اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قوله : (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) اعلم أنهم قد طلبوا من الله في هذا الدعاء ثلاثة أشياء :

أحدها : غفران الذنوب ، والغفران : هو الستر والتغطية.

ثانيها : التكفير ، وهو التغطية ـ أيضا ـ يقال : رجل مكفّر بالسّلاح ـ أي : مغطّى ـ ومنه الكفر ـ أيضا ـ

قال الشاعر : [الكامل]

١٧١٥ ـ ............

في ليلة كفر النّجوم ظلامها (١)

فالمغفرة والتكفير ـ بحسب اللغة ـ معناهما شيء واحد ، وأما المفسرون فقال بعضهم : المراد بهما شيء واحد ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد ؛ لأن الإلحاح والمبالغة في الدعاء أمر مطلوب.

وقيل : المراد بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنف.

وقيل : المراد بالغفران ما يزول بالتوبة ، وبالتكفير ما تكفرّه الطاعة العظيمة.

وقيل : المراد بالأول : ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية ، وبالثاني ما أتى به مع الجهل.

ثالثها : قوله : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي : توفّنا معدودين في صحبتهم ، فيكون الظرف متعلّقا بما قبله ، وقيل : تجوّز به عن الزمان ويجوز أن يكون حالا من المفعول ، فيتعلق بمحذوف. وأجاز مكّيّ ، وأبو البقاء : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، أي : أبرارا مع الأبرار ، كقوله : [الوافر]

١٧١٦ ـ كأنّك من جمال بني أقيش

يقعقع خلف رجليه بشنّ (٢)

أي : كأنك جمل من جمال.

قال أبو البقاء : «[تقديره](٣) أبرارا مع الأبرار ، وأبرارا ـ على هذا ـ حال». والأبرار يجوز أن يكون جمع بارّ ـ كصاحب وأصحاب ، ويجوز أن يكون جمع برّ ، بزنة : كتف وأكتاف ، وربّ وأرباب.

قال القفّال : في تفسير هذه المعية وجهان :

أحدهما : أن وفاتهم معهم : هي أن يموتوا على مثل أعمالهم ، حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة ، كما تقول : أنّا مع الشافعي في هذه المسألة ، أي : مساو له في ذلك الاعتقاد.

__________________

(١) ينظر : الرازي ٩ / ١١٩.

(٢) تقدم.

(٣) في أ : ويكون.

١٢١

ثانيهما : أنّ المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار ، كقوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) [النساء : ٦٩].

فصل

احتجوا بهذه الآية على حصول العفو بدون التوبة من وجهين :

الأول : أنهم طلبوا المغفرة مطلقا ، ثم أجابهم الله تعالى بقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) [آل عمران : ١٩٥] وهذا صريح في أنه ـ تعالى ـ قد يغفر الذنب وإن لم توجد التوبة.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ حكى عنهم إخبارهم بإيمانهم ، ثم قالوا : (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) فأتى بفاء الجزاء وهذا يدلّ على أنّ مجرد الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله تعالى ، ثمّ إنّ الله تعالى أجابهم بقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) فدلت هذه الآية على أنّ مجرد الإيمان سبب لحصول الغفران ، إما ابتداء ـ بأن يعفو عنهم ، ولا يدخلهم النار ـ أو بأن يعذّبهم مدة ، ثم يعفو عنهم ، ويخرجهم من النار.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) في هذا الجارّ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلق ب «وعدتنا».

قال الزمخشريّ : «على ـ هذه ـ صلة للوعد ، كما في قولك : وعد الله الجنّة على الطّاعة ، والمعنى : ما وعدتنا على تصديق رسلك».

ثانيها : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه حال من المفعول ، وقدّره الزمخشريّ بقوله : ما وعدتنا منزّلا على رسلك ، أو محمولا على رسلك ؛ لأنّ الرّسل محمّلون ذلك قال تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) [النور : ٥٤].

وردّ عليه أبو حيّان : بأنّ الذي قدّره محذوفا كون مقيّد ، وقد علم من القواعد أنّ الظرف والجارّ إذا وقعا حالين ، أو وصفين ، أو خبرين ، أو صلتين تعلّقا بكون مطلق ، والجار ـ هنا ـ وقع حالا ، فكيف يقدر متعلقه كونا مقيّدا ، وهو منزّل ، أو محمول؟

ثالثها : ـ ذكره أبو البقاء ـ أن يتعلق «على» ب «آتنا» وقدر مضافا محذوفا ، فقال: على ألسنة رسلك وهو حسن. وقرأ الأعمش : على رسلك ـ بسكون السّين.

فإن قيل : إن الخلف في وعد الله ـ تعالى ـ محال ، فكيف طلبوا ما علموا أنه واقع لا محالة؟

فالجواب من وجوه :

الأول : أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل ، بل المقصود منه إظهار الخضوع والذّلّة والعبودية ، وقد أمرنا بالدعاء بأشياء نقطع بوجودها لا محالة ، كقوله : (قالَ رَبِ

١٢٢

احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١١] وقوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) [غافر : ٧].

الثاني : أنّ وعد الله لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم ، بل بحسب أوصافهم ، فإنه ـ تعالى ـ وعد المتقين بالثواب ، ووعد الفسّاق بالعقاب ، فقوله : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) معناه : وفّقنا للأعمال التي نصير بها أهلا لوعدك ، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي.

الثالث : أن الله ـ تعالى ـ وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدّنيا على أعدائهم ، فهم طلبوا تعجيل ذلك.

