اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً)(٨٣)

وهذا نوع آخر من أعمال المنافقين الفاسدة ، وذلك أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبعث السّرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر (١) المنافقون يستخبرون عن حالهم ، فيفشون ويحدّثون به قبل أن يحدّث به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين ، فأنزل الله ـ تعالى ـ (وَإِذا جاءَهُمْ) يعني : المنافقين (أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ) أي : الفتح والغنيمة (أَوِ الْخَوْفِ) أي : القتل (٢) والهزيمة (أَذاعُوا بِهِ) : أشاعوه وأفشوه ، وذلك سبب للضّرر من وجوه :

أحدها : أن مثل هذه الإرجافات لا تنفكّ عن الكذب.

وثانيها : إن كان ذلك الخبر من جانب الأمن زادوا (٣) فيه زيادات كثيرة ، [فإذا لم توجد تلك الزّيادات ، أورث ذلك شبهة للضّعفاء في صدق الرّسول ـ عليه‌السلام ـ](٤) ؛ لأن المنافقين كانوا يروون (٥) تلك الإرجافات عن الرسول ، وإن كان ذلك الخبر خوفا ، تشوّش الأمر على ضعفاء المسلمين بسببه ، ووقعوا في الحيرة والاضطراب ، فكان ذلك سببا للفتنة.

وثالثها : أن العداوة الشّديدة كانت قائمة بين المسلمين وبين الكفّار ، فكان (٦) كلّ واحد من الفريقين مجدّا في إعداد آلات الحرب وانتهاز الفرصة ، فكل ما كان [أمنا](٧) لأحد الفريقين ، كان خوفا للفريق الثّاني ، وإن [وقع خبر الأمن للمسلمين ، أرجف بذلك المنافقون ، فوصل الخبر في أسرع مدّة إلى الكفّار ؛ فاحتزروا وتحصّنوا من المسلمين ، وإن](٨) وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه ، وألقوا الرّعب في قلوب الضّعفة ، فظهر أن الإرجاف منشأ الفتن والآفات (٩).

قوله : (أَذاعُوا بِهِ :) جواب إذا ، وعين أذاع ياء ؛ لقولهم : ذاع الشّيء يذيع ، ويقال : أذاع الشّيء ، أيضا بمعنى المجرّد ، ويكون متعدّيا بنفسه وبالباء ، وعليه الآية الكريمة ، وقيل : ضمّن «أذاع» معنى «تحدّث» فعدّاه تعديته ، أي : تحدّثوا به مذيعين له ، والإذاعة : الإشاعة ، قال أبو الأسود : [الطويل]

١٨٤٢ ب ـ أذاعوا به في النّاس حتّى كأنّه

بعلياء نار أوقدت بثقوب (١٠)

__________________

(١) في ب : بادروا.

(٢) في ب : الفشل.

(٣) في ب : أمنا زادوا.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : يردون.

(٦) في ب : وكان.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : الآلات.

(١٠) ينظر البيت في ديوانه (٩٨) والكشاف ١ / ٥٤١ والدر المصون ٢ / ٤٠٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٨٤.

٥٢١

والضّمير في «به» يجوز أن يعود على الأمر ، وأن يعود على الأمن أو الخوف ؛ لأنّ العطف ب «أو» والضّمير في «ردّوه» للأمر.

قوله : (لَوْ رَدُّوهُ) أي الأمر ، (إِلَى الرَّسُولِ) أي [لم](١) يحدّثوا به حتّى يكون النّبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يحدّث به ، و «إلى أولي الأمر [منهم](٣)» أي : ذوي الرأي (٤) من الصّحابة ؛ مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وقيل : أمراء السّرايا ؛ لأنّهم الّذين لهم أمر على النّاس ، وأهل العلم ليسوا كذلك.

وأجيب عن هذا : بأن العلماء يجب على غيرهم قبول قولهم ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة : ١٢٢] فأوجب الحذر بإنذارهم ، وألزم المنذرين قبول قولهم ، فجاز لهذا المعنى إطلاق اسم أولي الأمر عليهم.

قوله : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي : يستخرجونه ، وهم العلماء علموا ما ينبغي أن يكتم ، وما ينبغي أن يفشى ، والاستنباط في اللّغة : الاستخراج ، وكذا «الإنباط» يقال : استنبط الفقيه : إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه ، وأصله من النّبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أوّل حفرها قال : [الطويل]

١٨٤٣ ـ نعم صادقا والفاعل القائل الذي

إذا قال قولا أنبط الماء في الثّرى (٥)

ويقال : نبط الماء ينبط بفتح الباء وضمها.

والنبط أيضا : جيل من الناس سمّوا بذلك ؛ لأنهم يستخرجون المياه والنبات. ويقال في الرّجل الذي يكون بعيد العزّ والمنعة : «ما يجد عدوّه له نبطا». قال كعب : [الطويل]

١٨٤٤ ـ قريب ثراه ما ينال عدوّه

له نبطا ، آبي الهوان قطوب (٦)

و «منهم» حال : إمّا من الّذين ، أو من الضّمير في «يستنبطونه» فيتعلق بمحذوف.

وقرأ أبو السّمال (٧) : «لعلمه» بسكون اللام ، قال ابن عطيّة (٨) : هو كتسكين (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥] وليس مثله ؛ لأنّ تسكين فعل بكسر العين مقيس ، وتسكين

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : الرسول.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : وقالوا أي.

(٥) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٣١٦ والدر المصون ٢ / ٤٠٢.

(٦) ينظر البيت في الأصمعيات (١٠٣) والبحر ٣ / ٣١٦ والدر المصون ٢ / ٤٠٢ والطبري ٨ / ٥٧١ والمحرر الوجيز ٢ / ٨٥.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٨٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٣١٩ ، والدر المصون ٢ / ٤٠٢.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٨٤.

٥٢٢

مفتوحها شاذّ ؛ ومثل تسكين «لعلمه» قوله : [الطويل]

١٨٤٥ ـ فإن تبله يضجر كما ضجر بازل

من الأدم دبرت صفحتاه وغاربه (١)

أي : دبرت ، فسكّن.

فصل معنى «يستنطبونه»

[قيل المراد ب «يستنبطونه» : يستخرجونه ، وقال عكرمة : يحرصون عليه (٢) ويسألون عنه](٣) ، وقال الضّحّاك : يتتبّعونه (٤) ، يريد : الذين سمعوا تلك الأخبار من المؤمنين والمنافقين ، لو ردّوه (٥) إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى ذوي الرّأي والعلم ، لعلمه الذين يستنبطونه ، أي : يحبون أي يعلموه على حقيقته كما هو.

وقيل : المراد ب (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) أولئك المنافقون المذيعون ، والتقدير : ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردّوا أمر الأمن والخوف إلى الرّسول وإلى أولي الأمر ، وطلبوا معرفة الحال [فيه](٦) من جهتهم ، لعلمه الّذين يستنبطونه منهم و [هم](٧) هؤلاء المنافقون المذيعون منهم ، أي : من جانب الرّسول ، ومن جانب أولي الأمر [منهم](٨).

