اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

اعتقادا ثم تابوا ، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان.

وقيل : كانوا مؤمنين ، فلما كتب [عليهم](١) ، أي : فرض عليهم القتال ، نافقوا من الجبن ، وتخلّفوا عن الجهاد ، والأولى حمل الآية على المنافقين ، لأنه ـ تعالى ـ ذكر بعد هذه الآية قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) ولا شكّ أنّ هذا من كلام المنافقين.

فصل

دلّت الآية على أن إيجاب الصّلاة والزّكاة ، كان مقدّما على إيجاب الجهاد.

قوله (إِذا فَرِيقٌ :) «إذا» هنا فجائيّة ، وقد تقدّم أن فيها ثلاثة مذاهب :

أحدها ـ وهو الأصحّ : أنها ظرف مكان.

والثّاني : أنها زمان.

والثّالث : أنها حرف.

قيل في «إذا» هذه : إنها فجائية مكانيّة ، وأنها جواب ل «لمّا» في قوله : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ،) وعلى هذا ففيها وجهان :

أحدهما : أنها خبر مقدّم ، و «فريق» : مبتدأ ، و «منهم» : صفة ل «فريق» ، وكذلك «يخشون» ، ويجوز أن يكون «يخشون» حالا من «فريق» لاختصاصه بالوصف ، والتّقدير : «فبالحضرة فريق [فهو](٢) كائن منهم خاشون أو خاشين».

والثاني : أن يكون «فريق» مبتدأ ، و «منهم» : صفته ، وهو المسوّغ للابتداء به ، و «يخشون» : جملة خبرية وهو العامل في «إذا» ، وعلى القول الأوّل : العامل فيها محذوف على قاعدة الظّروف الواقعة خبرا.

وقيل : إنّها هنا ظرف زمان ، وهذا فاسد ؛ لأنها إذ ذاك لا بدّ لها من عامل ، وعاملها إمّا ما قبلها ، وإمّا ما بعدها ، لا جائز أن يكون ما قبلها لأن ما قبلها وهو «كتب» ماض لفظا ومعنى ، وهي للاستقبال ، فاستحال ذلك.

فإن قيل : تجعل هنا للمضيّ بمعنى «إذ».

قيل : لا يجوز ذلك ؛ لأنه يصير التقدير : فلمّا كتب عليهم القتال في وقت خشية فريق منهم ، وهذا يفتقر إلى جواب «لمّا» ولا جواب لها ، ولا جائز أن يكون ما بعدها ؛ لأنّ العامل فيها إذا كان بعدها ، كان جوابا لها ، ولا جواب لها هنا ، وكان قد تقدّم أوّل البقرة أنّ في «لمّا» قولين : قول سيبويه (٣) : إنّها حرف وجوب لوجوب ، وقول الفارسي : إنها ظرف زمان بمعنى «حين» وتقدّم الردّ عليه ، بأنّها أجيبت ب «ما» النّافية وإذا الفجائية ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الكتاب ٢ / ٣١٢.

٥٠١

وأنّ ما بعدها لا يعمل فيما قبلها ، فأغنى عن إعادته ، ولا يجوز أن يعمل ما يليها فيها ؛ لأنه في محلّ خفض بالإضافة على زعمه ، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.

وقد أجاب بعضهم ، بأنّ العامل فيها هنا معنى «يخشون» ؛ كأنه قيل : جزعوا ، قال : «وجزعوا هو العامل في «إذا» ، وهذا الآية مشكلة ؛ لأنّ فيها ظرفين : أحدهما لما مضى ، والآخر لما يستقبل».

قوله : (كَخَشْيَةِ اللهِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها ـ وهو المشهور عند المعربين : أنها نعت مصدر محذوف ، أي : خشية كخشية الله.

والثاني : ـ وهو المقرّر من مذهب سيبويه (١) غير مرة ـ : أنّها في محلّ نصب على الحال من ضمير الخشية المحذوف ، أي : يخشونها النّاس ، أي : يخشون الخشية الناس مشبهة خشية الله.

والثالث : أنّها في محل نصب على الحال من الضمير في «يخشون» أي : يخشون النّاس مثل أهل خشية الله ، أي : مشبهين لأهل خشية الله أو أشدّ خشية ، أي : أشدّ خشية من أهل خشية الله. و «أشدّ» معطوف على الحال ؛ قاله الزمخشري (٢) ، ثم قال : «فإن قلت : لم عدلت عن الظّاهر ، وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدّره : يخشون خشية مثل خشية الله ، بمعنى : مثل ما يخشى الله.

قلت : أبى ذلك قوله : (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) ؛ لأنه وما عطف عليه في حكم واحد ، ولو قلت : «يخشون الناس أشد خشية» لم يكن إلا حالا من ضمير الفريق ، ولم ينتصب انتصاب المصدر ؛ لأنك لا تقول : «خشي فلان أشدّ خشية» فتنصب «خشية» وأنت تريد المصدر ، إنّما تقول : (أَشَدَّ خَشْيَةً) فتجرّها ، وإذا نصبتها لم يكن (أَشَدَّ خَشْيَةً) إلا عبارة عن الفاعل حالا منه ، اللهم إلا أن تجعل الخشية خاشية على حدّ قولهم : «جدّ جدّه» فتزعم أنّ معناه : يخشون الناس خشية مثل خشية أشدّ خشية من خشية الله ، ويجوز على هذا أن يكون محلّ «أشدّ» مجرورا ، عطفا على «خشية الله» تريد : كخشية الله ، أو كخشية أشدّ منها». انتهى.

ويجوز نصب «خشية» (٣) على وجه آخر ؛ وهو العطف على محلّ الكاف ، وينتصب «أشدّ» حينئذ على الحال من «خشية» ؛ لأنه في الأصل نعت نكرة قدّم عليها ، والأصل : يخشون النّاس مثل خشية الله أو خشية أشدّ منها ، فلا ينتصب «خشية» تمييزا ، حتى يلزم منه ما ذكره الزّمخشري ويعتذر عنه ، وقد تقدّم نحو من هذا عند قوله : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [البقرة : ٢٠٠]. والمصدر مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف ، أي : كخشيتهم الله.

__________________

(١) ينظر : الكتاب ٢ / ١١٦.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٥٣٦.

(٣) وقرأ بها ابن عامر كما في الحجة ٣ / ١٧٢ ، وباقي المصادر على أنه قرأ بالتاء وينظر : السبعة ٢٣٥ ، ـ

٥٠٢

فإن قيل : ظاهر قوله : (أَوْ أَشَدَّ) يوهم الشّكّ ، وذلك محال على الله ـ تعالى ـ.

فالجواب : يحتمل الأوجه المذكورة في قوله (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ويجوز أن تكون للتنويع ، يعني : أن منهم من يخشاهم كخشية الله ، ومنهم من يخشاهم أشد خشية من خشية الله.

