمّه تبكي وتقول هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه ، فقال : كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أوّل الأمر.

قوله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)(١٠٨)

في : «يستخفون» : وجهان :

أظهرهما : أنها مستأنفة لمجرد الإخبار بأنهم يطلبون التستّر من الله ـ تعالى ـ بجهلهم.

والثاني : أنها في محلّ نصب صفة ل «من» في قوله : (لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) وجمع الضّمير اعتبارا بمعناها إن جعلت «من» نكرة موصوفة ، أو في محلّ نصب على الحال من «من» إن جعلتها موصولة ، وجمع الضمير باعتبار معناها أيضا.

والاستخفاء (٥) الاستتار ، يقال : استخفيت من فلان ، أي : تواريت منه واستترت ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) [الرعد : ١٠] أي : مستتر ، ومعنى الآية : يستترون من النّاس ، ولا يستترون من الله.

قال ابن عبّاس (٦) : يستحيون من النّاس ، ولا يستحيون من الله. قال الواحدي (٧) : هذا معنى وليس بتفسير ؛ وذلك أنّ الاستحياء من النّاس هو نفس الاستخفاء ، فليس الأمر كذلك. قوله : (وَهُوَ مَعَهُمْ) جملة حالية إمّا من الله ـ تعالى ـ ، أو من المستخفين ، وقوله : «معهم» أي : بالعلم ، والقدرة ، والرؤية ، وكفى هذا زاجرا للإنسان ، و «إذ» منصوب [بالعامل ـ في](٨) الظّرف ـ الواقع خبرا ، وهو «معهم» ومعنى : يبيّتون :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : وهلا.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : والاختفاء.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٢٩.

(٧) ينظر : السابق.

(٨) سقط في ب.

٨

يتقوّلون ، ويؤلّفون ، ويضمرون في أذهانهم ، والتبييت : تدبير الفعل ليلا ، والذي لا يرضاه الله من القول ؛ هو أنّ طعمة قال : أرمي اليهودي بأنّه هو الّذي سرق الدّرع ، وأحلف أنّي لم أسرقها ، ويقبل الرّسول يميني ؛ [لأني](١) على دينه ، ولا يقبل يمين اليهودي.

فإن قيل : لم سمّى التّبييت (٢) قولا ، وهو معنى في النّفس؟.

فالجواب : أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنّفس ، وعلى هذا فلا إشكال ، ومن أنكر كلام النّفس ، قال : إن طعمة وأصحابه أجمعوا في اللّيل ، ورتّبوا كيفيّة (٣) الحيلة والمكر ؛ فسمّى الله ـ تعالى ـ كلامهم ذلك بالقول المبيّت الذي لا يرضاه ، ثم قال : (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) والمراد به : الوعيد ؛ لأنهم وإن كانوا يخفون كيفيّة المكر والخداع عن النّاس ، فإنها ظاهرة في علم الله ؛ لأنّه ـ تعالى ـ محيط بجميع المعلومات لا يخفى عليه منها شيء.

قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)(١٠٩)

«ها» للتّنبيه في «أنتم» ، و «هؤلاء» : مبتدأ وخبر «جادلتم» جملة مبينة لوقوع «أولاء» خبرا ؛ كما تقول لبعض الأسخياء : أنت حاتم تجود بمالك ، وتؤثر على نفسك ، ويجوز أن يكون «أولاء» اسما موصولا ، بمعنى : الّذين ، و «جادلتم» صلة وتقدّم الكلام على نحو (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ، والجدال في اللّغة [عبارة](٤) عن شدّة المخاصمة من الجدل وهو شدة الفتل ، وجدل الحبل : شدّة فتله ، ورجل مجدول كأنه فتل ، والأجدل : الصّقر ؛ لأنّه [من] أشدّ الطّيور قوّة ؛ هذا قول الزّجّاج ، والمعنى : أن كل واحد [من الخصمين](٥) يريد فتل خصمه عن مذهبه ، وصرفه عن رأيه بطريق الحجاج ، وقيل : الجدال من الجدالة وهي الأرض ، وكلّ واحد من الخصمين يروم قهر صاحبه ، وصرعه (٦) عن الجدالة ، وهذا خطاب مع قوم من المؤمنين ، كانوا يذبّون عن طعمة وعن قومه : بسبب أنهم كانوا في الظّاهر مسلمين ، والمعنى : هبوا أنّكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدّنيا ، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه.