فإن قيل : إذا كان الّذين أمرهم الله ـ تعالى ـ برد هذه الأخبار إلى الرّسول وإلى أولي [الأمر منهم وهم المنافقون ، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله : (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ).

الجواب : إنما جعل أولي](٩) الأمر منهم على حسب الظّاهر ؛ لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنّهم مؤمنون ، ونظيره : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) وقوله : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦].

قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً).

قال أبو العباس [المقرىء](١٠) : وردت (١١) الرّحمة [في القرآن](١٢) على سبعة أوجه :

__________________

(١) اختلف في نسبة هذا البيت فنسب لأبي الغمر الكلابي ولعبد الرحمن بن حسان ولأبي الجراح وللأخطل ينظر الإنصاف (١٢٣) ، والخزانة ٢ / ٢٧٧ والأشموني ٢ / ٢٤٣ ، وابن يعيش ٧ / ١٢٩ ، واللسان : (ضجر) ، والدر المصون ٢ / ٤٠٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٧٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٣٤) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٧٣) عن الضحاك.

(٥) في ب : ردوا.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في أ.

(١١) في ب : ودوا.

(١٢) سقط في أ.

٥٢٣

الأوّل : القرآن ، قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أراد بالفضل الإسلام (١) ، وبالرّحمة القرآن.

الثاني : بمعنى الإسلام ؛ قال ـ تعالى ـ : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) [الإنسان : ٣١] أي : في الإسلام [ومثله (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) [الشورى : ٨] أي : في دين الإسلام](٢).

الثالث : [بمعنى](٣) : الجنة ؛ قال ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) [العنكبوت : ٢٣] أي : من جنّتي.

الرّابع : المطر ؛ قال ـ تعالى ـ : (يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ).

الخامس : النّعمة ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ).

السادس : النبوة ؛ قال ـ تعالى ـ : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] ، أي : النّبوّة.

السابع : الرّزق ؛ قال ـ تعالى ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] : من الرّزق ؛ ومثله (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) أي : رزقا.

فصل

اعلم : أن ظاهر هذا الاستثناء يوهم أنّ ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته ، وذلك محال.

قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) ذكر المفسّرون فيها عشرة أوجه :

الأول : قال بعضهم : إنه مستثنى من فاعل «اتبعتم» أي : لاتّبعتم الشيطان إلا قليلا منكم ، فإنه لم يتّبع الشّيطان ، على تقدير كون فضل الله لم يأته ، ويكون أراد بفضل الله الإسلام وإرسال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) كلام تامّ ، [وذلك القليل ؛ كقسّ بن ساعدة الإيادي ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وجماعة سواهم ممّن كان على دين المسيح قبل بعثة الرسول].

وقال أبو مسلم (٤) : المراد بفضل الله ورحمته في هذه الآية : هو نصرته ومعونته اللّذان تمنّاهما المنافقون ؛ بقولهم : (فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء : ٧٣] بيّن ـ تعالى ـ أنّه لو لا حصول النّصر والظّفر على سبيل التّتابع ، لاتّبعتم الشّيطان وتركتم الدين إلّا قليلا منكم ، وهم أهل البصائر النّافذة ، والنّيّات القويّة (٥) ، والعزائم المتمكّنة من أفاضل

__________________

(١) في أ : الإنسان.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٦١.

(٥) في أ : القوفية.

٥٢٤

المؤمنين ، الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقّا هو الدّولة في الدّنيا ، فلأجل تواتر الفتح (١) والظّفر في الدّنيا يدل على كونه حقا ؛ ولأجل تواتر الهزيمة والانكسار يدلّ على كونه باطلا ، بل الأمر في كونه حقا وباطلا على الدّليل ، وهو أحسن الوجوه.

[وقيل : المراد من لم يبلغ التكليف ، وعلى هذا التّأويل قيل : فالاستثناء منقطع ؛ لأن المستثنى لم يدخل تحت الخطاب ، وفيه نظر يظهر في الوجه العاشر.

الثاني : أنه مستثنى من فاعل «أذاعوا» أي : أظهروا أمر الأمن أو الخوف إلا قليلا فأخرج بعض المنافقين من هذه الإذاعة.

الثالث : أنه مستثنى من فاعل «علمه» أي : لعلمه المستنبطون منهم إلا قليلا].

قال الفرّاء والمبرد (٢) : [وأما](٣) القول بأنّه مستثنى من فاعل «أذاعوا» أولى من هذا ؛ لأن ما يعلم بالاستنباط ؛ فالأقلّ (٤) يعلمه والأكثر يجهله ، وصرف الاستثناء إلى المستنبطين يقتضي ضدّ ذلك.

قال الزّجّاج (٥) : هذا غلط ؛ لأنه ليس المراد من هذا الاستثناء (٦) شيئا يستخرجه بنظر دقيق وفكر غامض ، إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إنّما البالغ في البلادة والجهالة هو الّذي لا يعرفه ، ويمكن أن يقال : كلام الزّجّاج إنما يصحّ لو حملنا الاستنباط (٧) على مجرّد تعرّف الأخبار والأراجيف ، [أمّا](٨) إذا حملناه على الاستنباط في جميع الأحكام ، كان الحقّ ما ذكره الفرّاء والمبرّد.

الرابع : أنه مستثنى من فاعل «لوجدوا» أي : لوجدوا فيما هو من عند غير الله التناقض إلا قليلا منهم ، وهو من لم يمعن النّظر ، فيظنّ الباطل حقا والمتناقض موافقا.

الخامس : أنه مستثنى من الضّمير المجرور في «عليكم» ، وتأويله كتأويل الوجه الأول.

السادس : أنه مستثنى من فاعل «يستنبطونه» ، وتأويله كتأويل الوجه الثّالث.

السابع : أنه مستثنى من المصدر الدالّ عليه الفعل ، والتقدير : لاتّبعتم الشيطان إلا اتّباعا قليلا ؛ ذكر ذلك الزّمخشري (٩).

الثّامن : أنه مستثنى من المتّبع فيه ، والتقدير : لاتبعتم الشّيطان كلكم إلا قليلا من الأمور كنتم لا تتّبعون الشّيطان فيها ، فالمعنى : لاتبعتم الشّيطان في كل شيء إلا في قليل

__________________

(١) في أ : النسخ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٦١.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : في الأدل.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٦١.

(٦) في أ : الاستنباط.

(٧) في أ : الاستثناء.

(٨) سقط في أ.

(٩) ينظر : الكشاف ١ / ٥٤٢.

٥٢٥

من الأمور ، فإنكم كنتم لا تتّبعونه فيها ، وعلى هذا فهو استثناء مفرّغ ؛ ذكر ذلك ابن عطيّة (١) ، إلا أنّ في كلامه مناقشة : وهو أنّه قال «أي : لاتّبعتم الشّيطان كلّكم إلا قليلا من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها» ، فجعله هنا مستثنى من المتّبع فيه المحذوف على ما تقدّم تقريره ، وكان تقدّم أنه مستثنى من الاتّباع ، فتقديره يؤدّي إلى استثنائه من المتّبع فيه ، وادّعاؤه أنه استثناء من الاتباع ، وهما غيران.

