اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

فصل

ومعنى الآية : حتى يميز المنافق من المخلص ، وقد ميّزهم يوم أحد ؛ حيث أظهروا النفاق ، وتخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن قيل : إنّ التمييز إن ظهر وانكشف ، فقد ظهر كفر المنافقين ، وظهور كفرهم ينفي كونهم منافقين ، وإن لم يظهر لم يحصل الوعد.

فالجواب : أنه ظهر بحيث يفيد (١) الامتياز الظنّيّ ، لا الامتياز القطعيّ.

قال قتادة : حتّى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد (٢).

قال الضّحّاك : «ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه» في أصلاب الرّجال ، وأرحام النّساء ، يا معشر المنافقين ، حتّى يفرق بينكم وبين من في أصلابكم ، وأرحام نسائكم من المؤمنين (٣).

وقيل : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) وهو الذنب «من الطّيّب» وهو المؤمن ، يعني يحطّ الأوزار عن المؤمنين بما يصيبهم من نكبة ومحنة ومصيبة.

وقيل : الخبيث : هو الكفر ، أذلّه الله وأخمده ، وأعلى الإسلام وأظهره ، فهذا هو التمييز.

قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) ومعناه : أنه لا يجوز أن يطلعكم على أصل ذلك التمييز ، فيقول : إنّ فلانا منافق ، وإن فلانا مؤمن ؛ فإن سنّة الله جارية بأنه لا يطلع عوامّ الناس على غيبه ، ولا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات ووقوع المحن والآفات ـ كما ذكرنا ـ وأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب ، فذلك من خواصّ الأنبياء ، فلهذا قال : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن ، وهذا منافق ، نظيره قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧].

ويحتمل أن يكون المعنى : وما كان الله ليجعلكم كلّكم عالمين بالغيب كعلم الرسول ، فتنشغلوا عن الرسول ، بل الله يخص من يشاء من عباده ، ثم يكلّف الباقين طاعة هذا الرسول.

قوله : (وَلكِنَ) هذا استدراك من معنى الكلام المتقدم ؛ لأنه تعالى ـ لما قال : (وَما

__________________

(١) في أ : يعتمد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٢٥) عن قتادة وزاد نسبته السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨٣) لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٨٤) عن الضحاك.

٨١

كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ) أوهم ذلك أنه لا يطلع أحدا على غيبه ؛ لعموم الخطاب ـ فاستدرك الرّسل. والمعنى : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) أي يصطفي (مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على الغيب ، فهو ضدّ لما قبله في المعنى ، وقد تقدم أنها تقع بين ضدّين ونقيضين ، وفي الخلافين خلاف.

يجتبي : يصطفي ويختار ، من : جبوت المال والماء ، وجبيتهما ـ لغتان ـ فالياء في يجتبي يحتمل أن تكون على أصلها ، ويحتمل أن تكون منقلبة عن واو ؛ لانكسار ما قبلها. ومفعول «يشاء» محذوف ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى ، والتقدير : يشاء إطلاعه على الغيب.

قوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) يعني أن هذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من وقوع الحوادث المكروهة في قصة أحد ، قد أجبنا عنها ، فلم يبق إلا أن تؤمنوا بالله ورسله. وإنما قال : «ورسله» ولم يقل : ورسوله ؛ لأن الطريقة الموصلة إلى الإقرار بنبوّة الأنبياء ليس إلا المعجز ، وهو حاصل في حقّ محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فوجب الإقرار بنبوة كل الأنبياء ، فلهذا قال : «ورسله» لأن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحد ، فمن أقر بنبوة واحد لزمه الإقرار بنبوّة الكلّ ، ثم لمّا أمرهم بذلك وعدهم بالثواب فقال : «وإن تؤمنوا وتتّقوا فلكم أجر عظيم».

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١٨٠)

لمّا حرّضهم على بذل النفس في الجهاد ـ فيما تقدم ـ حرضهم على بذل المال في الجهاد ، وبيّن الوعيد لمن يبخل.

قرأ حمزة بالخطاب في «تحسبنّ» والباقون بالغيبة (١) فأما قراءة حمزة ف «الّذين» مفعول أول ، و «خيرا» هو المفعول الثّاني ، ولا بد من حذف مضاف ؛ ليصدق الخبر على المبتدأ ، وتقديره : ولا تحسبن بخل الّذين يبخلون.

قال أبو البقاء : «وهو ضعيف ؛ لأن فيه إضمار البخل قبل ذكر ما يدل عليه».

وفيه نظر ؛ لأن دلالة المحذوف قد تكون متقدمة ، وقد تكون متأخرة ، وليس هذا من باب الإضمار في شيء ، حتّى يشترط فيه تقدّم ما يدل على ذلك الضمير.

و «هو» فيه وجهان :

الأول : أنه فصل بين مفعولي «يحسبنّ».

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، والحجة ٣ / ٩٩ ، والعنوان ٨١ ، وحجة القراءات ١٨٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٦ ، وشرح شعلة ٣٢٧ ، وإتحاف ١ / ٤٩٥.

٨٢

والثاني ـ قاله أبو البقاء ـ : أنه توكيد ، وهو خطأ ؛ لأنّ المضمر لا يؤكّد المظهر. والمفعول الأول اسم مظهر ، ولكنه حذف ـ كما تقدم ـ وبعضهم يعبّر عنه ، فيقول : أضمر المفعول الأول ـ يعني حذف فلا يعبر عنه بهذه العبارة.

و «هو» ـ في هذه المسألة ـ تتعين فصليته لأنه لا يخلو إمّا أن يكون مبتدأ ، أو بدلا ، أو توكيدا ، والأول منتف ؛ لنصب ما بعده ـ وهو خير ـ وكذلك الثاني ؛ لأنه كان يلزم أن يوافق ما قبله في الإعراب ، فكان ينبغي أن يقال : إياه ، لا «هو» وكذلك الثالث ـ كما تقدم.

أما قراءة الجماعة ، فيجوز فيها أن يكون الفعل مسندا إلى ضمير غائب ـ إما الرسول ، أو حاسب ما ـ ويجوز أن يكون مسندا إلى الذين فإن كان مسندا إلى ضمير غائب ، ف «الذين» مفعول أول ، على حذف مضاف ، كما تقدّم في قراءة حمزة ، أي : بخل الذين ، والتقدير : ولا يحسبنّ الرسول ـ أو أحد ـ بخل الذين يبخلون خيرا لأنفسهم. و «هو» فصل ـ كما تقدم ـ فتتحد القراءتان معنى وتخريجا. وإن كان مسندا إلى «الذين» ففي المفعول الأول وجهان :

أحدهما : أنه محذوف ؛ لدلالة «يبخلون» عليه ، كأنه قيل : ولا يحسبن الباخلون بخلهم هو خيرا لهم و «هو» فصل.

