اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

إذ لا تقتضي ترتيبا ؛ إلا أن الزّمخشريّ رحمه‌الله تعالى خصّ هذا الوجه بكون الخطاب [للمؤمنين](١) في (يا أَيُّهَا النَّاسُ) لمعاصري الرسول عليه‌السلام فإنه قال : والثاني أنه يعطف على «خلقكم» ويكون الخطاب للذين بعث إليهم الرسول ، والمعنى : خلقكم من نفس آدم ؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [منه](٢) وخلق منها أمّكم حواء.

فظاهر هذا خصوصيّة الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين ، وفيه نظر ، وقدّر بعضهم مضافا في «منها» أي : «من جنسها زوجها» ، وهو قول أبي مسلم (٣) ، قال : وهو كقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل : ٧٢] وقال (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] وقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ) [التوبة: ٢٨].

قال : وحواء لم تخلق من آدم ، وإنما خلقت من طينة فضلت من طينة آدم (٤).

قال القاضي (٥) : والأول أقوى لقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ).

قال ابن الخطيب : «يمكن أن يجاب بأن كلمة «من» لابتداء الغاية ، فلمّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والايجاد وقع بآدم صحّ أن يقال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وأيضا فالقادر على خلق آدم من التراب ، [كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب](٦) ، وإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه».

وقرىء «وخالق وباثّ» (٧) بلفظ اسم الفاعل ، وخرّجه الزمخشريّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : وهو خالق وباثّ.

ويقال : بثّ وأبثّ ومعناه «فرّق» ثلاثيا ورباعيا (٨).

قال ابن المظفر (٩) : «البثّ تفريقك الأشياء».

يقال : بثّ الخيل في الغارة ، وبثّ الصيّاد كلابه ، وخلق الله الخلق : بثّهم في الأرض ، وبثثت البسطة إذا نشرتها. قال تعالى : (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية : ١٦].

فإن قيل : ما المناسبة بين الأمر بالتقوى وما ذكر معه من الوصف؟ فالجواب : لما ذكر أنّه خلقنا من نفس واحدة ، وذلك علة لوجوب الانقياد علينا لتكاليفه ؛ لأنا عبيده وهو

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣١.

(٤) المصدر السابق.

(٥) زيادة من الرازي لتمام المعنى.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦٢ ، والدر المصون ٢ / ٢٩٦.

(٧) ينظر : تفسير الكشاف ١ / ٤٦٢.

(٨) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٩٦ ، عمدة الحفاظ ١ / ١٧٩.

(٩) في أ : ابن الخطيب ينظر تفسير الرازي ٩ / ١٣٢ ، معزوا لابن المظفر.

١٤١

مولانا ، ويجب على العبد الانقياد لمولاه ؛ ولأنه أنعم ومنّ بوجوه الإنعام والامتنان ، فأوجد وأحيا وعلّم وهدى ، فعلى العبد أن يقابل تلك النّعم بأنواع الخضوع والانقياد ؛ ولأنه بكونه موجدا وخالقا وربّا يجب علينا عبادته ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثوابا ؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب ، وثواب هذا إن سلّمنا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ، فكيف وهذا محال ؛ لأن الطاعات لا تحصل إلّا بخلق الله ـ تعالى ـ القدرة عليها ، والداعية إليها [ومتى حصلت القدرة والداعي كان] مجموعهما موجبا لصدور الطاعة ، فتكون تلك الطاعة إنعاما آخر.

وأيضا أنّه خلقنا من نفس واحدة ، ذلك أيضا يوجب علينا طاعته لأنّ ذلك يدلّ على كمال القدرة ؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلّا إنسان يشاكله (١) ويشابهه في الخلقة والطبيعة ، ولمّا اختلف الناس في الصفات والألوان ، دلّ على أن الخالق قادر مختار عالم ، يجب الانقياد لتكاليفه ؛ ولأن الله تعالى عقّب الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسان إلى اليتامى والنساء والضّعفاء وكونهم من نفس واحدة باعث على ذلك بكونه [وذلك لأن الأقارب لا بد أن](٢) يكون بينهم مواصلة وقرابة ، وذلك يزيد في المحبة ، ولذلك يفرح الإنسان بمدح (٣) أقاربه ويحزن بذمهم فقدّم ذكرهم (٤) (٤) ، فقال : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ليؤكد شفقة بعضنا على بعض.

فإن قيل : لم لم يقل : وبثّ منها الرّجال والنّساء.

فالجواب : لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما ، وذلك محال ، فلهذا عدل إلى قوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

وقوله : «كثيرا» فيه وجهان (٥) :

أظهرهما : أنه نعت ل «رجالا».

قال أبو البقاء (٦) : ولم يؤنثه حملا على المعنى ؛ لأن «رجالا» بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذكّر الفعل المسند إلى جماعة المؤنث لقوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) [يوسف : ٣٠].

والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهما بثا كثيرا ؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه (٧) في مثله النصب على الحال.

__________________

(١) في أ : يقابله.

(٢) زيادة من الرازي لتمام المعنى.

(٣) في ب : أن يمدح.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٠.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٩٦.

(٦) ينظر إملاء ما منّ به الرحمان بهامش الفتوحات الإلهية ٢ / ١٨١ طبعة الحلبي والدر المصون الموضع السابق.

(٧) قال السيوطي في الهمع ٦ / ٢٨٦ : يجوز في هذا النوع حذف إحدى التاءين تخفيفا ، وهل المحذوف الأولى أو الثانية؟ قولان : أصحهما الثاني ، وهو مذهب سيبويه والبصريين ، وقال الكوفيون بالمحذوف ـ

١٤٢

فإن قيل : لم خصّ الرّجال بوصف الكثرة دون النساء؟ ففيه جوابان :

أحدهما : أنه حذف صفتهنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره : ونساء كثيرة.

والثاني : أنّ الرّجال لشهرتهم [وبروزهم](١) يناسبهم ذلك بخلاف النّساء فإنّ الأليق بهنّ الخمول والإخفاء.

قوله (تَسائَلُونَ) قرأ الكوفيون (٢) «تساءلون» بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفا ، والأصل : «تتساءلون» به ، وقد تقدّم الخلاف : هل المحذوف الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين ؛ لأنها مقاربتها في الهمس ، ولهذا تبدل من السين ، قالوا : «ست» والأصل «سدس» وقرأ (٣) عبد الله : «تسألون» من سأل الثلاثي ، وقرىء «تسلون» (٤) بنقل حركة الهمزة على السين ، و «تساءلون» على التفاعل فيه وجهان :

أحدهما : المشاركة (٥) في السؤال.

والثاني : أنه بمعنى فعل ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله.

