اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

فصل

معنى : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) يعني : إن كان في قلوبكم حبّ الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام ، وإن لم تكونوا كذلك ، فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم.

وقال السّدّيّ ، وابن جريج : ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا ـ إن لم تقاتلوا معنا ـ لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة.

وقوله : (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) إنما لم يأت ـ في هذه الجملة ـ بحرف عطف ؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل : فما قالوا ـ لما قيل لهم ذلك ـ؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك. و «نعلم» ـ وإن كان مضارعا ـ معناه المضيّ ؛ لأن «لو» تخص المضارع ، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره ، ونكّر «قتالا» للتقليل ، أي : لو علمنا بعض قتال ما. وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم : (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) فقال تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ).

«هم» مبتدأ ، و «أقرب» خبره ، وهو أفعل تفضيل ، و «للكفر» متعلق به ، وكذلك «للإيمان».

فإن قيل : لا يتعلق حرفا جر ـ متحدان لفظا ومعنى ـ بعامل واحد ، إلا أن يكون أحدهما معطوفا على الآخر ، أو بدلا منه ، فكيف تعلقا ب «أقرب»؟

فالجواب : أن هذا خاصّ بأفعل التفضيل ، قالوا : لأنه في قوة عاملين ، فإنّ قولك زيد أفضل من عمرو ، معناه : يزيد فضله على فضل عمرو.

وقال أبو البقاء : «وجاز أن يعمل «أقرب» فيهما ؛ لأنهما يشبهان الظرف ، وكما عمل «أطيب» في قولهم : هذا بسرا أطيب منه رطبا ، في الظرفين المقدرين لأن «أفعل» يدل على معنيين ـ على أصل الفعل وزيادته ـ فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الآخر ، فتقديره : يزيد قربهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان».

ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين ؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك ، وقوله : الظرفين المقدّرين ، يعني أن المعنى : هذا في أوان بسريته أطيب منه.

و «أقرب» ـ هنا ـ من القرب ـ الذي هو ضد البعد ـ ويتعدى بثلاثة حروف : اللام ، و «إلى» و «من». تقول : قربت لك ومنك وإليك ، فإذا قلت : زيد أقرب من العلم من عمرو ، ف «من» الأولى المعدية لأصل معنى القرب ، والثانية هي الجارة للمفضول ، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى «إلى».

و «يومئذ» متعلق ب «أقرب» وكذا «منهم» و «من» هذه هي الجارة للمفضول بعد «أفعل» وليست هي المعدية لأصل الفعل.

٤١

ومعنى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أنهم كانوا ـ قبل هذا الوقت ـ كاتمين للنفاق ، فكانوا في الظاهر أبعد من الكفر ، فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمونه صاروا أقرب للكفر ؛ لأن رجوعهم عن معاونة المسلمين دلّ على أنهم ليسوا من المسلمين.

وقيل : المعنى أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ؛ لأن تقليلهم سواد المسلمين يؤدي إلى تقوية المشركين.

و «إذ» مضافة لجملة محذوفة ، عوّض منها التنوين ، وتقدير هذه الجملة : هم للكفر يوم إذ قالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم.

وقيل : المعنى على حذف مضاف ، أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان ، وفضّلوا ـ هنا ـ على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين ، ولو لا ذلك لم يجز ، تقول : زيد قاعدا أفضل منه قائما ، أو زيد قاعدا اليوم أفضل منه قاعدا غدا. ولو قلت : زيد اليوم قاعدا أفضل منه اليوم قاعدا. لم يجز.

وحكي النقاش ـ عن بعض المفسّرين ـ أن «أقرب» ـ هنا ـ ليست من معنى القرب ـ الذي هو ضد البعد ـ وإنما هي من القرب ـ بفتح القاف والراء ـ وهو طلب الماء ، ومنه قارب الماء ، وليلة القرب : ليلة الورود ، فالمعنى : هم أطلب للكفر ، وعلى هذا تتعين التعدية باللام ـ على حدّ قولك : زيد أضرب لعمرو.

فصل

قال أكثر العلماء : هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار.

قال الحسن : إذا قال الله تعالى : «أقرب» فهو اليقين بأنهم مشركون ، وهو مثل قوله : (مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] فهذه الزيادة لا شك فيها ، وأيضا فالمكلّف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكفر فلما دلّت الآية على القرب من الكفر لزم حصول الكفر. وقال الواحديّ ـ في «البسيط» : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، ولم يطلق القول بتكفيره ؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يطلق القول بتكفيرهم ـ مع أنهم كانوا كافرين ـ لإظهارهم كلمة التوحيد.

قوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها مستأنفة ، لا محلّ لها من الإعراب.

الثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمير في «أقرب» أي : قربوا للكفر قائلين هذه المقالة ـ وقوله : (بِأَفْواهِهِمْ) قيل : تأكيد ، كقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]. والظاهر أن القول يطلق على اللساني والنفساني ، فتقييده بقوله : (بِأَفْواهِهِمْ) تقييد لأحد محتمليه ، اللهم إلا أن يقال : إن إطلاقه على النفسانيّ مجاز ، قال

٤٢

الزمخشري : «وذكر الأفواه مع القلوب ؛ تصويرا لنفاقهم ، وأن إيمانهم موجود في أفواههم ، معدوم في قلوبهم».

وبهذا ـ الذي قاله الزمخشريّ ـ ينتفي كونه للتأكيد ؛ لتحصيله هذه الفائدة ـ ومعنى الآية: أن لسانهم مخالف لقلوبهم ، فهم وإن كانوا يظهرون الإيمان باللسان ، لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر.

قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) أي : عالم بما في ضمائرهم.

فإن قيل : المعلوم إذا علمه عالمان لم يكن أحدهما أعلم به من الآخر ، فما معنى قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ)؟

فالجواب : أنّ الله ـ تعالى ـ يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره.

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٦٨)

جوّزوا في موضع «الذين» الألقاب الثلاثة : الرفع والنصب والجر ، فالرفع من ثلاثة أوجه:

أحدها : أن يكون مرفوعا على خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم الذين.

ثانيها : أنه بدل من واو «يكتمون».

ثالثها : أنه مبتدأ ، والخبر قوله : (قُلْ فَادْرَؤُا) ولا بدّ من حذف عائد ، تقديره : قل لهم.

والنصب من ثلاثة أوجه ـ أيضا ـ :

أحدها : النصب على الذّم ، أي : أذم الذين قالوا.