قال ابن عطية : «ودل على هذا البخل «يبخلون» كما دلّ «السّفيه» على السّفه في قول الشاعر :

١٧٠١ ـ إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى خلاف (١)

أي : جرى إلى السفه.

قال أبو حيّان : وليست الدلالة فيهما سواء ، لوجهين :

أحدهما : أن الدالّ في الآية هو الفعل ، وفي البيت هو اسم الفاعل ، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كثر إضمار المصدر ؛ لدلالة الفعل عليه ـ في القرآن وكلام العرب ـ ولم يؤثر دلالة اسم الفاعل على المصدر ، إنما جاء في هذا البيت ، أو في غيره إن وجد أن في الآية حذفا لظاهر ؛ إذ قدّروا المحذوف «بخلهم» وأما في البيت فهو اضمار لا حذف.

الوجه الثاني : أن المفعول نفس «هو» وهو ضمير البخل الذي دلّ عليه «يبخلون» ـ كقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ـ قاله أبو البقاء. وهو غلط أيضا ، لأنه كان ينبغي أن يأتي به بصيغة المنصوب ، فيقول : «إياه» لكونه منصوبا ب «يحسبن» ولا ضرورة بنا إلى أن ندّعي أنه من باب استعارة ضمير الرفع مكان النصب كقولهم : ما أنا كأنت ، ولا أنت كأنا.

__________________

(١) تقدم.

٨٣

وفي الآية وجه غريب ، خرّجه أبو حيّان ، قال : «وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسندا ل «الذين» وذلك أن «يحسبنّ» يطلب مفعولين ، و «يبخلون» يطلب مفعولا بحرف جر فقوله «ما آتاهم» يطلبه «يحسبنّ» على أن يكون المفعول الأول ، ويكون «هو» فصلا ، و «خيرا» المفعول الثاني ، ويطلبه «يبخلون» بتوسّط حرف الجر ، فأعمل الثاني ـ على الأفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن ـ وهو «يبخلون» فعدي بحرف الجر ، وأخذ معموله ، وحذف معمول «يحسبنّ» الأول ، وبقي معموله الثاني ؛ لأنه لم يتنازع فيه ، إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول ، وساغ حذفه ـ وحده ـ كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو قلت : زيد منطلق؟ لأن رأيت وقلت ـ في هذه المسألة ـ تنازعا في زيد منطلق ، وفي الآية لم يتنازعا إلّا في الأول ، وتقدير المعنى : ولا يحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم الناس الذين يبخلون به ، فعلى هذا التقدير يكون «هو» فصلا ل «ما آتاهم» المحذوف ، لا لبخلهم المقدّر في قول الجماعة.

ونظير هذا التركيب : ظنّ الذي مرّ بهند هي المنطلقة ، المعنى : ظن هند الشخص الذي مر بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأول ، فأعمل الفعل الثاني فيه ، وبقي الأول يطلب محذوفا ، ويطلب الثاني مثبتا ، إذ لم يقع فيه التنازع.

ومع غرابة هذا التخريج ، وتطويله بالتنظير والتقدير ، فيه نظر ؛ وذلك أن النحويين نصوا على أنه إذا أعملنا الفعل الثاني ، واحتاج الأول إلى ضمير المتنازع فيه ، فإن كان يطلبه مرفوعا أضمر فيه ، وإن كان يطلبه غير مرفوع حذف ، إلا أن يكون أحد مفعولي «ظن» فلا يحذف ، بل يضمر ويؤخر وعللوا ذلك بأنه لو حذف لبقي خبر دون مخبر عنه ـ أو بالعكس ـ وهذا مذهب البصريين ، وفيه بحث ، لأن لقائل أن يقول : حذف اختصارا ، لا اقتصارا ، وأنتم تجيزون حذف أحدهما اختصارا في غير التنازع ، فليجز في التنازع ؛ إذ لا فارق ، وحينئذ يقوى تخريج الشّيخ بهذا البحث ، أو يلتزم القول بمذهب الكوفيين ، فإنهم يجيزون الحذف فيما نحن فيه.

وذكر مكيّ ترجيح كلّ من القراءتين ، فقال : «فأما القراءة بالتاء ـ وهي قراءة حمزة ـ فإنه جعل المخاطب هو الفاعل ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم و «الذين» مفعول أول ـ على تقدير حذف مضاف ، وإقامة المضاف إليه ـ الذين ـ مقامه ـ و «هو» فصل ، و «خيرا» مفعول ثان ، تقديره : ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيرا لهم ، ولا بد من هذا الإضمار ، ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى ، وفيها نظر ؛ لجواز ما في الصلة تفسير ما قبل الصلة ، على أن في هذه مزية على القراءة بالياء ؛ لأنك إذا حذفت المفعول أبقيت المضاف إليه يقوم مقامه ، ولو حذفت المفعول في قراءة الياء لم يبق ما يقوم مقامه. وفي القراءة بالياء ـ أيضا ـ مزية على القراءة بالتاء ، وذلك أنك حذفت البخل بعد تقدّم

٨٤

«يبخلون» وفي القراءة بالتاء حذفت البخل قبل إتيان «يبخلون» وجعلت ما في صلة «الذين» تفسير ما قبل الصلة ، فالقراءتان متوازيتان في القوة والضّعف».

والميراث : مصدر كالميعاد ، وياؤه منقلبة عن واو ، لانكسار ما قبلها ـ وهي ساكنة ـ لأنها من الوراثة كالميقات والميزان ـ من الوقت والوزن ـ وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يعملون» بالغيبة ، جريا على قوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ)(١) ـ والباقون بالخطاب ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنه التفات ، فالمراد : الذين يبخلون.

الثاني : أنه ردّ على قوله : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا).

فصل

الآية دالّة على ذمّ البخل بشيء من الخيرات سواء كان مالا أو علما.

فإن كان على البخل بالمال فالمعنى : لا يحسبن البخلاء أن بخلهم هو خير لهم ، بل هو شرّ لهم ، لأن المال يزول ، ويبقي عقاب بخلهم عليهم ، كما قال : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا هو المراد من قوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ابن مسعود وابن عباس ، وأبو وائل والشعبيّ والسّدّي : يجعل ما منعه من الزكاة حيّة يطوّق بها في عنقه يوم القيامة تنهشه من رأسه إلى قدمه (٢).

وإن كان المراد البخل بالعلم ؛ فلأنّ اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان ذلك الكتمان بخلا ، ولا شك أن العلم فضل من الله.

والقول الأول أولى ؛ لقوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وإذا فسّرنا الآية بالعلم احتجنا إلى تحمّل المجاز ، وإذا فسّرناها بالمال لم نحتج إلى المجاز.

وأيضا فالحمل على البخل بالمال تكون الآية ترغيبا في بذل المال في الجهاد ، فيحسن نظم الآية مع ما قبلها ، وبحملها على البخل بالعلم ينقطع النّظم إلا بتكلّف بعيد.