فصل

دلّت الآية على أنّهم إنّما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق ؛ لقولهم : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) ثم قالوا : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) وهذا يدلّ على أنّ المقتضي لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق.

فإن قيل : متى حصل الثواب لزم اندفاع العقاب لا محالة ، فلما طلبوا الثّواب بقولهم : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) كيف طلبوا ترك العقاب بقولهم : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) بل لو طلب ترك العقاب ـ أولا ـ ثم طلب الثّواب بعده لاستقام الكلام؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن الثّواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور ، فقوله : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) المراد منه المنافع وقوله : (وَلا تُخْزِنا) المراد منه التعظيم.

الثاني : ما تقدم من أنّ المقصود طلب التوفيق إلى الطاعة ، والعصمة عن المعصية ، كأنه قيل : وفقنا للطاعات ، وإذا وفقتنا فاعصمنا عما يبطلها ، ويوقعنا في الخزي. وعلى هذا يحسن النظم. و «الميعاد» مصدر بمعنى الوعد.

قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيه وجهان :

الأول : أنه منصوب ب (وَلا تُخْزِنا).

والثّاني : أنه أجاز أبو حيّان أن يكون من باب الإعمال ؛ إذ يصلح أن يكون منصوبا ب (وَلا تُخْزِنا) وب (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) إذا كان الموعود به الجنة.

قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ)(١٩٥)

(فَاسْتَجابَ) بمعنى : أجاب ويتعدى بنفسه وباللام ، وتقدم تحقيقه في قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي).

١٢٣

ونقل تاج القراء أن «أجاب» عام ، و «استجاب» خاص في حصول المطلوب.

قال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وقال جعفر الصادق : من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربّنا» نجّاه مما يخاف ، وأعطاه ما أراد ، قيل : وكيف ذلك؟ قال اقرءوا : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) إلى قوله : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران : ١٩١].

قوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ) الجمهور على فتح «أن» والأصل : بأني ، فيجيء فيها المذهبان ، وقل أن يأتي على هذا الأصل ، وقرأ عيسى (١) بن عمر بالكسر ، وفيها وجهان :

أحدهما : على إضمار القول أي : فقال : إني.

والثاني : أنه على الحكاية ب «استجاب» ؛ لأن فيه معنى القول ، وهو رأي الكوفيين.

قوله : (لا أُضِيعُ) الجمهور على «أضيع» من أضاع ، وقرىء (٢) بالتشديد والتضعيف ، والهمزة فيه للنقل كقوله : [الطويل]

١٧١٧ ـ كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت

بني بطنها هذا الضّلال عن القصد (٣)

قوله : «منكم» في موضع جر صفة ل : «عامل» ، أي : كائنا منكم.

قوله : (مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن «من» لبيان الجنس ، بيّن جنس العامل ، والتقدير : الذي هو ذكر أو أنثى ، وإن كان بعضهم قد اشترط في البيانية أن تدخل على معرّف بلام الجنس.

ثانيها : أنّها زائدة ، لتقدم النفي في الكلام ، وعلى هذا فيكون (مِنْ ذَكَرٍ) بدلا من نفس «عامل» ، كأنه قيل : عامل ذكر أو أنثى ، ولكن فيه نظر ؛ من حيث إنّ البدل لا يزاد فيه «من».

ثالثها : أنها متعلقة بمحذوف ؛ لأنها حال من الضمير المستكن في «منكم» ؛ لأنه لما وقع صفة تحمّل ضميرا ، والعامل في الحال العامل في «منكم» أي : عامل كائن منكم كائنا من ذكر.

رابعها : أن يكون (مِنْ ذَكَرٍ) بدلا من «منكم» قال أبو البقاء : «وهو بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة».

يعني فيكون بدلا تفصيليّا بإعادة العامل ، كقوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٧٧ ، والبحر المحيط ٣ / ١٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٨٧.

(٢) انظر : البحر المحيط ٣ / ١٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٨٧.

(٣) ينظر البحر المحيط ٣ / ١٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٨٧.

١٢٤

[الأعراف : ٧٥] وقوله : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) [الزخرف : ٣٣] وفيه إشكال من وجهين :

الأول : أنه بدل ظاهر من حاضر في بدل كل من كل ، وهو لا يجوز إلا عند الأخفش ، وقيّد بعضهم جوازه بأن يفيد إحاطة ، كقوله : [الطويل]

١٧١٨ ـ فما برحت أقدامنا في مكاننا

ثلاثتنا حتّى أرينا المنائيا (١)

وقوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) [المائدة : ١١٤] فلما أفاد الإحاطة والتأكيد جاز ، واستدل الأخفش بقول الشّاعر : [البسيط]

١٧١٩ ـ بكم قريش كفينا كلّ معضلة

وأمّ نهج الهدى من كان ضلّيلا (٢)

وقول الآخر : [الطويل]

١٧٢٠ ـ وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المدجّل (٣)

ف «قريش» بدل من «كم» و «بمستلئم» بدل من «بي» بإعادة حرف الجر ، وليس ثمّ إحاطة ولا تأكيد ، فمذهبه يتمشى على رأي الأخفش دون الجمهور.

الثاني : أن البدل التفصيليّ لا يكون ب «أو» إنما يكون بالواو ؛ لأنها للجمع.

كقول الشّاعر : [الطويل]

١٧٢١ ـ وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت (٤)

ويمكن أن يجاب عنه بأن «أو» قد تأتي بمعنى الواو.