وقرأ أبيّ بن (٧) كعب ، وعبد الله بن مسعود : «وجادلتم عنه» يعني : طعمة.

وقوله : (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : استفهام توبيخ وتقريع ، و «من»

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : التدبير.

(٣) في ب : كيف.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : وصرفه.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٦٠.

٩

استفهاميّة في محلّ رفع بالابتداء ، و «يجادل» : خبره ، وقوله : (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أم : منقطعة وليست بعاطفة ، وظاهر عبارة مكّي (١) : أنها عاطفة ، فإنّه قال : و «أمّن يكون» مثلها [عطف عليها ، أي : مثل «من» في قوله : «فمن يجادل» وهو في محلّ نظر ؛ لأن في المنقطعة خلافا ، هل تسمّى عاطفة أم لا](٢) ، والوكيل الكفيل الذي وكّل إليه الأمر في الحفظ والحماية و «على» هنا بمعنى اللام والمعنى : أمّن يكون لهم وكيلا ، أي من النبي يذب عنهم ، ويتولّى أمرهم ، ويحميهم من عذاب الله يوم القيامة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)(١١٠)

لما ذكر الوعيد أتبعه بالدعوة إلى التوبة فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) يعني : السّرقة ، (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) برميه البريء ، وقيل : السّوء : الشّرك ، وظلم النّفس : ما دون الشّرك ، وقيل : المراد بالسّوء : ما يتعدّى إلى الغير ، وظلم النّفس : ما يختصّ به الإنسان ؛ كالحلف الكاذب ، وإنما خصّ ما يتعدى إلى الغير باسم (٣) السّوء ؛ لأنّ ذلك يكون في الأكثر إيصالا (٤) للضّرر إلى الغير ، والضّرر سوء حاضر.

فأمّا الذّنب الذي يخصّ الإنسان ، فذلك لا يكون في الأكثر ضررا حاضرا.

وقوله : (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) أي : يتب إلى الله (٥) ويستغفره (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) وهذه الآية دلّت على أنّ التّوبة مقبولة عن جميع الذّنوب سواء كانت كفرا ، أو قتلا عمدا ، أو غصبا (٦) للأموال ؛ لأن السّوء [و](٧) ظلم النّفس يعمّ الكلّ ، وظاهر الآية يقتضي أنّ (٨) مجرد الاستغفار كاف.

وقال بعضهم (٩) : إنّه مقيّد بالتّوبة ؛ لأنّه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار.

وقوله : (غَفُوراً رَحِيماً) معناه : غفورا رحيما له ، وحذف هذا القيد ؛ لدلالة الكلام عليه.

قال الضّحّاك : نزلت هذه الآية في وحشي قاتل حمزة ، أشرك بالله ، وقتل حمزة ، ثم جاء إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إني لنادم ، فهل لي من توبة؟. فنزلت هذه الآية (١٠).

وروى سفيان عن ابن مسعود ، قال : من قرأ هاتين الآيتين (١١) من سورة النّساء ، ثم

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٠٥.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : بإثم.

(٤) في أ : أيضا لا.

(٥) في ب : إليه.

(٦) في أ : تحصينا.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : أن.

(٩) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٣٠.

(١٠) ذكره القرطبي في تفسيره ٥ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(١١) في أ : الكلمتين.

١٠

استغفر ، غفر له وقرأ : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ٦٤] الآية ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) [النساء : ٦٤] الآية (١).

وعن عليّ ـ رضي الله عنه ـ قال : حدّثني أبو بكر ، وصدق أبو بكر قال : ما من عبد يذنب ذنبا ، ثم يتوضّأ ، ويصلّي ركعتين ، ويستغفر الله ، إلا غفر له ، ثم تلا هذه الآية (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ)(٢) الآية قال ابن عطيّة (٣) : قوله : (يَجِدِ اللهَ) أي : يجد عنده المغفرة والرّحمة ، فجعل المغفرة كالمورد يرده التّائب](٤) المستغفر.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(١١١)

(٥) والكسب عبارة عمّا يفيد جرّ منفعة ، أو دفع مضرّة ، ولذلك لم يجز وصف الباري ـ تعالى ـ بذلك ، وقيل : المراد بالإثم : يعني يمين طعمة بالباطل ، أي : ما سرقته ، إنّما سرقه اليهوديّ ، (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) فإنّما يضرّ به نفسه ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما في قلب التّائب عند إقدامه على التّوبة [«حكيما»](٦) تقتضي حكمته ورحمته أن يتجاوز عن التّائب ، والمقصود منه : ترغيب العاصي في الاستغفار ، وألا ييأس من قبول التّوبة والاستغفار.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)(١١٢)

قيل : المراد بالخطيئة : سرقة الدّرع ، وبالإثم : يمينه الكاذبة.

