اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الثالث من الأوجه : أن يتعلق ب «بليغا» ، أي قولا مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ، ويستشعرون به استشعارا. قال معناه الزمخشري ، ورد عليه أبو حيان بأن هذا مذهب الكوفيين ؛ إذ فيه تقديم معمول الصّفة على الموصوف ، لو قلت : «جاء زيدا رجل يضرب» ، لم يجز عند البصريين لأنه لا يتقدم المعمول إلا حيث يجوز تقديم العامل ، والعامل هنا لا يجوز تقديمه ؛ لأن الصّفة لا تتقدّم على الموصوف ، والكوفيّون يجيزون تقديم معمول الصّفة على الموصوف ، وأمّا قول البصريّين : إنه لا يتقدّم المعمول إلا حيث يتقدّم العامل فيه بحث ؛ وذلك أنّا وجدنا هذه القاعدة منخرمة في نحو قوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ٩ ، ١٠] ف «اليتيم» معمول ل «تقهر» و «السائل» معمول ل «تنهر» وقد تقدّما على «لا» النّاهية ، والعامل فيهما لا يجوز تقديمه عليهما ؛ إذا المجزوم لا يتقدّم على جازمه ، فقد تقدّم المعمول حيث لا يتقدّم العامل.

وكذلك قالوا في قوله : [الطويل]

١٨١٩ ـ قنافذ هدّاجون حول بيوتهم

بما كان إيّاهم عطيّة عوّدا (١)

خرّجوا هذا البيت على أنّ في «كان» ضمير الشّأن ، و «عطيّة» مبتدأ و «عوّد» خبره حتى لا يلي «كان» معمول خبرها ، وهو غير ظرف ولا شبهه (٢) ، فلزمهم من ذلك تقديم

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر ديوانه (١٦٢) والدرر ١ / ٨٧ والهمع ١ / ١١٨ والأشموني ١ / ٢٣٧ والخزانة ٤ / ٧٥ والدر المصون ٢ / ٣٨٣.

(٢) معمول خبر هذه الأفعال لا يخلو : إما أن يكون ظرفا ، أو جارا ومجرورا ، أو لا.

فإن كان ظرفا أو جارا ومجرورا ، جاز باتفاق إيلاؤه الفعل ، وتقدمه على الاسم نحو : «كان عندك أو في المسجد عليّ معتكفا» والأصل : كان عليّ معتكفا عندك أو في المسجد ، فقدّم الظرف والجار والمجرور اللذان هما معمولا الخبر ، وهو «معتكفا» على الاسم الذي هو «عليّ» فوليا الفعل وهو «كان» ، وإنما جاز ذلك مع أن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي ؛ لأنهم يتسعون في الظروف والجار والمجرور ما لا يتوسعون في غيرها.

وإلى هذا أشار ابن مالك ؛ حيث قال :

ولا يلي العامل معمول الخبر

إلا إذا ظرفا أتى أو حرف جر

وأما إن كان معمول الخبر غير واحد منهما ، ففيه ثلاثة مذاهب :

الأول : مذهب جمهور البصريين : وهو منع إيلائه الفعل ، وتقديمه على الاسم مطلقا ، سواء تقدّم المعمول وحده ، نحو : «كان طعامك زيد آكلا» أو تقدم معه الخبر ، نحو : «كان طعامك آكلا زيد» ، لما في ذلك من الفصل بين الفعل ومرفوعه الذي هو الاسم بأجنبي منه.

والثاني : مذهب الفارسي ، وابن السراج من البصريين ، وابن عصفور من المتأخرين : وهو إجازة تقدمه على الاسم إن تقدم معه الخبر ، نحو (كان طعامك آكلا زيد) ؛ بحجة أن المعمول من كمال العامل الذي هو الخبر ، فلم يكن ثم فاصل بين العامل ومرفوعه بأجنبي ، ومنعه إن تقدم وحده ، نحو : (كان طعامك زيد آكلا) لما سبق عن البصريين ، ويفهم من هذا ، أنه لو تقدم معه الخبر وتقدم الخبر عليه ، نحو : (كان آكلا طعامك زيد) جاز ، وهو كذلك إجماعا. ـ

٤٦١

المعمول ، وهو «إيّاهم» حيث لا يتقدّم العامل ؛ لأن الخبر متى كان فعلا رافعا لضمير مستتر ، امتنع تقديمه على المبتدأ ، لئلا يلتبس بالفاعل ، نحو : زيد ضرب عمرا ، وأصل منشأ هذا البحث تقديم خبر «ليس» عليها ، أجازه الجمهور ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] ووجه الدّليل أن «يوم» معمول ل «مصروفا» وقد تقدّم على «ليس» ، وتقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل ، فعورضوا بما ذكرنا.

فصل في تفسير القول البليغ

قيل المراد ب «القول البليغ» : التّخويف بالله ـ عزوجل ـ ، وقيل : توعّدهم بالقتل إن لم يتوبوا.

وقال الحسن : القول البليغ أن يقول لهم : إن أظهرتم ما في قلوبكم من النّفاق ، قتلتم ؛ لأنه يبلغ في نفوسهم كلّ مبلغ.

وقال الضّحّاك : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في الملأ [الأعلى](١) ، (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) في السّرّ والخلاء.

وقيل : هذا منسوخ بآية القتال.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا

__________________

ـ والثالث : مذهب الكوفيين : وهو جواز تقدمه مطلقا ؛ لأن معمول الفعل عندهم في حكم معموله ، والخبر قد سبق أنه يجوز إيلاؤه الفعل ، وتقدمه على الاسم ، فكذلك معموله ، وقد احتجوا لمذهبهم بقول الفرزدق يهجو قوم جرير بالفجور والخيانة :

قنافذ هدّاجون حول بيوتهم

ما كان إياهم عطية عودا

ووجه الحجة منه : أن إياهم «معمول لعوّد» الذي هو ضمير «كان» ؛ وقد وليها ، وتقدم على «عطية» الذي هو الاسم ، مع أنه ليس بظرف ولا جار ومجرور ، وإذا جاز ذلك مع تقدم المعمول وحده فلأن يجوز مع تقدم معموله وهو الخبر من باب أولى.

والذي قاله البصريون في هذا البيت : هو أنه لا يدلّ على جواز تقديم المعمول إذا كان غير ظرف ولا جار ومجرور ، فهم يقولون : «إن «عطية» ليس اسما ل «كان» ولهم في البيت توجيهات :

أحدها : أن يكون اسم «كان» ضمير الشأن ، و «عطية» ، مبتدأ وجملة «عودا» خبره ، وجملة المبتدأ وخبره خبر «كان» ، فلم يتقدم معمول خبرها على اسمها.

ثانيها : أن يكون «كان» زائدة ، وجملة المبتدأ والخبر لا محل لها صلة «ما».

ثالثها : أن يكون اسم «كان» ضميرا مستترا يعود على «ما» الموصولة ، وجملة المبتدأ والخبر في محل نصب خبر «كان» ، وجملة «كان» ومعمولها لا محل لها صلة الموصول ، والعائد محذوف ، والتقدير : ما كان عطية عودهم به.

