اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الآية. وقيل الوعيد بذكر العدوان والظلم ، ليخرج منه فعل السهو والغلط ، وذكر العدوان ، والظلم مع تقارب (١) معناهما لا ختلاف ألفاظهما كقوله : «بعدا» و «سحقا» وقوله يعقوب عليه‌السلام : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف : ٨٦] وقوله : [الوافر]

١٧٩١أ ـ ............

وألفى قولها كذبا ومينا (٢)

و (عُدْواناً وَظُلْماً) حالان أي : متعديا ظالما أو مفعول من أجلها وشروط النصب متوفرة وقرىء : «عدوانا» بكسر العين. و «العدوان» : مجاورة الحدّ ، والظّلم : وضع الشّيء في غير محلّه ، ومعنى (نُصْلِيهِ ناراً ،) أي : يمسّه حرّها. وقرأ الجمهور : (نُصْلِيهِ) من أصلى ، والنون للتعظيم. وقرأ (٣) الأعمش : «نصلّيه» مشدّدا.

وقرىء (٤) : «نصليه» بفتح النّون من صليته النّار. ومنه : «شاة مصلية».

و «يصليه» (٥) بياء الغيبة. وفي الفاعل احتمالان :

أحدهما : أنّه ضمير الباري تعالى.

والثّاني : أنّه ضمير عائد على ما أشير به إليه من القتل ؛ لأنّه سبب في ذلك ونكر «نارا» تعظيما.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي : هينا.

قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(٣١)](٦)

قرأ ابن (٧) جبير ، وابن مسعود : «كبير» بالإفراد والمراد به الكفر وقرأ (٨) المفضّل : «يكفّر» ، «ويدخلكم» بياء الغيبة لله تعالى.

وقرأ ابن (٩) عبّاس : «من سيئاتكم» بزيادة «من». وقرأ نافع (١٠) وحده هنا وفي الحج : «مدخلا» بفتح الميم ، والباقون بضمها ، ولم يختلفوا في ضمّ التي في

__________________

(١) في ب : تفاوت.

(٢) تقدم برقم ٤٩٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٤٣ ، والدر المصون ٢ / ٣٥٤.

(٤) قرأ بها النخعي والأعمش كما في البحر المحيط ٣ / ٢٤٣ ، وانظر : الدر المصون ٢ / ٣٥٤ ، والتخريجات النحوية والصرفية ٢٣١.

(٥) انظر : السابق.

(٦) سقط في ب.

(٧) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٤٣ ، والدر المصون ٢ / ٣٥٤.

(٨) السابق.

(٩) السابق.

(١٠) انظر : السبعة ٢٣٢ ، والحجة ٣ / ١٥٣ ، وحجة القراءات ١٩٩ ، والعنوان ٨٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٢ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، وشرح شعلة ٣٣٨ ، وإتحاف ١ / ٥٠٩.

٣٤١

الإسراء (١). فأما مضموم الميم ، فإنّه يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّه مصدر وقد تقرّر أنّ اسم المصدر من الرّباعيّ فما فوقه كاسم المفعول ، والمدخول فيه على هذا محذوف أي : «ويدخلكم الجنة إدخالا».

والثّاني : أنّه اسم مكان الدّخول ، وفي نصبه حينئذ احتمالان :

أحدهما : أنّه منصوب على الظّرف ، وهو مذهب سيبويه.

والثّاني : أنّه مفعول به ، وهو مذهب الأخفش ، وهكذا كلّ مكان مختص بعد «دخل» فإنّ فيه هذين المذهبين ، وهذه القراءة واضحة ، لأنّ اسم المصدر ، والمكان جاريان على فعليهما.

وأمّا قراءة نافع ، فتحتاج إلى تأويل ، وذلك لأنّ الميم المفتوحة إنّما هو من الثّلاثيّ ، والفعل السّابق لهذا رباعيّ فقيل : إنّه منصوب بفعل مقدّر مطاوع لهذا الفعل ، والتقدير : يدخلكم ، فتدخلون مدخلا.

و «مدخلا» منصوب على ما تقدّم : إمّا المصدريّة ، وإما المكانيّة بوجهيها.

وقيل : هو مصدر على حذف الزّوائد نحو : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] على أحد القولين.

فصل

روى ابن عمرو عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «الكبائر الإشراك بالله عزوجل وعقوق الوالدين ، وقتل النّفس ، واليمين الغموس» (٢).

وقال عليه‌السلام : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا. فقالوا : بلى يا رسول الله. قال : «الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ـ وكان متّكئا فجلس ـ وقال : ألا وقول الزّور» فما زال يكرّرها ، حتّى قلنا ليته سكت (٣).

وعن عمر بن شراحيل عن عبد الله قال : قلت يا رسول الله : أيّ الذّنب أعظم. قال : «أن تجعل لله ندّا وهو خالقك» قال : ثمّ أي. قال : «أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك» قلت : ثمّ أي. قال : «أن تزاني حليلة جارك» (٤) فأنزل الله ـ تعالى ـ تصديق قول

__________________

(١) آية ٨٠.

(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٥٥٥) كتاب الأيمان والنذور (٦٦٧٥) ، (١٢ / ٢٦٤) رقم (٦٩٢٠) والترمذي (٥ / ٢٢٠) كتاب التفسير باب سورة النساء (٣٠٢١) والنسائي كتاب تحريم الدم باب ذكر الكبائر والقسامة من طريق الشعبي عن عبد الله بن عمرو مرفوعا وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب عقوق الوالدين رقم (٥٩٧٧) ومسلم كتاب الإيمان (١٤٣ ، ١٤٤) وأحمد (٣ / ١٣١) والبيهقي (١٠ / ١٢١) عن أنس بن مالك مرفوعا.

(٤) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب سورة البقرة (٤٤٧٧) وباب سورة الفرقان (٤٧٦١) وكتاب الأدب ـ

٣٤٢

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان : ٦٨] وعن أبي هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتنبوا السّبع الموبقات قالوا يا رسول الله ، وما هنّ؟ قال : الشّرك بالله ، والسّحر ، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا ، وأكل مال اليتيم ، والتّولّي يوم الزّحف ، وقذف المحصنات الغافلات» (١).

وقال عبد الله بن مسعود : أكبر الكبائر الشّرك بالله ، والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله (٢).

وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أكبر الكبائر يسبّ الرّجل والديه : قال : وكيف يسبّ الرّجل والديه قال : [يسبّ الرجل أبا الرجل وأمه](٣) فيسب أباه ويسبّ أمّه» (٤).