قال أبو البقاء (٦) : «ودخل حرف الجرّ في المفعول ؛ لأن المعنى : «تتحالفون» يعني أن الأصل تعدية «تسألون» إلى الضمير بنفسه ، فلما ضمّن معنى «تتحالفون» عدّي تعديته».

قوله : (وَالْأَرْحامَ) الجمهور نصبوا الميم ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على لفظ الجلالة ، أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها ، وقدّر بعضهم مضافا أي : قطع الأرحام.

ويقال : إنّ هذا في الحقيقة من عطف الخاصّ على العام ، وذلك أن معنى اتقوا

__________________

ـ الأولى ، وهي حرف المضارعة.

قال سيبويه في الكتاب ٤ / ٤٧٦ : فإن التقت التاءان في تتكلمون وتتنزلون ، فأنت بالخيار ، إن شئت أثبتهما ، وإن شئت حذفت أحدهما. وتصديق ذلك قوله ـ عزوجل ـ (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ،)(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) وإن شئت حذفت التاء الثانية أولى بالحذف ، لأنها هي التي تسكن وتدغم في قوله تعالى : (فَادَّارَأْتُمْ) و (ازَّيَّنَتْ) وهي التي يفعل بها ذلك في (يَذْكُرُونَ).

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : السبعة ٢٢٦ ، والحجة ٣ / ١١٨ ، ١١٩ ، وحجة القراءات ١٨٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٨٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٧ ، وشرح شعلة ٣٣١ ، والعنوان ٨٣ ، وإتحاف ١ / ٥٠١.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤ ، والبحر المحيط ٣ / ١٦٥ ، والدر المصون ٢ / ٢٩٦.

(٤) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٦٥ ، والدر المصون ٢ / ٢٩٦.

(٥) في ب : المشار إليه.

(٦) ينظر : إعراب القرآن ٢ / ١٨١ ، الدر المصون ٢ / ٢٩٦.

١٤٣

الله ؛ اتقوا مخالفته ، وقطع الأرحام مندرج فيها ، وهذا قول مجاهد وقتادة والسّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج (١).

قال الواحدي (٢) : ويجوز أن يكون منصوبا بالإغراء ، أي : والأرحام احفظوها وصلوها كقولك : الأسد الأسد ، وهذا يدلّ على تحريم قطيعة الرحم ووجوب صلتها.

والثاني : أنه معطوف على محل المجرور في «به» ، نحو : مررت بزيد وعمرا ، ولمّا لم يشركه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع ، وهذا يؤيده قراءة (٣) عبد الله «وبالأرحام».

وقال أبو البقاء (٤) : تعظّمونه والأرحام ؛ لأنّ الحلف به تعظيم له» ،

وقرأ حمزة (٥) «والأرحام» بالجر ، قال القفال (٦) : وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره ، وفيها قولان :

أحدهما : أنه عطف على الضمير المجرور في «به» من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون (٧) ، وقد تقدّم تحقيق ذلك ، وأن فيها ثلاثة مذاهب ، واحتجاج كل فريق

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٩ / / ١٤٣ ، الدر المصون ٢ / ٢٩٦ ، المحرر الوجيز ٢ / ٤ ، معاني القرآن للزجاج ٢ / ٦.

(٢) ينظر : تفسير الرازي الموضع السابق.

(٣) ينظر : تخريج القراءة السابقة.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٨٢ ، الدر المصون ٢ / ٢٩٦.

(٥) انظر : السبعة ٢٢٦ ، والحجة ٣ / ١٢١ ، وحجة القراءات ١٨٨ ، والعنوان ٨٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٨٩ ، وشرح شعلة ٣٣١ ، وإتحاف ١ / ٥٠١.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٣.

(٧) في هذه المسألة خلاف بين البصريين والكوفيين : فذهب البصريون في العطف على الضمير المخفوض أنه لا يجوز إلا بإعادة الخافض ، ولا يجوز عندهم العطف بغير حرف جر ؛ إلا في الشعر ، وإذا جاء في الشعر حمل على حذف حرف الجر ، وقال سيبويه : وقد يجوز في الشعر أن تشرك بين الظاهر والمضمر مع المرفوع والمجرور ، إذا اضطر الشاعر.

وأجاز هذا الكوفيون في نحو : مررت بك وزيد ، وجرى عندهم مجرى : مررت بزيد وعمرو ، واستدلوا عليه بالقياس والسماع.

أما القياس : فعلى عطف الظاهر على الظاهر ، وليس مثل عطف المضمر على الظاهر ؛ لأنك هنا ـ وإن لم تكرر ـ لزم مجيء الضمير المخفوض غير متصل ، وهذا لا يكون في المخفوض.

وأما السماع : فقوله سبحانه : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) قرأه حمزة بالخفض ، وهو معطوف على الضمير ، وللبصريين أن يقولوا : إن الوقوف على (بِهِ)(وَالْأَرْحامَ) قسم ، والتقدير : «وحق الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا» وكذلك استدلوا بقوله سبحانه : (صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو معطوف على «به» ، والبصريون يذهبون إلى أنه معطوف على «سبيل الله».

وأما ما ذكروه من القياس ، فليس مثله ؛ فإنك إذا قلت : مررت بزيد وعمرو ، فالواو لها تقتضي الترتيب ، والمقدم كأنه مؤخر ، والمؤخر كأنه مقدم ؛ فكأنك قلت : مررت بعمرو وزيد ، وأنت لو قلت ـ

١٤٤

في قوله تعالى : (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ٢١٧] وقد طعن جماعة في هذه القراءة ، كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي (١) مذهبه جواز ذلك أنه قال : حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم ، قال : (وَالْأَرْحامَ) بخفض [الأرحام] هو كقولهم : «أسألك بالله والرحم» قال : «وهذا قبيح ؛ لأنّ العرب لا تردّ مخفوضا على مخفوض قد كني به ، وضعّفه بعضهم بأنه عطف للمظهر على المضمر ، وهو لا يجوز (٢).

قال ابن عيسى (٣) : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع ، فلا يجوز أن يقال : «اذهب وزيد» و «ذهبت وزيد» ، بل يقولون : اذهب أنت وزيد وذهبت أنا وزيد ، قال تعالى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] مع أن المضمر المرفوع قد ينفصل ، فإذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المرفوع مع أنه أقوى من المضمر المجرور ، بسبب أنه قد ينفصل ؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور ، مع أنه [لا] ينفصل ألبتّة أولى.

والثاني : أنه ليس معطوفا على الضمير المجرور ، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به ، وجواب القسم (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ،) وضعّف هذا بوجهين :

أحدهما : أن قراءتي النصب وإظهار حرف الجر في ب «الأرحام» يمنعان من ذلك ، والأصل توافق القراءات.