ثانيها : أنه بدل من (الَّذِينَ نافَقُوا).

ثالثها : أنه صفة.

والجر من وجهين : البدل من الضمير في «بأفواههم» أو من الضمير في «قلوبهم» كقول الفرزدق : [الطويل]

١٦٨٧ ـ على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (١)

بجر «حاتم» على أنه بدل من الهاء في «جوده» ـ وقد تقدم الخلاف في هذه المسألة وقال أبو حيان : وجوّزوا في إعراب «الذين» وجوها :

الرفع ، على النعت ل «الذين نافقوا» أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف والنصب ... فذكره إلى آخره.

قال شهاب الدين : وهذا عجيب منه ؛ لأنّ «الذين نافقوا» منصوب بقوله : «وليعلم» وهم ـ في الحقيقة ـ عطف على «المؤمنين» وإنّما كرر العامل توكيدا ، والشيخ لا يخفى

__________________

(١) تقدم برقم ٦٤١.

٤٣

عليه ما هو أشكل من هذا فيحتمل أن يكون تبع غيره في هذا السهو ـ وهو الظاهر من كلامه ـ ولم ينظر في الآية ، اتكالا على ما رآه منقولا ، وكثيرا ما يقع الناس فيه ، وأن يعتقد أنّ «الذين» فاعل بقوله : «وليعلم» أي : فعل الله ذلك ليعلم هو المؤمنين ، وليعلم المنافقون ، ولكن مثل هذا لا ينبغي أن يجوز ألبتة.

قوله : «وقعدوا» يجوز في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أن تكون حالية من فاعل «قالوا» و «قد» مرادة أي : وقد قعدوا ، ومجيء الماضي حالا بالواو و «قد» أو بأحدهما ، أو بدونهما ، ثابت من لسان العرب.

الثاني : أنها معطوفة على الصلة ، فتكون معترضة بين «قالوا» ومعمولها ، وهو (لَوْ أَطاعُونا).

فصل في المراد ب «الذين»

قال المفسّرون المراد ب «الذين» عبد الله بن أبيّ وأصحابه. وقال الأصم : هذا لا يجوز ؛ لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهاد يوم أحد ، وهذا القول واقع ممن تخلّف ، لأنه قال : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا) أي في القعود (ما قُتِلُوا) فهو كلام متأخر عن الجهاد قاله لمن خرج إلى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ؛ ليجعله شبهة فيما بعد ، صارفا لهم عن الجهاد.

وهذا فيه نظر ؛ لأنه يحتمل أنه أراد بقوله : «وقعدوا» القعود عن القتال ، لا عن الخروج إلى القتال ؛ فإنّ عبد الله بن أبيّ خرج إلى القتال ، ولم يقاتل ، بل هرب بمن معه ، ويطلق عليه أنه قعد عن القتال وهو القائل هذا الكلام.

وقوله : (لِإِخْوانِهِمْ) أي : لأجل إخوانهم ـ وقد تقدم : هل المراد ـ من هذه الأخوة ـ الأخوة في النسب ، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدّار ، أو في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في عبادة الأوثان؟

قوله : (قُلْ فَادْرَؤُا) ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ذكر ذلك على سبيل الجواب لقولهم : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا).

فإن قيل : ما وجه هذا الاستدلال مع أن الفرق ظاهر ؛ فإن التحرّز عن القتل ممكن ، وأما التحرز عن الموت فغير ممكن ألبته؟

فالجواب : أن هذا الدليل لا يتمشى إلا إذا قلنا : إنّ الكلّ بقضاء الله وقدره ، فحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق ، فيصح الاستدلال ، أما إذا قلنا : بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه ، كان الفرق بين القتل والموت ظاهرا.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره ، والوصول إلى المطالب.

٤٤

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١٧٠)

«الذين» مفعول أول ، و «أمواتا» مفعول ثان ، والفاعل إما ضمير كل مخاطب ، أو ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم في نظائره وقرأ حميد بن قيس وهشام ـ بخلاف عنه ـ «يحسبن» بياء الغيبة (١) ، وفي الفاعل وجهان :

أحدهما : أنه مضمر ، إما ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو ضمير من يصلح للحسبان ـ أي : حاسب. الثاني : قاله الزمخشري : وهو أن يكون (الَّذِينَ قُتِلُوا) قال : ويجوز أن يكون (الَّذِينَ قُتِلُوا) فاعلا والتقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا ، أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا.

فإن قلت : كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلت : هو ـ في الأصل ـ مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : (بَلْ أَحْياءٌ) أي : هم أحياء ؛ لدلالة الكلام عليهما.

وردّ عليه أبو حيان بأن هذا التقدير يؤدي إلى تقديم الضمير على مفسره ، وذلك لا يجوز إلا في أبواب محصورة ، وعدّ منه باب ربّه رجلا ، نعم رجلا زيد ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأي سيبويه ، والبدل على خلاف فيه ، وضمير الأمر ، قال : «وزاد بعض أصحابنا أن يكون المفسّر خبرا للضمير» وبأن حذف أحد مفعولي «ظن» اختصارا إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليل جدا ، نص عليه الفارسيّ ، ومنعه ابن ملكون ألبتة.

قال شهاب الدين : «وهذا من تحملاته عليه ، أما قوله : يؤدي إلى تقديم المضمر ... إلى آخره ، فالزمخشريّ لم يقدره صناعة ، بل إيرادا للمعنى المقصود ، ولذلك لمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدّره بلفظ «أنفسهم» المنصوبة وهي المفعول الأول ، وأظن الشيخ يتوهم أنها مرفوعة ، تأكيدا للضمير في «قتلوا» ولم يتنبه أنه إنما قدرها مفعولا أول منصوبة ، وأما تمشية قوله على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك وما عليه من ابن ملكون ، وستأتي مواضع يضطر هو وغيره إلى حذف أحد المفعولين ، كما ستقف عليه قريبا.

وتقدم الكلام على مادة «حسب» ولغاتها ، وقراءاتها ، وقرىء «تحسبن» ـ بفتح السين (٢) ـ قاله الزمخشريّ وقرأ ابن عامر «قتّلوا» ـ بالتشديد (٣) ـ وهشام وحده في «ما

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز ١ / ٥٤٠ ، والبحر المحيط ٣ / ١١٧ ، والدر المصون ٢ / ٢٥٥ ، وإتحاف ١ / ٤٩٤.

