اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

اللمس على الأصغر ، لم يبق للحدث الأكبر ذكر ، وقال ابن مسعود ، وابن عمر ، والشعبي ، والنّخعي (١) : هما التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع ؛ لأن حكم الجنابة تقدّم في قوله : (وَلا جُنُباً) فلو حملنا اللّمس على الجنابة ، لزم التّكرار.

قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا) الفاء عطفت ما بعدها على الشّرط ، وقال أبو البقاء (٢) : على «جاء» لأنه جعل «جاء» عطفا على «كنتم» ، فهو شرط عنده ، والفاء في قوله : «فتيمموا» هي (٣) جواب الشّرط ، والضّمير في «تيمموا» لكلّ من تقدّم ؛ من مريض ومسافر ومتغوّط وملامس أو لامس ، وفيه تغليب للخطاب على الغيبة ؛ وذلك أنّه تقدّم غيبة في قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ) وخطاب في «كنتم» ، و «لمستم» فغلّب الخطاب ، في قوله : «كنتم» وما بعده عليه ، وما أحسن ما أتي هنا بالغيبة ؛ لأنه كناية عما يستحيا منه فلم يخاطبهم به ، وهذا من محاسن الكلام ؛ ونحوه قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] [و «وجد» هنا بمعنى «لقي»](٤) فتعدت لواحد و «صعيدا» مفعول به لقوله «تيمموا» أي : اقصدوا.

وقيل : هو على إسقاط حرف ، أي : بصعيد ، وليس بشيء لعدم اقتياسه ، والصّعيد «فعيل» بمعنى الصّاعد ، [قيل : الصّعيد](٥) : وجه الأرض ترابا كان أو غيره.

فصل : الخلاف في وجوب تكرار طلب الماء في الصلاة الثانية

قال الشّافعي (٦) : إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجد الماء ، وتيمم وصلّى ، ثم دخل وقت الصّلاة الثّانية ، يجب عليه الطلب ثانيا ؛ لقوله (فَلَمْ تَجِدُوا) وهذا يشعر بسبق (٧) الطّلب.

وقال أبو حنيفة : لا يجب ، واعترض على الآية بأن قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا) لا يشعر بسبق الطلب ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) [الأعراف : ١٠٢](وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلاً) [الضحى : ٧ ، ٨] ، (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] ، وهذا لا يسبقه طلب ؛ لاستحالته على الله ـ تعالى ـ.

فصل

قال أبو حنيفة : التيمم هو القصد ، والصّعيد هو ما يصعد من الأرض ؛ فقوله (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، أي : اقصدوا أرضا ، وقال الشّافعي : هذه الآية مطلقة ، وآية المائدة مقيّدة بقوله : (مِنْهُ) [المائدة : ٦] وكلمة «من» للتّبعيض ، وهذا لا يتأتّى في

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٣٣.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٢.

(٣) في أ : بنى.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٤٨ وتفسير الرازي ١٠ / ٩١.

(٧) في ب : بمطلق.

٤٠١

الصّخر الذي لا تراب عليه ، فوجب حمل المطلق على المقيّد.

فإن قيل : إن كلمة «من» لابتداء الغاية ، قال صاحب الكشّاف (١) لا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسه من الدّهن ومن الماء ومن التّراب ، إلا معنى التّبعيض.

ثم قال : والإذعان للحقّ أحقّ من المراء.

وقال الواحدي (٢) : إنه ـ تعالى ـ قال : (صَعِيداً طَيِّباً) والأرض الطّيّبة التي تنبت ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف : ٥٨] ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «التّراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء».

قوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) هذا الجارّ متعلّق ب «امسحوا» وهذه (٣) الباء يحتمل أن تكون زائدة ، وبه قال أبو البقاء (٤) ، ويحتمل أن تكون متعدّية ؛ لأن سيبويه حكى : مسحت رأسه وبرأسه ، فيكون من باب نصحته ونصحت له ، وحذف الممسوح به ، وقد ظهر في آية المائدة ، في قوله: (مِنْهُ) [المائدة : ٦] فحمل عليه هذا.

ثم قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وهو كناية عن التّرخيص والتّيسير لأن من غفر للمذنبين ، فبأن يرخّص للعاجزين أولى.

فصل

قال القرطبي (٥) : أجمع العلماء على أن التّيمّم لا يرفع الجنابة ، ولا الحدث ، وأن المتيّمم لهما إذا وجد الماء ، عاد جنبا أو محدثا كما كان ؛ لقوله عليه‌السلام لأبي ذر : «إذا وجدت الماء ، فأمسّه جلدك».

فصل

قال القرطبي (٦) : والمسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع ، يقال : مسح الرّجل المرأة ، إذا جامعها ، والمسح : مسح الشيء بالسّيف (٧) وقطعه به ، ومسحت الإبل يومها إذا سارت ، والمسحاء المرأة الرسماء التي لا است لها ، ولفلان مسحة من جمال ، والمراد هنا بالمسح : عبارة عن مرّ اليد على الممسوح.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً)(٤٥)

لما ذكر ـ تعالى ـ أنواع التّكاليف من أوّل السّورة إلى هنا ، ذكر أقاصيص

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٩٢.

(٢) ينظر السابق.

(٣) في أ : فهذه.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٢.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٥٣.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٥٤.

(٧) سقط في ب.

٤٠٢

المتقدّمين ؛ لأن الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر كأنه ينشّط الخاطر ، وقد تقدّم الكلام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ٢٥٨] والمراد ب (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) هم اليهود.

وقال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في حبر (١) من أحبار (٢) اليهود ، كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ [ابن سلول] ورهطه ، يثبّطونهم (٣) عن الإسلام (٤).

وعن ابن عباس أيضا ؛ قال : نزلت في رفاعة بن زيد ، ومالك بن دخشم ، كانا إذا تكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لويا (٥) لسانهما ، وعاباه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (٦).

قوله : (مِنَ الْكِتابِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بمحذوف ، إذ هو صفة ل «نصيبا» فهو في محلّ نصب.

والثاني : متعلّق ب «أوتوا» أي أوتوا من الكتاب نصيبا ، و «يشترون» : حال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنه واو «[أوتوا]» (٧).

والثاني : أنه الموصول وهي على هذا حال مقدرة ، والمشترى به محذوف ، أي : بالهدى ، كما صرح به في مواضع ، ومعنى «يشترون» : يستبدلون الضّلالة بالهدى.

قوله : «ويريدون» عطف على «يشترون».

وقال النّخعي : «وتريدون أن تضلوا» بتاء الخطاب ، والمعنى : تريدون أيها المؤمنون أن تدّعوا الصّواب ، وقرأ الحسن (٨) : «أن تضلّوا» من أضل. وقرىء (٩) «أن تضلّوا السبيل» بضم التّاء وفتح الضّاد على ما لم يسمّ فاعله ، والسّبيل مفعول به (١٠) ؛ كقولك : أخطأ الطّريق ، وليس بظرف ، وقيل : يتعدى ب «عن» ؛ تقول : ضللت السّبيل ، وعن السّبيل ، ثم قال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) أي : أعلم بما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء.

