اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

لاعتلال فعله أولى ، ألا ترى إلى صحّة الجمع مع اعتلال مفرده في معيشة ، ومعايش ، ومقامة ، ومقاوم ، ولم يصححوا مصدرا أعلّوا فعله.

الثاني : أنه مقصور من «قيام» فحذفوا الألف تخفيفا كما قالوا : «خيم» في «خيام» و «مخيط» و «مقول» في «مخياط» و «مقوال».

الثالث : أنه جمع «قيمة» ك «ديم» في جمع «ديمة» ، والمعنى : أنّ الأموال كالقيم للنفوس ؛ لأنّ بقاءها بها ، وقد ردّ الفارسيّ هذا الوجه ، وإن كان هو قول البصريين غير الأخفش ، بأنه قد قرىء (١) قوله تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [الأنعام : ١٦١] وقوله : (الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة : ٩٧]. ولا يصحّ معنى القيمة فيهما ، وقد ردّ عليه الناس بأنّه لا يلزم من عدم صحّة معناه في الآيتين المذكورتين ألا يصح هنا ، إذ معناه لائق ، وهناك معنى آخر يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأما قراءة باقي السّبعة فهو مصدر «قام» والأصل «قوام» ، فأبدلت الواو ياء للقاعدة المعروفة ، والمعنى : التي جعلها الله سبب قيام أبدانكم (٢) أي : بقائها.

وقال الزّمخشريّ : «أي : تقومون بها وتنتعشون بها».

وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان :

أحدهما : أنه مصدر قاوم ك «لاوذ ، لواذا» (٣) ، صحّت الواو في المصدر كما صحّت في الفعل.

الثاني : أنه اسم لما يقوم به الشّيء ، وليس بمصدر كقولهم : «هذا ملاك الأمر» أي : ما يملك به الأمر.

وأمّا قراءة الحسن ففيها وجهان :

أحدهما : أنّه اسم مصدر كالكلام ، والدّوام ، والسّلام.

والثاني : أنّه لغة من القوام المراد به القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم ، يقال : جارية حسنة القوام ، والقوام ، والقامة كله بمعنى واحد.

وقال أبو حاتم قوام بالفتح خطأ ، قال : لأنّ القوام (٤) امتداد القامة ، وقد تقدّم تأويل ذلك على أنّ الكسائيّ قال : هو بمعنى القوام أي بالكسر ، يعني أنه مصدر ، وأمّا «قوما» فهو مصدر جاء على الأصل ، أعني : الصّحيح العين كالعوض ، والحول (٥).

فصل

لما أمر في الآية الأولى بإيتاء اليتامى أموالهم ، وبدفع صدقات النساء إليهنّ فكأنّه

__________________

(١) سورة الأنعام آية ١٦١ ، وانظر : الحجة ٣ / ١٣٣ ، والدر المصون ٢ / ٣١٠. والبحر المحيط ٣ / ١٧٨.

(٢) في أ : أبدالكم.

(٣) في ب : من قوم فأبدلت الواو ياء.

(٤) في ب : القوم.

(٥) في أ : والجواب.

١٨١

قال : إنّما أمرتكم بذلك إذا كانوا عاقلين بالغين ، متمكنين من حفظ أموالهم ، فأمّا إذا كانوا غير بالغين ، أو غير عقلاء ، أو كانوا بالغين عقلاء ؛ إلّا أنّهم سفهاء ، فلا تدفعوا إليهم أموالهم ، والمقصود منه الاحتياط في حفظ أموال الضّعفاء العاجزين.

واختلفوا في السّفهاء :

فقال مجاهد والضّحّاك : هم النّساء (١) كما قدّمنا ، وهذا مذهب ابن عمر ويدلّ عليه ما روى أبو أمامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا إنّما خلقت النّار للسّفهاء ، يقولها [ثلاثا](٢) ألا وإن السّفهاء النّساء ، [إلّا امرأة أطاعت قيّمها» (٣)](٤).

وقال الزّمخشريّ وابن زيد : والسّفهاء ههنا السفهاء عن من الأولاد ، ويقول : لا تعط مالك [الذي هو قيامك](٥) ولدك السّفيه فيفسده. وقال ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير : هم النّساء [والصبيان](٦) إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة ، وأنّ ولده سفيه مفسد ، فلا يسلط واحدا منهما على ماله.

وقيل : المراد بالسّفهاء كل من لم يحفظ المال للمصلحة من النّساء والصبيان والأيتام ، وكلّ من اتّصف بهذه الصفة ؛ لأنّ التّخصيص بغير دليل لا يجوز ، وقد تقدّم في «البقرة» أنّ السّفه خفة العقل ولذلك سمّي الفاسق سفيها ، لأنه لا وزن له عند أهل العلم والدين ، ويسمى النّاقص العقل سفيها لخفة عقله.

فصل في دلالة الآية في الحجر على السفيه

قال القرطبيّ (٧) : دلت هذه الآية على جواز الحجر على السّفيه لقوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ،) وقوله : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) [البقرة : ٢٨٢] فأثبت الولاية على السّفيه كما أثبتها على الضّعيف ، والمراد بالضّعيف في الآية الضّعيف العقل لصغر أو مرض.

فصل في حال السفيه قبل الحجر عليه

[قال القرطبيّ](٨) : واختلفوا في حال السّفيه قبل الحجر عليه ، فقال مالك وأكثر

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٦١ ، ٥٦٢) عن مجاهد والضحاك وانظر تفسير الرازي (٩ / ١٥٥) وتفسير البغوي (١ / ٣٩٣) والبحر المحيط لأبي حيان (٣ / ١٧٧).

(٢) سقط في ب.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٣) وعزاه لابن أبي حاتم عن أبي أمامة مرفوعا.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٦١ ، ٥٦٢) عن ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٣) عن الحسن وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢١.

(٨) ينظر : السابق.

١٨٢

أصحابه (١) : إنّ فعل السّفيه وأمره كلّه جائز ، حتى يحجر عليه الإمام ، وهو مذهب الشّافعيّ وأبي يوسف.

وقال ابن القاسم (٢) : أفعاله غير جائزة ، وإن لم يضرب الإمام على يده.

فصل : في الحجر على الكبير

واختلفوا في الحجر على الكبير ، فقال مالك وجمهور الفقهاء : يحجر عليه.

وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله ، فإذا كان كذلك منع من تسليمهم المال إليه حتى يبلغ [خمسا وعشرين سنة ، فإذا بلغها](٣) ، سلّم إليه المال بكل حال ، سواء كان مفسدا ، أو غير مفسد ؛ لأنّه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة ، ثم يولد له لستّة أشهر فيصير جدّا وأبا (٤) ، وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّا (٥).

