اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

والإماء هلاك البيت (١) أو قال «فساد البيت» ذكره القرطبي.

قوله : «فممّا» الفاء قد تقدّم أنّها إمّا جواب الشّرط ، وإمّا زائدة في الخبر على حسب القولين في «من» وفي هذه الآية سبعة أوجه :

أحدها : أنّها متعلّقة بفعل مقدّر بعد الفاء تقديره : فينكح ممّا ملكت أيمانكم و «ما» على هذا موصولة بمعنى الذي أي : نوع الّذي ملكته ، ومفعول ذلك الفعل المقدّر محذوف تقديره : فينكح امرأة ، أو أمة مما ملكته أيمانكم ؛ ف «ممّا» في الحقيقة متعلق بمحذوف لأنّه صفة لذلك المفعول المحذوف و «من» للتّبعيض ، نحو : أكلت من الرّغيف ، و (مِنْ فَتَياتِكُمُ) في محلّ نصب على الحال من الضّمير المقدّر في «ملكت» العائد على [«ما»](٢) الموصولة و (الْمُؤْمِناتِ) صفة لفتياتكم.

الثّاني : أن تكون «من» زائدة و «ما» هي المفعولة بذلك الفعل المقدّر أي : فلينكح ما ملكته أيمانكم.

الثّالث : أنّ «من» في (مِنْ فَتَياتِكُمُ) زائدة و (فَتَياتِكُمُ) هو مفعول ذلك الفعل المقدّر أي : فلينكح فتياتكم ، و (مِمَّا مَلَكَتْ) متعلق بنفس الفعل و «من» لابتداء الغاية ، أو بمحذوف على أنّه حال (مِنْ فَتَياتِكُمُ) قدم عليها و «من» للتّبعيض.

الرّابع : أن مفعول «فلينكح» [هو المؤمنات أي : فلينكح](٣) المؤمنات الفتيات و (مِمَّا مَلَكَتْ) على ما تقدّم في الوجه قبله و (مِنْ فَتَياتِكُمُ) حال من ذلك العائد المحذوف.

الخامس : أنّ مما في محلّ رفع خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : فالمنكوحة ممّا ملكت [أيمانكم](٤).

السّادس : أن «ما» في «ممّا» مصدريّة أي : فلينكح من ملك أيمانكم ، ولا بدّ أن يكون هذا المصدر واقعا موقع المفعول نحو : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] ليصحّ (٥) [وقوع](٦) النكاح [عليه](٧).

السّابع : وهو أغربها ونقل عن جماعة منهم ابن جرير أنّ في الآية تقديما وتأخيرا

__________________

(١) أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» كما في «كنز العمال» (٤٤٤٥٣) وذكره العجلوني في «كشف الخفا» (١ / ٤٢٤) وقال :

رواه الثعلبي بسند فيه أحمد بن محمد اليماني متروك عن يونس بن مرداس خادم أنس وهو مجهول.

والحديث في «الفوائد المجموعة» للشوكاني (١٣١) وقال : قال في المختصر : فيه ضعيف ومجهول.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : ليصبح.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

٣٢١

وأنّ التقدير : ومن لم يستطع منكم [طولا](١) أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض الفتيات ، فبعضكم فاعل ذلك [الفعل](٢) المقدّر ، فعلى هذا يكون قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) معترضا بين ذلك الفعل المقدّر وفاعله ، ومثل هذا لا ينبغي أن يقال.

فصل

قال ابن عباس : يريد بقوله (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي : فليتزوّج جارية أخيه (٣) ، فإنّ الإنسان لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه ، والفتيات المملوكات جمع فتاة تقول العرب للأمة : فتاة ، وللعبد : فتى ، قال عليه‌السلام : «لا يقولنّ أحدكم عبدي ، ولا أمتي ، ولكن ليقل فتاي وفتاتي» ويقال للجارية الحديثة : فتاة ، والغلام : فتى ، والأمة تسمى فتاة.

قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) جملة من مبتدأ وخبر جيء بها بعد قوله (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) لتفيد أنّ الإيمان الظّاهر كاف في نكاح الأمة المؤمنة ظاهرا ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها علما يقينا ، فإنّ ذلك لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، وفيه تأنيس أيضا بنكاح الإماء ، فإنّهم كانوا يفرون من ذلك.

قال الزّجّاج : «المعنى : احملوا (٤) فتياتكم على ظاهر الإيمان ، والله أعلم بالسّرائر».

قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) مبتدأ وخبر أيضا ، جيء بهذه الجملة أيضا تأنيسا بنكاح الأمة [كما تقدّم ، والمعنى : أنّ بعضكم من جنس بعض في النّسب والدين ، فلا يدفع الحر عن نكاح الأمة ، عند الحاجة إليه ، وما أحسن قول أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه](٥) : [البسيط]

١٧٨٦ ـ والنّاس من جهة التّمثيل أكفاء

أبوهم آدم والأمّ حوّاء (٦)

والحكمة في ذكر هذه الكلمة أنّ العرب كانوا يتفاخرون (٧) بالأنساب ، فأخبر تعالى أن ذلك لا يلتفت إليه ؛ لأنّ الإيمان أعظم الفضائل ، وإذا حصل الاشتراك (٨) فيه فلا يلتفت إلى ما وراء ذلك.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ (١٨٦) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٣) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «سننه».

(٤) في أ : اعملوا.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : ديوانه (٧) ، الدر المصون ٢ / ٣٥٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٣٢ ، والكشاف ١ / ٥٠٠.

(٧) في ب : يفتخرون.

(٨) في أ : الإشراك.

٣٢٢

قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] وقال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] وكان أهل الجاهليّة يضعون من ابن الهجين فذكر تعالى هذه الكلمة زجرا لهم من أخلاق أهل الجاهليّة.

قوله (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) متعلق ب «انكحوهن» وقدّر بعضهم مضافا محذوفا أي : بإذن أهل ولايتهن (١) ، وأهل ولاية نكاحهن هم الملّاك.

فصل في نكاح الأمة بإذن سيدها

اتّفقوا على أنّ نكاح الأمة بدون إذن سيّدها باطل بهذه الآية ، فإنها تقتضي كون الإذن شرطا في جواز النّكاح ، وإن لم يكن النكاح واجبا كقوله عليه [الصّلاة و](٢) السلام : «من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (٣) فالسلم ليس بواجب ، ولكنّه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشّرائط ، ولأنّ الأمة ملك للسيّد ، وبالتّزوج تبطل عليه أكثر منافعها ؛ فوجب ألّا يجوز ذلك إلا بإذنه ، وأمّا العبد فلقوله عليه‌السلام : «إذا تزوّج العبد بغير إذن السيّد فهو عاهر».