كما في قول الشّاعر : [الكامل]

١٧٢٢ ـ قوم إذا سمعوا الصّريخ رأيتهم

ما بين ملجم مهره أو سافع (٥)

ف «أو» بمعنى الواو ، لأن «بين» لا تدخل إلا على متعدد ، وكذلك هنا لما كان «عامل» عاما أبدل منه على سبيل التوكيد ، وعطف على أحد الجزأين ما لا بد له منه ؛ لأنه لا يؤكّد العموم إلا بعموم مثله.

__________________

(١) البيت لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ينظر المقاصد النحويّة ٤ / ١٨٨ ، ولبعض الصحابة في شرح عمدة الحافظ ص ٥٨٨ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٣٩ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٨٨. والدر المصون ٢ / ٢٨٨.

(٢) البيت لعدي بن زيد ينظر شرح التصريح ٢ / ١٦١ وشذور الذهب ص ٤٤٣ والبحر المحيط ٣ / ١٥١ ، والدر المصون ٢ / ٢٨٨.

(٣) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه ص ١٤٩٩ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٨٩ ، ولسان العرب (دجل) ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٩٥ ، والدر المصون ٢ / ٢٨٨.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم برقم ٦٨٨.

١٢٥

خامسها : أن يكون (مِنْ ذَكَرٍ) صفة ثانية ل «عامل» قصد بها التوضيح ، فيتعلق بمحذوف كالتي قبلها.

قوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) مبتدأ وخبر ، وفيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنّ هذه الجملة استئنافية ، جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجال في الثّواب الذي وعد الله به عباده العاملين ؛ لأنه روي في سبب النزول أنّ أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرّجال في الهجرة ، ولا يذكر النّساء ، فنزلت الآية.

والمعنى : كما أنكم من أصل واحد ، وأن بعضكم مأخوذ من بعض ، كذلك أنتم في ثواب العمل ، لا يثاب رجل عامل دون امرأة عاملة. وعبّر الزمخشريّ عن هذا بأنها جملة معترضة ، قال : «وهذه جملة معترضة ثبت بها شركة النساء مع الرّجال فيما وعد الله عباده العاملين».

ويعني بالاعتراض أنها جيء بها بين قوله : (عَمَلَ عامِلٍ) وبين ما فصّل به عمل العامل من قوله : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) ولذلك قال الزمخشريّ : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له.

الثاني : أنّ هذه الجملة صفة.

الثالث : أنّها حال ، ذكرهما أبو البقاء ، ولم يعيّن الموصوف ولا ذا الحال ، وفيه نظر.

قال الكلبي : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في الدين والنصرة والموالاة.

وقيل : كلكم من آدم وحوّاء ، وقال الضّحّاك : [رجالكم] شكل نسائكم ، ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعات ؛ لقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١].

وقيل : «من» بمعنى اللام ، أي : بعضكم لبعض ومثل بعض في الثّواب على الطاعة والعقاب على المعصية.

قال القفّال : هذا من قولهم : فلان مني ، أي : على خلقي وسيرتي. قال تعالى : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩] وقال ـ عليه‌السلام : «من غشّنا فليس منّا» فقوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي : بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطّاعة والعقاب على المعصية.

فصل

ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل ؛ لأن العمل ـ كما وجد ـ تلاشى وفني ، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل ، والإضاعة : عبارة عن ترك الإثابة ، فقوله : «لا أضيع» نفي للنفي ، فيكون إثباتا ، فيصير المعنى : إني أوصّل ثواب أعمالكم إليكم ، وإذا ثبت

١٢٦

ذلك فالآية دالّة على أن أحدا من المؤمنين لا يخلّد في النار ؛ لأنه بعمله الصالح استحق ثوابا ، وبمعصيته استحق عقابا ، فلا بد من وصولهما إليه ـ بحكم هذه الآية ـ والجمع بينهما محال ، فإما أن يقدم الثواب ، ثم يعاقب ، وهو باطل بالإجماع ، أو يقدم العقاب ، ثم ينقل إلى الثّواب. وهو المطلوب.

فإن قيل : القوم طلبوا ـ أولا ـ غفران الذنوب ، وثانيا : إعطاء الثواب ، فقوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) إجابة لهم في إعطاء الثواب ، فأين الجواب في طلب غفران الذنوب.

فالجواب أنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب ، لكن يلزم من حصول الثّواب إسقاط العذاب فصار قوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) إجابة لدعائهم في المطلوبين.

قال ابن الخطيب : «وعندي ـ في الآية ـ وجه آخر ، وهو أن المراد من قوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) أي لا أضيع دعاءكم. وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء ، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه».

قوله : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) مبتدأ ، وقوله : (لَأُكَفِّرَنَ) جواب قسم محذوف ، تقديره: والله لأكفّرنّ ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ. وفي هذه الآية ونظائرها من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] وقول الشاعر : [الكامل]

١٧٢٣ ـ جشأت فقلت اللّذ جشأت ليأتين

وإذا أتاك فلات حين مناص (١)

ردّ على ثعلب ؛ حيث زعم أن الجملة القسمية لا تقع خبرا ، وله أن يقول : هذه معمولة لقول مضمر هو الخبر ـ وله نظائر.

والظاهر أن هذه الجمل ـ التي بعد الموصول ـ كلّها صلات له ، فلا يكون الخبر إلا لمن جمع بين هذه الصفات : المهاجرة ، والقتل ، والقتال.

ويجوز أن يكون ذلك على التنويع ، ويكون قد حذف الموصولات لفهم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم ، والتقدير : فالذين هاجروا والذين أخرجوا ، والذين قاتلوا ، فيكون الخبر بقوله: (لَأُكَفِّرَنَ) عمن اتصف بواحدة من هذه. وقرأ جمهور السبعة : (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) ببناء الأول للفاعل من المفاعلة ، والثاني للمفعول ، وهي قراءة واضحة. وابن عامر ، وابن كثير كذلك ، إلا أنهما شدّدا التاء من «قتلوا» للتكثير (٢) ،

__________________

(١) ينظر شرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٠ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٠٧. والبحر المحيط ٣ / ١٥٣ ، والدر المصون ٢ / ٢٨٩.