قال ابن الخطيب (١) : وفي تأويله وجوه :

الأوّل : المراد منه : الإبهام على المخاطب ، بمعنى : أنّهم على أحد الصّفتين من المساواة والشدّة ؛ وذلك لأنّ كلّ خوفين فأحدهما بالنّسبة إلى الآخر : إمّا أن يكون مساويا ، أو أنقص ، أو أزيد ، فبيّن ـ تعالى ـ بهذه الآية أن خوفهم من النّاس ليس أنقص من خوفهم من الله ـ تعالى ـ ، بل إمّا أن (٢) يكون مساويا أو أزيد ، وذلك لا يوجب كونه ـ تعالى ـ شاكّا ، بل يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطب.

والثاني : أن يكون (٣) «أو» بمعنى الواو ، والتّقدير : يخشونهم كخشية الله وأشد خشية ، وليس بين هذين القسمين منافاة ؛ لأنّ من هو أشدّ خشية ، فمعه من الخشية مثل خشية الله [وزيادة](٤).

الثّالث : أن هذا نظير قوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] يعني : أنّ من يبصرهم يقول هذا الكلام ؛ فكذا ههنا.

قوله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا) أي : هلّا أخرتنا إلى أجل قريب ، يعني : الموت أي : هلّا تركتنا حتّى نموت بآجالنا ، وهذا كالعلّة لكراهتهم (٥) إيجاب القتال عليهم ، ثم إنّه ـ تعالى ـ أجابهم بقوله : قل يا محمّد : (مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) أي : منفعتها والاستمتاع بها قليل ، (وَالْآخِرَةُ) أي : وثواب الآخرة خير وأفضل لمن اتّقى الشّرك ومعصية الرّسول ، وإنّما كانت الآخرة خير ؛ لأن نعم الدّنيا قليلة [فانية](٦) ونعم الآخرة كثيرة باقية ونعم الدّنيا منقطعة (٧) ، ونعم الآخرة مؤبّدة ، ونعم الدّنيا مشوبة بالهموم والمكاره ، ونعم الآخرة صافية من الكدورات.

روى المستورد بن شدّاد ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الدّنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ ، فلينظر بم يرجع» (٨).

__________________

ـ وحجة القراءات ٢٠٨ ، والعنوان ٨٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٩ ، وشرح شعلة ٣٤١ ، وإتحاف : ١ / ٥١٦.

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٤٨.

(٢) في ب : إنما.

(٣) في ب : تكون.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : لعلتهم.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : فانية.

(٨) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٩٣) كتاب الجنة وصفة نعيمها : باب فناء الدنيا (٥٥ / ٢٨٥٨) والترمذي (٤ / ـ

٥٠٣

ثم قال : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وحمزة ، والكسائي (١) : بالياء رجوعا إلى قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) والباقون (٢) : بتاء الخطاب ؛ كقوله : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) والمعنى (ولا يظلمون فتيلا ،) أي : لا ينقصون من ثواب أعمالهم مثل فتيل النّواة ، وهو ما تفتله (٣) بيدك ثم تلقيه احتقارا.

قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨)

لما حكى عنهم أنّهم يخشون النّاس عند فرض القتال بكّتهم ههنا ؛ فقال : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) أي : لا خلاص لكم من الموت ، والجهاد موت يستعقبه سعادة أخرويّة ، فإذا كان لا بدّ من الموت ، فبأن يقع على وجه يستعقب السّعادة الأبديّة ، أولى من ألّا يكون كذلك.

قوله : (أَيْنَما تَكُونُوا :) «أين» اسم شرط يجزم فعلين ، و «ما» زائدة على سبيل الجواز مؤكّدة لها ، و «أين» ظرف مكان ، و «تكونوا» مجزوم بها ، و «يدرككم» : جوابه.

والجمهور على جزمه ؛ لأنه جواب الشرط ، وطلحة بن سليمان : «يدرككم» برفعه ، فخرّجه المبرّد ، على حذف الفاء ، أي : فيدرككم الموت.

ومثله قول الآخر : [الرجز]

١٨٣١ ـ يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع (٥)

وهذا تخريج المبرّد ، وسيبويه (٦) يزعم أنه ليس بجواب ، إنّما هو دالّ على الجواب والنّية به التقديم.

وفي البيت تخريج آخر : وهو أن يكون «يصرع» المرفوع خبرا ل «إنك» ، والشّرط

__________________

ـ ٤٨٦) كتاب الزهد باب هوان الدنيا (٢٣٢٣) وابن ماجه (٢ / ١٣٧٦) كتاب الزهد : باب مثل الدنيا (٤١٠٨) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٢٧٨) عن المستورد بن شداد وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(١) ينظر : الحجة ٣ / ١٧٢ ، السبعة ٢٣٥ ، حجة القراءات ٢٠٨ ، العنوان ٨٥ ، إعراب القراءت ١ / ١٣٦ ، شرح الطيبة ٤ / ٢٠٩ ، شرح شعلة ٣٤١ وإتحاف ١ / ٥١٦.

(٢) في ب : وأما الباقون.

(٣) في ب : ما تفتله.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : الكتاب ١ / ٤٣٦.

٥٠٤

معترض بينهما ، وجوابه ما دلّ عليه قوله : «إنك تصرع» ؛ كقوله : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) [البقرة : ٧٠] وخرّجه الزّمخشري (١) على التوهّم ؛ فإنه قال : ويجوز أن يقال : حمل على ما يقع موقع (أَيْنَما تَكُونُوا) وهو «أينما كنتم» كما حمل على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» وهو «ليسوا بمصلحين» فرفع كما رفع زهير «ولا ناعب» : [البسيط]

١٨٣٢ ـ ............

يقول لا غائب مالي ولا حرم (٢)

وهو قول نحويّ سيبيّ ، يعني منسوب لسيبويه ، فكأنه قال : «أينما كنتم» ، وفعل الشرط إذا كان ماضيا لفظا جاز في جوابه المضارع الرفع والجزم كقول زهير : [البسيط]

١٨٣٣ ـ وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول ... (٣)

وفي رفعه الوجهان المذكوران عن سيبويه والمبرّد. وردّ عليه أبو حيّان (٤) : بأن العطف على التوهّم لا ينقاس ؛ ولأنّ قوله يؤدّي إلى حذف جواب الشّرط ، ولا يحذف إلّا إذا كان فعل الشّرط ماضيا ، لو قلت : «أنت ظالم إن تفعل» لم يجز. وهذا ـ كما رأيت ـ مضارع ، وفي هذا الردّ نظر لا يخفى.

(وَلَوْ كُنْتُمْ) قالوا : هي بمعنى : «إن» وجوابها محذوف ، أي : لأدرككم ، وذكر الزّمخشري (٥) فيه قولا غريبا عن عند نفسه ، فقال : «ويجوز أن يتّصل بقوله : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي : لا تنقصون شيئا ممّا كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها ، ثم ابتدأ بقوله : (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ،) والوقف على هذا الوجه على (أَيْنَما تَكُونُوا) انتهى.

وردّ عليه أبو حيّان (٦) ، فقال : هذا تخريج ليس بمستقيم ، لا من حيث المعنى ولا من حيث الصّناعة النّحوية :

أمّا من حيث المعنى : فإنه لا يناسب أن يكون متّصلا بقوله : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ؛) لأنّ انتفاء الظّلم ظاهرا إنما هو في الآخرة ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى).