فصل في اشتراط إذن الولي في النكاح

استدلّوا بهذه الآية على أنّه لا يصحّ نكاح الحرّة البالغة العاقلة إلّا بإذن الولي ، قالوا : لأنّ الضّمير في قوله (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) عائد إلى الإماء والأمة ذات موصوفة بالرّق ، وصفة الرّقّ صفة زائلة لا تتناول الإشارة بتلك (٤) الصّفة ، ألا ترى أنّه لو حلف لا يتكّلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلّم معه حنث ؛ فثبت أنّ الإشارة إلى الذّات الموصوفة بصفة ، عرضية زائلة باقية بعد زوال (٥) تلك الصّفة العرضية ، وإذا كان كذلك ، فوجب أن تكون الإشارة إلى الإماء باقية بعد زوال الرّقّ ، وحصول صفة الحريّة لهنّ ، وإذا ثبت أنّ ذلك في الصّورة الباقية ؛ وجب ثبوته في سائر الصّور ؛ لأنّه لا قائل بالفرق.

قال الرازيّ (٦) : هذه الآية ترد على الشافعيّ ، فإنّه يقول : لا عبارة للمرأة في النّكاح ، فإذا ملكت المرأة جارية وكلت من يزوجها ، والله تعالى شرط إذن أهلهنّ مطلقا فقد ترك [الظاهر](٧) والجواب من وجوه :

__________________

(١) في ب : ولائهن.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ١٧٥) كتاب السلم باب السلم في وزن معلوم (٢٢٤٠) ومسلم (٥ / ٥٥) وأبو داود (٣٤٦٣) والنسائي (٢ / ٢٢٦) والترمذي (١ / ٢٤٦) والشافعي (١٣١٢) وابن ماجه (٢٢٨٠) وابن الجارود في «المنتقى» (٦١٤) وأحمد (١ / ٢١٧ ، ٢٢٢ ، ٢٨٢ ، ٣٥٨) عن أبي المنهال عن ابن عباس مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(٤) في أ : إلى تلك.

(٥) في أ : الزوال.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٥٠.

(٧) سقط في أ.

٣٢٣

الأوّل : المراد بالإذن الرّضا ولا بدّ منه.

الثّاني : أنّ المراد بأهلهنّ من يقدر على نكاحهن ، فإن كانت امرأة فمولاها.

الثّالث : أنّ الأهل يتناول (١) الذكور والإناث ، لكنّه عام والأدلّة الدّالّة على المرأة لا تنكح نفسها خاصّة ، والخاصّ مقدّم وفي الحديث : «العاهر هي التي تنكح نفسها» (٢) ولذا كانت مسلوبة العبارة في [حقّ](٣) نفسها ، فهي في حقّ مملوكها أولى.

قوله تعالى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) قال بعضهم : هو المهر ، قال : والمراد به مهر المثل لقوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ) وهذا إنّما ينطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظنّ (٤) في المعتاد والمتعارف كقوله : «وعلى الوارث مثل ذلك» (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٣٣].

وقال القاضي (٥) : «المراد من [الأجور :](٦) النّفقة عليهنّ قال : لأنّ المهر مقدّر ، فلا معنى لاشتراط المعروف فيه ، فكأنّه تعالى بيّن أنّ كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها ، وكفايتها كما في حقّ الحرة ، وأكثر المفسّرين حملوا قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) على ترك المطل ، والتّأخير عند المطالبة على العادة الجميلة.

فصل في من المستحق لقبض مهر الأمة؟

نقل أبو بكر الرّازي (٧) في أحكام القرآن عن بعض أصحاب مالك ، أنّ الأمة هي المستحقّة لقبض مهرها بهذه الآية.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنّا إذا حملنا [قوله](٨) الأجور على النّفقة ، زال تمسكهم.

وثانيها : إنّما أضاف إيتاء المهور إليهن ، لأنّه ثمن بضعهن ، وليس (٩) في قوله (وَآتُوهُنَّ) ما يوجب كون المهر ملكا لهنّ.

وثالثها : ثبت (١٠) أنّها تقتضي كون المهر ملكا (١١) لهنّ ، ولكنّه عليه‌السلام قال : «العبد وما في يده [ملك](١٢) لمولاه» ، وقال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) [النحل : ٧٥] فنفى الملك عنه.

__________________

(١) في أ : وإن تبادلوا.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٠ / ٥١) بهذا اللفظ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : النظر.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٥١.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٥١.

(٨) سقط في ب.

(٩) في أ : ولا.

(١٠) في ب : هب.

(١١) في ب : الملك مهرا.

(١٢) سقط في أ.

٣٢٤

ورابعها : أنّ المهر عوض عن منافع البضع ، وهي مملوكة للسيّد.

قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه متعلّق ب (وَآتُوهُنَ) أي : آتوهن مهورهن بالمعروف.

الثّاني : أنّه حال من أجورهن أي : ملتبسات بالمعروف ، يعني : غير ممطولة (١).

الثالث : ـ أنّه متعلّق بقوله (فَانْكِحُوهُنَ) أي : فانكحوهن بالمعروف [بإذن أهلهن ومهر مثلهن ، والإشهاد عليه ، وهذا هو المعروف](٢) وقيل : في الكلام حذف تقديره : وآتوهنّ أجورهن بإذن أهلهنّ فحذف من الثّاني لدلالة الأوّل عليه ، نحو (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) [الأحزاب : ٣٥]. أي الذكرات الله.

وقيل : ثمّ مضاف مقدر أي : وآتوا مواليهن أجورهن ؛ لأنّ الأمة لا يسلّم لها شيء من المهر.

قوله تعالى (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) حالان من مفعول (فَآتُوهُنَ) ومحصنات على هذا ، بمعنى مزوجات.

وقيل : (الْمُحْصَناتِ) حال من مفعول (فَانْكِحُوهُنَّ ،) ومحصنات على هذا بمعنى عفائف ، أو مسلمات ، والمعنى : فانكحوهن حال كونهن محصنات لا حال سفاحهن واتّخاذهنّ للأخدان ، وقد تقدم أن «محصنات» بكسر الصّاد وفتحها وما معناها (٣) ، وأن (غَيْرَ مُسافِحِينَ) حال مؤكدة. و (وَلا مُتَّخِذاتِ) عطف على الحال قبله ، والأخدان مفعول بمتخذات ، لأنّه اسم فاعل ، وأخدان جمع «خدن» كعدل وأعدال. والخدن : الصّاحب.