(٢) وهي قراءة ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وأبي جعفر.

انظر : العنوان ٨١ ، وإتحاف ١ / ٤٩٤.

(٣) انظر : السبعة ٢١٩ ، والحجة ٣ / ٩٨ ، والعنوان ٨١ ، وشرح شعلة ٣٢٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٤ ، وإتحاف ١ / ٤٩٤.

٤٥

ماتوا وما قتلوا» والباقون بالتخفيف ، فالتشديد للتكثير ، والتخفيف صالح لذلك ، وقرأ الجمهور «أحياء» رفعا ، على تقدير : بل هم أحياء ، وقرأ ابن أبي عبلة «أحياء» (١) وخرّجها أبو البقاء على وجهين :

أحدهما : أن يكون عطفا على «أمواتا» قال : «كما تقول : ما ظننت زيدا قائما بل قاعدا».

الثاني : ـ وإليه ذهب الزمخشري ـ أيضا ـ أن يكون بإضمار فعل ، تقديره : بل احسبهم أحياء ، وهذا الوجه سبق إليه أبو إسحاق الزجاج ، إلا أن الفارسيّ ردّه عليه ـ في الإغفال ـ وقال ، لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر فيه إلا فعل المحسبة ، فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلا غير المحسبة ، اعتقدهم ، أو اجعلهم ، وذلك ضعيف ؛ إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر.

قال شهاب الدين : وهذا تحامل من أبي عليّ أما قوله : إن الأمر يقين ، يعني أن كونهم أحياء أمر متيقن ، فكيف يقال فيه : أحسبهم ـ بفعل يقتضي الشك ـ وهذا غير لازم ؛ لأن «حسب» قد تأتي لليقين.

قال الشاعر : [الطويل]

١٦٨٨ ـ حسبت التّقى والمجد خير تجارة

رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا (٢)

وقال آخر : [الطويل]

١٦٨٩ ـ شهدت وفاتوني وكنت حسبتني

فقيرا إلى أن يشهدوا وتغيبي (٣)

ف «حسب» ـ في هذين البيتين ـ لليقين ؛ لأن المعنى على ذلك. وقوله : وذلك ضعيف ، يعني من حيث عدم الدلالة اللفظية ، وليس كذلك ، بل إذا أرشد المعنى إلى شيء يقدّر ذلك الشيء ـ لدلالة المعنى عليه ـ من غير ضعف ـ وإن كان دلالة اللّفظ أحسن ـ وأما تقديره هو : اعتقدهم أو اجعلهم ، قال الشيخ : هذا لا يصح ألبتة سواء جعلت : اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيّرهم أو سمّهم ، أو القهم.

قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون خبرا ثانيا ل «أحياء» على قراءة الجمهور.

الثاني : أن يكون ظرفا ل «أحياء» لأن المعنى : يحيون عند ربهم.

الثالث : أن يكون ظرفا ل «يرزقون» أي : يقع رزقهم في هذا المكان الشريف.

الرابع : أن يكون صفة ل «أحياء» فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور ، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة.

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز ١ / ٥٤٠ ، والبحر المحيط ٣ / ١١٨ ، والدر المصون ٢ / ٢٥٦.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر البحر المحيط ٣ / ١١٨ ، والدر المصون ٢ / ٢٥٦.

٤٦

الخامس : أن يكون حالا من الضمير المستكن في «أحياء». أي : يحيون مرزوقين.

والمراد بالعندية : المجاز عن قربهم بالتكرمة.

وقيل : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : في حكمه ، كما تقول : هذه المسألة عند الشافعي كذا ، وعند غيره كذا.

قال ابن عطية «وهو على حذف مضاف ، أي : عند كرامة ربهم». ولا حاجة إليه ؛ لأن الأول أليق.

قوله : (يُرْزَقُونَ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون خبرا ثالثا ل «أحياء» أو ثانيا ـ إذا لم نجعل الظرف خبرا.

الثاني : أنها صفة ل «أحياء» ـ بالاعتبارين المتقدمين ـ فإن أعربنا الظرف وصفا ـ أيضا ـ فيكون هذا جاء على الأحسن ، وهو أنه إذا وصف بظرف وجملة ، فالأحسن تقديم الظرف وعديله ؛ لأنه أقرب إلى المفرد.

الثالث : أنه حال من الضمير في «أحياء» أي : يحيون مرزوقين.

الرابع : أن يكون حالا من الضمير المستكن في الظرف ، والعامل فيه ـ في الحقيقة ـ العامل في الظرف.

قال أبو البقاء ـ في هذا الوجه ـ : «ويجوز أن يكون حالا من الضمير في الظرف ، إذا جعلته صفة. وليس ذلك مختصا بجعله صفة فقط ، بل لو جعلته حالا جاز ذلك ـ أيضا ـ وهذه تسمى الحال المتداخلة ، ولو جعلته خبرا كان كذلك».

فصل

هذه الآية نزلت في شهداء بدر ، وكانوا أربعة عشر رجلا ، ثمانية من الأنصار ، وستة من المهاجرين.

وقيل : نزلت في شهداء أحد ، وكانوا سبعين رجلا ، أربعة من المهاجرين ـ حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ، وعثمان بن شماس ، وعبد الله بن جحش ـ وباقيهم من الأنصار(١).

فصل

ظاهر هذه الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء ، فإما أن يكون حقيقة ، أو مجازا ، فإن كان حقيقة ، فإما أن يكون بمعنى أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، أو في

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٦٨) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي الضحى.

٤٧

الحال. وبتقدير أن يكونوا أحياء في الحال ، فإما أن يكون المراد الحياة الروحانية ، أو الجسمانية ، فأما الاحتمال الأول ـ وهو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة ـ فقد ذهب إليه جماعة من المعتزلة ، منهم الكعبيّ ، قال : لأن الله ـ تعالى ـ أورد هذه الآية تكذيبا للمنافقين في جحدهم البعث والمعاد ، وقولهم : إن أصحاب محمد يعرّضون أنفسهم للقتل ، فيقتلون ، ويخسرون الحياة ، ولا يصلون إلى خير.

