اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

نفقتها ، لم يكن قوّاما عليها [وإذا لم يكن قوّاما] كان لها فسخ العقد ؛ لزوال المقصود الّذي شرع لأجله النّكاح ، فدلّ ذلك على ثبوت فسخ النّكاح عند الإعسار بالنّفقة ، والكسوة ، وهذا مذهب مالك والشّافعيّ ، وأحمد.

وقال أبو حنيفة : لا يفسخ لقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠].

قوله : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) (١) «الصّالحات» مبتدأ ، وما يعده خبران له ، و «للغيب» متعلّق ب «حافظات» و «أل» في «الغيب» عوض من الضّمير عند الكوفيّين كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، أي : رأسي وقوله : [البسيط]

١٧٩١ ب ـ لمياء في شفتيها حوّة لعس

وفي اللّثات وفي أنيابها شنب (٢)

أي : لثاتها.

والجمهور على رفع الجلالة من (حَفِظَ اللهُ) وفي «ما» على هذه القراءة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها مصدريّة ، والمعنى : بحفظ الله إيّاهنّ أي : بتوفيقه لهن ، أو بالوصيّة منه تعالى عليهنّ.

والثاني : أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : بالّذي حفظه الله لهنّ من مهور أزواجهنّ ، والنّفقة (٣) عليهن ، قاله الزّجّاج.

والثّالث : أن تكون «ما» نكرة موصوفة ، والعائد محذوف أيضا ، كما تقرّر في الموصولة ، بمعنى الّذي.

وقرأ أبو جعفر (٤) بنصب الجلالة. وفي «ما» ثلاثة أوجه أيضا :

أحدها : أنّها بمعنى الّذي.

والثّاني : [أنها](٥) نكرة موصوفة ، وفي (حَفِظَ) ضمير يعود على [«ما»](٦) أي : بما حفظ من البرّ والطّاعة ، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره : بما حفظ دين الله ، أو أمر الله ؛ لأنّ الذّات المقدّسة لا يحفظها أحد.

والثّالث : أن تكون «ما» مصدريّة ، والمعنى : بما حفظن الله في امتثال أمره ، وساغ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) تقدم برقم ٧٥.

(٣) في ب : والشفقة.

(٤) انظر : إتحاف ١ / ٥١٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٥ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٣٥٨.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

٣٦١

عود الضّمير مفردا على جمع الإناث ؛ لأنّهنّ في معنى الجنس كأنه قيل : «فمن صلح» فعاد الضّمير مفردا بهذا الاعتبار ، وردّ هذا الوجه بعدم مطابقة الضّمير لما يعود عليه (١) وهذا جوابه ، وجعله ابن جنّي مثل قول الشّاعر : [المتقارب]

١٧٩٢ ـ ............

فإنّ الحوادث أودى بها (٢)

أي : أودين ، وينبغي أن يقال : الأصل بما حفظت الله ، والحوادث أودت ، لأنّها يجوز أن يعود الضّمير على [جمع](٣) الإناث كعوده على الواحدة منهنّ ، تقول : النّساء قامت ، إلّا أنّه شذّ حذف تاء التّأنيث من الفعل المسند إلى ضمير المؤنّث.

وقرأ عبد الله بن مسعود (٤) ـ وهي في مصحفه كذلك ـ «فالصوالح قوانت حوافظ» بالتكسير.

قال ابن جني (٥) : وهي أشبه بالمعنى لإعطائها الكثرة ، وهي المقصودة هنا ، يعني : أن «فواعل» من جموع الكثرة ، وجمع التّصحيح جمع قلّة ، ما لم تقترن بالألف واللّام. وظاهر عبارة أبي البقاء (٦) أنه للقلّة ، وإن اقترن ب «أل» فإنّه قال : وجمع التّصحيح لا يدلّ على الكثرة بوضعه ، وقد استعمل فيها كقوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سبأ : ٣٧].

وفيما قاله [أبو الفتح](٧) وأبو البقاء نظر ، فإنّ «الصّالحات» في القراءة المشهورة معرّفة بأل ، وقد تقدّم أنّه تكون للعموم ، إلّا أنّ العموم المفيد للكثرة ، ليس من صيغة الجمع ، بل من «أل» ، وإذا ثبت أن «الصّالحات» جمع كثرة ، لزم أن يكون «قانتات» و «حافظات» للكثرة ؛ لأنّه خبر عن الجميع ، فيفيد الكثرة ، ألا ترى أنّك إذا قلت : الرّجال قائمون ، لزم أن يكون كلّ واحد من الرّجال قائما ، ولا يجوز أن يكون بعضهم قاعدا ، فإذا القراءة الشّهيرة وافية بالمعنى [المقصود](٨).

فصل

قال الواحديّ (٩) : لفظ القنوت يفيد : الطّاعة ، وهو عامّ في طاعة الله ، وطاعة

__________________

(١) في ب : إليه.

(٢) تقدم. وثبت في ب هكذا :

فإن الحوادث أودى بها

وغيرنها بعد أصحابها

(٣) سقط في ب.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٣٥٨.

(٥) ينظر : المحتسب ١ / ١٨٧.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٨.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في ب.

(٩) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٧٢.

٣٦٢

الأزواج ، وما حال المرأة عند غيبة الزّوج فقد وصفها الله بقوله : (قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ ،) واعلم أنّ الغيب ، خلاف الشّهادة ، والمعنى : كونهنّ حافظات بموجب الغيب ، وهو أن تحفظ نفسها عن الزّنا ؛ لئلا يلحق الزّوج الغائب عار الزّنا ، ويلحق به الولد المتكون من نطفة غيره ، وتحفظ ماله لئلا يضيع (١) ، وتحفظ منزله عمّا لا ينبغي ، قال عليه‌السلام : «خير النّساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك في مالك (٢) ونفسها» وتلا هذه الآية.

قوله : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصّالحات فقال : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) ، والخوف عبارة عن حالة تحصل في القلب ، عند حدوث أمر مكروه في المستقبل.

قال الشّافعيّ ـ رضي الله عنه ـ : دلالة النّشوز قد تكون قولا ، وقد تكون فعلا ، فالقول مثل أن تلبيه إذا دعاها ، وتخضع له بالقول إذا خاطبها ، ثم تغيّرت ، والفعل إن كانت تقوم إليه إذا دخل عليها ، أو تسارع إلى أمره (٣) وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها ، ثم [إنها](٤) تغيرت عن كل ذلك ، فهذه أمارات دالة على النشوز ، فحينئذ ظنّ نشوزها ، فهذه المقدمات توجب خوف النّشوز ، وأمّا النشوز فهو معصية (٥) الزّوج ، ومخالفته ، وأصله من قولهم : نشز الشّيء إذا ارتفع ، ومنه يقال للأرض المرتفعة : «نشز» ، يقال : نشز الرّجل ينشز [وينشز](٦) إذا كان قاعدا فنهض قائما ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ) [المجادلة : ١١] ارتفعوا أو انهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى.