قال أبو زيد : الأخدان : الأصدقاء على الفاحشة ، واحدهم خدن وخدين وهو الّذي يخادنك ، ورجل خدنة : إذا اتّخذ أخدانا أي : أصحابا وقد تقدّم أنّ المسافح هو المجاهر بالزّنا ، ومتخذ الأخدان هو المستتر [به](٤) ، وكان الزّنا في الجاهليّة منقسما (٥) إلى هذين القسمين ، ولم يحكموا على ذات الخدن بكونها زانية.

قوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ) قرأ (٦) نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم (٧)(أُحْصِنَ)(٨) بضمّ الهمزة وكسر الصّاد على البناء للمفعول والباقون بفتحها على

__________________

(١) في ب : غير مملوكة.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : معناهما.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : مقسما.

(٦) في أ : قراءة.

(٧) سقط في ب.

(٨) انظر : الحجة ٣ / ١٥١ ، وحجة القراءات ١٩٨ ، وإعراب القراءات ١٣٢ ، وشرح شعلة ٣٣٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٢ ، والعنوان ٨٤ ، وإتحاف ١ / ٥٠٩.

٣٢٥

البناء للفاعل ، فمعنى الأوّل أحصن بالتزويج فالمحصن بهنّ هو الزوج ، هكذا قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد (١).

ومعنى الثّانية : «وأحصن فروجهن أو أزواجهن».

وقال عمر وابن مسعود والشعبيّ والنخعيّ والسديّ : أسلمن (٢)(٣). وطعنوا في هذا الوجه بأنّه تعالى وصف الاماء بالإيمان في قوله (فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) ويبعد أن يقال : فتياتكم المؤمنات ، ثم يقال : فإذا آمن فإن حالهن كذا وكذا ، ويمكن جوابه بأنّه تعالى حكم حكمين :

الأوّل : حال نكاح الإماء فاعتبر الإيمان فيه بقوله : (فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ).

والثّاني : ما يجب عليهنّ عند إقدامهن على الفاحشة ، فذكر [حال](٤) إيمانهنّ أيضا في هذا الحكم وهو قوله تعالى (فَإِذا أُحْصِنَّ).

قوله : (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ) الفاء في «فإن» جواب «إذا» وفي «فعليهن» جواب «إن» فالشّرط الثّاني وجوابه مترتّب على وجود الأوّل ، ونظيره : إن أكلت فإن ضربت عمرا فأنت حرّ ، لا يعتق (٥) حتى يأكل أولا ، ثم يضرب عمرا ثانيا ولو (٦) أسقطت الفاء الدّاخلة على «إن» في مثل هذا التّركيب انعكس (٧) الحكم ، ولزم أن يضرب أولا ثمّ يأكل ثانيا ، وهذا يعرف من قواعد النّحو ، وهو أن الشّرط الثّاني يجعل حالا ، فيجب التّلبّس به أولا.

قوله : (مِنَ الْعَذابِ) متعلق بمحذوف ؛ لأنّه حال من الضّمير المستكن في صلة «ما» وهو «على» ، فالعامل فيها معنوي ، وهو في الحقيقة ما تعلّق به هذا الجار ، ولا يجوز أن يكون حالا من «ما» المجرورة بإضافة «نصف» إليها ؛ لأنّ الحال لا بدّ أن يعمل فيها [ما يعمل](٨) في صاحبها [إن](٩) و «نصف» هو العامل في صاحبها الخفض بالإضافة ، ولكنه لا يعمل في الحال ، لأنّه [ليس](١٠) من الأسماء العاملة إلا أنّ بعضهم يرى أنّه إذا كان

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٠١ ـ ٢٠٢) عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٥) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن أبي شيبة.

(٢) في أ : أسلم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٠٠ ـ ٢٠١) عن ابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٥) عن ابن مسعود وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني.

(٤) سقط في ب.

(٥) في أ : تعتق.

(٦) في أ : وإذا.

(٧) في أ : العكس.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

(١٠) سقط في ب.

٣٢٦

جزءا من المضاف جاز ذلك فيه ، والنصف جزء فيجوز ذلك.

فصل

في الآية إشكال ، وهو أنّ المحصنات في قوله : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) إمّا أن يكون المراد منه الحرائر المتزوّجات ، أو الحرائر الأبكار ، والسّبب في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن ، والأول مشكل ؛ لأن الواجب على الحرائر المتزوجات في الزّنا الرّجم ، فهذا يقتضي أن يجب في زنا الإماء نصف الرّجم وذلك باطل.

والثّاني وهو أن يكون المراد الحرائر الأبكار ، فنصف ما عليهنّ خمسون جلدة وهذا القدر واجب في زنا الأمة ، سواء كانت محصنة أو لم تكن ، فحينئذ يكون هذا الحكم معلقا (١) بمجرّد صدور الزّنا عنهنّ ، وظاهر الآية يقتضي كونه معلقا (٢) بمجموع الأمرين : الإحصان والزّنا ، لأنّ قوله (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) شرط بعد شرط. فيقتضي كون الحكم مشروطا بهما نصا.

فالجواب أن يختار القسم الثّاني ، وقوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) ليس المراد منه جعل هذا الإحصان شرطا لأن يجب في زناها خمسون جلدة ، بل المعنى أنّ حدّ الزّنا يغلظ عند التّزوّج فهذه إذا زنت ، وقد تزوّجت فحدّها (٣) خمسون جلدة ، لا يزيد عليه فبأن يكون قبل التزوّج هذا (٤) القدر [أيضا](٥) أولى ، وهذا مما يجري [فيه مجرى](٦) المفهوم بالنّصّ لأنّه لما خفف الحدّ لمكان الرّق عند حصول ما يوجب التّغليظ فبأن يجب هذا القدر عندما لا يوجد المغلظ (٧) أولى ، وذهب بعضهم إلى أنّه لا جلد على من لم يتزوّج من المماليك إذا زنا لقوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) وهذا مرويّ عن ابن عباس وبه قال طاووس.

ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلام ، وإن كان المراد منه التزويج ، فليس المراد منه أنّ التزويج شرط لوجوب الحدّ عليه ، بل المراد منه التّنبيه على أنّ المملوك إذا (٨) كان محصنا بالتّزويج ؛ فلا رجم عليه ، إنّما حده الجلد بخلاف الحر ، فحدّ الأمة ثابت بهذه الآية ، وبيان أنّه الجلد قوله عليه‌السلام «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ثمّ إن زنت فليجلدها ولا يثرب عليها ، ثمّ إن زنت الثّالثة ؛ فليبعها ولو بحبل من شعر» (٩).

__________________

(١) في أ : متعلقا.

(٢) في أ : معلقا.

(٣) في أ : فجلدها.

(٤) في ب : فهذا.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : التغليظ.

(٨) في ب : إن.