فصل في الخطاب في الآية

في هذا الخطاب قولان :

الأوّل : أنّه خطاب الأولياء بأن يؤتوا السّفهاء الذين تحت ولايتهم أموالهم لقوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) [النساء : ٥] وبه يصلح نظم الآية مع ما قبلها.

فإن قيل : فكان ينبغي على هذا أن يقال : ولا تؤتوا السّفهاء أموالهم.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنّه تعالى أضاف المال إليهم ، لا لأنّهم ملكوه ، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه ، ويكفي في الإضافة الملابسة بأدنى سبب.

وثانيهما : إنّما حسنت هذه الإضافة إجراءا للوحدة (٦) بالنّوع مجرى الوحدة بالشخص كقوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨](فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٥](فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(٧) [البقرة : ٥٤] وقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] ومعلوم أنّ الرّجل منهم ما كان يقتل نفسه ، وإنّما كان يقتل بعضهم بعضا ، وكان الكلّ من نوع واحد ، فكذا هاهنا لما كان المال (٨) ينتفع به نوع الإنسان ، ويحتاج إليه ، فلأجل هذه الوحدة النّوعيّة حسنت إضافة أموال السّفهاء إلى الأولياء.

__________________

(١) في ب : أصحابه.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢١.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : فأنا.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٢.

(٦) في أ : الموحدة.

(٧) في أ : فقتلوا.

(٨) في ب : الرجل.

١٨٣

القول الثاني : أنّه خطاب للآباء (١) بألّا يدفعوا مالهم (٢) إلى أولادهم إذا كانوا لا يحفظون المال سفهاء ، وعلى هذا فإضافة الأموال إليهم حقيقة ، والقول الأوّل أرجح ؛ لأنّ ظاهر النّهي التحريم ، وأجمعوا على أنّه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصّغار ، ومن النّسوان ما شاء من ماله ، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السّفهاء أموالهم ؛ لأنه قال في آخر الآية : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهذه الوصيّة بالأيتام أشبه ؛ لأنّ المرء مشفق بطبعه على ولده ، فلا يقول له إلا المعروف ، وإنّما يحتاج إلى هذه الوصيّة مع الأيتام الأجانب.

قال ابن الخطيب (٣) : «ولا يمتنع [أيضا] حمل الآية على كلا الوجهين».

قال القاضي (٤) : هذا بعيد ؛ لأنه يقتضي حمل قوله : «أموالكم» على الحقيقة والمجاز جميعا ، ويمكن الجواب عنه بأن قوله : (أَمْوالَكُمُ) يفيد كون تلك الأموال مختصة بهم ، اختصاصا يمكنه التّصرف فيها ، ثم إنّ هذا الاختصاص حاصل في المال المملوك له وفي المال المملوك للصّبي ، إلّا أنّه تحت تصرّفه ، فهذا التّفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله (أَمْوالَكُمُ) وإذا كان كذلك لم يبعد حمل اللّفظ عليهما من حيث إن اللفظ [أفاد](٥) معنى واحدا مشتركا بينهما.

قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ).

ومعنى الرزق : أن أنفقوا عليهم. وقوله «فيها» فيه وجهان :

أحدهما : أنّ «في» على بابها من الظرفية ، أي اجعلوا رزقهم فيها.

والثاني : أنها بمعنى «من» ، أي : بعضها والمراد : [من](٦) أرباحها (٧) بالتجارة.

قال ابن الخطيب (٨) : «وإنّما قال «فيها» ولم يقل : منها ، لئلا يكون ذلك أمرا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا [لهم](٩) ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم ، بأن يتّجروا فيها ، فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال». والأمر بالكسوة ظاهر.

فصل في تفسير القول المعروف (١٠)

قوله تعالى : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

اختلف المفسّرون في القول المعروف :

__________________

(١) في أ : للأولياء.

(٢) في ب : أموالهم.

(٣) ينظر : الرازي ٩ / ١٥٠.

(٤) ينظر : الرازي ٩ / ١٥٠.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) في ب : في.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٥٢.

(٩) سقط في ب.

(١٠) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٥٢.

١٨٤

قال ابن جريج ومجاهد : إنه العدة الجميلة من البرّ والصّلة.

وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما أنت أهله ، وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظا (١).

وقال ابن زيد : إن لم يكن ممن يجب عليك نفقته ، فقل له : عافانا الله وإياك ، وبارك الله فيك(٢).

وقيل : قولا ليّنا تطيب به أنفسهم.

وقال الزّجّاج : «علموهم مع إطعامهم وكسوتهم أمر دينهم».

وقال القفّال : «هو أنه إن كان المولى عليه صبيا فيعرفه الولي أنّ المال ماله ، وهو خازن له ، وأنه إذا زال صباه يردّ إليه المال ، ونظيره قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحى : ٩] [و](٣) لا تعاشره بالتّسلّط عليه كمعاشرة العبيد ، وكذا قوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) [الإسراء : ٢٨] وإن كان المولى عليه سفيها ، وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ، ورغّبه في ترك التبذير والإسراف ، وعرّفه عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق ، إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام».

وقال ابن الخطيب (٤) : وهذا أحسن من سائر الوجوه.

قوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(٦)

لما أمر بدفع مال اليتيم (٥) إليه ، بيّن (٦) هنا متى يؤتيهم أموالهم ، وشرط في دفع أموالهم إليهم شرطين :

أحدهما : بلوغ النكاح.

والثّاني : إيناس الرّشد.

في «حتى» هذه وما أشبهها أعني الداخلة على «إذا» قولان :

أشهرهما : أنّها حرف غاية ، دخلت على الجملة الشّرطيّة وجوابها ، والمعنى : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم ، بشرط إيناس الرّشد ، فهي حرف ابتداء كالدّاخلة على سائر الجمل كقوله : [الطويل]

١٧٥٤ ـ فما زالت القتلى تمجّ دماءها

بدجلة حتّى ماء دجلة أشكل (٧)

__________________

(١) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ١٧٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٧٣) عن ابن زيد.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : الرازي ٥ / ١٢٥.

(٥) في أ : ما اليتيم.

(٦) في أ : يبين.

(٧) تقدم برقم ٧١١.

١٨٥

وقول امرىء القيس : [الطويل]

١٧٥٥ ـ سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم

وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (١)

والثاني : وهو قول جماعة منهم الزّجّاج وابن درستويه : أنّها حرف جر ، وما بعدها مجرور بها ، وعلى هذا ف «إذا» تتمحّض للظّرفيّة ، ولا يكون فيه معنى الشّرط ، وعلى القول الأوّل يكون العامل في «إذا» ما تخلّص (٢) من معنى جوابها تقديره : إذا بلغوا النّكاح راشدين فادفعوا. وظاهر العبارة لبعضهم أنّ «إذا» ليست بشرطيّة ، لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشّعر ، وقال : «فعلوا ذلك مضطرين» ، وإنما جوزي بها لأنّها تحتاج إلى جواب ، وبأنّه يليها الفعل ظاهرا ، أو مضمرا ، واحتجّ الخليل على عدم شرطيّتها بحصول ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول : أجيئك إذا احمر البسر ، ولا تقول : إن احمر.