وهذه الآية تردّ هذا القول ؛ لأن ظاهرها يدل على كونهم أحياء حال نزول هذه الآية ، وأيضا فإنه تعالى قال : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥] والفاء للتعقيب ، والتعذيب مشروط بالحياة. وقال : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياء ـ قبل القيامة لأجل التعذيب ، فأن يجعل أهل الثواب أحياء ـ قبل القيامة ـ لأجل الثواب أولى ؛ لأن جانب الإحسان والرحمة أرجح من جانب العذاب ، وأيضا لو كان المراد أنه سيجعلهم أحياء في القيامة لما قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تَحْسَبَنَ) مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك.

فإن قيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند البعث ، لكنه غير عالم أنهم من أهل الجنّة ، فجاز أن يبشّره الله ـ تعالى ـ بأنهم سيصيرون أحياء ، ويصلون إلى الثواب؟

فالجواب : أن قوله : (وَلا تَحْسَبَنَ) إنما يتناول الموت ؛ لأنه قال : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال ؛ لأنه لا حسبان ـ هناك ـ في صيرورتهم أحياء يوم القيامة.

وقوله : (يُرْزَقُونَ) خبر مبتدأ ، ولا تعلّق له بذلك الحسبان ، فزال السؤال ، وأيضا فقوله تعالى : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) فالقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدّنيا ، واستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل القيامة ، والاستبشار لا يكون إلا مع الحياة ، فدل على كونهم أحياء قبل يوم القيامة.

وأيضا روى ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ في صفة الشهداء : «أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من ثمارها ، وتسرح حيث شاءت ، وتأوي إلى قناديل تحت العرش ؛ فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا : يا ليت قومنا يعلمون بما نحن فيه من النّعيم ، كي يرغبوا في الجهاد ؛ فقال الله تعالى : أنا مخبر عنكم ، ومبلّغ إخوانكم ، ففرحوا بذلك واستبشروا» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١). وسئل ابن مسعود

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢٣٨٨ ـ ٢٣٨٩ ـ شاكر) وأبو داود (٣ / ١٥) رقم (٢٥٢٠) والحاكم في «مستدركه» (٢ / ٢٩٠ ـ ٢٩١) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٣٠٤) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٨٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٦٨) وزاد نسبته لهناد في «الزهد» وعبد بن حميد وابن المنذر.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

٤٨

عن هذه الآية ، فقال : سألنا عنها ، فقيل لنا : إن الشهداء على نهر بباب الجنة في قبّة خضراء. وفي رواية : في روضة خضراء (١).

وعن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أبشرك أنّ أباك ـ حيث أصيب بأحد ـ أحياه الله ، ثمّ قال : ما تريد يا عبد الله بن عمرو أن أفعل لك؟ قال : يا ربّ ، أحبّ أن تردّني إلى الدّنيا فأقتل فيك مرة أخرى» (٢).

الاحتمال الثاني ـ وهو أنهم أحياء في الحال ـ والقائلون بهذا القول ، منهم من أثبت الحياة للروح ، ومنهم من أثبتها للبدن ، فمن أثبتها للروح قال : لقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر : ٢٧ ـ ٣٠] والمراد : الروح.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر كان ينادي المقتولين ، ويقول : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] فقيل : يا رسول الله ، إنهم أموات ، فكيف تناديهم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهم أسمع منكم»(٣) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنبياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار» (٤).

الاحتمال الثالث : من أثبت الحياة للأجساد ، وهؤلاء اختلفوا ، فقال بعضهم : إنه ـ تعالى ـ يصعد أجساد الشهداء إلى السموات ، وإلى قناديل تحت العرش ، ويوصل إليها الكرامات.

وقد طعنوا في هذا ، وقالوا : إنا نرى الشهداء تأكلهم السباع ، ونرى المقتول يبقى أياما إلى أن تتفسّخ وتنفصل أعضاؤه ، فعود الحياة إليها مستبعد ، وإن جوزنا كونها حية عاقلة ، متنعمة عارفة ، لزم القول بالسفسطة.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٩٨) والترمذي (٤ / ٨٤ ـ ٨٥) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٨٧) عن عبد الله بن مسعود.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٦٩ ـ ١٧٠) وزاد نسبته لعبد الرزاق في المصنف والفريابي وسعيد بن منصور وهناد بن السري وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في «دلائل النبوة».

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٨٤) وأحمد (٣ / ٣٦١) والحاكم (٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤) وابن ماجه (١ / ٦٨) رقم (١٩٠) عن جابر بن عبد الله وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٦٨) وزاد نسبته لابن أبي عاصم وابن خزيمة والطبراني وابن مردويه والبيهقي في «دلائل النبوة».

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم. رواه عنه كبار أهل الحديث.

(٣) أخرجه البخاري كتاب المغازي باب قتل أبي جهل رقم (٣٩٨٠) ومسلم كتاب الجنة حديث (٧٦) والنسائي (٤ / ١٠١) وأحمد (٢ / ٣٨ ، ١٣٠) (٣ / ١٠٤ ، ١٤٥ ، ٢٦٣ ، ٢٨٧ ـ ٤ / ٢٩ ـ ٦ / ٢٧٦) وابن أبي شيبة (١٤ / ٣٧٧) والطبراني في «الكبير» (١٠ / ١٩٨) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٤٨ ، ١١٧) وابن أبي عاصم (٢ / ٤٢٨).

(٤) تقدم.

٤٩

الاحتمال الرابع : أن كونهم أحياء من طريق المجاز.

قال الأصمّ البلخيّ : إذا كان الميّت عظيم المنزلة في الدين ، وكانت عاقبته يوم القيامة إلى السعادة والكرامة ، صحّ أن يقال : إنه حيّ ، وليس بميت ، كما يقال ـ في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا غيره ـ : إنه ميت ، وكما يقال ـ للبليد ـ : إنه حمار ، وللمؤذي إنه سبع ، كما قال عبد الملك بن مروان ـ لما رأى الزّهريّ ، وعلم فقهه وتحقيقه ـ : ما مات من خلفه مثلك. وإذا مات الإنسان ، وخلف ثناء جميلا ، وذكرا حسنا ، يقال ـ على سبيل المجاز : إنه ما مات.

وقال آخرون : مجاز هذه الآية أن أجسادهم لا تبلى تحت الأرض ، كما روي أن معاوية لما أراد أن يجري العين إلى قبور الشهداء ، أمر بأن ينادى : من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع ، قال جابر : فخرجنا إليهم ، فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصاب المسحاة أصبع رجل منهم ، فانفطرت دما.

وقيل : المراد ـ بكونهم أحياء ـ أنهم لا يغسّلون كما يغسّل الأموات.