وأمّا من حيث الصّناعة النّحويّة : فإنّ ظاهر كلامه يدلّ على أنّ (أَيْنَما تَكُونُوا) متعلّق بقوله : (وَلا تُظْلَمُونَ) بمعنى ما فسّره ، وهذا لا يجوز ؛ لأن أسماء الشّرط لها صدر الكلام ، فلا يتقدّم عاملها عليها ، فإن ورد مثل : «اضرب زيدا متى جاء» قدّر له عامل يدلّ عليه «اضرب» لا نفس «اضرب» المتقدّم.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٥٣٧.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣١١.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٥٣٨.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣١١.

٥٠٥

فإن قيل : فكذلك يقدّر الزّمخشريّ عاملا يدلّ عليه (وَلا تُظْلَمُونَ) تقديره : «أينما تكونوا فلا تظلمون» فحذف «فلا تظلمون» ، لدلالة ما قبله عليه ، فيخلص من الإشكال المذكور.

قيل : لا يمكن ذلك ؛ لأنه حينئذ يحذف جواب الشّرط وفعل الشرط مضارع ، وقد تقدم أنّه لا يكون إلا ماضيا». وفي هذا الردّ نظر ؛ لأنه أراد تفسير المعنى. قوله : ولا يناسب أن يكون متّصلا بقوله : (وَلا تُظْلَمُونَ) ممنوع ، بل هو مناسب ، وقد أوضحه الزّمخشري بما تقدّم أحسن إيضاح.

والجملة الامتناعيّة في محلّ نصب على الحال ، أي : أينما تكونوا من الأمكنة ، يدرككم الموت ، ولو كانت حالكم أنّكم في هذه البروج ، فيفهم أن إدراكه لهم في غيرها بطريق الأولى والأحرى ، وقريب منه : «أعطوا السّائل ولو على فرس». والجملة الشّرطيّة تحتمل وجهين :

أحدهما : أنها لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها استئناف إخبار ؛ اخبر ـ تعالى ـ أنّه لا يفوت الموت أحد ، ومنه قول زهير : [الطويل]

١٨٣٤ ـ ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السّماء بسلّم (١)

والثّاني : أنها في محلّ نصب بالقول قبلها أي : قل متاع الدّنيا قليل ، وقل أيضا : أينما تكونوا.

والجمهور على «مشيدة» بفتح الياء اسم مفعول. ونعيم (٢) بن ميسرة بكسرها ، نسب الفعل إليها مجازا ؛ كقولهم : «قصيدة شاعرة» ، والموصوف بذلك أهلها ، وإنما عدل إلى ذلك مبالغة في الوصف.

والبروج : الحصون مأخوذة من «التّبرّج» وهو الإظهار ، ومنه : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) ، والبرج في العين : سعتها ، ومنه قول ذي الرّمّة : [البسيط]

١٨٣٥ ـ بيضاء في برج صفراء في غنج

كأنّها فضّة قد مسّها ذهب (٣)

وقولهم : «ثوب مبرّج» أي : عليه صور البروج ؛ كقولهم : «مرط مرجّل» أي : عليه صور الرّجال ، يروى بالجيم والحاء ، والمشيّدة : المصنوعة بالشّيد ؛ وهو الجصّ ، ويقال : «شاد البناء وشيّده» كرّر العين للتّكثير ؛ ومن مجيء «شاد» قول الأسود : [الخفيف]

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (١١١) وشرح المعلقات العشر (٨٦) والدر المصون ٢ / ٣٩٩ والبحر المحيط ٣ / ٣١١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٩٩.

(٣) ينظر البيت في ديوانه (٣٣) والخصائص ١ / ٣٢٥ والدر المصون ٢ / ٣٩٩.

٥٠٦

١٨٣٦ ـ شاده مرمرا وجلّله كل

سا فللطّير في ذراه وكور (١)

ويقال : «أشاد» أيضا ، فيكون فعل وأفعل بمعنى.

قال الزّمخشريّ (٢) : شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشّيد ، وهو الجصّ وهذا قول عكرمة ، وقال قتادة (٣) [معناه :](٤) في قصور محصّنة ، وقال السّدّيّ في بروج في سماء الدّنيا مبنيّة ، وهي بروج الفلك الاثني عشر ، وهذا القول محكيّ عن مالك ، ومعنى مشيدة ، [أي](٥) مادّة من الرّفع ؛ وهي الكواكب العظام.

وقيل للكواكب : بروج ، لظهورها من برج يبرج (٦) إذا ظهر وارتفع ، ومنه : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى).

وخلقها الله ـ تعالى ـ في منازل للشّمس والقمر ، وقدّره فيها ، ورتّب الأزمنة عليها.

قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) نزلت في المنافقين واليهود ؛ وذلك أنّهم قالوا لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة : ما زلنا نعرف النّقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم هذا الرّجل وأصحابه.

قال الله ـ تعالى ـ (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) يعني : اليهود «حسنة» أي : خصب ورخص في السّعر ، (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) لنا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) يعني : الجدب وغلاء الأسعار ، (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي : من شؤم محمّد وأصحابه ، وكيفيّة النّظم : أنّه ـ تعالى ـ لما حكى [عنهم](٧) كونهم [متثاقلين عن الجهاد خائفين من الموت راغبين في متاع الدنيا ، حكى عنهم](٨) في هذه الآية خصلة أخرى أقبح من الأولى.

وفي النّظم وجه آخر ؛ وهو أنّ الخائفين من الموت ، المتثاقلين في الجهاد من عادتهم أنّهم إذا جاهدوا وقاتلوا ، فإن أصابوا ظفرا أو غنيمة ، قالوا : هذه من عند الله ، وإن أصابهم مكروه ، قالوا : هذه من شؤم مصاحبة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فعلى هذا يكون المراد ب «الحسنة» : الظفر والغنيمة يوم بدر ، وب «السيئة» : القتل والهزيمة يوم أحد ، وهذا نظير قوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١].

__________________

(١) البيت لعدي بن زيد لا كما قال المصنف ينظر ديوانه (٨٨) واللسان (شيد) والدر المصون ٢ / ٣٩٩ والكامل ١ / ٩٠.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٥٣٨.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٥٤.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : يبرج برج.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

٥٠٧

قال القاضي (١) : القول بأن الحسنة هي الخصب ، وأن السّيّئة هي (٢) الغلاء ، [هذا](٣) هو المعتبر ، لأن إضافة الخصب والغلاء وكثرة النّعم وقلّتها إلى الله جائزة وأمّا إضافة النّصر والهزيمة إلى الله ـ تعالى ـ ، فغير جائزة ، [لأن السّيئة إذا كانت بمعنى الهزيمة والقتل ، لم يجز إضافتها إلى الله ـ تعالى ـ ، وهذا على مذهبه](٤) أمّا على مذهب أهل السّنّة ، فالكل بقضاء الله وقدره.