التاسع : أن المراد بالقلة العدم ، يريد : لاتّبعتم الشّيطان كلكم وعدم تخلّف أحد منكم ؛ نقله ابن عطية عن جماعة وعن الطّبري (٢) ، وردّه بأن اقتران القلّة بالاستثناء يقتضي دخولها ؛ قال : «وهذا كلام قلق ولا يشبه ما حكى سيبويه من قولهم : «هذه أرض قلّ ما تنبت كذا» أي : لا تنبت شيئا».

وهذا الذي قاله صحيح ، إلا أنه كان تقدّم له في البقرة في قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] أن التّقليل هنا بمعنى العدم ، وتقدّم الردّ عليه هناك ، فتنبّه لهذا المعنى هنا ولم يتنبه له هناك.

العاشر : أن المخاطب بقوله : «لاتبعتم» جميع النّاس على العموم ، والمراد بالقليل : أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وأيّد صاحب هذا القول قوله بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «ما أنتم في سواكم من الأمم إلّا كالرّقمة البيضاء في الثّور الأسود» (٣).

فصل دلالة الآية على حجية القياس

دلت هذه الآية على أنّ القياس حجّة في الشّرع ؛ لأن قوله : (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) صفة لأولي الأمر ، وقد أوجب الله على الذين يجيئهم أمرين : الأمن ، أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم ولا يخلو إمّا أن يرجعوا إليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النّصّ فيها أو لا ، والأوّل باطل ؛ لأن من استدلّ بالنّصّ في واقعة لا يقال : إنه استنبط الحكم ؛ فثبت أنه ـ تعالى ـ أمر المكلّف بردّ الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها ، ولو لا أن الاستنباط حجّة ، لما أمر المكلّف بذلك ؛ فثبت أن الاستنباط حجّة ، وإذا ثبت ذلك فنقول : دلت الآية على أمور :

منها : أن في الأحكام ما لا يعرف بالنّصّ ، بل بالاستنباط.

ومنها : أنّ الاستنباط حجّة.

__________________

(١) ينظر : تفسير المحرر الوجيز ٢ / ٨٥.

(٢) ينظر : الطبري ٤ / ١٨٦.

(٣) أخرجه بهذا اللفظ الإمام مسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان (٣٧٨) وله شاهد من حديث ابن مسعود بلفظ : ما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.

أخرجه البخاري كتاب الرقاق : باب كيف الحشر رقم (٦٥٢٨) ومسلم كتاب الإيمان ب ٩٥ رقم (٣٧٧) وابن ماجه (٤٢٨٣) وأحمد (١ / ٢٣٨).

٥٢٦

ومنها : أن العاميّ يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث.

ومنها : أن النّبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان مكلّفا باستنباط الأحكام ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أمر بالرّدّ إلى أولي الأمر ، ثم قال : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ولم يخصّص أولي الأمر دون الرّسول ، وذلك يوجب أنّ الرّسول وأولي الأمر كلهم مكلّفون بالاستنباط.

فإن قيل : لا نسلّم أن المراد ب (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أولي الأمر ، لكن هذه الآية إنّما نزلت في بيان الوقائع المتعلّقة بالحروب والجهاد ، فهب أن الرّجوع إلى الاستنباط جائز فيها ، فلم قلتم بجوازه في الوقائع الشّرعيّة ؛ فإن قيس (١) أحد البابين على الآخر ، كان ذلك إثباتا للقياس الشّرعيّ بالقياس ، وأنّه لا يجوز أن الاستنباط في الأحكام الشّرعيّة داخل تحت الآية فلمّا قلتم يلزم أن يكون القياس حجّة ، فإنّه يمكن أن يكون المراد بالاستنباط : استخراج الأحكام من النّصوص الخفيّة ، أو من تركيبات النّصوص ، أو المراد منه استخراج الأحكام من البراءة الأصليّة ، أو مما ثبت بحكم العقل ، كما يقول الأكثرون إن الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضارّ الحرمة.

سلمنا أنّ القياس الشّرعي داخل في الآية ، لكن بشرط أن يكون القياس مفيدا للعلم ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). فاعتبر حصول العلم من هذا الاستنباط ، ولا نزاع في مثل هذا القياس ، إنما النّزاع في القياس الّذي يفيد الظّنّ : هل هو حجّة في الشرع ، أم لا.

والجواب : أمّا الأوّل فلا يصح ؛ لأنّه يصير التقدير : ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي

الأمر منهم لعلموه ، وعطف المظهر على المضمر ، وهو قوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ) قبيح مستكره.

وأما الثّاني فمدفوع من وجهين :

أحدهما : أن قوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) حاصل في كل ما يتعلّق بباب التّكليف ، فليس في الآية ما يوجب تخصيصها بأمر الحروب.

وثانيها : هب أن الأمر كما ذكرتم ، لكن لمّا ثبت تعرّف أحكام الحروب بالقياس الشّرعيّ ، وجب أن يتمسّك بالقياس الشّرعيّ في سائر الوقائع ، لأنه لا قائل بالفرق.

وأما الثّالث : وهو حمل الاستنباط على استخراج النّصوص الخفيّة أو على تركيبات النّصوص ، فكلّ ذلك لا يخرجه عن كونه منصوصا ، والتّمسّك بالنّصّ لا يسمّى استنباطا.

وأما قوله : لا يجوز حمله على التمسّك بالبراءة الأصليّة.

__________________

(١) في أ : قستم.

٥٢٧

قلنا : ليس هذا استنباطا ، بل هذا إبقاء لما كان على ما كان ، ومثل هذا لا يسمّى استنباطا.

وأما الرابع : وهو أن هذا الاستنباط إنّما يجوز عند حصول العلم ، والقياس الشّرعيّ لا يفيد العلم.

فنقول : جوابه من وجهين :

أحدهما : أنّه عندنا يفيد العلم ؛ لأن ثبوت أن القياس حجّة يقطع بأنّه مهما غلب على الظّنّ أنّ حكم الله في الأصل معلّل بكذا ، ثمّ غلب على الظّنّ أنّ ذلك المعنى قائم في الفرع ، فهنا يحصل ظنّ أنّ حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الأصل ، وعند هذا الظّنّ يقطع بأنّه مكلّف بأن يعمل على وفق هذا الظّنّ ؛ فالحاصل : أن الظّنّ واقع في طريق الحكم ، وأما الحكم فمقطوع (١) به ، وهو يجري مجرى ما إذا قال الله ـ تعالى ـ : مهما غلب على ظنّك كذا ، فاعلم أنّ حكمي في الواقعة كذا ، فإذا غلب الظّنّ قطعنا بثبوت ذلك الحكم.

وثانيهما : أن العلم قد يطلق ويراد به الظّنّ ؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا علمت مثل الشّمس فاشهد» شرط العلم في جواز الشّهادة ، وأجمعنا على أنّ عند الظّنّ تجوز الشّهادة ؛ فثبت أنّ الظّنّ قد يسمّى بالعلم.

فصل في رد شبهة للمعتزلة

دلّت [هذه](٢) الآية على أنّ الذين اتّبعوا الشّيطان ، قد منعهم الله فضله ورحمته وإلا ما كان يتبع ، وهذا يدلّ على فساد قول المعتزلة : في أنّه يجب على الله رعاية الأصلح في الدّين.