ومنهم من يقول : إن هذا البيت من الضرورات التي تباح للشاعر ، وإذن فلا يحتج به ، ومما يشهد لما ذهب إليه الكوفيون أيضا قوله الشاعر :

لئن كان سلمى الشيب بالصدّ مغريا

لقد هون السلوان عنها التحلم

(١) سقط في ب.

٤٦٢

أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٦٤)

لما أمر ـ [تعالى](١) ـ بطاعة الرّسول في الآية الأولى ، رغّب في هذه الآية مرّة أخرى.

قال الزّجّاج : كلمة «من» ههنا صلة زائدة ، والتّقدير : وما أرسلنا رسولا.

قوله : «ليطاع» هذه لام كي ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» ، وهذا (٢) استثناء مفرّغ من المفعول له ، والتّقدير : وما أرسلنا من رسول لشيء من الأشياء إلّا للطّاعة.

و (بِإِذْنِ اللهِ). فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه يتعلّق ب (لِيُطاعَ) والباء للسّببيّة ، وإليه ذهب أبو البقاء (٣) ؛ قال : وقيل : مفعول به ، أي : بسبب أمر الله.

الثاني : أن يتعلّق ب «أرسلنا» أي : وما أرسلنا بأمر الله ، أي : بشريعته.

الثالث : أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من الضّمير في «يطاع» وبه بدأ أبو البقاء (٤).

وقال ابن عطيّة (٥) : وعلى التّعليقين ؛ أي : تعليقه ب «يطاع» أو ب أرسلنا» ، فالكلام عامّ واللّفظ خاصّ ، المعنى لأنّا نقطع أن الله قد أراد من بعضهم ألّا يطيعوه ، ولذلك تأوّل (٦) بعضهم الإذن بالعلم ، وبعضهم بالإرشاد.

قال أبو حيّان (٧) : ولا يحتاج لذلك ؛ لأن قوله عامّ اللّفظ ممنوع ؛ وذلك أن «يطاع» مبني للمفعول فيقدر ذلك الفاعل المحذوف خاصا ، وتقديره : إلّا ليطيعه من أراد [الله](٨) طاعته.

فصل

قال الجبّائيّ : معنى الآية : وما أرسلنا من رسول إلّا وأنا مريد ، أن يطاع ويصدّق ، ولم أرسله ليعصى ، [و](٩) وهذا يدلّ على بطلان مذهب المجبّرة ؛ لأنّهم يقولون : إنه (١٠) ـ تعالى ـ أرسل رسلا لتعصى ، والعاصي من المعلوم أنّه يبقى على الكفر ، وقد نصّ الله ـ تعالى ـ على كذبهم (١١) في هذه الآية ، وكان يجب على قولهم أن يكون قد أرسل الرّسل ليطاعوا وليعصوا جميعا ، فدلّ ذلك على أنّ معصيتهم للرّسل غير مرادة لله ـ تعالى ـ ، وأنّه ما أراد إلا أن يطاع.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : أي جواز ، وهذا.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٥.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٧٤.

(٦) في ب : يأول.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٩٥.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

(١٠) في ب : أن الله.

(١١) في ب : كفرهم.

٤٦٣

والجواب من وجوه :

الأول : أن قوله : (إِلَّا لِيُطاعَ) يكفي في تحقيق مفهومه أن يطيعه مطيع واحد ، لا أن يطيعه (١) جميع النّاس في جميع الأوقات ، وعلى هذا فنحن نقول بموجبه ؛ وهو [أن](٢) كلّ ما أرسله الله ـ تعالى ـ ، فقد أطاعه بعض النّاس في بعض الأوقات ، اللهم إلا أن يقال : تخصيص الشّيء بالذّكر يدلّ على نفي الحكم عمّا عداه ، والجبّائيّ لا يقول بذلك ، فسقط هذا الإشكال.

الثاني : يجوز أن يكون المراد به : أن كلّ كافر لا بدّ وأن يقرّ [به](٣) عند موته ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء : ١٥٩] أو يحمل ذلك على إيمان الكلّ بهم يوم القيامة ، ومن المعلوم أن الوصف في جانب الثّبوت ، يكفي في حصول مسمّاه في بعض الصّور وفي بعض الأحوال.

الثالث : أن العلم بعدم الطّاعة مع وجود الطّاعة متضادّان ، [والضّدّان](٤) لا يجتمعان ، وذلك العلم ممتنع العدم ، فكانت الطّاعة ممتنعة الوجود ، والله عالم بجميع المعلومات ، فكان عالما بكون الطّاعة ممتنعة الوجود ، والعالم بكون الشّيء ممتنع الوجود لا يكون مريدا له ؛ فثبت بهذا البرهان القاطع أن يستحيل أن يريد الله من الكافر كونه مطيعا ، فوجب تأويل هذه اللّفظة ؛ بأن يكون المراد من الكلام ليس الإرادة بل الأمر ، والتّقدير : وما أرسلنا من رسول إلا ليؤمر النّاس بطاعته.

فصل

استدلّوا بهذه الآية على أنّه لا يوجد شيء من الخير والشّرّ ؛ والكفر والإيمان ، والطّاعة والعصيان ، إلا بإرادة الله ؛ لقوله : (إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) ولا (٥) يمكن أن يكون المراد من هذا الإذن : الأمر والتّكليف ؛ لأنّه لا معنى لكونه رسولا إلا أنّ الله ـ تعالى ـ أمر بطاعته ، فلو كان [المراد](٦) من الإذن هذا لصار التّقدير : وما أذنّا في طاعة من أرسلناه إلا بإذننا ، وهو تكرار قبيح ؛ فوجب حمل الإذن على التّوفيق والإعانة ، فيصير التّقدير : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بتوفيقنا وإعانتنا (٧) ، وهذا تصريح بأنه ـ تعالى ـ ما أراد من الكلّ طاعة الرّسول ، بل لا يريد ذلك [إلا من الّذي وفّقه الله لذلك وهم المؤمنون ، فأما من لم يوفّقه ، فلله ـ تعالى ـ ما أراد ذلك منهم](٨).

__________________

(١) في ب : يطيعوه.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : فلا.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : وإرادتنا وإعانتنا.

(٨) سقط في أ.

٤٦٤

فصل

دلّت هذه الآية على أن الأنبياء ـ [عليهم الصلاة والسلام](١) ـ معصومون عن الذنوب ؛ لأنّها دلّت على وجوب طاعتهم مطلقا ، فلو أتوا بمعصية ، لوجب الاقتداء بهم في تلك المعصية ، فتصير واجبة علينا ، وكونها معصية يجب كونها محرّمة علينا ، فيلزم توارد الإيجاب والتّحريم على الشّيء الواحد ، وهو محال.

فإن قيل : ألستم في الاعتراض على الجبّائيّ ذكرتم أن قوله : (إِلَّا لِيُطاعَ) لا يفيد العموم ، فكيف تمسّكتم به في هذه المسألة ، مع أن [هذا](٢) الاستدلال لا يتمّ إلا مع القول بأنّها تفيد العموم.