قوله : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) تقدم الكلام عليه أوّل السّورة ، وكذا الكلام في المنصوب

__________________

(١) في أ : خبر.

(٢) في أ : أخبار.

(٣) في أ : يبسطوهم.

(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ٩٣) عن ابن عباس.

(٥) في ب : لووا.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٢٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٠) وزاد نسبته لابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الدلائل». والبغوي ١ / ٤٣٧.

(٧) سقط في أ.

(٨) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٧١.

(٩) قرأ بها الحسن ، كما في القرطبي ٥ / ٢٤٢. وانظر : الدر المصون ٢ / ٣٧١.

(١٠) في أ : مفعوله.

٤٠٣

بعده ، والمعنى : أنه ـ تعالى ـ لما بيّن شدّة عداوتهم للمسلمين ، بين أنه ـ تعالى ـ وليّ المؤمنين وناصرهم.

فإن قيل : ولاية الله لعبده عبارة عن نصرته ، فذكر النّصير (١) بعد ذكر الولي (٢) تكرار.

فالجواب : أن الوليّ هو المتصرّف في الشّيء ، والمتصرّف في الشّيء يجب أن يكون ناصرا.

فإن قيل : ما الفائدة من تكرار قوله : (وَكَفى بِاللهِ).

فالجواب : أن التّكرار في مثل هذا المقام يكون أشد تأثيرا في القلب ، وأكثر مبالغة.

فإن قيل : ما فائدة تكرار الباء في قوله : «بالله» فذكروا وجوها :

أحدها : لو قيل : كفى الله ، يتصل الفعل بالفاعل ثم ههنا زيدت الباء إيذانا بأن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره.

وثانيها : قال ابن السّرّاج (٣) : تقديره : كفى اكتفاؤه بالله وليّا ، ولما ذكرت «كفى» دلّ على الاكتفاء ؛ كما تقول : من كذب كان شرّا له ، أي : كان الكذب شرّا له ، فأضمرته لدلالة الفعل عليه.

وثالثها : قال ابن الخطيب (٤) : الباء في الأصل للإلصاق ، وإنما يحسن في المؤثّر الذي لا واسطة بينه وبين التّأثير ، فلو قيل : كفى الله ، دلّ ذلك على كونه فاعلا لهذه الكفاية ، ولكن لا يدلّ [ذلك على أنّه فعل](٥) بواسطة أو غير واسطة ، فإذا ذكرت الباء ، دلّ على أنه ـ تعالى ـ يفعل بغير واسطة ، بل هو ـ تعالى ـ يتكفّل به ابتداء من غير واسطة ؛ كقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦]

قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(٤٦)

قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ)] الآية (٦).

لما حكى عنهم أنّهم يشترون الضلالة ، بيّن تلك الضّلالة ما هي.

قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) فيه سبعة أوجه :

__________________

(١) في أ : النصر.

(٢) في ب : المولى.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٩٤.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

٤٠٤

أحدها : أن يكون (مِنَ الَّذِينَ) خبر مقدم ، و «يحرفون» جملة في محلّ رفع صفة لموصوف محذوف هو مبتدأ ، تقديره : من الذين هادوا قوم يحرّفون ، وحذف الموصوف بعد «من» التّبعيضيّة (١) جائز ، وإن كانت الصّفة فعلا ؛ كقولهم «منّا ظعن ، ومنّا أقام» ، أي : فريق أقام ، وهذا مذهب سيبويه (٢) والفارسي ؛ ومثله : [الطويل]

١٨٠٥ ـ وما الدّهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (٣)

أي : فمنهما تارة أموت فيها.

الثاني : قول الفرّاء (٤) ، وهو أن الجارّ والمجرور خبر مقدّم أيضا ، ولكن المبتدأ المحذوف يقدره موصولا ، تقديره : «من الذين هادوا من يحرفون» ، ويكون قد حمل على المعنى في «يحرفون» قال الفرّاء : ومثله [قول ذي الرّمّة](٥) [الطويل]

١٨٠٦ ـ فظلّوا ومنهم دمعه سابق له

وآخر يثني دمعه العين باليد (٦)

قال : تقديره ، ومنهم [من](٧) دمعه سابق له ، والبصريّون لا يجوّزون حذف الموصول ؛ لأنه جزء كلمة ، وهذا عندهم مؤول على حذف موصوف كما تقدّم ، وتأويلهم أولى لعطف النكرة عليه ، وهو : آخر وأخرى في البيت قبله (٨) ، فيكون في ذلك دلالة على المحذوف ، والتقدير : فمنهم عاشق سابق دمعه له وآخر.

الثالث : أن (مِنَ الَّذِينَ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : «هم الذين هادوا» ، و «يحرفون» على هذا حال من ضمير «هادوا» وعلى هذه الأوجه الثّلاثة يكون الكلام قد تمّ عند قوله : «نصيرا».

الرابع : أن يكون (مِنَ الَّذِينَ) حالا [من فاعل «يريدون» قاله أبو البقاء (٩) ، ومنع أن يكون حالا](١٠) من الضّمير في «أوتوا» ، ومن «الذين» أعني : في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا) قال : لأنّ الحال لا تكون لشيء واحد ، إلا بعطف بعضها على بعض.

__________________

(١) في أ : التبعيض.

(٢) ينظر : الكتاب ٣ / ٣٧٥.

(٣) البيت لتميم بن مقبل ينظر ديوانه (٢٤) ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١١٤ ، وخزانة الأدب ٥ / ٥٥ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٦٣٤ ، وحماسة البحتري ص ١٢٣ ، والحيوان ٣ / ٤٨ ، والدرر د / ١٨ ، والكتاب ٢ / ٣٤٦ ، وللعجير السلولي في سمط اللآلىء ص ٢٠٥ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٤٧ ، والمحتسب ١ / ٢١٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٠ ، والمقتضب ٢ / ١٣٨ ، والدر المصون ٢ / ٣٧١ ، الكشاف ١ / ٥١٦ ، البحر المحيط ٣ / ٢٧٣.

(٤) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٧١.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر البيت في ديوانه ١ / ١٤١ والبحر المحيط ٣ / ٢٧٣ والدر المصون ٢ / ٣٧٢ ، ورواية الديوان :

فظلوا ومنهم دمعهم غالب له

وآخر يثني عبرة العين بالهمل

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : قبل.

(٩) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٢.

(١٠) سقط في أ.

٤٠٥

قال شهاب الدين : في هذه المسألة خلاف بين النحويين (١) : منهم من منع ، ومنهم من جوّز ، وهو الصّحيح.

الخامس : أن (مِنَ الَّذِينَ) بيان للموصول في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا) لأنهم يهود ونصارى ، فبيّنهم باليهود ، قاله الزمخشري (٢) ، وفيه نظر من حيث إنّه قد فصل بينهما بثلاثة جمل هي : (وَاللهُ أَعْلَمُ ، وَكَفى بِاللهِ ، وَكَفى بِاللهِ).