أجابوا : بأن فضل الله ورحمته [عامّات في حق الكلّ ، لكن المؤمنين انتفعوا به ، والكافرين لم ينتفعوا به فصحّ على سبيل المجاز أنه لم يحصل للكافرين فضل الله ورحمته](٣) في الدّين.

والجواب : أن حمل اللّفظ على المجاز خلاف الأصل.

قوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)(٨٤)

قوله ـ تعالى ـ : «فقاتل» : في هذه الفاء خمسة أوجه :

أحدها : أنّها عاطفة هذه الجملة على جملة قوله : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٧٤].

__________________

(١) في أ : المقطوع.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

٥٢٨

الثاني : أنها عاطفتها على جملة قوله : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) [النساء : ٧٦].

الثالث : أنّها عاطفتها على جملة قوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ) [النساء : ٧٥].

الرابع : أنها عاطفتها على جملة قوله : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٧٤].

الخامس : أنها جواب شرط مقدّر ، أي : إن أردت فقاتل ، وأول هذه الأقوال هو الأظهر.

فصل

لما أمر بالجهاد في الآيات المتقدّمة ورغب فيه ، وذكر قلّة رغبة المنافقين في الجهاد ، عاد [إلى](١) الأمر بالجهاد في هذه الآية.

قوله : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) في هذه الجملة قولان :

أحدهما : أنها في محلّ نصب على الحال من فاعل «فقاتل» أي : فقاتل غير مكلّف إلا نفسك وحدها.

والثاني : أنها مستأنفة أخبره ـ تعالى ـ أنه لا يكلّف غير نفسه.

والجمهور على «تكلّف» بتاء الخطاب ورفع الفعل مبنيّا للمفعول ، و «نفسك» هو المفعول الثاني ، وقرأ عبد الله بن عمر (٢) : «لا تكلّف» كالجماعة إلا أنه جزمه ، فقيل : على جواب الأمر ، وفيه نظر ، والذي ينبغي أن يكون نهيا ، وهي جملة مستأنفة ، ولا يجوز أن تكون حالا في قراءة عبد الله ؛ لأنّ الطّلب لا يكون حالا ، وقرىء «لا نكلف» بنون (٣) العظمة ورفع الفعل ، وهو يحتمل الحال والاستئناف المتقدّمين.

فصل في سبب نزول الآية

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعد أبا (٤) سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصّغرى في ذي القعدة ، فلما بلغ الميعاد دعا النّاس إلى الخروج فكرهه بعضهم ؛ فأنزل الله : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ)(٥) أي : لا تدع جهاد العدوّ ولو وحدك ، فإن الله قد وعدك بالنّصرة ، و (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي : حثّهم (٦) ورغّبهم في الثّواب ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعين راكبا فكفاهم الله القتال.

والتّحريض : الحثّ على الشيء ، قال الرّاغب (٧) : كأنه في الأصل إزالة الحرض ، نحو : «قذيته» أي : أزلت قذاه ، وأحرضته : أفسدته كأقذيته ، أي : جعلت فيه القذى ، والحرض في الأصل : ما لا يعتدّ به ولا خير فيه ، ولذلك يقال للمشرف على الهلاك :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٢١ ، والدر المصون ٢ / ٤٠٤.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) في ب : بني.

(٥) تقدم.

(٦) في أ : بينهم.

(٧) ينظر : المفردات ص ١١٢.

٥٢٩

«حرض» ؛ قال ـ تعالى ـ : (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) [يوسف : ٨٥] وأحرضه كذا ، قال : [البسيط]

١٨٤٦ ـ إنّي امرؤ رابني همّ فأحرضني

حتّى بليت وحتّى شفّني السّقم (١)

فصل

دلّت الآية على أنّه لو لم يساعده على القتال غيره ، لم يجز له التّخلّف عن الجهاد ألبتّة ، والمعنى : لا تؤاخذ [إلا](٢) بفعلك دون فعل غيرك ، فإذا أدّيت فرضك لا تكلّف بفرض غيرك ، واعلم : أنّ الجهاد في حقّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجب ، فإنه على ثقة من النّصر والظّفر ؛ لقوله ـ [تعالى](٣) ـ : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ، وقوله ههنا : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وعسى من الله : جزم واجب فلزمه الجهاد وإن كان وحده بخلاف أمّته ، فإنه فرض كفاية ، فما لم يغلب على الظّنّ أنه يفيد ، لم يجب.

وقوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : قتال المشركين والبأس أصله المكروه ، يقال : ما عليك من هذا الأمر بأس ، أي : مكروه ، ويقال : بئس الشّيء هذا إذا وصف بالرّداءة : قال ـ تعالى (٤) ـ : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦] ، والعذاب قد يسمّى بأسا ؛ لكونه مكروها ؛ قال ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) [غافر : ٢٩] ، (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا).

قوله : (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) «بأسا» و «تنكيلا» : تمييز ، والتّنكيل تفعيل من النّكل وهو القيد ، ثم استعمل في كلّ عذاب يقال : نكلت فلانا ؛ إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله ، من قولهم : نكل الرّجل عن الشّيء ؛ إذا جبن عنه وامتنع منه ؛ يقال : نكل فلان عن اليمين ؛ إذا خافه (٥) ولم يقدم عليه ، قال ـ تعالى ـ : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) [البقرة : ٦٦] وقال في حدّ السّرقة (٦) : (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) [المائدة : ٣٨] ، فقوله : (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أي : أشد صولة وأعظم سلطانا ، (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي : عقوبة ، وبيان هذا التّفاوت أنّ عذاب الله دائم ، وعذاب غيره لا يدوم ، وعذاب الله لا يقدر أحد على التّخلّص منه ، وعذاب غيره يتخلّص منه.

قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً)(٨٥)

في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوه :

__________________

(١) البيت للعرجي. ينظر القرطبي ٩ / ٢٥٠ وروح المعاني ٥ / ١٩ ومجاز القرآن ١ / ٣١٧ والطبري ١٦ / ٢٢٢ وأمالي ابن الشجري ١ / ٣٦٩ والصحاح ٣ / ١٠٧٠ واللسان (حرض) والدر المصون ٢ / ٤٠٤.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : ثعلب.

(٥) في ب : خاف.

(٦) في ب : السارق.

٥٣٠

أحدها : أنه ـ تعالى ـ لمّا أمر (١) الرّسول ـ [عليه الصلاة والسلام](٢) ـ بأن يحرّض الأمّة على الجهاد ، وهو طاعة حسنة ، بيّن في هذه الآية (٣) أنّ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ، والغرض منه : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يستحقّ بالتّحريض على الجهاد أجرا عظيما.

وثانيها : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يوصيهم (٤) بالقتال ، ويبالغ في تحريضهم عليه ، فكان بعض المنافقين يشفع إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يأذن لهم في التّخلّف عن الغزو ، فنهى [الله](٥) عن مثل هذه الشّفاعة ، وبيّن أن [هذه](٦) الشّفاعة إذا كانت وسيلة إلى معصية ، كانت محرّمة.