(٢) انظر : السبعة ٢٢١ ، ٢٢٢ ، والحجة ٣ / ١١٦ ـ ١١٧ ، والعنوان ٨٢ ، وحجة القراءات ١٨٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٨٥ ، ١٨٦ ، وشرح شعلة ٣٣٠ ، ٣٣١ ، وإتحاف ١ / ٤٩٨ ، ٤٩٩.

١٢٧

وحمزة والكسائي بعكس هذا (١) ، ببناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل ، وتوجيه هذه القراءة بأحد معنيين :

الأول : أنّ الواو لا تقتضي الترتيب ، كقوله : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) [آل عمران : ٤٣] فلذلك قدم معها ما هو متأخر عنها في المعنى ، هذا إن حملنا ذلك على اتحاد الأشخاص الذين صدر منهم هذان الفعلان.

الثاني : أن تحمل ذلك على التوزيع ، أي : منهم من قتل ، ومنهم من قاتل كقولهم : قتلنا وربّ الكعبة إذا ظهرت أمارات القتل فيهم وهذه الآية في المعنى كقوله : (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦] والخلاف في هذه كالخلاف في قوله : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [التوبة : ١١١] والتوجيه هناك كالتوجيه هنا. وقرأ عمر بن عبد العزيز (٢) وقتلوا وقتلوا ـ ببناء الأول للفاعل ، والثاني للمفعول ـ من «فعل» ثلاثيا ، وهي كقراءة الجماعة ، وقرأ محارب بن دثار (٣) : وقتلوا وقاتلوا ـ ببنائهما للفاعل ـ وقرأ طلحة بن مصرّف (٤) : وقتّلوا وقاتلوا ، كقراءة حمزة والكسائي ، إلا أنه شدد التاء ، والتخريج كتخريج قراءتهما. ونقل أبو حيّان ـ عن الحسن وأبي رجاء ـ قاتلوا وقتّلوا ، بتشديد التاء من «قتّلوا» وهذه هي قراءة ابن كثير وابن عامر ـ كما تقدم ـ وكأنه لم يعرف أنها قراءتهما.

فصل

هذه في المهاجرين الذين أخرجهم المشركون من ديارهم ، فقوله : (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي : في طاعتي وديني.

(لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً) قوله : «ثوابا» في نصبه ثمانية أوجه :

أحدها : أنه نصب على المصدر المؤكد ؛ لأن معنى الجملة قبله تقتضيه ، والتقدير : لأثيبنّهم إثابة أو تثويبا ، فوضع «ثوابا» موضع أحد هذين المصدرين ؛ لأن الثواب ـ في الأصل ـ اسم لما يثاب به ، كالعطاء ـ اسم لما يعطى ـ ثم قد يقعان موضع المصدر ، وهو نظير قوله : (صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] و (وَعْدَ اللهِ) [القصص : ١٣] في كونهما مؤكدين.

ثانيها : أن يكون حالا من «جنّات» أي : مثابا بها ـ وجاز ذلك وإن كانت نكرة ؛ لتخصصها بالصفة.

__________________

(١) انظر السابق.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٥٨ ، والبحر المحيط ٣ / ١٥٢ ، والدر المصون ٢ / ٢٨٩.

(٣) السابق.

(٤) السابق.

١٢٨

ثالثها : أنها حال من ضمير المفعول ، أي : مثابين.

رابعها : أنه حال من الضمير في «تجري» العائد على «جنّات» وخصّص أبو البقاء كونه حالا بجعله بمعنى الشيء المثاب به ، قال : وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به ، كقولك : هذا الدرهم ثوابك ، فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من [ضمير الجنّات ، أي : مثابا بها ، ويجوز أن يكون حالا من](١) ضمير المفعول به في (لَأُدْخِلَنَّهُمْ).

خامسها : نصبه بفعل محذوف ، أي : نعطيهم ثوابا.

سادسها : أنه بدل من «جنّات» وقالوا : على تضمين (لَأُدْخِلَنَّهُمْ) لأعطينّهم ، لما رأوا أنّ الثواب لا يصح أن ينسب إليه الدخول فيه ، احتاجوا إلى ذلك.

ولقائل أن يقول : جعل الثواب ظرفا لهم ، مبالغة ، كما قيل في قوله : (تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٩].

سابعها : أن نصب على التمييز ، وهو مذهب الفرّاء.

ثامنها : أنه منصوب على القطع ، وهو مذهب الكسائيّ ، إلا أن مكّيا لما نقل هذا عن الكسائي فسّر القطع بكونه على الحال ، وعلى الجملة فهذان وجهان غريبان.

وقوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) صفة له ، وهذا يدل على كون ذلك الثّواب في غاية الشرف ، كقول السلطان العظيم : أخلع عليك خلعة من عندي.

قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) الأحسن أن يرتفع (حُسْنُ الثَّوابِ) على الفاعلية بالظرف قبله ؛ لاعتماده على المبتدأ قبله ، والتقدير : والله استقر عنده حسن الثّواب.

ويجوز أن يكون مبتدأ ، والظرف قبله خبره ، والجملة خبر الأول.