فصل في تفسير الحسنة والسيئة

اعلم أن السّيّئة تقع على البليّة والمعصية ، والحسنة على النّعمة والطّاعة ؛ قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف : ١٦٨] وقال ـ [تعالى ـ : (إِنَ (٥) الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] ، وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ،) وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) يفيد العموم في كلّ الحسنات والسّيّئات ، ثم قال بعده : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

فهنا تصريح بأنّ جميع الحسنات والسّيّئات من الله ـ تعالى ـ ، ولمّا ثبت بما ذكرنا أنّ الطّاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسّيّئة ، كانت [الآية](٦) دالّة على [أنّ](٧) جميع الطّاعات والمعاصي من الله تعالى ، وهو المطلوب.

[فإن قيل](٨) : المراد من الحسنة والسّيّئة هنا : ليس هو الطّاعة والمعصية ؛ لاتّفاق الكلّ على أنّ هذه الآية نزلت في الخصب والجدب ، فاختصّت بهما (٩) ، وأيضا فالحسنة الّتي يراد بها الخير والطّاعة [لا يقال فيها : أصابتني ، إنما يقال : أصبتها ، وليس في كلام العرب أصاب فلان حسنة](١٠) ، [بمعنى : عمل خير أو أصابته سيّئة](١١) بمعنى : عمل معصية ، فلو كان المراد ما ذكرتم ، لقال : إن أصبتم حسنة.

وأيضا : لفظ الحسنة واقع بالاشتراك على الطّاعة وعلى المنفعة ، وههنا أجمع المفسّرون على أنّ المنفعة مرادة ، [فيمتنع كون الطّاعة مرادة](١٢) ، لأنّه لا يجوز استعمال المشترك في مفهوميه معا.

والجواب عن الأوّل : [أن](١٣) خصوص السّبب (١٤) لا يقدح في عموم اللّفظ.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٥٠.

(٢) في ب : هو.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) في أ : بها.

(١٠) سقط في أ.

(١١) سقط في ب.

(١٢) سقط في أ.

(١٣) سقط في ب.

(١٤) في ب : لسبب.

٥٠٨

وعن الثّاني : أنه يصحّ أن يقال : أصابني توفيق من الله ، وعون من الله ، وأصابه خذلان من الله ، ويكون المراد [من ذلك التّوفيق والعون : تلك الطّاعة ، ومن الخذلان : تلك المعصية.

وعن الثّالث : أن كل](١) ما كان منتفعا به فهو حسنة ، فإن كان نفعه في الآخرة ، فهو في الطّاعة ، وإن كان نفعه في الدّنيا فهو السّعادة الحاضرة ، فاسم الحسنة بالنّسبة إلى هذين القسمين متواطىء الاشتراك ، فزال السّؤال ، ويؤيد ذلك : أن البديهة قاطعة (٢) بأنّ كل موجود ممكن لذاته ، مستند للحقّ بذاته وهو الله ـ تعالى ـ ، فلو استغنى الممكن بذاته [عن الحقّ] ، لزم نفي الصّانع ، وهذا الحكم لا يختلف كيف (٣) كان الممكن ؛ حيوانا ، أو جمادا ، أو فعلا ، أو صفة ، وهذا برهان كالشّمس ، مصرّح بأن الكلّ من عند الله ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

قوله : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ).

وقف أبو عمرو (٤) والكسائي ـ بخلاف عنه ـ على «ما» في قوله : (فَما لِهؤُلاءِ) وفي قوله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ) [الفرقان : ٧] وفي قوله : (ما لِهذَا الْكِتابِ) [الكهف : ٤٩] وفي قوله : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [المعارج : ٣٦]. والباقون : على اللام التي للجرّ دون مجرورها اتّباعا للرّسم ، وهذا ينبغي ألّا يجوز ـ أعني : الوقفين ـ لأنّ الأوّل يوقف فيه على المبتدأ دون خبره ، والثاني يوقف فيه على حرف الجرّ دون مجروره ، وإنما يجوز ذلك ؛ لضرورة قطع النّفس أو ابتلاء.

قال الفرّاء (٥) : كثرت في الكلام هذه الكلمة ، حتى توهّموا أنّ اللّام متصلة بها ، وأنّهما حرف واحد ، ففصلوا اللّام بما بعدها في بعضه ، ووصلوها في بعضه ، والقراءة الاتّصال ، ولا يجوز الوقف على اللام ؛ لأنّها لام خافضة.

لمّا دل الدّليل على أن كلّ ما سوى الله مستند إلى الله ، وكان ذلك الدّليل في غاية الظّهور ، قال ـ تعالى ـ : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) وهذا يجري مجرى التّعجّب ؛ لعدم وقوفهم على صحّة هذا الكلام مع ظهوره.

قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على صحّة قولنا ؛ لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق الله ـ تعالى ـ ، لم يبق لهذا التّعجّب معنى ألبتّة ؛ لأن السّبب في عدم حصول هذه المعرفة ، هو أن الله ـ تعالى ـ لم يخلق ذلك فيهم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : ناطقة.

(٣) في أ : كيفية.

(٤) ينظر : إتحاف ١ / ٥١٦ ، ٥١٧ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٨١ ، والبحر المحيط ٣ / ٣١٢ ، والدر المصون ٢ / ٣٩٩.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٥٤.

٥٠٩

وهذا تمسّك بطريقة المدح والذّمّ ؛ وهي (١) معارضة بالعلم والدّاعي.

والمراد ب (لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) : المنافقون واليهود ، (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي : قولا.

وقيل : الحديث هاهنا : القرآن ، أي : لا يفقهون معاني القرآن ، والفقه : الفهم ، يقال : فقه بكسر القاف ؛ إذا فهم ، وفقه بفتح القاف : إذا غلب غيره ، وفقه بضمّ القاف ، ومنه ما قال عليه‌السلام لابن عبّاس «اللهمّ فقّهه في التّأويل» أي : فهّمه تأويله ، فعلى هذا التّأويل قالت المعتزلة : هذه الآية تقتضي وصف القرآن بأنّه حادث ، والحديث : فعيل بمعنى مفعول ، فيلزم منه أن يكون القرآن محدثا.

والجواب : إن كان مرادكم بالقرآن هذه العبارات ، فنحن نسلّم كونها محدثة.

قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٧٩)

في «ما» هذه قولان :

أحدهما : قال أبو البقاء (٢) : إنها شرطية ، وضعّف أن تكون موصولة قال : «ولا يحسن أن تكون بمعنى الذي ؛ لأنّ ذلك يقتضي أن يكون المصيب لهم ماضيا مخصّصا ، والمعنى على العموم والشّرطية أشبه ، والمراد بالآية : الخصب والجدب ، ولذلك لم يقل : ما أصبت». انتهى ، يعني أنّ بعضهم يقول : إنّ المراد بالحسنة الطّاعة ، وبالسّيّئة المعصية ، ولو كان هذا مرادا ، لقال : «ما أصبت» ؛ لأنّه الفاعل للحسنة والسّيّئة جميعا ، فلا تضاف إليه إلا بفعله لهما.