فالجواب : ظاهر [هذا](٣) اللّفظ يوهم العموم ، وإنما تركناه في تلك المسألة ؛ للدّليل القاطع الّذي ذكرناه ، على (٤) أنه يستحيل منه ـ تعالى ـ أن يريد الإيمان من الكافر ، فلأجل ذلك المعارض القاطع صرفنا الظّاهر عن (٥) العموم ، وليس ههنا برهان قاطع عقليّ يوجب القدح في عصمة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ، فظهر الفرق.

قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ) قد تقدم الكلام على «أنّ» الواقعة بعد «لو» ، و «إذ» ظرف معمول لخبر «أنّ» وهو «جاءك» ، وقال : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) ، ولم يقل : واستغفرت ، خروجا من الخطاب إلى الغيبة ، لما في هذا الاسم الظّاهر من التّشريف بوصف الرّسالة ، إجلالا للرّسول ـ عليه‌السلام ـ و «وجد» هنا يحتمل أن تكون العلميّة ، فتتعدّى لاثنين (٦) والثاني : «توابا» ، وأن تكون غير العلميّة ، فتتعدى لواحد ، ويكون «توابا» حالا ، وأما «رحيما» فيحتمل أن يكون حالا من ضمير «توّابا» [وأن يكون بدلا من توابا](٧) ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا في الأصل ، بناء على تعدّد الخبر وهو الصّحيح ، فلما دخل النّاسخ ، نصب الخبر المتعدّد ، تقول : زيد فاضل شاعر فقيه عالم ، ثم تقول : علمت زيدا فاضلا شاعرا فقيها عالما ، إلا أنّه لا يحسن أن يقال هنا : شاعرا : مفعول ثالث ، وفقيها [مفعول](٨) رابع ، وعالما : خامس.

فصل : سبب نزول الآية

في سبب النّزول وجهان :

الأول : أن من تقدّم ذكره مع المنافقين ، عندما ظلموا أنفسهم بالتّحاكم إلى الطّاغوت ، والفرار من التّحاكم إلى رسول الله ـ [صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٩) ، [لو جاءوا](١٠) للرّسول ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : مع.

(٥) في ب : من.

(٦) في ب : إلى اثنين.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في ب.

(٩) سقط في أ.

(١٠) سقط في ب.

٤٦٥

وأظهروا النّدم على ما فعلوه ، وتابوا عنه واستغفروا عنه ، واستغفر لهم الرّسول بأن يسأل الله أن يغفر لهم ، وجدوا الله توّابا رحيما.

الثاني : قال الأصم (١) : إن قوما من المنافقين اتّفقوا على كيد الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، ثمّ دخلوا عليه لأجل [ذلك الغرض ، فأتاه جبريل ـ عليه‌السلام ـ فأخبره به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن قوما](٢) دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه ، فليقوموا وليستغفروا الله حتّى أستغفر لهم ، فلم يقوموا ، فقال : ألا تقومون ؛ فلم يفعلوا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قم يا فلان ، قم يا فلان ، حتّى عدّ اثني عشر رجلا منهم ، فقاموا وقالوا : كنّا عزمنا على ما قلت ، ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا ، فاستغفر لنا.

فقال : الآن اخرجوا ، أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار ، وكان الله أقرب إلى الإجابة ، اخرجوا عنّي.

فإن قيل : أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه [صحيح](٣) ، لكانت توبتهم مقبولة ، فما فائدة ضمّ استغفار الرّسول إلى استغفارهم؟

فالجواب من (٤) وجوه :

أحدها : أن ذلك التّحاكم إلى الطّاغوت كان مخالفة لحكم الله ـ تعالى ـ ، وكان إساءة للرّسول ـ عليه‌السلام ـ وإدخالا للغمّ في قلبه ، ومن كان ذنبه كذلك ، وجب عليه الاعتذار عن ذلك لغيره ؛ فلهذا المعنى وجب عليهم إظهار طلب الاستغفار [من الرّسول](٥).

ثانيها : أنّهم لمّا لم يرضوا بحكم الرّسول ـ عليه‌السلام ـ ، ظهر منهم التمرّد ، فإذا نابوا ، وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التّمرّد ؛ بأن يذهبوا إلى الرّسول ويطلبوا منه الاستغفار.

وثالثها : أنهم (٦) إذا أتوا بالتّوبة أتوا بها على وجه خلل ، فإذا انضمّ إليها استغفار الرّسول ، صارت محقّقة القبول ، وهذه الآية تدلّ على أن الله ـ تعالى ـ يقبل التّوبة ؛ لقوله : (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً).

قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٦٥)

في سبب النّزول قولان :

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : في.

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : لعلهم.

٤٦٦

الأوّل : قال عطاء ومجاهد والشّعبي : نزلت في قصّة (١) المنافق واليهوديّ اللّذين اختصما إلى عمر(٢).

الثاني : روي عن عروة بن الزّبير ؛ أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شراج من الحرّة ، وكانا يسقيان به كلاهما ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزّبير : اسق يا زبير ، ثمّ أرسل إلى جارك ، فغضب الأنصاريّ ، وقال : أن كان (٣) ابن عمّتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال للزّبير : اسق ثمّ احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر (٤). واعلم [أن الحكم](٥) أن من كان أرضه أقرب إلى فم الوادي ، فهو أولى [بأوّل](٦) الماء ، وحقّه تمام السّقي ، فالرّسول عليه الصلاة والسلام أذن للزّبير في السّقي على وجه المسامحة [ابتداء](٧) ، فلما أساء خصمه الأدب ، ولم يعرف حقّ ما أمره به الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من المسامحة لأجله ، أمره النّبي ـ عليه‌السلام ـ باستيفاء حقّه على التّمام ، وحمل خصمه على مرّ الحقّ.

قال عروة بن الزّبير : [أحسب هذه الآية نزلت في ذلك ، وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزّبير](٨) كان اسمه حاطب بن [أبي](٩) بلتعة ، فلما (١٠) خرجا مرّ على المقداد. فقال : لمن كان القضاء فقال الأنصاريّ : قضى لابن عمّته ، ولوى شدقيه ، ففطن له يهوديّ كان مع المقداد ، فقال : قاتل الله هؤلاء ، يشهدون أنّه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وأيم الله لقد أذنبنا ذنبا مرّة في حياة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فدعانا موسى إلى التّوبة منه ، فقال : فاقتلوا أنفسكم ففعلنا ، فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربّنا ، حتّى رضي عنّا. فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إنّ الله ليعلم منّي

__________________

(١) في ب : قضية.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : لأن كان.

