اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وثق به ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) وهذا جار مجرى العلة الباعثة على التوكّل عند الأخذ في كل الأمور ، وهذه الآية تدل على أنه ليس التوكّل أن يهمل نفسه ـ كقول بعض الجهّال ـ وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا [للأمر بالتوكل] ، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها ، بل يعوّل على عصمة الحقّ.

فصل

التوكل : الاعتماد على الله تعالى مع إظهار العجز ، والاسم : التّكلان ، يقال منه : اتكلت عليه في أمري وأصله : اوتكلت ، قلبت الواو ياء ، لانكسار ما قبلها ، ثم أبدلت منها التاء ، وأدغمت في تاء الافتعال ، ويقال : وكّلته بأمري توكيلا ، والاسم : الوكالة ـ بكسر الواو وفتحها ـ.

قوله تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٦٠)

قوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) شرط وجوابه ، وكذلك قوله : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي) وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ـ كذا قاله أبو حيان. يعني من الغيبة في قوله : (لِنْتَ لَهُمْ) وقوله : (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وقوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ) قال شهاب الدين : وفيه نظر. وجاء قوله : (فَلا غالِبَ لَكُمْ) جوابا للشرط ، وهو نفي صريح ، وقوله : (فَمَنْ ذَا الَّذِي) ـ وهو متضمن للنفي ـ جواب للشرط الثاني ، تلطفا بالمؤمنين ، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول ، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام ـ وإن كان معناه نفيا.

وقوله : (فَمَنْ ذَا الَّذِي) قد تقدم مثله في البقرة (١).

والهاء ـ في قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) ـ فيها وجهان :

أحدهما ـ وهو الأظهر ـ : أنها تعود على «الله» تعالى ، وفيه احتمالان :

الأول : أن يكون ذلك على حذف مضاف ، أي : من بعد خذلانه.

الثاني : أنه لا يحتاج إلى ذلك ، ويكون معنى الكلام : إنكم إذا جاوزتموه إلى غيره ـ وقد خذلكم ـ فمن يجاوزه إليه وينصركم؟

ثانيهما : أن يعود على الخذلان المفهوم من الفعل ، وهو نظير قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

قوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) يعنكم ويمنعكم من عدوكم (فَلا غالِبَ لَكُمْ) مثل يوم بدر (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) يترككم كما كان بأحد ـ لم ينصركم أحد. والخذلان : القعود عن

__________________

(١) آية : ٢٥٥.

٢١

النصرة. قراءة الجمهور (يَخْذُلْكُمْ) ـ بفتح الياء ـ من خذله ـ ثلاثيا ـ.

وقرأ عمرو بن عبيد : «يخذلكم» ـ بضم الياء (١) ـ من أخذل ـ رباعيا ـ والهمزة فيه لجعل الشيء ، أي : إن يجعلكم مخذولين ، والخذل والخذلان ـ ضد النصر ـ وهو ترك من يظن به النّصرة ، وأصله من خذلت الظبية ولدها ـ إذا تركته منفردا ـ ولهذا قيل لها : خاذل ويقال للولد المتروك ـ أيضا ـ : خاذل ، وهذا على النّسب ، والمعنى : أنّها مخذولة.

قال الشاعر : [البسيط]

١٦٨١ ـ بجيد مغزلة أدماء خاذلة

من الظّباء تراعي شادنا خرقا (٢)

ويقال له ـ أيضا ـ : خذول ، فعول بمعنى مفعول.

قال الشاعر : [الطويل]

١٦٨٢ ـ خذول تراعي ربربا بخميلة

تناول أطراف البرير وترتدي (٣)

ومنه يقال : تخاذلت رجلا فلان.

قال الأعشى : [الرمل]

١٦٨٣ ـ بين مغلوب كريم جدّه

وخذول الرّجل من غير كسح (٤)

ثم قال : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فقدم الجارّ إيذانا بالاختصاص ، أي : ليخص المؤمنون ربّهم بالتوكل عليه والتفويض له ؛ لعلمهم أنه لا ناصر لهم سواه. وهو معنى حسن ، ذكره الزمخشريّ.

فصل

احتجوا ـ بهذه الآية ـ على أن الإيمان لا يحصل إلا بإعانة الله ، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه ؛ لأن الآية دالة على أن الأمر كلّه لله.

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٦١)

(أَنْ يَغُلَ) في محل رفع ، اسم كان و «لنبيّ» خبر مقدّم ، أي : ما كان له غلول أو إغلال على حسب القراءتين.

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٠٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٤٧.

(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر ديوانه ٣٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٨٨ وأشعار الشعراء الستة الجاهليين ١ / ٣٠٤ والدر المصون ٢ / ٢٤٨.

(٣) البيت لطرفة بن العبد ينظر ديوانه (٩) وشرح المعلقات ١٣٨ والبحر ٣ / ٨٨ وأشعار الشعراء الستة الجاهليين ٢ / ٤١ ومقاييس اللغة ٢ / ١٦٥ واللسان (خذل) وشرح القصائد السبع ص ١٤١ والدر المصون ٢ / ٢٤٨.

(٤) ينظر ديوانه ٢٤٣ وتاج العروس ٧ / ٣٠١ وأساس البلاغة ص ١٥٦ و ٥٤٣ والمفردات في غريب القرآن ص ١٤٥ ومقاييس اللغة ٢ / ١٦٦ والدر المصون ٢ / ٢٤٨.

٢٢

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، بفتح الياء وضم الغين (١) ـ من غل ـ مبنيا للفاعل ، ومعناه : أنه لا يصح أن يقع من النبي غلول ؛ لتنافيهما ، فلا يجوز أن يتوهّم ذلك فيه ألبتة.

وقرأ الباقون «يغلّ» مبنييا للمفعول ، وهذه القراءة فيها احتمالان :

أحدهما : أن يكون من «غلّ» ثلاثيا ، والمعنى : ما صح لنبيّ أن يخونه غيره ويغلّه ، فهو نفي في معنى النهي ، أي : لا يغلّه أحد.

ثانيهما : أن يكون من «أغلّ» رباعيا ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون من «أغلّه» أي : نسبه إلى الغلول ، كقولهم : أكذبته ـ إذا نسبته إلى الكذب ـ وهذا في المعنى كالذي قبله ، أي : نفي في معنى النهي ، أي : لا ينسبه أحد إلى الغلول.

قال ابن قتيبة : ولو كان المراد هذا المعنى لقيل : يغلّل كما يقال : يفسّق ، ويخوّن ، ويفجّر ، والأولى أن يقال : إنه من «أغللته» أي : وجدته غالا ، كما يقال : أبخلته».