والثاني : أنها موصولة بمعنى الّذي ، وإليه ذهب (٣) مكّي ، ومنع أن تكون شرطيّة ، قال : «وليست للشرط ؛ لأنّها نزلت في شيء بعينه ، وهو الجدب والخصب ، والشرط لا يكون إلا مبهما ، يجوز أن يقع وألّا يقع ، وإنّما دخلت الفاء للإبهام الّذي في «الّذي» مع أن صلته فعل ، فدلّ على أنّ الآية ليست في المعاصي والطّاعات كما قال أهل الزّيغ ، وأيضا فإنّ اللّفظ (ما أَصابَكَ) ، ولم يقل : «ما أصبت». انتهى.

والأوّل أظهر ؛ لأنّ الشرطية أصل في الإبهام كما ذكر أبو البقاء ، والموصولة فبالحمل عليها ، وقول مكيّ : «لأنها نزلت في شيء بعينه» هذا يقتضي ألّا يشبّه الموصول بالشرط ؛ لأنه لا يشبّه به حتّى يراد به الإبهام لا شيء بعينه ، وإلّا فمتى أريد به شيء بعينه ، لم يشبّه بالشّرط فلم تدخل الفاء في خبره ، نصّ النّحويّون على ذلك ، وفي المسألة

__________________

(١) في أ : وعلى.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٨.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ١٩٩.

٥١٠

خلاف : فعلى الأوّل : «أصابك» في محلّ جزم بالشّرط ، وعلى الثّاني : لا محلّ له ؛ لأنه صلة.

و (مِنْ حَسَنَةٍ) الكلام فيه كالكلام في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] وقد تقدّم ، والفاء في (فَمِنَ اللهِ) جواب الشّرط على الأول وزائدة على الثّاني ، والجارّ بعدها خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : فهو من الله ، والجملة : إمّا في محلّ جزم أو رفع على حسب القولين.

واختلف في كاف الخطاب : فقيل : المراد كلّ أحد ، وقيل : الرّسول والمراد أمته ، وقيل : الفريق في قوله : (إِذا فَرِيقٌ ،) وذلك لأنّ «فريقا» اسم جمع فله لفظ ومعنى ، فراعى لفظه فأفرد ؛ كقوله : [الطويل]

١٨٣٧ ـ تفرّق أهلانا ببين فمنهم

فريق أقام واستقلّ فريق (١)

وقيل في قوله : (فَمِنْ نَفْسِكَ :) إنّ همزة الاستفهام محذوفة ، تقديره : أفمن نفسك ، وهو كثير ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها) [الشعراء : ٢٢] وقوله ـ تعالى ـ : (بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧]. ومنه : [الطويل]

١٨٣٨ ـ رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع

فقلت وأنكرت الوجوه هم هم (٢)

وقوله : [المنسرح]

١٨٣٩ ـ أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا (٣)

تقديره : وأ تلك ، وأ هذا ربّي ، وأهم هم ، وأفرح ، وهذا لم يجزه من النّحاة إلا الأخفش (٤) ، وأمّا غيره فلم يجزه إلا قبل «أم» ؛ كقوله : [الطويل]

١٨٤٠ ـ لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان (٥)

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٣١٢ والدر المصون ٢ / ٤٠٠.

(٢) لما لم يغاير الخبر المبتدأ كان مقصودا به الشهرة أو عدم التغير ؛ كالبيت السابق ، وجملة (هم هم) مبتدأ وخبر مقصودا بها الشهرة وعدم التغير ، ويرى الفارقي في «الإفصاح» : أن هذا الكلام ظاهر الإثبات وليس كذلك ، وإنما يريد : (أهم هم) يدل على هذا قوله : (وأنكرت الوجوه) ، فلا يكون مع الإنكار إثبات ، وإنما يكون معه الاستفهام ، إذ هو جهل وشك.

والبيت لأبي خراش الهذلي.

ينظر الخصائص ١ / ٢٤٧ ، ٣ / ٣٧٧ ، ديوان الهذليين ٢ / ١٤٤ ، شرح السكري ١٢١٧ الكافية ١ / ٩٧.

وتذكرة النحاة ص ٥٧١ والمعاني الكبير ص ٩٠٢ وجمهرة اللغة ص ٧٨٨ وأمالي المرتضى ١ / ٣٥٠ ولسان العرب (روع) والدر المصون ٢ / ٤٠٠ ، والخزانة ١ / ٤٤٤.

(٣) تقدم برقم ٣٦٣.

(٤) ينظر : معاني القرآن (٤٢٦).

(٥) تقدم برقم ٣٦٤.

٥١١

وقيل : ثمّ قول مقدّر ، أي : لا يكادون يفقهون حديثا يقولون : ما أصابك.

وقرأت عائشة (١) : «فمن نفسك» بفتح ميم «من» ورفع السّين ، على الابتداء والخبر ، أيّ شيء نفسك حتّى ينسب إليها فعل؟.

قوله : «رسولا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال مؤكّدة.

والثّاني : أنه مصدر مؤكّد بمعنى إرسال ، ومن مجيء «رسول» مصدرا قوله : [الطويل]

١٨٤١ ـ لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول (٢)

أي : بإرسال ، بمعنى رسالة. و «للناس» يتعلق ب «أرسلناك» ، واللّام للعلّة ، وأجاز أبو البقاء (٣) أن يكون حالا من «رسولا» كأنه جعله في الأصل صفة للنّكرة ، فقدّم عليها ، وفيه نظر.

فصل

قال الجبّائيّ : قد ثبت أنّ لفظ السّيّئة يقع على البليّة والمحنة ، وتارة يقع على الذّنب والمعصية ، ثم إنّه ـ تعالى ـ أضاف السّيّئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ)، وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ولا بدّ من التّوفيق بين الآيتين ؛ فنقول : لمّا كانت السّيّئة بمعنى البلاء والشّدّة مضافة إلى الله ، وجب أن تكون السّيّئة بمعنى المصيبة مضافة إلى العبد ؛ ليزول التّناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين ، وقد حمل المخالفون (٤) أنفسهم على تغيير الآية ، وقرأوا : (فَمِنْ نَفْسِكَ) فغيّروا القرآن (٥) ، وسلكوا (٦) مثل طريقة الرّافضة في ادّعاء التّغيير في القرآن.

فإن قيل : فلم فصل ـ تعالى ـ بين الحسنة والسّيّئة في هذه الآية ؛ فأضاف الحسنة الّتي هي الطّاعة إلى نفسه دون السّيّئة ، وكلاهما فعل العبد عندكم؟

قلنا : إن الحسنة وإن كانت من فعل العبد ، فإنّما وصل إليها بتسهيله وألطافه ، فصحّت الإضافة إليه ، وأمّا السّيّئة ، فهي غير مضافة إلى الله ـ تعالى ـ بأنّه [ما](٧) فعلها ، ولا أرادها ، ولا أمر بها ، ولا رغّب فيها. فلا جرم انقطعت هذه النّسبة إلى الله تعالى من جميع الوجوه.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣١٤ ، والدر المصون ٢ / ٤٠١.