وإنما كان الوجه الأول أحسن ؛ لأنّ فيه الإخبار بمفرد ـ وهو الأصل ـ بخلاف الثّاني ، فإنّ الإخبار فيه بجملة وهذا تأكيد لكون ذلك الثواب في غاية الشرف.

قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٩٧)

الغرور : مصدر قولك : غررت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ، ثم يجده ـ عند التفتيش ـ على خلاف ما يحب.

نزلت في المشركين ، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وتنعم ، فقال بعض المؤمنين : إنّ أعداء الله فيما نرى من الخير ، ونحن في الجهد ، فأنزل الله هذه الآية : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في ضربهم (فِي الْبِلادِ) وتصرّفهم في الأرض للتجارات وأنواع المكاسب. فالخطاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد منه غيره.

__________________

(١) سقط في أ.

١٢٩

قال قتادة : والله ما غروا نبيّ الله قط ، حتى قبضه الله تعالى ، ويمكن أن يقال : سبب عدم إغراره هو تواتر الآيات عليه ، لقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) [الإسراء : ٧٤] فسقط قول قتادة.

قوله : «متاع» خبر مبتدأ محذوف ، دلّ عليه الكلام ، تقديره : تقلبهم ، أو تصرفهم متاع قليل. والمخصوص بالذم محذوف ، أي : بئس المهاد جهنم. ومعنى (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : بلغة فانية ، ومتعة زائلة.

وإنما وصفه بالقلّة ؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات ثم ينقطع ، وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن ، وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي ـ وهو الأزل والأبد ـ كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل ثمّ قال بعده : (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) يعني أنه مع قلته يؤول إلى المضرّة العظيمة ، ومثل هذا لا يعدّ نعمة.

قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ)(١٩٨)

قرأ الجمهور بتخفيف «لكن» وأبو جعفر بتشديدها (١) ، فعلى القراءة الأولى الموصول رفع بالابتداء ، وعند يونس يجوز إعمال المخففة ، وعلى الثانية في محل نصب.

ووقعت «لكن» هنا أحسن موقع ؛ فإنها وقعت بين ضدّين ، وذلك أن معنى الجملتين ـ التي بعدها والتي قبلها ـ آيل إلى تعذيب الكفار ، وتنعيم المؤمنين المتقين. ووجه الاستدراك أنه لما وصف الكفار بقلة نفع تقلبهم في التجارة ، وتصرّفهم في البلاد لأجلها ، جاز أن يتوهّم متوهّم أن التجارة ـ من حيث هي ـ متصفة بذلك ، فاستدرك أنّ المتقين ـ وإن أخذوا في التجارة ـ لا يضرهم ذلك ، وأنّ لهم ما وعدهم به.

قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذه الجملة أجاز مكيّ فيها وجهين :

أحدهما : الرفع ، على النعت ل «جنّات».

والثاني : النصب ، على الحال من الضمير المستكن في «لهم» قال : «وإن شئت في موضع نصب على الحال من المضمر المرفوع في «لهم» إذ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إن رفعت «جنّات» بالابتداء ، فإن رفعتها بالاستقرار لم يكن في «لهم» ضمير مرفوع ، إذ هو كالفعل المتقدّم على فاعله». يعني أنّ «جنّات» يجوز فيها رفعها من وجهين :

__________________

(١) انظر : إتحاف ١ / ٤٩٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٨٧ ، والمحرر الوجيز ١ / ٥٥٨ ، والبحر المحيط ٣ / ١٥٤ ، والدر المصون ٢ / ٢٩١.

١٣٠

أحدهما : الابتداء ، والجار قبلها خبرها ، والجملة خبر (الَّذِينَ اتَّقَوْا).

ثانيهما : الفاعلية ؛ لأن الجارّ قبلها اعتمد بكونه خبرا ل (الَّذِينَ اتَّقَوْا). وقد تقدم أن هذا أولى ، لقربه من المفرد.

فإن جعلنا رفعها بالابتداء جاز في (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وجهان : الرفع على النعت ، والنصب على الحال من الضمير المرفوع في «لهم» لتحمّله ـ حينئذ ـ ضميرا.

وإن جعلنا رفعها بالفاعلية تعيّن أن يكون الجملة بعدها في موضع رفع ؛ نعتا لها ، ولا يجوز النصب على الحال ، لأن «لهم» ليس فيه ـ حينئذ ـ ضمير ؛ لرفعه الظاهر.

و «خالدين» نصب على الحال من الضمير في «لهم» والعامل فيه معنى الاستقرار.

قوله : «نزلا» النّزل : ما يهيّأ للنزيل ـ وهو الضيف.

قال أبو العشراء الضبي : [الطويل]

١٧٢٤ ـ وكفّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا (١)

هذا أصله ، ثم اتّسع فيه ، فأطلق على الرزق والغذاء ـ وإن لم يكن لضيف ـ ومنه قوله تعالى : (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) [الواقعة : ٩٣] وفيه قولان ، هل هو مصدر أو جمع نازل ، كقول الأعشى : [البسيط]

١٧٢٥ ـ ............

أو تنزلون فإنّا معشر نزل (٢)

إذا تقرّر هذا ففي نصبه ستّة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على المصدر المؤكّد ، لأن معنى (لَهُمْ جَنَّاتٌ) : ننزلهم جنات نزلا ، وقدّره الزمخشريّ بقوله : «كأنه قيل : رزقا ، أو عطاء من عند الله».

ثانيها : نصبه بفعل مضمر ، أي : جعلنا لهم نزلا.

ثالثها : نصبه على الحال من «جنّات» لأنها تخصّصت بالوصف.

رابعها : أن يكون حالا من الضمير في «فيها» أي منزّلة ـ إذا قيل بأنّ «نزلا» مصدر بمعنى المفعول نقله أبو البقاء.