الثاني : أن يكون من «أغلّه» أي : وجده غالّا ، كقولهم : أحمدتّ الرّجل وأبخلته ، أي : وجدته محمودا وبخيلا.

والظاهر أن قراءة «يغلّ» بالبناء للفاعل ـ لا يقدّر فيها مفعول محذوف ؛ لأن الغرض نفي هذه الصفة عن النبيّ من غير نظر إلى تعلق بمفعول ، كقولك : هو يعطي ويمنع ـ تريد إثبات هاتين الصفتين ، وقدر له أبو البقاء مفعولا ، فقال : تقديره أن يغل المال أو الغنيمة.

واختار أبو عبيد والفارسي قراءة البناء للفاعل قالا : «لأن الفعل الوارد بعد «ما كان لكذا أن يفعل» أكثر ما يجيء منسوبا إلى الفاعل نحو : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) [آل عمران : ١٤٥] ، (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) [آل عمران : ١٧٩] و (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ) [يوسف : ٣٨](ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ) [يوسف : ٧٦](وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) [التوبة : ١١٥](وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩] ويقال : ما كان ليضرب ، فوجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب ويأكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة ، وقال : ليس في الكلام ما كان لك أن تقرب ـ بضم التاء ، وأيضا فهذه القرءة اختيار ابن عباس ، فقيل له : إن ابن مسعود يقرأ : يغل فقال ابن عباس : كان النبيّ يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة.

قال شهاب الدين : ورجحها بعضهم بقوله : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَ) فهذا يوافق

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٨ ، والحجة ٣ / ٩٤ ، وحجة القراءات ١٧٩ ، ١٨٠ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٢ ، والعنوان ٨١ ، وشرح شعلة ٣٢٥ ، وإتحاف ١ / ٤٩٣.

٢٣

هذه القراءة. ولا حجة في ذلك ؛ لأنها موافقة للأخرى.

و «الغلول» في الأصل تدرع الخيانة وتوسطها و «الغلل» تدرّع الشيء وتوسطه ، ومنه «الغلل» للماء الجاري بين الشجر.

والغلّ الحقد ؛ لكمونه في الصدر ، وتغلغل في كذا إذا دخل فيه وتوسطه ، قال : [الوافر]

١٦٨٤ ـ تغلغل حيث لم يبلغ سراب

ولا حزن ولم يبلغ سرور

قيل : تغلغل الشيء إذا تخلل بخفية.

قال : [الوافر]

١٦٨٥ ـ تغلغل حبّ ميّة في فؤادي

والغلالة : الثوب الذي يلبس تحت الثياب ، والغلول الذي هو الأخذ في خفية مأخوذ من هذا المعنى.

ومنه : أغل الجازر ـ إذا سرق ، وترك في الإهاب شيئا من اللحم. وفرّقت العرب بين الأفعال والمصادر ، فقالوا : غلّ يغلّ غلولا ـ بالضم في المصدر والمضارع ـ إذا خان. وغلّ يغلّ غلّا ـ بالكسر فيهما ـ الحقد قال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [الأعراف : ٤٣] أي : حقد.

قال القرطبيّ : «والغالّ : أرض مطمئنة ، ذات شجر ، ومنابت الساج والطلح ، يقال لها : غال. والغال ـ أيضا : نبت ، والجمع : غلّان ـ بالضم».

فصل

اختلفوا في أسباب النزول : فروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنم في بعض الغزوات ، وجمع الغنائم ، وتأخرت القسمة ؛ لبعض الموانع ، وقالوا : ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم درهما ، أتحسبون أنّي أغلّكم مغنمكم (١). فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل : الآية نزلت في أداء الوحي ، كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ القرآن ، وفيه عيب دينهم وسبّ آلهتهم ، فسألوه أن يترك ذلك ، فنزلت.

وروى عكرمة وسعيد بن جبير : أن الآية نزلت في قطيفة حمراء ، فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس (٢) : لعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها ، فنزلت الآية (٣).

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٥٧).

(٢) في أ : الجهال.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠) عن عكرمة وسعيد بن جبير. ـ

٢٤

وروي ـ من طريق آخر ـ عن ابن عباس : أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغنائم بشيء زائد ، فنزلت الآية (١).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث طلائع ، فغنموا غنائم ، فقسمها ولم يقسّم للطلائع ، فنزلت الآية (٢).

وقال الكلبيّ ومقاتل : نزلت هذه الآية في غنائم أحد ، حين ترك الرّماة المركز ؛ طلبا للغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أخذ شيئا فهو له ، وأن لا يقسم الغنائم ـ كما لم يقسّمها يوم بدر ـ فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم أقل لكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ قالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل ظننتم أن نغلّ ، فلا نقسم ، فنزلت الآية (٣).

وقيل : إن الأقرباء ألحّوا عليه يسألونه من المغنم ، فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) فيعطي قوما ، ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بينهم بالسّويّة.

هذه الأقوال موافقة للقراءة الأولى.

وأما ما يوافق القراءة الثانية فروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وقعت غنائم هوازن في يده يوم حنين ، غلّ رجل بمخيط ، فنزلت هذه الآية.

وقال قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه.

قوله : (وَمَنْ يَغْلُلْ) الظاهر أن هذه الجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي للردع عن الإغلال ، وزعم أبو البقاء أنها يجوز أن تكون حالا ، ويكون التقدير : في حال علم الغالّ بعقوبة الغلول.

وهذا ـ وإن كان محتملا ـ بعيد.

و «ما» موصولة بمعنى الذي ، فالعائد محذوف أي : غلّه ، ويدل على ذلك الحديث : أنّ أحدهم يأتي بالشيء الذي أخذه على رقبته.

ويجوز أن تكون مصدرية ، ويكون على حذف مضاف ، أي : بإثم غلوله.

__________________

ـ وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٦١) عن سعيد بن جبير وزاد نسبته لعبد بن حميد.

والحديث أخرجه الترمذي كتاب التفسير باب سورة آل عمران (٣٠١٠) من طريق مقسم عن ابن عباس وقال حديث غريب.

(١) انظر «تفسير الرازي» (٩ / ٥٧) عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٥١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٦٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة من طريق سلمة بن نبيط عن الضحاك.

(٣) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٥٧).

٢٥

فصل

قال أكثر المفسّرين : إن هذه الآية على ظاهرها ، قالوا : وهو نظير قوله في مانع الزكاة : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) [التوبة : ٣٥] ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة لها ثغاء ، فينادي يا محمّد ، يا محمّد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد بلّغتك» (١).

وعن ابن عباس أنه قال : يمثّل له ذلك الشيء في قعر جهنم ، ثم يقال له : انزل إليه فخذه ، فينزل إليه ، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره ، فلا يقبل منه (٢).