وقيل : الخطيئة : الصّغيرة ، والإثم : الكبيرة.

وقيل : الخطيئة : ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو بالخطأ ، والإثم : ما يحصل بسبب العمد ؛ لقوله في الّتي قبلها : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) فبيّن أن الإثم ما يستحقّ به العقوبة.

وقيل : هما بمعنى واحد ، كرر لاختلاف اللّفظ تأكيدا.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨٧) وعزاه لعبد بن حميد عن ابن مسعود.

(٢) ذكره السيوطي بهذا اللفظ في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨٨) وعزاه لابن أبي حاتم وابن السني في «عمل اليوم والليلة» وابن مردويه عن أبي بكر وللحديث شاهد من حديث أبي بكر أيضا ولكن ليس فيه ذكر الآية أخرجه أحمد (١ / ١١) وأبو داود (١٥٢١) والترمذي (٣٠٠٩) وابن ماجه (١٣٠٥) وابن حبان (٦١١) عن أبي بكر مرفوعا بلفظ : ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له.

(٣) ينظر : المحرر ٢ / ١١١.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

١١

وقال الطّبريّ (١) : الخطيئة تكون عن عمد ، وعن غير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد ، وقيل : الخطيئة ما لم يتعمّد خاصّة ؛ كالقتل الخطأ.

قوله : (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) : في هذه الهاء أقوال :

أحدها : أنها تعود على «إثما» لأنه الأقرب ، والمتعاطفان ب «أو» : يجوز أن يعود الضّمير على المعطوف كهذه الآية ، وعلى المعطوف عليه ؛ كقوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١].

والثاني : أنها تعود على الكسب المدلول عليه بالفعل ، نحو : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ) المائدة : ٨] أي العدل.

الثالث : أنها تعود على أحد المذكورين الدّالّ عليه العطف ب «أو» فإنه في قوّ ة «ثم يرم بأحد المذكورين».

الرابع : أنّ في الكلام حذفا ، والأصل : «ومن يكسب خطيئة ثم يرم بها» ؛ وهذا كما قيل في قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤] أي : يكنزون الذّهب ، ولا ينفقونه.

الخامس : أن يعود على (٢) معنى الخطيئة ، فكأنّه قال : ومن يكسب ذنبا ثم يرم به ، وقيل: جعل الخطيئة والإثم كالشّيء الواحد ، و «أو» هنا لتفصيل المبهم ، وتقدّم له نظائر.

وقرأ معاذ بن جبل (٣) : «يكسّب» بكسر الكاف وتشديد السّين ، وأصلها : يكتسب ، فأدغمت تاء الافتعال في السّين ، وكسرت الكاف إتباعا ، وهذا شبيه ب «يخطّف» [البقرة : ٢٠] ، وقد تقدّم توجيهه في البقرة ، وقرأ الزهري (٤) : «خطيّة» بالتّشديد ، وهو قياس تخفيفها.

وقوله : (يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) أي : يقذف بما جنى «بريئا» منه كما نسبت السّرقة إلى اليهودي. [قوله](٥) : (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) البهتان : هو البهت ، وهو الكذب الّذي يتحيّر (٦) في عظمه ؛ لأنّه إذا قيل للإنسان ، بهت وتحيّر.

روى مسلم ، عن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أ](٧) تدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «ذكرك أخاك بما يكره». قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : «إن كان فيه ما تقول ، فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ، فقد بهتّه» (٨) ؛ فرمي

__________________

(١) ينظر : تفسير الطبري ٤ / ٢٧٤.

(٢) في ب : إلى.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٦٢ ، والدر المصون ٢ / ٤٢٤.

(٤) ينظر : القراءة السابقة.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : يتجر.

(٧) سقط في أ.

(٨) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٠١) كتاب البر والصلة باب تحريم الغيبة حديث (٧٠ / ٢٥٨٩) من حديث أبي هريرة.