__________________

(١) انظر : السبعة ٢٢٠ ، والحجة ٣ / ١١٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٤ ، وحجة القراءات ١٨٤ ، والعنوان ٨٢ ، وإتحاف ١ / ٤٩٦ ، وشرح شعلة ٣٢٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٣٦) والحاكم (٢ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩) عن عبد الله بن مسعود موقوفا.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٨٥) وزاد نسبته للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني.

وذكره أيضا الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣٢٩) وقال : رواه الدارقطني بأسانيد ورجال أحدها ثقات.

٨٥

فصل في اختلافهم في البخل في الآيات

اختلفوا في هذا البخل ، فقال أكثر العلماء : المراد به منع الواجب ، واستدلّوا بوجوه :

أحدها : أن الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل ، وذلك الوعيد لا يليق إلا بالواجب.

ثانيها : أن الله ـ تعالى ـ ذمّ البخل وعابه ، ومنع التطوّع لا يجوز أن يذمّ فاعله وأن يعاب به.

ثالثها : أنه لو كان تارك التفضّل بخيلا لوجب على من ملك المال العظيم أن يخرج الكلّ ، وإلا لم يتخلّص من الذم.

رابعها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وأيّ داء أدوأ من البخل» (١) ومعلوم أن تارك التطوّع لا يليق به هذا الوصف.

خامسها : أنه ـ تعالى ـ لا ينفك عن ترك التفضّل ؛ لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضّل ، وكل ما يدخل في الوجود ، فهو متناه ، فيكون لا محالة ـ تاركا للتفضّل فلو كان ترك التفضّل بخلا لزم أن يكون الله موصوفا بالبخل ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فصل

اعلم أنّ إنفاق الواجب أقسام :

منها : إنفاقه على نفسه ، وعلى أقاربه الذين تلزمه نفقتهم.

ومنها : الزكوات ، ومنها : ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدوّ يقصد قتلهم ومالهم ، فيجب عليهم إنفاق المال على من يدفع عنهم.

ومنها : دفع ما يسد رمق المضطر ، فهذه الإنفاقات واجبة.

قوله : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) اختلفوا في هذا الوعيد ، فقال ابن مسعود وابن عباس : إنّ هذه الأموال تصير حيّات يطوقون بها ـ كما تقدم ـ وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من آتاه الله مالا ، فلم يؤدّ زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يطوّقه يوم القيامة ثمّ يأخذ بلهزمتيه ـ يعني : شدقيه ـ ثمّ يقول : أنا مالك ، أنا كنزك» ثم تلا قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ).

__________________

(١) أخرجه الخطيب في «تاريخه» (٤ / ٢١٧) والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (٥٩) والطبراني في «الصغير» كما في «تخريج الإحياء» (٣ / ٢٤٩) وأبو نعيم كما في «كنز العمال» (٣٦٨٥٨).

والحديث أورده الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (١ / ٢٤٧) وقال : الحديث إسناده ضعيف.

وأخرجه البخاري (٦ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦) كتاب الخمس : باب (١٥) رقم (٣١٣٧) عن أبي بكر موقوفا.

٨٦

وقال مجاهد : معنى «سيطوّقون» سيكلّفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ، أي : يؤمرون بأداء ما منعوا ، فلا يمكنهم الإتيان به ، فيكون توبيخا.

وقيل : سيلزمون إثمه في الآخرة ، وهذا على طريق التمثيل ، يقال : فلان كالطّوق في رقبة فلان ، كما يقال : قلدتك هذا الأمر ، وجعلت هذا الأمر في عنقك ، قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣].

وإن حملنا البخل على البخل بالعلم كان معناه : أنّ الله تعالى يجعل في أعناقهم طوقا من نار ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سئل عن علم يعلمه ، فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار».

قوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيه وجهان :

أحدهما : أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما لهم يبخلون عليه بملكه ، كقوله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧].

ثانيهما ـ وهو قول الأكثرين ـ : أنه يفني أهل السموات والأرض ، ويبقي الأملاك ، ولا مالك لها إلا الله ، فجرى هذا مجرى الوراثة.

قال ابن الأنباريّ : يقال : ورث فلان علم فلان ، إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه ، وقال تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] لأنه انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه.

قال القرطبيّ : أخبر ـ تعالى ـ ببقائه ودوام ملكه ، وأنه في الأبد كهو في الأزل ، غنيّ عن العالمين ، فيرث الأرض بعد فناء خلقه ، وزوال أملاكهم ، فتبقى الأملاك والأموال لا مدعى فيها ، فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق ، وليس بميراث في الحقيقة ؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ مالك السموات والأرض وما بينهما ، وكانت السّموات وما فيها له ، وأن الأموال كانت عارية عند أربابها ، فإذا ماتوا ردّت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ثم قال : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٢)

في كيفية النظم وجهان :

الأول : أنه ـ تعالى ـ لما أمر المكلّفين ببذل النفس والمال في سبيل الله ـ فيما تقدم ـ وبالغ في تقرير ذلك ، قالت الكفار : إنه ـ تعالى ـ لما طلب الإنفاق في تحصيل مطلوبه كان فقيرا عاجزا ، والفقر على الله محال ، فطلبه للمال من عبيده محال ، وذلك يدل على كذب محمّد في إسناد هذا الطلب إلى الله.

٨٧

الثاني : أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرّب إلى الله تعالى بأموالهم ، كانت تجيء نار من السّماء فتحرقها ، فلما طلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم بذل المال في سبيل الله قالوا له : لو كنت نبيا لما طلبت الأموال لهذا الغرض ؛ فإنه ـ تعالى ـ ليس بفقير حتّى يحتاج ـ في إصلاح دينه ـ إلى أموالنا ، فلو كان يطلب أموالنا لجاءت نار من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبيّ.

قوله : (قالُوا إِنَ) العامل في «إنّ» هو «قالوا» ف «إنّ» وما في حيّزها منصوب المحل ب «قالوا» لا بالقول ، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني بين المصدر ، وهو «قول» وبين الفعل وهو «قالوا» تنازعا في «إنّ» وما في حيّزها ، قال : «ويجوز أن يكون معمولا ل «قول» المضاف ؛ لأنه مصدر ، وهذا يخرّج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو قول ضعيف ، ويزداد هنا ضعفا بأنّ الثاني فعل ، والأول مصدر ، وإعمال الفعل أقوى».

وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع ، وإنما الضعف عنده من جهة إعمال الأول ، فلو قدّرنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده ، لكنه يمنع من ذلك مانع آخر ، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ، ولا يجوز حذفه ، وهو ـ هنا ـ غير مذكور ، فدلّ على أنها ليست عنده من التنازع إلا على قول الكوفيين ، وهو ضعيف كما ذكر.