وقال أبو منصور اللّغويّ : «النّشوز كراهية كل واحد من الزّوجين صاحبه ، يقال : نشزت تنشز ، فهي ناشز بغير هاء ، وهي السّيّئة العشرة».

وقال ابن دريد : «نشزت المرأة ، ونشست ، ونشصت بمعنى واحد».

قوله : (فَعِظُوهُنَّ) ، أي : بالتخويف (٧) من الله تعالى ، فيقال : اتّقي الله فإنّ عليك حقّا لي ، وارجعي عمّا أنت عليه ، واعلمي أنّ طاعتي فرض عليك (٨) ، فإن أصرّت على النّشوز ، فيهجرها في المضجع.

__________________

(١) في ب : عن الضياع.

(٢) في أ : مالها.

(٣) في أ : إليه.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : مخالفة.

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : بالتخفيف.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٠) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٧٧) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

٣٦٣

قال ابن عبّاس : «يوليها ظهره في الفراش ، ولا يكلّمها» (١).

وقال غيره : «يعتزل عنها إلى فراش آخر».

قال الشافعيّ : «ولا يزيد في هجره في الكلام على ثلاث ، فإذا هجرها في المضجع ، فإن (٢) كانت تبغضه ، وافقها ذلك الهجران ، فيكون ذلك دليلا على كمال النّشوز».

ومنهم من حمل الهجران في المضاجع على ترك المباشرة.

وقال القرطبي : وقيل : اهجروهنّ من الهجر ، وهو القبيح من الكلام ، أي : غلظوا عليهنّ في القول ، وضاجعوهن للجماع وغيره و [قال](٣) معناه سفيان [الثّوري](٤) ، وروي عن ابن عبّاس.

وقيل : شدّوهن [وثاقا](٥) في بيوتهن ، من قولهم : هجر البعير ، أي : ربطه بالهجار (٦) ، وهو حبل يشدّ به البعير ، وهذا اختيار الطّبري ، وقدح في سائر الأقوال ، وردّ عليه القاضي أبو بكر بن العربيّ وقال : «يا لها من هفوة عالم بالقرآن والسّنّة ، والّذي حمله على [هذا](٧) التأويل حديث غريب ، رواه ابن وهب عن مالك : «أنّ أسماء بنت أبي بكر الصّديق امرأة الزّبير بن العوّام كانت قد نشزت على زوجها فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربها» الحديث.

فرأى الرّبط والعقد ، مع احتمال اللّفظ ، مع فعل الزّبير ، فأقدم على هذا التّفسير».

قال القرطبيّ (٨) : وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر ، كما فعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أسرّ إلى حفصة حديثا ، فأفشته إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ.

قوله : (فِي الْمَضاجِعِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّ «في» على بابها من الظرفيّة متعلّقة ب (اهْجُرُوهُنَ) أي : اتركوا مضاجعتهن ، أي : النّوم معهنّ دون كلامهنّ ومؤاكلتهنّ.

والثّاني : أنها للسّبب. قال أبو البقاء (٩) : (وَاهْجُرُوهُنَ) بسبب المضاجع ، كما تقول : في هذه الجناية عقوبة ، وجعل مكي (١٠) هذا الوجه متعيّنا ، ومنع الأول ، قال : ليس (فِي الْمَضاجِعِ) ظرفا للهجران ، وإنّما هو سبب لهجران التّخلّف ، ومعناه : فاهجروهنّ من أجل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٢) عن ابن عباس.

(٢) في ب : فإذا.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : بالهجان.

(٧) سقط في ب.

(٨) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١١٣.

(٩) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٩.

(١٠) ينظر : المشكل ١ / ١٨٩.

٣٦٤

تخلفهن عن المضاجعة (١) معكم ، وفيه نظر لا يخفى.

وكلام الوحدي يفهم أنّه يجوز تعلّقه ب (نُشُوزَهُنَّ ،) فإنه (٢) قال ـ بعدما حكى عن ابن عبّاس كلاما ـ : والمعنى على هذا : «واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع» ، والكلام الذي حكاه عن ابن عباس هو قوله : هذا كلّه في المضجع ، إذا هي عصت أن تضطجع معه ، ولكن لا يجوز ذلك ؛ لئلّا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبيّ.

وقدّر بعضهم معطوفا بعد قوله : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ) ، أي : واللاتي تخافون نشوزهن ، ونشزن ، كأنّه يريد أنّه لا يجوز الإقدام على الوعظ ، وما بعده بمجرّد الخوف.

وقيل : لا حاجة إلى ذلك ؛ لأنّ الخوف بمعنى اليقين [قال تعالى (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) [البقرة : ١٨٢] ، قال ابن عباس : تخافون بمعنى تتيقّنون](٣) ، وقيل : غلبة الظنّ في ذلك كافية.

قوله : (وَاضْرِبُوهُنَ) يعني : أنّهنّ [إن](٤) لم ينزعن مع الهجران فاضربوهنّ ، يعني ضربا غير مبرّح ، ولا شائن.

قال عطاء : «[هو](٥) ضرب بالسّواك».

وقال عليه‌السلام في حقّ المرأة : «أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت (٦) ، ولا تضرب الوجه ، ولا تهجر إلّا في البيت» (٧).

قال الشافعيّ : يكون دون الأربعين.

وقال بعضهم : لا يبلغ به عشرين ، لأنّه حدّ كامل في حقّ العبد ، ويكون بحيث لا يفضي إلى الهلاك ، ويكون مفرقا (٨) على بدنها ، ولا تجوز الموالاة (٩) في موضع واحد ، ويتقى الوجه.

قال بعض العلماء : يكون الضّرب بمنديل ملفوف ، أو بيده ، ولا يضربها بالسّياط ، ولا بالعصا ، وبالجملة فالتّخفيف مراعى في هذا الباب.

قال الشّافعيّ : «الضّرب مباح وتركه أفضل».

__________________

(١) في ب : المضاجع.

(٢) في ب : لأنه.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : إذا ليست.

(٧) أخرجه أحمد (٤ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧) والطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٩) عن حكيم بن معاوية عن أبيه.

(٨) في أ : مقرونا.

(٩) في ب : يوالي.