(٤) أخرجه البخاري (٥ / ٤٢ ـ ٤٣) في الشرب والمساقاة : باب سكر الأنهار (٢٣٥٩ ، ٢٣٦٠ ، ٢٣٦١ ، ٢٣٦٢) وفي الصلح : باب إذا أشار الإمام بالصلح (٢٧٨) ، (٨ / ٢٥٤) كتاب التفسير سورة النساء : باب (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) حديث (٤٥٨٥) ومسلم (٤ / ١٨٢٩ ـ ١٨٣٠) كتاب الفضائل باب وجوب اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٢٩ / ٢٣٥٧) وأبو داود (٣٦٣٧) والترمذي (٢ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠) وابن ماجه (٢٤٨٠) والنسائي (٢ / ٣٠٨ ـ ٣٠٩) وابن حبان رقم (٢٣) وأحمد (٤ / ٤ ـ ٥) والطبري في «تفسيره» (٨ / ٥١٩ ـ ٥٢٠) والبغوي في «شرح السنة» (٤ / ٤١٤ ـ ٤١٥) والبيهقي (٦ / ١٥٣ ـ ١٥٤) ، (١٠ / ١٠٦) من طرق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن الزبير بن العوام وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

(١٠) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٢) وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب.

٤٦٧

الصّدق ، ولو أمرني محمّد أن أقتل نفسي ، لفعلت ، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة هذه الآية (١).

قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) فيه أربعة أقوال :

أحدها : وهو قول ابن جرير (٢) : أن «لا» الأولى ردّ لكلام تقدّمها ، تقديره : فلا تعقلون ، أو ليس الأمر كما يزعمون من أنّهم آمنوا بما أنزل إليك ، وهم يخالفون حكمك ، ثم استأنف قسما بعد ذلك ، فعلى هذا يكون الوقف على «لا» تامّا.

الثاني : أن «لا» الأولى قدّمت على القسم اهتماما بالنّفي ، ثم [كرّرت](٣) توكيدا للنّفي ، وكان يصحّ إسقاط الأولى ، ويبقى معنى النّفي ، ولكن تفوت الدّلالة على الاهتمام المذكور ، [وكان يصحّ إسقاط الثّانية ويبقى معنى الاهتمام ، ولكن](٤) تفوت (٥) الدّلالة على النّفي ، فجمع بينهما لذلك.

الثالث : أن الثّانية زائدة ، والقسم معترض بين حرفي النّفي والمنفيّ ، وكان التقدير : فلا يؤمنون وربّك.

الرابع : أن الأولى زائدة ، والثّانية غير زائدة ، وهو اختيار الزّمخشري (٦) ؛ فإنه (٧) قال : «لا» مزيدة لتأكيد معنى القسم ؛ كما زيدت في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد : ٢٩] لتأكيد وجوب العلم ، و (لا يُؤْمِنُونَ) جواب القسم.

فإن قلت : هلّا زعمت أنّها زائدة لتظاهر لا في لا يؤمنون؟».

قلت : يأبى ذلك استواء النّفي والإثبات فيه ؛ [وذلك لقوله : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة : ٣٨ ـ ٤٠] يعني : أنه قد جاءت «لا» قبل القسم ؛ حيث لم تكن «لا» موجودة في الجواب](٨) ، فالزّمخشري (٩) يرى : أن «لا» في قوله ـ تعالى ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) [الحاقة : ٣٨] أنها زائدة أيضا لتأكيد معنى القسم (١٠) ، وهو أحد القولين.

والقول الآخر : كقول الطّبري المتقدّم ؛ ومثل الآية في التّخاريج المذكورة قول الآخر : [الوافر]

١٨٢٠ ـ فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء (١١)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٢٦) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : الطبري ٤ / ١٦٠.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : ويفوت.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٥٢٨ ، ٥٢٩.

(٧) في ب : فإن.

(٨) سقط في ب.

(٩) ينظر : الكشاف ١ / ٥٢٩.

(١٠) في ب : النفي.

(١١) تقدم برقم ١٥٦٩.

٤٦٨

قوله : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) غاية متعلّقة بقوله : (لا يُؤْمِنُونَ) أي : ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية ، وهي تحكيمك وعدم وجدانهم الحرج ، وتسليمهم لأمرك ، والتفت في قوله : «وربك» من الغيبة في قوله : واستغفر لهم [الرسول](١) رجوعا إلى قوله : (ثُمَّ جاؤُكَ).

قوله : (شَجَرَ) قرأ أبو السّمّال (٢) : «شجر» بسكون الجيم هربا من توالي الحركات ، وهي ضعيفة ؛ لأن الفتح أخو السّكون ، و «بينهم» ظرف منصوب ب (شَجَرَ ،) هذا هو الصّحيح.

وأجاز أبو البقاء (٣) فيه : أن يكون حالا ، وجعل في صاحب هذه الحال احتمالين :

أحدهما : أن يكون حالا من «ما» الموصولة.

والثاني : أنه حال من فاعل (شَجَرَ) وهو نفس الموصول أيضا في المعنى ، فعلى هذا يتعلّق (٤) بمحذوف.

فصل في معنى التشاجر

يقال : شجر يشجر شجورا وشجرا : إذا اختلف واختلط ، وشاجره : إذا نازعه ، وذلك لتداخل [الكلام بعضه في بعض عند المنازعة ، ومنه يقال لخشبات الهودج : شجار](٥) ، لتداخل بعضها في بعض.

قال أبو مسلم (٦) : وهو مأخوذ عندي من التفاف الشّجر ؛ فإن الشّجر يتداخل بعض أغصانه في بعض.

قوله (ثُمَّ لا يَجِدُوا) عطف على ما بعد «حتى» ، و «يجدوا» يحتمل أن تكون المتعدّية لاثنين [فيكون الأوّل : «حرجا» ، والثاني : الجار قبله ، فيتعلّق بمحذوف ، وأن تكون المتعدّية لواحد](٧) فيجوز في (فِي أَنْفُسِهِمْ) وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب (يَجِدُوا) تعلّق الفضلات.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من (حَرَجاً ؛) لأن صفة النّكرة لما قدّمت عليها انتصبت حالا.

قوله (مِمَّا قَضَيْتَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بنفس (حَرَجاً ؛) لأنّك تقول : خرجت من كذا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٧٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٩٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٨٥.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٥.

(٤) في ب : متعلق.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣١.

(٧) سقط في أ.

٤٦٩

والثاني : أنه متعلّق (١) بمحذوف فهو في محلّ نصب ؛ لأنه صفة ل (حَرَجاً ،) و «ما» يجوز أن تكون مصدريّة [وأن تكون بمعنى الّذي ، أي : حرجا من قضائك ، أو من الّذي قضيته](٢) ، وأن تكون [نكرة](٣) موصوفة ، فالعائد على هذين القولين محذوف.

فصل

أقسم الله ـ تعالى ـ على أنّهم لا يصيرون مؤمنين إلا عند شرائط :

أولها : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ،) وهذا يدلّ على أنّ من لم يرض بحكم الرّسول ، ـ [عليه الصلاة والسلام](٤) ـ لا يكون مؤمنا.

وثانيها : قوله : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ (٥) حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ).

قال الزجاج (٦) : لا تضيق صدورهم من أقضيتك ، وقال مجاهد : شكّا (٧) ، وقال الضّحّاك : إثما ، أي : يأثمون بإنكارهم (٨).

وثالثها : قوله : (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي : ينقادوا للأمر كحال الانقياد ، واعلم أن قوله : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) المراد منه : الانقياد في الباطن ، وقوله (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) المراد منه : الانقياد في الظّاهر ، والحرج على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى الشّكّ ؛ كهذه الآية ، [و](٩) مثله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف : ٢] أي : شك.