قال المحققون : وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامة ، وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته.

وقال أبو مسلم : ليس المقصود من الآية ظاهرها ، بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل ، كقوله تعالى : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) [لقمان : ١٦] فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهر ، بل المقصود إثبات أن الله لا يغرب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرة في الأرض ، ولا في السماء ، فكذا هنا المقصود تشديد الوعيد ، والمعنى : أن الله يحفظ عليه هذا الغلول ، ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية.

وقال الكعبيّ : المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء.

قال ابن الخطيب : والأول أولى ؛ لأنه حمل الكلام على حقيقته.

وقيل : معنى : (يَأْتِ بِما غَلَ) أي : يشهد عليه يوم القيامة بتلك الخيانة والغلول.

فصل

قال القرطبيّ : دلّت هذه الآية على أن الغلول من الغنيمة كبيرة من الكبائر ، ويؤيده ما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ـ في مدعم ـ : «والّذي نفسي بيده إنّ الشّملة الّتي أخذ يوم خيبر من المغانم ولم تصبها المقاسم ـ لتشتعل عليه نارا». فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «شراك أو شراكان من نار» (٣) وامتناعه من الصلاة

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ١٢٩) كتاب الجهاد والسير باب الغلول (٣٠٧٣) ومسلم (٢ / ٨٣) وأحمد (٢ / ٣٢٦) والبيهقي (٩ / ١٠١) وفي «شعب الإيمان (٤٣٣٠).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٦٣) وزاد نسبته لابن أبي شيبة.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٣٦٧) عن الكلبي.

(٣) أخرجه البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر (٣٨) ومسلم كتاب الإيمان (١) باب غلظ تحريم الغلول (٤٦) ومالك في «الموطأ» (٤٥٩) وأبو عوانة (١ / ٥٠) والنسائي (٧ / ٢٤) والبيهقي (٩ / ١٠٠ ، ـ

٢٦

على من غلّ دليل على تعظيم الغلول ، وتعظيم الذنب فيه ، وأنه من الكبائر ، وهو من حقوق الآدميين ، ولا بدّ فيه من القصاص بالحسنات والسيئات ، ثم صاحبه في المشيئة وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شراك أو شراكان من نار» مثل قوله : «أدّوا الخياط والمخيط» (١) وهذا يدل على أن القليل والكثير لا يحلّ أخذه في الغزو قبل المقاسم ، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو والاحتطاب والاصطياد.

فصل

قال القرطبيّ : أجمع العلماء على أنه يجب على الغالّ أن يرد ما غله إلى صاحب المقاسم قبل أن ينصرف الناس ـ إذا أمكنه ـ فذلك توبته. واختلفوا فيما يفعل به إذا افترق أهل العسكر ولم يصل إليه ، فقال جماعة من أهل العلم : يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي ـ وكذا كل مال لا يعرف صاحبه فإنه يتصدق به ـ وقال الشافعيّ : ليس له الصدقة بمال غيره.

فصل

اختلفوا هل يعاقب الغالّ بإحراق متاعه؟ قال مالك والشافعيّ وأبو حنيفة وأصحابهم والليث : لا يحرق متاعه.

وقال الشافعيّ : إن كان عالما بالنهي عوقب.

وقال الأوزاعيّ : يحرق متاع الغال كلّه إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه ، ولا ينزع منه دابته ، ولا يحرق الشيء الذي غلّ ، وهذا قول أحمد وإسحاق ، وقال الحسن : إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا.

فصل

في العقوبة بالمال ، قال مالك ـ في الذّمّيّ الذي يبيع الخمر من المسلم ـ يراق الخمر على المسلم ، وينزع الثمن من الذميّ ؛ عقوبة له ؛ لئلّا يبيع الخمر بين المسلمين ، وقد أراق عمر ـ رضي الله عنه ـ لبنا شيب بماء.

فصل

من الغلول هدايا العمال ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذي أهدي إليه ، وكان بعثه على الصدقة ،

__________________

ـ ١٣٧) وفي «دلائل النبوة» (٤ / ٢٧٠) وابن عبد البر في «التمهيد» (٢ / ٣ ، ١٨ ، ٢١) والبغوي في «شرح السنة» وفي «تفسيره» (١ / ٤٤١).

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٣١٦ ، ٣١٨ ، ٣٢٦) ومالك (٤٥٨) والدارمي (٢ / ٢٣٠) وابن أبي شيبة (١٤ / ٥١١) بلفظ أدوا الخياط والمخيط وإياكم والغلول.

٢٧

فأهدي إليه فقال : هذا لكم ، وهذا أهدي إليّ فقال عليه‌السلام : «ما بال العامل نبعثه ، فيجيء ، فيقول : هذا لكم ، هذا لكم ، وهذا أهدي إليّ ، ألا جلس في بيت أمّه وأبيه ، فينظر أيهدى إليه أم لا» (١).

فصل

ومن الغلول ـ أيضا ـ حبس الكتب عن أصحابها ، وما في معناها.

قال الزهريّ : إياك وغلول الكتب ، فقيل له : وما غلول الكتب؟ قال حبسها عن أصحابها. وقد قيل ـ في تأويل قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي : يكتم شيئا من الوحي ؛ رغبة ، أو رهبة ، أو مداهنة.

قوله : (ثُمَّ تُوَفَّى) هذه الجملة معطوفة على الجملة الشرطية ، وفيها إعلام أن الغالّ وغيره من جميع الكاسبين لا بد وأن يجازوا ، فيندرج الغالّ تحت هذا العموم ـ أيضا ـ فكأنه ذكر مرتين.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : هلّا قيل : ثم يوفّى ما كسب ؛ ليتصل به؟

قلت : جيء بعامّ دخل تحته كلّ كاسب من الغالّ وغيره ، فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أثبت وأبلغ.

فصل

تمسك المعتزلة بهذا في إثبات كون العبد فاعلا ، وفي إثبات وعيد الفساق.

أما الأول : فلأنه ـ تعالى ـ أثبت الجزاء على كسبه ، فلو كان كسبه خلقا لله لكان الله تعالى يجازيه على ما خلقه فيه.

وأما الثاني : فلأنه ـ تعالى ـ قال ـ في القاتل المتعمد ـ : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣] وأثبت في هذه الآية أن كلّ عامل يصل إليه جزاؤه ، فيحصل ـ من مجموع الآيتين ـ القطع بوعيد الفساق.