وانظر كيف أكّدوا الجملة المشتملة على ما أسندوه إليه ـ تعالى ـ وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف.

فصل

قال الحسن ومجاهد : لما نزل قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)(١) [البقرة: ٢٤]. قالت اليهود : إنّ الله فقير يستقرض منا ، ونحن أغنياء. وذكر الحسن أنّ قائل هذه المقالة هو حييّ بن أخطب.

وقال عكرمة والسدّيّ ومقاتل ومحمد بن إسحاق : كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع ؛ يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى إقام الصلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا ، فدخل أبو بكر ـ ذات يوم ـ بيت مدراسهم ، فوجد كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له : فنحاص بن عازوراء ، وكان من علمائهم ، ومعه حبر آخر ، يقال له : أشيع ، فقال أبو بكر لفنحاص : اتّق الله وأسلم ؛ فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فآمن وصدّق ، وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنّة ، ويضاعف لك الثّواب ،

__________________

(١) تقدم.

٨٨

فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقير من الغنيّ ، فإن كان ما تقول حقا فإن الله ـ إذن ـ فقير ونحن أغنياء ، وأنه ينهاكم عن الرّبا ويعطينا ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا ـ يعني في قوله : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] فغضب أبو بكر ، وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده لو لا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ، انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أبا بكر ، ما حملك على ما صنعت؟ قال يا رسول الله ، إن عدوّ الله قال قولا عظيما ، زعم أن الله فقير وهم أغنياء ، فغضبت لله ، وضربت وجهه ، فجحد ذلك فنحاص ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ هذه الآية ردّا على فنحاص ، وتصديقا لأبي بكر (١).

واعلم أنّ ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعة ؛ لقوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا) وأما ما روي عن فنحاص فلا يدل على أن غيره لم يقل ذلك ، والكتاب يشهد بأن القائلين جماعة ، فيجب القطع بذلك.

قوله : (سَنَكْتُبُ) قرأ حمزة بالياء ، مبنيا لما لم يسمّ فاعله (٢) ، و «ما» وصلتها قائم مقام الفاعل ، و «قتلهم» ـ بالرفع ـ عطفا على الموصول ، و «يقول» ـ بياء الغيبة ـ والمعنى : سيحفظ عليهم. والباقون بالنون للمتكلم العظيم ، ف «ما» منصوبة المحل ، و «قتلهم» بالنصب عطفا عليها ، و «نقول» بالنون ـ أيضا ـ والمعنى : سنأمر الحفظة بالكتابة.

وقرأ طلحة بن مصرّف «ستكتب» ـ بتاء التأنيث (٣) ـ على تأويل «ما قالوا» ب «مقالتهم». وقرأ ابن مسعود ـ وكذلك هي في مصحفه ـ سنكتب ما يقولون (٤) ويقال. والحسن والأعرج «سيكتب» ـ بالغيبة ـ (٥) مبنيا للفاعل ، أي : الله تعالى ، أو الملك.

و «ما» ـ في جميع ذلك ـ يجوز أن تكون موصولة اسمية ـ وهو الظاهر ـ وحذف العائد لاستكمال شروط الحذف ، تقديره : سنكتب الذي يقولونه ـ ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : قولهم ـ ويراد به ـ إذ ذاك ـ المفعول به ، أي : مقولهم ، كقولهم : ضرب الأمير.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٤١ ـ ٤٤٢) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٨٦) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

والخبر في «السيرة النبوية» لابن هشام (٢ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨).

(٢) انظر : السبعة ٢٢٠ ـ ٢٢١ ، والحجة ٣ / ١١٥ ، وحجة القراءات ١٨٤ ، والعنوان ٨٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٨٠ ، وشرح شعلة ٣٢٨ ، وإتحاف ١ / ٤٩٦.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٤٨ ، والبحر المحيط ٣ / ١٣٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٣.

(٤) انظر : السابق.

(٥) انظر البحر المحيط ٣ / ١٣٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٣ ، وإتحاف ١ / ٤٩٦.

٨٩

قوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي : ونكتب قتلهم ، أي : رضاهم بالقتل ، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء ، ولكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم ، وحسّن رجل عند الشعبي قتل عثمان ، فقال الشعبي : قد شركت في دمه ، فجعل الرضا بالقتل قتلا ، قال القرطبيّ : وهذه مسألة عظمى ، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية ، وقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكنديّ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ـ أو فأنكرها ـ كمن غاب عنها ، ومن غاب فرضيها كان كمن شهدها» (١) وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين.

والفائدة في ضمّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جهلهم ليس مخصوصا بهذا الوقت ، بل هم ـ منذ كانوا ـ مصرّون على الجهالات والحماقات.

ثم قال : (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : النار ، وهو بمعنى المحرق ـ كالأليم بمعنى المؤلم ـ وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت ، أو عند الحشر ، وإن لم يكن هناك قول.

فإن قيل : إنهم أوردوا سؤالا ، وهو أن من طلب المال من غيره كان فقيرا ، فلو طلب الله المال من عبيده لكان فقيرا ، وذلك محال ، فوجب أن يقال : إنه لم يطلب المال من عبيده ، وذلك قادح في كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقا في ادّعاء النّبوة ، فهذا هو شبهتهم ، فأين الجواب؟ وكيف يحسن ذكر الوعيد قبل ذكر الجواب عنها؟.

فالجواب : إن فرّعنا على قول أهل السّنّة والجماعة قلنا : يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر الله عبيده ببذل الأموال ، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء. وأما على قول المعتزلة ـ فإنه تعالى يراعي المصالح ـ فلا يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد ؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حبّ المال عن القلب ، وذلك من أعظم المنافع ، وتتفرع عليه مصالح كثيرة :

منها : أن إنفاقه سبب للبقاء المخلد في دار الثّواب.

ومنها : أن يصير القلب ـ بذلك الإنفاق ـ فارغا من حبّ ما سوى الله تعالى.

ومنها : أنه لو ترك الإنفاق لبقي حبّ المال في قلبه ، فتتألم روحه لمفارقته.

قوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ) مبتدأ وخبر ، تقديره : ذلك مستحق بما قدمت ، كذا قدره أبو البقاء ، وفيه نظر. و «ما» يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة ، و «ذلك» إشارة إلى ما قدّم من عقابهم ، وهذه الجملة تحتمل وجهين :

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٥٢٨) كتاب الملاحم باب الأمر والنهي رقم (٤٣٤٥) والطبراني في «الكبير» (١٧ / ١٣٩) عن العرس بن عبيدة وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٥٥٣٧) وعزاه أيضا للبيهقي عن أبي هريرة.

٩٠

أحدهما : أن تكون في محلّ نصب بالقول ؛ عطفا على «ذوقوا» كأنه قيل : ونقول لهم ـ أيضا ـ ذلك بما قدمت أيديكم ، وبّخوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب.