وعن سعيد بن جبير أنّ رجلا سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي قال : هي إلى السبعمائة أقرب [غير] أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار (٥) ، وقال : كلّ شيء عصي الله به ، فهو كبيرة (٦) ، فمن عمل شيئا منها ، فليستغفر الله فإنّ الله لا يخلد في النّار من هذه الأمّة إلّا من كان راجعا عن الإسلام ، أو جاحدا فريضته ، أو مكذبا بقدرة. قال ابن الخطيب (٧) : وهذا القول ضعيف ؛ لأنّه لا فرق بينهما كقوله : يكفر ، وما لا يكفرون في الحديث : تعيين أشياء من الكبائر منها : الشرك ، واليمين الغموس

__________________

ـ باب قتل الولد خشية .. (٦٠٠١) وفي كتاب المحاربين باب إثم الزناة (٦٨١١) وفي كتاب التوحيد باب : قول الله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً حديث (٧٥٢٠) والترمذي (٢ / ٣٠٥) وأحمد (١ / ٤٣٤) والبيهقي (٨ / ١٨) وسعيد بن منصور (٢٣٠٢) والطيالسي (٣ ، ٤ ، ٢٢٢٩ ـ منحة) وأبو نعيم في «الحلية» (٤ / ١٤٥ ـ ١٤٦) من طرق عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود به وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(١) أخرجه البخاري كتاب الوصايا باب قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» (٢٧٦٦) وفي الطب باب الشرك والسحر (٥٧٦٤) وفي المحاربين باب رمي المحصنات (٦٨٥٧) ومسلم كتاب الإيمان ١٤٥ وأبو عوانة (١ / ٥٥) وأبو داود (٢٨٧٤) والنسائي (٢ / ١٣١) والبيهقي (٦ / ٢٨٤ ـ ٨ / ٢٠ ، ٢٤٩ ـ ٩ / ٧٦) من حديث أبي هريرة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٤٢ ، ٢٤٣) عن ابن مسعود وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٦٤) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وابن أبي الدنيا في «التوبة».

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ٣) ومسلم (كتاب الإيمان ١٤٦) وأحمد (٢ / ١٦٤ ، ١٩٥) والبيهقي (١٠ / ٢٣٥) وابن أبي شيبة (٩ / ٨.) عن عبد الله بن عمرو.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٤٥) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٦١) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عنه.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٤٦) من طريق أبي الوليد عن ابن عباس رضي الله عنه.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٦٠.

٣٤٣

[والرّبا](١) وعقوق الوالدين ، والقتل ، وغيرهما ولقوله تعالى : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [الحجرات : ٧] فالكبائر هي الفسوق والصغائر هي العصيان حتى يصحّ العطف. احتجّ ابن عبّاس ما إذا اعتبر المعاصي بالنّسبة إلى جلال الله تعالى ، وعظمته كانت كبائر بالنّسبة لكثرة نعمه تعالى ، فذلك لعدم تناهيها ، فكلّ ذنب كبيرة.

والجواب كما أنّه سبحانه وتعالى أجلّ الموجودات ، وأشرفهم ، وهو أرحم الراحمين ، وأغنى الأغنياء عن الطّاعات وذلك يوجب خفة الذنب ثم إنّها وإن كان كبيرة ، فبعضها أكبر من بعض (٢).

فصل

قال بعضهم : لتمييز الكبيرة عن الصّغيرة بذاتها ، وقيل : إنّما تتميز بحسب [حال فاعليها] فالأولون لهم (٣) أقوال ، أوّلها : قال ابن عبّاس : كلّ ما (٤) قرن بذكر الوعيد ، فهو كبيرة كالقتل ، والقذف.

الثّاني : عن ابن مسعود : كلّ ما نهي عنه من أوّل النّساء إلى ثلاثة وثلاثين آية فهو كبيرة لقوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ).

الثالث : قتل كل عمد فهو كبيرة على الأوّل لأنّ كل ذنب لا بدّ أن يكون متعلّق الذّم عاجلا ، والعقاب آجلا وهذا يقتضي أنّ كلّ ذنب كبيرة ، وعلى الثّاني أنّ الكبائر مذكورة في سائر السور ، فلا معنى لتخصيصها بهذه السّورة ، وعن الثّالث إن أراد بالعمد أنّه ليس بساه فهذا (٥) هو الذي نهي عنه ، فيكون كل ذنب كبيرة ، وإن أراد أنه يفعله مع العلم به ، فإنّه معصية فمعلوم أنّ اليهود والنّصارى يكفرون بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يعلمون أنه معصية ، وذلك كفر وكبيرة ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة.

وأما القول الثّاني (٦) أنّ الكبائر تمتاز عن الصّغائر باعتبار فاعلها ، فهو قول من يقول للطّاعة قدر من الثواب (٧) وللمعصية قدر من العقاب فالقسمة العقليّة تقتضي أقسام التّساوي والتعادل ، ورجحان الثّواب ، ورجحان العقاب فالأوّل ممكن عقلا إلا أن الدليل السمعي دل على أنه لا يوجد لقوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٨] ولو وجد ذلك لم يكن في الجنّة ، ولا في السّعير.

والثّاني : ينحبط العقاب بما يساويه من الثّواب ، والمعصية هي الصّغيرة تسمى الانحباط بالتّكفير.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : البعض.

(٣) بياض في ب.

(٤) في أ : كلما.

(٥) في أ : فلهذا.

(٦) في ب : الثالث.

(٧) في أ : العقاب.

٣٤٤

والثّالث : ينحبط الثّواب بما يساويه من العقاب ، ويسمى الكبيرة ، وسمي الانحباط بالإحباط ، فظهر الفرق بين الكبيرة والصغيرة ، وهذا قول جمهور المعتزلة ، وهو مبنيّ على أصول باطلة :

الأول : أنّ الطّاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا ، وهو باطل لما تقدّم من أنّ الفعل يتوقّف على داعية من الله تعالى ، وذلك يمنع الإيجاب.

ولأنّ من اشتغل بالعبادة والتّوحيد ثمانين سنة ، ثم شرب قطرة خمر ، فإن قالوا بالإحباط خالف الضرورة والإجماع ، وإن خالف وقالوا بترجيح الثّواب نقضوا أصلهم من التحسين والتقبيح العقليّين فتبطل قواعدهم.

ولأنّه سمى الله تعالى كبيرة لسابقه [على الطاعة](١) وموجبة لها [فأوّل واجب](٢) لا يستحقّ ثوابا ، فيكون عقاب كلّ معصية أن لا بد من ثواب فاعلها ، فتكون جميع المعاصي كبائر ، وهو باطل ، وقد تقدّم القول بإبطال القول بالإحباط.

فصل

قال ابن الخطيب (٣) : الأكثرون على أنّ الله تعالى لم يميّز الكبائر ، ولم يعيّنها ، قالوا : لأنّ تمييزها وتعيينها مع إخباره بأن اجتنابها يكفّر الصّغائر إغراء بالإقدام على الصغائر ، وذلك قبيح لا يليق بالحكمة (٤) ، أمّا إذا لم يميّزها ، كتحرير كون المعصية كبيرة زاجرا عن الإقدام عليها كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والصلاة الوسطى ووقت الموت مع تجوز تعيين بعض الكبائر كما ورد في الحديث والآيات كما ذكر عن ابن عباس أنها سبعة فقال هي إلى السّبعمائة أقرب.