١٢

البريء (١) بهت له ، يقال : بهته بهتا وبهتانا ، إذا قال عنه ما لم يقل ، وهو بهّات ، والمفعول له : مبهوت ، ويقال : بهت الرّجل بالكسر ، إذا دهش وتحيّر ، وبهت بالضّمّ مثله ، وأفصح منها : بهت ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨] لأنّه يقال : رجل مبهوت ، ولا يقال : باهت (٢) ، ولا بهيت ؛ قال الكسائي (٣) ، و (إِثْماً مُبِيناً) أي : ذنبا بيّنا.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(١١٣)

(٤) قال القرطبي (٥) : ما بعد «لو لا» مرفوع بالابتداء عند سيبويه ، والخبر محذوف لا يظهر ، والمعنى : ولو لا فضل الله عليك ورحمته بأن نبّهك على الحقّ ، وقيل : بالنّبوءة والعصمة ، (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) عن الحق.

قال شهاب الدين : في جواب «لو لا» وجهان :

أظهرهما : أنه مذكور ، وهو قوله : «لهمّت».

والثاني : أنه محذوف ، أي : لأضلّوك ، ثم استأنف جملة فقال : «لهمّت» أي : لقد همّت.

قال أبو البقاء (٦) في هذا الوجه : ومثل حذف الجواب هنا حذفه في قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [النور : ١٠] وكأنّ الذي قدّر الجواب محذوفا ، استشكل كون قوله : «لهمت» جوابا ؛ لأنّ اللّفظ يقتضي انتفاء همّهم بذلك ، والغرض : أنّ الواقع كونهم همّوا على ما يروى في القصّة ؛ فلذلك قدّره محذوفا ، والذي جعله مثبتا ، أجاب عن ذلك بأحد وجهين :

إمّا بتخصيص الهمّ ، أى : لهمّت همّا يؤثّر عندك.

وإمّا بتخصيص الإضلال ، أي : يضلّونك عن دينك وشريعتك ، وكلا هذين الهمّين لم يقع.

و (أَنْ يُضِلُّوكَ) على حذف الباء ، أي : بأن يضلّوك ، ففي محلّها الخلاف المشهور ، و «من» في «من شيء» زائدة ، و «شيء» يراد به المصدر ، أي : وما يضرّونك ضررا قليلا ، ولا كثيرا.

فصل

هذا قول للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لو لا (٧) أن خصّك الله بالنّبوّة والرّحمة ، (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ) : لقد

__________________

(١) في أ : الذي.

(٢) في ب : بهيت.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٤٤.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٤٥.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٤.

(٧) في أ : قولا.

١٣

همّت طائفة ، أي : أضمرت طائفة منهم ، يعني : قوم طعمة ، (أَنْ يُضِلُّوكَ) أي : يخطّئوك في الحكم ، ويلبسوا عليك الأمر ؛ حتّى تدافع عن طعمة ، (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يعني : يرجع وباله عليهم ، (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) فيه وجهان :

الأوّل : قال القفّال ـ رحمه‌الله تعالى ـ وما يضرّونك في المستقبل ، فوعده ـ تعالى ـ بإدامة العصمة لما يريدون من إيقاعه في الباطل.

الثّاني : المعنى : أنّهم وإن سعوا في إلقائك (١) فأنت ما وقعت في الباطل : لأنّك بنيت الأمر على ظاهر الحال ، وأنت ما أمرت إلا ببناء (٢) الأحكام على الظّاهر.

ثم قال : (وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) وهذا مؤكد لذلك الوعد إن فسّرنا قوله : (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) بالوعد والعصمة في المستقبل ، يعني : لما أنزل عليك الكتاب والحكمة ، وأمرك بتبليغ الشّريعة إلى الخلق ، فكيف يليق بحكمته ألّا يعصمك عن الوقوع في الشّبهات ، وإن فسّرنا الآية بأنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان معذورا في بناء الحكم على الظّاهر ، كان المعنى : وأنزل عليك الكتاب والحكمة ، وأوجب فيها بناء أحكام (٣) [الشّرع](٤) على الظّاهر ، فكيف يضرّك بناء الأمر على الظّاهر.

قال القرطبي (٥) : قوله [تعالى](٦) : (وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ابتداء كلام.

وقيل : «الواو» للحال ؛ كقوله : «جئتك والشمس طالعة» ، والكلام متّصل ، أي : (ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) مع إنزال (اللهِ عَلَيْكَ)(٧) القرآن ، «والحكمة» : القضاء بالوحي.

ثم قال : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

قال القفّال : هذه الآية تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد [ما يتعلّق](٨) بالدّين ؛ كما قال : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] فيكون تقدير الآية : أنزل عليك الكتاب والحكمة ، وأطلعك على أسرارها ، مع أنّك قبل ذلك لم تكن عالما بشيء منهما ، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيّامك ، لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك.