قال أبو حيان : وكلامه يدلّ على أنها تكون ظرفا مجردا ، ليس فيها معنى الشّرط ، وهو مخالف للنّحويين ، فإنّهم كالمجمعين على أنها [ظرف](٣) فيها معنى الشّرط غالبا ، وإن وجد في عبارة بعضهم ما ينفي كونها أداة شرط ، فإنّما يعني أنها لا يجزم بها ، إلّا أنها لا تكون شرطا ، وقدّر بعضهم مضافا قال : تقديره يبلغوا حدّ النكاح أو وقته ، والظّاهر أنها لا تحتاج إليه ، والمعنى : صلحوا للنكاح.

فصل في معنى الابتلاء وكيفيته

والابتلاء : الاختبار ، أي اختبروهم في عقولهم وإدراكهم ، وحفظهم أموالهم. نزلت في ثابت بن رفاعة ، مات أبوه رفاعة وتركه صغيرا عند عمه ، فجاء عمّه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحلّ لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية (٤).

قال سعيد بن جبير ومجاهد والشّعبيّ : «لا يدفع إليه ماله ، وإن كان شيخا حتى يؤنس رشده» (٥) ، فالابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم ، فإن كان ممّن يتصرف في السوق

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ص ٩٣ ، والدرر ٦ / ١٤١ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٤٠ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٢٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٢٨ ، ٢٥٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٧٤ ، وشرح المفصل ٥ / ٧٩ ، والكتاب ٣ / ٢٧ ، ٦٢٦ ، ومغني اللبيب ١ / ١٢٧ ، ١٣٠ ، وأسرار العربية ص ٢٦٧ ، وجواهر الأدب ص ٤٠٤ ، ورصف المباني ٥ / ١٨١ ، وشرح المفصل ٨ / ١٩ ، والمقتضب ٢ / ٧٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٦ والدر المصون ٢ / ٣١١.

(٢) في أ : يتخلص.

(٣) سقط في أ.

(٤) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٣٩٤.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٧٦ ، ٥٧٧) عن مجاهد والشعبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٥) عن مجاهد وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

١٨٦

فيدفع الولي إليه شيئا كبيرا من المال ، وينظر في تصرّفه ، وإن كان ممّن لا يتصرف فيختبره في نفقة داره ، والإنفاق على عبيده وأجرائه وتختبر المرأة (١) في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تصرّفه وتدبيره مرارا حيث يغلب على الظن رشده دفع إليه المال.

فصل فيما إذا عاد إلى السّفه بعد أخذ المال

قال القرطبيّ (٢) : «إذا سلّم إليه المال لوجود الرشد ، ثم عاد إلى السّفه عاد الحجر عليه».

وقال أبو حنيفة : لا يعود عليه الحجر ؛ لأنّه بالغ عاقل ، يجوز إقراره في الحدود والقصاص. دليلنا قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ).

ويجوز للوصيّ أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارة وإبضاع وشراء وبيع ، وعليه أن يؤدّي الزّكاة من سائر أمواله عين وحرث (٣) وماشية وفطرة ، ويؤدّي عنه أروش الجنايات ، وقيم المتلفات ، ونفقة الوالدين ، وسائر الحقوق اللازمة ، ويجوز أن يزوجه ، ويؤدّي عنه الصداق ، ويشتري له جارية يتسرّى بها ، ويصالح له وعليه على وجه النّظر.

فصل المراد من بلوغ النكاح

والمراد من بلوغ النّكاح هو الاحتلام ، لقوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) [النور : ٥٩] وعند هذا الحدّ يجري على صاحبه قلم التّكليف ، وإنّما سمي الاحتلام بلوغ النّكاح ، لأنّه إنزال الماء الدّافق الذي يكون في الجماع ، وهذه الآية دالّة على ورود لفظ النّكاح بمعنى الجماع.

واعلم أن للبلوغ خمس علامات ثلاثة منها مشتركة بين الذكور والإناث وهي : الاحتلام ، والسنّ المخصوص ، ونبات الشّعر الخشن على العانة.

وقيل : إنبات الشّعر (٤) الخشن (٥) بلوغ في أولاد المشركين ، ولا يكون لأولاد المسلمين ؛ لأن أولاد المسلمين يمكن الوقوف على مواليدهم بالرّجوع إلى آبائهم ، وأولاد الكفار لا يوقف على مواليدهم ، ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم ، فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغا في حقّهم.

واثنان منها تختّص بالنّساء وهما : الحيض والحبل.

__________________

(١) في أ : ويختبر المولى.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٧.

(٣) في أ : وجوب.

(٤) في ب : العانة.

(٥) في ب : الخشن.

١٨٧

فصل

قال أبو حنيفة : «تصرفات [الصّبي](١) العاقل المميز بإذن الوليّ صحيحة لهذه الآية ، ولأنه يصحّ الاستثناء فيه فيقال : ابتلوا اليتامى إلّا في البيع والشّراء».

قال الشّافعيّ : لا تصحّ تصرفاته ؛ لأنه إنّما أمر بدفع ماله إليه بعد البلوغ وإيناس الرّشد ، وإذا كان لا يجوز دفع المال حال الصغر ، فلا يجوز تصرفه حال الصغر ؛ لأنه لا قائل بالفرق.

والمراد بالابتلاء : اختبار عقله في أنه هل له فهم وعقل في معرفة المصالح والمفاسد؟ بأن يبيع الوليّ ويشتري له بحضوره ، ثم يستكشف من الصبيّ أحوال ذلك البيع والشّراء ، وما فيها من المصالح والمفاسد ، وبهذا (٢) القدر يحصل الابتلاء والاختبار ، وأيضا هب أنّا سلّمنا أنه يدفع إليه شيئا ليبيع أو يشتري ، فلم قلت : إنّ هذا القدر يدل على صحّة ذلك البيع والشّراء؟ بل إذا باع (٣) واشترى ، وحصل به اختبار عقله فالوليّ بعد ذلك يتمم (٤) ذلك البيع والشراء.

قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ).

والفاء جواب «إذا» وفي قوله : (فَادْفَعُوا) جواب «إن» (٥).

وقرأ (٦) ابن مسعود «فإن أحستم» والأصل أحسستم فحذف إحدى السّينين ، ويحتمل أن تكون العين أو اللام ، ومثله قول أبي زبيد (٧) : [الوافر]

١٧٥٦ ـ سوى أنّ العتاق من المطايا

حسين به فهنّ إليه شوس (٨)

وهذا خلاف لا ينقاس ، ونقل بعضهم أنّها لغة سليم ، وأنّها مطّردة (٩) في عين كل فعل مضاعفه اتصل به تاء الضّمير أو نونه ونكّر «رشدا» دلالة على التنويع ، والمعنى أيّ نوع حصل من الرّشد كان كافيا.