الثاني : أن لا تكون داخلة في حكاية القول ، بل تكون خطابا لمعاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم نزول الآية. وذكرت الأيدي ؛ لأن أكثر الأعمال تزاول بها ، قال القرطبيّ : «وخص الأيدي بالذكر ؛ ليدل على تولي الفعل ومباشرته ؛ إذ قد يضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به ، كقوله : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) [القصص : ٤] وأصل «أيديكم» أيديكم ، فحذفت الضمة ؛ لثقلها.

قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على «ما» المجرورة بالباء ، أي : ذلك العقاب حاصل بسبب كسبكم ، وعدم ظلمه لكم.

فإن قيل : إن «ظلاما» صيغه مبالغة ، تقتضي التكثير ، فهي أخص من «ظالم» ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، فإذا قلت : زيد ليس بظلام ، أي : ليس كثير الظّلم ـ مع جواز أن يكون ظالما ـ وإذا قلت : ليس بظالم ، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى : (لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)؟ فالجواب من وجوه :

الأول : أن «فعّالا» قد لا يراد به [التكثير](١) ، كقول طرفة : [الطويل]

١٧٠٢ ـ ولست بحلّال التّلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٢)

لا يريد ـ هنا ـ أنه قد يحل التلاع قليلا ؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نفي البخل على كل حال ، وأيضا تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.

الثاني : أنه للكثرة ، ولكنه لما كان مقابلا بالعباد ـ وهم كثيرون ـ ناسب أن يقابل الكثير بالكثير.

الثالث : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة ؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ـ كان للظلم القليل المنفعة أترك.

الرابع : أن يكون على النسب ، أي : لا ينسب إليه ظلم ، فيكون من باب بزّاز وعطّار ، كأنه قيل : ليس بذي ظلم ألبتة. ذكر هذه الأربعة أبو البقاء.

وقال القاضي أبو بكر : العذاب الذي توعد أن يفعله بهم ، لو كان ظلما لكان عظيما ، فنفاه على حدّ عظمه لو كان ثابتا.

وقال الراغب : «العبيد ـ إذا أضيف إلى الله تعالى ـ أعم من العباد ، ولهذا قال :

__________________

(١) في ب : المبالغة.

(٢) تقدم برقم ٢٠١.

٩١

(وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩] فنبّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته ، ومن انتسب إلى غيره من الذين يسمّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك».

وكأن الراغب قد قدّم الفرق بين «عبيد» و «عباد» فقال : وجمع العبد ـ الذي هو مسترق ـ عبيد وقيل : عبدّى وجمع العبد ـ الذي هو العابد ـ عباد ، وقد تقدم اشتقاق هذه اللّفظة وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة «ق».

فصل

قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم ، وإلا لم تكن مما قدمت أيديهم ، وأجيبوا بمسألة العلم والداعي على ما تقدم.

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٨٣)

يجوز في محل «الذين» الألقاب الثلاثة ، فالجرّ من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه صفة للفريق المخصوصين بإضافة «قول» إليه ـ في قوله : (قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا).

الثاني : أنه بدل منه.

الثالث : أنه صفة ل «العبيد» أي : ليس بظلّام للعبيد الذين قالوا كيت وكيت ، قاله الزّجّاج قال ابن عطيّة : «وهذا مفسد (١) للمعنى والوصف».

والرفع على القطع ـ بإضمار مبتدأ ـ أي : هم الذين ، وكذلك النصب على القطع ـ أيضا ـ بإضمار فعل لائق ، أي : أذم الذين.

قوله : «أن لا نؤمن» في «أن» وجهان :

أحدهما : أنها على حذف حرف الجرّ ، والأصل : في أن لا نؤمن ، وحينئذ يجيء فيها المذهبان المشهوران أهي في محلّ جرّ ، أو نصب.

الثاني : أنها مفعول بها ، على تضمين «عهد» معنى ألزم ، تقول : عهدت إليه كذا ـ أي : ألزمته إياه ـ فهي ـ على هذا ـ في محل نصب فقط.

و «أن» تكتب متصلة ، ومنفصلة ، اعتبارا بالأصل ، أو بالإدغام. ونقل أبو البقاء أن منهم من يحذفها في الخط ، اكتفاء بالتشديد ، وحكى مكي ـ عن المبرد ـ أنّها إن أدغمت بغير غنة كتبت متصلة ، إلا فمنفصلة. ونقل عن بعضهم أنها إن كانت مخففة كتبت منفصلة ، وإن كانت ناصبة كتبت متصلة.

__________________

(١) في ب : تفسير.

٩٢

والفرق أن المخففة معها ضمير مقدر ، فكأنه فاصل بينهما ، بخلاف الناصبة ، وقول أهل الخط ـ في مثل هذا ـ : تكتب متصلة ، عبارة عن حذفها في الخط بالكلية ؛ اعتبارا بلفظ الإدغام ، لا أنهم يكتبونها [متصلة](١) ، ويثبتون لها بعض صورتها ، فيكتبون : أنلا ، والدليل على ذلك أنهم لما قالوا في «أم من» و «أم ما» ونحوه بالاتصال ، إنما يعنون به كتابة حرف واحد ، فيكتبون أمّن ، وأما ، وفهم أبو البقاء أن الاتصال في ذلك عبارة عن كتابتهم لها في بعض صورتها ملتصقة ب «لا» ، والدليل على أنه فهم ذلك أنه قال : ومنهم من يحذفها في الخط ؛ اكتفاء بالتشديد.

فجعل الحذف قسيما للفصل والوصل ، ولا يقول أحد بهذا.

وتعدى «نؤمن» باللام ؛ لتضمّنه معنى الاعتراف. وقد تقدم في أول «البقرة» (٢).

وقرأ عيسى بن عمر «بقربان» ـ بضمتين ـ.

قال القرطبيّ : «كما قيل ـ في جمع ظلمة ـ ظلمات وفي حجرة ـ حجرات».

قال ابن عطية : إتباعا لضمة القاف ، وليس بلغة ؛ لأنه ليس في الكلام فعلان ـ بضم الفاء والعين ـ.

وحكى سيبويه : السّلطان ـ بضمّ اللام ـ وقال : إنّ ذلك على الإتباع.

قال أبو حيان : «ولم يقل سيبويه : إن ذلك على الإتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان ، ولا شيئا من هذا النحو ، ولكنه جاء فعلان ـ وهو قليل ـ قالوا : السلطان ، وهم اسم ، وقال الشّارح لكلام سيبويه : صاحب هذه اللغة لا يسكن ولا يتبع ، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقل ، قالوا ـ فيما لحقه زيادتان بعد اللام ، وعلى فعلان ـ ولم يجىء فعلان إلا اسما ، وهو قليل ، نحو سلطان».