والثاني : بمعنى الضّيق ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: ٧٨] أي ضيق.

الثالث : بمعنى الإثم ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) [التوبة : ٩١] أي : إثم.

فصل في عصمة الأنبياء

دلّت هذه الآية على عصمة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ عن الخطإ في الفتاوى والأحكام ؛ لأنه ـ تعالى ـ أوجب الانقياد لحكمهم ، وبالغ في ذلك الإيجاب ، وبيّن أنه لا

__________________

(١) في ب : أن يتعلق.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٢.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥١٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٣) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. والبغوي ١ / ٤٤٩.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥١٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٣) وزاد نسبته لابن المنذر. والقرطبي ١ / ١٧٤.

(٩) سقط في ب.

٤٧٠

بدّ من حصول الانقياد في الظّاهر والقلب ، وذلك ينفي صدور الخطإ عنهم ، فدلّ ذلك على أنّ قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ، وفتواه في أسرى (١) بدر ، وقوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١] ، وقوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس : ١] كل ذلك محمول على التّأويل.

فصل

قالت المعتزلة (٢) : لو كانت الطّاعات والمعاصي بقضاء الله ـ تعالى ـ لزم التّناقض ؛ لأن الرّسول إذا حكم على إنسان بأنه لا يفعل كذا ، وجب على جميع المكلّفين الرّضا بذلك ؛ لأنه قضاء الرّسول ، والرّضى بقضاء الرّسول واجب [لهذه الآية ، ثم إن ذلك المكلّف فعل ذلك بقضاء الله ، والرّضا بقضاء الله واجب](٣) فيلزم أن يجب على جميع المكلّفين الرّضا بذلك الفعل ، لأنه قضاء الله ، فوجب أن يلزمهم الرّضا بالفعل والتّرك معا ، وذلك محال.

والجواب : أن المراد من قضاء الرّسول : الفتوى بالإيجاب والمراد من قضاء الله : التكوين والإيجاد ، وهما مفهومان متغايران ، فالجمع بينهما لا يفضي إلى التّناقض.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٦٨)

هذه الآية متّصلة بما تقدّم من المنافقين ، وترغيب لهم في ترك النّفاق ، والمعنى : أنّا لو شدّدنا التكليف على النّاس ؛ نحو أن نأمرهم بالقتل ، والخروج عن الأوطان ، لصعب ذلك عليهم ولما فعله إلا قليل ، وحينئذ يظهر كفرهم ، فلم نفعل ذلك رحمة منّا على عبادنا ، بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السّهلة ، فليقبلوها وليتركوا التّمرّد.

نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، ناظر يهوديّا (٤). فقال اليهوديّ : إن موسى أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ذلك ، ومحمد يأمركم بالقتال فتكرهونه. فقال ثابت بن قيس : لو أنّ محمّدا أمرني بقتل نفسي ، لفعلت ذلك فنزلت الآية ، وهو من القليل الّذي استثنى الله.

وقال الحسن ومقاتل : لمّا نزلت هذه الآية ، قال عمر ، وعمّار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود ، وناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم القليل : والله لو أمرنا لفعلنا ، فالحمد لله

__________________

(١) في ب : أسارى.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٣.

(٣) سقط في أ.

(٤) تقدم.

٤٧١

الذي عافانا الله ، فبلغ ذلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «إنّ من أمّتي لرجالا ، الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرّواسي» (١).

والضّمير في قوله : (كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) فيه قولان :

الأوّل : قال ابن عبّاس ومجاهد : إنه عائد إلى المنافقين (٢) لأنه ـ تعالى ـ كتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم ، فقال : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا) على هؤلاء المنافقين القتل والخروج ، ما فعله إلا قليل رياء وسمعة ، وهذا اختيار الأصمّ والقفّال.

[القول](٣) الثاني : المراد : لو كتب الله على النّاس ما ذكر ، لم يفعله إلا قليل منهم ، فيدخل فيه المؤمن والمنافق.

قوله : (أَنِ اقْتُلُوا) «أن» فيها وجهان :

أحدهما : أنها المفسّرة ؛ لأنّها أتت بعد ما هو بمعنى القول لا حروفه ، وهو أظهر.

الثاني : أنها مصدريّة ، وما بعدها من فعل الأمر صلتها ، وفيه إشكال ؛ من حيث إنّه إذا سبك منها وممّا بعدها مصدر ، فأتت للدّلالة [على الأمر ، ألا ترى أنّك إذا قلت : كتبت إليه أن قم فيه من الدّلالة](٤) على طلب القيام بطريق الأمر ، ما لا في قولك : كتبت إليه القيام ، ولكنّهم جوّزوا ذلك واستدلّوا بقولهم : كتبت إليه بأن (٥) قم. ووجه الدلالة : أن حرف الجرّ لا يعلّق.

وقرأ (٦) أبو عمرو : بكسر نون «أن» وضمّ واو «أو» ، قال الزّجّاج : ولست أعرف لفصل (٧) أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصيّة (٨) إلّا أن يكون رواية.

وقال غيره : أمّا كسر النّون ؛ فلأن الكسر هو الأصل في التقاء (٩) السّاكنين ، وأما ضمّ الواو فللإتباع ؛ لأن الضّمّة في الواو أحسن (١٠) ؛ لأنّها تشبه واو الضّمير ، نحو : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) [البقرة : ١٦](وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) [البقرة : ٢٣٧] وكسرهما حمزة وعاصم ؛ لالتقاء السّاكنين ، وضمّهما ابن كثير ، ونافع [وابن عامر](١١) والكسائي ؛ للاتباع فيهما.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٤) وعزاه لابن المنذر من طريق إسرائيل عن أبي إسحق عن زيد بن الحسن.

وعزاه أيضا لابن أبي حاتم من طريق هشام عن الحسن. والبغوي ١ / ٤٤٩.

(٢) تقدم.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : أن.

(٦) ينظر : السبعة ٢٢٤ ، والحجة ٣ / ١٦٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٤ ، وإتحاف ١ / ٥١٥.

(٧) في ب : تعرف لفصل.

(٨) في ب : خاصة.

(٩) في ب : فلالتقاء.

(١٠) في ب : حسن.

(١١) سقط في ب.

٤٧٢

قوله (ما فَعَلُوهُ). الهاء يحتمل أن تكون ضمير مصدر (اقْتُلُوا ،) أو (اخْرُجُوا) أي : ما فعلوا القتل ؛ أو ما فعلوا الخروج.

وقال فخر الدّين الرّازي (١) : تعود إلى القتل والخروج معا ؛ لأنه الفعل جنس واحد وإن اختلفت ضروبه.

قال شهاب الدّين : وهذا بعيد لنبوّ الصّناعة عنه ، وأجاز أبو البقاء أن يعود على المكتوب ويدلّ عليه : (كَتَبْنا).

قوله : (إِلَّا قَلِيلٌ) رفعه من وجهين :

أحدهما : أنه بدل من فاعل (فَعَلُوهُ) وهو المختار على النّصب ؛ لأن الكلام غير موجب.