قال القرطبي : إذا كان الشهيد حيّا ـ حكما ـ فلا يصلّى عليه ، كالحيّ حسّا.

قوله : (فَرِحِينَ) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون حالا من الضمير في «أحياء».

ثانيها : أن يكون حالا من الضمير في الظرف.

ثالثها : أن يكون حالا من الضمير في (يُرْزَقُونَ).

رابعها : أنه منصوب على المدح.

خامسها : أنه صفة ل «أحياء».

وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و «بما» يتعلق ب «فرحين».

قوله : (مِنْ فَضْلِهِ) في «من» ثلاثة أوجه :

أحدها : أن معناها السببية ، أي بسبب فضله ، أي : الذي آتاهم الله متسبب عن فضله.

الثاني : أنها لابتداء الغاية ، وعلى هذين الوجهين تتعلق ب «آتاهم».

الثالث : أنها للتبعيض ، أي : بعض فضله ، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف ، على أنه حال من الضمير العائد على الموصول ولكنه حذف ، والتقدير : بما آتاهموه كائنا من فضله.

قوله : (وَيَسْتَبْشِرُونَ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون من باب عطف الفعل على الاسم ؛ لكون الفعل في تأويله ،

٥٠

فيكون عطفا على «فرحين» كأنه قيل : فرحين ومستبشرين ، ونظّروه بقوله تعالى : (فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩].

الثاني : أنه ـ أيضا ـ يكون من باب عطف الفعل على الاسم ، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل ، قال أبو البقاء هو معطوف على «فرحين» لأن اسم الفاعل ـ هنا ـ يشبه الفعل المضارع يعني أن «فرحين» بمنزلة يفرحون ، وكأنه جعله من باب قوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ) [الحديد : ١٨] والتقدير الأول أولى ، لأن الاسم ـ وهو «فرحين» لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل فعل مضارع ـ حتى يتأول الاسم به ـ والفعل فرع عليه ، فينبغي أن يردّ إليه.

وإنما فعلنا ذلك في الآية ؛ لأن «أل» الموصولة بمعنى : الذي و «الذي» لا يوصل إلا بجملة أو شبهها ، وذلك الشبه ـ في الحقيقة ـ يتأول بجملة.

الثالث : أن يكون مستأنفا ، والواو للعطف ، عطفت فعلية على اسمية.

الرابع : أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : وهم يستبشرون ، وحينئذ يجوز وجهان :

أحدهما : أن تكون الجملة حالية من الضمير المستكن في «فرحين» أو من العائد المحذوف من «آتاهم» وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالا ؛ لأن المضارع المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مرارا.

الثاني من هذين الوجهين : أن تكون استئنافية ، عطف جملة اسمية على مثلها.

و «استفعل» ـ هنا ـ ليست للطلب ، بل تكون بمعنى المجرد ، نحو : استغنى الله ـ بمعنى : غني ، وقد سمع بشر الرجل ـ بكسر العين ـ فيكون استبشر بمعناه ، قاله ابن عطية. ويجوز أن يكون مطاوع أبشر ، نحو : أكانه فاستكان ، وأراحه فاستراح ، وأشلاه فاستشلى ، وأحكمه فاستحكم ـ وهو كثير ـ وجعله أبو حيّان أظهر ؛ من حيث إن المطاوعة تدل على الاستفعال عن الغير ، فحصلت لهم البشرى بإبشار الله تعالى ، وهذا لا يلزم إذا كان بمعنى المجرد.

قوله : (مِنْ خَلْفِهِمْ) في هذا الجارّ وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب (لَمْ يَلْحَقُوا) على معنى أنهم قد بقوا بعدهم ، وهم قد تقدموهم.

الثاني : أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من فاعل (يَلْحَقُوا بِهِمْ) ، أي : لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلّفين عنهم ـ أي : في الحياة ـ.

فصل

معنى الكلام : ويستبشرون : يفرحون بالذين لم يلحقوا بهم ، من إخوانهم الذين

٥١

تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد ؛ ليعلمهم أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم ، ونالوا من الكرامة ما نالوا هم ؛ فلذلك يستبشرون.

وقال الزّجّاج وابن فورك : الإشارة ـ بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم ـ إلى جميع المؤمنين ـ وإن لم يقتلوا ـ ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحقّ الذي يثيب الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

قوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أن «أن» وما في حيّزها في محل جرّ ، بدلا من «بالذين» بدل اشتمال ، أي يستبشرون بعدم خوفهم وحزنهم ، فهو المستبشر به في الحقيقة ، لأن الذوات لا يستبشر بها.

الثاني : أنها في محل نصب ؛ على أنها مفعول من أجله ، أي : لأنهم لا خوف عليهم.

و «أن» ـ هذه ـ هي المخفّفة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النفي بعدها في محل الخبر. فإن قيل : الذوات لا يستبشر بها ـ كما تقدم ـ فكيف قال : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا)؟

فالجواب أن ذلك على حذف مضاف مناسب ، تقديره : ويستبشرون بسلامة الذين ، أو لحوقهم بهم في الدرجة.

وقال مكيّ ـ بعد أن حكى أنها بدل اشتمال ـ : ويجوز أن يكون في موضع نصب ، على معنى: بأن لا وهذا ـ هو بعينه ـ وجه البدل المتقدّم ، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهمّ إلا أن يعني أنها ـ وإن كانت بدلا من «الذين» ـ ليست في محل جرّ ، بل في محل نصب ، لأنها سقطت منها الباء ؛ فإن الأصل : بأن لا ، وإذا حذف منها حرف الجر كانت في محل نصب ـ على رأى سيبويه والفرّاء ـ وهو بعيد.

قوله تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٧٢)

لما بيّن ـ تعالى ـ انهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ، بيّن ـ هنا ـ أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم ، ولذلك أعاد لفظ الاستبشار.

فإن قيل : أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم ـ والفرح عين الاستبشار ـ فلزم التكرار؟ فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن الاستبشار هو الفرح التامّ ، فلا يلزم التكرار.

٥٢

الثاني : لعلّ المراد حصول الفرح بما حصل في الحال ، وحصول الاستبشار بما عرفوا أنّ النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة.

فإن قيل : ما الفرق بين النعمة والفضل ، فإنّ العطف يقتضي المغايرة؟

فالجواب : أن النعمة هي الثواب ، والفضل : هو التفضّل الزائد.

وقيل : النعمة : المغفرة ، والفضل : الثواب الزائد.

وقيل : للتأكيد.