قال شهاب الدّين (٣) : «أما ابن عطيّة فمسلم أنه وهم في النقل عن سيبويه في «سلطان» خاصة ، ولكن قوله في «قربان» صحيح ولأن أهل التصريف لم يستثنوا إلا السّلطان».

والقربان ـ في الأصل ـ مصدر ، ثم سمّي به المفعول ، كالرّهن ، فإنه في الأصل مصدر ، ولا حاجة إلى حذف مضاف ، وزعم أبو البقاء أنه على حذف مضاف ـ أي : تقريب قربان ـ قال : «أي : يشرع لنا ذلك».

وقوله : (تَأْكُلُهُ النَّارُ) صفة ل «قربان» وإسناد الأكل إليها مجاز ، عبّر عن إفنائها الأشياء بالأكل.

__________________

(١) في أ : منفصلة.

(٢) آية : ٣.

(٣) انظر المحرر الوجيز ١ / ٥٤٩ ، والبحر المحيط ٣ / ١٣٨ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٥.

٩٣

قوله : (مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) كلاهما متعلق ب «جاءكم» والباء تحتمل المعية والتعدية ، أي : مصاحبين للآيات.

فصل في رد شبهة الطاعنين في النبوة

هذه شبهة ثانية طعن بها الكفار في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقريرها : أنك يا محمد ـ لم تفعل كذلك ، فوجب ألا تكون نبيا ، قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصّيف وكعب بن أسد ، ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت ، وفنحاص بن عازوراء ، وحييّ بن أخطب ، أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا ، وأنزل عليك كتابا ، وقد عهد الله إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله ، حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدّقناك ، فأنزل الله هذه الآية (١).

والقربان : كل ما يتقرّب به العبد إلى الله ـ تعالى ـ من نسيكة ، وصدقة ، وعمل صالح.

قال الواحديّ : وأصله المصدر من قولك : قرب قربانا ـ كالكفران والرّجحان والخسران ـ ثم سمي به نفس المتقرّب به ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكعب بن عجرة ـ : «يا كعب ، الصّوم جنّة ، والصّلاة قربان» (٢).

قال القرطبيّ : «وهو فعلان ـ من القربة ـ ويكون اسما ، ومصدرا. فمثال الاسم : السّلطان والبرهان ومثال المصدر : العدوان والخسران».

فصل في بيان ادعاء اليهود

واختلفوا فيما ادّعاه اليهود.

فقال السّدّيّ : إن هذا الشرط جاء في التوراة ، ولكنه مع شرط ، وذلك أنه ـ تعالى ـ قال في التوراة : من جاءكم يزعم أنه رسول الله ، فلا تصدقوه ، حتى يأتيكم بقربان تأكله النار ، إلا المسيح ومحمد ، فإنهما إذا أتيا فآمنوا بهما ؛ فإنهما يأتيان بقربان لا تأكله النّار ، قال : وكانت هذه العادة باقية إلى مبعث المسيح ـ عليه‌السلام ـ فلما بعث المسيح ارتفعت وزالت.

وقال آخرون : إن ادعاء هذا الشرط كذب على التّوراة ، لأن القربان لم يكن في معجزات موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ وأيضا فإنه إذا كانت هذه معجزة ، فلا فرق بينها وبين باقي المعجزات ، فلم يكن لتخصيصها بالذكر فائدة.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٧٦.

(٢) انظر أسباب النزول للواحدي (٩٩) وتفسير البغوي (١ / ٤٦) وغرائب النيسابوري (٤ / ١٥٥) وتفسير الرازي (٩ / ١٢١) وتفسير القرطبي (٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩) والبحر المحيط لأبي حيان (٣ / ١٣٧).

٩٤

واعلم أنه ـ تعالى ـ أجاب عن هذه الشّبهة ، فقال : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) والمراد أسلافهم ، فبيّن ـ بهذا الكلام ـ أنهم إنما يطلبون ذلك على سبيل التعنّت ، لا على وجه الاسترشاد ، إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم.

فإن قيل : لم قال : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ) ولم يقل : جاءتكم رسل؟

فالجواب : أن فعل المؤنث يذكّر إذا تقدمه جمع تكسير.

والمراد بقوله : (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) هو ما طلبوه منه ، وهو القربان.

فإن قيل : إن القوم إنما طالبوه بالقربان ، فما الحكمة في أنه أجابهم بقوله : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) ثم أضاف إليه قوله : (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وهو القربان؟

فالجواب : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو قال لهم : إن الأنبياء المتقدمين أتوا بالقربان لم يلزم من ذلك وجوب الاعتراف بنبوتهم ؛ لاحتمال أن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة ، لا موجب لها ، والشرط هو الذي يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزم من وجوده وجود المشروط ، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الإلزام واردا عليهم ، فلما قال : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) كان الإلزام واردا عليهم ؛ لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للصدق ، ولما أتوا بالقربان فقد أتوا بالشرط ، فعند الإتيان بهما وجب الإقرار بالنبوة.

قال القرطبيّ ـ في معنى الآية ـ : «قل» يا محمد (قَدْ جاءَكُمْ) يا معشر اليهود (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) يعني زكريا ويحيى وشعيبا وسائر من قتلوا من الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ولم يؤمنوا بهم.

أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبيّ ، واحتج بها على الذي حسّن قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وأن الله تعالى سمي اليهود ـ لرضاهم بفعل أسلافهم ـ وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة.

قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ)(١٨٤)

قوله : (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ) ليس جوابا ، بل الجواب محذوف ، أي : فقل ، ونحوه ؛ لأن هذا قد مضى وتحقّق ، والجملة من «جاءوا» في محل رفع ، صفة ل «رسل» و «من قبلك» متعلق ب «كذّب» والباء في «بالبيّنات» تحتمل الوجهين ، كنظيرتها.

ومعنى الآية : فإن كذبوك في قولك : إنّ الأنبياء المتقدمين أتوا بالقربان.

ويحتمل أن يكون المعنى : فإن كذبوك في أصل النبوة ـ وهو أولى ـ والمراد بالبينات المعجزات.

٩٥

وقرأ الجمهور (وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ)(١) ـ من غير باء الجر ـ وقرأ ابن عامر «وبالزّبر» ـ بإعادتها (٢) ـ وهشام وحده عنه «وبالكتاب» ـ بإعادتها أيضا ـ وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابن عامر ، فمن لم يأت بها اكتفى بالعطف ، ومن أتى بها كان ذلك تأكيدا.