الثاني : أن المراد : وعلّمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين ؛ فكذلك يعلّمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ، ما تقدر [به](٩) على الاحتراز عن كيدهم ومكرهم.

(وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). وهذا يدلّ على أنّ العلم أشرف الفضائل

__________________

(١) في ب : أتعابك.

(٢) في أ : لأتيان.

(٣) في ب : الأحكام.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٤٥.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

١٤

والمناقب ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] ثم إنّه سمّى ذلك القليل عظيما ، وسمّى جميع الدّنيا قليلا ، لقوله [ـ تعالى ـ](١) : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) [النساء : ٧٧] وذلك يدلّ على شرف العلم.

قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(١١٤)

(٢) قال الواحدي (٣) : النّجوى في اللّغة سر بين اثنين ، يقال : ناجيت الرّجل مناجاة ونجاء ، ويقال : نجوت الرّجل أنجو بمعنى : ناجيته ، والنّجوى قد تكون مصدرا بمنزلة المناجاة ، قال ـ تعالى ـ : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] وقد يطلق على الأشخاص مجازا ، قال ـ تعالى ـ : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الإسراء : ٤٧] ومعناها : المسارّة ، ولا تكون إلا من اثنين فأكثر.

وقال الزّجّاج (٤) : [النّجوى](٥) ما تفرّد به الاثنان فأكثر ، سرّا كان أو ظاهرا.

وقيل : النّجوى جمع نجيّ ؛ نقله الكرماني ، والنّجوى مشتقّة من نجوت الشيء ، أنجوه ، إذا خلّصته وأفردته ، والنّجوة المرتفع من الأرض ؛ لانفراده بارتفاعه عمّا حوله.

فصل فيمن المقصود بالآية؟

والمراد بالآية : قوم طعمة.

وقال مجاهد : الآية عامّة في حقّ جميع النّاس (٦) ، والنّجوى : هي الإسرار (٧) في التّدبير.

وقيل : النّجوى : ما ينفرد بتدبيره قوم ، سرّا كان أو علانية ، ومعنى الآية : لا خير في كثير مما يدبّرونه بينهم ، إلّا من أمر بصدقة ، أو معروف ، أو إصلاح بين النّاس فالاستثناء يكون متّصلا ، وقيل : هو استثناء منقطع بمعنى : لكن من أمر بصدقة ، وهذان القولان مبنيّان على أن النّجوى يجوز أن يراد بها : المصدر كالدّعوى ؛ فتكون بمعنى : التناجي ، وأن يراد بها : القوم المتناجون إطلاقا للمصدر على الواقع منه مجازا ، نحو : «رجل عدل وصوم». فعلى الأول يكون منقطعا ؛ لأنّ من أمر ليس تناجيا ؛ فكأنه قيل : لكن من أمر بصدقة ، ففي نجواه الخير ، والكوفيّون يقدّرون المنقطع ب «بل» ، وجعل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٣٣.

(٤) ينظر : معاني القرآن ٢ / ١١٤.

(٥) سقط في ب.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨٦) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن عكرمة.

(٧) في ب : السرار.

١٥

بعضهم الاستثناء متّصلا ، وإن أريد بالنّجوى : المصدر ، وذلك على حذف مضاف ؛ كأنه قيل : إلا نجوى من أمر وعلى هذا يجوز في محلّ «من» وجهان :

أحدهما : الخفض بدل من «نجواهم» ؛ كما تقول : «ما مررت بأحد إلا زيد».