وقرأ الجمهور «رشدا» بضمة وسكون ، وابن مسعود (١٠) والسّلميّ بفتحتين ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : وهذا.

(٣) في أ : بلغ.

(٤) في أ : يميز.

(٥) في ب : إذا.

(٦) وقع في المحرر الوجيز ٢ / ١٠ قراءة ابن مسعود «حستم» هكذا ، ثم قال : «بالحاء وسكون السين على مثال فعلتم» واليقين أنها تحريف أو خطأ مطبعي.

والصواب كما هو مثبت هنا ، وفي البحر ٣ / ١٨٠ ، والدر المصون ٢ / ٣١٢.

(٧) في ب : زيد.

(٨) تقدم.

(٩) في أ : مضطردة.

(١٠) وقرأ بها عيسى الثقفي.

انظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٠ ، والبحر المحيط ٣ / ١٨٠ ، والدر المصون ٢ / ٣١٢.

١٨٨

وبعضهم بضمتين ، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف إن شاء الله تعالى. وآنس كذا أحسّ به وشعر ، قال : [الخفيف]

١٧٥٧ ـ آنسن نبأة وأفزعها القن

ناص عصرا وقد دنا الإمساء (١)

وقد قيل : «وجد» عن الفراء.

وقيل : أبصر.

وقيل : رأيتم.

وقيل : آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد.

وقال القرطبي (٢) : وأصل الإيناس في اللّغة الإبصار (٣) ، ومنه قوله (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) [القصص : ٢٩].

قال أهل اللّغة : هو إصابة الخير ، قال تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة :٢٥٦] والغيّ : هو العصيان ، قال تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] فيكون نقيضه هو الرشد ، وقال تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧].

وقال أبو حنيفة : «لا يعتبر هنا الصّلاح في المال فقط» (٤) ، وينبني على هذا أن أبا حنيفة لا يرى الحجر على الفاسق ، والشافعي يراه.

فصل

إذا بلغ وآنس الرّشد زال عنه الحجر ، ودفع إليه ، رجلا كان أو امرأة ، تزوج أو لم يتزوج.

وعند مالك إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج ، فإذا تزوّجت دفع المال إليها ، ولكن لا ينفذ تصرفها إلّا بإذن الزّوج ما لم تكبر وتجرّب ، فإذا بلغ الصبي رشيدا وزال الحجر عنه ثم عاد سفيها [نظر](٥) إن عاد مبذرا لماله حجر عليه ، وإن عاد مفسدا في دينه فقيل : يعاد الحجر عليه ، كما يستدام الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة ، وقيل : لا يعاد ؛ لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء ، وعند أبي حنيفة لا حجر على البالغ العاقل بحال (٦).

قوله : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً).

في نصبهما وجهان :

أحدهما : أنهما منصوبان على المفعول من أجله أي : لأجل الإسراف والبدار.

__________________

(١) البيت للحارث بن حلزة. ينظر البحر ٣ / ١٦١ وشرح المعلقات للتبريزي (٤٣٥) والدر المصون ٢ / ٣١٢ والبحر المحيط ٣ / ١٦١.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٥.

(٣) في ب : الإيصاء.

(٤) في ب : قط.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : بحاله.

١٨٩

ونقل عن ابن عباس أنه قال : «كان الأولياء يستغنمون أكل مال اليتيم ، لئلا يكبر (١) فينزع المال منهم».

والثّاني : أنّهما مصدران في موضع الحال أي : مسرفين ومبادرين.

وبدارا مصدر بادر والمفاعلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابها ، بمعنى أن الوليّ يبادر اليتيم إلى أخذ ماله ، واليتيم يبادر إلى الكبر ، ويجوز أن يكون من واحد بمعنى : أنّ فاعل بمعنى فعل نحو : سافر وطارق (٢).

قوله : «أن تكبروا». فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول بالمصدر أي : وبدارا كبرهم ، كقوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤ ، ١٥] وفي إعمال المصدر المنوّن الخلاف المشهور.

والثّاني : أنّه مفعول من أجله على حذف أي : مخافة أن يكبروا ، وعلى هذا فمفعول «بدارا» محذوف ، وهذه الجملة النّهييّة فيها وجهان :

أصحهما : أنها استئنافية ، وليست معطوفة على ما قبلها.

والثّاني : أنّها عطف على ما قبلها ، وهو جواب الشرط ب «إن» أي : فادفعوا ولا تأكلوها ، وهذا فاسد ؛ لأن الشّرط وجوابه ، مترتّبان على بلوغ النّكاح وهو معارض لقوله : (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) فيلزم منه سبقه على ما ترتّب (٣) عليه ، وذلك ممتنع.

والمعنى : ولا تأكلوها يا معشر الأولياء «إسرافا» أي : بغير حقّ ، «وبدارا» أي : ومبادرة ، ثم بيّن ما يحلّ لهم من مالهم فقال : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) أي : فليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلا ولا كثيرا ، والعفة الامتناع مما لا يحل.

قال الواحديّ (٤) : استعفف عن الشيء وعفّ : إذا امتنع منه وتركه.

قال الزمخشريّ : «استعف أبلغ من عفّ كأنّه طالب زيادة العفّة».

قوله : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً).

محتاجا إلى مال اليتيم ، وهو يحفظه ويتعمّده (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ).

روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنّي فقير وليس لي شيء ولي يتيم ، فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذّر ولا متأثّل» (٥).

__________________

(١) في ب : يكثر.

(٢) في ب : وفارق.

(٣) في أ : ترتبت.

(٤) ينظر تفسير الوسيط ٢ / ١٣.

(٥) أخرجه أبو داود (٢٨٧٢) والنسائي (٢ / ١٣١) وابن ماجه (٢٧٨) وأحمد (٢ / ١٨٦ ، ٢١٥) وابن الجارود في «المنتقى» (٩٥٢) والبيهقي (٦ / ٢٨٤) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني فقير ... إلخ.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه.

١٩٠

واختلفوا ، هل يلزمه القضاء؟ فقال مجاهد وسعيد بن جبير : يقتضي إذا أيسر لقوله : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(١) والمعروف : هو أن يقترض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيسر قضاه.

قال عمر بن الخطّاب : «إنّي أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت» (٢).

وأكثر الروايات عن ابن عباس ، وبعض العلماء أنّ القرض مخصوص بأصول الأموال من الذّهب والفضّة وغيرهما ، فأمّا التّناول من ألبان المواشي ، واستخدام العبيد ، وركوب الدّواب ، فمباح له إذا لم يضرّ بالمال ، وهذا قول أبي العالية (٣) ؛ لأنه أمر بدفع أموالهم إليهم.