٣٦٥

واختلفوا : هل هذا الحكم على الترتيب ، أم لا؟ قال عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : يعظها بلسانه ، فإن أبت هجرها في المضجع [فإن أبت ضربها](١) ، فإن لم تتّعظ بالضّرب بعث الحكم [من أهله](٢).

وقال آخرون (٣) : هذا الترتيب مراعى عند خوف النّشوز أمّا عند تحقق النشوز ، فلا بأس بالجمع بين الكلّ.

قوله : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ)(٤) فلا تبغوا عليهن سبيلا» في نصب «سبيلا» وجهان :

أحدهما : أنه (٥) مفعول به.

والثّاني : أنّه على إسقاط الخافض ، وهذان الوجهان مبنيان على تفسير البغي هنا ما هو؟ فقيل : هو الظّلم من قوله : (فَبَغى عَلَيْهِمْ) [القصص : ٧٦] ، فعلى هذا يكون لازما ، و «سبيلا» منصوب بإسقاط الخافض أي : كسبيل.

وقيل : هو الطّلب ، من قولهم : بغيته ، أي : طلبته ، وفي (عَلَيْهِنَ) وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب (تَبْغُوا).

والثّاني : أنّه متعلّق بمحذوف على أنّه حال من (سَبِيلاً ؛) لأنه في الأصل صفة النكرة قدّم (٦) عليها.

فصل

قال بعضهم : معناه : لا تتجنّوا عليهنّ بقول ، أو فعل. قال ابن عيينة لا تكلّفوهنّ محبتكم ، فإنّ القلب ليس بأيديهن ، ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) متعاليا عن أن يكلّف العباد ما لا يطيقونه ، فلذلك لا تكلفوهنّ محبتكم ، فإنهن لا يطقن ذلك (٧).

وقيل : إنّه مع علوّه ، وكبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب ، فأنتم أولى إذا تابت المرأة من نشوزها بأن تقبلوا توبتها ، وقيل : إنّهنّ إن ضعفن عن دفع ظلمكم (٨) فالله سبحانه كبير عليّ [قادر](٩) قاهر ينتصف لهنّ منكم.

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً)(٣٥)

لما ذكر الضرب ذكر هذه المحاكمة ؛ لأنّ بها يتبيّن المظلوم من الظّالم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : بعضهم.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : أنهما.

(٦) في ب : قدمت.

(٧) في ب : فإنكم لا تطيقون ذلك.

(٨) في أ : تكلفكم.

(٩) سقط في أ.

٣٦٦

قال ابن عبّاس (١) : (خِفْتُمْ) أي : علمتم قال : وهذا بخلاف قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ،) فإنّ ذلك محمول على الظّنّ ، والفرق بين الموضعين في الابتداء يظهر له أمارات النّشوز ، فعند ذلك يحصل الخوف ، وأمّا بعد الوعظ ، والهجر والضّرب إن أصرّت على النّشوز ، فقد حصل العلم بالنّشوز ، فوجب حمل الخوف ههنا على العلم.

وقال الزّجّاج (٢) : القول بأن الخوف هاهنا بمعنى اليقين خطأ ، فإنّا لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم يحتج إلى الحكم ، وأجيب بأن وجود الشقاق وإن كان معلوما ، إلّا أنا لا نعلم أن ذلك الشّقاق صدر عن هذا ، أو عن ذلك ، فالحاجة إلى الحكمين لمعرفة هذا المعنى.

قال ابن الخطيب (٣) : ويمكن أن يقال : وجود الشّقاق في الحال (٤) معلوم ، ومثل هذا لا يحصل منه خوف ، إنّما الخوف في أنّه هل يبقى (٥) ذلك الشّقاق أم لا ، فالفائدة في بعث الحكمين ليست إزالة الشّقاق الثّابت ، فإنّ ذلك محال ، بل الفائدة إزالة ذلك الشّقاق في المستقبل.

قوله : (شِقاقَ بَيْنِهِما) فيه وجهان :

أحدهما : أنّ الشّقاق مضاف إلى «بين» ومعناها الظّرفيّة ، والأصل : «شقاقا بينهما» ، ولكنّه اتّسع فيه ، فأضيف الحدث إلى ظرفه وإضافة المصدر إلى الظرف جائزة لحصوله فيه ، وظرفيته باقية نحو : سرّني مسير اللّيلة ، ويعجبني صوم يوم عرفة ، ومنه : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣].

والثّاني : أنه خرج عن الظّرفيّة ، وبقي كسائر الأسماء ، كأنه أريد به المعاشرة ، والمصاحبة بين الزّوجين ، وإلى هذا ميل أبي البقاء (٦) قال «والبين هنا الوصل الكائن بين الزوجين» وللشقاق تأويلان :

أحدهما : أن كل واحد منهما يفعل ما يشقّ على صاحبه.

والثاني : أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة.

فصل [معاني الشقاق]

وقد ورد الشّقاق على أربعة (٧) أوجه :

الأوّل : بمعنى الخلاف كهذه الآية ، أي : خلاف بينهما.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٧٤.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٧٤.

(٤) في أ : الحالين.

(٥) في ب : نقى.

(٦) ينظر الإملاء ١ / ١٧٩.

(٧) في ب : ثلاثة.

٣٦٧

الثّاني : الضّلال ، قال تعالى : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [الحج : ٥٣] أي : في ضلال.

الثّالث : أن الشّقاق : العداوة قال تعالى : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) [هود : ٨٩] أي : عداوتي ، و [العداوة](١) وممّا يشق على صاحبه.

الرابع : أنّ كلّ واحد منها صار في شقّ بالعداوة ، والمباينة.

فصل [هل البعث خطاب للإمام أم لآحاد الناس]

قوله (فَابْعَثُوا) قال بعضهم : هذا خطاب للإمام ، أو نائبه وقال آخرون : هذا خطاب عامّ للجميع ، وليس حمله على البعض أولى من حمله على البقيّة ، فوجب حمله على الكلّ ، فعلى هذا يكون أمرا لآحاد الأمّة سواء وجد الإمام ، أم لم يوجد ، فللصّالحين أن يبعثوا حكما من أهله ، وحكما من أهلها للإصلاح ، ولأنّ هذا يجري مجرى دفع الضّرر ، ولكل أحد أن يقوم به.

قوله : (مِنْ أَهْلِهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب (فَابْعَثُوا) فهي لابتداء الغاية.

والثّاني : أن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّها صفة للنكرة ، أي : كائنا من أهله فهي للتّبعيض.

فصل

شرط الحكمين أن يكونا عدلين ، ويجعلهما الحاكم حكمين ، والأولى أن يكون [واحد من أهله ، وواحد من أهلها ، لأنّ أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب ، وأشدّ طلبا للصلاح ، فإن كانا](٢) أجنبيّين [جاز](٣).