(٩) أخرجه البخاري (٣ / ٤٨) كتاب البيوع باب بيع العبد الزاني (٢١٥٢) وفي كتاب البيوع أيضا باب بيع المدبر (٢٢٣٤) وفي العتق باب كراهية التطاول حديث (٢٥٥٥ ، ٢٥٥٦) ومسلم في الحدود رقم (٣٠ ، ٣١) والترمذي (١٤٣٣) وأبو داود (٤٤٧٠) وابن ماجه (٢٥٦٦) وأحمد (٦ / ٦٥) وابن أبي شيبة ـ

٣٢٧

فصل في من يقيم الحد على الإماء؟

اختلفوا (١) فيمن يقيم (٢) الحدّ على العبد والأمة إذا زنيا ، قال ابن شهاب : مضت السّنّة أن يحدّ العبد والأمة أهلوهم في الزّنا ، إلّا أن يرفع أمرهم إلى السّلطان ، فليس لأحد أن يفتات عليه وقوله عليه‌السلام «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ» ، وقال عليه‌السلام : «أقيموا (٣) الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم (٤) ، ومن لم يحصن» (٥).

قال مالك : يحدّ المولى عبده في الزّنا وشرب الخمر ، والقذف إذا شهد عنده الشّهود ، ولا يقطعه في السّرقة إلّا الإمام.

وقال أبو حنيفة : «لا يقيم الحدود عليهم إلّا السّلطان».

فصل متى يحد الأمة السلطان؟

قال القرطبيّ (٦) : إذا زنت الأمة ثمّ عتقت قبل أن يحدّها سيّدها لم يحدّها إلا السّلطان ، فإن زنت ثم تزوّجت لم يكن لسيّدها أن يجلدها لحقّ الزّوج ؛ إذ قد يضرّه ذلك ، إذا لم يكن الزّوج ملكا للسّيّد ، فلو كان ملكا للسّيّد ؛ جاز ذلك لأن حقّهما حقّه.

فصل

إذا أقرّ العبد بالزّنا ، وأنكره المولى فالحدّ يجب على العبد لإقراره ، ولا يلتفت لإنكار السّيّد ، فلو عفا السّيّد عن عبده ، أو أمته إذا زنيا ، فقال الحسن : له أن يغفر (٧) وقال غيره : لا ينفعه إلّا إقامة الحدّ ، كما لا يسع السّلطان أن يعفو عن حدّ إذا علمه.

قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) «ذلك» : مبتدأ ولمن خشي : جارّ ومجرور [خبره] ، والمشار إليه ب «ذلك» إلى نكاح الأمة المؤمنة لمن عدم الطّول ، والعنت في الأصل انكسار العظم بعد الجبر ؛ فاستعير لكلّ مشّقّة.

__________________

ـ (١٤ / ١٥٩) وعبد الرزاق (١٣٦٠٠) والبيهقي (٨ / ٢٤٤) والدارقطني (٣ / ١٦٠) والطبراني (٥ / ٢٧٥) والطيالسي (١٥٢٧ ـ ١٥٢٨ ـ منحة) وابن عبد البر في «التمهيد» (٩ / ٩٧) من طرق عن زيد بن خالد وأبي هريرة وقال الترمذي : حديث أبي هريرة حسن صحيح.

وأخرجه الترمذي (٤ / ٣٧) رقم (١٤٤٠) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٩٥.

(٢) في أ : يقيم.

(٣) في أ : أقيم.

(٤) في أ : منهن.

(٥) أخرجه أحمد (١ / ١٣٥ ، ١٤٥) وأبو داود (٤٤٧٣) والطيالسي (١٤٦ ـ منحة) والبيهقي (٨ / ٢٤٥) والدارقطني (٣ / ١٥٨) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣ / ١٣٦) عن علي بن أبي طالب مرفوعا.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٩٥.

(٧) في ب : يئس له أن يعفو.

٣٢٨

قال تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي : لشدّد الأمر عليكم ، وأريد به هاهنا ما يجرّ إليه الزّنا من العذاب الدّنيويّ ، والأخرويّ.

وقال بعض المفسّرين : إنّ الشّبق الشّديد في حقّ النساء قد يؤدّي إلى اختناق (١) الرّحم ، وأمّا في حقّ (٢) الرّجال فقد يؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر والأوّل هو اللائق ببيان القرآن.

و «منكم» : حال من الضّمير في «خشي» أي : في حال كونه منكم ، ويجوز أن تكون «من» للبيان.

قوله : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ). مبتدأ وخبر لتأوله بالمصدر وهو كقوله (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] والمعنى وأن تصبروا عن نكاح الإماء متعفّفين خير لكم لما بيّنا من المفاسد الحاصلة في هذا النّكاح.

قال عليه الصلاة والسلام : «الحرائر صلاح البيت ، والإماء هلاكه» (٣).

وقال الشاعر :

١٧٨٧ ـ ومن لم يكن في بيته قهرمانة

فذلك بيت لا أبالك ضائع (٤)

وقال الآخر : [الطويل]

١٧٨٨ ـ إذا لم يكن في منزل المرء حرّة

تدبّره ضاعت مصالح داره (٥)

فصل

مذهب أبي حنيفة وأحمد : أنّ الاشتغال (٦) بالنّكاح أفضل من الاشتغال بالنّافلة ، فإن قالوا بهذا سواء كان نكاح حرّة أو نكاح أمة فهذه الآية نصّ في بطلان قولهم ، وإن قالوا : إنّا لا نرجّح نكاح الأمة على النّافلة ، فحينئذ يسقط (٧) استدلالهم.

ثم قال : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا كالمؤكّد لما ذكره ؛ لأنّ الأولى ترك هذا النّكاح يعني أنّه وإن حصل ما يقتضي المنع من هذا النّكاح إلا أنّه تعالى أباحه لاحتياجكم إليه ، فكان ذلك من باب المغفرة والرّحمة.

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢٦)

للنّاس في مثل التركيب مذاهب ، فمذهب البصريين أنّ مفعول «يريد» محذوف

__________________

(١) في أ : اعتاق.

(٢) في أ : حال.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : روح المعاني ٥ / ١٢.

(٥) تقدم.

(٦) في أ : الاستعمال.

(٧) في ب : يحصل.

٣٢٩

تقديره يريد الله تحريم ما حرّم [عليكم](١) وتحليل ما حلّل ، وتشريع ما تقدّم لأجل التّبيين لكم ، ونسبه بعضهم لسيبويه ، فمتعلّق الإرادة غير التّبيين وما عطف عليه ، وإنّما تأوّلوه بذلك ؛ لئلّا يلزم (٢) تعدّي الفعل إلى مفعوله المتأخّر عنه باللّام ، وهو ممتنع وإلى إضمار «إن» بعد اللام الزائدة.