الثاني : أنه معطوف على ذلك الضّمير المرفوع ، و «إلّا» حرف عطف ، وهذا رأي الكوفيّين.

وقرأ ابن عامر (٢) وجماعة : إلا قليلا بالنّصب ، وكذا هو في مصاحف أهل الشّام ، ومصحف أنس بن مالك ، وفيه وجهان :

أشهرهما : أنه نصب على الاستثناء وإن كان الاختيار الرّفع ؛ لأن المعنى موجود [معه كما هو موجود](٣) مع النّصب ، ويزيد عليه بموافقة (٤) اللّفظ.

والثّاني : أنه صفة لمصدر محذوف ، تقديره : إلا فعلا قليلا ، قاله الزّمخشري (٥) وفيه نظر ؛ إذ الظّاهر أن «منهم» صفة ل (قليلا ،) ومتى حمل القليل على غير الأشخاص ، يقلق هذا التركيب ؛ إذ لا فائدة حينئذ في ذكر «منهم».

قال أبو علي الفارسي (٦) : الرّفع أقيس ، فإن معنى ما أتى أحد إلا زيد ، [وما أتاني إلا زيد](٧) واحد ؛ فكما اتّفقوا في قولهم : ما أتاني إلا زيد ، على الرّفع ، وجب أن يكون قولهم : ما أتاني أحد إلا زيد بمنزلته.

قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا) تقدم الكلام على نظيره ، و «ما» في (ما يُوعَظُونَ) [موصولة](٨) اسميّة.

والباء في : «به» يحتمل أن تكون المعدّية دخلت على الموعوظ به [والموعوظ

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٤.

(٢) ينظر : السبعة ٢٣٥ ، والحجة ٣ / ١٦٨ ، وحجة القراءات ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، والعنوان ٨٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٥ ، وشرح شعلة ٣٤٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٧ ، وإتحاف ١ / ٥١٥.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : موافقته.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٥٣٠.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٤.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

٤٧٣

به](١) على هذا هو التّكاليف من الأوامر والنّواهي ، وتسمّى أوامر الله [تعالى](٢) ونواهيه مواعظ ؛ لأنها مقترنة بالوعد والوعيد ، وأن تكون السّببيّة ، والتقدير : ما يوعظون بسببه أي : بسبب تركه ، ودلّ على التّرك المحذوف قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا) [واسم «كان» ضمير عائد على الفعل المفهوم من قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا)](٣) أي : لكان فعل ما يوعظون به ، و «خيرا» خبرها ، و «شيئا» تمييز ل «أشدّ» ، والمعنى : أشدّ تحقيقا وتصديقا لإيمانهم.

قوله : «وإذن» : حرف جواب وجزاء ، وهل هذان المعنيان لازمان لها ، أو تكون جوابا فقط؟ قولان :

الأوّل : قول الشلوبين تبعا لظاهر قول سيبويه (٤).

والثاني : قول الفارسيّ ؛ فإذا قال القائل : أزورك غدا ، فقلت : إذن أكرمك ، فهي عنده جواب وجزاء ، وإذا قلت : إذن أظنّك صادقا ، كانت حرف جواب فقط ، وكأنه أخذ هذا من قرينة الحال ، وقد تقدّم أنها من النّواصب للمضارع بشروط ذكرت.

وقال أبو البقاء (٥) : و «إذن» جواب ملغاة ، فظاهر هذه العبارة موافق لقول الفارسيّ [وفيه نظر ؛ لأن الفارسيّ](٦) لا يقول في مثل هذه الآية إنّها جواب فقط ، وكونها جوابا يحتاج إلى شيء مقدّر.

قال الزّمخشريّ (٧) : «وإذن» ـ جواب لسؤال مقدّر ؛ كأنه قيل : وماذا يكون لهم بعد التّثبيت أيضا؟ فقيل : لو تثبّتوا لآتيناهم ؛ لأن «إذن» جواب وجزاء.

و (مِنْ لَدُنَّا :) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلّق [ب (وَآتَيْناهُمْ).

والثاني : أنه متعلّق](٨) بمحذوف ؛ لأنه حال من «أجرا» لأنّه في الأصل صفة نكرة قدّمت عليها. و «أجرا» مفعول ثان ل «ءاتيناهم» ، و (صِراطاً) مفعول ثان ل (لَهَدَيْناهُمْ).

فصل

قال الجبّائي (٩) : دلّت هذه الآية على أنّه ـ تعالى ـ لمّا لم يكلّفهم ما يثقل عليهم ، فبأن لا يكلّفهم ما لا يطيقون أولى.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الكتاب ٢ / ٣١١.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٦.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : الكشاف ١ / ٥٣٠.

(٨) سقط في ب.

(٩) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٤.

٤٧٤

والجواب : إنّما لم يكلّفهم بهذه الأشياءه الشّاقّة ؛ لأنّه لو كلّفهم بها لما فعلوها ، ولو لم يفعلوها ، لوقعوا في العذاب ، ثم إنّه ـ تعالى ـ علم من أبي جهل وأبي لهب عدم الإيمان ، وأنهم لا يستفيدون من التّكليف إلّا العقاب الدّائم (١) ، ومع ذلك فإنّه كلّفهم الإيمان فلمّا (٢) كان جوابا عن هذا ، فهو جواب عما ذكرت.

فصل : دلالة الآية على عظم الأجر

دلّت هذه الآية على عظم هذا الأجر من وجوه :

أحدها : أنه ذكر نفسه بصيغة العظمة ، وهو قوله : (لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا) والمعطي الحكيم إذا ذكر نفسه (باللّفظ الدّالّ على) (٣) العظمة (٤) ، وهو قوله : (وَآتَيْناهُمْ) عند الوعد بالعطيّة ـ دلّ على عظم تلك العطيّة.

وثانيها : قوله : (مِنْ لَدُنَّا) هذا التّخصيص يدلّ على المبالغة ، كما في قوله : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥].

وثالثها : أنه وصف الأجر بكونه عظيما ، والذي وصفه أعظم العظماء بالعظمة ، لا بد وأن يكون في نهاية العظم ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «[فيها](٥) ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (٦).

والمراد ب «الصراط المستقيم» : هو الدّين الحقّ ؛ لقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وقيل : الصّراط هو الطّريق من عرصة القيامة إلى الجنّة ؛ لأنه ـ تعالى ـ ذكره بعد الثّواب والأجر ، وأمّا الدّين الحقّ فهو متقدّم على الثّواب والأجر ، وصراط القيامة يكون بعد استحقاق الأجر ، فكان حمله عليه في هذا الموضع أولى.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧٠)

لما أمر الله بطاعة الله وطاعة رسوله بقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ثم زيّف طريقة المنافقين ، ثم أعاد الأمر بطاعة الرّسول بقوله ـ [تعالى](٧) ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) ورغّب في تلك الطّاعة بإيتاء الأجر العظيم ، وهداية الصّراط

__________________

(١) في ب : العذاب الدايم.

(٢) في ب : فما.

(٣) في ب : بالعظمة الدالة على.