وفائدة الحكمين أن يخلو كلّ واحد منهما بصاحبه ، ويستكشف منه حقيقة الحال ، ليعرف رغبته في الإقامة معه على النّكاح ، أو المفارقة ، ثمّ يجتمع الحكمان ، فيفعلان ما هو المصلحة من طلاق ، أو خلع.

وهل للحكمين تنفيذ أمر يلزم الزّوجين دون إذنهما ، مثل : أن يطلق حكم الرّجل ، أو يفتدي حكم المرأة بشيء من مالها؟

قال أبو حنيفة : لا يجوز.

وقال غيره (٤) : يجوز.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) هذا أحد قولي الشافعي رضي الله عنه وهو قول مالك وإسحاق. ينظر تفسر الرازي ١٠ / ٧٥.

٣٦٨

قوله : (إِنْ يُرِيدا) يجوز أن يعود الضميران في (إِنْ يُرِيدا) و (بَيْنِهِما) على الزّوجين ، أي : إن يرد الزّوجان إصلاحا يوفّق الله بين الزوجين ، وأن يعودا على الحكمين ، وأن يعود الأوّل على الحكمين ، والثّاني على الزّوجين ، وأن يكون بالعكس وأضمر الزّوجان وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة ذكر الرّجال والنّساء عليهما. وجعل أبو البقاء (١) الضّمير في (بَيْنِهِما) عائدا على الزّوجين فقط ، سواء قيل بأن ضمير (يُرِيدُ اللهُ) عائدا على الحكمين ، أو الزوجين.

فصل

قال القرطبيّ (٢) : ويجزي إرسال الواحد قال : لأن الله ـ تعالى ـ حكم في الزنا بأربعة شهود ، ثم أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المرأة الزّانية أنيسا وحده ، وقال له : «إن اعترفت فارجمها» قال : وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكّم الزوجان واحدا أجزأ إذا رضيا بذلك ، وإنما خاطب الله الحكام دون الزوجين ، فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما ؛ لأن التحكيم عندنا جائز ، وينفذ فعل الحكم في كل مسألة ، إذا كان كل واحد منهما عدلا.

وأصل التوفيق الموافقة ، وهي المساواة في أمر من الأمور ، فالتّوفيق اللّطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة. ثم قال (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) والمراد : الوعيد للزّوجين والحكمين في طريق سلوك المخالف الحق.

قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)(٣٦)

لمّا أرشد كلّ واحد من الزّوجين إلى المعاملة الحسنة [مع الآخر ، أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة](٣) وذكر منها [ههنا](٤) عشرة أنواع :

الأول : قوله ـ تعالى ـ : (وَاعْبُدُوا اللهَ) قال ابن عبّاس : وحّدوه (٥) ، واعلم أن العبادة عبارة عن كل عمل يؤتى به لمجرّد أمر الله ـ تعالى ـ بذلك ، ولما أمر بالعبادة ، أمر بالإخلاص فيها : فقال (٦)(وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً).

__________________

(١) ينظر الإملاء ١ / ١٧٩.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١١٦.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ٧٦) عن ابن عباس.

(٦) في أ : يقول.

٣٦٩

قال القرطبي (١) : ذكر بعض العلماء أن من تطهّر [تبرّدا](٢) أو صام [حميّة](٣) لمعدته ، ويرى مع ذلك التّقرّب لم يجزه ؛ لأنه مزج [نية](٤) التّقرّب بنيّة دنيويّة ، ولذا إذا أحسّ الإمام بداخل وهو راكع لم ينتظره ، لأنه يخرج ذكر [الله](٥) بانتظاره عن كونه خالصا ـ لله ـ تعالى.

ثم قال (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وتقدم الكلام على نظير هذا في البقرة ، واتّفقوا على أن ههنا محذوفا ، والتّقدير : «وأحسنوا بالوالدين إحسانا» ؛ كقوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي : فاضربوها ، وقرأ ابن أبي عبلة : «إحسان» بالرّفع على أنّه مبتدأ ، وخبره الجارّ [والمجرور](٦) قبله.

والمراد بهذه الجملة : الأمر بالإحسان وإن كانت خبرية ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨].

قوله : (وَبِذِي الْقُرْبى) فأعاد الباء ، وذلك لأنها في حق هذه الأمّة ، فالاعتناء بها أكثر ، وإعادة الباء تدل على زيادة تأكيد فناسب ذلك هنا ، بخلاف آية البقرة ، فإنّها في حقّ بني إسرائيل ، والمراد الأمر بصلة الرّحم ، كما ذكر في أول السّورة بقوله : (وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١].

واعلم أن الوالدين من القرابة أيضا ، إلا أنّهما لمّا تخصّصت قرابتهما بكونهما أقرب القرابات ، لا جرم (٧) خصّهما بالذّكر.

(وَالْيَتامى) فاليتيم مخصوص بنوعين من العجز :

أحدهما : الصّغر.

والثاني : عدم المنفق ، ومن هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة.

قوله (وَالْمَساكِينِ) فالمسكين وإن كان عديم المال ، إلا أنّه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير ؛ فيجتلب به نفعا أو يدفع به ضررا ، وأما اليتيم ، فلا قدرة له ؛ فلهذا المعنى قدّم الله اليتيم في الذّكر على المسكين ، والإحسان إلى المسكين إما بالإجمال (٨) إليه ، وإمّا بالرّدّ الجميل ؛ لقوله : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ١٠].

وقوله : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) الجمهور على خفض الجارّ ، والمراد به القريب النّسيب ، وبالجار الجنب : البعيد النّسيب.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١١٨.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : لا من.

(٨) في ب : بالإيصال.

٣٧٠

وعن ميمون بن مهران : والجار ذي القربى ، أريد به الجار القريب (١) ، قال ابن عطيّة (٢) : وهذا خطأ ؛ لأنّه على تأويله جمع بين (٣) أل والإضافة ، إذ كان وجه الكلام : وجار ذي القربى [الجار القريب](٤) ، ويمكن (٥) جوابه على أن ذي القربى ، بدل (٦) من الجارّ على حذف مضاف ، أي : والجار ذي القربى ؛ كقوله : [الخفيف]

١٧٩٣ ـ نصر الله أعظما دفنوها

بسجستان طلحة الطّلحات (٧)

أي : أعظم طلحة ، [ومن كلامهم](٨) : لو يعلمون العلم الكبيرة سنه ، أي : علم الكبيرة سنّه ، فحذف البدل لدلالة الكلام عليه.