والزّبر : جمع زبور ـ بالفتح ـ ويقال : زبور ـ بالضم أيضا ـ وهل هما بمعنى واحد أو مختلفان؟ سيأتي الكلام عليهما ـ إن شاء الله تعالى ـ في النساء في قوله : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [النساء : ١٦٣]. واشتقاقه من زبرت : أي : كتبت وزبرته : قرأته ، وزبرته : حسّنت كتابته ، وزبرته : زجرته. فزبور ـ بالفتح ـ فعول بمعنى مفعول ـ كالركوب بمعنى :

المركوب ـ والحلوب ـ بمعنى المحلوب ـ والمعنى : الكتب المزبورة ، أي : المكتوبة ، والزّبر : جمع زبور ، وهو الكتاب.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٧٠٣ ـ لمن طلل أبصرته فشجاني

كخطّ زبور في عسيب يماني (٣)

وقيل : اشتقاق اللفظة من الزّبرة ، وهي قطعة الحديد المتروكة بحالها.

وقيل : الزبور من الزّبر ـ بمعنى : الزجر ـ تقول : زبرت الرجل : أي : نهرته. وزبرت البئر : أي : طويتها بالحجارة.

فإن قيل : لم عطف «الكتاب المنير» على «الزّبر» مع أن الكتاب المنير من الزّبر؟

فالجواب : لأن الكتاب المنير أشرف الكتب ، وأحسن الزبر ، فحسن العطف ، كقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب : ٧]. وقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨]. ووجه شرفه : كونه مشتملا على جميع الشريعة ، أو كونه باقيا على وجه الدّهر.

وقيل : المراد ب «الزّبر» الصّحف ، والمراد ب (الْكِتابِ الْمُنِيرِ) التوراة والإنجيل والزبور.

و «المنير» اسم فاعل من أنار ، أي : أضاء ، وهو الواضح. والمراد بهذه الآية ـ تسلية قلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما جرى على الأنبياء قبله.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٣٢١) والحاكم (٤ / ٤٢٢) وعبد الرزاق (٢٠٧١٩) وأخرجه الطبراني (١٩ / ١٤٥) بلفظ : يا كعب بن عجرة الصلاة برهان والصوم جنة.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٢٣٠) وعزاه لأبي يعلى وقال : ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن أبي إسرائيل وهو ثقة مأمون.

(٢) انظر : حجة القراءات ١٨٥ ، والكشف ١ / ٣٧٠ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٥ ، والعنوان ٨٢ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٨١ ، وشرح شعلة ٣٢٩ ، وإتحاف ١ / ٤٩٧.

(٣) ينظر : ديوانه (٨٥) ، والدر المصون ٢ / ٢٧٦ ، والبحر المحيط ٣ / ١٣٥.

٩٦

قوله تعالى :(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ)(١٨٥)

والمراد بهذه الآية ـ زيادة تأكيد التسلية والمبالغة في إزالة الحزن عن قلبه ؛ لأن من علم أن عاقبته الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان ، ولأن بعد هذه الدار دارا يتميز فيها المحسن من المسيء ، [والمحقّ من المبطل](١).

قوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) مبتدأ وخبر ، وسوّغ الابتداء بالنكرة العموم والإضافة.

والجمهور على (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ـ بخفض «الموت» ـ بالإضافة ، وهي إضافة غير محضة ؛ لأنها في نية الانفصال.

وقرأ اليزيديّ «ذائقة الموت» بالتنوين والنّصب في «الموت» على الأصل.

وقرأ الأعمش بعدم التنوين ونصب «الموت» وذلك على حذف التنوين ؛ لالتقاء الساكنين وإرادته وهو كقول الشاعر : [المتقارب]

١٧٠٤ ـ ..............

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (٢)

 ـ بنصب الجلالة ـ وقراءة من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ) [الإخلاص : ١ ، ٢] ـ بحذف التنوين من «أحد» لالتقاء الساكنين.

[ونقل](٣) أبو البقاء ـ فيها ـ قراءة غريبة ، وتخريجا غريبا ، قال : «وتقرأ شاذا ـ أيضا ـ ذائقة الموت (٤) على جعل الهاء ضمير «كل» على اللفظ ، وهو مبتدأ وخبر ، وإذا صحت هذه قراءة فتكون «كل» مبتدأ ، و «ذائقه» خبر مقدّم ، و «الموت» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر «كلّ» وأضيف «ذائق» إلى ضمير «كل» باعتبار لفظها ، ويكون هذا من باب القلب في الكلام ؛ لأن النفس هي التي تذوق الموت وليس الموت يذوقها ، وهنا جعل الموت هو الذي يذوق النفس ، قلبا للكلام ؛ لفهم المعنى ، كقولهم : عرضت الناقة على الحوض ،

__________________

(١) في أ : والحق من الباطل.

(٢) البيت لأبي الأسود الدؤلي ينظر ديوانه ص ٥٤ ، والأغاني ١٢ / ٣١٥ ، والأشباه والنظائر ٦ / ٢٠٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٧٤ ، ٣٧٨ ، ٣٧٩ ، والدرر ٦ / ٢٨٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٩٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٣٣ ، والكتاب ١ / ١٦٩ ، ولسان العرب (عتب) ، والمقتضب ٢ / ٣١٣ ، والمنصف ٢ / ٢٣١ ، والإنصاف ٢ / ٦٥٩ ، ورصف المباني ص ٤٩ ، ٣٥٩ ، ومجالس ثعلب ص ١٤٩ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥٣٤ ، وشرح المفصل ٢ / ٦ ، ٩ / ٣٤ ، ٣٥ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٥٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٩٩ والدر المصون ٢ / ٢٧٧.

(٣) في أ : وقرأ.

(٤) ونسبها ابن عطية في المحرر ١ / ٥٥٠ إلى أبي حيوة والأعمش. وانظر : البحر المحيط ٣ / ١٣٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٦.

٩٧

ومنه قوله : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) [الاحقاف : ٣٤] وقولك : أدخلت القلنسوة في رأسي.

وقول الشّاعر : [البسيط]

١٧٠٥ ـ مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت

نجران ، أو بلغت سوآتهم هجر (١)

الأصل : عرضت الحوض على الناقة ، ويوم تعرض النار على الذين كفروا ، وأدخلت رأسي في القلنسوة ، وبلغت سوآتهم هجر ، فقلبت. وسيأتي خلاف النّاس في القلب في موضعه إن شاء الله ـ تعالى ـ.

وكان أبو البقاء قد قدّم قبل هذا أن التأنيث في «ذائقة» إنما هو باعتبار معنى «كلّ» قال : «لأن كل نفس نفوس ، فلو ذكر على لفظ «كل» جاز ، يعني أنه لو قيل : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ) جاز ، وقد تقدّم أول البقرة أنه يجب [اعتبار] لفظ ما يضاف إليه إذا كان نكرة ولا يجوز أن يعتبر «كل» وتحقيق هذه المسألة هناك.

فصل

قال ابن الخطيب : هذه الآية من تمام التسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما بأن غموم الدنيا يقطعها الموت ، وما كان كذلك لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إليه. وإما لأن بعد هذه الدار دارا يتميز فيها المحسن من المسيء ، فلا يلتفت إلى غمّ الدنيا وبؤسها.