والثاني : النّصب على الاستثناء [كما تقول : «ما جاءني أحد إلا زيد ، على الاستثناء]؛ (١) لأنّ هذا استثناء الجنس من الجنس وإن جعلنا النّجوى بمعنى : المتناجين ، كان متّصلا ، وقد عرفت ممّا تقدّم أن المنقطع منصوب أبدا في لغة الحجاز ، وأنّ بني تميم يجرونه مجرى المتّصل ، بشرط توجّه العامل عليه ، وأنّ الكلام إذا كان نفيا أو شبهه ، جاز في المستثنى الإتباع بدلا ، وهو المختار ، والنّصب على أصل الاستثناء ، فقوله (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) : إما منصوب على الاستثناء المنقطع ، إن جعلته منقطعا في لغة الحجاز ، أو على أصل الاستثناء إن جعلته متّصلا ، وإمّا مجرور على البدل من «كثير» ، أو من «نجواهم» ، أو صفة لأحدهما ؛ كما تقول : «لا تمرّ بجماعة من القوم إلا زيد» إن [شئت] جعلت زيدا تابعا للجماعة أو للقوم ، ولم يجعله الزّمخشري تابعا إلا «لكثير» قال : إلا نجوى من أمر ، على أنّه مجرور بدل من «كثير» ؛ كما تقول : «لا خير في قيامهم إلا قيام زيد» وفي التّنظير بالمثال نظر لا تخفى مباينته للآية ، هذا كلّه إن جعلنا الاستثناء متصلا بالتّأويلين المذكورين ، أو منقطعا على لغة تميم ، وتلخّص فيه ستّة أوجه : النّصب على الانقطاع في لغة الحجاز ، أو على أصل الاستثناء ، والجرّ على البدل من «كثير» ، أو من «نجواهم» ، أو على الصّفة لأحدهما.

و (مِنْ نَجْواهُمْ) متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «كثير» في محلّ جر.

فصل

إنّما ذكر ـ تعالى ـ هذه الأقسام الثّلاثة ؛ لأن عمل الخير ، إمّا أن يكون بإيصال المنفعة ، أو بدفع المضرّة ، وإيصال الخير :

إمّا أن يكون من الخيرات الجسمانيّة ، وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله : «إلا من أمر بصدقة».

وإمّا أن يكون من الخيرات الرّوحانية ، وإليه الإشارة بقوله : «أو معروف» (٢).

وإمّا إزالة الضّرر وإليه الإشارة بقوله : (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ).

قوله «بين» يجوز أن يكون منصوبا بنفس إصلاح ، تقول : أصلحت بين القوم ، قال ـ تعالى ـ : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات : ١٠] ، وأن يتعلّق بمحذوف على أنّه صفة لإصلاح.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : بالأمر بالمعروف.

١٦

[و](١) قوله : «ومن يفعل ذلك» أي : هذه الأشياء ، (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي : طلب رضاه ، و «ابتغاء» مفعول من أجله ، وألف «مرضات» عن واو ، وقد تقدّم تحقيقه.

فإن قيل : كيف قال : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) ثم قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ).

فالجواب : أنّه ذكر الأمر بالخير ، ليدل به على فاعله ؛ لأنّ الآمر بالخير لما دخل في زمرة (٢) الخيّرين ، فبأن يدخل فاعل الخير فيهم أولى ، ويجوز أن يراد : ومن يأمر بذلك ، فعبر عن الأمر بالفعل ؛ لأنّ الأمر أيضا فعل من الأفعال.

ثم قال : «فسوف يؤتيه» (٣) بالياء نظرا إلى الاسم الظّاهر في قوله : (مَرْضاتِ اللهِ) ، وقرىء بالنّون ؛ نظرا لقوله بعد : «نولّه ، ونصله» وهو أوقع للتّعظيم.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)(١١٦)

تقدّم في آل عمران أن المضارع المجزوم ، والأمر من نحو : «لم يردد» و «ردّ» يجوز فيه الإدغام وتركه ، على تفصيل في ذلك وما فيه من اللّغات وتقدم الكلام في المشاقّة والشّقاق في البقرة ، وكذلك حكم الهاء في قوله : «نؤته» و «نصله».

وهذه الآية [نزلت](٤) في طعمة بن أبيرق ، وذلك أنّه لمّا ظهرت عليه السّرقة ، خاف على نفسه من قطع اليد والفضيحة ، فهرب مرتدّا إلى مكّة (٥).

فقال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي : يخالفه ، (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى): من التّوحيد والحدود ، (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : غير طريق المؤمنين ، [نولّه](٦) ما تولّى» أي : نكله [في الآخرة](٧) إلى ما تولّى في الدّنيا (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) فانتصب مصيرا على التّمييز ؛ كقولهم : «فلان طاب نفسا».

روي أن طعمة نزل على رجل من بني سليم من أهل مكّة ، يقال له : الحجّاج بن علاط ، فنقب [بيت الحجّاج ، ليسرقه ،] فسقط عليه حجر فلم يستطع أن يدخل ، ولا أن

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : ميرة.

(٣) قرأها بالياء أبو عمرو وحمزة.