والمذهب الثّاني ـ ويعزى أيضا لبعض البصريّين ـ : أن يقدّر الفعل الّذي قبل اللام بمصدر في محلّ رفع بالابتداء ، والجارّ بعده خبره ، فيقدر : يريد الله ليبيّن إرادة الله تعالى للتّبيين وقوله : [شعر] [الطويل]

١٧٨٩ ـ أريد لأنسى ذكرها [فكأنّما

تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل](٣)

أي : إرادتي ، وقوله تعالى (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) [الأنعام : ٧١] أي : أمرنا بما أمرنا لنسلم ، وفي هذا القول تأويل الفعل بمصدر ، من غير حرف مصدر ، وهو ضعيف نحو : «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» (٤) قالوا : تقديره : أن تسمع فلما حذف «أن» رفع الفعل وهو من تأويل المصدر لأجل الحرف المقدّر [فكذلك هذا](٥) فلام الجرّ على الأوّل في محلّ نصب لتعلقها ب «يريد» وعلى الثّاني في محلّ رفع لوقوعها خبرا.

الثالث : وهو مذهب الكوفيّين أنّ اللام هي النّاصبة بنفسها من غير إضمار «أن» ، وما بعدها مفعول الإرادة ، لأنّها قد تقام اللام مقام «أن» في : أردت وأمرت ، فيقال : أردت أن تذهب ، وأردت لتذهب ، وأمرتك لتقوم ، وأمرتك أن تقوم ؛ قال تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [الصف : ٨] ، وقال في موضع آخر : [(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ)](٦) [التوبة : ٣٢]. وقال : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٧١] وفي موضع آخر : (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) [غافر : ٦٦] وقال (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى : ١٥] أي : أن أعدل بينكم ، ومنع البصريّون ذلك ؛ لأنّ اللام ثبت بها الجرّ في الأسماء ، فلا يجوز أن ينصب بها فالنّصب عندهم بإضمار «أن» كما تقدّم.

الرّابع ، وإليه ذهب الزّمخشريّ ، وأبو البقاء (٧) : أنّ اللام زائدة ، و «أن» مضمرة بعدها ، والتّبيين مفعول [الإرادة.

قال الزمخشري : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ) يريد الله أن يبيّن ، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين ، كما](٨) زيدت في «لا أبا لك» لتأكيد إضافة الأب وهذا خارج عن أقوال البصريّين ، والكوفيين ، وفيه أن «أن» تضمر بعد اللام الزّائدة ، وهي لا تضمر فيما نصّ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : ليلازم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : مجمع الأمثال ١ / ٢٢٧.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ١٧٦.

(٨) سقط في أ.

٣٣٠

النحويون (١) بعد لام إلّا وتلك اللام للتعليل ، أو للجحود.

وقال بعضهم : اللام «لام» العاقبة كهي في قوله تعالى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢) [القصص : ٨] ولم يذكر مفعول التبيين ، بل حذفه للعلم به فقدّره بعضهم : ليبيّن لكم ما يقرّ ربّكم ، ومنه قول بعضهم إنّ الصبر عن نكاح الإماء خير.

فالأوّل قاله عطاء.

والثّاني قاله الكلبيّ. وبعضهم : ما فصّل من الشّرائع ، وبعضهم أمر دينكم ، وهي متقاربة ، ويجوز في الآية وجه آخر [حسن](٣) ؛ وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال تنازع : «يبيّن» و «يهدي» في (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ؛ لأنّ كلّا منهما يطلبه من جهة المعنى ، وتكون المسألة من إعمال الثّاني ، وحذف الضّمير من الأوّل تقديره : ليبينها لكم ويهديكم سنن الّذين من قبلكم.

والسّنّة : الطّريقة ؛ لأنّ المفسّرين نقلوا أن كلّ ما (٤) بيّن لنا تحريمه وتحليله من النّساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك أيضا في الأمم السّالفة ، أو أنه بين لكم المصالح ؛ لأنّ الشّرائع ، وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنّها متّفقة في المصلحة.

فصل

قال بعض المفسّرين (٥)(لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ) معناهما واحد وقال آخرون هذا ضعيف.

والحقّ أنّ قوله (لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أي : يميّز الحلال من الحرام ، والحسن من القبيح.

وقوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : أن الذي بيّن تحريمه ، وتحليله لنا في الآيات المتقدّمة وقد كان كذلك في شرائع [الإسلام](٦) من قبلنا ، أو يكون المراد منه (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [في](٧) بيان (٨) ما لكم فيه من المصلحة [فإنّ الشّرائع ، وإن اختلفت في نفسها إلّا أنّها متفقة في المصالح](٩).

قوله (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) قال القاضي (١٠) : معناه أنّه تعالى كما أراد منّا نفس الطّاعة ، فلا جرم بيّنها وأزال الشّبهة عنها وإذا وقع التّقصير والتّفريط منّا ؛ فيريد أن يتوب علينا ؛ لأنّ المكلف قد يطيع فيستحقّ الثّواب ، وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي في التّوبة وفي

__________________

(١) في ب : البصريون.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : كلما.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٥٤.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

(٨) في أ : إتيان.

(٩) سقط في ب.

(١٠) ينظر تفسير الرازي ١٠ / ٥٤.

٣٣١

الآية إشكال ، وهو أنّ الحقّ إمّا أن يكون قول أهل السّنّة [من أنّ فعل العبد](١) مخلوق لله [وإمّا أن الحقّ قول المعتزلة : من أنّ فعل العبد ليس مخلوق الله تعالى ؛ والآية مشكلة على القولين](٢) أمّا على الأوّل [فلأنّ](٣) كلّ ما يريده الله تعالى [فإنّه](٤) يحصل ، فإذا أراد أن يتوب علينا وأحبّ أن تحصل التّوبة لكلنا ، ومعلوم أنّه ليس لذلك ، وأمّا على القول الثّاني : فهو تعالى يريد منّا أن نتوب باختيارنا ، وفعلنا وقوله (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [ظاهره](٥) مشعر بأنّه تعالى هو الّذي يخلق التّوبة فينا.

فالجواب أن قوله (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) صريح في أنّه تعالى هو الذي يقبل التّوبة فينا والعقل يؤكّده ؛ لأنّ التّوبة عبارة عن النّدم في الماضي ، والعزم على التّرك في المستقبل ، والنّدم والعزم من باب الإرادات ، والإرادة لا يمكن إرادتها وإلا لزم التّسلسل ؛ فإذن الإرادة يمتنع أن تكون فعل الإنسان فعلمنا أن هذا النّدم والعزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى فدلّ البرهان العقليّ على صحّة ما أشعر به القرآن ، وهو أنّه تعالى [هو](٦) الذي يتوب علينا.