وقرأ (٩) بعضهم : «والجار ذا القربى» نصبا ، وخرجه الزمخشري (١٠) على الاختصاص لقوله ـ تعالى ـ : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨] والجنب صفة على فعل ، نحو : «ناقة سرح» ، ويستوي فيه المفرد والمثنّى والجموع ، مذكرا أو مؤنّثا ، نحو : «رجال جنب» وقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) [المائدة : ٦] ، وبعضهم يثنيه ويجمعه ، ومثله : شلل ، وعن عاصم (١١) : والجار الجنب ، بفتح الجيم وسكون النون وهو وصف أيضا بمعنى المجانب ، كقولهم : رجل عدل ، وألف الجار عن واو ؛ لقولهم : تجاوروا ، وجاورته ، ويجمع على جيرة وجيران ، والجنابة البعد ؛ قال : [الطويل]

١٧٩٤ ـ فلا تحرمنّي نائلا عن جنابة

فإنّي امرؤ وسط القباب غريب (١٢)

لأن الإنسان يترك جانبا ، ومنه (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (١٣) [إبراهيم : ٣٥] ، وأصله من الجنابة ، ضدّها القرابة ، وهو البعد ، يقال : رجل جنب ، إذا كان غريبا متباعدا عن أهله ، ورجل أجنبيّ ، وهو البعيد منك في القرابة ، ومنه الجنابة من الجماع ؛ لتباعده عن الطّهارة وعن الصّلاة حتّى يغتسل ، وهذان الجنبان ؛ لبعد كلّ واحد منهما عن الآخر.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٢٦) عن ميمون بن مهران.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠.

(٣) في أ : عين.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : وعين.

(٦) في أ : بل.

(٧) تقدم برقم ٧٦.

(٨) سقط في ب.

(٩) وهي قراءة أبي حيوة وابن أبي عبلة.

انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٥٥ ، والدر المصون ٢ / ٣٦٠ ، والشواذ ٢٦.

(١٠) ينظر : الكشاف ١ / ٥٠٩.

(١١) انظر : السبعة ٢٣٣ ، والحجة ٣ / ١٥٧ ، وإتحاف ١ / ٥١١ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٥٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٥٥ ، والدر المصون ٢ / ٣٦١.

(١٢) البيت لعلقمة : ينظر ديوانه (٤٨) والمفضليات (٣٩٤) والبحر ٣ / ٢٤٠ والدر المصون ٢ / ٣٦١.

(١٣) سقط في ب.

٣٧١

فصل : في الإحسان إلى الجار

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : يا رسول الله ، إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ، قال : إلى أقربهما منك بابا (١) ، وعن ابن عمر ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما زال جبريل يوصيني بالجار ، حتّى ظننت أنّه سيورّثه» (٢) ، وقال ـ عليه‌السلام ـ : «لا يدخل الجنّة من لا يأمن جاره بوائقه ، ألا وإنّ الجوار أربعون» (٣) وكان الزهري (٤) يقول : أربعون يمنة ، وأربعون يسرة ، وأربعون أمامه ، وأربعون خلفه(٥).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ؛ قيل : يا رسول الله ، إن فلانة تصوم النّهار وتصلي باللّيل ، وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها ، [فقال : «لا يحفظ](٦) حق الجار إلا من رحم الله ، وقليل ما هم ، أتدرون ما حقّ الجار : إن افتقر أغنيته ، وإن استقرض أقرضته ، وإن أصابه خير هنّيته ، وإن أصابه شرّ عزّيته ، وإن مرض عدته ، وإن مات شيّعت جنازته» (٧).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٢٦٠) كتاب الهبة : باب بمن يبدأ الهبة حديث (٢٥٩٥) وفي «الأدب المفرد» رقم (١٠٥) وأحمد (٦ / ٢٣٩) والبيهقي (٦ / ٢٧٥) والحاكم (٤ / ١٦٧) والطيالسي (٢٠٣٦ ـ منحة) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٢٨) والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٤٣٧) من طريق طلحة قال : سمعت عائشة فذكره.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٨٣) وعزاه إلى البخاري في الأدب والحاكم عن عائشة.

والحديث في الصحيح كما رأيت.

(٢) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٥٥) كتاب الأدب : باب الوصاة بالجار (٦٠١٥) ومسلم (٤ / ٢٠٢٥) كتاب البر والصلة : باب الوصية بالجار (١٤١ ـ ٢٦٢٥) وأحمد (٢ / ٨٥) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٤٧٠) عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه البخاري (١٠ / ٤٥٣) كتاب الأدب : باب الوصاة بالجار حديث (٦٠١٤) وفي «الأدب المفرد» (١٠١ ، ١٠٦) ومسلم (٨ / ٣٦) وأبو داود (٥١٥١) والترمذي (٣٦٧٣) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٢٦ ـ ٢٧) وأحمد (٦ / ٥٢ ، ٢٣٨) والبيهقي (٧ / ٢٧) من حديث عائشة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (١٠٥) وأبو داود (٢١٥٢) وأحمد (٢ / ١٦٠) والترمذي (١ / ٣٥٣) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٣٠٦) من حديث عبد الله بن عمرو.

وقال الترمذي : حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وأخرجه ابن ماجه (٣٦٧٤) وأحمد (٢ / ٣٠٥ ، ٤٤٥) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤ / ٢٧) من حديث أبي هريرة.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ٦٨) كتاب الإيمان : باب بيان تحريم إيذاء الجار (٧٣ / ٤٦) والبخاري في «الأدب المفرد» رقم (١٢١) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٤٧١) من حديث أبي هريرة.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٢١.

(٥) أخرجه أبو داود في «المراسيل» رقم (٣٥٠) عن الزهري مرسلا.

(٦) سقط في أ.

(٧) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (١١٧) وابن ماجه (٢٤٠٦) والحاكم (٤ / ١٦٦) وابن عبد البر في «التمهيد» (٥ / ١٦٦) من حديث أبي هريرة.

٣٧٢

وقال نوف الشّامي (١) : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى :) المسلم ، [والجار](٢) الجنب : اليهودي والنّصراني (٣).

قال القرطبي (٤) : وعلى هذه فالوصاية بالجار ، مأمور بها مندوب إليها ، مسلما كان أو كافرا ، وهو الصّحيح ، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة ، وكفّ الأذى ، والمحاماة دونه.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : الجيران [ثلاثة :](٥) فجار له ثلاثة حقوق ، وجار له حقّان وجار له حقّ واحد.

فأما الجار الّذي له ثلاثة حقوق : فالجار (٦) القريب المسلم ، له حقّ الجوار ، وحق القرابة ، وحقّ الإسلام.