فصل

احتج (٥) الكعبيّ بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر قال : لأنّه تعالى بيّن أنّ من اجتنب الكبائر يكفر عنه سيئاته ، فدلّ على أنّ من لم يجتنبها لم تكفّر عنه ، ولو جاز أن يغفر الكبائر ، والصّغائر ، لم يصحّ هذا الكلام.

والجواب من وجوه :

الأوّل : إنكم إما أن تستدلوا بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، فذلك باطل عند المعتزلة ، وعندنا دلالته ظنيّة ضعيفة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٦٢.

(٤) في أ : بالجملة.

(٥) في أ : استدل.

٣٤٥

وإما أن تستدلوا به من حيث أنّ المعلق على الشيء بكلمة «إن» عدم عند عدم ذلك ، فهذا أيضا ضعيف لقوله تعالى : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل : ١١٤] والشكر واجب مطلقا ولقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) [البقرة : ٢٨٣] وأداء الأمانة واجب مطلقا ولقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) يجوز شهادتهم مع وجود الرّجال وقوله : (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) [البقرة : ٢٨٣] ، (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣] ، (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣].

وقوله (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ) [النساء : ١٠١].

(فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) [النساء : ١١](إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) [النساء : ٣٥] ، (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النساء : ١٣٠].

وهذا كلّه يدلّ على العدم بهذا الكلام ، والعجب أنّ القاضي عبد الجبّار لا يرى أنّ المعلّق على الشّيء بكلمة «إن» عدم عنه العدم ، واستحسن في التّفسير (١) استدلاله على الكفر بهذه الآية.

الجواب الثّاني : قال أبو مسلم (٢) : جاءت هذه الآية عقيب نكاح المحرّمات ، وعضل النّساء ، وأخذ أموال اليتامى [وأكل المال بالباطل و](٣) غير ذلك فالمراد إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها ، كفرنا عنكم سيّئاتكم [أي : ما سلف](٤) من ارتكابها وإذا احتمل هذا ؛ لم يتعيّن ما ذكره المعتزلة ، واعترضه القاضي (٥) بوجهين :

أحدهما : أنّ الآية عامّة ، فلا تخصيص بذلك.

الثّاني : أن اجتنابهم إمّا أن يكون مع التّوبة ، والتّوبة قد أزالت العقاب أو بدونها ، فمن أين أنّ اجتناب هذه الكبائر ، توجب تكفير تلك السّيّئات.

والجواب عن الأوّل : أنّا لا ندفع القطع بذلك ، بل نقول : هو يحتمل ، فلا يتعيّن ما ذكرتموه.

وعن الثّاني : أنّ ما ذكروه لا يقدح في الاحتمال المذكور [هنا] (٦).

الجواب الثّاني : أنّ المعاصي ، قد تكون كبيرة بالنّسبة إلى شيء ، صغيرة بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذلك العكس ، فليس ثمّة ما يكون كبيرة مطلقا ، إلا الكفر ، وأنواعه

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٦٣.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ، (٤) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٦٣.

(٥) سقط في ب.

٣٤٦

[كثيرة](١) ، فلمّا لم يكن المراد إن تجتنبوا الكفر بأنواعه ، يغفر لكم ما وراءه ، وهذا احتمال ظاهر مطابق لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، سقط استدلالهم بذلك.

فصل

قال القرطبيّ (٢) : قال الأصوليّون : لا يجب القطع بتكفير الصّغائر باجتناب الكبائر ، وإنّما محمل (٣) ذلك على غلبة الظّنّ ، وقوّة الرّجاء ، والمشيئة (٤) ثابتة ، ودلّ على ذلك : أنا لو قطعنا لمجتنب الكبائر ، وممتثل الفرائض ، تكفير صغائره قطعا ؛ لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأن أتباعه عليه ، وذلك نقض لعرى الشّريعة ، ولا صغيرة عندنا.

قال القشيريّ (٥) : والصّحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعا من بعض ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي.

قال القرطبي : وأيضا من نظر إلى بعض المخالفة كما قال بعضهم : لا تنظر إلى صغر الذّنب ، ولكن انظر من عصيت [فإن كان الأمر كذلك](٦) كانت الذنوب بهذه النّسبة كلّها كبائر ، وعلى هذا النّحو يخرّج كلام القشيريّ ، وأبي إسحاق الإسفراييني والقاضي أبي بكر بن الطّيّب قالوا : وإنّما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها كما يقال : الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقبلة المحرّمة صغيرة بالنّسبة إلى الزّنا ، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كلّ ذنب كبيرة ومرتكبه في المشيئة ، غير الكفر لقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] قالوا : هذه الآية يردّ إليها جميع الآيات (٧) المطلقة ، يزيد عليها قوله عليه‌السلام : «من اقتطع حقّ امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النّار وحرّم عليه الجنّة فقال رجل : يا رسول الله ، وإن كان شيئا يسيرا فقال : وإن كان قضيبا من أراك» (٨) ، فقد جاء الوعيد الشّديد على اليسير ، كما جاء على الكثير.

وقال عبد الله بن [مسعود : «ما نهى الله عنه في تلك السّورة إلى قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) فهو كبيرة (٩).

وقال [علي] بن](١٠) أبي طلحة : الكبيرة : كلّ ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٠٤.

(٣) في ب : يحمل.

(٤) في ب : والسنة.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٠٤.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : الإناث.

(٨) تقدم.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٣٢) عن ابن مسعود وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٦٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(١٠) سقط في ب.

٣٤٧

لعنة ، أو عذاب [أو آثام](١)» (٢).

وقال الضحاك : «الكبيرة ما أوعد الله عليه حدّا في الدّنيا ، وعذابا في الآخرة» (٣).

وقال الحسين [بن الفضل](٤) : ما سمّاه الله في القرآن كبيرا ، أو عظيما نحو قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) [النساء : ٢] ، (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) [الإسراء : ٣١] ، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٦] ، (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) [الأحزاب : ٥٣].

وقال سفيان الثّوريّ : «الكبائر هي المظالم بينك وبين العباد ، والصّغائر : ما كان بينك وبين الله ، إن الله كريم يعفو [ويصفح](٥)».

وقال مالك بن مغول : «الكبائر : ذنوب أهل البدع ، والسّيئات : ذنوب أهل السّنة [الصّغائر](٦)».

وقيل : «الكبائر ذنوب العمد ، والسيئات الخطأ والنّسيان ، وما أكره عليه ، وحديث النّفس المرفوعة عن هذه الأمّة».

وقال السّدّيّ : الكبائر ما نهى الله عنه من [الذّنوب](٧) الكبائر والسّيّئات مقدّماتها وتوابعها ، وما يجتمع فيه الصّالح والفاسق مثل النّظرة ، واللّمسة ، والقبلة ، وأشباهها. قال عليه‌السلام : «العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والرّجلان تزنيان ، ويصدّق ذلك الفرج ، أو يكذّبه» (٨).