وإن قالوا : لو تاب علينا لحصلت هذه التّوبة [لهم فزاد هذا الإشكال والله أعلم](٧).

فنقول : قوله تعالى (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) خطاب مع الأمّة ، وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيّات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التّوبة لهم فزال الإشكال والله أعلم.

[ثم قال (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي :](٨) [عليم](٩) بمصالح عباده حكيم في أمر دينهم ودنياهم وحكيم فيما دبّر من أمورهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)(٢٧)

قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) زعم بعضهم أنّ [في] قوله (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) تكريرا لقوله (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) المعطوف على التّبيين.

قال عطيّة (١٠) : وتكرار إرادة الله تعالى التّوبة على عباده تقوية للإخبار الأوّل وليس القصد في الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشّهوات فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد إرادة مبتغي الشّهوات ، وهذا الذي قاله إنّما يتمشّى على أنّ المجرور باللام في قوله (لِيُبَيِّنَ) مفعول به للإرادة لا على كونه علّة ، وقد تقدّم أنّ ذلك قول الكوفيّين ،

__________________

(١) (٢) (٣) (٤) (٥) (٦) (٧) سقط في ب.

(٨) (٩) سقط في ب.

(١٠) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠.

٣٣٢

وهو ضعيف ، وقد ضعّفه هو أيضا ، إذا تقرر هذا فنقول : لا تكرار في الآية ؛ لأن تعلّق الإرادة بالتّوبة في الأوّل على جهة العلّيّة ، وفي الثّاني على جهة المفعوليّة ، فقد اختلف المتعلقان.

وقوله (وَيُرِيدُ الَّذِينَ) بالرّفع عطفا على (وَاللهُ يُرِيدُ) عطف جملة على جملة اسميّة ، ولا يجوز أن ينصب لفساد المعنى ؛ إذ يصير التّقدير : والله يريد أن يتوب ، ويريد أن يريد الذين ، واختار الرّاغب : أنّ الواو للحال تنبيها على أنّه يريد التّوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجملة الأولى ، وتأخيره في الثّانية ؛ ليبيّن أنّ الثّاني ليس على العطف ، وقد ردّ عليه بأنّ إرادة الله التّوبة ليست مقيّدة بإرادة غيره الميل ، و [بأن](١) الواو باشرت المضارع المثبت ، وأتى بالجملة الأولى اسميّة دلالة على الثّبوت ، وبالثّانية فعلية دلالة على الحدوث (٢).

فصل في تحليل المجوس لما حرم الله تعالى

قيل : إنّ المجوس كانوا يحلّون الأخوات ، وبنات الإخوة والأخوات ، فلما حرمهنّ الله تعالى قالوا إنك تحلّون بنت الخالة والعمّة ، والخالة والعمة حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ (٣) والأخت فنزلت هذه الآية.

وقال السّدّيّ : المراد بالّذين يتبعون الشّهوات هم اليهود والنّصارى (٤).

وقال مجاهد هم الزّناة يريدون أن يميلوا عن الحقّ فيزنون كما يزنون (٥).

وقيل : هم جميع أهل الباطل (٦).

فصل

قالت المعتزلة قوله (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) يدلّ على أنه تعالى يريد التوبة من الكلّ والطّاعة من الكلّ.

وقال أهل السّنّة : هذا محال ؛ لأنّه تعالى علم من الفاسق أنّه لا يتوب ، وعلمه بأنّه لا يتوب مع توبته ضدان ، وذلك العلم ممتنع الزّوال مع وجود أحد الضّدّين ، وكانت إرادة ضدّ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : الحدث.

(٣) في ب : الأخت.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢١٣) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢١٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢١٤) عن ابن زيد.

٣٣٣

الآخر إرادة لما علم كونه محالا ، وذلك محال ، وأيضا فإنّه تعالى إذا كان يريد التّوبة من الكلّ ، ويريد الشّيطان أن تميلوا ميلا عظيما ، ثمّ يحصل مراد الشّيطان لا مراد الرحمن ، فحينئذ نفاذ الشيطان في ملك الرحمن أتمّ من نفاذ الرحمن في ملك نفسه ، وذلك محال ؛ فثبت أن قوله (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) خطاب مع قوم معينين حصلت هذه التّوبة لهم.

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)(٢٨)

في هذه الجملة احتمالان :

أصحّهما : أنّها مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب.

والثّاني : أنّها حال من قوله (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) العامل فيها يريد أي : والله يريد أن يتوب عليكم يريد أن يخفف عنكم ، وفي هذا الإعراب نظر من وجهين :

أحدهما : أنّه يؤدّي إلى الفصل بين الحال ، وبين عاملها بجملة معطوفة على جملة العامل في الحال في ضمير تلك الجملة المعطوف عليها ، والجملة المعطوفة وهي (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ) جملة أجنبيّة (١) من الحال وعاملها.

والثّاني : أنّ الفعل الذي وقع حالا رفع الاسم الظّاهر فوقع الرّبط بالظاهر ؛ لأن (يُرِيدُ) رفع اسم الله ، وكان من حقّه أن يرفع ضميره ، والرّبط بالظّاهر إنّما وقع بالجملة الواقعة خبرا أو وصلة ، أمّا الواقعة حالا وصفة فلا ، إلا أن يرد به سماع ، ويصير هذا الإعراب نظير : «بكر يخرج يضرب بكر خالدا» ولم يذكر مفعول التخفيف فهو (٢) محذوف ، فقيل تقديره : يخفف عنكم تكليف النظر ، وإزال الحيرة ، وقيل : إثم ما يرتكبون ، وقيل : عام في جميع أحكام الشرع وقد سهل علينا كما قال تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (٣) [الأعراف : ١٥٧] وقال عليه‌السلام : «بعثت بالحنيفية السمحة». وقال (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: ١٨٥] وقال (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وقال مجاهد ومقاتل : المراد به [إباحة](٤) نكاح الأمة عند الضرورة (٥).

قوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) والمعنى أنه لضعفه خفف تكليفه ، والأقرب أن يحمل هذا الضعف على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة لا على ضعيف الخلقة [لأن ضعيف الخلقة](٦) لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في

__________________

(١) في ب : اسمية.

(٢) في ب : وهو.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢١٥) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٦) سقط في أ.

٣٣٤

الخلقة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف ، فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها لا لضعف البدن.

قال طاوس والكلبي وغيرهما : في أمر النساء لا يصبر عنهن (١).

وقال ابن كيسان : خلق الله الإنسان ضعيفا أي بأن تستميله شهوته.