وإذا كان الفارسيّ قد منع الاعتراض بجملتين ، فما بالك بثلاث ، قاله أبو حيان (٣) ، وفيه نظر ؛ فإن الجمل هنا متعاطفة ، والعطف يصير الشّيئين شيئا واحدا.

السادس : أنه بيان لأعدائكم ، وما بينهما اعتراض أيضا ، وقد عرف ما فيه.

السابع : أنه متعلّق ب (نَصِيراً) وهذه المادّة تتعدّى ب «من» ؛ قال ـ تعالى ـ : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) [الأنبياء : ٧٧](فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ) [غافر : ٢٩] على أحد تأويلين :

إمّا على تضمين (٤) النّصر معنى المنع ، أي : منعناه (٥) من القوم ، وكذلك : كفى بالله مانعا بنصره من الذين هادوا.

وإمّا : على جعل «من» بمعنى «على» ، والأوّل مذهب البصريين ، فإذا جعلنا (مِنَ الَّذِينَ) بيانا لما قبله ، فبم يتعلّق والظاهر [أنّه يتعلّق بمحذوف ؛ ويدل على ذلك أنّهم قالوا في سقيا لك](٦) ، إنه متعلّق بمحذوف لأنه بيان له ، وقال أبو البقاء (٧) : [وقيل](٨) وهو حال من أعدائكم ، أي : [والله أعلم بأعدائكم](٩) كائنين من الذين هادوا ، والفصل بينهما مسدّد ، فلم يمنع من الحال ، فقوله هذا يعطي أنه بيان لأعدائكم مع إعرابه له حالا ، فيتعلّق أيضا بمحذوف ، لكن لا على ذلك الحذف المقصود في البيان ، وقد ظهر ممّا تقدم أن (يُحَرِّفُونَ ،) إما لا محلّ له ، أو له محلّ رفع أو نصب على حسب ما تقدّم وقال أبو رجاء والنّخعي : «الكلام» وقرىء (١٠) : «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع «كلم» مخففة من كلمة ، ومعانيها متقاربة.

قوله : (عَنْ مَواضِعِهِ) متعلّق ب (يُحَرِّفُونَ) وذكر (١١) الضمير في (مَواضِعِهِ) حملا على (الْكَلِمَ ،) لأنّها جنس.

__________________

(١) في أ : القولين.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٥١٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٧٣.

(٤) في ب : تصيير.

(٥) في أ : معناه.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٢.

(٨) سقط في ب.

(٩) سقط في أ.

(١٠) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٧٤ ، والدر المصون ٢ / ٣٧٢.

(١١) في أ : وقال.

٤٠٦

وقال الواحدي (١) : هذا جمع حروفه أقلّ من حروف واحده ، وكل جمع يكون كذلك ، فإنه يجوز تذكيره.

وقال غيره (٢) : يمكن أن يقال : كون هذا الجمع مؤنّثا ليس أمرا حقيقيّا ، بل هو أمر لفظيّ ، فكان التّذكير والتّأنيث فيه جائزا. وجاء هنا (عَنْ مَواضِعِهِ) وفي المائدة : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) [المائدة : ٤١].

قال الزّمخشري (٣) : أما (عَنْ مَواضِعِهِ) فعلى ما فسّرناه من إزالته عن مواضعه ، التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه ، وأما (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) ، فالمعنى : أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها فحين حرّفوه ، تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه والمعنيان متقاربان.

قال أبو حيّان (٤) : وقد يقال : إنهما سيّان (٥) لكنه حذف هنا وفي أول المائدة [الآية ١٣] من بعد مواضعه ؛ لأن قوله (عَنْ مَواضِعِهِ) يدل على استقرار مواضع له ، وحذف في ثاني المائدة «من (٦) مواضعه» ؛ لأن التّحريف (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) يدل على أنّه تحريف عن مواضعه ، فالأصل : يحرّفون الكلم من بعد مواضعه عنها. فحذف هنا البعديّة (٧) ، وهناك توسّعا في العبارة ، وكانت البدأة هنا بقوله : (عَنْ مَواضِعِهِ) ؛ لأنه أخصر (٨) ، وفيه تنصيص (٩) باللّفظ على «عن» وعلى المواضع ، وإشارة إلى البعديّة.

وقال أيضا : والظّاهر أنهم حيث وصفوا بشدة التّمرّد والطّغيان ، وإظهار العداوة ، واشتراء الضّلالة ، ونقض الميثاق ، جاء (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) كأنهم حرّفوها من أوّل وهلة قبل استقرارها في مواضعها ، وبادروا إلى ذلك ، ولذلك جاء أوّل المائدة كهذه الآية ؛ حيث وصفهم بنقض الميثاق ، وقسوة القلوب ، وحيث وصفوا باللّين وترديد (١٠) الحكم إلى الرّسول ، جاء (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) كأنهم لم يبادروا إلى التّحريف ، بل عرض (١١) لهم بعد استقرار الكلم في مواضعها (١٢) ، فهما سياقان مختلفان.

[وقوله :](وَيَقُولُونَ) عطف على (يُحَرِّفُونَ) وقد تقدّم ، وما بعده في محلّ نصب به.

فصل : الخلاف في كيفية التحريف

اختلفوا في كيفيّة التّحريف ، فقيل : كانوا يبدّلون اللّفظ بلفظ آخر ؛ كتحريفهم الرّجم

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٩٥.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٥١٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٧٤.

(٥) في أ : بيان.

(٦) في أ : عن.

(٧) في ب : التعدية.

(٨) في أ : أخص.

(٩) في ب : تخصيص.

(١٠) في ب : ورد.

(١١) في أ : عوض.

(١٢) في ب : مواضعه.

٤٠٧

[ووضعوا](١) موضعه الجلد ؛ ونظيره (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ٧٩].

فإن قيل : كيف يمكن هذا في الكتاب الّذي بلغت آحاد حروفه ، وكلماته مبلغ التّواتر ، واشتهر في الشّرق والغرب.

فالجواب : لعل القوم كانوا قليلين ، والعلماء بالكتاب كانوا في غاية من القلّة فقدروا على ذلك.

وقيل : المراد بالتّحريف : إلقاء (٢) الشّبه والتّأويلات الفاسدة لتلك النّصوص ، وأما الآية التي في المائدة : فهي دالّة على الجمع بين الأمرين ، فكانوا يذكرون التّأويلات الفاسدة ، وكانوا يحرّفون اللّفظ أيضا من الكتاب.

فقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) إشارة إلى التّأويل الباطل.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) إشارة إلى إخراجه عن هذا الكتاب.

وقيل : المراد بالتّحريف : تغيير صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن عبّاس (٣) : كانت اليهود يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسألونه عن الأمر ، فيخبرهم ، فيرى أنّهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده ، حرّفوا كلامه (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا) منك قولك (وَعَصَيْنا) أمرك ، وهو المراد بقوله : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا).

قوله : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ)(٤) ، في نصب «غير» وجهان :

أحدهما : أنه حال.