قال الشّعبيّ : «لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة».

وقال قوم : لا قضاء عليه لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً) وهذا يشعر بأن له أن يأكل بقدر (٤) الحاجة ، وقوله (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أن للوصي أن ينتفع بمقدار الحاجة ، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ، وإلّا لم يكن لقوله (ظُلْماً) معنى.

وأيضا الحديث المتقدم ، وأيضا فيقاس على السّاعي فإنّه يضرب له من الصّدقات على قدر عمله ، فكذا هاهنا.

وقال أبو بكر الرازيّ (٥) : الّذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ، ولا على سبيل الابتداء سواء كان غنيا أو فقيرا ، لقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) إلى قوله (حُوباً كَبِيراً ،) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) إلى قوله (سَعِيراً) [النساء : ١٠] وقوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٢٧].

فصل

قال القرطبيّ : كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه كذلك عليه (٦) حفظ الصبيّ في بدنه وتأديبه ، روي أنّ رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ في حجري يتيما أآكل من ماله؟ قال :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٨٤ ، ٥٨٥) عن سعيد بن جبير ومجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٨٢) والبيهقي في «سننه» (٦ / ٣٥٤).

والخبر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٦) وزاد نسبته لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والنحاس في ناسخه وابن المنذر من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٥٦.

(٤) في أ : مقدار.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٥٦.

(٦) في أ : كقولك عليك.

١٩١

«نعم غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله» قال : يا رسول الله أفأضربه ، قال : «ما كنت ضاربا منه ولدك» (١).

(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ).

وهذا أمر رشاد ، وليس بواجب ، أمر الولي بالإشهاد (٢) على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ ليزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة.

واختلفوا فيما إذا ادّعى الوصيّ بعد بلوغ اليتيم (٣) أنّه دفع المال إليه هل يصدّق؟.

أو قال أنفقت عليه المال في صغره؟ فقال مالك والشّافعيّ : لا يصدّق.

وقال أبو حنيفة : «يصدّق».

قوله : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

في «كفى» قولان :

أحدهما : أنّها اسم فعل.

والثاني ـ وهو الصّحيح ـ أنها فعل ، وفي فاعلها قولان :

الأول : وهو الصّحيح أنّه المجرور بالباء ، والباء زائدة فيه وفي فاعل مضارعه نحو : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) [فصلت : ٥٣] باطّراد فقال أبو البقاء (٤) : زيدت لتدلّ على معنى الأمر إذ التقدير : اكتف بالله ، وهذا القول سبقه إليه مكي والزّجاج فإنه قال : دخلت الباء في الفاعل ؛ لأن معنى الكلام الأمر أي : الباء ليست بزائدة ، وهو كلام غير صحيح ؛ لأنه من حيث المعنى الذي قدّره يكون الفاعل هم (٥) المخاطبين ، و «بالله» متعلّق به ، ومن حيث كون «الباء» دخلت في الفاعل يكون الفاعل هو الله تعالى ، فيتناقض. وفي كلام ابن عطية نحو من قوله أيضا فإنه قال : «بالله» في موضع رفع بتقدير (٦) زيادة الخافض ،

__________________

(١) أخرجه ابن حبان (٦ / ٢٢٠) رقم (٤٢٣٠) والطبراني في «المعجم الصغير» (١ / ٨٩) وابن عدي في «الكامل» (٤ / ١٣٩٠) ومن طريقه البيهقي (٦ / ٤) من طريق معلى بن مهدي ثنا جعفر بن سليمان عن أبي عامر الخزاز عن عمرو بن دينار عن جابر مرفوعا.

وقال ابن عدي : لا أعرفه إلا من هذا الطريق وهو غريب ولا أعلم يرويه عن أبي عامر غير جعفر بن سليمان.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ١٦٣) وقال : رواه الطبراني في الصغير وفيه معلى بن مهدي وثقه ابن حبان وغيره وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٦) وعزاه لابن حبان وحده وأخرجه البيهقي (٦ / ٤) مرسلا عن الحسن العرني.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٦) وزاد نسبته لعبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي شيبة والنحاس في ناسخه.

(٢) في ب : بالإرشاد.

(٣) في أ : لليتيم.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٨.

(٥) في أ : ضمير.

(٦) في أ : يتقدر.

١٩٢

وفائدة زيادته تبيّن معنى الأمر في صورة الخبر أي : اكتفوا بالله ، «فالباء» تدل على المراد من ذلك ، وفي هذا ما ردّ به على الزّجّاج ، وزيادة جعل الحرف زائدا وغير زائد.

والثاني : أنّه مضمر والتّقدير : كفى الاكتفاء و «بالله» على هذا في موضع نصب ؛ لأنه مفعول به في المعنى ، وهذا رأي ابن السّراج ، وردّ هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة كقوله : [البسيط]

١٧٥٨ ـ هل تذكرون إلى الدّيرين هجرتكم

ومسحكم صلبكم رحمان قربانا (١)

أي قولكم : يا رحمان قربانا ، وقال أبو حيان : وقيل : الفاعل مضمر ، وهو ضمير الاكتفاء أي : كفى هو أي : الاكتفاء ، و «الباء» ليست زائدة ، فيكون في موضع نصب ويتعلق آنذاك بالفاعل ، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين ، لأنه لا يجوز عندهم إعمال المصدر مضمرا ، وإن عني بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضا لوجهين : حذف الفاعل ، وإعمال المصدر محذوفا وإبقاء معموله ، وفيه نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : إذا قلنا بأن فاعل «كفى» مضمر لا نعلق «بالله» بالفاعل حتّى يلزم ما ذكر بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدّم.

وقال ابن عيسى : إنّما دخلت الباء في (كَفى بِاللهِ) ؛ لأنّه كان يتصل اتّصال الفاعل [وبدخول الباء اتصل](٢) اتصال المضاف ، واتّصال الفاعل ، لأنّ الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره فضوعف لفظها لمضاعفة معناها ، ويحتاج إلى فكر.

قوله : (حَسِيباً) فيه وجهان :

أصحهما : أنه تمييز يدلّ على ذلك صلاحيّة دخول «من» عليه ، وهي علامة التميز.

والثّاني : أنه حال.

و «كفى» هاهنا متعدّية لواحد ، وهو محذوف تقديره : «وكفاكم الله».

وقال أبو البقاء (٣) : «وكفى» يتعدّى إلى مفعولين حذفا هنا تقديره : كفاك الله شرّهم بدليل قوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧] والظاهر أن معناها غير معنى هذه.

قال أبو حيّان بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد : وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧] وهو محل نظر.