ينظر : السبعة ٢٣٧ ، والحجة ٣ / ١٨١ ، والعنوان ٨٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٧ ، وحجة القراءات ٢١١ ، وشرح شعلة ٣٤٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢١٨ ، وإتحاف ١ / ٥٢٠.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ١٨٢ ـ ١٨٣) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

١٧

يخرج ، فأخذ ليقتل ، فقال بعضهم : دعوه ، فقد لجأ (١) إليكم ، فتركوه ، وأخرجوه من مكة ، فخرج مع تجّار من قضاعة نحو الشّام ، فنزلوا منزلا ، فسرق بعض متاعهم وهرب ، فطلبوه ، وأخذوه ورموه بالحجارة ؛ حتّى قتلوه ، فصار قبره تلك الحجارة (٢) ، وقيل : إنه ركب سفينة إلى جدة ، فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ ، وألقي في البحر ، وقيل : إنه نزل في حرّة بني سليم ، وكان (٣) يعبد صنما لهم إلى أن مات ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي : ذهب عن الطّريق ، وحرم الخير كلّه.

وقال الضّحّاك عن ابن عبّاس : إنّ هذه الآية نزلت في شيخ من الأعراب ، جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا نبيّ الله ، إنّي شيخ منهمك في الذّنوب ، إلّا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ، ولم أتّخذ من دونه وليّا ، ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ، وما توهّمت طرفة عين أنّي أعجز الله هربا ، وإنّي لنادم ، تائب ، مستغفر ، فما حالي؟ فأنزل الله هذه الآية (٤).

فصل في استدلال الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على حجية الاجماع

روي (٥) أن الشّافعي ـ رضي الله عنه ـ سئل عن آية في كتاب الله ـ تعالى ـ تدلّ على أنّ الإجماع حجّة ، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرّة ، حتّى وجد هذه الآية (٦) ، وتقرير الاستدلال ، أن اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام [فوجب أن يكون اتّباع سبيل المؤمنين واجبا](٧) بيان المقدّمة الأولى : أنه ـ تعالى ـ ألحق الوعيد بمن يشاقق الرّسول ، ويتّبع غير سبيل المؤمنين ، ولو لم يكن ذلك موجبا ، لكان ذلك ضمّا لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقلّ باقتضاء ذلك الوعيد ، وإنّه غير جائز ، وإذا كان اتّباع غير سبيل المؤمنين حراما ، لزم أن يكون اتّباع سبيل المؤمنين واجبا ، وإذا كان عدم اتّباعهم حراما ، كان اتّباعهم واجبا ؛ لأنّه لا خروج عن طرفي النّقيض.

فإن قيل : لا نسلّم (٨) أنّ عدم اتّباع سبيل المؤمنين ، يصدق عليه أنّه اتّباع لغير سبيل المؤمنين ، فإنه [لا يمتنع ألّا](٩) يتّبع لا سبيل [المؤمنين](١٠) ولا غير سبيل المؤمنين.

الجواب : أنّ المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل ما فعل الغير ، وإذا كان من شأن غير

__________________

(١) في أ : جاء.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ١٨٥ ـ ١٨٦) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٨٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٣) في أ : فكان.

(٤) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٤٨٠ ـ ٤٨١.

(٥) في ب : قيل.

(٦) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١١ / ٣٥).

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : الأسلم.

(٩) في ب : يمنع أن.

(١٠) سقط في أ.

١٨

المؤمنين ألّا يتّبعوا سبيل المؤمنين ، فكلّ من لم يتّبع سبيل المؤمنين ، فقد أتى بمثل ما فعل غير المؤمنين ؛ فوجب كونه متّبعا لهم.

ولقائل أن يقول : الاتّباع ليس عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير ، وإلا لزم أن يقال : الأنبياء (١) والملائكة يتبعون لآحاد الخلق من حيث إنّهم يوحّدون الله [ـ تعالى ـ](٢) لما أن كلّ واحد من آحاد الأمّة يوحّد الله ـ تعالى ـ ، ومعلوم أنّ ذلك لا يقال ، بل الاتّباع عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير ، لأجل أنه فعل ذلك الغير ، ومن كان كذلك فمن (٣) ترك متابعة سبيل المؤمنين ؛ لأجل أنّه ما وجد على وجوب متابعتهم دليلا ، فلا جرم لم يتّبعهم ، فهذا شخص لا يكون متّبعا لغير سبيل المؤمنين.

وقال ابن الخطيب (٤) : وهذا سؤال قويّ على هذا الدّليل ، وفيه أبحاث أخر دقيقة ذكرناها في كتاب المحصول.