والجواب عن الأول : المعارضة بالعلم ، وعن الثاني : أن هذا العموم مخصوص في صورة التوبة فكذلك يجب أن يكون مخصوصا في صورة العفو ، للدلائل الدالة على العفو. ثم قال تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

قوله تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٦٢)

لما قال ـ في الآية الأولى ـ : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أتبعه بتفصيل هذه

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ١٤٤ ـ ١٤٦) كتاب الأحكام باب هدايا العمال (٧١٧٤) ومسلم (٢ / ٨٣ ـ ٨٤) وأحمد (٥ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠) عن أبي حميد الساعدي.

٢٨

الجملة ، فقال : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) والكلام [في](١) مثله قد تقدم من أن الفاء النية بها التقديم على الهمزة ، وأن مذهب الزمخشريّ تقدير فعل بينهما.

قال أبو حيّان : وتقديره ـ في مثل هذا التركيب ـ متكلّف جدّا.

والذي يظهر من التقديرات : أجعل لكم تمييزا بين الضالّ والمهتدي ، فمن اتبع رضوان الله واهتدى ليس كمن باء بسخطه وغل ؛ لأن الاستفهام ـ هنا ـ للنفي.

و «من» ـ هنا ـ موصولة بمعنى الذي في محل رفع بالابتداء ، والجار والمجرور الخبر ، قال أبو البقاء : «ولا يجوز أن يكون شرطا ؛ لأن «كمن» لا يصلح أن يكون جوابا». يعني : لأنه كان يجب اقترانه بالفاء ؛ لأن المعنى يأباه. و «بسخط» يجوز أن يتعلق بنفس الفعل ، أي : رجع بسخطه ، ويجوز أن يكون حالا ، فيتعلق بمحذوف ، أي رجع مصاحبا لسخطه ، أو ملتبسا به ، و (مِنَ اللهِ) صفته.

والسّخط : الغضب الشديد ، ويقال : سخط ـ بفتحتين ـ وهو مصدر قياسي ، ويقال : سخط ـ بضم السين ، وسكون الخاء ـ وهو غير مقيس. ويقال : هو سخطة الملك ـ بالتاء ـ أي في كرهه منه له.

وقرأ عاصم (٢) ـ في إحدى الروايتين عنه ـ رضوان ـ بضم الراء ـ والباقون بكسرها ، وهما مصدران ، فالضم كالكفران ، والكسر كالحسبان.

فصل

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ) الهمزة فيه للإنكار ، والفاء للعطف على محذوف ، والتقدير : أفمن اتقى فاتبع رضوان الله وقوله : «باء» أي : رجع ، وقد تقدم.

واختلف المفسّرون ، فقال الكلبيّ والضحّاك : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) في ترك الغلول (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) في فعل الغلول؟.

وقيل : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) بالإيمان به والعمل بطاعة (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وقيل : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) وهم المهاجرون (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) وهم المنافقون؟.

وقال الزّجّاج : لما حمل المشركون على المسلمين دعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه إلى أن يحملوا على المشركين ، ففعله بعضهم ، وتركه آخرون ، فقوله : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) وهم الذين امتثلوا أمره (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) وهم الذين لم يقبلوا قوله؟

__________________

(١) في أ : على.

(٢) انظر : السبعة ٢٠١ ، ٢٠٢ ، والحجة ٣ / ٢١ ، ٢٢ ، والعنوان ٧٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٨ ، وحجة القراءات ١٥٧ ، وشرح شعلة ٣٠٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٤٨ ـ ١٤٩ ، وإتحاف ١ / ٤٧٢ ، ٤٩٣.

٢٩

قال القاضي : «كلّ واحد من هذه الوجوه صحيح ، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه ؛ لأن اللفظ عام ؛ فيجب أن يتناول الكلّ ، وإن كانت الآية نزلت في واقعة معينة لكن عموم اللفظ لا يبطل بخصوص السبب.

قوله : (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) في هذه الجملة احتمالان :

أحدهما : أن تكون مستأنفة ، أخبر أن من باء بسخطه أوى إلى جهنم ، وتفهم منه مقابله ، وهو أن من اتّبع الرضوان كان مأواه الجنة ، وإنما سكت عن هذا ، ونص على ذلك ليكون أبلغ في الزّجر ، ولا بد من حذف في هذه الجمل ، تقديره : أفمن أتبع ما يؤول به إلى رضا الله فباء برضاه كمن اتبع ما يؤول به إلى سخطه؟

الثاني : أنها داخلة في حيّز الموصول ، فتكون معطوفة على (باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) فيكون قد وصل الموصول بجملتين : اسمية وفعلية ، وعلى كلا الاحتمالين ، لا محلّ لها من الإعراب.

قوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف ، أي وبئس المصير جهنم.

واشتملت الآية على الطباق في قوله : (يَنْصُرْكُمُ) و (يَخْذُلْكُمْ) وقوله : (رِضْوانَ اللهِ) و «بسخطه» والتجنيس المماثل في قوله : (يَغُلَ) و (بِما غَلَّ).

قوله تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(١٦٣)

(هُمْ دَرَجاتٌ) مبتدأ وخبر ، ولا بد من تأويل [بالإخبار](١) بالدرجات عن «هم» لأنها ليست إياهم ، فيجوز أن يكون جعلوا نفس الدرجات مبالغة ، والمعنى : أنهم متفاوتون في الجزاء على كسبهم ، كما أن الدرجات متفاوتة والأصل على التشبيه ، أي : هم مثل الدرجات في التفاوت.

ومنه قوله : [الوافر]

١٦٨٦ ـ أنصب للمنيّة تعتريهم

رجالي أم هم درج السّيول (٢)

__________________

(١) في أ : في الأخبار.

(٢) البيت لابن هرمة ينظر ديوانه ص ١٨١ ، والأزمنة والأمكنة ١ / ٣٠٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٢٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٨٤ ، والكتاب ١ / ٤١٥ ، ٤١٦ ، ولسان العرب (درج). والدر المصون ٢ / ٢٥٠.

استشهد به على نصب (درج السيول) على الظرفية ، ووقع خبرا ، لهم ، والسيرافي يقول : إن سيبويه منع أن يقاس على «مناط الثريا» ونحوه ممّا استعملوه ظرفا غيره من الأماكن ، نحو مربط الفرس إلا أن تظهر المكان ، فتقول : هو من مكان مربط الفرس ، فيجوز. ثم قال : «وقد ظهر أن سيبويه يجيز : زيد خلفك ، إذا جعلته هو الخلف ، ولم يشترط ضرورة شعر ، وهو قول المازني ، وكان الجرمي لا يجيزه إلا في ضرورة الشعر ، والكوفيون يمنعونه أشد المنع» ومما استعمل قولهم : هو من درج السيل. أي مكان درج السيل من السيل ، وكما في الشاهد الذي معنا على أن درج ظرف منصوب مع خبريته.