وقيل : الكبائر الشّرك ، وما يؤدّي إليه ، وما دون الشّرك ، فهو من السّيّئات. قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨].

قوله : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).

قال المفسّرون : أي من الصّلاة إلى الصّلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة ، ومن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٤٦) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٤٧) عن الضحاك.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٠ ، ٢٥٥) ومسلم (٨ / ٥٢) وأبو داود (٢١٥٢) وأحمد (٢ / ٢٧٦) عن أبي هريرة.

وله شاهد من حديث ابن مسعود بلفظ المصنف :

أخرجه أحمد (١ / ٤١٢) وأبو نعيم (٢ / ٩٨) عن عاصم بن بهدلة عن ابن مسعود.

وله شاهد عن أبي موسى الأشعري مرفوعا بلفظ كل عين زانية أخرجه الترمذي (٢ / ١٢٩) وأحمد (٤ / ٤١٨).

٣٤٨

رمضان إلى رمضان ، لقوله عليه‌السلام : «[الصّلوات](١) الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات لّما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر» (٢).

(وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) أي حسنا وهو الجنة.

قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٣٢)

في كيفية النظم وجهان :

أحدهما : قال القفّال : «لما نهاهم في الآية المتقدّمة عن أكل الأموال بالباطل ، وعن قتل النّفوس ، أمرهم في هذه الآية بما سهّل عليهم ترك هذه المنهيّات ، وهو أن يرضى كلّ واحد بما قسم الله ، فإنّه إذا لم يرض ، وقع في الحسد ، وإذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل ، وفي قتل النّفوس».

الثّاني : أنّ أخذ الأموال بالباطل ، وقتل النّفوس من أعمال الجوارح ، فأمر أوّلا بتركها ليصير الظّاهر طاهرا عن الأفعال القبيحة ، ثمّ أمره بعدها بترك التّعرّض لنفوس النّاس ، وأموالهم بالقلب على سبيل الحسد ، ليصير الباطن أيضا طاهرا عن الأخلاق الذّميمة.

فصل في سبب نزول الآية

قال مجاهد : «قالت أمّ سلمة : يا رسول الله ، إنّ الرّجال يغزون ولا نغزو ، ولهم ضعف ما لنا من الميراث ، فلو كنّا رجالا غزونا كما غزوا ، وأخذنا من الميراث مثلما أخذوا؟ فنزلت هذه الآية» (٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه مسلم كتاب الطهارة (١٤ ، ١٥ ، ١٦) والترمذي (٢١٤) وأحمد (٢ / ٣٥٩ ، ٤٠٠ ، ٤١٤) والبيهقي (٢ / ٤٦٦) وابن خزيمة في «صحيحه» (٣١٤ ، ١٨١٤) عن أبي هريرة.

وقال الترمذي : حديث أبي هريرة حسن صحيح.

(٣) أخرجه الترمذي (٤ / ٨٨) والحاكم (٢ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦) وأحمد (٦ / ٣٢٢) والطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٦٢) والواحدي في أسباب النزول» ص (١١٠) عن مجاهد عن أم سلمة.

وأعله الترمذي فقال : هذا حديث مرسل ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرسلا : أن أم سلمة قالت كذا ...

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن كان سمع مجاهد من أم سلمة ووافقه الذهبي على تصحيحه.

والخبر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٦٦) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أبو الليث السمرقندي في بحر العلوم» (١ / ٣٥٠).

٣٤٩

وقيل : لمّا جعل الله للذّكر مثل حظّ الانثيين في الميراث ، قالت النّساء : نحن أحوج إلى الزّيادة من الرّجال ؛ لأنا ضعفاء ، وهم أقوياء ، وأقدر منا على المعاش فنزلت الآية.

وقال قتادة والسّدّيّ : لما نزل قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] ؛ قال الرّجال : إنّ لنرجو أن نفضّل على النّساء بحسناتنا في الآخرة ، فيكون أجرنا على الضّعف من أجر النّساء كما فضّلنا عليهنّ (١) في الميراث في الدّنيا ، فقال الله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)(٢) [النساء : ٣٢].

وقيل : أتت امرأة إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ربّ الرّجال والنّساء واحد ، وأنت الرّسول إلينا ، وإليهم ، وأبونا آدم ، وأمّنا حوّاء ، فما السّبب في أنّ الله يذكر الرّجال ، ولا يذكرنا ؛ فنزلت الآية ، فقالت : وقد سبقنا الرّجال بالجهاد فما لنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ للحامل منكنّ أجر الصّائم القائم ، فإذا ضربها الطّلق لم يدر أحد ما لها من الأجر ، فإذا أرضعت كان لها بكلّ مصّة أجر إحياء نفس» (٣).

قوله (ما فَضَّلَ اللهُ) «ما» موصولة ، أو نكرة موصوفة ، والعائد الهاء في «به» ، و «بعضكم» مفعول ب «فضّل» ، و «على بعض» متعلّق به.

فصل

قال القرطبيّ (٤) : التّمني نوع من الإرادة يتعلّق بالمستقبل ، واعلم أنّ الإنسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لإنسان ، ووجد نفسه خاليا عن جملتها ، أو عن أكثرها ، فحينئذ يتألّم قلبه ، ثمّ يعرض هاهنا حالتان :

إحداهما : [أن يتمنى](٥) زوال تلك السعادات (٦) عن ذلك الإنسان.

والأخرى : لا يتمنّى ذلك ، بل يتمنّى حصول مثلها له.

فالأوّل هو الحسد المذموم ، والثّاني هو الغبطة ، فأمّا كون الحسد مذموما ؛ فلأن الله تعالى لمّا دبّر هذا العالم ، وأفاض أنواع الكرم عليهم ، فمن تمنى زوال ذلك ؛ فكأنه اعترض على الله في فعله ، وفي حكمته ، وربّما اعتقد في نفسه ، أنّه أحقّ بتلك النّعم من ذلك الإنسان ، وهذا اعتراض على الله ، فيما يلقيه من الكفر ، وفساد الدّين ، وقطع المودّة ، والمحبّة ، وينقلب ذلك إلى أضداده.

__________________

(١) في ب : علهم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٦٤) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٦٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٣) انظر : «التفسير الكبير» للفخر الرازي (١٠ / ٣٢).

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٠٧.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : السعادة.

٣٥٠

وأما سبب المنع من الحسد ، فعلى مذهب أهل السّنّة ، فلأنه تعالى (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] ، ولا اعتراض عليه في فعله ، وعلى مذهب المعتزلة ، فلأنه تعالى علّام الغيوب ، فهو أعرف من خلقه بوجوه المصالح ، ولهذا [المعنى](١) قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) [الشورى : ٢٧] ، فلا بد لكلّ عاقل من الرّضا بقضاء الله ، وممّا يؤكّد ذلك ، قوله عليه‌السلام : «لا يخطب الرّجل على خطبة أخيه ، ولا يسوم على سوم أخيه ، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتلقي (٢) ما في إنائها ، فإنّ الله ـ تعالى ـ هو رازقها» (٣) والمقصود من كلّ ذلك المبالغة في المنع من الحسد.