والثاني : أنه مفعول به ، والمعنى : اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، فسمعك (٥) عنه ناب.

قال الزّمخشريّ ، بعد حكايته نصبه على الحال ، وذكره (٦) المعنى المتقدّم : ويجوز على هذا أن يكون (غَيْرَ مُسْمَعٍ) مفعول اسمع ، أي : اسمع كلاما غير مسمع إيّاك ؛ لأن أذنك لا تعيه نبوّا عنه ، وهذا الكلام ذو وجهين ، يعني أنه يحتمل المدح والذّم :

فبإرادة المدح تقدر غير مسمع مكروها ، فيكون قد حذف المفعول الثّاني ؛ لأن الأوّل قام مقام الفاعل.

وبإرادة الذّمّ تقدّر «غير مسمع خيرا» وحذف المفعول الثاني : أيضا [والمعنى : كانوا يقولون للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسمع ، ويقولون في أنفسهم : لا سمعت](٧).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : بالقاء.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ١ / ٤٣٨.

(٤) انظر : تفسير القرطبي (٥ / ١٠٧).

(٥) في أ : يرضاه ، فسمعك.

(٦) في أ : ونكر.

(٧) سقط في ب.

٤٠٨

وقال أبو البقاء (١) : وقيل : أرادوا غير مسموع (٢) منك ، وهذا القول نقله ابن عطيّة عن الطّبري ، وقال : إنه حكاية عن الحسن ومجاهد.

وقال ابن عطيّة : ولا يساعده التّصريف ، يعني : أنّ العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك ، [وإنما تقول أسمعته بمعنى : سببته ، وسمعت منه بمعنى قبلت ويعبرون بالسماع لا بالإسماع عن القبول مجازا ، وتقدم القول في (راعِنا) [البقرة : ١٠٤] ، وفيها وجوه :

أحدها : أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية ، وقيل معناها : أرعنا سمعك ، أي : اصرف سمعك إلى كلامنا ، وقيل : كانوا يقولون : راعنا ، ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون راعنا سمعك ، ومرادهم التشبيه بالرعونة في لغتهم.

وقيل : كانوا يلوون ألسنتهم ، حتى يصير قولهم : (وَراعِنا) : راعينا ، ويريدون : أنّك كنت ترعى أغناما لنا.

قال الفراء (٣) : كانوا يقولون : راعنا [ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون راعنا سمعك ، ومرادهم التشبيه بالرعونة](٤) ويريدون الشّتم ، فذاك هو اللّيّ ، وكذلك قولهم : (غَيْرَ مُسْمَعٍ) أرادوا به : لا سمعت فهذا هو اللّيّ.

فإن قيل : كيف جاءوا بقول يحتمل الوجهين بعد تصريحهم بقولهم : سمعنا وعصينا؟ فالجواب : أنه قال بعض المفسّرين (٥) : إنهم كانوا يقولون «وعصينا» سرا في نفوسهم. وقيل : كان بعضهم يقوله سرّا ، وبعضهم يقول جهرا.

قوله (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً) فيهما وجهان :

أحدهما : أنّهما مفعول من أجله ناصبهما (وَيَقُولُونَ).

والثّاني : أنّهما مصدران (٦) في موضع الحال ، أي : لاوين وطاعنين ، وأصل ليّا [«لوي»](٧) من لوى يلوي ، فأدغمت الواو في الياء بعد قلبها (٨) ياء ، فهو مثل «طيّ» مصدر طوى ، يطوي.

و «بألسنتهم» ، و (فِي الدِّينِ) متعلّقان (٩) بالمصدرين قبلهما ، وتقدّم في البقرة على قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا).

قوله : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) فيه قولان :

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٣.

(٢) في ب : فسمع.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٩٦.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٩٦.

(٦) في أ : أنها مصدر إن.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : قلبهما.

(٩) في ب : متعلق.

٤٠٩

أظهرهما : أن يكون بمعنى أفعل (١) ، ويكون المفضّل عليه [محذوفا ، أي : لو قالوا هذا الكلام ، لكان خيرا من ذلك الكلام.

والثاني : أنه لا تفضيل فيه](٢) بل يكون بمعنى جيّد وفاضل ، فلا حذف حينئذ (٣) ، والباء في «بكفرهم» للسّببية.

قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على الاستثناء من (لَعَنَهُمُ ،) أي : لعنهم الله إلا قليلا منهم ، فإنّهم آمنوا فلم يلعنهم.

والثاني : أنه مستثنى من الضّمير في (فَلا يُؤْمِنُونَ) ، والمراد بالقليل (٤) عبد الله بن سلام وأضرابه ، ولم يستحسن مكّي (٥) هذين الوجهين :

أما الأوّل : قال : لأنّ من كفر ملعون لا يستثنى منهم أحد.

وأما الثاني : فلأن الوجه (٦) الرّفع على البدل ؛ لأن الكلام غير موجب.

والثالث : أنّه (٧) صفة لمصدر محذوف ، أي : إلا إيمانا قليلا ؛ وتعليله هو أنّهم آمنوا بالتّوحيد وكفروا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشريعته.

وعبّر الزّمخشري وابن عطيّة عن هذا التّقليل بالعدم ، يعني : أنّهم لا يؤمنون ألبتّة كقوله : [الطويل]

١٨٠٧ ـ قليل التّشكّي للمهمّ يصيبه

كثير الهوى شتّى النّوى والمسالك (٨)

قال أبو حيان (٩) : وما ذكراه من أنّ التقليل يراد به العدم صحيح ، غير أن هذا التّركيب الاستثنائي يأباه ، فإذا قلت : لم أقم إلّا قليلا ، فالمعنى انتفاء القيام إلا القليل ، فيوجد منك إلا أنّه دالّ على انتفاء القيام ألبتّة](١٠) ، بخلاف : قلّما يقول (١١) ذلك أحد إلا زيد ، وقلّ رجل يفعل ذلك ، فإنه يحتمل التّقليل المقابل للتكثير ، ويحتمل النّفي المحض ، أما أنك تنفي ثم توجب ، ثم تريد بالإيجاب بعد النّفي نفيا فلا ؛ لأنه يلزم أن تجيء «إلّا» وما بعدها لغوا من غير فائدة ؛ لأن انتفاء القيام قد فهم من قولك : لم أقم (١٢) ، فأيّ فائدة في استثناء مثبت يراد به انتفاء مفهوم من الجملة السّابقة ، وأيضا فإنّه

__________________

(١) في ب : أفضل.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : فحينئذ.

(٤) في أ : بلا قليل.

(٥) ينظر : المشكل ١ / ١٩٣.

(٦) في ب : فلأنه وجه.

(٧) في أ : والثاني أنها.

(٨) البيت لتأبط شرا. ينظر الحماسة ١ / ٧٥ والدر المصون ٢ / ٣٧٤.

(٩) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٧٦.

(١٠) سقط في ب.

(١١) في أ : فلا تقول.

(١٢) في أ : لم أفهم.