(٢) تقدم برقم ٦٥١.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٨.

(٤) في أ : المخالفة.

(٥) في ب : القراءتين.

(٦) في ب : وسكتوا.

(٧) سقط في أ.

٥١٢

قال ابن الخطيب : والجواب : أن هذه الآية دلّت على أنّ الإيمان حصل بتخليق الله ـ تعالى ـ : لأن الإيمان حسنة [والحسنة](١) هي الغبطة الخالية عن جميع جهات القبح ، والإيمان كذلك ؛ فوجب أن تكون حسنة ؛ لأنّهم اتّفقوا على أنّ قوله (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٢] أن المراد به : كلمة الشّهادة ، وقيل في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] قيل : هو قول لا إله إلّا الله ؛ فثبت أنّ الإيمان حسنة ، وإنما قلنا : إن كل حسنة من الله ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) وهذا يفيد العموم في جميع الحسنات ، وإذا ثبت أنّ الإيمان حسنة ، وكلّ حسنة من الله ، وجب القطع بأنّ الإيمان من الله.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : «من الله» هو أنّ الله قدّره عليه ، وهداه إلى معرفة حسنه ، وإلى معرفة قبح ضدّه الذي هو الكفر.

قلنا : جميع الشّرائط مشتركة بالنّسبة إلى الإيمان والكفر (٢) عندكم (٣) ثمّ إنّ العبد باختيار نفسه أوجد الإيمان ، ولا مدخل لقدرة الله وإعانته في نفس الإيمان ، فكان الإيمان منقطعا عن الله ـ [تعالى](٤) ـ من كل الوجوه ، فكان هذا مناقضا لقوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ؛) فثبت بدلالة هذه الآية أن الإيمان من الله ، والخصوم لا يقولون به ، وأمّا بيان أنّ الكفر أيضا من الله فلوجوه :

أحدها : أن كلّ من قال : الإيمان من الله قال الكفر من الله ؛ فالقول بأحدهما (٥) من الله ـ تعالى ـ دون الآخر ـ مخالف لإجماع الأمّة.

وثانيها : أن العبد لو قدر على تحصيل الكفر ، فالقدرة الصّالحة لإيجاد الكفر : إمّا أن تكون صالحة لإيجاد الإيمان ، أو لا ، فإن كانت صالحة لإيجاد الإيمان ، [فحينئذ](٦) يعود القول في أنّ إيمان العبد منه ، [وإن لم تكن صالحة لإيجاد الإيمان ، فيكون القادر على الشّيء غير قادر على ضدّه ، وذلك عندهم محال ؛ فثبت أنّه لمّا لم يكن الإيمان منه ، وجب ألّا يكون الكفر منه].

وثالثها : أنّه لمّا لم يكن العبد موجدا للإيمان فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى ؛ وذلك لأنّ المستقلّ بإيجاد الشّيء هو الّذي يمكنه تحصيل مراده ، ولا نرى في الدّنيا عاقلا ، إلّا يريد أن يكونالحاصل في قلبه هو [الإيمان والمعرفة والحقّ ، وإن أحدا من العقلاء لا يريد أن يكون الحاصل في قلبه هو](٧) الجهل والضّلال والاعتقاد الخطأ ، فإذا كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، وهو لا يقصد إلا تحصيل العلم الحقّ المطابق ، وجب ألّا

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : وبالكفر.

(٣) في أ : عندهم.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : بأن أحدهما.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط فيذ أ.

٥١٣

يتحصّل في قلبه إلّا الحقّ ، وإذا كان الإيمان الّذي هو مقصوده ومطلوبه ومراده ، لم يقع بإيجاده ، فبأن يكون الجهل الّذي لم يرده وما قصد تحصيله ، وهو في غاية النّفرة (١) [عنه](٢) غير واقع بإيجاده أولى ، وأما الجواب عن احتجاجه بقوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فمن وجهين :

الأوّل : أنّه ـ تعالى ـ قال حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] ، أضاف المرض إلى نفسه ، والشّفاء إلى الله ـ تعالى ـ ، ولم يقدح ذلك في كونه ـ تعالى ـ خالقا للمرض والشّفاء ، وإنما فصل بينهما رعاية للأدب ، فكذا ههنا ؛ فإنه يقال : يا مدبّر السموات والأرض ؛ ولا يقال : «يا مدبّر القمل والصّيبان والخنافس ..» فكذا ههنا.

الثاني : قال أكثر المفسّرين في قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (هذا رَبِّي) إنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الإنكار ؛ كما قدمناه فكذا ههنا ؛ كأنّه قيل : الإيمان الّذي وقع على وفق قصده ، قد بيّنّا أنّه ليس واقعا منه ، بل من الله ـ تعالى ـ فهذا الكفر [ما](٣) قصده ، وما أراده ، وما رضي به ألبتّة ، فكيف يدخل في العقل أن يقال إنّه وقع به.

وأما قراءة : (فَمِنْ نَفْسِكَ) فنقول : إن صح أنه قرأ بها أحد من الصّحابة والتّابعين ، فلا طعن فيه ، وإن لم يصحّ ذلك ، فالمراد أن من حمل الآية على أنّها وردت على سبيل الاستفهام على وجه الإنكار ، قال : لأنّه لما أضاف السيئة إليهم في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار ، كان المراد أنّها غير مضافة إليهم ، فذكر [قوله] : (فَمِنْ نَفْسِكَ) كقولنا : إنه استفهام على سبيل الإنكار.

[فصل](٤)

قوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) أي : من خير ونعمة ، (فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أي : بليّة أو أمر تكرهه (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي : بذنوبك ، الخطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره ، نظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

قال البغويّ (٥) : وتعلّق أهل القدر بظاهر هذه الآية ؛ فقالوا (٦) : نفى الله ـ عزوجل ـ السّيّئة عن نفسه ، ونسبها إلى العبد ؛ فقال : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ولا متعلّق لهم فيه ؛ لأنّه ليس المراد من الآية حسنات الكسب ولا سيّئاته](٧) من الطّاعات والمعاصي ، بل المراد منه : ما يصيبهم من النّعم والمحن ، وذلك ليس من فعلهم ؛ بدليل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : من.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٥٤.

(٦) في ب : فقال.

(٧) سقط في أ.

٥١٤

أنّه نسبها (١) إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم ، فقال (ما أَصابَكَ) ولا يقال في الطّاعة والمعصية : أصابني، إنّما يقال : أصبتها ، ويقال في المحن : أصابني ؛ بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابا ولا عقابا ؛ فهو كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] ولما ذكر حسنات الكسب وسيّئاته نسبها إليه ، ووعد عليها الثّواب والعقاب ؛ فقال (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام : ١٦٠].

وقيل : معنى الآية : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) : من النّصر والظّفر يوم بدر ، (فَمِنَ اللهِ) أي : من فضل الله ، و (ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) : من القتل والهزيمة يوم أحد ، (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي يعني : فبذنوب أصحابك وهو مخالفتهم لك.