والثاني : أنّه نهي أن يحلف بغير الله تعالى ، والأحاديث مصرّحة بذلك (٤).

__________________

ـ هذا ، لكان صحيحا ، وإذا قلت : مررت بك وزيد ، فكأنك قلت : مررت بزيد وبك ، فكما لا يكون الثاني هنا إلا بحرف عطف ، كذلك لا يكون الثاني هناك إلا بحرف عطف ، ولما امتنع هذا في الواو امتنع في باقي حروف العطف ؛ لأن الواو هي أمكن في العطف ، وأمر آخر أنك إذا قلت : مررت بزيد وعمرو ، فلم ينزل الظاهر هنا مع الحرف منزلة الشيء الواحد ؛ لأنه ظاهر يأتي مرفوعا ومنصوبا ، وإذا كان كذلك كان منفصلا عن عامله ، وإذا قلت : مررت بك ، فقد تنزل الباء هنا مع الكاف منزلة الشيء الواحد ؛ لأنه على حرف واحد ، وإنه ضمير متصل لا يأتي إلا متصلا بعامله ، وبهذا الثاني علّل سيبويه ، وكلاهما عندي صحيح ، قاله ابن أبي الربيع ، هذا وقد أجاز جماعة من النحاة العطف على المضمر المجرور ، دون إعادة الخافض ، منهم الأخفش ... وأبو علي الشلوبين ، وابن مالك.

البسيط ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ـ ٣٤٧ ، الإنصاف ٢ / ٤٦٣ ، الكتاب ٢ / ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٩٧.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٣.

(٣) ينظر : تفسير الرازي الموضع السابق.

(٤) أخرجه البخاري (١١ / ٥٣٠) كتاب الأيمان والنذور (٦٦٤٦) ومسلم (٣ / ١٢٦٦ ـ ١٢٦٧) كتاب الأيمان (٣ / ١٦٤٦) عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم.

وأخرجه أبو داود (٣ / ٥٩٦) كتاب «الأيمان والنذور» باب : كراهبة الحلف بالآباء (٤٢٤٨) والنسائي (٧ / ٥) وابن حبان (١١٧٦ ـ موارد) عن أبي هريرة بلفظ : لا تحلفوا بآبائكم. ـ

١٤٥

وقدّر بعضهم مضافا فرارا من ذلك فقال : تقديره : «وربّ الأرحام».

قال أبو البقاء (١) : «وهذا قد أغنى عنه ما قبله» يعني : الحلف بالله تعالى.

ويمكن الجواب عن هذا بأن لله تعالى أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته [كما أقسم](٢) بالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نحن منهيين عن ذلك ، إلا أنّ المقصود من حيث المعنى ، ليس على القسم ، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير ، ولا التفات إلى طعن من طعن فيها.

وأجاب آخرون (٣) بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية ؛ لأنهم كانوا يقولون: أسألك بالله وبالرحم ، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل ، وأيضا فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط ، وهاهنا ليس كذلك ، بل هو حلف بالله أولا ، ثمّ قرن به بعد ذكر الرحم ، وهذا لا ينافي مدلول الحديث.

أيضا فحمزة أحد القراء السبعة ، الظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة ، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع ، وأيضا فلهذه القراءة وجهان :

أحدهما : ما تقدم من تقدير تكرير الجار ، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم.

والثاني : فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه : [البسيط]

١٧٢٧ ـ فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب (٤)

وقال الآخر [الطويل]

١٧٢٨ ـ تعلّق في مثل السّواري سيوفنا

وما بينها والكعب غوط نفانف (٥)

وقال آخر [الوافر]

١٧٢٩ ـ أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أفيها كان حتفي أم سواها (٦)

__________________

ـ وأخرجه الترمذي (١ / ٢٩٠) وأبو داود (٣٢٥١) وابن حبان (١١٧٧ ـ موارد) والحاكم (٤ / ٢٩٧) والبيهقي (١٠ / ٢٩) والطيالسي (١٨٩٦) وأحمد (٢ / ٣٤ ، ٦٧ ، ٦٩ ، ٨٦ ، ١٢٥) من طرق عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

وقد أعله البيهقي بالانقطاع فقال عقبه : وهذا مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر.

(١) ينظر : إملاء ما منّ به الرحمن ١ / ١٨٢ ، الدر المصون ٢ / ٢٩٧.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٤.

(٤) تقدم برقم ١٠٦٢.

(٥) تقدم برقم ١٠٥٥.

(٦) تقدم برقم ٨٨٤.

١٤٦

وحمزة بالرتبة السّنيّة المانعة له من نقل قراءة ضعيفة (١).

قال ابن الخطيب (٢) : «والعجب من هؤلاء [النحاة](٣) أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر (٤) علماء السلف في علم القرآن».

وقرأ عبد الله (٥) أيضا «والأرحام» رفعا على الابتداء ، والخبر محذوف فقدّره ابن عطية (٦) : أهل أن توصل ، وقدّره الزمخشري (٧) : «والأرحام ممّا يتقى» أو «مما يتساءل به».

وهذا أحسن للدلالة اللفظية ، والمعنوية ، بخلاف الأول فإنّه للدلالة المعنوية فقط ، وقدّره أبو البقاء (٨) : والأرحام محترمة ، أي : واجب حرمتها.

فإن قيل : ما فائدة هذا التكرير في قوله أولا : «اتقوا الله الذي خلقكم». ثم قال بعده : (وَاتَّقُوا اللهَ).

فالجواب فائدته من وجوه :

الأول : فائدته تأكيد الأمر والحث عليه.

والثاني : أن الأمر الأول عامّ في التقوى بناء على الترتيب. والأمر الثاني خاص فيما يلتمس البعض من البعض ، ويقع التساؤل به.

الثالث : قوله أولا (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) ولفظ «الرّبّ» يدلّ على التربية والإحسان ، وقوله ثانيا (وَاتَّقُوا اللهَ) ولفظ «الإله» يدل على الغلبة والقهر ، فالأمر الأول بالتقوى بناء على الترغيب ، والأمر الثاني يدل على الترهيب ، فكأنّه قيل : اتق الله إنه ربّاك ، وأحسن إليك ، واتق مخالفته ؛ لأنه شديد العقاب عظيم السطوة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

جار مجرى التعليل والرقيب : فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقبا ، ورقوبا ، ورقبانا

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٩٧.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٤.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : أكبر.

(٥) «عبد الله» عند الإطلاق هو ابن مسعود الصحابي ، وقد وهم المصنف هنا ، فذكره مطلقا ، وليس كذلك ، فقد سماه ابن عطية في المحرر (٢ / ٤) «عبد الله بن يزيد» ، فليحرر.