قال ابن الأنباري والأزهري (٤) : يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب ، وأن يكون بمعنى الكافي ، فمن الأول قولهم للرّجل تهديدا : حسبه الله ، [ومعناه : يحاسبه] الله على ما يفعل من الظّلم ، ومن الثّاني قولهم : حسبك الله ، أي : كافيك الله وهذا وعيد سواء فسّرنا الحسيب بالمحاسب ، أو بالكافي.

__________________

(١) تقدم برقم ٣٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٨.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٥٧.

١٩٣

قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)(٧)

لما ذكر تعالى أمر اليتامى ، وصله بذكر المواريث ، وهذا هو النّوع الرّابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة ، ويكون ما يتعلق بالمواريث.

قال ابن عباس : سبب نزول هذه الآية أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة ، فجاء رجلان من بني عمّه (١) وهما وصيّان له يقال لهما : سويد وعرفجة فأخذا ماله ، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا وكانوا في الجاهليّة لا يورثون النّساء ولا الصغار ، وإن كان الصغير ذكرا (٢) إنما كانوا يورثون الرّجال ، ويقولون لا يعطى إلا من قاتل ، وطاعن بالرّمح ، وحاز القسمة وذبّ عن الحوزة ، فجأت أمّ كحّة (٣) فقالت : يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات ، وترك عليّ بنات ، وأنا امرأته ليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهنّ مالا حسنا ، وهو عند سويد وعرفجة ، ولم يعطياني ولا بناتي شيئا وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ارجعي إلى بيتك حتى أنظر فيما يحدث الله في أمرك». فدعاهما رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل كلّا ، ولا ينكأ عدوّا فأنزل الله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) يعني للذّكور مما ترك أولاد الميّت وأقربائه (نَصِيبٌ) حظّ (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) من الميراث ، (وَلِلنِّساءِ) نصيب ، ولكنه تعالى لم يبيّن المقدار في هذه الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تفرّقا من مال أوس بن ثابت شيئا فإنّ الله عزوجل جعل لبناته نصيبا ممّا ترك ، ولم يبيّن كم هو حتّى أنظر ما ينزل فيهنّ» فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سويد وعرفجة أن ادفعا إلى أمّ كحة الثمن وإلى بناته الثلثين ، ولكما باقي المال ، فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية (٤).

بين الله تعالى أن للنّساء حقا في الميراث خلافا لعادة العرب في الجاهليّة وذكره مجملا أولا ثم بيّنه بعد ذلك على سبيل التدريج ؛ لأنّ النّقل عن العادة يشق (٥) ، فقال لهما : «ادفعا إليها نصيب بناتها الثّلثين ولكما باقي المال».

قوله : (مِمَّا تَرَكَ) هذا الجارّ في محل رفع ؛ لأنه صفة للمرفوع قبله أي : نصيب

__________________

(١) في ب : لحمه.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٣١.

(٣) أم كجة بضم الكاف والحاء المهملة زوج أوس بن ثابت. نزلت فيها آية المواريث. ينظر أسد الغابة ٧ / ٣٨١.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٧) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس.

وأخرجه الطبري (٧ / ٥٩٨) عن عكرمة مختصرا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٥) في ب : مشتق.

١٩٤

كائن أو مستقر ، ويجوز أن يكون في محلّ نصب متعلقا بلفظ «نصيب» لأنه من تمامه. وقوله (مِمَّا قَلَ) [و](١) في هذا الجارّ أيضا وجهان :

أحدهما : أنه بدل من «ما» الأخيرة (٢) في «مما ترك» بإعادة حرف الجرّ في البدل ، والضمير (٣) في «منه» عائد على «ما» الأخيرة ، وهذا البدل مراد أيضا في الجملة الأولى حذف للدلالة عليه ، ولأن المقصود بذلك التأكيد ؛ لأنه تفصيل للعموم المفهوم من قوله (مِمَّا تَرَكَ) فجاء هذا البدل مفصّلا لحالتيه من الكثرة والقلّة.

والثاني : أنه حال من الضّمير المحذوف من «ترك» أي : مما تركه قليلا ، أو كثيرا ، أو مستقرا مما قلّ.

فصل

قال القرطبيّ (٤) : استدلّ علماؤنا بهذه الآية على قسم المتروك (٥) على الفرائض ، فإن كانت القسمة لغير المتروك عن حاله كالحمام الصّغير ، والدّار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها فقال مالك (٦) : يقسم ذلك ، وإن لم ينتفع أحدهم بنصيبه لقوله (٧) تعالى (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧] وبه قال الشّافعيّ وأبو حنيفة (٨).

قال أبو حنيفة : في الدّار الصّغيرة يكون بين اثنين فطلب أحدهما القسمة ، وأبى صاحبه قسمت له.

وقال ابن أبي ليلى : إن كان فيهم من لا ينتفع بقسمه ، فلا يقسم ، وكل قسم يدخل فيه الضّرر على أحدهما (٩) دون الآخر فإنّه لا يقسم ، وهو قول أبي ثور.

وقال ابن المنذر : وهو أصحّ القولين (١٠).

قوله : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) فيه أوجه :

أحدها : أن «نصيبا» ينتصب على أنّه واقع موقع المصدر ، والعامل فيه معنى ما تقدّم إذ التّقدير عطاء أو استحقاقا ، وهذا معنى قول من يقول منصوب على المصدر المؤكد.

قال الزّمخشريّ : كقوله (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١١] كأنه قيل : قسمة مفروضة ، وقد سبقه الفرّاء إلى هذا ، قال : نصب ؛ لأنه أخرج مخرج المصدر ؛ ولذلك وحّده كقولك : له عليّ كذا حقّا لازما ، ونحوه (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ،) ولو كان اسما صحيحا لم ينصب ، لا تقول : لك عليّ حق درهما.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : الآخرة.

(٣) في أ : والضم.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٣٢.

(٥) في أ : التركة.

(٦) في أ : ذلك.

(٧) في أ : كقوله.

(٨) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٣٢.

(٩) في أ : أحدهم.

(١٠) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٣٢.

١٩٥

الثاني : أنّه منصوب على الحال ويحتمل أن يكون صاحب الحال الفاعل في «قلّ» ، أو «كثر» ، ويحتمل أن يكون «نصيب» ، وإن كان نكرة لتخصّصه إمّا بالوصف ، وإمّا بالعمل والعامل في الحال الاستقرار الّذي في قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) ، وإلى نصبه حالا ذهب الزّجّاج ومكيّ قالا : المعنى لهؤلاء أنصباء على ما ذكرناها في حال الفرض.

الثالث : أنّه منصوب على الاختصاص بمعنى : أعني نصيبا ، قاله الزّمخشريّ.