٣٠

ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : هم ذوو درجات ، أي : أصحاب منازل ورتب في الثواب والعقاب وأجاز ابن الخطيب أن يكون الأصل : لهم درجات ـ فحذفت اللام ـ وعلى هذا يكون «درجات» مبتدأ ، وما قبلها الخبر ، وردّه بعضهم ، وقال : هذا من جهله وجهل متبوعيه ـ من المفسرين ـ بلسان العرب ، وقال : لا مساغ لحذف اللام ألبتة ؛ لأنها إنما تحذف في مواضع يضطر إليها ، وهنا المعنى واضح ، مستقيم من غير تقدير حذف.

قال شهاب الدين : «وادّعاء حذف اللام خطأ ، والمخطىء معذور ، وقد نقل عن المفسرين هذا ، ونقل عن ابن عبّاس والحسن لكل درجات من الجنة والنار (١) ، فإن كان هذا القائل أخذ من هذا الكلام بأن اللام محذوفة فهو مخطىء ؛ لأن هؤلاء ـ رضي الله عنهم ـ يفسّرون المعنى لا الإعراب اللفظي».

وقرأ (٢) النخعي «هم درجة» بالإفراد على الجنس.

قوله : (عِنْدَ اللهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب «درجات» على المعنى ؛ لما تضمنت من معنى الفعل ، كأنه قيل : هم متفاضلون عند الله.

ثانيهما : أن يتعلق بمحذوف صفة ل «درجات» فيكون في محل رفع.

فصل

«هم» عائد إلى لفظ «من» في قوله : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) ولفظ «من» معناه الجمع. ونظيره قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) [السجدة : ١٨]. ثم قال : «لا يستوون» بصيغة الجمع ، وهو عائد إلى «من».

واعلم أنه لما عاد إلى المتقدم ذكره ، والذي تقدّم ذكره نوعان : من اتبع رضوان الله ، ومن باء بسخط من الله ـ يحتمل أن يعود إلى الأول ، ويحتمل أن يعود إلى الثاني ، ويحتمل أن يعود إليهما ، فإن عاد إلى الأول صحّ ـ ويكون التقدير : إنّ أهلّ الثّواب درجات على حسب أعمالهم ـ لوجوه :

الأول : أن الغالب ـ في العرف ـ استعمال الدرجات في أهل الثّواب والدركات في أهل العقاب.

الثاني : أن ما كان من الثّواب والرحمة فإن الله يضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه قال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢] فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه ـ حيث قال : «عند الله» ـ علمنا أن المراد أهل الثواب ويؤكد هذا قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٢١].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٦٧) عن ابن عباس.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٣٧ ، والبحر المحيط ٣ / ١٠٨ ، والدر المصون ٢ / ٢٥٠.

٣١

الثالث : أنه ـ تعالى ـ وصف من باء بسخط من الله ـ وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير ـ فوجب أن يكون قوله : «هم درجات» وصفا لمن اتبع رضوان الله.

وإن أعدنا الضمير إلى من باء بسخط فلأنه أقرب ، وهو قول الحسن ، قال : إن المراد به أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب ، كقوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٩] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ فيها ضحضاحا وغمرا ، وأنا أرجو أن يكون أبو طالب في ضحضاحها».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ أهون أهل النّار عذابا رجل له نعلان من نار يغلي من حرّهما دماغه».

وإذا أعدنا الضمير إليهما فلأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، وكذلك درجات أهل العقاب ، قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨]. وقوله : «عند الله» أي : في حكم الله وعلمه ، كما يقال : هذه المسألة عند الشافعيّ كذا ، وعند أبي حنيفة كذا. ثم قال : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) اي : عالم بجميع أفعال العباد على التفصيل.

فصل

ذكر محمد بن إسحاق ـ في تأويل قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) ـ وجها آخر ، فقال : أي : ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم ، رغبة أو رهبة ، ثم قال : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) يعني : رجّح رضوان الله على رضوان الخلق وسخط الله على الخلق (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) فرجّح سخط الخلق على سخط الله ، ورضوان الخلق على رضوان الله؟

ووجه النّظم ـ على هذا التقدير ـ أنه تعالى لما قال : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) بيّن أنّ ذلك إنما يكون معتبرا إذا كان على وفق الدين ، فأما إذا كان على خلاف الدّين فإنه غير جائز ، فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته وبين من اتبع رضوان الخلق؟

قال ابن الخطيب : «وهذا الذي ذكره محتمل ، لأنا بيّنّا أنّ الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية ، فأما اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة ، فهو عرف حادث».

قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١٦٤)

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ) جواب لقسم محذوف ، وقرىء : لمن منّ الله (١) ـ ب «من» الجارة ، و «منّ» ـ بالتشديد مجرورها ـ وخرّجه الزمخشريّ على وجهين :

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٠٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٥٠.

٣٢

أحدهما : أن يكون هذا الجارّ خبرا مقدما والمبتدأ محذوف ، تقديره : لمن من الله على المؤمنين منّه ، أو بعثه إذ بعث فيهم ، فحذف لقيام الدّلالة.

الثاني : أنه جعل المبتدأ نفس «إذ» بمعنى : وقت ، وخبرها الجارّ قبلها ، وتقديره : لمن من الله على المؤمنين وقت بعثه ، ونظره بقولهم : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما.

وهذان وجهان ـ في هذه القراءة ـ مما يدلان على رسوخ قدمه في هذا العلم.

قال شهاب الدين : إلا أن أبا حيان قد ردّ عليه الوجه الثاني بأن «إذ» غير متصرفة ، لا تكون إلا ظرفا ، أو مضافا إليها اسم زمان ، أو مفعولة ب «اذكر» ـ على قول ـ ونقل قول أبي علي ـ فيها وفي «إذا» أنهما لم يردا في كلام العرب إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ، ولا مفعولين ، ولا مبتدأين.

قال : ولا يحفظ من كلامهم : إذ قام زيد طويل ـ يريد : وقت قيامه طويل ـ وبأن تنظيره القراءة بقولهم : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما ، خطأ ؛ من حيث إن المشبه مبتدأ ، والمشبه به ظرف في موضع الخبر ـ عند من يعرب هذا الإعراب ـ ومن حيث إنّ هذا الخبر ـ الذي قد أبرزه ظاهرا ـ واجب الحذف ؛ لسدّ الحال مسدّه (١) ، نص عليه النحويون الذين يعربونه هكذا ، فكيف يبرزه في اللفظ؟

__________________

(١) يحذف الخبر وجوبا في أربعة مواضع :

الأول : أن يكون خبرا لمبتدأ بعد لو لا ، نحو : لو لا زيد لأتيتك ، التقدير : لو لا زيد موجود لأتيتك ، والحذف في مثل هذا واجب إلا قليلا ، وهذه هي طريقة لبعض النحويين ، والطريقة الثانية أن الحذف واجب دائما ، وأن ما ورد من ذلك بغير حذف في الظاهر مؤول ، والطريقة الثالثة أن الخبر إما أن يكون كونا مطلقا ، أو كونا مقيدا فإن كان الأول وجب الحذف ، وإن كان كونا مقيدا فإما أن يدل عليه دليل أو لا ، فإن لم يدل عليه دليل وجب ذكره ، وإن دل عليه دليل ، جاز إثباته وحذفه.