وانظر : البحر المحيط ٣ / ١٩٥ ، والدر المصون ٢ / ٢٩٧.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤ ، الدر المصون ٢ / ٢٩٧.

(٧) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦٢ ، الدر المصون الموضع السابق.

(٨) ينظر : الإملاء ٢ / ١٨٢.

١٤٧

إذا أحدّ النّظر [لأمر يريد تحقيقه](١) ، والرقيب هو المراقب الذي يحفظ جميع أفعالك ، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ قال : [مجزوء الكامل]

١٧٣٠ ـ كمقاعد الرّقباء للض

ضرباء أيديهم نواهد (٢)

وقال : [الكامل]

١٧٣١ ـ ومع الحبيب بها لقد نلت المنى

لي عقله الحسّاد والرّقباء

والمرقب : المكان العالي المشرف يقف عليه الرقيب ، والرقيب أيضا [ضرب](٣) من الحيات ، والرقيب السهم الثالث من سهام الميسر ، وقد تقدمت في البقرة ، والارتقاب : الانتظار.

فصل

دلّت الآية على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعه.

قال تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [محمد : ٢٢].

وقال تعالى : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التوبة : ١٠] قيل : إنّ الإلّ القرابة ، قال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وبذى القربى [الإسراء : ٢٣] وقال عليه‌السلام : قال الله تعالى : «أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت لها اسما من اسمي ، من وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته».

فصل

قال القرطبيّ (٤) : الرحم : اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. وأبو حنيفة يعتبر الرّحم المحرم في منع الرجوع في الهبة ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام ، مع أنّ القطيعة موجودة ، والقرابة حاصلة ولذلك تعلّق بها الإرث ، والولاية ، وغيرهما من الأحكام ، فاعتبار المحرم زيادة على نصّ القرآن (٥) من غير دليل ، وهم يرون ذلك [نسخا](٦) ، سيما وفيه إشارة بالتعليل إلى القطيعة قد جوّزها في حق بني الأعمام ، وبني الأخوال والخالات.

فصل

أجمعت الأمة على أنّ صلة الرّحم واجبة ، وأن قطيعتها محرّمة ، وقد صحّ أن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) البيت لأبي دؤاد الإيادي ـ ينظر مجاز القرآن ١ / ١١٣ وتفسير الطبري ٧ / ٥٢٤ والبحر المحيط ٣ / ١٥٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٩٧ واللسان : رقب.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٧.

(٥) في أ : النعمان.

(٦) سقط في ب.

١٤٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأسماء وقد سألته : أأصل أمّي؟ : «صلي أمّك» (١) فأمرها بصلتها وهي كافرة فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافرة حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى توارث ذوي الأرحام ، إذا لم يكن عصبة ، ولا ذو فرض ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرّحم ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام «من ملك ذا رحم محرم فهو حرّ» (٢) وهذا قول أكثر أهل العلم ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف (٣).

فصل

واختلفوا في ذوي المحارم من الرّضاعة ، فقال أكثر أهل العلم : لا يدخلون في مقتضى الحديث.

وقال شريك القاضي : يعتقون.

وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب [لا](٤) يعتق على الابن إذا ملكه(٥).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٣٢٥) كتاب الهبة باب الهدية للمشركين (٢٦٢٠) ، (٨ / ٦) كتاب الأدب باب صلة المرأة أمها ... تعليقا (٥٩٧٩) ومسلم (٢٩٦) وأحمد (٦ / ٣٤٤ ، ٣٤٧) وعبد الرزاق (٩٩٣٢ ـ ١٩٤٣٠) وأبو داود (١ / ٥٢٣) كتاب الزكاة باب الصدقة على أهل الذمة (١٦٦٨).

(٢) أخرجه أبو داود (٣٩٤٩) والترمذي (١ / ٢٥٥) رقم (١٣٦٥) وابن ماجه (٢٥٢٤ ، ٢٥٢٥) وابن الجارود في «المنتقى» (٩٧٣) والحاكم (٢ / ٢١٤) والبيهقي (١ / ٢٨٩) والطيالسي (٩١٠) والبغوي في «شرح السنة» (٩ / ٣٦٤) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣ / ١٠٩ ، ١١٠) من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعا وقال الترمذي : لا نعرفه مسندا إلا من حديث حماد بن سلمة وقد روى بعضهم هذا الحديث عن قتادة عن الحسن عن عمر شيئا من هذا وقال الحاكم : صحيح ووافقه الذهبي.

وللحديث شاهد عن ابن عمر :

أخرجه الحاكم (٢ / ٢١٤) وابن ماجه (٢٥٢٥) وابن الجارود (٩٧٢) وذكره الترمذي معلقا (١ / ٢٥٦) من طريق ضمرة بن ربيعة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا.

(٣) ينظر القرطبي ٥ / ٦.

(٤) زيادة من القرطبي.

(٥) وتكملة كلام القرطبي ٥ / ٧ :

واحتجّوا بقوله عليه‌السلام : (لا يجزي ولد والدا إلّا أن يجده مملوكا ، فيشتريه فيعتقه). قالوا : فإذا صحّ الشراء ، فقد ثبت الملك ، ولصاحب الملك التصرف ، وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع ؛ فإن الله تعالى يقول : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)[الإسراء : ٢٣] فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب ، وليس من الإحسان أن يبقي والده في ملكه وتحت سلطانه ؛ فإذا يجب عليه عتقه ، إما لأجل الملك عملا بالحديث (فيشتريه فيعتقه) ، أو لأجل الإحسان عملا بالآية ، ومعنى الحديث عند الجمهور : أنّ الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه ، نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه ، وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك ؛ فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة ، ووجه ـ

١٤٩

قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢)

لما وصّى في الآية السابقة بالأرحام وصّى في هذه الآية بالأيتام ؛ لأنّهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق فيهم ـ أسوأ حالا ممن له رحم ، فإنه عطفه (١) عليه ، وهذا خطاب الأولياء والأوصياء.

قالوا : إن اليتيم (٢) من لا أب له ولا جد ، والإيتاء : الإعطاء قال أبو زيد (٣) : أتوت الرجل آتوه إتاوة ، وهي الرّشوة.

وقال الزمخشريّ (٤) : الأيتام الذين مات آباؤهم ، واليتم : الانفراد ، ومنه الرملة اليتيمة ، والدّرة اليتيمة.

وقيل : [اليتيم] في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات.

قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الضعفاء والكبار لمن يبقى معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنّ في العرف اختصّ هذا الاسم بمن لم يبلغ ، فإذا صار مستعينا بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافله ، زال عنه هذا الاسم ؛ وكانت قريش تقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يتيم أبي طالب ، إمّا على القياس ، وإما حكاية للحال التي كان عليها حين صغره ناشئا في حجر عمه توضيعا له.

وأما على قوله عليه‌السلام : «لا يتم بعد بلوغ» (٥) فهو تعليم للشريعة لا تعليم للغة.

وروى أبو بكر الرازي (٦) في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه : إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه.

__________________

ـ الثاني : إلحاق القرابة القريبة المحرّمة بالأب المذكور في الحديث ، ولا أقرب للرجل من ابنه ، فيحمل على الأب ، والأخ يقاربه في ذلك ؛ لأنه يدلي بالأبوّة ؛ فإنه يقول : أنا ابن أبيه ، وأمّا القول الثالث فمتعلّقه حديث ضمرة.

(١) بياض في ب.

(٢) في أ : فاليتيم.

(٣) ينظر : القرطبي ٥ / ٧.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦٣.

(٥) أخرجه أبو داود كتاب الوصايا ب ٩ رقم (٢٨٧٣) والبيهقي (٧ / ٥٧) والطبراني في «المعجم الصغير» (١ / ٩٦) والطحاوي في «مشكل الآثار» (١ / ٢٨٠) عن علي بن أبي طالب مرفوعا.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ٣٣٤) وقال : ورجاله ثقات. وله طريق آخر عن علي :

أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (١ / ٩٦) ومن طريقه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٥ / ٢٩٩).

وللحديث شاهد عن جابر بن عبد الله بلفظ : لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام.

أخرجه الطيالسي (١٦٦٧).

(٦) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٦.

١٥٠

وفي بعض الروايات : إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد [فأخبر ابن عباس](١) أن اسم اليتم يلزمه بعد البلوغ ، إذا لم يؤنس منه الرّشد ، ثم قال أبو بكر : «واسم اليتم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها».

قال عليه‌السلام : «تستأمر اليتيمة في نفسها» (٢) وهي لا تستأمر إلّا وهي بالغة.

قال الشاعر : [الرجز]

١٧٣٢ ـ إنّ القبور تنكح الأيامى

النّسوة الأرامل اليتامى (٣)

فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللّغة يتناول الصغير والكبير.

فإن قيل : كيف جمع اليتيم على يتامى؟ واليتيم فعيل ، فيجمع على فعلى ، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى ، وجريح وجرحى؟ فقال الزّمخشريّ : فيه وجهان (٤) :

أحدهما : أن يقال : إن جمع اليتيم : يتمى ، ثمّ يجمع فعلى على فعالى كأسير وأسارى.

والثاني : أن نقول : جمع اليتيم يتائم ؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو «صاحب» و «فارس» ثم تنقلب «اليتائم» «يتامى».

قال القفّال(٥) : «ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى ، ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف».

فإن قيل : إن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيما (٦) لا يجوز دفع ماله إليه ، وإذا صار كبيرا بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما ، فكيف قال : و (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ).

فالجواب من وجهين :

الأول : أن يقال : المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا ، وسمّاهم الله ـ تعالى ـ يتامى ، إما على أصل اللغة ، وإما لقرب عهدهم باليتم ، وإن كان قد زال من هذا الوقت

__________________

(١) في أ : فجاز.

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٢٥٩ ، ٤٧٥) والنسائي في «النكاح» (٦ / ٧٨) وأبو داود (٢٠٩٣ ، ٢٠٩٤) والترمذي (١ / ٢٠٦) رقم (١١٠٩) والبيهقي (٧ / ١٢٠) وابن حبان (١٣٢٩ ـ موارد) وأبو يعلى (١٠ / ٤١٣) رقم (٦٠١٩) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.

وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري :

أخرجه أبو يعلى (١٣ / ٣١١) رقم (٧٣٢٨) ومن طريقه ابن حبان (١٢٣٨ ـ موارد) وأحمد (٤ / ٣٩٤ ، ٤١١) والدارمي (٢ / ١٣٨) والبيهقي (٧ / ١٢٠) والبزار (٢ / ١٦٠) رقم (١٤٢٣).

والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ٢٨٠) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٩ / ١٣٦.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦٣ ، تفسير الرازي ٩ / ١٣٦.

(٥) ينظر : الرازي ٩ / ١٣٧.

(٦) في أ : زيادة وهو ما دام يتيما.

١٥١

كقوله تعالى : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) [الأعراف : ١٢٠].

أي : الذين كانوا سحرة قبل السّجود ، وأيضا سمّى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ) [الطلاق : ٢] والمعنى مقاربة الأجل ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) [النساء : ٦] والإشهاد عليهم لا يصح قبل البلوغ.

الوجه الثاني : أن يقال : المراد باليتامى الصّغار ، وعلى هذا ففي الآية وجهان :

أحدهما : أن قوله «وآتوا» أمر ، والأمر يتناول المستقبل فيكون المعنى : أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم. فتزول المناقضة.

والثاني : أنّ المراد : وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجونه من نفقتهم وكسوتهم ، والفائدة فيه : أنه كان يجوز أن يظنّ أنّه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال صغره ، فأباح الله ـ تعالى ـ ذلك ، وفيه إشكال وهو : أنه لو كان المراد ذلك لقال : وآتوهم من أموالهم ، والآية تدلّ على إيتائهم كل مالهم (١).

فصل

نقل أبو بكر الرازيّ في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم ، وعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة : ٢٢٠]. فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

قال المفسرون (٢) : الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان ، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمّه فترافعا إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، فلما علمها العمّ قال : أطعنا الله وأطعنا الرّسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ، ودفع إليه ماله (٣) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ومن يوق شحّ نفسه ويطع ربّه هكذا فإنّه يحلّ داره» أي : جنّته ، فلما قبض الصّبيّ ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثبت الأجر وبقي الوزر» فقالوا : يا رسول الله : لقد عرفنا أنه ثبت الأجر ، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله فقال : «ثبت الأجر للغلام ، وبقي على والده الوزر» (٤).

قال القرطبيّ (٥) : وإيتاء اليتامى أموالهم يكون من وجهين :

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٧.

(٢) ينظر : تفسير الرازي الموضع السابق ، تفسير القرطبي ٥ / ٨ ، الكشاف ١ / ٤٦٤.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٠٧) وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

(٤) ذكره القرطبي في تفسيره ٥ / ٨.

(٥) ينظر : القرطبي ٥ / ٨.

١٥٢

أحدهما : إجراء الطّعام والكسوة ما دامت الولاية ، إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي كالصغير والسفيه الكبير.