__________________

(١) ينظر البيت في حاشية الشهاب ٣ / ٩٤ ، والبحر ٣ / ١٥٤ والكشاف ١ / ٤٩١ ، و ٤ / ٥٩ والدر المصون ٢ / ٢٩١.

(٢) عجز بيت وتمامه :

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

هذه هي الرواية المشهورة ورواية الديوان هي :

قالوا : الركوب ، فقلنا : تلك عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

ينظر ديوانه (١١٣) والخزانة ٨ / ٥٥٢ والمغني ٢ / ٩٩٣ والصاحبي (٤٧٠) والهمع ٢ / ٦٠ وشواهد الكتاب ١ / ٤٢٩ وإعراب النحاس ١ / ٦٣١ والدرر ٢ / ٧٦ والمحتسب ١ / ١٩٥ وشرح الكافية ٢ / ٢٤٨ ورغبة الآمل ٦ / ٢٧ والأمالي الشجرية ٢ / ٩٦٥ والدر المصون ٢ / ٢٩١ ، ١٧٢٥.

١٣١

خامسها : أنه حال من الضمير المستكن في «خالدين» ـ إذا قلنا : إنه جمع نازل ـ قاله الفارسيّ في التذكرة.

سادسها ـ وهو قول الفرّاء ـ نصبه على التفسير ـ أي التمييز ـ كما تقول : هو لك هبة ، أو صدقة وهذا هو القول بكونه حالا.

والجمهور على ضم الزاي ، وقرأ الحسن ، والأعمش ، والنّخعيّ ، بسكونها (١) ، وهي لغة ، وعليها البيت المتقدم. وقد تقدم أن مثل هذا يكون فيه المسكّن مخففا من المثقل أو بالعكس ، والحق الأول.

قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيه ثلاثة أوجه ، لأنك إن جعلت «نزلا» مصدرا ، كان الظرف صفة له ، فيتعلق بمحذوف ، أي : نزلا كائنا من عند الله ، أي : على سبيل التكريم ، وإن جعلته جمعا كان في الظرف وجهان :

أحدهما : جعله حالا من الضمير المحذوف ، تقديره : نزلا إياها.

ثانيهما : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : ذلك من عند الله ؛ نقل ذلك أبو البقاء.

قوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ) «ما» موصولة ، وموضعها رفع بالابتداء والخبر «خير» و «للأبرار» صفة ل «خير» فهو في محل رفع ، ويتعلق بمحذوف ، وظاهر عبارة أبي حيّان أنه يتعلق بنفس «خير» فإنه قال : و «للأبرار» متعلق ب «خير».

وأجاز بعضهم أن يكون «للأبرار» هو الخبر ، و «خير» خبر ثان ، قال أبو البقاء : «والثاني ـ أي : الوجه الثاني ـ : أن يكون الخبر «للأبرار» والنية به التقديم ، أي : والذي عند الله مستقرّ للأبرار ، و «خير» ـ على هذا ـ خبر ثان».

وفي ادّعاء التقديم والتأخير نظر ؛ لأن الأصل في الإخبار أن يكون بالاسم الصريح ، فإذا اجتمع خبر مفرد صريح ، وخبر مؤوّل به بدىء بالصريح من غير عكس ـ كالصفة ـ فإذا وقعا في الآية على الترتيب المذكور ، فكيف يدّعى فيها التقديم والتأخير؟.

ونقل أبو البقاء (٢) ـ عن بعضهم ـ أنه جعل «للأبرار» حالا من الضمير في الظرف ، «خير» خبر المبتدأ ، قال : «وهذا بعيد ؛ لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحال لغيره ، والفصل بين الحال وصاحب الحال بخبر المبتدأ ، وذلك لا يجوز في الاختيار».

قال أبو حيّان : «وقيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : الذي عند الله للأبرار خير لهم ، وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور ـ إذ ذاك ـ يتعلق بما تعلّق به الظرف الواقع

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٥٨ ، والبحر المحيط ٣ / ١٥٤ ، وزاد فيه أنها قراءة مسلمة بن محارب ، وانظر : الدر المصون ٢ / ٢٩٢.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٦٤.

١٣٢

صلة للموصول ، فيكون المجرور داخلا في حيّز الصّلة ، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها».

فإن عنى الشيخ بالتقديم والتأخير هذا الوجه ـ أعني جعل «للأبرار» حالا من الضمير في الظرف فصحيح ، لأنّ العامل في الحال ـ حينئذ ـ الاستقرار الذي هو عامل في الظرف الواقع صلة ، فيلزم ما قاله ، وإن عنى به الوجه الأول ـ أعني : جعل «للأبرار» خبرا ، والنية به التقديم وب «خير» التأخير كما ذكر أبو البقاء ، فلا يلزم ما قال ؛ لأنّ «للأبرار» ـ حينئذ ـ يتعلّق بمحذوف آخر غير الذي تعلّق به الظرف.

و «خير» ـ هنا ـ يجوز أن يكون للتفضيل ، وأن لا يكون ، فإن كان للتفضيل كان المعنى : وما عند الله خير للأبرار مما لهم في الدنيا ، أو خير لهم مما يتقلب فيه الكفار من المتاع القليل الزائل.