فإن قيل : كيف وجه الجمع بين قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [وبين قوله : (فَمِنْ نَفْسِكَ).

قيل : قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ)](٢) أي : الخصب والجدب ، والنّصر والهزيمة كلّها من عند الله ، وقوله (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي : ما أصابك من سيئة فمن الله بذنب نفسك ؛ عقوبة لك كما قال : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ؛ يدل عليه ما روى مجاهد عن ابن عبّاس ؛ أنه (٣) قرأ : «وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك».

ثم قال [ـ تعالى ـ](٤) : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً).

قوله : «رسولا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال مؤكدة.

والثاني : أنه مصدر مؤكّد بمعنى إرسال ، ومن مجيء «رسول» مصدرا قوله : [الطويل]

١٨٤٢ أ ـ لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول (٥)

أي بإرسال ، بمعنى رسالة. و «للناس» يتعلق ب «أرسلناك» ، واللام للعلة. وأجاز أبو البقاء أن يكون حالا من «رسولا» كأنه جعله في الأصل صفة للنكرة فقدّم عليها ، وفيه نظر.

فصل

وهذا يدلّ على أن المراد من هذه الآيات إسناد (٦) جميع الأمور إلى الله ـ تعالى ـ ؛

__________________

(١) في ب : أنه من نسبها.

(٢) سقط في أ.

(٣) وحكاها أبو عمرو عن مصحف ابن مسعود ، وأما قراءة ابن عباس ، فقد ذكرها ابن عطية في محرره (٢ / ٨٢) هكذا : «وأنا قضيتها عليك».

(٤) سقط في ب.

(٥) تقدم.

(٦) في ب : إسناد.

٥١٥

لأنّ المعنى : ليس لك إلّا الرّسالة والتّبليغ ، وقد فعلت وما قصّرت ، (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على جدّك وعدم تقصيرك في أداء الرّسالة وتبليغ الوحي ، فأمّا حصول الهداية فليس إليك ، بل إلى الله ؛ ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران : ١٢٨] ، وقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦].

وقيل المعنى : وكفى بالله شهيدا على إرسالك وصدقك ، وقيل : وكفى بالله شهيدا على أنّ الحسنة والسّيّئة كلّها من الله.

قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)(٨٠)

وذلك أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أحبّني فقد أحبّ الله» (١) فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرّجل إلا أن نتّخذه ربّا ؛ كما اتّخذت النّصارى عيسى ابن مريم ربّا ؛ فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) فيما أمره [الله](٢) «فقد أطاع الله» ، «ومن تولى» : عن طاعته (فَما أَرْسَلْناكَ) يا محمّد (عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي : حافظا ورقيبا ، بل كل أمورهم إلى الله ـ تعالى ـ ، ولا تغتم بسبب تولّيهم ولا تحزن ، والمراد : تسلية الرّسول ـ عليه الصّلاة والسلام ـ.

قيل : نسخ الله ـ عزوجل ـ هذه الآية بآية السّيف ، وأمره بقتال من خالف الله ورسوله.

قوله : «حفيظا» : حال من كاف «أرسلناك» و «عليهم» متعلّق ب «حفيظا» ، وأجاز فيه أبو البقاء (٣) ما تقدّم في «للنّاس».

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٨١)

في رفع «طاعة» : وجهان :

أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : «أمر طاعة» ولا يجوز إظهار هذا المبتدأ ؛ لأن الخبر مصدر بدل من اللّفظ بفعله.

والثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوف ، أي : منّا طاعة ، أو : عندنا طاعة ، قال مكي (٤) : «ويجوز في الكلام النّصب على المصدر».

قوله : (فَإِذا بَرَزُوا) [وأخرجوا](٥) ، من عندك بيت طائفة منهم غير الّذي تقول.

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٨.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ١٩٩.

(٥) سقط في ب.

٥١٦

أدغم أبو عمرو وحمزة (١) تاء «بيّت» في طاء «طائفة» لتقاربهما ، ولم يلحق الفعل علامة تأنيث ؛ لكونه مجازيا ، و «منهم» : صفة ل «طائفة» ، والضّمير في «تقول» يحتمل أن يكون ضمير خطاب للرّسول ـ عليه‌السلام ـ ، أي : غير الذي تقوله وترسم به يا محمّد ، ويؤيّده قراءة عبد الله (٢) : «بيّت مبيّت منهم» ، وأن يكون ضمير غيبة للطّائفة ، أي : تقول هي.

وقرأ يحيى بن يعمر (٣) : «يقول» بياء الغيبة ، فيحتمل أن يعود الضّمير على الرّسول بالمعنى المتقدّم ، وأن يعود على الطّائفة ، ولم يؤنّث الضّمير ؛ لأن الطّائفة في معنى الفريق والقوم.

قال الزّمخشريّ : «بيت طائفة» أي : زوّرت وسوّت (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) : خلاف ما قلت وما أمرت به ، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطّاعة ؛ لأنّهم أضمروا الرّدّ لا القبول.

قال الزّجّاج : كل أمر تفكر فيه وتؤوّل في مصالحه ومفاسده كثيرا ، قيل : هذا أمر مبيّت ؛ قال ـ تعالى ـ : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء : ١٠٨] ، وقال قتادة والكلبيّ : بيّت ، أي : غيّر وبدّل الّذي عهد إليهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، ويكون التّبييت بمعنى : التّبديل.

وقال أبو عبيدة (٥) : والتّبييت معناه : قالوا وقدّروا ليلا غير ما أعطوك نهارا ، وكل ما قدّر بليل فهو مبيّت (٦).

وقال أبو الحسن الأخفش (٧) : تقول العرب للشّيء إذا قدّر : بيت ، يشبّهونه بتقدير بيوت الشّعر ، وفي اشتقاقه وجهان :

أحدهما : أن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته باللّيل ، فهناك تكون الخواطر أجلى والشّواغل أقل ، فلما كان الغالب أنّ الإنسان وقت اللّيل يكون في البيت ،

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٣٥ ، والحجة ٣ / ١٧٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٦ ، والعنوان ٨٥ ، وشرح شعلة ٣٤١ ، وإتحاف ١ / ٥١٧ ، والإدغام الكبير لأبي عمرو الداني ص ٩٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٨٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٣١٧ ، والدر المصون ٢ / ٤٠١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣١٧ ، والدر المصون ٢ / ٤٠١.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٦٤ ، ٥٦٥) من طريق عكرمة عن ابن عباس ومن طريق ابن جريج عن ابن عباس.

وأورد السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٣٢) طريق ابن جريج عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٥٥.

(٦) في ب : تبيت.

(٧) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٥٥.

٥١٧

والغالب أنه إنّما يستقصي في الأفكار في اللّيل ، فلا جرم سمّي ذلك في الفكر مبيّتا.