وأمّا الثّاني ، وهو الغبطة ، فمن النّاس من جوّزه ، ومنعه آخرون قالوا : لأنّه ربّما كانت تلك النّعمة مفسدة في دينه ، ومضرّة عليه في الدّنيا ، ولذلك لا يجوز للإنسان أن يقول : «اللهمّ أعطني دارا مثل دار فلان ، وزوجة مثل زوجة فلان ، بل ينبغي أن يقول : اللهمّ أعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ، ومعادي ومعاشي» وإذا تأمّل الإنسان لم يجد دعاء أحسن ممّا ذكره الله في القرآن تعليما لعباده ، وهو قوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة : ٢٠١] ، ولهذا (٤) قال : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٣٢].

وأمّا من جوّزه فاستدلّ بقوله عليه‌السلام : «لا حسد إلّا في اثنتين ، رجل آتاه الله القرآن ، فهو يقوم به آناء اللّيل ، وأطراف النّهار ، ورجل آتاه الله مالا ، فهو ينفق منه آناء اللّيل ، وأطراف النّهار» (٥) فمعنى قوله : «لا حسد» ، أي : لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : لتكفأ.

(٣) روي هذا الحديث مجزأ أخرج الشطر الأول منه البخاري (٩ / ١٠٥) كتاب النكاح : باب لا يخطب على خطبة أخيه (٥١٤٢) ومسلم (٢ / ١٠٢٩) كتاب النكاح : باب تحريم الجمع (٣٨ ـ ١٤٠٨) ومالك (٢ / ٥٢٣) عن أبي هريرة.

وأخرج الشطر الثاني منه مسلم (٤ / ١٣٨ ـ ١٣٩) والنسائي (٢ / ٢١٦) وابن ماجه (٢١٧٢) والبيهقي (٥ / ٣٤٤) وأحمد (٢ / ٤٨٧) والبغوي في «شرح السنة» (٤ / ٢٨٧) من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا.

وأخرج الشطر الأخير منه البخاري (٩ / ١٢٦) كتاب النكاح : باب الشروط التي لا تحل في النكاح (٥١٥٢) ، (١١ / ٥٠٢) كتاب القدر : باب وكان أمر الله قدرا مقدورا (٦٦٠١) ومسلم (٢ / ١٠٢٩) كتاب النكاح : باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح (٣٨ ، ٣٩ / ١٤٠٨).

(٤) في أ : ولذلك.

(٥) أخرجه البخاري كتاب فضائل القرآن : باب اغتباط صاحب القرآن حديث (٥٠٢٥ ، ٧٥٢٩) ومسلم (١ / ٥٥٨) كتاب صلاة المسافرين باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه (٢٦٦ / ٨١٥).

٣٥١

قال بعض العلماء : «النّهي [عن](١) التّمنّي المذكور في هذه الآية ، هو ما لا يجوز تمنّيه من عرض الدّنيا ، وأشباهها ، وأما التّمني في الأعمال الصّالحة ، فحسن قال عليه‌السلام : «اللهمّ وددت أنّي أحيى ، ثمّ أقتل [ثم أحيى ثم أقتل» (٢)](٣) ، وذلك يدلّ على فضل الشّهادة على سائر أعمال البرّ ؛ لأنّه ـ عليه‌السلام ـ تمنّاها دون غيرها فرزقه الله إيّاها لقوله عليه‌السلام : «ما زالت أكلة خيبر تعاودني [كل عام ، حتى كان هذا] أوان انقطاع أبهري» (٤).

وفي الصّحيح : «إنّ الشّهيد يقال له : تمنّ ، فيقول : أتمنّى أن أرجع إلى الدّنيا ، فأقتل في سبيلك مرّة أخرى» (٥) وكان عليه‌السلام يتمنى إيمان أبي طالب وأبي لهب ، وصناديد قريش ، مع علمه بأنّه لا يكون.

قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) قيل : من الجهاد.

(وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ،) أي : من طاعة أزواجهن [وحفظ فروجهنّ](٦).

وقيل : ما قدر لهن من الميراث ، يجب أن يرضوا به ، ويتركوا الاعتراض (٧) نهى الله ـ عزوجل ـ عن التّمنّي على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد ، ولأنّ الله ـ عزوجل ـ أعلم بمصالحهم منهم ؛ فوضع القسمة بينهم متفاوتة على حسب ما علم من مصالحهم ويكون الاكتساب بمعنى : الإصابة.

وقيل : ما يستحقّوه من الثّواب في الآخرة.

وقيل : [المراد](٨) الكلّ ؛ لأنّ اللّفظة محتملة ولا منافاة.

فصل : إثبات الهمزة في الأمر من السؤال

الجمهور على إثبات الهمزة في الأمر من السّؤال الموجه نحو المخاطب ، إذا تقدّمه واو ، أو فاء نحو : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ) [يونس : ٩٤] ، (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٣٢] ، وابن كثير ، والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السّين تخفيفا لكثرة استعماله. فإن (٩) لم تتقدّمه واو ، ولا فاء ، فالكلّ على النقل نحو : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢١١] ، وإن كان لغائب ، فالكلّ على الهمز نحو : (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) [الممتحنة : ١٠].

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) تقدم.

(٣) سقط في أ.

(٤) ذكره بهذا اللفظ المتقي الهندي في «كنز العمال» رقم (٣٢١٨٩) وعزاه لابن السني وأبي نعيم كلاهما في «الطب» عن أبي هريرة.

(٥) الحديث ذكره القرطبي في «تفسيره» (٥ / ١٦٣).

(٦) سقط في ب.

(٧) في أ : لأغراض.

(٨) سقط في أ.

(٩) في أ : فإذا.

٣٥٢

ووهم ابن عطيّة (١) ، فنقل اتّفاق القرّاء على الهمز في نحو : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) [الممتحنة : ١٠] ، وليس اتفاقهم في هذا ، بل في (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) كما تقدّم.

وتخفيف الهمزة لغة الحجاز ، ويحتمل أن يكون ذلك من لغة من يقول «سال يسال» بألف محضة ، وقد تقدّم تحقيق ذلك (٢) ، وهذا إنّما يتأتى في «سل» ، و «فسل» وأمّا «وسألوا» ، فلا يتأتّى فيه ذلك ؛ لأنّه كان ينبغي أن يقال : سالوا كخافوا ، وقد يقال : إنّه التزم الحذف لكثرة الورود ، وقد تقدّم في البقرة عند (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢١١].

وهو يتعدّى لاثنين ، والجلالة مفعول أوّل ، وفي الثّاني قولان :

أحدهما : أنّه محذوف ، فقدّره ابن عطيّة (٣) : «أمانيّكم» وقدّره أبو عليّ الفارسيّ وغيره (٤) : شيئا من فضله ، فحذف الموصوف ، وأبقى صفته نحو : «أطعمته من اللحم» ، أي : شيئا منه ، و «من» تبعيضيّة.