الثاني : أن يكون المبتدأ نصا في اليمين ، نحو : «لعمرك لأفعلن» التقدير «لعمرك قسمي» فعمرك : مبتدأ ، وقسمي : خبر ، ولا يجوز التصريح به. فإن لم يكن المبتدأ نصا في اليمين لم يجب حذف الخبر ، نحو «عهد الله لأفعلنه» التقدير «عهد الله عليّ» فعهد الله : مبتدأ ، وعليّ : خبره ، لك إثباته وحذفه.

الموضع الثالث : أن يقع بعد المبتدأ واو هي نص في المعية ، نحو «كل رجل وضيعته» فكل : مبتدأ ، وقوله «ضيعته» معطوف على كل ، والخبر محذوف والتقدير «كل رجل وضيعته مقترنان» ويقدر الخبر بعد واو المعية.

فإن لم تكن الواو نصا في المعية لم يحذف الخبر وجوبا ، نحو «زيد وعمرو قائمان».

الموضع الرابع : أن يكون المبتدأ مصدرا ، وبعده حال سدت مسد الخبر ، وهي لا تصلح أن تكون خبرا ، فيحذف الخبر وجوبا ، لسد الحال مسده ، وذلك نحو «ضربي العبد مسيئا» فضربي : مبتدأ ، والعبد : معمول له ، و «مسيئا» : حال سدت مسد الخبر ، والخبر محذوف وجوبا ، والتقدير «ضربي العبد إذا كان مسيئا» إذا أردت الاستقبال وإن أردت المضي فالتقدير «ضربي العبد إذا كان مسيئا» فمسيئا : حال من الضمير المستتر في (كان) المفسر بالعبد. و «إذا كان» أو «إذ كان» ظرف زمان نائب عن الخبر.

ابن عقيل ١ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ارتشاف الضرب ٢ / ٣٠ ـ ٣١ البسيط في شرح الجمل ٩١.

٣٣

قال شهاب الدين : «وجواب هذا الردّ واضح وليت أبا القاسم لم يذكر تخريج هذه القراءة ؛ لكي نسمع ما يقول هو».

والجمهور على ضم الفاء ـ من أنفسهم ـ أي : من جملتهم وجنسهم ، وقرأت عائشة ، وفاطمة والضّحّاك ، ورواها أنس عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفتح الفاء (١) ، من النفاسة ـ وهي الشرف ـ أي : من أشرفهم نسبا ، وخلقا ، وخلقا.

وعن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أنفسكم نسبا ، وحسبا ، وصهرا» (٢) وهذا الجارّ يحتمل وجهين :

الأول : أن يتعلق بنفس «بعث».

الثاني : أن يتعلق بمحذوف ، على أنه وصف ل «رسولا» فيكون منصوب المحل ، ويقوي هذا الوجه قراءة فتح الفاء.

فصل في المراد ب «أنفسهم»

قيل : أراد به العرب ؛ لأنه ليس حيّ من أحياء العرب إلا وقد ولد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله فيهم نسب ، إلا بني تغلب ، لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢].

وقال آخرون : أراد به جميع المؤمنين.

ومعنى قوله : «من أنفسهم» أي : بالإيمان والشفقة ، لا بالنسب ، كقوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨].

ووجه هذه المنّة : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى ما يخلّصهم من عقاب الله ، ويوصلهم إلى ثواب الله ، كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] وأيضا كونه من أنفسهم لأنه لو كان من غير جنسهم لم يركنوا إليه.

وخص هذه المنة بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بها ، كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

فصل

قال الواحدي : المنّ ـ في كلام العرب ـ بإزاء معان :

أحدها : الذي يسقط من السماء ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) [البقرة : ٥٧].

ثانيها : أن تمنّ بما أعطيت كقوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤].

ثالثها : القطع ، كقوله : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [الانشقاق : ٢٥] وقوله : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) [القلم : ٣].

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٠٩ ، ١١٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٥١.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٤) وعزاه لابن مردويه عن أنس بن مالك مرفوعا.

٣٤

رابعها : الإنعام والإحسان إلى من يطلب الجزاء منه ، ومنه قوله : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [ص : ٣٩]. وقوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦]. والمنّان ـ في صفة الله تعالى ـ : المعطي ابتداء من غير طلب عوض ، ومنه الآية : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤] أي : أنعم عليهم ، وأحسن إليهم ببعثه هذا الرسول.

قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) في محل نصب حال ، أو مستأنف.

وقال القرطبي : «يتلو» في موضع نصب ، نعت ل «رسولا» ـ وقد تقدم نظيرها في البقرة.

(وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران : ١٦٤] معنى الآية : يبلغهم الوحي ، ويطهرهم ، ويعلمهم الكتاب ـ أي : معرفة الأحكام الشرعية ـ والحكمة ـ أي : أسرارها وعللها ومنافعها ـ ثم قال : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وهذا وجه النعمة ؛ لأن ورود العلم عقيب الجهل من أعظم النعم.

قوله : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هي «إن» المخففة ، واللام فارقة ـ وقد تقدم تحقيقه ـ إلا أن الزمخشري ومكّيّا ـ هنا ـ حين جعلاها مخففة قدّرا لها اسما محذوفا.

فقال الزمخشري : «وتقديره : إن الشأن ، وإن الحديث كانوا من قبل». وقال مكي : «وأما سيبويه فإنه قال «إن» مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير ـ على قوله ـ : وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين». وهذا ليس بجيّد ؛ لأن «إن» المخففة إنما تعمل في الظاهر ـ على غير الأفصح ـ ولا عمل لها في المضمر ولا يقدّر لها اسم محذوف ألبتة ، بل تهمل ، أو تعمل ـ على ما تقدم ـ مع أن الزمخشريّ لم يصرّح بأن اسمها محذوف ، بل قال : «إن» هي المخففة من الثّقيلة ، واللام فارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإن الشأن والحديث كانوا ؛ وهذا تفسير معنى لا إعراب.

وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها استئنافية ، لا محلّ لها من الإعراب.