٤١٠

يؤدّي إلى أن يكون ما بعد «إلّا» موافقا لما قبلها في المعنى ، والاستثناء يلزم أن يكون ما بعد إلا مخالفا لما قبلها فيه.

فصل : الخلاف في القليل الوارد في الآية

معنى الكلام : فلا يؤمن منهم إلّا أقوام قليلون ، واختلفوا في ذلك القليل :

فقال بعضهم : هو عبد الله بن سلام ، ومن أسلم معه منهم.

وقيل : القليل صفة للإيمان ، والتّقدير : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، فإنّهم كانوا يؤمنون بالله والتّوراة [وموسى](١) ، والتّقدير : فلا يؤمنون إلا بموسى ، ولكنّهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء ، ورجّح أبو عليّ الفارسيّ هذا القول ؛ قال : لأن (قَلِيلاً) لفظ مفرد ، والمراد به الجمع ، قال ـ تعالى ـ : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩] ، وقال : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج : ١٠ ، ١١] فدلّ عود الذكر مجموعا إلى الآيتين على أنّه أريد بهما الكثرة.

فصل : الاستدلال بالآية على جواز تكليف ما لا يطاق

استدل بعض العلماء بهذه الآية مع الآية التي بعدها ، على جواز تكليف ما لا يطاق ؛ لأنه ـ تعالى ـ أخبر عنهم في هذه الآية بأنّهم لا يؤمنون ، وخبره ـ تعالى ـ صدق وحقّ ، ثم أمرهم في الآية التي بعدها بالإيمان ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا) فأمرهم بالإيمان مع إخباره بأنّهم لا يؤمنون.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)(٤٧)

(٢) وذلك أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّم أحبار اليهود : عبد الله بن صوريا ، وكعب بن الأشرف (٣) ، فقال : يا معشر اليهود ، اتّقوا الله وأسلموا ، والله إنكم تعلمون أن الّذي جئتكم به الحقّ ، قالوا : ما نعرف ذلك ، وأصرّوا على الكفر ؛ فنزلت هذه الآية.

فإن قيل : كان يجب أن يأمرهم بالنّظر والتفكّر في الدّلائل ، حتى يكون إيمانهم استدلاليّا ، فلما أمرهم بالإيمان ابتداء ؛ فكأنه ـ تعالى ـ أمرهم بالإيمان على سبيل التّقليد.

فالجواب : أن هذا خطاب مع أهل الكتاب ، وكانوا عالمين بها في التّوراة ؛ ولهذا قال : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي : من الآيات الموجودة في التّوراة الدّالة على نبوّة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : أسد.

٤١١

قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ) متعلّق بالأمر في قوله : (آمِنُوا) ونطمس يكون متعدّيا ومنه هذه الآية ؛ ومثلها : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) [المرسلات : ٨] لبنائه للمفعول من غير [حرف](١) جرّ ، ويكون لازما ، يقال : طمس المطر الأعلام ، وطمست الأعلام.

قال كعب : [البسيط]

١٨٠٨ ـ من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الأعلام مجهول (٢)

وقرأ الجمهور : (نَطْمِسَ) بكسر الميم ، وأبو رجاء (٣) بضمّها ، وهما لغتان في المضارع ، وقدّر بعضهم مضافا أي : «عيون وجوه» ويقوّيه (٤) أن الطّمس للأعين (٥) ؛ قال ـ تعالى ـ : (لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [يس : ٦٦].

فصل في معنى الطمس والخلاف فيه

الطمس : المحو ؛ تقول العرب في وصف المفازة : إنها طامسة الأعلام ، وطمس الطّريق إذا درس ، وقد طمس الله على بصره ؛ إذا أزاله ، وطمست الرّيح الأثر : إذا محته ، وطمست الكتاب : إذا محوته ، واختلفوا في المراد بالطّمس هنا.

فقال ابن عباس : نجعلها كخفّ البعير (٦).

وقال قتادة والضّحّاك : نعميها (٧).

وقيل : نمحو آثارها وما فيها من أعين (٨) ، وأنف ، وفم ، وحاجب.

وقيل : نجعل الوجوه منابت الشّعر ، كوجوه القردة (٩) ، وقيل : يجعل عينيه في القفا ؛ فيمشي القهقرى ، وقيل : المراد ب «الوجوه» : الوجهاء ، والرؤساء (١٠).

وروي : أنّ عبد الله بن سلام ، لمّا سمع هذه الآية ؛ جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يأتي أهله ، ويده على وجهه ، وأسلم ، وقال : يا رسول الله ، ما كنت أرى أن أصل إليك ؛ حتّى يتحول وجهي إلى قفاي (١١) ؛ وكذلك كعب الأحبار ، لمّا سمع هذه الآية ، أسلم في زمن عمر ، فقال : يا ربّ ، آمنت ، يا ربّ ، أسلمت ؛ مخافة أن يصيبه ـ وعيد هذه ـ الآية (١٢).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٧٨ ، والدر المصون ٢ / ٣٧٥.

(٤) في أ : ويقولون.

(٥) في أ : للعين.

(٦) انظر : البحر المحيط (٣ / ٢٧٨).

(٧) المصدر السابق.

(٨) في ب : عين.

(٩) انظر تفسير «البحر المحيط» لأبي حيان (٣ / ٢٧٨).

(١٠) في أ : الوجه والرؤس.

(١١) انظر تفسير ابن عباس ص ٧١ ، غرائب النيسابوري (٥ / ٦٤).

(١٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٤٦) عن عيسى بن المغيرة.

٤١٢

فإن قيل : قد أوعدهم بالطمس إن لم يؤمنوا ، ولم يفعل ذلك بهم؟

فالجواب : أنّ الوعيد باق ، ويكون طمس ، ومسخ في اليهود ، قبل قيام السّاعة ، وقيل : إنّه جعل الوعيد : إمّا الطمس ، وإمّا اللّعن ، وقد فعل أحدهما ، وهو اللّعن.

وقيل : كان هذا وعيدا بشرط فلما أسلم عبد الله بن سلام ، وأصحابه ، رفع ذلك عن الباقين ، وقيل : أراد به في القيامة.

وقال مجاهد : أراد بقوله (نَطْمِسَ وُجُوهاً ،) أي : يتركهم في الضّلالة ، فيكون المراد طمس وجه القلب ، والردّ عن الهدى (١).

وقال ابن زيد : نمحو آثارهم من وجوههم ، ونواصيهم التي هم بها (٢) وقد لحق اليهود ، ومضى ، وتأويل ذلك في إجلاء قريظة والنّضير إلى الشّام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم ، حين عادوا إلى أذرعات ، وأريحاء من الشام.

قوله : (عَلى أَدْبارِها) فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه متعلّق ب (فَنَرُدَّها).

والثّاني : أن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من المفعول في (فَنَرُدَّها ؛) قاله أبو البقاء (٣).