والثّاني : أن «من» زائدة ، والتّقدير : «واسألوا الله فضله» ، وهذا إنّما يتمشّى على رأي الأخفش لفقدان الشّرطين ، وهما تنكير المجرور ، وكون (٥) الكلام [غير موجب](٦).

فصل

قال عليه‌السلام : «سلوا الله من فضله ، فإنّه يحب أن يسأل ، وأفضل العبادة انتظار الفرج» (٧) ، وقال ـ عليه‌السلام ـ : «من لم يسأل الله يغضب عليه» (٨).

وقال القرطبيّ (٩) : «وهذا يدلّ على أنّ الأمر بالسّؤال لله تعالى واجب ، وهذه الآية تدلّ على أنّ الإنسان لا يجوز له أن يعيّن شيئا في الدّعاء ، والطّلب ، ولكن يطلب من

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٥.

(٢) آية ٢١١.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٥٥.

(٥) في ب : تكوين.

(٦) سقط في ب.

(٧) أخرجه بهذا اللفظ الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٦٨) عن حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخرجه الترمذي (٥ / ٥١٤) رقم (٣٥٧١) من طريق بشر بن معاذ العقدي عن حماد بن واقد عن إسرائيل عن أبي إسحق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود مرفوعا دون ذكر : وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج وقال الترمذي : هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث وحماد بن واقد ليس بالحافظ وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح.

والحديث عزاه ابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٤٣٠) لابن مردويه من حديث قيس بن الربيع عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا.

(٨) أخرجه الترمذي (٣٣٧٣) والبخاري في «الأدب المفرد» (٦٥٨) من طريق أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.

(٩) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٠٨.

٣٥٣

فضل الله ـ تعالى ـ ما يكون سببا لصلاح دينه ودنياه». ثمّ قال (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومعناه : أنّه العالم بما يكون صلاحا للسّائلين.

قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)(٣٣)

«جعلنا» فيه ستّة أوجه ، وذلك يستدعي مقدّمة قبله ، وهو أنّ «كلّ» لا بدّ لها من شيء تضاف إليه.

قال القرطبيّ (١) : «كلّ» في كلام العرب معناها : الإحاطة والعموم ، فإذا جاءت مفردة ، فلا بدّ وأن يكون في الكلام حذف عند جميع النحويين».

واختلفوا في تقديره : فقيل تقديره : ولكلّ إنسان.

وقيل : لكلّ مال ، وقيل : لكلّ قوم ، فإن كان التّقدير : لكل إنسان ، ففيه ثلاثة أوجه :

أحدها : ولكلّ إنسان موروث (٢) جعلنا موالي ، أي : ورّاثا ممّا ترك ، ففي «ترك» ضمير عائد على «كلّ» ، وهنا تمّ الكلام.

وقيل : تقديره : ويتعلق «ممّا ترك» ب «موالي» لما فيه من معنى الوراثة ، و «موالي» : مفعول أوّ ل «جعل» ، و «جعل» بمعنى : «صيّر» ، و «لكلّ» جار ومجرور هو المفعول الثّاني ، قدّم على عامله ، ويرتفع «الولدان» على خبر مبتدأ محذوف ، أو بفعل مقدّر ، أي : يرثون مما [ترك](٣) ، كأنه قيل : ومن الوارث؟ فقيل : هم الوالدان والأقربون ، والأصل : «وجعلنا لكل ميت وراثا يرثون مما تركه هم الوالدان والأقربون».

والثّاني : أنّ التّقدير : ولكلّ إنسان موروث ، جعلنا وراثا مما ترك ذلك الإنسان. ثمّ بين الإنسان المضاف إليه «كلّ» بقوله : (الْوِلْدانِ ،) كأنه قيل : ومن هو هذا الإنسان الموروث؟ فقيل (٤) : الوالدان والأقربون ، والإعراب كما تقدّم في الوجه قبله ، إنّما الفرق بينهما أنّ الوالدين في الأوّل وارثون ، وفي الثاني موروثون ، وعلى هذين الوجهين فالكلام جملتان ، ولا ضمير محذوف في «جعلنا» ، و «موالي» مفعول أول ، و «لكل» مفعول ثان.

الثّالث : أن يكون التّقدير : ولكل إنسان وارث ممّن (٥) تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي ، أي : موروثين ، فيراد بالمولى : الموروث ، ويرتفع «الوالدان» ب : «ترك» ،

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٠٩.

(٢) في ب : مورث.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : فقال.

(٥) في ب : فمن.

٣٥٤

وتكون «ما» بمعنى «من» ، والجارّ ، والمجرور صفة للمضاف إليه «كلّ» ، والكلام على هذا جملة واحدة ، وفي هذا بعد كبير.

الرّابع : إذا كان التّقدير ولكلّ قوم ، فالمعنى : ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب ممّا تركه والدهم (١) وأقربوهم ، ف «لكل» خبر مقدّم ، و «نصيب» مبتدأ مؤخّر ، و «جعلناهم» صفة لقوم ، والضّمير العائد عليهم مفعول : «جعل» ، و «موالي» : إما ثان وإمّا حال ، على أنّها بمعنى «خلقنا» ، و (مِمَّا تَرَكَ) صفة للمبتدأ ، ثم حذف المبتدأ ، وبقيت صفته ، [وحذف المضاف إليه «كلّ» وبقيت صفته أيضا](٢) ، وحذف العائد على الموصوف. ونظيره : لكلّ خلقه الله إنسانا من رزق الله ، أي : لكلّ أحد خلقه الله إنسانا نصيب من رزق الله.

الخامس : إن كان التّقدير : ولكلّ مال ، فقالوا : يكون المعنى : ولكلّ مال ممّا تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي ، أي : ورّاثا يلونه ، ويحوزونه ، وجعلوا «لكلّ» متعلقة : ب «جعل» ، و (مِمَّا تَرَكَ) صفة ل «كلّ» ، والوالدان فاعل ب «ترك» ، فيكون الكلام على هذا ، وعلى الوجهين قبله كلاما واحدا ، وهذا وإن كان حسنا ، إلّا أنّ فيه الفصل بين الصّفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف.

قال أبو حيّان (٣) : «وهو نظير قولك : بكلّ رجل مررت تميميّ وفي جواز ذلك نظر».

قال شهاب الدّين (٤) : «ولا يحتاج إلى نظر ؛ لأنّه قد وجد الفصل بين الموصوف والصّفة بالجملة العاملة في المضاف إلى الموصوف ، كقوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] ف (فاطِرِ) صفة ل (اللهَ ،) وقد فصل [بينهما](٥) ب (اتَّخَذَ) العامل في (قَوْلاً غَيْرَ) فهذا أولى».

السّادس : أن يكون لكلّ [مال](٦) مفعولا ثانيا ل «جعل» على أنّها تصييرية (٧) ، و «موالي» مفعول أوّل ، والإعراب على ما تقدّم.