روى الترمذيّ عن المقدام بن معديكرب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للشّهيد عند الله ستّ خصال : يغفر له ، ويرى مقعده من الجنّة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدّنيا وما فيها ، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقاربه» (١) ، قال : هذا حديث حسن ، صحيح ، غريب ، وهذا تفسير النعمة والفضل ، وهذا في الترمذيّ وابن ماجه ستّ ، وهي في العدد سبعة.

فصل

وهذه الآية تدلّ على أنّ الإنسان يكون فرحه واستبشاره ـ بصلاح حال إخوانه ـ أتم من استبشاره بسعادة نفسه ، لأنه ـ تعالى ـ مدحهم على ذلك بكونهم أوّل ما استبشروا فرحوا بإخوانهم ، ثم ذكر ـ بعده ـ استبشارهم بأنفسهم ، فقال : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ).

قوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ) قرأ الكسائيّ بكسر «أن» على الاستئناف (٢).

وقال الزمخشري : إن قراءة الكسر اعتراض.

واستشكل كونها اعتراضا ؛ لأنها لم تقع بين شيئين متلازمين.

ويمكن أن يجاب عنه بأن (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) يجوز أن يكون تابعا ل (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا) ـ نعتا ، أو بدلا ، على ما سيأتي ـ فعلى هذا لا يتصور الاعتراض.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (١٦٦٣) وابن ماجه (٢٧٩٩) عن المقدام بن معديكرب.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح.

وللحديث شاهد عن عبادة بن الصامت.

أخرجه أحمد والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٥ / ٢٩٣) ورجاله ثقات وشاهد آخر عن ابن عمر.

يرويه الطبراني في «المعجم الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٥ / ٢٩٣) وقال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف.

(٢) انظر : السبعة ٢١٩ ، والحجة ٣ / ٩٨ ، وحجة القراءات ١٨١ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٢ ، والعنوان ٨١ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٨ ، وشرح شعلة ٣٢٦ ، وإتحاف ١ / ٤٩٤.

٥٣

ويؤيد كونها للاستئناف قراءة عبد الله ومصحفه : والله لا يضيع (١) ، وقرأ باقي (٢) السبعة بالفتح ؛ عطفا على قوله : «بنعمة» لأنها بتأويل مصدر ، أي : يستبشرون بنعمة من الله وفضل منه وعدم إضاعة الله أجر المؤمنين.

فإن قيل : لم قال : «يستبشرون» من غير عطف؟

فالجواب فيه أوجه :

أحدها : أنه استئناف متعلّق بهم أنفسهم ، دون (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) لاختلاف متعلّق البشارتين.

الثاني : أنه تأكيد للأول ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيان متعلّق الاستبشار الأول ، وإليه ذهب الزمخشري.

الثالث : أنه بدل من الفعل الأول ، ومعنى كونه بدلا : أنه لما كان متعلقه بيانا لمتعلق الأول حسن أن يقال : بدل منه ، وإلا فكيف يبدل فعل من فعل موافق له لفظا ومعنى؟ وهذا في المعنى يئول إلى وجه التأكيد.

الرابع : أنه حال من فاعل «يحزنون» و «يحزنون» عامل فيه ، أي : ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة. وهو بعيد ، لوجهين :

أحدهما : أن الظاهر اختلاف من نفي عنه الحزن ومن استبشر.

الثاني : أن نفي الحزن ليس مقيّدا ليكون أبلغ في البشارة ، والحال قيد فيه ، فيفوت هذا المعنى.

فصل

والمقصود ـ من هذا الكلام ـ أن إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء ليس مخصوصا بهم ، بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب ، فإن الله تعالى يوصّل ثوابه إليه ، ولا يضيعه.

قوله : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) فيه ستة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ).

وقال مكيّ : ابتداء وخبره (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) وهذا غلط ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة ، بل «من بعد» متعلق ب «استجابوا».

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم الذين.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٤١ ، والبحر المحيط ٣ / ١٢١ ، والدر المصون ٢ / ٢٥٩.

(٢) ينظر السابق.

٥٤

الثالث : أنه منصوب بإضمار «أعني» وهذان الوجهان يشملهما قولك : القطع.

الرابع : أنه بدل من «المؤمنين».

الخامس : أنه بدل من (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا) قاله مكّيّ.

السادس : أنه نعت ل «المؤمنين» ويجوز فيه وجه سابع ، وهو أن يكون نعتا لقوله : «الذين لم يلحقوا» قياسا على جعله بدلا منهم عند مكيّ.

و «ما» في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ) مصدرية ، و (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) خبر مقدّم ، و «منهم» فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال من الضمير في «أحسنوا» وعلى هذا ف «من» تكون تبعيضية.

الثاني : أنها لبيان الجنس.

قال الزمخشري : «مثلها في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) [الفتح : ٢٩] لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم لا بعضهم». و «أجر» مبتدأ مؤخّر ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره ، إما مستأنفة ، أو حال ـ إن لم يعرب (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) مبتدأ ـ وإما خبر ـ إن أعربناه مبتدأ ـ كما تقدم تقريره.

والمراد : أحسنوا فيما أتوا به من طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتقوا ارتكاب شيء من المنهيات.

فصل في بيان سبب النزول

في سبب نزول هذه الآية وجهان :

أحدهما ـ وهو الأصح ـ : أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد ، فلما بلغوا الرّوحاء ندموا وتلاوموا ، وقالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد تركتموهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فهمّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أن يرهب الكفّار ، ويريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان ، وقال : لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال ، فانتدب عصابة منهم ـ مع ما بهم من ألم الجراح والقرح الذي أصابهم يوم أحد ـ ونادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا لا يخرجنّ معنا أحد ، إلا من حضر يومنا بالأمس ، فكلمه جابر بن عبد الله ، فقال : يا رسول الله إن أبي كان قد خلّفني على أخوات لي سبع ، وقال : يا بنيّ لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهنّ ، ولست بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتخلّف على أخواتك فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج معه ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ، فيظنوا به قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم ، فينصرفوا. فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعين رجلا ، منهم أبو بكر وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ،

٥٥

وسعيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو عبيدة بن الجراح ، حتى بلغوا حمراء الأسد ـ وهي من المدينة على ثمانية أميال (١) ـ روي عن عائشة أنّها قالت ـ لعبد الله بن الزّبير : ابن أختي ، أما ـ والله ـ إن أباك وجدّك ـ تعني أبا بكر والزبير ـ لمن الذين قال الله ـ عزوجل ـ فيهم : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)(٢).

وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى ، وذلك لكثرة الجراحات فيهم ، وكان منهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة أخرى فمر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معبد الخزاعيّ بحمراء الأسد ، وكانت خزاعة ـ مسلمهم وكافرهم ـ عيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتهامة ، صفقتهم معه ، لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد ـ يومئذ ـ مشرك ، فقال : يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله قد أعفاك منهم (٣).

ثم خرج من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى لقي أبا سفيان ومن معه ـ بالروحاء ـ قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : قد أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم ، لنكرّنّ على بقيتهم ، فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرّقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على صنيعهم وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ، قال ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا : [البسيط]

١٦٩٠ ـ كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل (٤)

وذكر أبياتا. ففتّر ذلك أبا سفيان ومن معه. ومرّ به ركب من بني عبد القيس ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠٠) وفي «تاريخه» (٣ / ٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٧٧) وزاد نسبته لابن إسحاق والبيهقي في «الدلائل».

والخبر في «سيرة ابن هشام» (٣ / ١٠٦ ـ ١٠٧).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠٢) والحاكم (٢ / ٢٩٨) وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وأخرجه البخاري (٧ / ٢٨٧) ومسلم (٢ / ٢٤١) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠٣) عن عائشة رضي الله عنها مختصرا.

(٣) انظر تفسير الرازي (٩ / ٧٩).

(٤) ينظر البيت في السيرة النبوية ٢ / ١٠٣ والروض الأنف ٣ / ١٧٤ وجامع البيان ٧ / ٤٠٧ ولباب التأويل ١ / ٤٥١ وتفسير القرطبي ٤ / ٢٧٨.

٥٦

فقالوا : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة قالوا : ولم؟ قالوا : نريد الميرة ، قال فهل أنتم مبلّغون محمدا عني رسالة وأحمّل لكم إبلكم زبيبا ب «عكاظ» غدا إذا وافيتمونا؟ قالوا : نعم ، قال فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد جمعنا إليه وإلى أصحابه ؛ لنستأصل بقيتهم ، وانصرف أبو سفيان إلى مكة. ومرّ الركب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ب «حمراء الأسد» فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حسبنا الله ونعم الوكيل ، ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة. هذا قول أكثر المفسّرين.

الثاني : قال الأصمّ : نزلت هذه الآية في يوم أحد ، لما رجع الناس إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهزيمة ، فشدّ بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا بالمثلة ، فدفعهم عنها بعد أن مثّلوا بحمزة ، فقذف في قلوبهم الرّعب ، فانهزموا ، وصلى عليهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير : ردّها ؛ لئلا تجزع من مثله أخيها ، فقالت : قد بلغني ما فعل به ، وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزّبير : فدعها ، لتنظر إليه ، فقالت خيرا ، واستغفرت له. وجاءت امرأة ـ قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها ـ فلما رأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حيّ قالت : كل مصيبة بعدك هدر (١).

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)(١٧٤)

في قوله : «الذين» ما تقدم في : «الذين» قبله ، إلا في رفعه بالابتداء.

وهذه الآية نزلت في غزوة بدر الصّغرى ، روى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكّة ـ قال : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى ، فنقتتل بها ـ إن شئت ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : قل : بيننا وبينك ذلك ـ إن شاء الله ـ فلما كان العام المقبل ، خرج أبو سفيان في أهل مكة ، حتى نزل «مجنة» من ناحية «مرّ الظهران» فألقى الله تعالى الرّعب في قلبه ، فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعيّ ـ وقد قدم معتمرا ـ فقال له أبو سفيان : يا نعيم ، إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها ، ولكن إن خرج محمّد ـ ولم أخرج ـ زاد بذلك جرأة ، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحبّ إليّ من أن يكون من قبلي ، فالحق بالمدينة فثبّطهم ، ولك عندي عشرة من الإبل ، أضعها على يد سهيل بن عمرو ويضمنها. قال : فجاء سهيل ، فقال له نعيم : يا أبا يزيد أتضمن لي هذه القلائص ، فأنطلق إلى محمّد فأثبطه؟ قال :

__________________

(١) ينظر تفسير الرازي ٩ / ٧٩.

٥٧

نعم ، فخرج نعيم ، حتى أتى المدينة ، فوجد المسلمين يتجهّزون لميعاد أبي سفيان ، فقال : أين تريدون؟ فقالوا : واعدنا أبو سفيان لموسم بدر الصّغرى أن نقتتل بها ، فقال : بئس الذي رأيتم ، أتوكم في دياركم وقراركم ، فلم يفلت منكم إلا الشريد ، أفتريدون أن تخرجوا إليهم؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد ، وقد جمعوا لكم عند الموسم.

فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم ، فلما عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك قال : «والذي نفس محمد بيده لأخرجنّ إليهم ولو وحدي». فأما الجبان فإنه رجع ، وأما الشّجاع فإنه تأهّب للقتال ، وقالوا : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه نحو سبعين رجلا ـ فيهم ابن مسعود حتى وافوا بدر الصغرى ـ وهي ماء لبني كنانة ، وكانت موضع سوق لهم ، يجتمعون فيه كل عام ثمانية أيام ـ ولم يلق رسول الله ـ وأصحابه أحدا من المشركين ووافقوا السوق ، وكانت معهم نفقات وتجارات ، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا ، وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة ، وسمّى أهل مكة جيشه جيش السويق ، وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق. هذا سبب نزول الآية(١).

والمراد ب «الناس» نعيم بن مسعود ـ في قول مجاهد وعكرمة ـ فهو من العامّ الذي أريد به الخاصّ ، كقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) [النساء : ٤] يعني محمدا وحده ، وإنما جاز إطلاق لفظ «الناس» على الواحد ؛ لأن الإنسان الواحد إذا كان له أتباع يقولون مثل قوله ، أو يرضون بقوله فإنه يحسن ـ حينئذ ـ إضافة ذلك الفعل إلى الكل ، قال تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [البقرة : ٣٧] وقال : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] وهم لم يفعلوا ذلك ، وإنما فعله أسلافهم ، إلا أنهم لما تابعوهم وصوّبوا فعلهم ، حسن إضافة ذلك إليهم.

وقال ابن عبّاس ، ومحمد بن إسحاق ، وجماعة : أراد بالنّاس : الرّكب من بني عبد القيس (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) يعني أبا سفيان وأصحابه (٢).