قوله : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) عطف على نطمس ، والضمير في «نلعنهم» يعود على الوجوه ، على حذف مضاف إليه ، أي : وجوه قوم ، أو على أن يراد بهم : الوجهاء والرؤساء (٤) ، أو يعود على الّذين أوتوا الكتاب ، ويكون ذلك التفاتا من خطاب إلى غيبة ، وفيه استدعاؤهم للإيمان ؛ حيث لم يواجههم باللّعنة بعد أن شرّفهم بكونهم من أهل الكتاب.

فصل في المراد باللعن

قال مقاتل ، وغيره : المراد باللّعن : مسخهم قردة ، وخنازير (٥) ، فإن قيل : قد كان اللّعن حاصلا قبل هذا الوعيد (٦).

فالجواب : أن هذه اللّعنة بعد الوعيد ، أزيد تأثيرا في الخزي ، وقيل : المراد بهذا اللّعن ، الطّرد ، والإبعاد [و](٧) قوله (وَكانَ أَمْرُ اللهِ :) أمر واحد أريد به الأمور ، وقيل : هو مصدر واقع موقع المفعول به ، أي : مأموره ، أي (٨) : ما أوجده كائن لا محالة.

__________________

(١) انظر البحر المحيط (٣ / ٢٧٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٤٢ ـ ٤٤٣).

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٣.

(٤) في أ : الوجه والرأس.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» عن الضحاك (٢ / ٣٠١) وعزاه لعبد بن حميد.

(٦) في أ : الوعد.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : إلى.

٤١٣

قال ابن عبّاس (١) : يريد لا رادّ لحكمه ، ولا ناقض لأمره ، على [معنى](٢) أنه لا يبعد عليه شيء [يريد](٣) أن يفعله ، وإنّما قال : (وَكانَ) إخبارا عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدّمين ، أنّه متى أخبرهم بإنزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة.

فصل : دفع شبهة الجبائي

احتجّ الجبّائيّ بهذه الآية على أنّ كلام الله محدث (٤) ؛ لأنّ المفعول مخلوق.

فالجواب : أنّ الأمر في اللّغة ، جاء بمعنى الشّأن ، والطّريقة ، والفعل ؛ قال تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧].

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)(٤٨)

لما توعّد على الكفر ، وبين أنّ ذلك التقدير لا بدّ من وقوعه ، يعني : أنّ ذلك إنّما هو من خواص الكفر ، أمّا سائر الذّنوب غير الشّرك ، فإنه يغفرها ، إن شاء.

قال الكلبيّ (٥) : نزلت في وحشيّ بن حرب ، وأصحابه ؛ وذلك أنّه لما قتل حمزة ، كان قد جعل له على قتله أن يعتق ، فلم يوفّ له بذلك ، فلما قدم مكّة ، ندم على صنعه ؛ هو ، وأصحابه ؛ فكتبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا قد ندمنا على الذي صنعنا ، وإنّه ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول بمكّة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٨] الآيات ، وقد دعونا مع الله إلها آخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله قتلها وزنينا ، فلو لا هذه الآيات ، لاتّبعناك ؛ فنزلت : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٧٠] ، الآيتين ؛ فبعث بهما [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] إليهم فلما قرءوا ، كتبوا إليه : إنّ هذا شرط شديد نخاف ألّا نعمل عملا صالحا فنزل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ،) فبعث بها إليهم ، فبعثوا إليه : إنّا نخاف ألّا نكون (٦) من أهل المشيئة ؛ فنزلت : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] فبعث بها إليهم ؛ فدخلوا في الإسلام ، ورجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبل منهم ، ثم قال [عليه الصلاة والسلام](٧) لوحشي : «أخبرني : كيف قتلت حمزة؟» ، فلمّا أخبره ، قال : «ويحك! غيّب وجهك عنّي» ، فلحق وحشيّ بالشّام ، وكان بها إلى أن مات (٨).

وروى أبو مجلز ، عن ابن عمر : «لمّا نزلت : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ)

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٩٩.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : يحدث.

(٥) ينظر : معالم التنزيل ١ / ٤٣٩.

(٦) في أ : أن لا نكون.

(٧) سقط في أ.

(٨) انظر تفسير الرازي (١٠ / ١٠١).

٤١٤

الآية ، قام رجل ، فقال (١) : والشّرك يا رسول الله ، فسكت ، ثم قام إليه مرّتين ، أو ثلاثا ؛ فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)(٢) الآية ، قال مطرّف بن الشّخّير : قال ابن عمر : كنّا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مات الرجل على كبيرة ، شهدنا أنّه من أهل النّار ؛ حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكنا عن الشّهادات (٣).

حكي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنّ هذه الآية أرجى آية في القرآن (٤).

قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ،) كلام مستأنف ، وليس عطفا على (يَغْفِرُ) الأوّل ؛ لفساد المعنى ، والفاعل في (يَشاءُ) ضمير عائد على الله تعالى ، ويفهم من كلام الزمخشريّ : أنّه ضمير عائد على من في «لمن» لأنّ المعنى عنده : إنّ الله لا يغفر الشّرك لمن لا يشاء أن يغفر له ؛ لكونه مات على الشّرك ، غير تائب منه ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أن يغفر له ، بكونه (٥) مات تائبا من الشّرك ، و (لِمَنْ يَشاءُ) متعلّق ب (يَغْفِرُ).

قوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أي : اختلق ذنبا غير مغفور.

يقال : افترى فلان الكذب ، إذا اعتمله ، واختلقه ، وأصله : من الفري ، بمعنى : القطع.

روى جابر قال : أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله ، ما الموجبتان؟ قال (٦) من مات لا يشرك بالله شيئا ، دخل الجنّة ، ومن مات يشرك بالله شيئا ، دخل النّار (٧).

__________________

(١) في ب : قال.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٤٩ ، ٤٥٠) عن ابن عمر وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٤٨١) ثم قال : وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٢) عن أبي مجلز وعزاه لابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٥٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٢) وزاد نسبته للبزار وابن أبي حاتم عن ابن عمر.

وللحديث شاهد قوي عن ابن عمر :

أخرجه أبو يعلى (١٠ / ١٢٦) وابن الضريس وابن المنذر وابن عدي كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٢).

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٥) وقال : ورجاله رجال الصحيح غير حرب بن سريج وهو ثقة. ولفظه : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» [النساء : ٣٨] فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا.

(٤) ينظر : معالم التنزيل ١ / ٤٤٠.

(٥) في ب : لكونه.

(٦) في ب : فقال.

(٧) أخرجه البخاري (١ / ٢٧٢) كتاب العلم : باب من خص بالعلم قوما (١٢٨ ـ ١٢٩) ومسلم (١ / ٥٨) كتاب الإيمان : باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة (٤٨ / ٣٠) ، (٤٩ / ٣٠) وأبو عوانة (١ / ١٧) والبيهقي (٧ / ٤٤) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ١١٢) من حديث جابر بن عبد الله.

٤١٥

وقال ابن عبّاس : إنّي لأرجو ، كما لا ينفع مع الشّرك عمل ؛ كذلك لا يضرّ مع التّوحيد ذنب ، ذكر ذلك عند عمر بن الخطّاب ؛ فسكت عمر.