(٤) في أ : العلم.

(٥) سقط في أ.

(٦) تقدم.

(٧) سقط في أ.

٤٧٥

المستقيم ، أكد الأمر (١) بالطّاعة في هذه الآية مرّة أخرى ، فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) الآية ، وقال القرطبيّ (٢) : لما ذكر الله ـ تعالى ـ الأمر الذي لو فعله (٣) المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه ، لأنعم عليهم ، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله.

فصل : سبب نزول الآية

قال جماعة من المفسّرين : إن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان شديد الحبّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قليل الصّبر عن فراقه ، فأتاه يوما وقد تغيّر لونه ، ونحل جسمه ، وعرف الحزن في وجهه ، فقال [له](٤) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ما غيّر لونك؟ فقال : يا رسول الله](٥) ما بي من وجع غير أنّي إذا لم أرك ، استوحشت وحشة شديدة حتّى ألقاك ، فذكرت الآخرة فخفت ألّا أراك هناك ؛ لأنك ترفع مع النبيّين [والصّدّيقين](٦) ، وإني إن أدخلت الجنّة ، كنت في منزلة أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنّة ، فلا أراك أبدا ، فنزلت [هذه](٧) الآية (٨).

وقال قتادة : إن بعض أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : كيف يكون الحال في الجنّة وأنت في الدّرجات العلى ونحن أسفل منك فكيف نراك ، فنزلت هذه الآية (٩).

وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار ، قال للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله ، إذا خرجنا من عندك إلى أهلينا اشتقنا إليك ، فما ينفعنا شيء حتّى نرجع إليك ، ثم ذكرت درجتك في الجنّة ، فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنّة ، فنزلت هذه الآية ، فلما توفّي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اللهمّ أعمني حتّى لا أرى شيئا بعده إلى أن ألقاه ؛ فعمي مكانه ، فكان يحبّ النبي حبّا شديدا ، فجعله الله معه في الجنّة (١٠).

قال المحقّقون (١١) : لا تنكر صحّة هذه الرّوايات ؛ إلا [أن](١٢) سبب النّزول يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك ، وهو الحثّ على الطّاعة والتّرغيب فيها ، فإن خصوص السّبب لا يقدح في عموم اللّفظ ، فالآية عامّة في حقّ جميع المكلّفين ، والمعنى : ومن

__________________

(١) في ب : الإناء.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٧٥.

(٣) في ب : غلب.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

(٨) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٥) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر عن عامر الشعبي دون ذكر اسم ثوبان.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٣٤) عن سعيد بن جبير دون ذكر ثوبان أيضا.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٣٤) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(١٠) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ١٣٦) عن مقاتل.

(١١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٦.

(١٢) سقط في أ.

٤٧٦

يطع الله في أداء الفرائض ، والرّسول في السّنن.

فصل

ظاهر قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) يوجب الأكثر بالطّاعة الواحدة ، لأنّ اللّفظ الدالّ على الصّفة يكفي في جانب الثّبوت حصول ذلك المسمّى مرّة واحدة.

قال القاضي (١) : لا بد (٢) من حمل هذا على غير ظاهره ، وأن تحمل الطّاعة على فعل المأمورات وترك جميع المنهيّات ؛ إذ لو حملناه على الطّاعة الواحدة ، لدخل فيه الفسّاق والكفّار ؛ لأنهم قد يأتون الطّاعة الواحدة.

قال ابن الخطيب (٣) : وعندي فيه وجه آخر ، وهو أنّه ثبت في أصول الفقه ، أن الحكم المذكور عقيب الصّفة يشعر بكون (٤) ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) [أي : ومن يطع الله](٥) في كونه إلها ، وذلك هو معرفته والإقرار بجلاله وعزّته وكبريائه [وقدرته](٦) ، ففيها تنبيه على أمرين عظيمين من أمور المعاد :

الأوّل : منشأ جميع السّعادات يوم القيامة وهو إشراق الروح بأنوار معرفته تعالى ، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر ، وصفاؤها أقوى ، وبعدها عن التكدّر بعالم الأجسام ، كان إلى الفوز بالنجاة أقرب.

الثاني : قال ابن الخطيب (٧) : إنه ـ تعالى ـ وعد المطيعين في الآية المتقدّمة بالأجر العظيم والهداية ، ووعدهم هنا بكونهم مع النبيّين [كما ذكر في](٨) الآية ، وهذا الذي ختم به أشرف ممّا قبله ، فليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرّسول مع النّبيّين والصّدّيقين ـ كون الكل في درجة واحدة ؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدّرجة بين الفاضل والمفضول ، وإنّه لا يجوز ، بل المراد : كونهم في الجنّة بحيث يتمكّن (٩) كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإن بعد المكان ؛ لأن الحجاب إذا زال ، شاهد بعضهم بعضا ، وإذا أرادوا الزّيارة والتّلاقي قدروا عليه ، فهذا هو المراد من هذه المعيّة.

قوله : (مِنَ النَّبِيِّينَ) فيه أربعة أوجه :

أظهرها : أنه بيان ل (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

الثاني : أنه حال من الضمير في «عليهم».

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٧.

(٢) في ب : فلا بد.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٧.

(٤) في ب : كون.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٧.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : يمكن.

٤٧٧

الثالث : أنه حال من الموصول ، وهو في المعنى كالأوّل ، وعلى هذين الوجهين فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنين من النّبيّين.

الرابع : أن يتعلّق ب «يطع» قال الرّاغب : [أي](١) : ومن يطع الله والرّسول من النّبيّين ومن بعدهم ، ويكون قوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) إشارة إلى الملإ الأعلى.

ثم قال : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ويبيّين ذلك قوله ـ عليه‌السلام ـ عند الموت : «اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى» وهذا ظاهر ، وقد أفسده أبو حيّان من جهة المعنى ، ومن جهة الصّناعة :

أمّا من جهة المعنى : فلأن الرّسول هنا هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أخبر ـ تعالى ـ أنّه من يطع الله ورسوله ، فهو مع من ذكره ، ولو جعل «مع النبيين» متعلّقا ب «يطع» ، لكان «من النبيين» تفسيرا ل «من» الشّرطيّة ، فيلزم أن يكون في زمانه ـ عليه الصلاة والسلام ـ [أو بعده أنبياء].

وأمّا من جهة الصّناعة ؛ فلأن ما قبل الفاء [يطيعونه ، وهذا غير ممكن ؛ لقوله تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) وقوله](٢) ـ عليه‌السلام ـ : «ولا نبيّ بعدي» الواقعة جوابا للشّرط لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : إن تضرب (٣) يقم عمرو زيدا (٤) لم يجز. وهل هذه الأوصاف الأربعة لصنف واحد أو لأصناف مختلفة؟ قولان.

فصل في تفسير المراد بالنبي والصديق والشهيد

قيل : المراد بالنّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين : صنف واحد من النّاس ، وقيل : المراد أصناف مختلفة ؛ لأن المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه ، وقيل : الاختلاف في الأصناف الثّلاثة غير النّبيّين ، فالصّدّيقون هم أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصّدّيق : هو اسم للمبالغ في الصّدق ، ومن عادته الصّدق.