قال أبو حيّان : إن عنى الاختصاص المصطلح عليه فهو مردود بكونه نكرة ، وقد نصّوا على اشتراط تعريفه.

الرابع : النصب بإضمار فعل أي : أوجبت أو جعلت لهم نصيبا.

الخامس : أنه مصدر صريح أي نصبته نصيبا.

فصل دلالة الآية على توريث ذوي الأرحام

قال أبو بكر الرازي : هذه الآية تدلّ على توريث (١) ذوي الأرحام : لأنّ العمّات والأخوال ، والخالات ، وأولاد النبات من الأقربين ، فوجب دخولهم تحت قوله (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أقصى ما في الباب أنّ قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلّا (٢) أنّا نثبت كونهم مستحقين لأصل النّصيب بهذه الآية ، وأمّا المقدار فنستفيده من سائر الدلائل.

فصل

معنى «مفروضا» أي : مقطوعا واجبا وأصل الفرض : الحز (٣) والتأثير ، ولذلك سمّي الحزّ (٤) الّذي في سية القوس ، فرضا ، والحزّ (٥) الّذي في القداح يسمّى أيضا فرضا ، وهو علامة لتميّز بينها وبين غيرها ، والفرضة (٦) علامة في مقسم الماء يعرف بها كل ذي حقّ حقّه من الشّرب ، فهذا أصل الفرض في اللّغة ، ولهذا سمّى أصحاب أبي حنيفة الفرض [به](٧) ما (٨) ثبت بدليل قطعيّ ، والواجب ما (٩) ثبت بدليل ظنيّ ، قالوا : إنّ الفرض عبارة عن الحزّ والقطع ، والواجب عبارة عن السقوط يقال : وجبت الشّمس : إذا سقطت وسمعت وجبة يعنى : سقطة ، قال تعالى : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) [الحج : ٣٦] أي : سقطت ، وتأثير القطع أقوى من تأثير السّقوط.

قال ابن الخطيب (١٠) : وهذا التقرير يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام

__________________

(١) في أ : ترتيب.

(٢) في ب : «إلا أنها تدل على».

(٣) في ب : جزف.

(٤) في ب : الحر.

(٥) في ب : الحر.

(٦) في أ : يتميز بها عن غيرها وافترضته.

(٧) سقط في ب.

(٨) في ب : بما.

(٩) في ب : بما.

(١٠) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٥٩.

١٩٦

[لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل](١) قاطع بإجماع الأمّة ، فلم يكن توريثهم فرضا ، والآية إنّما تناولت التّوريث المفروض فلزم القطع بأنّ هذه الآية ما تناولت ذوي الأرحام.

قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٨)

اختلفوا في المراد بهذه القسمة على ثلاثة أقوال :

القول الأوّل : أنّ المراد بها قسمة الميراث ، واختلف القائلون بهذا القول ، هل المراد به الوجوب أو النّدب؟ فالقائلون بالوجوب اختلفوا ، فقال سعيد بن المسيّب والضّحاك : كانت هذه قبل آية المواريث ، فلمّا نزلت آية المواريث جعلت المواريث لأهلها ونسخت هذه الآية (٢) ، وقال ابن عبّاس والشّعبيّ والنّخعيّ والزّهريّ : هي محكمة (٣).

قال مجاهد : هي واجبة على أهل الميراث ما طالت به (٤) أنفسهم.

قال الحسن (٥) : كانوا يعطون التابوت والأواني ورثّ الثياب والمتاع والشيء الذي يستحيا من قسمته ، وإن كان بعض الورثة صغارا فقد اختلفوا فيه ، قال ابن عبّاس وغيره (٦) : إن كانت الورثة كبارا رضخوا لهم ، وإن كانت الورثة صغارا اعتذروا إليهم ، فيقول الولي : إني لا أملك هذا المال إنّما هو للصغار ، ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم. وقال بعضهم (٧) : ذلك حقّ واجب في أموال الصّغار والكبار ، فإن كانوا كبارا تولوا إعطاءهم وإن كانوا صغارا أعطى وليهم ، وروى محمّد بن سيرين أنّ عبيدة السّلماني قسم أموال أيتام ، وأمر بشاة فذبحت فصنع لهم طعاما لأجل هذه الآية ، وقال : لو لا هذه الآية لكان هذا من مالي (٨).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩) عن سعيد بن المسيب والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٩) عن سعيد بن المسيب وزاد نسبته لعبد الرزاق وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والبيهقي.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٧ ـ ٨) عن ابن عباس والشعبي وسعيد بن جبير والحسن والزهري.

وأخرجه البخاري (٤ / ٥٦) كتاب الوصايا باب قوله تعالى وإذا حضر القسمة رقم (٢٧٥٩) والبيهقي في «سننه» (٦ / ٢٦٦) عن ابن عباس بلفظ : إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت ...

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٨) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٧) عن مجاهد.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٣٩٧.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٣٩٧.

(٧) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٣٩٧.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٧).

١٩٧

وقال قتادة عن يحيى بن معمر : ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن النّاس (١) ، هذه الآية ، وآية الاستئذان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النور : ٥٨] وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى)(٢) [الحجرات : ١٣].

وقال آخرون : ذلك على سبيل النّدب إذا كان الورثة كبارا ، فإن كانوا صغارا فليس إلّا القول المعروف ، وهذا هو الّذي عليه فقهاء الأمصار لأنّه لو كان لهم حقّ معين لبينه الله ـ تعالى ـ كسائر الحقوق ، ولو كان واجبا لتوفّرت الدّواعي على نقله لشدّة حرص الفقراء والمساكين على تقريره ، ولو كان كذلك لنقل على سبيل التّواتر.

القول الثّاني : أنّ المراد بالقسمة الوصيّة فإذا [حضرها من لا يرث](٣) من الأقرباء اليتامى والمساكين أمر الله تعالى الوصيّ أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا.

القول الثالث : أنّ قوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) بيّن الذين يرثون والمراد من اليتامى والمساكين أي : الذين لا يرثون ثم قال : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أنّه راجع إلى أولي القربى الذين يرثون. [وقوله : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) راجع إلى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون](٤). وهذا القول محكيّ عن سعيد بن جبير (٥) ، وقدم اليتامى على المساكين ، لأنّ ضعفهم أكثر وحاجتهم أشدّ فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر.

قوله : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ).

في هذا الضمير ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه يعود على المال ، لأنّ القسمة تدلّ عليه بطريق الالتزام.

الثّاني : أنّه يعود على «ما» في قوله : (مِمَّا تَرَكَ).

الثّالث : أنّه يعود على نفس القسمة ، وإن كان مذكرا مراعاة للمعنى إذ المراد بالقسمة الشيء المقسوم ، وهذا على رأي من يرى ذلك ، وأمّا من يقول : القسمة من الاقتسام كالخبرة من الاختبار أو بمعنى القسم فلا يتأتى ذلك.

قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٩)

قرأ الجمهور بسكون اللّام في الأفعال الثّلاثة وهي لام الأمر ، والفعل بعدها مجزوم

__________________

(١) في أ : نزلت للناس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٨) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٨) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٩) بمعناه وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير عن سعيد بن جبير.

١٩٨

بها ، وقرأ الحسن (١) وعيسى بن عمر بكسر اللام في الأفعال الثّلاثة وهو الأصل ، والإسكان تخفيف إجراء للمنفصل مجرى المتصل ، فإنهم شبّهوا «وليخش» ب «كيف» (٢) وهذا كما تقدّم الكلام في نحو : «وهي» و «لهي» في أول البقرة.

قال القرطبي : حذفت الأولف من (وَلْيَخْشَ) للجزم بالأمر ، ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الأمر قياسا على حروف الجرّ إلّا في ضرورة شعر ، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم.

وأنشدوا : [الوافر]

١٧٥٩ ـ محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا (٣)

أراد لتفد (٤) وهو مفعل «يخشى» محذوف لدلالة الكلام عليه ، و «لو» هذه فيها احتمالان:

أحدهما : أنّها على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره أو حرف امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين.

والثّاني : أنّها بمعنى «إن» الشّرطية وإلى الاحتمال الأوّل ذهب ابن عطيّة والزّمخشري.

قال الزّمخشريّ : فإن قلت ما معنى وقوع (لَوْ تَرَكُوا) وجوابه صلة ل «الذين» قلت : معناه : وليخش الّذين صفتهم وحالهم أنّهم لو شارفوا (٥) أن يتركوا خلفهم ذريّة ضعافا ، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل : [الوافر]

١٧٦٠ ـ لقد زاد الحياة إليّ حبّا

بناتي إنّهنّ من الضّعاف

أحاذر أن يرين البؤس بعدي

وأن يشربن رنقا بعد صافي (٦)

__________________

(١) وقرأ بها الزهري وأبو حيوة.

انظر : إتحاف ١ / ٥٠٣ ، والبحر المحيط ٣ / ١٨٥ ، والدر المصون ٢ / ٣١٥.

(٢) في ب : بكيفه.

(٣) البيت لأبي طالب ينظر في شرح شذور الذهب ص ٢٧٥ ، وله أو للأعشى في خزانة الأدب ٩ / ١١ ، وللأعشى أو لحسان أو لمجهول في الدرر ٥ / ٦١ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٣١٩ ، ٣٢١ ، والإنصاف ٢ / ٥٣٠ ، والجنى الداني ص ١١٣ ، ورصف المباني ص ٢٥٦ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٩١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٧٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥٩٧ ، وشرح المفصل ٧ / ٣٥ ، ٦٠ ، ٦٢ ، ٩ / ٢٤ ، والكتاب ٣ / ٨ ، واللامات ص ٩٦ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٢٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤١٨ ، والمقتضب ٢ / ١٣٢ ، والمقرب ١ / ٢٧٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٥.

(٤) في ب : لتعذره.

(٥) في أ : فارقوا.

(٦) البيتان لأبي خالد القناني ينظر الكامل (٨٩٥) وذكرهما أبو تمام في الحماسة ضمن أبيات ، إصلاح المنطق (٥٩) والدر المصون ٢ / ٣١٦ ، والبحر المحيط ٣ / ١٨٥ ، والزمخشري ١ / ٤٧٨.

١٩٩

وقال ابن عطية (١) تقديره : لو تركوا لخافوا ، ويجوز حذف اللام من جواب «لو» ووجه التمسك بهذه العبارة أنّه جعل اللام مقدّرة في جوابها ، ولو كانت «لو» بمعنى «إن» الشّرطيّة لما جاز ذلك ، وقد صرّح غيرهما بذلك فقال : (لَوْ تَرَكُوا) «لو» يمتنع بها الشّيء لامتناع غيره ، و «خافوا» جواب «لو».

وإلى الاحتمال الثّاني ذهب أبو البقاء (٢) وابن مالك ، قال ابن مالك : «لو» هنا شرطية بمعنى «إن» فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال ، والتّقدير : وليخش الذين إن تركوا ولو وقع بعد «لو» هذه مضارع كان مستقبلا كما يكون بعد «إن» وأنشد : [الكامل]

١١٧٦١ ـ لا يلفك الرّاجوك إلّا مظهرا

خلق الكرام ولو تكون عديما (٣)

أي : وإن تكن عديما ، ومثل هذا البيت قول الآخر : [البسيط]

١٧٦٢ ـ قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم

دون النّساء ولو باتت بأطهار (٤)

والّذي ينبغي أن تكون على بابها من كونها تعليقا في الماضي ، وإنّما حمل ابن مالك ، وأبا البقاء على جعلها بمعنى «إن» توهّم أنّه لمّا أمر بالخشية ـ والأمر مستقبل ومتعلّق الأمر موصول لم يصحّ أن تكون الصّلة ماضية على تقدير دلالته على العدم (٥) الذي ينافي (٦) امتثال الأمر ، وحسّن مكان «لو» لفظ «إن» ولأجل هذا التوهّم لم يدخل الزمخشري «لو» على فعل مستقبل ، بل أتى بفعل ماض مسند للموصول حالة الأمر فقال : «وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا».

قال أبو حيّان : «وهو الّذي توهّموه لا يلزم ، إلّا إن كانت الصّلة (٧) ماضية في المعنى واقعة بالفعل ، إذ معنى (لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ) أي : ماتوا فتركوا من خلفهم ، فلو كان كذلك للزم التّأويل في «لو» أن تكون بمعنى «إن» إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل ، فإذا كان ماضيا على تقدير فيصحّ أن يقع صلة وأن يكون العامل في الموصول الفعل المستقبل (٨) نحو قولك : ليزرنا الذي لو مات أمس لبكيناه». انتهى.

وأمّا البيتان المتقدّمان فلا يلزم من صحّة جعلها فيهما بمعنى «إن» أن تكون في الآية كذلك ؛ لأنّا في البيتين نضطر إلى ذلك ، أمّا البيت الأوّل فلأن جواب «لو» محذوف

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٤ / ٢٩.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٨.

(٣) تقدم برقم ٢٧١.

(٤) البيت للأخطل ـ ينظر ديوانه (١ / ١٧٢) وشواهد المغني (٦٤٦) والمقرب ١ / ٩ والنوادر (١٥٠) والحماسة الشجرية ١ / ٣٨١ والدر المصون ٢ / ٣١٦ والبحر المحيط ٣ / ١٨٦.

(٥) في أ : القدم.

(٦) في أ : يتآتى.

(٧) في أ : القيلة.

(٨) في ب : المستقل.

٢٠٠