فصل

«المولى» لفظ مشترك بين معان :

أحدها : المعتق ؛ لأنّه ولي نعمة من أعتقه ، ولذلك سمي مولى النعمة.

ثانيها : العبد المعتق لاتّصال ولاية مولاه به في إنعامه عليه ، وهذا كما سمّي

__________________

(١) في ب : والدوهم.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٤٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٥٦.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : تصير به.

٣٥٥

الطّالب غريما ؛ لأنّ له اللّزوم والمطالبة بحقّه ، ويسمّى المطلوب غريما ، لكون الدّين لازما له.

وثالثها : الحليف ؛ لأنّ المحالف يلي أمره بعقد اليمين.

ورابعها : ابن العمّ ؛ لأنّه يليه بالنّصرة.

وخامسها : المولى (١) لأنّ يليه بالنّصرة ، قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١].

سادسها : العصبة ، وهو المراد بهذه الآية ؛ لقوله عليه‌السلام : «أنا أولى بالمؤمنين ، من مات وترك مالا ، فماله لموالي العصبة ، ومن ترك دينا ؛ فأنا وليّه» (٢).

وقال عليه‌السلام : «ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى عصبة ذكر» (٣).

قوله (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) في محلّه أربعة أوجه :

أحدها : أنّه مبتدأ والخبر قوله : (فَآتُوهُمْ) [ودخلت الفاء في الحيز لتضمن الذي معنى الشرط](٤).

الثّاني : أنّه منصوب على الاشتغال بإضمار فعل ، وهذا أرجح من حيث إنّ بعده طلبا.

والثّالث : أنّه مرفوع عطفا على (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ،) فإن أريد بالوالدين أنّهم موروثون ، عاد الضّمير من (فَآتُوهُمْ) على «موالي» وإن أريد أنّهم وارثون جاز عوده على «موالي» وعلى الوالدين وما عطف عليهم.

__________________

(١) في أ : الناصر.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٥٥٧) في الكفالة : باب الدين (٢٢٩٨) وفي الاستقراض (٥ / ٧٥) باب الصلاة على من ترك دينا (٢٣٩٨ ، ٢٣٩٩) وفي «التفسير» (٨ / ٣٧٦) باب سورة الأحزاب (٤٧٨١) وفي النفقات (٩ / ٤٢٥) باب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ترك كلّا أو ضياعا فإليّ (٥٣٧١) وفي الفرائض (١٢ / ١١) باب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ترك مالا فلأهله (٦٧٢١) وفي باب ميراث الأسير (٦٧٦٣) ومسلم (٣ / ١٢٣٧) كتاب الفرائض باب من ترك مالا فلورثته (١٤ / ١٦١٩) من حديث أبي هريرة.

(٣) أخرجه البخاري (١٢ / ١١) كتاب الفرائض : باب ميراث الولد من أبيه وأمه (٦٧٣٢) وباب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن (٦٧٣٥) وباب ميراث الجد مع الأب والإخوة (٦٧٣٧) وباب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج (٦٧٤٦) ومسلم (٣ / ١٢٣٣) كتاب الفرائض : باب ألحقوا الفرائض بأهلها (٢ / ١٦١٥).

وأبو داود (٢٨٩٨) والدارمي (٢ / ٣٦٨) وابن ماجه (٢٧٤٠) وابن الجارود في «المنتقى» (٩٥٥) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٤٢٥ ، ٤٢٦) والبيهقي (٦ / ٢٣٨ ، ٢٣٩) وأحمد (١ / ٢٩٢ ، ٣١٣ ، ٣٢٥) من طرق عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس مرفوعا.

(٤) سقط في أ.

٣٥٦

الرّابع : أنّه منصوب عطفا على «موالي».

قال أبو البقاء (١) : [أي :](٢) «وجعلنا الذين عاقدت ورّاثا ؛ وكان ذلك ونسخ» ، وردّ عليه أبو حيّان (٣) بفساد العطف ، قال : فإن جعل من عطف الجمل ، وحذف المفعول الثّاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أي : جعلنا ورّاثا لكلّ شيء من المال ، أو لكلّ إنسان ، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم وراثا وفيه بعد ذلك تكلّف. انتهى.

وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ (٤) : «عقدت» والباقون : «عاقدت» بألف وروي عن حمزة التّشديد في «عقدت» ، والمفاعلة هنا ظاهرة ؛ لأنّ المراد المخالفة.

والمفعول محذوف على كلّ من القراءات ، أي : عاقدتهم أو عقدت حلفهم ، ونسبة المعاقدة ، أو العقد إلى الأيمان مجاز ، سواء أريد بالأيمان الجارحة ، أم القسم.

وقيل : ثمّ مضاف محذوف ، أي : عقدت ذوو أيمانكم.

فصل في : «معنى المعاقدة والأيمان»

المعاقدة المحالفة ، والأيمان جمع يمين من اليد والقسم ، وذلك أنّهم كانوا عند المحالفة يأخذ بعضهم يد بعض ، على الوفاء [والتمسك](٥) بالعهد.

فصل الخلاف في نسخ الآية

قال بعضهم : إنّ هذه الآية منسوخة ، واستدلّوا على ذلك (٦) بوجوه :

أحدها (٧) : أنّ الرّجل كان في الجاهليّة يعاقد غيره ، فيقول : «دمي دمك وسلمي سلمك ، وحربي حربك ، وترثني (٨) وأرثك ، وتعقل عنّي ، وأعقل عنك» ، فيكون لهذا الحليف السّدس [من](٩) الميراث ، فذلك قوله : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، فنسخ ذلك بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] ، وبقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١].

وثانيها : أنّ الرّجل كان يتّخذ أجنبيا فيجعله (١٠) ابنا له ، وهم المسمّون بالأدعياء في قوله تعالى : (أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ،) وكانوا يتوارثون بذلك ، ثم نسخ.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٨.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٤٨.

(٤) انظر : السبعة ٢٣٣ ، والحجة ٢ / ١٥٦ ، وحجة القراءات ٢٠١ ، والعنوان ٨٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٤ ، وشرح شعلة ٣٣٩ ، وإتحاف ١ / ٥١٠.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : واستدل.

(٧) في أ : أولها.

(٨) في أ : وارثني.

(٩) سقط في ب.

(١٠) في أ : خليا.

٣٥٧

وثالثها : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يثبت المؤاخاة بين الرّجلين من أصحابه ، وكان ذلك سببا للتّوارث ، ثم نسخ.

وقال آخرون : الآية غير منسوخة.

وقال إبراهيم ومجاهد : أراد : «فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة ولا ميراث» (١).

وقال الجبّائيّ (٢) : تقدير الآية : «ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون» ، «والذين عاقدت أيمانكم» معطوف على قوله : (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، وسمى الله تعالى الوارث مولى ، والمعنى : لا تدفعوا المال إلى الحليف ، بل للمولى ، والوارث.