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١٩٩)

قال جابر ، وابن عبّاس ، وقتادة ، وأنس : نزلت في النجاشي ـ ملك الحبشة ـ واسمه أصحمة ، وهو ـ بالعربية ـ عطية ، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل ـ عليه‌السلام ـ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : اخرجوا ، فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم ، فقالوا : من هو؟ قال النجاشيّ ، فخرج إلى البقيع ، وكشف له إلى أرض الحبشة ، فأبصر سرير النجاشي ، وصلّى عليه أربع تكبيرات ، واستغفر له ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشيّ ، نصرانيّ ، لم يره قطّ ، وليس على دينه. فأنزل الله هذه الآية (١).

قال عطاء : نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الرّوم ، كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

قال ابن جريج : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه (٣). وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلّهم (٤).

قوله : (لَمَنْ يُؤْمِنُ) اللام لام الابتداء ، دخلت على اسم «إنّ» لتأخّره عنها ، و «من

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٩٦ ـ ٤٩٧) عن جابر بن عبد الله وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٠٠) وعزاه للطبري وحده.

(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ١٢٥).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٩٨) عن ابن جريج.

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٤٩٩) عن مجاهد.

١٣٣

أهل» خبر مقدّم و «من» يجوز أن تكون موصولة ـ وهو الأظهر ـ وموصوفة ، أي : ل «قوما» ، و «يؤمن» صلة ـ على الأول ـ فلا محلّ له ، وصفة ـ على الثاني ـ فمحله النصب ، وأتى ـ هنا ـ بالصّلة مستقبلة ـ وإن كان ذلك قد مضى ـ دلالة على الاستمرار والديمومة.

والمعنى : إن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وما أنزل إليكم ، وهو القرآن ، وما أنزل إليهم ، وهو التوراة والإنجيل.

قوله : (خاشِعِينَ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه حال من الضمير في «يؤمن» وجمعه ، حملا على معنى «من» كما جمع في قوله : «إليهم» وبدأ بالحمل على اللفظ في «يؤمن» ثم بالحمل على المعنى ؛ لأنه الأولى.

ثانيها : أنه حال من الضمير في «إليهم» فالعامل فيه «أنزل».

ثالثها : أنه حال من الضمير في «يشترون» وتقديم ما في حيّز «لا» عليها جائز على الصحيح وتقدم شيء من ذلك في الفاتحة.

رابعها : أنه صفة ل «من» إذا قيل بأنها نكرة موصوفة. وأما الأوجه الثلاثة السابقة فجائزة ، سواء كانت موصولة ، أو نكرة موصوفة.

قوله : «لله» فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «خاشعين» أي : لأجل الله.

ثانيهما : أنه متعلق ب «لا يشترون» ذكره أبو البقاء ، قال : «وهو في نية التأخير ، أي : لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا لأجل الله».

قوله : (لا يَشْتَرُونَ) كقوله : (خاشِعِينَ) إلا في الوجه الثالث ، لتعذره ، ويزيد عليها وجها آخر ، وهو أن يكون حالا من الضمير المستكن في «خاشعين» أي : غير مشترين. وتقدم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل فيه في البقرة.

ومعناه : أنهم لا يحرّفون كتبهم ، ولا يكتمون صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل الرياسة والمأكلة ، كفعل غيرهم من رؤساء اليهود.

واعلم أنه ـ تعالى ـ لما بيّن أنّ مصير الكفار إلى العقاب ، بيّن ـ هنا ـ أنّ من آمن منهم فإن مصيره إلى الثّواب.

وقد وصفهم بصفات :

أولها : الإيمان بالله.

ثانيها : الإيمان بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وثالثها : الإيمان بما أنزل على الأنبياء قبله.

ورابعها : كونهم خاشعين لله.

١٣٤

وخامسها : أنهم لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ) «أولئك» مبتدأ ، وأما (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها : أن يكون «لهم» خبرا مقدّما ، و «أجرهم» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر الأول ، وعلى هذا فالظرف فيه وجهان :

الأول : أنه متعلق ب «أجرهم».

الثاني : أنه حال من الضمير في «لهم» وهو ضمير الأجر ، لأنه واقع خبرا.

ثانيها : أن يرتفع «أجرهم» بالجارّ قبله ، وفي الظرف الوجهان ، إلا أنّ الحال من «أجرهم» الظاهر ؛ لأن «لهم» لا ضمير فيه حينئذ.

ثالثها : أن الظرف هو خبر «أجرهم» و «لهم» متعلق بما تعلّق به هذا الظرف من الثبوت والاستقرار. ومن هنا إلى آخر السورة تقدم إعراب نظائره.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢٠٠)

قال ابن الخطيب : «ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان : منها ما يتعلق به وحده ، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره ، أما القسم الأول فلا بدّ فيه من الصّبر ، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة».

قال الحسن : اصبروا على دينكم ، فلا تدعوه لشدّة لا رخاء.

وقال قتادة : اصبروا على طاعة الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله.

وقال الضحاك ، ومقاتل بن سليمان : على أمر الله. وقال مقاتل بن حيان : على فرائض الله. وقال زيد بن أسلم : على الجهاد. وقال الكلبيّ على البلاء.

واعلم أن الصبر يدخل تحته أنواع : الصبر على مشقّة النظر والاستدلال على الطاعات ، وعلى الاحتراز عن المنهيّات ، وعلى شدائد الدّنيا من الفقر ، والقحط والخوف ، وأما المصابرة فهي تحمّل المكاره الواقعة بينه وبين غيره ، كتحمّل الأخلاق الرديئة من أهله وجيرانه وترك الانتقام كقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] وإيثار الغير على نفسه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقوله : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا) من الجناس اللفظي ، وكذلك قوله : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ) [التوبة : ٣٨](وَصابِرُوا) يعني الكفار ، (وَرابِطُوا) يعني المشركين.