وقيل : الصّدّيق : هو اسم لمن سبق إلى تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [وعلى هذا فأبو بكر أولى الخلق بهذا الاسم ؛ لأنّه أول من سبق إلى تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٥) ؛ واشتهرت الرّواية بذلك ، وكان عليّ صغيرا واتّفقوا على أنّ أبا بكر لمّا آمن ، جاء بعد ذلك بمدّة قليلة بعثمان بن عفّان ـ رضي الله عنه ـ ، وطلحة بن الزّبير ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعثمان بن مظعون ـ رضي الله عنهم ـ حتى أسلموا ، فكان إسلامه سببا لاقتداء هؤلاء الأكابر به ؛ فثبت أنّه ـ رضوان الله عليه ـ كان أسبق النّاس إسلاما ، وإن كان إسلامه صار سببا لاقتداء

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : أتضرب.

(٤) في ب : زيد وعمرو.

(٥) سقط في أ.

٤٧٨

الصّحابة في ذلك ، فكان أحقّ الأمّة بهذا الاسم أبو بكر ، وإذا كان كذلك ، كان أفضل الخلق بعد الرّسول [عليه الصلاة والسلام](١) ، وجاهد في إسلام أعيان الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ في أوّل الإسلام ، حين كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غاية الضّعف ، وعليّ ـ رضي الله عنه ـ إنما جاهد يوم أحد ويوم الأحزاب ، وكان الإسلام قويّا ، والجهاد وقت الضّعف أفضل من الجهاد وقت القوّة ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ (٢) وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠] ، ودلّ تفسير الصّدّيق بما ذكرنا ، على أنّه لا مرتبة بعد النّبوّة [أشرف](٣) في الفضل إلا الصّدّيق ، فإنه أينما (٤) ذكر النّبيّ والصّدّيق لم يجعل بينهما واسطة ، قال ـ تعالى ـ في صفة اسماعيل : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤] ، وفي صفة إدريس : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) [مريم : ٤١] ، وقال هنا : (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) وقال: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر : ٣٣] ، فلم يجعل بينهما واسطة ، وقد وفّق الله الأمّة (٥) التي هي خير أمّة ، حتى (٦) جعلوا الإمام بعد الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أبا بكر على سبيل الإجماع ، ولما توفي ـ رضي الله عنه ـ دفن (٧) إلى جنب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا دليل على أنّ الله ـ تعالى ـ رفع الواسطة بين النّبيّين والصّدّيقين.

وأمّا «الشهداء» قيل : هم (٨) الذين استشهدوا يوم أحد ، وقيل : الّذين استشهدوا في سبيل الله.

وقال عكرمة ـ رضي الله عنه ـ : النّبيّون ههنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصّدّيقون أبو بكر ، والشّهداء : عمر وعثمان وعليّ ، والصّالحون : سائر الصّحابة ـ رضي الله عنهم [أجمعين](٩)(١٠) ـ.

قال ابن الخطيب (١١) : لا يجوز أن تكون الشّهادة مقيّدة بكون الإنسان مقتول الكافر ؛ [لأن مرتبة الشّهادة مرتبة عظيمة في الدّين ، وكون الإنسان مقتول الكافر](١٢) ليس زيادة (١٣) شرف ، لأنّ هذا القتل قد يحصل في الفسّاق ، وفيمن لا منزلة له عند الله.

وأيضا فإن المؤمن قد يقول : اللهم ارزقني الشّهادة فلو كانت الشّهادة عبارة عن قتل الكافر إيّاه ، لكان قد طلب من الله ذلك القتل (١٤) ، وهو غير جائز ؛ لأنّ صدور

__________________

(١) في ب : أفضل الصلوات.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : فإنما.

(٥) في أ : الآية.

(٦) في ب : إن.

(٧) في ب : دفنوه.

(٨) في ب : فهم.

(٩) سقط في أ.

(١٠) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٤٥٠ عن عكرمة.

(١١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٣٩.

(١٢) سقط في ب.

(١٣) في ب : ليس ذلك زيادة.

(١٤) في ب : الفعل.

٤٧٩

[ذلك](١) القتل من الكافر كفر ، فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر ، وأيضا قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «المبطون شهيد ، والغريق شهيد» (٢) ، فعلمنا أن الشّهادة ليست عبارة عن القتل ، بل نقول : الشّهيد : «فعيل» بمعنى «الفاعل» ، وهو الّذي يشهد بصحّة دين الله تارة بالحجّة والبيان ، وأخرى بالسّيف والسّنان ، فالشّهداء هم القائمون بالقسط ، وهم الّذين ذكرهم الله ـ تعالى ـ في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨] ويقال للمقتول (٣) في سبيل الله : شهيد ؛ من حيث إنّه بذل نفسه في نصرة دين الله ، وشهادته له بأنّه (٤) هو الحقّ ، وما سواه هو الباطل.

وأمّا الصّالحون : فقد تقدّم قول عكرمة : إنهم بقيّة الصحابة وقيل : الصّالح من كان صالحا في اعتقاده وفي علمه.

قوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) في نصب رفيقا قولان :

أحدهما : أنه تمييز.

والثاني : أنه حال ، وعلى تقدير كونه تمييزا ، فيه احتمالان :

أحدهما : أن يكون منقولا (٥) من الفاعليّة ، وتقديره : وحسن رفيق أولئك ، فالرّفيق على هذا هذا غير المميّز ، ولا يجوز دخول «من» عليه.

والثاني : ألّا يكون منقولا ، فيكون نفس المميّز ، وتدخل عليه «من» ، وإنّما أتى به هنا مفردا ؛ لأحد معنيين :

إما لأن الرّفيق كالخليط والصّديق والرّسول والبريد ، تذهب به العرب إلى الواحد والمثنّى والمجموع (٦) ؛ قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦] وهذا إنّما يجوز في الاسم الّذي يكون صفة ، أمّا إذا كان اسما مصرّحا كرجل وامرأة لم يجز ، وجوّز الزّجّاج (٧) ذلك في الاسم أيضا ، وزعم أنه مذهب سيبويه.

والمعنى الثّاني : أن يكون اكتفى بالواحد عن الجمع لفهم المعنى ، وحسّن ذلك كونه فاصلة ، ويجوز في «أولئك» أن يكون إشارة إلى [النبيين ومن بعدهم ، وأن يكون إشارة إلى](٨) من يطع الله ورسوله ، وإنما جمع على معناها ؛ كقوله [تعالى](٩) : (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الحج : ٥] وعلى هذا فيحتمل أن يقال : إنه راعى لفظ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه البخاري (١٠ / ١٩٠) كتاب الطب : باب ما يذكر في الطاعون (٥٧٣٣) ومسلم (٣ / ١٥٢١) كتاب الإمارة باب بيان الشهداء (١٦٤ / ١٩١٤) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.

(٣) في ب : المقتول.

(٤) في ب : بأن الله.

(٥) في ب : مفعولا.

(٦) في ب : يذهب المفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٤٠.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

٤٨٠