وقال السّدّيّ : هم المنافقون ، قالوا للمسلمين ـ حين تجهزوا للمسير إلى بدر لميعاد أبي سفيان ـ : القوم قد أتوكم في دياركم ، فقتلوا أكثركم ، فإن ذهبتم إليهم لم يبق منكم أحد ، لا سيما وقد جمعوا لكم جمعا عظيما «فاخشوهم» أي : فخافوهم (٣).

قوله : (فَزادَهُمْ إِيماناً) في فاعل «فزادهم» ثلاثة أوجه :

الأول ـ وهو الأظهر ـ : أنه ضمير يعود على المصدر المفهوم من «قال» أي فزادهم

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠٩ ، ٤١٠ ، ٤١١ ، ٤١٢) مفرقا وذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٨٠ ـ ٨١).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤١٠) عن ابن عباس وذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٨١).

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٨١).

٥٨

القول بكيت وكيت إيمانا ، كقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

الثاني : أنه يعود على المقول ـ الذي هو (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) كأنه قيل : قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيمانا.

الثالث : أنه يعود على «الناس» إذا أريد به فرد واحد ـ كما نقل في سبب النزول ـ وهو نعيم بن مسعود الأشجعيّ.

واستضعف أبو حيّان الوجهين الأخيرين ، قال : «وهما ضعيفان ؛ من حيث إنّ الأول لا يزيد إيمانا إلا النطق به ، لا هو في نفسه ، ومن حيث إنّ الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازا فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع ، لا على المفرد. تقول : مفارقة شابت ـ باعتبار الإخبار عن الجمع ـ ولا يجوز : مفارقة شاب ـ باعتبار : مفرقه شاب».

قال شهاب الدّين (١) : «وفيما قاله نظر ؛ لأن المقول هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان ـ وأما قوله : تجري على الجمع ، لا على المفرد ، فغير مسلّم ، ويعضده أنهم نصّوا على أنه يجوز اعتبار لفظ الجمع الواقع موقع المثنّى تارة ، ومعناه تارة أخرى ، فأجازوا : رؤوس الكبشين قطعتهن ، وقطعتهما ، وإذا ثبت ذلك في الجمع الواقع موقع المثنى ، فليجز في الواقع موقع المفرد. ولقائل أن يفرق بينهما ، وهو أنه إنما جاز أن يراعى معنى التثنية ـ المعبّر عنها بلفظ الجمع ـ لقربها منه ؛ من حيث إنّ كلا منهما فيه ضم شيء إلى مثله ، بخلاف المفرد ، فإنه بعيد من الجمع ؛ لعدم الضمّ ، فلا يلزم من مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاة معنى المفرد.

فصل

قال أبو العبّاس المقرىء : لفظ «الوكيل» في القرآن على وجهين :

الأول : بمعنى المانع ـ كهذه الآية ـ ومثله قوله : (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) [النساء : ١٠٩] أي : مانعا.

الثاني : بمعنى : الشاهد ، قال تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) [النساء : ٨١ ، ١٣٢ ، ١٧١] أي : شهيدا ، ومثله قوله : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود : ١٢] أي : شاهد ، ومثله : (فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي : شهيد.

قوله : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) [آل عمران : ١٧٣] عطف «قالوا» على «فزادهم» والجملة بعد القول في محل نصب به.

قوله : (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) المخصوص بالمدح ، أي : الله تعالى.

قوله : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ) في متعلق باء «بنعمة» وجهان :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٦١.

٥٩

أحدهما : أنها متعلقة بنفس الفعل على أنها باء التعدية.

الثاني : أنها تتعلّق بمحذوف ، على أنّها حال من الضمير في «انقلبوا» والباء على هذا للمصاحبة ، كأنه قيل : فانقلبوا ملتبسين بنعمة ومصاحبين لها. والتقدير : وخرجوا فانقلبوا ، وحذف الخروج ؛ لأن الانقلاب يدل عليه ، كقول : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أي : فضرب فانفلق ومعنى الآية : (فَانْقَلَبُوا) بعافية ، لم يلقوا عدوا «وفضل» تجارة وربح ، وهو ما أصابوا من السوق.

قوله : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) هذه الجملة في محل نصب على الحال ـ أيضا ـ وفي ذي الحال وجهان :

أحدهما : أنه فاعل «انقلبوا» أي : انقلبوا سالمين من السوء.

الثاني : أنه الضمير المستكن في «بنعمة» إذا كانت حالا ، والتقدير : فانقلبوا منعّمين بريئين من السوء. والعامل فيها : العامل في بنعمة فهما حالان متداخلتان ، والحال إذا وقعت مضارعا منفيا ب «لم» وفيها ضمير ذي الحال جاز دخول الواو وعدمه فمن الأول قوله تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام : ٩٣] وقول كعب : [البسيط]

١٦٩١ ـ لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم

أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل (١)

ومن الثّاني هذه الآية ، وقوله : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) [الأحزاب : ٢٥] وقول [قيس](٢) بن الأسلت :

١٦٩٢ ـ وأضرب القونس يوم الوغى

بالسّيف لم يقصر به باعي (٣)

وبهذا يعرف غلط الأستاذ ابن خروف ؛ حيث زعم أنّ الواو لازمة في مثل هذا ، سواء كان في الجملة ضمير ، أو لم يكن.

قوله : (وَاتَّبَعُوا) يجوز في هذه الجملة وجهان :

الأول : أنها عطف على «انقلبوا».

الثاني : أنها حال من فاعل «انقلبوا» ـ أيضا ـ ويكون على إضمار «قد» أي : وقد اتبعوا.

فصل

قال القرطبيّ : «وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه على أقوال ، والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان ـ الذي هو تاج ـ واحد ، وتصديق واحد بشيء ما إنما هو

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ١٢ ، والبحر المحيط ٣ / ١٢٤ ، والعمدة ١ / ٢٤ والدر المصون ٢ / ٢٦٢.

(٢) في ب : صيفي.

(٣) ينظر البيت في ديوانه ص ٨١ ورغبة الآمل ٢ / ٢١٣ والبحر المحيط ٣ / ١٢٥ والمفضليات ص ٢٨٦ وشرحها للتبريزي ٢ / ١٠١٢ ولابن الأنباري ص ٥٧٢ والدر المصون ٢ / ٢٦٢.

٦٠