وثالثها : أنّه يجوز أن يكون بعض المؤمنين راغبا في الجهاد ، ولا يجد أهبة الجهاد ، فصار غيره من المؤمنين شفيعا له إلى مؤمن آخر ؛ ليعينه على الجهاد ، والشّفاعة مأخوذة من الشّفع وهو الزّوج من العدد ، ومنه الشّفيع ، [وهو](٧) أن يصير الإنسان [نفسه](٨) شفعا لصاحب الحاجة ؛ حتى يجتمع معه على المسألة فيها ، [ومنه ناقة شفوع : إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة ، وناقة شفيع : إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها ، والشّفعة : ضم ملك الشّريك إلى ملكك (٩) ، والشّفاعة إذا ضمّ غيرك إلى جاهك ، فهي

__________________

(١) في أ : أرسل.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : هذا الموضع.

(٤) في ب : يرغبهم.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

(٩) هي لغة الضم ، يقال : شفعت الشيء ؛ ضممته إلى غيره .. ومناسبة هذا للمعنى الشرعي : أن الشريك يضم نصيب شريكه إلى نصيبه ...

وقيل : من الشّفع ضد الوتر ؛ لأن الشفيع يضمّ حصة شريكه إلى حصته ، فيصيران شفعا ، وقد كانت حصته وترا ...

وقيل : من الشفاعة ؛ لأن الرجل في الجاهلية كان إذا أراد بيع داره ، أتاه شريكه ، فشفع إليه فيما باع ، فشفعه وجعله أولى به من غيره ، وهذا قول محمد بن قتيبة في «غريب الحديث» .. وفي «المصباح» : «شفعت الشيء شفعا من باب «نفع» : ضممته إلى الفرد ، وشفعت الركعة جعلتها ثنتين ، ومن هنا اشتقت الشفعة وهي مثال غرفة ؛ لأن صاحبها يشفع ماله بها ، وهي اسم للملك المشفوع ؛ مثل اللقمة اسم للشيء الملقوم ، وتستعمل بمعنى «التملك» لذلك الملك ؛ ومنه قولهم : «من ثبت له شفعة فأخر الطلب بغير عذر ، بطلت شفعته» ففي هذا المثال جمع بين المعنيين ؛ فإن الأولى للمال ، والثانية للتملك». اه ... وشرعا : «حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الحادث فيما ملك بعوض» .. فأركانها ثلاثة :

الأول : مشفوع : وهو الشقص.

الثاني : ومشفوع منه ؛ وهو الشريك الحادث.

الثالث : وشفيع ؛ وهو الشريك القديم.

وأما الصيغة كتملكت بالشفعة ونحوه ، فلا تجب إلا عند التملك ، فهي شرط فيه ، وليست ركنا من أركان الشفعة ؛ لأن الاستحقاق يثبت بالبيع من غير لفظ. ـ

٥٣١

على التّحقيق إظهار لمنزلة الشّفيع عند المشفّع ، وإيصال المنفعة إلى المشفوع له](١) فيكون المراد : تحريض النّبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ إيّاهم على الجهاد ؛ لأنه إذا أمرهم بالغدو (٢) ، فقد جعل نفسه شفعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلّقة بالجهاد ، والتّحريض على الشّيء عبارة عن الأمر به على وجه الرّفق والتّلطّف ، وذلك يجري مجرى الشّفاعة.

وقيل : المراد ما تقدّم من شفاعة بعض المنافقين النّبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ في أن يأذن لبعضهم في التّخلّف.

ونقل الواحديّ (٣) عن ابن عبّاس ؛ ما معناه : أن الشّفاعة الحسنة ههنا ، وهي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفّار ، والشفاعة السّيّئة : أن يشفع كفره بموالاة الكفّار ، وقيل : الشّفاعة الحسنة : ما تقدّم في أن يشفع مؤمن لمؤمن [عند مؤمن](٤) آخر ؛ في أن يحصّل له آلات الجهاد ، وروي عن ابن عبّاس ؛ أن الشفاعة الحسنة [هي الإصلاح بين النّاس ، والشّفاعة السّيّئة ، هي النّميمة بين النّاس.

وقيل](٥) : هي حسن القول في النّاس ينال به الثّواب والخير ، والسّيّئة هي الغيبة والقول السيّىء في النّاس ينال به الشّرّ. والمراد بالكفل : الوزر.

قال الحسن مجاهد والكلبي وابن زيد : المراد شفاعة النّاس بعضهم لبعض (٦) ، فإن كان في ما يجوز ، فهو شفاعة حسنة ، وإن كان فيما لا يجوز ، فهو شفاعة سيّئة.

قال ابن الخطيب (٧) : هذه الشّفاعة لا بدّ وأن يكون لها تعلّق بالجهاد ، وإلّا صارت

__________________

ـ اصطلاحا :

عرفها الحنفية بأنها : ضم ملك البائع إلى ملك الشفيع ، وتثبت للشفيع بالثمن الذي بيع به رضي المتبايعان أو شرطا.

عرفها الشافعية بأنها : حق تملك قهري ، يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث ، فيما ملك بعوض.

عرفها المالكية بأنها : استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه.

عرفها الحنابلة بأنها : استحقاق انتزاع الإنسان حصة شريكه من مشتريها بمثل ثمنها.

ينظر : الاختيار ٢ / ٥٦ ، حاشية ابن عابدين ٥ / ١٣٧ ، فتح القدير : ٩ / ٣٦٨ ، المبسوط ١٤ / ٩٠ ، حاشية البجيرمي ٣ / ١٤٥ ، مغني المحتاج ٢ / ٢٩٦ ، منح الجليل ٣ / ٥٨٢ ، الإنصاف ٦ / ٢٥٠ ، الكافي ٢ / ٤١٦ الصحاح ٣ / ١٢٣٨ ، المغرب ٢٥٣ ، المصباح المنير ١ / ٤٨٥.

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : بالفعل.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٦٥.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٨١ ـ ٥٨٢) عن مجاهد والحسن وابن زيد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٣٥) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا (٢ / ٣٣٥) عن الحسن وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٦٥.

٥٣٢

الآية منقطعة عما قبلها ، فإن أرادوا دخول هذه الوجوه في اللّفظ العام فيجوز ؛ لأن خصوص السّبب لا يقدح في عموم اللّفظ.

«والكفل» : النّصيب ، إلّا أنّ استعماله في الشّرّ أكثر ، عكس النصيب ، وإن كان قد استعمل الكفل في الخير ، قال تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] وأصله قالوا : مستعار من كفل البعير ، وهو كساء يدار حول سنامه ليركب ، سمّي بذلك ؛ لأنّه لم يعمّ ظهره كلّه بل نصيبا منه ، ولغلبة استعماله في الشّرّ ، واستعمال النّصيب في الخير ، غاير بينهما في هذه الآية الكريمة ، إذ أتى بالكفل مع السّيّئة ، والنّصيب مع الحسنة ، و «منها» الظّاهر أن «من» هنا سببيّة ، أي : كفل بسببها [ونصيب بسببها] ، ويجوز أن تكون ابتدائية ، والمقيت : المقتدر [قال ابن عباس : مقتدرا مجازيا] ، قال : [الوافر]

١٨٤٧ ـ وذي ضغن كففت الودّ عنه

وكنت على إساءته مقيتا (١)

أي : مقتدرا ، ومنه : [الخفيف]

١٨٤٨ ـ ليت شعري وأشعرنّ إذا ما

قرّبوها منشورة ودعيت

ألي الفضل أم عليّ إذا حو

سبت؟ أنّي على الحساب مقيت (٢)

وأنشد نضر بن شميل : [الطويل]

١٨٤٩ ـ تجلّد ولا تعجز (٣) وكن ذا حفيظة (٤)

فإنّي على ما ساءهم لمقيت (٥)

قال النّحّاس : «هو مشتقّ من القوت ، وهو مقدار ما يحفظ به بدن الإنسان من الهلاك» فأصل مقيت : مقوت كمقيم.