والجار الذي له حقّان : فهو الجار المسلم فله حق الإسلام ، وحق الجوار.

والجار الذي له حقّ واحد : هو الكافر ، له حق الجوار (٧).

وقال بعض العلماء (٨) : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) هو القريب المسكن منك ، (وَالْجارِ الْجُنُبِ) هو البعيد المسكن منك.

قال القرطبي (٩) : وأحاديث إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيّدة ، حتى الكافر وفي الخبر قالوا : يا رسول الله ، أنطعمهم من لحوم النّسك؟

قال : «لا تطعم المشركين من نسك المسلمين» (١٠). فنهيه ـ عليه‌السلام ـ عن

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٢٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٣٧) عن نوف الشامي والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٨٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٢٠.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : وهو الجار.

(٧) أخرجه البزار (١٨٩٦ ـ كشف) ثنا عبد الله بن محمد أبو الربيع الحارثي ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أخبرني عبد الرحمن بن الفضيل عن عطاء الخراساني عن الحسن عن جابر بن عبد الله مرفوعا.

وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ١٦٤) وقال : رواه البزار عن شيخه عبد الله بن محمد الحارثي وهو وضاع.

قلت لكنه توبع تابعه الحسين بن عيسى البسطامي عن ابن أبي فديك به أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (٥ / ٢٠٧).

(٨) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٢٠.

(٩) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٢٠ ـ ١٢١.

(١٠) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٥ / ١٧١) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٩٥٦٠) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا.

وقال البيهقي : فيه سويد بن عبد العزيز عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه والثلاثة ضعفاء.

٣٧٣

إطعام المشركين من نسك المسلم ، يحتمل النّسك الواجب الذي لا يجوز للنّاسك أن يأكل منه ، ولا أن يطعمه الأغنياء ، فأما غير الواجب الذي يجزيه (١) إطعام الأغنياء ، فيجوز (٢) أن يطعمه أهل الذّمّة قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعائشة ـ رضي الله عنها ـ عند تفريق لحم الأضحية : «أهدي جارنا اليهوديّ».

قوله : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) قال مجاهد ، وابن عبّاس ، وعكرمة ، وقتادة : يعني : الرفيق في السّفر (٣) ، وقال عليّ وعبد الله ، والنّخعي : وهو المرأة (٤) تكون إلى جنبه.

وقال ابن جريج ، وابن زيد : هو الذي يصحبك رجاء نفعك (٥) ، وقيل : هو الّذي صحبك إما رفيقا في سفر ، وإما جارا ملاصقا ، وإما شريكا في تعلّم أو حرفة ، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس واحد أو مسجد أو غير ذلك ، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه.

وقوله : (بِالْجَنْبِ) في الباء وجهان :

أحدهما : أن تكون بمعنى «في».

والثاني : أن تكون على بابها وهو الأولى ، وعلى كلا التّقديرين تتعلّق بمحذوف ؛ لأنها حال من الصّاحب.

قوله : (وَابْنِ السَّبِيلِ) قيل : هو المسافر الذي انقطع عن بلده ، وقيل : هو الضّيف ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (٦).

__________________

(١) في أ : يجوز.

(٢) في أ : عجوز.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٤١) عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة.

وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٩٥٢٦) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٨٤) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في «الشعب».

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٤٢) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٩٥٢٥) عن علي بن أبي طالب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٨٤) عن علي وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٤٢) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٩٥٢٥) عن ابن مسعود.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٨٤) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٤٤) عن ابن زيد.

(٦) أخرجه مالك (٢ / ٩٢٩) كتاب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : باب جامع ما جاء في الطعام والشراب (٢٢) والبخاري (١٠ / ٤١٥) كتاب الأدب باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره (٦٠١٩) ، (١٠ / ٥٣١) رقم (٦١٣٥) ومسلم (٣ / ١٣٥٣) رقم (١٤ / ٤٨) ، (١٥ / ٤٨) وأبو داود (٣٧٤٨) والترمذي (١ / ٣٦٥) وابن ماجه (٣٦٧٥) والبيهقي (٩ / ١٩٧) وأحمد (٤ / ٣١ ـ ٦ / ٣٨٥) من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أبي شريح العدوي مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

٣٧٤

وقوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يجوز أن يراد ب «ما» غير العبيد والإماء حملا على الأنواع ؛ لقوله ـ تعالى ـ (ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣] وأن يكون أريد جميع ما ملكه [الإنسان](١) من الحيوانات ، فاختلط العاقل بغيره ، فأتى ب «ما».

فصل

روت أمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ : قالت : كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في مرضه (٢) : «الصّلاة وما ملكت أيمانكم» (٣) ، وقال ـ عليه‌السلام ـ : هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده ، فليطعمه ممّا يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه [فإن كلّفه من العمل ما يغلبه](٤) فليعنه عليه (٥).

ثم قال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً :) المختال هو ذو الخيلاء والكبر.

قال أهل اللغة (٦) : هو التيّاه ، والمختال اسم فاعل من اختال يختال ، أي : تكبّر وأعجب بنفسه ، وألفه عن ياء ؛ كقولهم : الخيلاء والمخيلة ، وسمع أيضا : خال الرّجل يخال (٧) خولا بالمعنى الأوّل ، فيكون لهذا المعنى مادّتان خيل وخول.

قال ابن عبّاس : «يريد المختال العظيم في نفسه ، الذي لا يقوم بحقوق أحد» (٨).

والفخور (٩) صيغة المبالغة ، وهو الّذي يعد مناقب نفسه ومحاسنه ، وقال ابن عبّاس : الفخور الذي يفخر على عباد الله بما أعطاه من أنواع نعمه.

وقال ـ عليه‌السلام ـ : بينما رجل يتبختر في بردين ، وقد أعجبته نفسه ، خسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (١٠).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : مرخصة.

(٣) أخرجه ابن ماجه (١ / ٥١٩) كتاب الجنائز : باب ما جاء في ذكر مرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٦٢٥) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٢٥١) وأحمد (٦ / ٣١١ ، ٣٢١) من حديث أم سلمة.

وله شاهد عن أنس بن مالك :

أخرجه أحمد (٣ / ١١٧) وابن ماجه (٢٦٩٧) والحاكم (٢ / ٥٧) وقال الحاكم : قد اتفقا على إخراج هذا الحديث.

وشاهد آخر عن علي بن أبي طالب :

أخرجه أبو داود (٥١٥٦) والبيهقي (٨ / ١١) وابن ماجه (٢٦٩٨) وأحمد (١ / ٧٨).