والثاني : الإيتاء بالتمكين وتسليم المال إليه ، وذلك عند ابتلاء والإرشاد وتكون تسميته حينئذ يتيما مجازا بمعنى : الّذي كان يتيما استصحابا للاسم ، كقوله (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) [الشعراء : ٤٦] أي الذين كانوا سحرة ، وكان يقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يتيم أبي طالب» فإذا تحقّق الوليّ رشده حرم عليه إمساك ماله عنه.

قال أبو حنيفة : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة ، أعطي ماله على كل حال ؛ لأنّه يصير جدا.

قوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا) وقد تقدّم في البقرة قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ٥٩] أنّ المجرور بالباء هو المتروك ، والمنصوب هو الحاصل ، وتفعل هنا بمعنى استفعل ، وهو كثير ، نحو تعجّل وتأخّر بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدّل بمعنى استبدل قول ذي الرمة : [الطويل]

١٧٣٣ ـ فيا كرم السّكن الّذين تحمّلوا

عن الدّار والمستخلف المتبدّل (١)

أي : المستبدل.

قال الواحدي (٢) : «تبدل الشّيء بالشّيء إذا أخذ مكانه».

قوله : «بالطيّب».

هو المفعول الثاني ل «تتبدلوا».

وفي معنى هذا التبدّل وجوه :

الأول : قال الفرّاء والزّجّاج (٣) : لا تستبدلوا الحرام ، وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم.

الثاني : قال سعيد بن المسيب والنخعي والزهريّ والسّدّيّ : وكان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتم ، ويجعلون مكانه الرديء ، وربما كان أحدهم أخذ الشّاة السّمينة ، ويضع من مال اليتم ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدرهم الجيد ، ويجعل مكانه الزيف ، يقول : درهم بدرهم ، فنهوا عن ذلك.

وطعن الزمخشريّ (٤) في هذا الوجه فقال : ليس هذا تبدّلا ، إنما هو تبديل.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (١٤٦٥) والكشاف ١ / ٤٦٥ والدر المصون ٢ / ٢٩٨.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٣٨.

(٣) ينظر : تفسير الرازي الموضع السابق.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦٥.

١٥٣

الثالث : أن يكون صديقه فيأخذ منه نعجة عجفاء (١) مكان سمينة من مال الصبي.

الرابع : معناه لا تأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك.

فصل

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ «الطيّب» في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الحلال كهذه الآية.

الثاني : بمعنى الظّاهر كقوله تعالى : (صَعِيداً طَيِّباً) [النساء : ٤٣] أي : ظاهرا.

الثالث : بمعنى الحسن قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] أي : الحسن ، ومثله (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) [النور : ٢٦] أي : الكلام الحسن للمؤمنين.

الرابع : الطيّب : المؤمن قال تعالى : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران : ١٧٩] يعني : الكافر من المؤمن.

قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) في قوله ثلاثة أوجه :

أحدها : أن «إلى» بمعنى «مع» كقوله : (إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] ، وهذا رأي الكوفيين.

الثاني : أنها على بابها وهي ومجرورها (٢) متعلّقة بمحذوف على أنّها حال ، أي : مضمومة ، أو مضافة إلى أموالكم.

الثالث : أن يضمّن «تأكلوا» بمعنى «تضموا» كأنه قيل : ولا تضمّوها إلى أموالكم آكلين.

قال الزمخشريّ (٣) : «فإن قلت : قد حرّم عليهم أكل مال (٤) اليتامى ، فدخل فيه أكله وحده ومع أموالهم ، فلم ورد النهي عن أكلها معها؟.

قلت : «لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله ـ تعالى ـ من الحلال ، وهم مع ذلك يطعمون منها ، كان القبح أبلغ والذمّ ألحق ، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم ، وشنّع بهم ليكون أزجر لهم».

واعلم أنه تعالى ، وإن ذكر الأكل ، فالمراد به سائر التصرفات المملكة للمال ، وإنما

__________________

(١) العجفاء وهي المهزولة من الغنم وغيرها.

ينظر : النهاية في غريب الحديث والأثر ٣ / ١٨٦.

(٢) في ب : مجرور هنا وهو تحريف.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦٦.

(٤) في ب : أموال.

١٥٤

ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع التصرف لأجله.

قوله : (إِنَّهُ كانَ حُوباً) في الهاء ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها تعود على الأكل المفهوم ، من (لا تَأْكُلُوا).

الثّاني : على التبدّل المفهوم من (لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ).

الثالث : عليهما ذهابا به مذهب اسم الإشارة نحو : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] ومنه : [الرجز]

١٧١٤ ـ كأنّه في الجلد توليع البهق (١)

وقد تقدم ذلك في البقرة ، والأول أولى لأنه أقرب مذكور.

وقرأ الجمهور «حوبا» بضم الحاء ، والحسن بفتحها (٢) ، وبعضهم : «حابا» بالألف ، وهي لغات في المصدر ، والفتح لغة تميم.

ونظير الحوب والحاب ، القول والقال ، والطّرد والطّرد ـ وهو الإثم ـ وقيل : المضموم اسم مصدر ، [والمفتوح مصدر](٣) وأصله من حوب الأبل ، وهو زجرها فسمّي به الإثم ؛ لأنه يزجر به ، ويطلق على الذّنب أيضا ؛ لأنه يزجر عنه ، ومنه قول عليه‌السلام : «إنّ طلاق أمّ أيّوب لحوب» (٤) أي : لذنب عظيم.

وقال القرطبي (٥) : والحوب الوحشة ، ومنه قوله عليه‌السلام لأبي أيوب «إن طلاق أم أيوب لحوب».

قال القفال (٦) : وكأن أصل الكلمة من التّحوّب وهو التّوجّع ، فالحوب هو ارتكاب ما يتوجّع المرتكب منه ، يقال : حاب يحوب ، حوبا ، وحابا وحيابة.

قال المخبل السعدي : [الطويل]

١٧٣٥ ـ فلا يدخلنّ الدّهر قبرك حوب

فإنّك تلقاه عليك حسيب (٧)

__________________

(١) تقدم برقم ٥٧٩.

(٢) انظر : إتحاف ١ / ٥٠٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٦ ، والبحر المحيط ٣ / ١٦٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٩٨.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه الطبراني في «الكبير» (١٢ / ١٩٦) عن ابن عباس أن أبا أيوب طلق امرأته فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكره.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٩ / ٩٦٥) وقال : رواه الطبراني وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف.

والحديث ذكره القرطبي في «تفسيره» (٥ / ٨).

(٥) ينظر : القرطبي ٥ / ٥.

(٦) ينظر : الرازي ٩ / ١٣٩.