وروى أبو ذرّ ، قال : أتيت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه ثوب أبيض ، وهو نائم ، ثمّ أتيته ، وقد استيقظ ؛ فقال : «ما من عبد قال لا إله إلا الله ، ثمّ مات على ذلك ؛ إلّا دخل الجنّة».

قلت : وإن زنا ، وإن سرق! قال : «وإن زنا ، وإن سرق».

[قلت : وإن زنا ، وإن سرق! قال : «وإن زنا ، وإن سرق» ، قلت : وإن زنا ، وإن سرق! قال : «وإن زنا ، وإن سرق](١) ، على رغم [أنف](٢) أبي ذرّ» ، وكان أبو ذرّ إذا حدث بهذا ، قال : وإن رغم أنف أبي ذرّ (٣).

فصل

قال القرطبيّ (٤) : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) من المحكم المتفق عليه ، الذي لا خلاف فيه بين الأمة ، وقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ،) من المتشابه ، الّذي قد تكلّم العلماء فيه.

فقال محمد بن جرير الطّبريّ (٥) : قد أبانت هذه الآية أنّ كلّ صاحب كبيرة ، ففي مشيئة الله عزوجل (٦) إن شاء [عفا له ، وإن شاء](٧) ، عاقبه ، ما لم تكن كبيرته شركا ، وقال بعضهم : قد بين الله تعالى ، بقوله عزوجل : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١].

فأعلم أنّه : يكفّر الصّغائر لمن اجتنب الكبائر ، لمن يشاء ، ولا يغفر الصغائر لمن أتى الكبائر.

وقال بعضهم (٨) : هذه الآية ناسخة للتي في آخر الفرقان.

قال زيد بن ثابت : نزلت سورة النّساء بعد سورة الفرقان بستّة أشهر (٩).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه البخاري (١٠ / ٢٩٤) كتاب اللباس : باب الثوب الأبيض (٥٨٢٧) ومسلم (١ / ٩٤) كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئا (١٥٣ / ١٩٤).

قال البغوي في «شرح السنة» (١ / ١١٣) وقوله : «وإن رغم أنف أبي ذر» أي : ذلّ ، وقيل : وإن كره يقال : ما أرغم من ذلك شيئا أي : أكرهه ، وقيل : وإن اضطرب أبو ذر. وانظر «النهاية في غريب الحديث» (٢ / ٢٣٩) والصحاح للجوهري (٥ / ١٩٣٤).

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٥٩.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) في ب : الله تعالى.

(٧) سقط في ب.

(٨) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٥٩.

(٩) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٥ / ١٥٩) عن زيد بن ثابت.

٤١٦

قال القرطبيّ : والصحيح أنّه لا نسخ ، لأنّ النّسخ في الأخبار مستحيل ، وسيأتي الجمع بين الآي ، في هذه السّورة ، وفي الفرقان ، إن شاء الله تعالى.

فصل هل يسمى اليهودي مشركا في الشرع؟

قال ابن الخطيب (١) : دلت هذه الآية على أنّ اليهوديّ يسمّى مشركا في الشّرع ؛ لأنها دالّة على أنّ ما سوى الشرك من الكبائر يغفر ، فلو كانت اليهوديّة مغايرة للشّرك ، كانت](٢) مغفورة (٣) بحكم الآية ، وهو خلاف الإجماع ، ولأنّ هذه الآية متّصلة بوعيد اليهود ، فلو لا دخول اليهودية تحت اسم الشّرك ، لم يحصل الالتئام.

فإن قيل : عطف («الَّذِينَ أَشْرَكُوا) على (الَّذِينَ هادُوا) في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [الحج : ١٧] ثمّ قال [بعده](٤) : (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) يقتضي المغايرة.

قلنا : المغايرة في المفهوم اللّغويّ ، والاتّحاد في الشرعي ؛ دفعا للتّناقض ، ويتفرّع عليه أنّ المسلم لا يقتل بالذمّي ؛ لأنّ المشرك مباح الدّم ؛ لقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] ، ومباح الدّم لا يقتصّ من قاتله ، ولا يتوجّه النّهي عن قتله ، ترك العمل بهذا الدليل في حقّ النهي فبقي (٥) معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله.

فصل في دلالة الآية على العفو عن أصحاب الكبائر

هذه الآية أقوى الدلائل على صحّة العفو عن أصحاب الكبائر ، من وجوه :

الأوّل : أنّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أي لا يغفره فضلا مع عدم التوبة ؛ لأنّه يغفر وجوبا عند التوبة بالإجماع ؛ فيكون قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) على سبيل الفضل ، حتّى يتوارد النّفي والإثبات على معنى واحد ؛ كما لو قال : إنّ فلانا شاء لا يعطي أحدا على سبيل التّفضيل ، ويعطي زيدا ، فهم أنه على سبيل الفضل حتّى لو قال : يعطيه على سبيل فضل الوجوب ، كان ركيكا ، وحينئذ : يجب أن يكون المراد أصحاب الكبائر ، قبل التّوبة ؛ لأنّ عند المعتزلة ، غفران الصّغائر ، والكبائر بعد التّوبة ـ واجب عقلا ، فلا يمكن حمل الآية عليه ، فلم يبق إلّا الكبائر قبل التّوبة.

الثّاني : أنّ ما سوى الشّرك ، يدخل فيه الكبائر قبل التوبة ، وبعدها ، ثمّ حكم على الشّرك بأنّه غير مغفور ، وعلى غير الشّرك بأنّه مغفور لمن يشاء ، فوجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة مغفورة.

الثالث : أنّه علّق الغفران بالمشيئة ، وغفران الكبيرة بعد التوبة والصّغيرة مقطوع به ، فوجب أن يكون المعلّق الكبيرة قبل التوبة.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٠٠.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : مغفور.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : بقي.

٤١٧

فإن قيل : إنّ تعليقه على المشيئة ، لا ينافي وجوبه ؛ كقوله تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ)، ثمّ إنّا نعلم أنّه لا يزكّي إلّا من يكون أهلا للتّزكية ، وإلّا فكانت كذبا.

واعلم : أنه ليس للمعتزلة في مقابلة هذه الوجوه كلام يلتفت إليه ، [إلا المعارضة بآيات الوعيد](١).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(٤٩)

قد تقدّم الكلام على مثل قوله : (أَلَمْ تَرَ) ، وقوله : «بل» ، إضراب عن تزكيتهم أنفسهم ، وقدّر أبو البقاء (٢) قبل هذا الإضراب جملة ؛ قال : تقديره : أخطؤوا ،(بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ).

[وقوله : (وَلا يُظْلَمُونَ) ، يجوز أن يكون حالا ممّا تقدّم ، وأن يكون مستأنفا ، والضمير في «يظلمون» يجوز أن يعود على (مَنْ يَشاءُ)](٣) أي : لا ينقص من تزكيتهم شيئا ، وإنّما جمع الضمير ؛ حملا على معنى «من» وأن يعود على الذين يزكون ، وأن يعود على القبيلين من زكّى نفسه ، ومن زكّاه الله ، فذاك لا ينقص من عقابه شيئا ، وهذا لا ينقص من ثوابه شيئا ، والأوّل أظهر ؛ لأن «من» أقرب مذكور ، ولأنّ «بل» إضراب منقطع (٤) ما بعدها عمّا قبلها.