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (١٨٧) ومسلم (٥ / ٩٣) وأبو داود (٥١٥٨) والترمذي (١ / ٣٥٣) وابن ماجه (٣٦٩٠) والبيهقي (٨ / ٧) وأحمد (٥ / ١٥٨ ، ١٦١) عن أبي ذر الغفاري.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٦٢.

(٧) في أ : خالا.

(٨) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ٧٩) عن ابن عباس.

(٩) في أ : والفخر.

(١٠) أخرجه البخاري (١٠ / ٢٥٨) كتاب اللباس : باب من جر ثوبه من الخيلاء (٥٧٨٩) ومسلم (٣ / ـ

٣٧٥

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء يوم القيامة» (١).

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(٣٧)

في : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) سبعة أوجه :

أحدها : أن يكون منصوبا بدلا من «من» ، وجمع حملا على المعنى.

الثاني : أنه نصب على البدل من (مُخْتالاً) وجمع أيضا لما تقدّم.

الثالث : أنه نصب على الذّمّ.

قال القرطبي : (٢) ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار «أعني» ، وقال : ولا يجوز أن يكون صفة ؛ لأن «من» و «ما» لا يوصفان ولا يوصف بهما.

الرابع : أنه مبتدأ وفي خبره قولان :

أحدهما : محذوف فقدّره بعضهم : «مبغضون» لدلالة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ) [وبعضهم :](٣) «معذبون» ؛ لقوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً).

وقدّره الزمخشري (٤) «أحقّاء بكل ملامة» ، وقدره أبو البقاء : أولئك أولياؤهم (٥) الشّيطان.

والثاني : أن قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) ويكون قوله : [(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ)](٦) عطفا على المبتدأ والعائد محذوف ، والتقدير : الذين يبخلون ، والّذين ينفقون أموالهم ، [رئاء النّاس](٧)(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ،) [أو مثقال ذرة](٨) لهم ، وإليه ذهب الزّجّاج وهذا متكلّف جدّا ؛ لكثرة الفواصل ولقلق (٩) المعنى أيضا.

__________________

ـ ١٦٥٣) كتاب اللباس والزينة : باب تحريم التبختر في المشي (٤٩ / ٢٠٨٨) عن أبي هريرة مرفوعا.

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٢٥٤) كتاب اللباس : باب من جر إزاره (٥٧٨٤) ومسلم (٣ / ١٦٥٢) كتاب اللباس والزينة : باب كراهة ما زاد على الحاجة (٤٤ / ٢٠٨٥) ومالك في «الموطأ» (٢ / ٩١٤) كتاب اللباس باب ما جاء في إسبال الرجل ثوبه. عن عبد الله بن عمر.

وله شاهد من حديث أبي هريرة :

أخرجه البخاري (١٠ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨) كتاب اللباس باب من جر ثوبه (٥٧٨٨) ومسلم (٣ / ١٦٥٣) كتاب اللباس ، باب تحريم جر الثواب (٤٨ / ٢٠٨٧).

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٢٦.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٥٠٩.

(٥) في ب : قرناؤهم.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في ب.

(٩) في ب : لتعلق.

٣٧٦

الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم (١) الذين.

السادس : أنه بدل من الضّمير المستكن (٢) في (فَخُوراً) ذكره أبو البقاء (٣) ، وهو قلق.

السابع : أنه صفة ل «من» ؛ كأنه قيل : لا يحبّ المختال الفخور البخيل.

وفي البخل أربع لغات :

فتح الخاء والباء مثل الكرم ، وبها قرأ حمزة والكسائي (٤) ، وبضمّها ذكره المبرّد ، وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر (٥) ، وبفتح الباء وسكون الخاء ، وبها (٦) قرأ قتادة وابن الزبير ، وبضم الباء وسكون الخاء ، وبها قرأ الجمهور (٧). والبخل والبخل ؛ كالحزن والحزن ، والعرب والعرب.

قوله : (بِالْبُخْلِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «يأمرون» ، فالباء للتّعدية على حدّ أمرتك بكذا (٨).

والثّاني : أنها باء الحاليّة والمأمور محذوف ، والتّقدير : ويأمرون النّاس بشكرهم مع التباسهم (٩) بالبخل ، فيكون في المعنى ؛ لقول الشّاعر : [البسيط]

١٧٩٥ ـ أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهما

تيه الملوك وأفعال المماليك (١٠)

فصل

قال الواحدي (١١) : البخل في كلام العرب عبارة عن منع الإحسان ، وفي الشّريعة عبارة عن منع الواجب.

قال ابن عبّاس : نزلت في اليهود ، بخلوا ببيان صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتموها (١٢). وقال سعيد بن جبير : هذا في كتمان العلم (١٣).

__________________

(١) في أ : ثم.

(٢) في أ : المتمكن.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٩.

(٤) انظر : الحجة ٣ / ١٦٠ ، وحجة القراءات ٢٠٣ ، وإعراب القراءات ١٣٣ ، والعنوان ٨٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٦ ، وشرح شعلة ٣٣٩ ، وإتحاف ١ / ٥١١ ، الدر المصون ٢ / ٣٦٢ ، البحر المحيط ٣ / ٢٥٧.

(٥) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٢ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٥٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٦٢.

(٦) انظر : البحر المحيط ٣ / ٢٥٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٦٢.

(٧) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٦٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٥٢.

(٨) في أ : بهذا.

(٩) في أ : اتباعهم.

(١٠) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٢٥٧ والدر المصون ٢ / ٣٦٢.

(١١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٨٠.

(١٢) ذكره الفخر الرازي في «تفسير الكبير» (١٠ / ٨٠) عن ابن عباس.

(١٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٥٢) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٨٩) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

٣٧٧

وقال ابن عبّاس وابن زيد : نزلت في كردم بن يزيد ، وحييّ بن أخطب ، ورفاعة بن التّابوت وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحري بن عمرو ، وكانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم ، فيقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنّا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون ، فأنزل الله هذه الآية (١).

وقيل : إنها عامّة في البخل بالعلم والدّين والمال : لأن البخل مذموم واللفظ عامّ.

قال القرطبي (٢) : والمراد بهذه الآية في قول ابن عبّاس وغيره : اليهود ؛ لأنهم جمعوا بين الاختيال والتّفاخر ، والبخل بالمال ، وكتمان ما أنزل الله في التّوراة من صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل المراد : المنافقون الذي (٣) كان إنفاقهم (٤) وإيمانهم تقية.

قوله : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني المال ، وقيل : يبخلون بالصّدقة ، وقوله : (مِنْ فَضْلِهِ ،) يجوز أن يتعلّق ب (آتاهُمُ) أو بمحذوف على أنه حال من «ما» ، أو من العائد عليها.