[و](٦) يقال : قتّ الرّجل ؛ إذا حفظت عليه نفسه (٧) «وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت» وفي رواية من رواه هكذا ، أي : من هو تحت قدرته وفي قبضته (٨) من عيال (٩) وغيره ؛ ذكره ابن عطيّة (١٠) : يقول [منه : قتّه](١١) أقوته قوتا ، وأقتّه أقيته إقاتة ، فأنا قائت ومقيت.

__________________

(١) البيت للزبير بن عبد المطلب : ينظر البحر ٣ / ٣١٦. والدر المصون ٢ / ٤٠٥ وشواهد الكشاف ٤ / ٣٥١.

(٢) البيتان للسموأل بن عادياء ينظر ديوانه ص ١٢ ، والدرر ٥ / ١٦٦ ، ولسان العرب (قوت) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٣٢ وشرح الأشموني ٢ / ٥٠٠ ، وإصلاح المنطق ص ٢٧٧ وهمع الهوامع ٢ / ٧٩ ومجاز القرآن ١ / ١٣٥ والكشاف ١ / ٥٤٣ والأصمعيات (٨٦) والعيني ٤ / ٣٢٢ والقرطبي ٥ / ١٩١ والدر المصون ٢ / ٤٠٥ ، والطبري ٥ / ١١٩.

(٣) في ب : تفزع.

(٤) في ب : حفظة.

(٥) ينظر : الرازي ١٠ / ١٦٦.

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : السلام.

(٨) في ب : نفسه.

(٩) في ب : عياله.

(١٠) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٩١.

(١١) سقط في ب.

٥٣٣

وأمّا قول الشّاعر : [الخفيف]

١٨٥٠ ـ ............

إنّي على الحساب مقيت (١)

فقال الطّبري : إنه من غير هذا [المعنى المتقدّم ، فإنه بمعنى الموقوف ،](٢) فأصل مقيت : مقوت كمقيم.

وقال مجاهد : معنى مقيتا : شاهدا (٣)(٤) وقال قتادة : حفيظا (٥) ، وقيل معناه : على كل حيوان مقيتا ، أي (٦) : يوصل القوت (٧) إليه.

قال القفّال (٨) : وأي هذين المعنيين كان فالتّأويل صحيح ، وهو أنه ـ تعالى ـ قادر على إيصال النّصيب والكفيل من الجزاء إلى الشّافع ؛ مثل ما يوصله إلى المشفوع ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ، ولا ينتقص بسبب (٩) ما يصل إلى الشّافع [شيء](١٠) من جزاء المشفوع ، وعلى الوجه الآخر : أنّه ـ تعالى ـ حافظ الأشياء شاهد عليها ، لا يخفى عليه شيء من أحوالها ، فهو عالم بأن الشّافع يشفع في حقّ [أو في](١١) باطل ، حفيظ عليهم فيجازي كلّا بما علمه منه.

وقوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) ولم يقيته بوقت ، والحال (١٢) يدلّ على أن هذه الصّفة كانت ثابتة له من الأزل إلى الأبد وليست محدثة.

قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً)(٨٦)

في النّظم وجهان :

أحدهما : أنّه لما أمر المؤمنين بالجهاد ، أمرهم أيضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسالمة (١٣) فكونوا أنتم [أيضا](١٤) راضين بها ، فقوله (١٥) : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١].

__________________

(١) تقدم قريبا.

(٢) قط في أ.

(٣) في ب : شاذا.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٨٣) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٣٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٨٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٣٦) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٦) في ب : أو.

(٧) في ب : المقوت.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٦٦.

(٩) في ب : نصيب.

(١٠) سقط في أ.

(١١) سقط في أ.

(١٢) في ب : ولا حال.

(١٣) في ب : بالمسألة.

(١٤) سقط في ب.

(١٥) في ب : فقوله.

٥٣٤

والثّاني : أن الرّجل [في الجهاد](١) كان يلقاه الرّجل في دار الحرب أو ما يقاربها ، فيسّلم عليه فقد لا يلتفت إلى سلامه [ويقتله](٢) ، وربّما ظهر أنّه كان مسلما ، فأمرهم بأن يسلّم عليهم أو يكرمهم ، فإنهم يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد ، فإن كان كافرا ، لم يضرّ المسلم مقابلة إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام ، وإن كان مسلما فقتله ، ففيه أعظم المضارّ والمفاسد ، ويقال : التحية [في الأصل](٣) : البقاء والملك.

قال القرطبي (٤) : قال عبد الله بن صالح العجليّ : سألت الكسائيّ عن قوله : «التحيات لله» ما معناها؟ فقال : التّحيّات مثل البركات ، قلت : ما معنى «البركات»؟ فقال : ما سمعت (٥) فيها شيئا ، وسألت عنها محمّد بن الحسن [فقال](٦) : هو شيء تعبّد الله به عباده ، فقدمت الكوفة فلقيت عبد الله بن إدريس ، فقلت : إني سألت الكسائيّ ، ومحمّد عن قوله : «التحيات لله» فأجابني بكذا وكذا ، فقال عبد الله بن إدريس : إنه لا علم لهما بالشّعر وبهذه الأشياء ؛ التّحيّة : الملك وأنشده : [الوافر]

١٨٥١ ـ أؤمّ بها أبا قابوس حتى

أنيخ على تحيّته بجندي (٧)

وقال آخر : [مجزوء الكامل]

١٨٥٢ ـ ولكلّ ما نال الفتى

قد نلته إلّا التّحيّة (٨)

ويقال : التّحيّة : البقاء والملك ، ومنه : «التحيات لله» ، ثم استعملت في السلام مجازا ، ووزنها : تفعلة من حيّيت ، وكان في الأصل : تحيية ؛ مثل : توصية وتسمية ، والعرب تؤثر التّفعلة على التّفعيل [في](٩) ذوات الأربع ؛ نحو قوله : (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [الواقعة : ٩٤].

والأصل : تحيية فأدغمت ، وهذا الإدغام واجب خلافا للمازني ، وأصل الأصل تحييّ ؛ لأنه مصدر حيّا ، وحيّا : فعّل ، وفعّل مصدره على التّفعيل ، إلا أن يكون معتلّ اللام ؛ نحو : زكّى وغطّى ، فإنّه تحذف إحدى الياءين ويعوّض منها تاء التّأنيث ؛ فيقال : تزكيه وتغطية ، إلا ما شذّ من قوله : [الرجز]

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٩١.

(٥) في ب : عرفت.