وقال آخرون (٣) : المراد ب «الذين عاقدت أيمانكم» الزّوج ، والزّوجة ، فأراد عقد النّكاح قال تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) [البقرة : ٢٣٥] وهو قول أبي مسلم الأصفهانيّ قال : ونظيره آية المواريث ، لما بيّن آية ميراث الوالدين ، ذكر معهم ميراث الزّوج ، والزّوجة.

وقيل : أراد بقوله : «الذين عاقدت أيمانكم» : الميراث بسبب [الولاء](٤) وقيل : «نزلت الآية في أبي بكر الصّدّيق ، وابنه عبد الرّحمن ، أمره الله أن يؤيته نصيبه» (٥).

وقال الأصمّ (٦) : المراد بهذا النّصيب على سبيل الهبة ، والهديّة بالشيء القليل كأمره تعالى لمن (٧) حضر القسمة أن يجعل له نصيبا كما تقدّم.

فصل الخلاف في إرث المولى الأسفل من الأعلى

قال جمهور الفقهاء (٨) : «لا يرث المولى الأسفل من الأعلى».

وحكى الطّحاويّ عن الحسن (٩) بن زياد أنّه قال : «يرث» ، لما روى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنّ رجلا أعتق عبدا له ؛ فمات المعتق ، ولم يترك إلا المعتق (١٠) ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميراثه للغلام المعتق ولأنّه داخل (١١) في عموم قوله : «والذين عاقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم».

وأجيب بأنه لعلّ (١٢) ذلك لما صار لبيت المال دفعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغلام لحاجته ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٧٨ ، ٢٧٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٦٩) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وسعيد بن منصور والنحاس في «ناسخه».

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٦٩ ـ ٧٠.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٧٠.

(٤) سقط في أ.

(٥) انظر : تفسير الرازي ١٠ / ٧٠.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٧٠.

(٧) في أ : لما.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٧٠.

(٩) في ب : حسن.

(١٠) في ب : العتيق.

(١١) في ب : ولد خولة.

(١٢) في ب : فعل.

٣٥٨

وفقره ؛ لأنه كان مالا لا وارث له ، فسبيله أن يصرف إلى الفقراء.

ثم قال تعالى [(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] ثم قال](١)(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ،) وهذه كلمة وعد للمطيعين ، ووعيد للعصاة ، والشّهيد الشّاهد ، والمراد إمّا (٢) علمه تعالى بجميع المعلومات ، فيكون المراد بالشّهيد العالم ، وإمّا شهادته على الخلق يوم القيامة ، فالمراد بالشّهيد المخبر.

قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً)(٣٤)

وجه النّظم : أنّ النّساء لمّا تكلّمن في تفضيل [الله] الرّجال (٣) عليهن في الميراث ؛ بيّن في هذه الآية أنّه إنّما فضّل الرّجال على النّساء في الميراث ؛ لأنّ الرّجال قوّامون على النساء (٤) ؛ فهم وإن اشتركوا في استمتاع كلّ واحد منهم بالآخر ، فالله أمر الرّجال بالقيام عليهنّ والنفقة ، ودفع المهر إليهنّ.

والقوّام ، والقيّم (٥) بمعنى واحد ، والقوام أبلغ ، وهو القيم (٦) بالمصالح ، والتّدبير ، والتّأديب ، والاهتمام بالحفظ.

قال مقاتل : «نزلت في سعد بن الرّبيع ، وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت [زيد ابن خارجة بن أبي زهير].

وقال ابن عبّاس ، والكلبيّ : «امرأته عميرة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك أنّها نشزت عليه ، فلطمها ، فانطلق أبوها معها إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، وإنّ أثر اللّطمة باق في وجهها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقتصّي منه ثم قال : اصبري حتى أنظر ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي عليه‌السلام : أردنا أمرا ، وأراد الله أمرا ، والّذي أراد الله خير ، ورفع القصاص» (٧).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : ما.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : عليهن.

(٥) في ب : القويم.

(٦) في أ : القيام.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٩١) عن الحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٧٠ ـ ٢٧١) من طريق جرير بن حازم عن الحسن وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

وأخرجه الطبري (٨ / ٢٩١) من طريق قتادة عن الحسن وزاد السيوطي نسبته في «الدر المنثور» (٢ / ٢٧٠) لعبد بن حميد. ـ

٣٥٩

قوله : (عَلَى النِّساءِ) متعلق ب (قَوَّامُونَ) وكذا «بما» والباء للسّببيّة ، ويجوز أن تكون للحال ، فتتعلّق بمحذوف ؛ لأنّها حال من الضّمير في (قَوَّامُونَ) تقديره : مستحقّين بتفضيل الله إيّاهم ، و «ما» مصدريّة ، وقيل : بمعنى الّذي ، وهو ضعيف لحذف العائد من غير مسوّغ.

والبعض الأوّل المراد به الرّجال ، والبعض الثّاني : النساء ، وعدل عن الضّميرين فلم يقل : بما فضّلهم الله عليهنّ ، للإبهام الذي في بعض.

فصل في دلالة الآية على تأديب النساء

دلّت الآية على تأديب الرّجال نساءهم ، فإذا حفظن حقوق الرّجال ، فلا ينبغي أن يسيء الرّجل عشرتها.

فصل

اعلم أنّ فضل الرّجال على النّساء من وجوه كثيرة ؛ بعضها صفات حقيقيّة ، وبعضها أحكام شرعيّة ، فالصّفات الحقيقيّة [أن](١) عقول الرّجال وعلومهم أكثر ، وقدرتهم على الأعمال الشّاقّة أكمل ، وفيهم كذلك من العقل والقوّة والكتابة في الغالب والفروسيّة ، والرّمي ، وفيهم العلماء ، والإمامة الكبرى [والصغرى](٢) ، والجهاد والأذان ، والخطبة ، والجمعة ، والاعتكاف ، والشّهادة على (٣) الحدود والقصاص ، وفي الأنكحة عند بعضهم ، وزيادة نصيب الميراث ، والتّعصيب ، وتحمل الدّية في قتل الخطأ ، وفي القسامة ، وفي ولاية النّكاح ، والطّلاق ، والرّجعة ، وعدد الأزواج ، وإليهم الانتساب.

وأمّا الصّفات الشّرعيّة فقوله تعالى : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) والمراد : عطية المهر ، والنّفقة عليها ، وكلّ ذلك يدلّ على فضل الرّجال على النّساء.

قوله تعالى : (وَبِما أَنْفَقُوا) يتعلّق بما تعلّق به الأوّل ، و «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الّذي» من غير ضعف ؛ لأنّ للحذف مسوّغا ، أي : «وبما أنفقوه من أموالهم».

(مِنْ أَمْوالِهِمْ) متعلّق ب (أَنْفَقُوا ،) أو بمحذوف على أنّه حال من الضّمير المحذوف.

فصل

قال القرطبيّ (٤) : قوله : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) يدلّ على أنّه متى عجز عن

__________________

ـ وله طريق آخر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧١) وعزاه لابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن.

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : في.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١١١.

٣٦٠