قال تعالى (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) فصّل الله ـ تعالى ـ توعّد (٥) المؤمنين الباخلين من توعّد الكافرين ، بأن جعل الأوّل عدم المحبّة ، والثّاني عذابا مهينا.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً)(٣٨)

قوله : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مرفوعا عطفا على (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ،) والخبر : أن الله لا يظلم كما تقدم وصفه.

والثاني : مجرور عطفا على (الكافرين) أي : أعتدنا للكافرين ، والذين ينفقون أموالهم رئاء النّاس ، قاله ابن جرير.

الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : معذّبون أو قرينهم الشّيطان ، فعلى الأوّلين يكون من عطف المفردات ، وعلى الثالث من عطف الجمل.

قوله : (رِئاءَ النَّاسِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله ، وشروط النّصب متوفّرة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٥٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٨٩) وزاد نسبته لابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩).

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٢٦.

(٣) في أ : الذين.

(٤) في ب : نفاقهم.

(٥) في أ : تواعد.

٣٧٨

الثاني : أنه حال من فاعل «ينفقون» يعني : مصدرا واقعا موقع الحال ، أي : مرائين (١).

والثالث : أنه حال من نفس الموصول ، ذكره المهدوي ، و «رئاء» مصدر مضاف إلى المفعول.

فصل

قال الواحدي (٢) : نزلت في المنافقين وهو الوجه لذكر الرّياء ، وهو ضرب من الإنفاق ، وهو قول السدي ، وقيل : نزلت في اليهود (٣) وقيل : نزلت في مشركي مكّة المنفقين على عداوة الرّسول ـ عليه‌السلام ـ (٤).

قال ابن الخطيب (٥) : والأولى أن يقال : إنه ـ تعالى ـ لمّا أمر بالإحسان إلى المحتاجين ، بين أن الممتنع من ذلك قسمان :

إما بألّا يعطي شيئا ، وهو البخل فذكره.

وإما بأن يعطي رياء وسمعة ؛ فهذا أيضا مذموم ، فلم يبق إلا الإنفاق للإحسان.

وقوله : (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مستأنف.

والثاني : أنه عطف على الصّلة ، وعلى هذين الوجهين ، فلا محلّ له من الإعراب.

والثالث : أنه حال من فاعل ينفقون ، إلا أن هذين الوجهين الأخيرين ، أعني : العطف على الصّلة ، والحالية ممتنعان على الوجه المحكيّ عن المهدوي (٦) ، وهو كون «رئاء» حالا من نفس الموصول (٧) ؛ لئلا يلزم الفصل بين أبعاض الصّلة ، أو بين الصّلة ومعمولها بأجنبيّ ، وهو «رئاء» ؛ لأنه حال من الموصول لا تعلّق له بالصّلة ، بخلاف ما إذا جعلناه مفعولا [له](٨) أو حالا من فاعل (يُنْفِقُونَ) فإنّه على الوجهين معمول ل (يُنْفِقُونَ)(٩) فليس أجنبيّا ، فلم يبال (١٠) بالفصل به ، وفي جعل (وَلا يُؤْمِنُونَ) حالا نظر ؛ من حيث أن بعضهم نصّ على أنّ المضارع المنفيّ ب «لا» (١١) كالمثبت ؛ في أنّه لا يدخل عليه واو الحال ، وهو محلّ (١٢) توقّف ، وكرّرت لا في قوله ـ تعالى ـ : (وَلا

__________________

(١) في أ : مرابين.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٨١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٥٦) عن مجاهد.

(٤) انظر «التفسير الكبير» للرازي (١٠ / ٨١).

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٨١.

(٦) في أ : المهدي.

(٧) في ب : المفعول.

(٨) سقط في أ.

(٩) في أ : لينفقون.

(١٠) في أ : يسأل.

(١١) في أ : بلا.

(١٢) في أ : محال.

٣٧٩

يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا (١) بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ؛ وكذا (٢) الباء إشعارا بأنّ الإيمان منتف عن كلّ على حدته [كما](٣) لو قلت : لا أضرب زيدا أو عمرا ، احتمل نفي الضّرب عن المجموع ، ولا يلزم منه نفي الضّرب عن كل واحد على انفراده ، [واحتمل نفيه عن كلّ واحد بالقران](٤).

وإذا قلت : ولا عمرا ، تعيّن هذا الثّاني.

قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) :

قوله : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً) أي : صاحبا وخليلا ، والمعنى : أن الشّيطان قرين لأصحاب هذه الأفعال.

قال القرطبي (٥) : في الكلام إضمار ، تقديره : (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) فقرينهم الشّيطان (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً).

قوله : (فَساءَ قَرِيناً) وفي «فساء» هذه احتمالان :

أحدهما : أنّها نقلت إلى الذّمّ ، فجرت مجرى «بئس» ، ففيها ضمير فاعل لها مفسّر بالنكرة بعده ، وهو (قَرِيناً) والمخصوص بالذّمّ محذوف ، أي : فساء قرينا هو ، وهو عائد [إما] على الشّيطان ، وهو الظّاهر ، وإمّا على «من» ، وقد تقدّم حكم نعم وبئس.

الثاني : على بابها ، فهي متعدّية ، ومفعولها محذوف ، و «قرينا» على هذا منصوب على الحال أو على القطع ، والتّقدير : فساءه ، أي : فساء الشّيطان مصاحبة.

قال القرطبي (٦) : (قَرِيناً) منصوب على التّمييز ، واحتجّوا للوجه الأوّل بأنّه كان ينبغي أن يحذف الفاء من «فساء» ، أو تقترن به «قد» ؛ لأنه حينئذ فعل متصرّف ماض ، وما كان كذلك ووقع جوابا للشّرط ، تجرّد من الفاء أو اقترن ب «قد» ، هذا معنى كلام أبي حيّان (٧).

قال شهاب الدين (٨) : وفيه نظر ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ) [النمل : ٩٠](وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ) [يوسف : ٢٧] مما يؤوّل به هذا ونحوه يتأوّل به هذا ، وممّن ذهب إلى أن (قَرِيناً) منصوب على الحال ابن عطيّة (٩) ، ولكن يحتمل أن يكون قائلا بأن «ساء» متعدّية ، وأن يكون قائلا برأي الكوفيّين ، فإنّهم ينصبون

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : لهذا.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب. وفي الدر المصون «بانفراده بدل القرآن».

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٢٦.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٢٧.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٥٩.

(٨) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٦٣.

(٩) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٣ ، وعبارة المحرر : منصوب على التمييز.

٣٨٠