(٦) سقط في أ.

(٧) البيت لعمرو بن معديكرب. ينظر تفسير القرطبي ٥ / ١٩١ والبحر المحيط ٣ / ٣١٦ ، والدر المصون ٢ / ٤٠٥ ، وإصلاح المنطق ٣١٦.

(٨) البيت لزهير الكلبي. ينظر تفسير القرطبي ٥ / ١٩٢ والتصريح ١ / ٣٢٦ واللسان (جبا) والدر المصون ٢ / ٤٠٥.

(٩) سقط في ب.

٥٣٥

١٨٥٣ ـ باتت تنزّي دلوها تنزيّا

كما تنزّي شهلة صبيّا (١)

إلا أن هذا الشّذوذ لا يجوز مثله في نحو : «حيّا» لاعتدال عينه ولامه بالياء ، وألحق بعضهم ما لامه همزة بالمعتلّها ، نحو : «نبّأ تنبئة» و «خبّأ تخبئة» ؛ ومثلها : أعيية وأعيّة ، جمع عييّ.

وقال الرّاغب (٢) : وأصل التّحيّة من الحياة ، ثم جعل كلّ دعاء تحيّة ؛ لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب الحياة ، وأصل التحية أن تقول : «حياك الله» ثم استعمل في عرف الشّرع في دعاء مخصوص.

وجعل التحيّة اسما للسّلام ؛ قال ـ تعالى ـ : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] ، ومنه قول المصلّي : «التحيات لله» أي : السّلامة من الآفات لله. قال [الكامل]

١٨٥٤ أ ـ حيّيت من طلل تقادم عهده

 .............. (٣)

وقال آخر : [البسيط]

١٨٥٤ ب ـ إنّا محيّوك يا سلمى فحيّينا

 ............. (٤)

فصل في أفضلية «السلام عليكم»

واعلم أن قول القائل لغيره : السّلام عليك ، أتم من قوله : حيّاك الله ؛ لأن الحيّ إذا كان حليما كان حيّا لا محالة ، وليس إذا كان حيّا كان سليما ؛ لأنّه قد تكون حياته مقرونة بالآفات ، وأيضا فإن السلام اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ ، فالابتداء بذكر الله ـ تعالى ـ أجمل من قوله : حيّاك الله ، وأيضا : فقول الإنسان لغيره : السلام عليك ، بشارة له بالسّلام ، وقوله حيّاك الله لا يفيد ذلك ، قالوا : ومعنى قوله : السلام عليك ، أي : أنت سليم منّي فاجعلني سليما منك ، ولهذا كانت العرب إذا أساء بعضهم لم يردّوا السلام ، فإن ردّوا عليهم‌السلام ، أمنوا من شرّهم ، وإن لم يردّوا عليهم‌السلام ، لم يؤمنوا شرّهم.

__________________

(١) ينظر البيت في شواهد الشافية ١ / ١٦٥ والمقرب ٢ / ١٣٤ والمنصف ٢ / ١٩٥ والخصائص ٢ / ٣٠٢ والدر المصون ٢ / ٤٠٥.

(٢) ينظر : المفردات ١٤٠.

(٣) صدر بيت لعنترة وعجزه :

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم

ينظر شرح المعلقات لابن النحاس ٢ / ٨ ، وتفسير الرازي ١٠ / ١٦٧.

(٤) صدر بيت لبشامة بن حزن النهشلي وعجزه :

وإن سقيت كرام الناس فاسقينا

ينظر : خزانة الأدب ٨ / ٣٠٢ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٠٠ والمقاصد النحوية ٣ / ٣٧٠ ، وتفسير الرازي ١٠ / ١٦٧.

٥٣٦

فصل في الوجوه الدّالة على أفضلية السّلام

ومما يدل على أفضليّة السلام : أنّه من أسماء الله ـ تعالى ـ ، وقوله ـ [تعالى](١) ـ (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) [هود : ٤٨] ، وقوله : (سَلامٌ هِيَ) [القدر : ٥] ، وقوله : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ (٢) الْهُدى) [طه : ٤٧] ، وقوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ) [النمل : ٥٩] ، وقوله : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ٥٤] ، وقوله : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [النحل : ٣٢] ، وقوله : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٩٠ ، ٩١] ، [وقوله](٢) : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الزمر : ٧٣] ، وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣] ، وقوله : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] ، وقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].

وأمّا الأخبار : فروي أن عبد الله بن سلام قال : لمّا سمعت بقدوم الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، دخلت في غمار (٣) النّاس ، فأوّل ما سمعت منه : «يا أيها الذين آمنوا ، أفشوا السّلام وأطعموا الطّعام وصلوا الأرحام وصلّوا باللّيل والنّاس نيام تدخلون الجنة بسلام» (٤).

وأما المعقول : قال القتبي : إنما قال : «التحيات» على الجمع ؛ لأنّه كان في الأرض ملوك يحيّون بتحيّات مختلفات ، [فيقال](٥) لبعضهم : أبيت اللّعن ، ولبعضهم : اسلم وانعم ، ولبعضهم : عش ألف سنة ، فقيل لنا : قولوا : التّحيّات لله ، أي (٦) : الألفاظ الّتي (٧) [تدلّ](٨) على الملك ، ويكنى بها عن الله ـ تعالى ـ :

قالوا : تحية النّصارى وضع اليد على الفم ، وتحيّة اليهود بعضهم لبعض : الإشارة بالأصابع ، وتحية المجوس : الانحناء ، وتحيّة العرب بعضهم لبعض قولهم حيّاك الله ، وللملوك أن يقولوا : انعم صباحا ، وتحيّة المسلمين أن يقولوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وهذه أشرف التّحيّات ، ولأن السّلام مشعر بالسّلامة من الآفات ، والسّعي في تحصيل الصّون عن الضّرر أولى من السّعي (٩) في تحصيل النّفع.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : غبار.

(٤) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٦٢ ـ ٥٦٣) كتاب صفة القيامة باب أفشوا السلام (٢٤٨٥) وابن ماجه (١ / ٤٢٤) في إقامة الصلاة : باب ما جاء في قيام الليل (٣٣٤) والدارمي (١ / ٣٤٠) وأحمد (٥ / ٤٥١) وابن السني (٢١١) والبغوي في «شرح السنة» (٢ / ٤٦٤) من حديث عبد الله بن سلام وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : في.

(٧) في ب : التي.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : السعي.

٥٣٧

وأيضا فإن الوعد بالنّفع قد يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر ، وأما الوعد بترك الضّرر ، فإنه يكون قادرا عليه لا محالة ، والسّلام يدلّ عليه.

فصل

من الناس من قال : السلام واجب ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ)](١) [النور : ٦١] ، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أفشوا السلام» والأمر للوجوب والمشهور أنه سنّة. قال بعضهم : السلام سنّة على الكفاية.

قوله : «فحيوا» أصل حيّوا : حييوا فاستثقلت الضّمّة على الياء ، فحذفت الضّمة فالتقى ساكنان : الياء والواو ، فحذفت الياء ، وضمّ ما قبل الواو.

وقوله : (بِأَحْسَنَ مِنْها) أي : بتحيّة أحسن من تلك التّحيّة الأولى.