(٧) ينظر البيت في البحر ٣ / ١٥٩ واللسان (حوب) والدر المصون ٢ / ٢٩٨ وهو في اللسان برواية :

فلا يدخلن الدهر قبلك حوبة

يقوم بها يوما عليك حسيب

١٥٥

وقال آخر [الوافر]

١٧٣٦ ـ وإنّ مهاجرين تكنّفاه

غداتئذ لقد خطئا وحابا (١)

والحوبة : المرة الواحدة ، والحوبة : الحاجة ، ومنه في الدعاء «إليك أرفع حوبتي» ، وأوقع الله الحوبة ، و «تحوّب فلان» إذا خرج من الحوب كتحرّج وتأثّم ، والتضعيف للسّلب ، و «الحوأب» بهمزة بعد الواو المكان الواسع والحوب الحاجة ، يقال : ألحق الله به الحوبة أي : [المسألة](٢) والحاجة ، والمسكنة ومنه قولهم بات بحيبة سوء ، وأصل الياء الواو ، وتحوّب فلان أي: تعبد وألقى الحوب عن نفسه ، والتحوّب أيضا التحزّن ، وهو أيضا الصياح الشديد كالزّجر.

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا)(٣)

قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) شرط ، وفي جوابه وجهان :

أحدهما : أنه قوله : (فَانْكِحُوا) وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمان ، والعشر ، ولا يقومون بحقوقهن ، فلمّا نزلت (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ) أخذوا يتحرّجون من ولاية اليتامى ، فقيل لهم : إن خفتم من الجور في حقوق اليتامى فخافوا أيضا من الجور في حقوق النساء ، فانكحوا هذا العدد ؛ لأنّ الكثرة تفضي إلى الجور ، ولا تنفع التوبة من ذنب مع ارتكاب مثله.

والثاني : أن جوابه قوله : «فواحدة» ، والمعنى أنّ الرجل منهم كان يتزوج اليتيمة التي في ولايته ، فلما نزلت الآية المتضمنة للوعيد على أكل مال اليتيم تحرّجوا من ذلك ، فقيل لهم : إن خفتم من نكاح النساء اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من [النساء مثنى وثلاث ورباع من](٣) الأجنبيات أي : اللاتي لسن تحت ولايتكم ، فعلى هذا يحتاج إلى تقدير مضاف ، أي : في نكاح يتامى النساء.

فإن قيل : «فواحدة» جواب لقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) فكيف يكون جوابا للأول ؛ فالجواب : أنّه أعاد الشرط الثاني لأنه كالأول في المعنى ، لما طال الفصل بين الأول وجوابه (٤) وفيه نظر لا يخفى. والخوف هنا على بابه فالمراد به الحذر.

وقال أبو عبيدة إنه بمعنى اليقين وأنشد الشاعر : [الطويل]

١٧٣٧ ـ فقلت لهم خافوا بألفي مدجّج

سراتهم في الفارسي المسرّد (٥)

__________________

(١) البيت لأمية بن الأسكر ينظر الخزانة ٢ / ٤٠٥ والبحر ٣ / ١٥٩ والدر المصون ٢ / ٢٩٨.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : زيادة «أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ».

(٥) تقدم برقم ٤٥٨.

١٥٦

أي : أيقنوا ، وقد تقدّم تحقيق ذلك والردّ عليه عند قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩].

قوله : (أَلَّا تُقْسِطُوا) إن قدّرت أنها على حذف حرف الجر ، أي : «من أن لا» ففيها الخلاف المشهور أي : في محل نصب [أو جر ، وإن لم تقدّر ذلك بل وصل الفعل إليها بنفسه ، كأنك قلت : «فإن حذرتم» فهي في محل نصب](١) فقط كما تقدّم في البقرة.

وقرأ الجمهور : «تقسطوا» بضم التاء ، من أقسط : إذا عدل ، فتكون لا على هذه القراءة نافية ، والتقدير : وإن خفتم عدم الإقساط أي : العدل.

وقرأ إبراهيم النخعي (٢) ويحيى بن وثّاب بفتحها من «قسط» وفيها تأويلان :

أحدهما : أن «قسط» بمعنى «جار» ، وهذا هو المشهور في اللغة ، أعني أن الرباعي بمعنى عدل ، والثلاثي بمعنى جار ، وكأنّ الهمزة فيه للسّلب بمعنى «أقسط» أي : أزال القسط وهو الجور ، و «لا» على هذا القول زائدة ليس إلا ، وإلا يفسد المعنى كهي في قوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩].

والثاني : حكى الزجاج أن «قسط» الثلاثي يستعمل استعمال «أقسط» الرباعي ، فعلى هذا تكون «لا» غير زائدة ، كهي في القراءة الشهيرة ؛ إلّا أنّ التّفرقة هي المعروفة لغة.

قالوا : قاسطته إذا غلبته على قسطه ، فبنوا «قسط» على بناء ظلم وجار وغلب.

وقال الراغب (٣) : «القسط» أن يأخذ قسط غيره ، وذلك جور ، وأقسط غيره ، والإقساط أن يعطي قسط غيره ، وذلك إنصاف ، ولذلك يقال : قسط الرّجل إذا جار ، وأقسط إذا عدل ، قال تعالى: (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥].

[وقال تعالى : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات : ٩].

وحكي أنّ الحجّاج لما أحضر سعيد بن جبير ، قال له : ما تقول فيّ؟ قال : «قاسط عادل» فأعجب الحاضرون ، فقال لهم الحجاج : ويلكم لم تفهموا عنه إنّه جعلني جائرا كافرا ، ألم تسمعوا قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(٤) [الجن : ١٥]. وقال تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] وقد تقدم الكلام على هذه المادة من قوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨].

قوله : (ما طابَ) في «ما» هذه أوجه :

أحدها : أنها بمعنى الذي وذلك عند من يرى أن «ما» تكون للعاقل ، وهي مسألة

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٦ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٩٩.

(٣) ينظر : المفردات ص ٤٠٣ ، الدر المصون ٢ / ٣٠٠ ، عمدة الحفاظ ٣ / ٣٦٠.

(٤) سقط في أ.

١٥٧

مشهورة ، وذلك أن «ما» و «من» وهما يتعاقبان ، قال تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٨] وقال : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] وقال (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥].

وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان من سبح الرعد بحمده.

وقال بعضهم (١) : نزّل الإناث منزلة غير العقلاء كقوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦].

قال بعضهم (٢) : وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء ، وهن ناقصات العقول.

وبعضهم يقول : هي لصفات من يعقل.

وبعضهم يقول : لنوع من يعقل كأنه قيل : النوع الطيب من النساء ، وهي عبارات متقاربة. فلذلك لم نعدّها أوجها (٣).