وقال أبو البقاء (٥) : ويجوز أن يكون مستأنفا ، أي : من زكّى نفسه ، ومن زكّاه الله. انتهى.

فجعل عود الضمير على الفريقين ؛ بناء على وجه الاستئناف ، وهذا غير لازم [بل](٦) يجوز عوده عليهما ، والجملة حاليّة.

و (فَتِيلاً) مفعول ثان ؛ لأن الأول قام مقام الفاعل ، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف ، كما تقدّم تقديره في : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] ، والفتيل : خيط رقيق في شقّ النّواة [يضرب به المثل في القلّة ، قاله ابن السّكيت ، وغيره.

وقيل : هو ما خرج من بين إصبعيك ، أو كفّيك من الوسخ](٧) حين تفتلهما (٨) ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وقد ضرب العرب المثل في القلّة التافهة بأربعة أشياء ، اجتمعت في النواة ، وهي : الفتيل ، والنّقير : وهو النّقرة التي في ظهر النّواة ، والقطمير : هو القشر [الرقيق](٩) فوقها [وهذه الثلاثة واردة في الكتاب العزيز ، والثّفروق : وهو ما

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٣.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : فيقطع.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٣.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : حتى يفتلها.

(٩) سقط في ب.

٤١٨

بين النواة والقمع](١) الّذي يكون في رأس التّمرة كالعلاقة بينهما.

فصل

لما هدّد (٢) اليهود بأنه تعالى (٣) لا يغفر أن يشرك به ، قالوا : لسنا من المشركين ، بل نحن من خوّاصّ الله.

قال الكلبيّ (٤) : نزلت هذه الآية في رجال من اليهود : منهم «بحرى بن عمر» ، و «النّعمان بن أوفى» ، و «مرحب بن زيد» أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد [هل](٥) على هؤلاء من ذنب؟ فقال : لا ، قالوا : ما نحن إلّا كهيئتهم ، ما عملنا بالنهار ، يكفّر (٦) عنّا بالليل ، وما عملنا بالليل ، يكفر عنّا بالنهار ، فنزلت هذه الآية.

وقال مجاهد ، وعكرمة (٧) : كانوا يقدّمون أطفالهم في الصلاة ، يزعمون أنّهم لا ذنوب لهم ، فتلك التزكية (٨).

وقال الحسن ، والضحاك ، وقتادة ، ومقاتل : نزلت في اليهود ، والنصارى ؛ حين قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨](وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٩) [البقرة : ١١١].

قال عبد الله بن مسعود : هو تزكية بعضهم لبعض (١٠).

فصل

فصل التّزكية ـ هاهنا ـ : عبارة عن مدح الإنسان نفسه.

قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) والتّقوى : لا يعلم حقيقتها إلّا الله تعالى.

فإن قيل : أليس قد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «والله ، إنّي لأمين في السّماء ، وأمين في الأرض» (١١).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : حدد.

(٣) في ب : بأن الله.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٤٠.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : كفر.

(٧) ينظر : معالم التنزيل ١ / ٤٤٠.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٥٣) عن مجاهد وأبي مالك وعكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٤) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٥٢) عن الحسن والضحاك وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٤) عن الحسن وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وعبد الرزاق. ومعالم التنزيل ١ / ٤٤٠.

(١٠) ينظر : معالم التنزيل ١ / ٤٤٠.

(١١) انظر إتحاف السادة المتقين (٥ / ٢٣٩) والشفا للقاضي عياض (١ / ٣٢٦٩).

٤١٩

فالجواب : إنّما قال ذلك حين قال المنافقون له : اعدل في القسمة ؛ ولأنّ الله تعالى لمّا زكّاه أوّلا بقيام المعجزة ، جاز له ذلك ، بخلاف غيره.

قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً)(٥٠)

(كَيْفَ) منصوب ب (يَفْتَرُونَ) وتقدم الخلاف فيه ، والجملة في محلّ نصب ، بعد إسقاط الخافض ؛ لأنّها معلقة (١) ل «انظر» و «انظر» يتعدى ب «في» ؛ لأنها ـ هنا ـ ليست بصريّة ، و (عَلَى اللهِ) متعلّق ب (يَفْتَرُونَ ،) وأجاز أبو البقاء (٢) : أن يتعلّق بمحذوف ، على أنه حال من الكذب ، قدّم عليه ، قال : «ولا يجوز أن يتعلق بالكذب ؛ لأن معمول المصدر لا يتقدّم عليه ، فإن جعل على التّبيين جاز» ، وجوّز ابن عطية (٣) : أن يكون «كيف» مبتدأ ، والجملة من قوله (يَفْتَرُونَ) الخبر ، وهذا فاسد ، لأن «كيف» لا ترفع بالابتداء ، وعلى تقدير ذلك ، فأين الرّابط (٤) بينها وبين الجملة الواقعة خبرا عنها ولم تكن نفس (٥) المبتدأ ، حتى تستغني عن رابط ، و (إِثْماً) تمييز ، والضمير في «به» عائد على الكذب ، وقيل : على الافتراء وجعله الزمخشريّ (٦) عائدا على زعمهم ، يعني : من حيث التقدير.

فصل في تعجيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود

هذا تعجيب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فريتهم (٧) على الله ، وهو تزكيتهم أنفسهم وافتراؤهم (٨) ، وهو قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨].

فصل في حمعنى الكذب

الكذب : هو الإخبار عن الشيء على خلاف المخبر عنه ، سواء علم قائله كونه كذلك ، أو لا يعلم ، وقال الجاحظ (٩) : شرط كونه كذبا ، أن يعلم القائل كونه بخلاف ذلك ، وهذه الآية دليل عليه ؛ لأنّهم كانوا يعتقدون في أنفسهم الزّكاء ، والطّهارة : وكذبهم (١٠) الله فيه.

وقوله : (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) يقال في المدح ، وفي الذّمّ ، أمّا في المدح : فكقوله (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) [النساء : ٤٥] وأمّا في الذم ؛ فكما في هذا الموضع.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً)(٥١)

قال المفسّرون (١١) : خرج كعب بن الأشرف ، وحييّ بن أخطب ، في سبعين راكبا

__________________

(١) في ب : متعلقة.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٦٦.

(٤) في ب : الربط.

(٥) في ب : نفسها.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٥٢١.

(٧) في ب : تغريهم.

(٨) في ب : وأفواءهم.

(٩) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٠٢.

(١٠) في ب : فكذبهم.

(١١) ينظر : معالم التنزيل ١ / ٤٤١ وتفسير الرازي ١٠ / ١٠٣ وتفسير القرطبي ٥ / ١٦١.

٤٢٠