والثاني أنها في محل نصب على الحال من المفعول به ـ في : «يعلمهم» وهو الأظهر.

قوله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٦٥)

الهمزة للإنكار ، وجعلها ابن عطية للتقرير ، والواو عاطفة ، والنية بها التقديم على الهمزة.

وقال الزمخشري : و «لما» نصب ب «قلتم» و «أصابتكم» في محل الجر ، بإضافة

٣٥

«لما» إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم. و «أنى هذا» نصب ؛ لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع.

فإن قلت : علام عطفت الواو هذه الجملة؟ قلت : على ما مضى من قصة أحد ـ من قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) ـ ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، [كأنه قيل](١) : أفعلتم كذا ، وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى.

أمّا جعله «لما» بمعنى «حين» ـ أي ظرفا ـ فهو مذهب الفارسيّ وقد تقدم تقرير المذهبين وأما قوله : «عطف على قصة أحد» فهذا غير مذهبه ، لأن الجاري من مذهبه إنما هو تقدير جملة ، يعطف ما بعد الواو عليها ـ أو الفاء ، أو «ثم» ـ كما قرره هو في الوجه الثاني.

و «أنى هذا» «أنى» بمعنى من أين ـ كما تقدم في قوله : (أَنَّى لَكِ هذا) [آل عمران : ٣٧] ـ ويدل عليه قوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) وقوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) قاله الزمخشري.

ورد عليه أبو حيّان بأن الظرف إذا وقع خبرا للمبتدأ لا يقدّر داخلا عليه حرف جر ، غير «في». أما أن يقدر داخلا عليه «من» فلا ؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط «في» ولذلك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بواسطة «في» إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيهبالمفعول به ، فتقدير الزمخشريّ غير سائغ ، واستدلاله بقوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) وقوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها.

واختار أبو حيان أن «أنى» بمعنى «كيف» قال : و «أنى» سؤال عن الحال ـ هنا ـ ولا يناسب أن يكون ـ هنا ـ بمعنى «أين» أو «متى» لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ، ولا عن الزمان ، إنما وقع عن الحال التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجّب ـ وجاء الجواب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ـ في قوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ـ والسؤال ب «أنى» سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر ، والجواب بقوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) يتضمن تعيين الكيفية ؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى لو قيل ـ على سبيل التعجّب والإنكار ـ : كيف لا يحج زيد الصّالح؟ وأجيب ذلك بأن يقال : لعدم استطاعته ، لحصل الجواب ، وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيع.

قال شهاب الدين : «أما قوله : لا يقدّر الظرف بحرف جرّ غير «في» فالزمخشريّ لم يقدر «في» مع «أن» حتى يلزمه ما قال ، إنما جعل «أنى» بمنزلة «من أين» في المعنى. وأما عدوله عن الجواب المطابق لفظا فالعكس أولى».

__________________

(١) في أ : تقديره.

٣٦

قوله : (قَدْ أَصَبْتُمْ) في محل رفع ؛ صفة ل «مصيبة». و «قلتم» ـ على مذهب سيبويه ـ جواب «لما» وعلى مذهب الفارسيّ ناصب لها على حسب ما تقدم من مذهبيهما.

قوله : (قُلْ هُوَ) هذا الضمير راجع على «المصيبة» من حيث المعنى ، ويجوز أن يكون حذف مضاف مراعى ـ أي : سببها ـ وكذلك الإشارة لقوله : (أَنَّى هذا) لأن المراد المصيبة.

فصل

وجه النظم : أنه ـ تعالى ـ لما أخبر عن المنافقين بأنهم نسبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغلول حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية ، وهي قولهم : لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد ، وهو المراد من قولهم : أنى هذا؟

وأجاب الله تعالى عنه بقوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي : هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم.

فصل

ومعنى : (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) أن المشركين قتلوا من المسلمين ـ يوم أحد ـ سبعين ، وقتل المسلمون منهم ـ يوم بدر ـ سبعين ، وأسروا سبعين ، والأسير في حكم القتيل ؛ لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد. (قُلْتُمْ أَنَّى هذا :) من أين لنا هذا القتل والهزيمة ، ونحن مسلمون ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينا؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).

روى عبيدة السّلماني عن علي قال : جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، فقال : يا محمّد ، إن الله قد كره ما صنع قومك ـ من أخذهم الفداء من الأسارى ـ وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى ، فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدّتهم ، فذكر ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم للنّاس ، فقالوا : يا رسول الله ، عشائرنا ، وإخواننا ، لا ، بل نأخذ منهم الفداء ، فنتقوّى به على قتال العدو ، ونرضى أن يستشهد منا عدّتهم ، فقتل منهم ـ يوم أحد ـ سبعون ، عدد أسارى أهل بدر(١) ، فهذا معنى قوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي : بأخذ الفداء ، واختياركم القتل.

وقيل : إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم في الأمور المتقدم ذكرها.

فصل

استدل المعتزلة بقوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى من وجوه :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٧٦) والترمذي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٦٦) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

٣٧

أحدها : أنه لو كان ذلك حاصلا بخلق الله تعالى ـ ولا تأثير للعبد فيه ـ كان قوله : (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) كذبا.

ثانيها : أنهم تعجبوا كيف سلط الله الكافر على المؤمن؟ فأزال الله ذلك التعجب بقوله : إنما وقعتم في هذا المكروه بشؤم فعلكم ، فلو كان خلقا لله لم يصح الجواب.

ثالثها : أن القوم قالوا : (أَنَّى هذا) أي : من أين هذا؟ وهذا طلب لسبب الحدوث ، فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال.

وأجيبوا عن الأولين بالمعارضة بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بإيجاد الله تعالى ، وعن الثالث بأنه لو كانوا هم الذين أوجدوا الفعل لم يحسن منهم السؤال عن سببه.

ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : قادر على نصركم ـ لو صبرتم وثبتّم ـ كما قدر على التخلية ـ إذ خالفتم وعصيتم ـ وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، قالوا : لأن فعل العبد شيء ، فيكون الله قادرا على إيجاده ، فلو أوجده العبد امتنع كونه ـ تعالى ـ قادرا على إيجاده ؛ لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده ، لأن إيجاد الموجود محال ، والمفضي إلى المحال محال.

قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ)(١٦٧)

«ما» موصولة بمعنى الذي ، في محل رفع بالابتداء ، و «بإذن الله» الخبر ، وهو على إضمار مبتدأ ، تقديره : فهو بإذن الله ، ودخلت الفاء في الخبر ؛ لشبه المبتدأ بالشرط ، نحو : الذي يأتيني فله درهم ، وهذا ـ على ما قرره الجمهور ـ مشكل ؛ وذلك أنهم قرروا أنه لا يجوز دخول هذه الفاء زائدة في الخبر إلا بشروط.