فإن قيل : قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] يقتضي الاندراج ، وأيضا فالنفس والذات واحد ، فتدخل الجمادات لأنهم ذوات ، ويقتضي موت أهل الجنّة ؛ لأنهم نفوس.

فالجواب : أنّ المراد : المكلّفون في دار التكليف ، لقوله ، عقيبها : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) وذلك لا يتأتّى إلا فيهم.

فصل

قالت الفلاسفة : الموت واجب للأجسام ؛ لأن الحياة الجسمانية إنما تحصل بالرطوبة والحرارة الغريزيتين ، ثم إن الحرارة تستمد من الرطوبة إلى أن تفنى ، فيحصل الموت قالوا : والآية تدل على أن النفوس لا تموت ؛ لأنه جعلها ذائقة ، والذائق لا بد أن يبقى حال الذوق والمعنى : ذائقة موت البدن ، ويدل ذلك ـ أيضا ـ على أنّ النفس غير البدن.

قوله : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ) «ما» كافة ل «إن» عن العمل ، قال مكيّ : «ولا يحسن أن تكون «ما» بمعنى الذي ، لأنه يلزم رفع «أجوركم» ولم يقرأ به أحد ، ولأنه يصير التقدير :

__________________

(١) تقدم.

٩٨

وإن الذي توفّونه أجوركم ، كقولك : إنّ الذي أكرمته عمرو ، وأيضا فإنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء».

يعني لو كانت «ما» موصولة لكانت اسم «إن» فيلزم ـ حينئذ ـ رفع «أجوركم» على أنه خبرها ، كقوله تعالى : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) [طه : ٦٩] ف «ما» ـ هنا ـ يجوز أن تكون بمعنى الذي ، أو مصدرية ، تقديره : إنّ الذي صنعوه ، أو إن صنعهم ، ولذلك رفع «كيد» ، خبرها. وقوله : وأيضا فإنك تفرق ... ، يعني أن (يَوْمَ الْقِيامَةِ) متعلق ب «توفّون» فهو من تمام الصلة فلو كانت «ما» موصولة لفصلت بالخبر ـ الذي هو «أجوركم» ـ بين أبعاض الصلة ـ التي هي الفعل ومعموله ـ ولا يخبر عن موصول إلا بعد تمام صلته ، وهذا وإن كان من الواضحات ، إلا أن فيه تنبيها على أصول العلم.

فصل

قال المفسّرون : أجر المؤمن الثواب ، وأجر الكافر العقاب ، ولم يعتد بالنعمة في الدنيا ـ أجرا وجزاء ـ لأنها عرضة للفناء.

قوله : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أدغم أبو عمرو الحاء في العين ، قالوا : لطول الكلمة ، وتكرير الحاء ، دون قوله : (ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] وقوله : (الْمَسِيحُ عِيسَى) [آل عمران : ٤٥] ونقل عنه الإدغام مطلقا ، وعدمه مطلقا والنحويون يمنعون ذلك ، ولا يجيزونه إلا بعد أن يقلبوا العين حاء ويدغموا الحاء فيها ، قالوا : لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف ، وهذا عكس الإدغام ، أن تقلب فيه الأول للثاني إلا في مسألتين : إحداهما : هذه ، والثانية : الحاء في الهاء ، نحو : امدح حلالا ـ بقلب الهاء حاء أيضا ـ ولذلك طعن بعضهم على قراءة أبي عمرو ، ولا يلتفت إليه ... ومعنى الكلام : (فَمَنْ زُحْزِحَ) أي : نحّي وأزيل عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.

قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ). المتاع : ما يتمتّع به ، وينتفع [به الناس ـ كالقدر](١) والقصعة ـ ثم يزول ولا يبقى قاله أكثر المفسّرين.

وقال الحسن : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات ، ولا حاصل له (٢).

وقال قتادة : هي متاع متروك ، يوشك أن يضمحلّ (٣) ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله ـ تعالى ـ ما استطاع.

وقوله : «الغرور» يجوز أن يكون مصدرا من قولك : غررت فلانا غرورا ، شبه بالمتاع الذي يدلس به على المستام ، ويغر عليه حتى يشتريه ، ثم يظهر فساده له ، ومنه

__________________

(١) في أ : كالفأس والقدر.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٣٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٦.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٨٩) وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.

٩٩

الحديث : «نهى عن بيع الغرر» ويجوز أن يكون جمعا.

وقرأ عبد الله بفتح الغين (١) وفسرها بالشيطان ويجوز أن يكون فعولا بمعنى مفعول ، أي : متاع الغرور ، أي : المخدوع ، وأصل الغرر : الخدع.

قال سعيد بن جبير : هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة ، وأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ.

قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(١٨٦)

وهذه الآية زيادة في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه بيّن له أنّ الكفار بعد أن آذوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين يوم أحد ، فسيؤذونهم ـ أيضا ـ في المستقبل في النفس والمال.

والمراد منه أن يوطّنوا أنفسهم على الصبر ؛ فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وقعه في قلبه بخلاف غير العالم فإنه يعظم عنده ويشقّ عليه.

قوله : (لَتُبْلَوُنَ) هذا جواب قسم محذوف ، تقديره : والله لتبلونّ ، وهذه الواو هي واو الضمير ، والواو التي هي لام الكلمة حذفت لأمر تصريفيّ ، وذلك أن أصله : لتبلووننّ ، فالنون الأولى للرفع ، حذفت لأجل نون التوكيد ، وتحرّكت الواو [الأولى](٢) ـ التي هي لام الكلمة ـ وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، فالتقى ساكنان ـ الألف وواو الضمير ـ فحذفت الألف ؛ لئلا يلتقيا ، وضمّت الواو ؛ دلالة على المحذوف. وإن شئت قلت : استثقلت الضمة على الواو الأولى ، فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الواو الأولى وحرّكت الثانية بحركة مجانسة ، دلالة على المحذوف. ولا يجوز قلب مثل هذه الواو همزة ؛ [لأن حركتها عارضة](٣) ولذلك لم [تقلب](٤) ألفا ، وإن تحرّكت وانفتح ما قبلها.

ويقال للواحد من المذكّر : لتبلونّ يا رجل وللاثنين : لتبليانّ يا رجلان ، ولجماعة الرجال : لتبلونّ.

وأصل «لتسمعنّ» : لتسمعوننّ ، ففعل فيه ما تقدم ، إلا أن هنا حذفت واو الضمير ؛ لأن قبلها حرفا صحيحا.

فصل في المراد بالابتلاء

معنى الابتلاء : الاختبار وطلب المعرفة ، ومعناه في وصف الله تعالى به معاملة

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٣٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٨.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : لأنها حركة عارضة.

(٤) في أ : تثبت.

١٠٠