الثاني : أنها نكرة موصوفة ، أي : أنكحوا جنسا طيبا أو عددا طيّبا.

الثالث : أنها مصدرية ، وذلك المصدر واقع موقع اسم الفاعل ، تقديره : فانكحوا [الطّيّب.

وقال أبو حيان (٤) : والمصدر مقدر هنا باسم الفاعل ، والمعنى فانكحوا](٥) النكاح الذي طاب لكم. والأول أظهر.

الرابع : أنها ظرفية تستلزم المصدرية ، والتقدير : فانكحوا ما طاب مدة يطيب فيها النكاح لكم (٦). إذا تقرر هذا ، فإن قلنا : إنها موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، أو مصدرية ، والمصدر واقع موقع اسم الفاعل كانت «ما» مفعولا ب «انكحوا» ويكون (مِنَ النِّساءِ) فيه وجهان:

أحدهما : أنها لبيان الجنس المبهم في «ما» عند من يثبت لها ذلك.

__________________

(١) ينظر : الرازي ٩ / ١٤١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٣٠٠.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٠.

(٥) سقط في ب.

(٦) تقع (ما) على ما لا يعقل ، وتقع على جنس من يعقل كما في الآية ؛ وتقع على صفة من يعقل قال تعالى : قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء : ٣٣]. ولا تقع على الواحد ممن يعقل ، على هذا أكثر البصريين ، وذهب بعض الكوفيين إلى أنها تقع عليه ، ونسب هذا الرأي إلى جماعة من المفسرين والنحاة ، منهم : الحسن ، ومجاهد ، وأبو عبيدة ، وابن درستويه ، ومكي ، وابن خروف. ويحتج لذلك بما حكي وهو : «سبحان ما سخركن لنا» فخاطب السحاب ، وأضاف سبحان إلى (ما) ف «ما» واقعة عليه سبحانه ؛ لأنه الذي سخرها ، وليس في هذا حجة ؛ لأن (سبحان) هنا يمكن أن تكون اسما علما ، ومنعه من الصرف التعريف ، وزيادة الألف والنون بمنزلة عمران.

انظر همع الهوامع ١ / ٣١٥ شرح الجمل لابن عصفور ١ / ١٧٣ البسيط شرح الجمل ١ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

١٥٨

والثاني : أنها تبعيضية ، أي : بعض النساء ، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من (ما طابَ) وإن قلنا : إنها مصدرية ظرفية محضة ، ولم يوقع المصدر موقع اسم فاعل كما قال أبو حيان (١) كان مفعول «فانكحوا» قوله (مِنَ النِّساءِ) نحو قولك : أكلت من الرغيف ، وشربت من العسل أي : شيئا من الرغيف وشيئا من العسل.

فإن قيل : لم لا يجعل على هذا «مثنى» وما بعدها هو مفعول «فانكحوا» أي : فانكحوا هذا العدد؟.

فالجواب أن هذه الألفاظ المعدولة لا تلي العوامل.

وقرأ ابن أبي عبلة (٢) «من طاب» وهو يرجح كون «ما» بمعنى الذي للعاقل ، وفي مصحف أبي بن كعب بالياء (٣) ، وهذا ليس بمبني للمفعول ؛ لأنه قاصر ، وإنما كتب كذلك دلالة على الإمالة (٤) وهي قراءة حمزة.

فصل

اختلف المفسرون في كيفية تعلق هذا الجزاء بهذا الشرط فروى عروة قال : قلت لعائشة : ما معنى قول الله تعالى [(فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)](٥)(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى). فقالت : يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليّها فيرغب في مالها وجمالها ، إلّا أنّه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة (٦) رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذبّ عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها ، فقال تعالى : «وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن» فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) (٧) [النساء : ١٢٧] فالمراد منه هذه الآية ، وهن قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى).

وقيل : لمّا نزلت هذه الآية المتقدمة في اليتامى وأكل أموالهم خاف الأولياء من

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٧٠.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٧ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧٠ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٠.

(٣) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٧١ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٠.

(٤) انظر السابق ، وإتحاف ١ / ٥٠٢.

(٥) سقط في ب.

(٦) أخرجه البخاري (٨ / ٨٦ ـ ٨٧) كتاب التفسير (٤٥٧٣ ـ ٤٥٧٤) ومسلم (٤ / ٢٣١٢) كتاب التفسير (٧٠٦ ـ ٣٠١٨) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٣١) والبيهقي (٧ / ١٤١ ـ ١٤٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٠٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير.

(٧) سقط في ب.

١٥٩

لحوق الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى فتحرجوا من أموالهم ، وكان الرجل منهم ربما كان عنده العشرة من الأزواج أو أكثر ، ولا يقوم بحقوقهنّ في العدل. فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها ، فكونوا خائفين من ترك العدل في النساء ، فقللوا عدد المنكوحات ؛ لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله ، فكأنه لم يتحرّج ، وهذا قول سعيد بن جبير ، وقتادة والضحاك والسدي (١).

وقيل : لما تحرّجوا من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا ، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، قاله مجاهد (٢).

وقال عكرمة : هو الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام ، فإذا أنفق ماله على النسوة ، وصار محتاجا أخذ في إنفاق أموال اليتامى (٣) عليهن ، فقال تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) عند كثرة الزوجات فقد حرمت عليكم [نكاح] أكثر من أربع ليزول هذا الخوف (٤) ، وهذه رواية لطاوس عن ابن عباس.

فصل

قال الواحدي والزمخشريّ (٥) : قوله (ما طابَ لَكُمْ) أي ما حلّ لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) [النساء : ٢٣].

قال ابن الخطيب (٦) : وهذا فيه نظر ؛ لأن قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) هو أمر إباحة ، فلو كان المراد ما حل لكم لنزلت الآية منزلة قوله : أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم ، وذلك يخرج الآية من الفائدة ، وأيضا على التقدير الذي ذكره تصير الآية مجملة ؛ لأنّ أسباب الحلّ والإباحة لمّا لم تذكر في هذه الآية صارت مجملة لا محالة ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٣٦) عن سعيد بن جبير والسدي وقتادة والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٠) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٣٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢١٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) في أ : مال الأيتام.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٣٥) عن عكرمة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٠٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة في «المصنف» وابن المنذر. وأما رواية طاوس عن ابن عباس :

فأخرجها الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٣٥) وذكرها السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٠٩) وزاد نسبتها للفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم بلفظ : قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٤٩٧ وينظر : الرازي ٩ / ١٤١.

(٦) ينظر : تفسير الرازي الموضع السابق.

١٦٠