وقال الحسن : المراد ضعيف الخلقة وهو أنه [خلقه](٢) من ماء مهين (٣). وقال تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) [الروم : ٥٤].

فصل

وفي نصب ضعيفا أربعة أوجه :

أظهرها : أنه حال من الإنسان وهي حال مؤكدة.

والثاني : ـ كأنه تمييز قالوا : لأنه يصلح لدخول «من» وهذا غلط.

الثالث : ـ أنه على حذف حرف الجر ، والأصل : خلق من شيء ضعيف ، أي : من ماء مهين ، أو من نطفة ، فلما حذف الموصوف وحرف الجر وصل الفعل إليه بنفسه فنصبه.

الرابع : ـ وإليه أشار ابن عطية (٤) ، أنه منصوب على أنه مفعول ثان ب «خلق» قالوا : ويصح أن يكون خلق بمعنى «جعل» فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى المفعولين فيكون قوله «ضعيفا» مفعولا ثانيا ، وهذا الذي ذكره غريب لم نرهم نصّوا على أن خلق يكون ك «جعل» فيتعدى لاثنين مع حصرهم الأفعال المتعدية للاثنين ، ورأيناهم يقولون : إن «جعل» إذا كان بمعنى «خلق» تعدت لواحد(٥).

فصل

روي عن ابن عباس أنه قال : ثماني آيات في سورة النساء خير لهذه (٦) الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦](وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) و (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء :

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٧) وعزاه للخرائطي في «اعتلال القلوب» عن طاوس.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢١٥ ـ ٢١٦) عن طاوس بلفظ مختلف وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) سقط في ب.

(٣) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٢٣٧) عن الحسن.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤١.

(٥) في أ : تعدي لواحد.

(٦) في أ : بهذه.

٣٣٥

٣١](إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)(١) [النساء : ٤٨](إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ)(٢)(مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] ، (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] و (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) [النساء : ١٤٧].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)(٢٩)

في كيفية النظم وجهان :

أحدهما : أنه تعالى لما ذكر كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر كيفية التصرف في الأموال.

الثاني : لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإبقاء المهور بين بعد ذلك كيفية التصرف في الأموال ، وخص الأكل بالذكر دون غيره من التصرفات لأنه المقصود الأعظم من الأموال ؛ لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] واختلفوا في تفسير الباطل فقيل هو الربا والغصب والقمار والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ، وعلى هذا تكون الآية مجملة لأنه يصير التقدير : لا تأكلوا أموالكم التي حصلتموها بطريق غير مشروع ، ولم يذكر هاهنا الطريقة المشروعة (٣) على التفصيل فصارت الآية مجملة.

وروي عن ابن عباس والحسن أن الباطل هو ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض (٤) وعلى هذا لا تكون الآية مجملة لكن قال بعضهم : إنها منسوخة ، قال لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا وشق ذلك على الخلق. فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في سورة النور (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ)(٥) [النور : ٦١] وأيضا إنما هو تخصيص ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة(٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢١١) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٦) وزاد نسبته لا بن أبي الدنيا في «التوبة» والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : هاهنا الطريق المشروع.

(٤) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٢٤٠) عن ابن عباس والحسن.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢١٨) عن عكرمة والحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٧) وعزاه للطبري فقط.

(٦) أخرجه الطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٦) وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (٢ / ٢٥٧) بسند صحيح كما قال السيوطي وقال الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٦) : رواه الطبراني ورجاله ثقات.

٣٣٦

وقيل : المراد بالباطل [هو](١) العقود الفاسدة ، وقوله (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [يدخل فيه أكل مال الغير بالباطل](٢) وأكل مال نفسه بالباطل فيدخل فيه القسمان معا كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يدل على النهي عن قتل غيره وقتل نفسه أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله تعالى ، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه.

قوله (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) في هذا الاستثناء قولان :

أصحهما : أنه استثناء منقطع لوجهين :

أحدهما : أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها سواء فسرنا الباطل بغير عوض ، أو بغير طريق شرعي.

والثاني : أن المستثنى كون ، والكون ليس مالا من الأموال.

الثالث (٣) : أنه متصل قيل : لأن المعنى لا تأكلوها بسبب إلا أن تكون تجارة.

قال أبو البقاء (٤) : وهو ضعيف ؛ لأنه قال : بالباطل ، والتجارة ليست من جنس الباطل ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره : إلا في حال كونها تجارة ، أو في وقت كونها تجارة انتهى. ف «أن» تكون في محل نصب على الاستثناء ، وقد تقدم تحقيقه.

وقرأ الكوفيون (٥) تجارة نصبا (٦) على أن كان ناقصة ، واسمها مستتر فيها يعود على الأموال ، ولا بد من حذف مضاف من «تجارة» تقديره : إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ، ويجوز أن يفسر الضمير بالتجارة بعدها أي : إلا أن تكون التجارة تجارة كقوله : [الطويل]

١٧٩٠ ـ ..............

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا (٧)

أي إذا كان اليوم يوما ، واختار أبو عبيدة قراءة الكوفيين ، وقرأ الباقون (٨) «تجارة» رفعا على أنها «كان» التامة قال مكي (٩) : وأكثر كلام العرب أن قولهم (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) في هذا الاستثناء بغير ضمير فيها يعود على معنى : يحدث ويقع ، وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة.

وقوله : (عَنْ تَراضٍ) متعلق بمحذوف لأنه صفة ل «تجارة» فموضعه رفع أو نصب

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : والثاني.

(٤) ينظر : الإملا ١ / ١٧٧.

(٥) يعني حمزة والكسائي وعاصم.

انظر : السبعة ٢٣١ ، والحجة ٣ / ١٥١ ، ١٥٢ ، وحجة القراءات ١٩٩ ، والعنوان ٨٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣١ ، ١٣٢ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٠٣ ، وإتحاف ١ / ٥٠٩.

(٦) في ب : بالنصب.

(٧) تقدم.

(٨) ينظر : القراءة السابقة.

(٩) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٥٤.

٣٣٧

على حسب القراءتين ، وأصل «تراض» «تراضو» بالواو ؛ [لأنه مصدر تراضى تفاعل من رضي ، ورضي من ذوات الواو بدليل الرضوان ، وإنما تطرفت الواو بعد كسرة](١) فقلبت ياء فقلت : تراضيا ، و «منكم» صفة لتراض ، فهو محل جر و «من» لابتداء الغاية.

فصل

والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الأجر الذي يعطيه الله تعالى للعبد عوضا من الأعمال الصالحة.

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] وقال (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر : ٢٩] وقال (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١] ، فسمى ذلك كله بيعا وشراء على وجه المجاز ، تشبيها بعقود المبيعات التي تحصل بها الأغرار.