وقوله : (أَوْ رُدُّوها) أي ردّوا مثلها ؛ لأن ردّ عينها محال فحذف المضاف ، نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

فصل في كيفية السلام

منتهى الأمر في السّلام أن يقال : السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ بدليل أن هذا القدر هو الوارد في التّشهّد.

قال العلماء : الأحسن أن المسلم إذا قال : السلام عليك ، ردّ في جوابه بالرّحمة (٢) ، وإذا ذكر السلام والرّحمة في الابتداء ، زيد في جوابه البركة وإذا ذكر الثلاثة (٣) في الابتداء ، أعادها (٤) في الجواب.

روي أن رجلا قال للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السلام عليك يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، وآخر قال : السلام عليك ورحمة الله ، فقال : وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته ، وجاء ثالث وقال : السّلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» فقال الرّجل : نقصتني فأين قول الله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ما تركت لي فضلا فرددنا عليك ما ذكرت» (٥).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : الرحمة.

(٣) في ب : التلاوة.

(٤) في أ : ادعاها.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٨٩) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٨ / ٣٣) وابن مردويه وأحمد في «الزهد» وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣٣٦) للسيوطي وحسنه.

والحديث أورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ٣٣) وقال : رواه الطبراني وفيه هشام بن لا حق قواه النسائي وترك أحمد حديثه وبقية رجاله رجال الصحيح.

٥٣٨

وقيل : معنى قوله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) إذا كان الذي يسلّم مسلما ، «أو ردوها» : ردّوا مثلها إذا كان غير مسلم.

فصل

يقول المبتدىء : السلام عليكم ، والمجيب يقول : وعليكم السلام ، وإن شاء المبتدىء قال : سلام عليكم ؛ لأن التّعريف والتّنكير ورد في ألفاظ القرآن كما تقدّم ، لكن التّنكير أكثر والكل جائز ، وأما في التّحليل (١) من الصّلاة ، فلا بدّ من الألف واللام بالاتّفاق.

فصل

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «السّنّة أن يسلّم الرّاكب على الماشي (٢) ، وراكب الفرس على راكب الحمار ، والصّغير على الكبير ، والأقلّ على الأكثر ، والقائم على القاعد». والسنّة الجهر بالسّلام ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أفشوا السّلام» قال أبو يوسف : من قال لأخر : أقرىء فلانا منّي السلام وجب عليه أن يفعل (٣).

فصل

السّنة إذا استقبلك رجل واحد فقل : سلام عليكم ، واقصد الرّجل والملكين ؛ فإنهما يردّان السلام عليك ، ومن سلّم عليه الملك فقد سلم من عذاب الله ـ تعالى ـ ، وإذا دخلت بيتا خاليا ، فسلّم على من فيه من مؤمني الجنّ ، والسّنّة أن يكون المبتدىء بالسّلام على طهارة وكذلك (٤) المجيب.

روي أن رجلا سلّم على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو على قضاء الحاجة ، فقام وتيمّم ثم ردّ السلام (٥) ، والسّنّة إذا التقى الرّجلان المبادرة بالسّلام.

فصل : المواضع التي لا يسلّم فيها

فأما المواضع التي لا يسلّم فيها فهي ثمانية :

__________________

(١) في ب : التخلل.

(٢) أخرجه البخاري (١١ / ١٥) كتاب الاستئذان باب يسلم الراكب على الماشي (٦٢٣٢) ومسلم (٤ / ١٧٠٣) كتاب السلام باب يسلم الراكب على الماشي ١ / ٢١٦٠) من حديث أبي هريرة.

(٣) تقدم.

(٤) في ب : كذا.

(٥) يشهد له حديث المهاجر بن قنفذ ؛ قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبول ، فسلمت عليه ، فلم يرد حتى توضأ ، ثم اعتذر إليّ وقال : «إني كرهت أن أذكر الله تعالى إلّا على طهر».

أخرجه أبو داود (٣٠) والترمذي (٧) وابن ماجه (٣٠٠) من حديث المهاجر وقال الترمذي : حسن صحيح.

٥٣٩

الأوّل : قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا تبدءوا اليهود بالسّلام» (١) ، ورخّص بعض العلماء في ذلك إذا دعت إليه حاجة ، وأما إذا سلّموا علينا ، فقال أكثر العلماء : ينبغي أن يقال : وعليك ؛ لأنّهم كانوا يقولون عند الدّخول على الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ السّام عليك ، فكان ـ عليه‌السلام ـ يقول : وعليكم (٢) ، فجرت السّنّة بذلك ، فإذا قلنا : وعليكم السّلام ، فهل يجوز ذكر الرّحمة؟ قال الحسن : يجوز أن يقال للكافر : وعليكم السلام ، ولكن لا يقال : ورحمة الله ؛ لأنها استغفار.

وعن الشعبيّ ؛ أنه قال لنصرانيّ وعليك السّلام ورحمة الله ، فقيل له فيه (٣) ، فقال : أليس في رحمة الله [يعيش](٤).

الثاني : إذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب ، فلا ينبغي أن يسلّم ؛ لاشتغال النّاس بالاستماع ، فإن سلّم فرد بعضهم فلا بأس ، ولو اقتصروا على الإشارة ، كان أحسن.

الثالث : إذا دخل الحمّام [فرأى](٥) النّاس متّزرين يسلّم عليهم ، وإن لم يكونوا متّزرين ، لم يسلّم عليهم.

الرابع : ترك السّلام على القارىء ؛ لأنه يقطع عليه التّلاوة ؛ وكذلك رواية الحديث.

الخامس : لا يسلّم على المشتغل بالأذان والإقامة.

السادس : لا يسلّم [على](٦) لاعب النّرد ، ولا المغنّي ، ولا مطيّر الحمام ، ولا المشتغل بمعصية الله.

السّابع : لا يسلّم على المشتغل بقضاء الحاجة ؛ لما تقدّم من الحديث ، وقال في آخره : «لو لا أنّي خشيت أن يقول : سلّمت عليه فلم يردّ الجواب ، وإلا لما أجبتك ، إذا رأيتني على هذه الحالة ، فلا تسلّم ، فإنك إن سلّمت لم أردّ عليك».

الثّامن : إذا دخل الرّجل بيته فيسلّم على امرأته ، وإن حضرت أجنبيّة ، [لم](٧) يسلم عليهما.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ١٧٠٧) كتاب السلام باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (١٣ / ٢١٦٧) وأبو داود (٤ / ٣٥٢) كتاب الأدب باب السلام على أهل الذمة (٥٢٠٥) والترمذي (٥ / ٧٢) كتاب الاستئذان : باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة (٢٧٠٠) وأحمد (٢ / ٢٦٦) وعبد الرزاق (١٩٤٥٧) والبيهقي (١٠ / ١٣٦) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٣٢٨) من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه البخاري ١١ / ٤٤ ، في كتاب الاستئذان : باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام (٦٢٥٦) ، ومسلم ٤ / ١٧٠٦ ، في كتاب السلام : باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (١٠ / ٢١٦٥).

(٣) في ب : في ذلك.

(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ١٧٠) عن عامر الشعبي.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في ب.

٥٤٠