منها : أن تكون الصلة مستقبلة في المعنى ؛ وذلك لأن الفاء إنما دخلت للشّبه بالشّرط ، والشّرط إنما يكون في الاستقبال ، لا في الماضي ، لو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم ، لم يصحّ ، «وأصابكم» ـ هنا ـ ماض في المعنى ؛ لأن القصة ماضية ، فكيف جاز دخول هذه الفاء؟

أجابوا عنه بأنه يحمل على التبيّن ـ أي : وما تبين إصابته إياكم ـ كما تأولوا قوله : (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) [يوسف : ٢٦] ـ أي تبين ـ وهذا شرط صريح ، وإذا صحّ هذا التأويل فلنجعل «ما» ـ هنا ـ شرطا صريحا ، وتكون الفاء داخلة وجوبا ؛ لكونها واقعة جوابا للشرط.

٣٨

وقال ابن عطية : «يحسن دخول الفاء إذا كان سبب الإعطاء ، وكذلك ترتيب هذه ، فالمعنى إنما هو : وما أذن الله فيه فهو الذي أصابكم ، لكن قدم الأهم في نفوسهم ، والأقرب إلى حسّهم. والإذن : التمكين من الشيء مع العلم به».

وهذا حسن من حيث المعنى ؛ فإن الإصابة مرتبة على الإذن من حيث المعنى ، وأشار بقوله : الأهم والأقرب ، إلى ما أصابهم يوم التقى الجمعان.

فصل

ذكر في الآية الأولى أن الذي أصابهم كان من عند أنفسهم ، وذكر في هذه الآية وجها آخر ، وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق ، والمراد بالجمعين هو جمع المؤمنين ، وجمع المشركين في يوم أحد.

واختلفوا في المراد بقوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ) فقيل : الإذن ـ هنا ـ عبارة عن التخلية ، وترك المدافعة استعار الإذن لتخلية الكفار ؛ لأن الآذن في الشيء لا يدفع المأذون له عن مراده.

وقيل : فبعلم الله ، كقوله : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ) [التوبة : ٣] وقوله : (آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) [فصلت : ٤٧] وقوله : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : ٢٧٩] وطعن الواحدي في هذا بأن الآية إنما هي لتسلية المؤمنين مما أصابهم ، ولا تحصل التسلية إذا كان ذلك واقعا بعلة ؛ لأن علمه عام في جميع المعلومات.

وقيل : فبأمر الله ؛ لقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) [آل عمران : ١٥٢] والمعنى : أنه ـ تعالى ـ لما أمر بالمحاربة ، ثم أدت تلك المحاربة إلى ذلك الانهزام صح ـ على سبيل المجاز ـ أن يقال : حصل ذلك بأمره.

ونقل ـ عن ابن عباس ـ أن المراد من الإذن قضاء الله بذلك وحكمه به. وهذا أولى ؛ لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ، وبهذا تحصل التسلية.

قوله : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) في هذه اللام قولان :

أحدهما : أنها معطوفة على معنى قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ) عطف سبب على سبب ، فتتعلق بما تتعلق به الباء.

الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : وليعلم فعل ذلك ـ أي : أصابكم ـ والأول أولى ـ وقد تقدم أن معنى : وليعلم الله كذا : أي يبيّن ، أو يظهر للناس ما كان في علمه ، وزعم بعضهم أن ثمّ مضافا ، أي : ليعلم إيمان المؤمنين ، ونفاق المنافقين ، ولا حاجة إليه.

قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) قال الواحدي : «يقال : نافق الرّجل ـ فهو منافق ـ إذا أظهر كلمة الإيمان ، وأضمر خلافها ، والنفاق اسم إسلامي ، اختلف في اشتقاقه على وجوه :

٣٩

أحدها : قال أبو عبيد : من نافقاء اليربوع ؛ لأن حجر اليربوع لها بابان : القاصعاء ، والنافقاء ، فإذا طلب من أيهما خرج من الآخر ، فقيل للمنافق : إنه منافق لأنه وضع لنفسه طريقين : إظهار الإسلام ، وإضمار الكفر ، فمن أيهما طلب خرج من الآخر.

الثاني : قال ابن الأنباري : المنافق من النّفق ، هو السرب ، ومعناه : أنه يتستّر بالإسلام كما يتستّر الرجل في السّرب.

الثالث : أنه مأخوذ من النافقاء ، ولكن على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيد ، وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض ، ثم إنه يرقّق ما فوق الجحر ، حتى إذا رابه ريب ، رفع التراب برأسه وخرج ، فقيل للمنافق : منافق ؛ لأنه أضمر الكفر في باطنه ، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر ، وتمسّك بالإسلام».

قوله : (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا) هذه الجملة تحتمل وجهين :

الأول : أن تكون استئنافية ، أخبر الله أنهم مأمورون إما بالقتال ، وإما بالدّفع ، أي : تكثير سواد المسلمين.

الثاني : أن تكون معطوفة على «نافقوا» فتكون داخلة في صلة الموصول ، أي : ليعلم الذين حصل منهم النفاق والقول بكذا و «تعالوا» و «قاتلوا» كلاهما قام مقام الفاعل ل «قيل» لأنه هو المقول. قال أبو البقاء : إنما لم يأتي بحرف العطف ـ يعني بين «تعالوا» و «قاتلوا» ـ لأنه أراد أن يجعل كل واحدة من الجملتين مقصودة بنفسها ، ويجوز أن يقال : إن المقصود هو الأمر بالقتال ، و «تعالوا» ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه.

وقيل : الأمر الثاني حال.

يعني بقوله : «تعالوا» ذكر ما لو سكت ، أن المقصود إنما هو أمرهم بالقتال ، لا مجيئهم وحده ، وجعله «قاتلوا» حالا من «تعالوا» فاسد ؛ لأن الجملة الحالية يشترط أن تكون خبرية ، وهذه طلبية.

قوله : «أو ادفعوا» «أو» ـ هنا ـ على بابها من التخيير والإباحة.

وقيل : بمعنى الواو ؛ لأنه طلب منهم القتال والدفع ، والأول أصح.

فصل

اختلفوا في القائل ، فقال الأصمّ : إنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعوهم إلى القتال. وقيل : إن عبد الله بن أبيّ ابن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قال : لم نلقي أنفسنا في القتل؟ فرجعوا ، وكانوا ثلاثمائة من جملة الألف الذين خرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام ـ أبو جابر بن عبد الله الأنصاريّ ـ : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدوّ.

٤٠