فصل : كل معاوضة تجارة

اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض ، إلا أن قوله تعالى (بِالْباطِلِ) أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا وغيره أو عوض فاسد كالخمر ، والخنزير ، وغير ذلك ، ويخرج أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه كالقرض والصدقة ، والهبة ، لا للثواب ، وجازت عقود التبرعات بأدلة أخر ، وخرج منها دعاأ أخيك إياك إلى طعامه ، بآية النور ، على ما سيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ.

فصل

قال القرطبي (٢) : لو اشتريت في السوق شيئا فقال لك صاحبه قبل الشراء ذقه ، وأنت في حل ، فلا تأكل منه ؛ لأن إذنه في الأكل لأجل الشراء ، فربما لا يقع بينكم بيع ، فيكون ذلك شبهة ، لكن لو وصف لك صفة فاشتريت ، فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار.

فصل

قوله (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي : بطيبة نفس كل واحد منكم على الوجه المشروع.

وقيل هو أن يخير كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع ، فيلزم وإلا فلهما الخيار ما لم يتفرقا لقوله عليه‌السلام : «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» (٣) أو يخير كل واحد

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٠٠.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ١٢٣) كتاب البيوع باب إذا بين البيعان ... (٢٠٧٩) وباب : ما يمحق الكذب (٢٠٨٢) وباب كم يجوز الخيار (٢١٠٨) وباب البيعان بالخيار (٢١١٠) ومسلم (٥ / ١٠) وأبو داود (٣٤٦٩) والنسائي (٢ / ٢١٢) والترمذي (١ / ٢٣٥) والدارمي (٢ / ٢٥٠) والشافعي (١٢٥٩) والطحاوي ـ

٣٣٨

منهما صاحبه متبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع ، واعلم : أنه كما يحل المستفاد من التجارة ، فقد يحل أيضا المال المستفاد من الهبة ، والوصية والإرث ، والصدقة ، والمهر ، وأروش الجنايات ، فإن أسباب المال كثيرة سوى التجارة.

فإن قلنا : الاستثناء منقطع ، فلا إشكال ؛ لأنه تعالى ذكر هاهنا شيئا واحدا ، من أسباب الملك ، ولم يذكر غيره بنفي ، ولا إثبات.

وإن قلنا : الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل ، وعلى هذا لا بد من النسخ ، والتخصيص.

فصل

ذهب بعض العلماء إلى أن النهي في المعاملات يقتضي البطلان ، وقال أبو حنيفة : لا يدل عليه واحتج الأولون بوجوه :

أحدها : أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى ، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات ، كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الإنسان وكيلا في بعض التصرفات ، ثم إن الوكيل تصرف على خلاف قول الموكل ، فذلك غير منعقد ، فإذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد ، فالتصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد بطريق الأولى.

وثانيها : أن التصرفات الفاسدة ؛ إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود أولا ، فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات (١) الفاسدة ، والجامع السعي في ألا يدخل منشأ النهي في الوجود ، وإن كان الثاني ؛ وجب القول بصحتها قياسا على التصرفات الصحيحة ، والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسدة ، فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين ، فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ، ولا باطلا ، فهو محال.

وثالثها : أن قوله : «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين» (٢) كقوله : «لا تبيعوا الحر بالعبد» فكما أن هذا نهي في اللفظ ، لكنه نسخ للشرعية [فكذا الأول ، وإذا كان نسخا للشرعية](٣) ، بطل كونه مفيدا للحكم.

__________________

ـ في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٢٠٢) والبيهقي (٥ / ٢٦٩) والطيالسي (١٣٣٩) وأحمد (٣ / ٤٠٢ ، ٤٠٣ ، ٤٣٤) كلهم من حديث حكيم بن حزام مرفوعا. وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(١) في أ : التصرف.

(٢) أخرجه مسلم كتاب المساقاة ب ١٤ رقم (٧٨) وأحمد (٢ / ١٠٩) والبيهقي (٥ / ٢٧٨) والشافعي في «مسنده» (١٨١) وابن عبد البر في «التمهيد» (٢ / ٢٤٥).

(٣) سقط في ب.

٣٣٩

قوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قرأ علي (١) ـ رضي الله عنه ـ : «تقتلوا» بالتشديد على التكثير ، والمعنى لا يقتل بعضكم بعضا ، وإنما قال (أَنْفُسَكُمْ) لقوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمنون كنفس واحدة» (٢) ولأن العرب يقولون «قتلنا ورب الكعبة» إذا قتل بعضهم ؛ لأن قتل بعضهم ، يجري مجرى قتلهم.

فإن قيل : المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه ، لأنه ملجأ إلى ألا يقتل نفسه ، لأن الصارف عنه قائم ، وهو الألم الشديد ، والذم العظيم ، والصارف عنه في الآخرة قائم وهو استحقاق العذاب العظيم.

إذا كان كذلك ، لم يكن للنهي عنه فائدة ، وإنما يمكن هذا النهي ، فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند ، وذلك لا يتأتى من المؤمن.

فالجواب : أن المؤمن مع (٣) إيمانه ، قد يلحقه من الغم ، والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك ، ولذلك نرى كثيرا من المسلمين يقتلون أنفسهم ، بمثل السبب الذي ذكرناه ، ويحتمل أن معناه لا تفعلوا ما تستحقون به القتل كالزنا بعد الإحصان والردة ، وقتل النفس المعصومة ، ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ، ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة ، أو محنة حيث لم يأمرهم بقتلهم أنفسهم كما أمر به بني إسرائيل ليكون توبة لهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما ، حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(٣٠)

قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) «من» شرطية [مبتدأ](٤) ، والخبر «فسوف» والفاء هنا واجبة لعدم صلاحية الجواب للشرط ، و «ذلك» إشارة إلى قتل الأنفس قال الزجاج (٥) : يعود إلى قتل الأنفس ، وأكل المال بالباطل ؛ لأنهما مذكوران في آية واحدة.

وقال ابن عباس (٦) : إنه يعود على كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع ، وقال الطبري : «ذلك» عائد على (٧) ما نهي عنه من آخر وعيد وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] ؛ لأن كل ما ينهى عنه من أول السورة قرن به وعيد ، إلا من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) فإنه لا وعيد بعده إلا قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً) [النساء : ٣٠]

__________________

(١) وقرأ بها الحسن.

انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٢ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٤٢ ، والدر المصون ٢ / ٣٥٤.

(٢) تقدم.

(٣) في أ : من.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٥٩.

(٦) ينظر السابق.

(٧) في أ : هذا غاية.

٣٤٠