فصل

قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية قد تقدّم بيان سبب نزولها ، والفائدة في تكرارها ؛ أن الله ـ تعالى ـ ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرّتين ، وقد أعاد هذه الاية بلفظ واحد ، وهي من آيات الوعد ؛ فدل ذلك على أنّه ـ تعالى ـ خصّ جانب الوعد والرّحمة بمزيد التّأكيد.

فإن قيل : لم ختم تلك الآية بقوله : (فَقَدِ افْتَرى) وهذه بقوله : (فَقَدْ ضَلَّ).

فالجواب : أنّ ذلك في غاية المناسبة ، فإن الأولى في شأن أهل الكتاب من أنّهم عندهم علم بصحّة نبوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وأن شريعته ناسخة لجميع الشّرائع ، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك ، فافتروا على الله ـ تعالى ـ ، وهذه في شأن قوم مشركين غير أهل كتاب ولا علم ، فناسب وصفهم بالضّلال ، وأيضا : فقد تقدّم ذكر الهدى ، وهو ضدّ الضلال.

قوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً)(١٢١)

(٥) «إن» هنا معناها : النّفي ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ

__________________

(١) في أ : الأتباع.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : فقد.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٣٥.

(٥) سقط في ب.

١٩

مَوْتِهِ) [النساء : ١٥٩] (وَيُدْعَوْنَ) : بمعنى : يعبدون ، نزلت في أهل مكّة ، أي : يعبدون ، كقوله [ـ تعالى ـ](١) : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) [غافر : ٦٠] فإنّ من عبد شيئا ، فإنّه يدعوه عند احتياجه إليه ، وقوله : (مِنْ دُونِهِ) أي : من دون الله.

قوله : (إِلَّا إِناثاً) : في هذه اللّفظة تسع قراءات (٢) :

المشهورة : وهي جمع أنثى ، نحو : رباب جمع ربّى.

والثانية : وبها قرأ الحسن : «أنثى» بالإفراد ، والمراد به الجمع.

والثالثة : ـ وبها قرأ ابن عبّاس ، وأبو حيوة ، وعطاء ، والحسن أيضا ، ومعاذ القارىء ، وأبو العالية ، وأبو نهيك ـ : «إلا أنثا» كرسل ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : ـ [وبه] قال ابن جرير ـ أنه جمع «إناث» ؛ كثمار وثمر ، وإناث جمع أنثى ، فهو جمع الجمع ، وهو شاذّ عند النحويّين.

والثاني : أنه جمع «أنيث» كقليب وقلب ، وغدير وغدر ، والأنيث من الرّجال : المخنّث الضّعيف ، ومنه «سيف أنيث ، ومئناث ، ومئناثة» أي : غير قاطع قال صخر : [الوافر]

١٨٧٧ ـ فتخبره بأنّ العقل عندي

جراز لا أفلّ ولا أنيث (٣)

والثّالث : أنه مفرد أي : يكون من الصّفات التي جاءت على فعل ، نحو : امرأة حنث.

والرابعة : ـ وبها قرأ سعد بن أبي وقّاص ، وابن عمر ، وأبو الجوزاء ـ «وثنا» بفتح الواو والثّاء على أنّه مفرد يراد به الجمع.

والخامسة ـ وبها قرأ سعيد بن المسيب ، ومسلم بن جندب ، وابن عبّاس أيضا ـ «أثنا» بضم الهمزة والثاء ، وفيها وجهان :

أظهرهما : أنه جمع وثن ، نحو : «أسد وأسد» ثم قلب الواو همزة ؛ لضمّها ضمّا لازما ، والأصل : «وثن» ثم أثن.

والثاني : أن «وثنا» المفرد جمع على «وثان» نحو : جمل وجمال ، وجبل وجبال ، ثم جمع «وثان» على «وثن» نحو : حمار وحمر ، ثم قلبت الواو همزة لما تقدّم ؛ فهو جمع الجمع. وقد ردّ ابن عطيّة هذا الوجه بأنّ فعالا جمع كثرة ، وجموع الكثرة لا تجمع ثانيا ، إنما يجمع من الجموع ما كان من جموع القلّة. وفيه مناقشة من حيث إنّ الجمع لا

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر في هذه القراءات : المحرر الوجيز ٢ / ١١٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، والدر المصون ٢ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ، وإتحاف ١ / ٥٢٠.

(٣) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٣٦٨ واللسان (أنث) والدر المصون ٢ / ٤٢٧.

٢٠