والثاني : أن التّبييت والبيات : أن يأتي العدوّ ليلا ، وبات يفعل كذا : إذا فعله ليلا ؛ كما يقال : ظلّ بالنّهار ، وبيّت بالشي : قدّره ، وإنما خصّ هذه الطّائفة من جملة المنافقين لوجهين :

أحدهما : أنه ـ تعالى ـ ذكر من علم أنّه يبقى على كفره ونفاقة ، فأمّا من علم أنّه يرجع عن ذلك فإنّه لم يذكرهم.

والثّاني : أنّ هذه الطّائفة كانوا قد سهروا ليلهم في التّبييت ، وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيّتوا ، فلا جرم لم يذكروا. وفي الآية دليل على أن مجرّد القول لا يفيد شيئا ، فإنّهم قالوا «طائفة» ولفظوا بها ، ولم يحقّق الله طاعتهم.

ثم قال : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) ذكر الزّجّاج [فيه](١) وجهين :

أحدهما : [معناه](٢) : ينزل إليك في كتابه.

والثّاني : يكتب ذلك في صحائف أعمالهم ؛ ليجازوا به.

وقال الضّحاك عن ابن عبّاس : يعني : ما يسرّون من النّفاق (٣).

و «ما» في (ما يُبَيِّتُونَ) يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة أو مصدرية. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) يا محمّد ، ولا تفضحهم ولا تعاقبهم ولا تخبر بأسمائهم ؛ فأمر الله ـ تعالى ـ بستر [أحوال](٤) المنافقين إلى أن يستقيم أمر الإسلام.

ثم قال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في شأنهم ، فإن الله يكفيك [شرّهم](٥) وينتقم [لك](٦) منهم ، (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) لمن توكّل عليه.

قال المفسّرون (٧) : كان الأمر بالإعراض عن المنافقين في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ ذلك بقوله : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣]. وهذا فيه نظر ؛ لأن الأمر بالصّفح مطلق ، فلا يفيد إلّا المرّة الواحدة ، فورود الأمر بعد ذلك بالجهاد لا يكون ناسخا له.

قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٨٢)

قرأ ابن محيصن (٨) : «يدّبّرون» : بإدغام التّاء في الدّال ، والأصل : يتدبرون ، وهي

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٦٥) عن الضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٣٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٥٦.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣١٧ ، الدر المصون ٢ / ٤٠١.

٥١٨

مخالفة للسّواد والتّدبير والتّدبّر عبارة عن النّظر في عواقب الأمور وأدبارها ، ودبر الشّيء آخره ، ومنه قوله : إلام تدبّروا أعجاز أمور قد ولت صدورها ، ويقال في فصيح الكلام : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، أي : لو عرفت في صدري ما عرفت [من](١) عاقبته ، لامتنعت.

فصل : وجه النظم في الآية

ووجه النظم أنه ـ تعالى ـ [لمّا](٢) حكى أنواع مكر (٣) المنافقين وكيدهم ؛ لأجل عدم اعتقادهم صحّة دعوى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرّسالة ، فلا جرم أمرهم [الله](٤) تعالى بأن ينظروا ويتفكروا في الدّلائل [الدّالّة](٥) على صحّة النّبوّة ؛ فقال [ـ تعالى ـ](٦) : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) والعلماء قالوا (٧) : دلالة القرآن على صدق نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثلاثة أوجه :

أحدها : فصاحته.

وثانيها : اشتماله على الإخبار عن الغيوب.

والثالث : سلامته عن الاختلاف ، وهذا هو المذكور في هذه الآية ، وذكروا في تفسير سلامته عن الاختلاف ثلاثة أوجه :

الأول : قال أبو بكر الأصم (٨) : معناه أنّ هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السّرّ على أنواع كثيرة من الكيد والمكر ، والله ـ تعالى ـ [كان](٩) يطلع الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على تلك الأحوال ، ويخبره عنها مفصّلة ، فقيل لهم : إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله ـ تعالى ـ ، وإلا لما اطّرد الصّدق فيه ، ولظهر الاختلاف والتّفاوت في قول محمّد ـ [عليه‌السلام](١٠) ـ ، فلمّا لم يظهر ذلك علمنا أنّ ذلك بإعلام الله ـ تعالى ـ.

الثاني : قال أكثر المتكلّمين : إن القرآن كتاب كبير (١١) مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم ، فلو كان ذلك من عند غير الله ، لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة ؛ لأن الكتاب الكبير لا ينفكّ من ذلك ، ولمّا لم يوجد فيه ذلك ، علمنا : أنه ليس من عند غير الله ؛ قاله ابن عبّاس.

فإن قيل : أليس أنّ قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] كالمناقض لقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ، وآيات الجبر كالمناقضة لآيات القدر ، وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢] كالمناقض لقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : ملك.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٥٧.

(٨) ينظر : السابق.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في أ.

(١١) في ب : منير.

٥١٩

فالجواب : أنا بينّا أنه لا منافاة ولا مناقضة بين شيء منها.

الثالث : قال [أبو](١) مسلم الأصفهاني : المراد منه عدم الاختلاف في رتب الفصاحة فيه من أوّله إلى آخره على نهج واحد ، ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة ، إذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة ، فلا بدّ وأن يقع التّفاوت في كلامه ، بحيث يكون بعضه قريبا مبيّنا وبعضه سخيفا نازلا (٢).

ولما لم يكن القرآن كذلك ، علمنا أنه معجز من عند الله ـ تعالى ـ.

والضمير في «فيه» يحتمل أن يعود على القرآن ، وهو الظّاهر ، وأن يعود على ما يخبره الله ـ تعالى ـ به ممّا يبيّتون ويسرّون ، يعني : أنه يخبرهم به على حدّ ما يقع.

فصل في دلالة الآية

دلت الآية على أن القرآن معلوم المعنى ، خلافا لمن يقول : إنّه لا يعلم معناه إلا النّبي (٣) والإمام المعصوم ؛ [لأنه](٤) لو كان كذلك ، لما تهيّأ للمنافقين معرفة ذلك بالتّدبّر ، ودلت الآية أيضا على إثبات القياس ، وعلى وجوب النّظر والاستدلال ، وعلى فساد التّقليد ، [و](٥) لأنه ـ تعالى ـ أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدّليل على صحّة نبوّته فيه ، فبأن يحتاج إلى معرفة ذات الله ـ تعالى ـ وصفاته إلى الاستدلال أولى.

فصل

قال أبو علي الجبّائي (٦) : دلت الآية على أن أفعال العباد [غير](٧) مخلوقة لله تعالى لأن قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) يقتضي أن فعل العبد لا ينفكّ عن التّفاوت والاختلاف وفعل الله ـ تعالى ـ لا يوجد فيه التّفاوت ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] ، فهذا يقتضي أن فعل العبد لا يكون فعلا لله ـ [عزوجل](٨) ـ.

والجواب : أن قوله ـ تعالى ـ : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] معنى (٩) التّفاوت في أنّه يقع على وفق مشيئته بخلاف غيره ، فإنّ فعل غيره لا يقع على وفق مشيئته على الإطلاق.

قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : بازلا.

(٣) في ب : النبي.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٥٧.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : نفي.

٥٢٠