قال أبو عبيدة : «أي : اثبتوا وداوموا» والربط : الشد ، وأصل المرابطة : أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم بحيث يكون كل من الخصمين مستعدا لقتال الآخر ثم قيل

١٣٥

لكل مقيم في ثغر يدفع عمّن وراءه : مرابط ، وإن لم يكن له مركوب مربوط.

قال ـ عليه‌السلام ـ : «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وما عليها ، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها».

(وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال بعضهم : اصبروا على النّعماء ، وصابروا على البأساء والضراء ، ورابطوا في دار الأعداء ، واتقوا إله الأرض والسماء ، لعلكم تفلحون في دار البقاء.

وقيل : المرابطة : انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال : لم يكن في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابط فيه ، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة. واحتج أبو سلمة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدّرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة ثمّ قال : فذلكم الرّباط» ثلاث مرات ـ وقيل الرباط : اللزوم والثبات ، وهذا المعنى يعم ما تقدم.

روى ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ السّورة الّتي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلّى الله عليه وملائكته حتّى تحجب الشّمس» (١).

وعن أبيّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أمانا على جسر جهنّم» (٢) وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ آل عمران فهو غنيّ»(٣).

وعن العرس بن عميرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «تعلّموا البقرة وآل عمران ؛ فإنّهما الزّهراوان ، وإنّهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين يشفعان لصاحبهما حتّى يدخلاه الجنّة» (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (١١ (٤٨) وفي «الأوسط» كما في «المجمع» (٢ / ١٦٨).

وقال الهيثمي : وفيه طلحة بن زيد الرقي وهو ضعيف.

وقال ابن حجر في تخريج الكشاف (٣ / ٧٣) إسناده ضعيف.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣) وعزاه للطبراني في الأوسط بسند ضعيف.

(٢) ذكره الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (١ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨) وعزاه لابن الجوزي في الموضوعات وابن مردويه من طريق علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبيّ مرفوعا ، وعزاه أيضا لابن مردويه والواحدي في تفسيره عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي بن كعب وهو حديث موضوع.

(٣) لم نجده بهذا اللفظ وورد عن ابن مسعود كما في سنن الدارمي عنه قال : نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل «ينظر تفسير القرطبي» (٤ / ٤).

(٤) أخرجه أحمد (٥ / ٢٥١ ، ٣٥٢ ، ٣٦١) من حديث بريدة وذكره الهيثمي في المجمع (٧ / ١٥٩) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

١٣٦

قيل : سمّيت البقرة وآل عمران بالزّهراوين ؛ لأنهما نوران ، مأخوذ من الزّهر والزّهرة.

وقيل : لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من نورهما ، أي معانيهما.

وقيل : لما يثيب على قراءتها من النّور التّامّ يوم القيامة.

وقيل : لما تضمّنتاه من اسم الله الأعظم ، كما روى أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٦٣] ، والتي في آل عمران : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ٢].

١٣٧

سورة النّساء

مدنية

وهي مائة وستّ وتسعون آية ، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وآربعون كلمة ، وستة عشر ألفا وثلاثة وثلاثون حرفا.

قال القرطبيّ (١) : هذه السّورة مدنيّة إلّا آية واحدة منها [وهي] قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] فإنّها نزلت ب «مكة» عام الفتح ، وفي عثمان بن طلحة على ما سيأتي بيانه.

قال النّقّاش (٢) : وقيل : نزلت عند هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة.

وقيل : إن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) حيث وقع في القرآن إنّما هو مكيّ.

قاله علقمة وغيره : «فيشبه أن يكون صدر السّورة مكيّا ، وما نزل بعد الهجرة فإنّما هو مدني».

وقال النّحّاس : «هذه السّورة مكيّة».

وقال القرطبيّ (٣) : والصّحيح الأوّل.

قال في «صحيح البخاريّ» : «عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٤) ، تعني قد بنى بها ، ولا خلاف بين العلماء أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّما بنى بعائشة بالمدينة ، ومن تبيّن أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها ، وأمّا من قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [مكي](٥) حيث وقع ، فليس بصحيح.

قال (٦) : البقرة مدنية ، وفيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مرتين في موضعين.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٥ / ٣.

(٢) ينظر : المصدر السابق والمحرر ٢ / ٣.

(٣) ينظر : القرطبي ٥ / ٣.

(٤) أخرجه البخاري في صحيحه كما في «الدر المنثور» (٢ / ٢٠٥) عن عائشة بلفظ : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.

(٥) سقط في ب.

(٦) أي القرطبي ينظر تفسيره ٥ / ٣.

١٣٨

مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(١)

قال بعض المفسرين : «ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف على النساء والأيتام ، ذكر فيها أحكاما كثيرة ، وبذلك ختمها ، ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس والطّباع ، افتتحها بالأمر بالتقوى المشتملة على كل خير».

فصل

روى الواحدي (١) عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أن هذا الخطاب لأهل مكة(٢).

وأما الأصوليون من المفسرين فاتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلّفين ، وهذا هو الأصحّ ؛ لأن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق ، ولأنه علّل الأمر بالاتّقاء (٣) لكونه تعالى خالق لهم من نفس واحدة ، وهذه العلة موجودة في جميع المكلفين.

وأيضا فالتكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة ، بل هو عام ، وإذا كان لفظ الناس عاما ، والأمر بالتقوى عاما ، وعلة هذا التكليف عامة ، فلا وجه للتخصيص ، وحجة ابن عباس أن قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] مختص (٤) بالعرب ؛ لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم ، فيقولون : «أسألك بالله وبالرحم ، أنشدك الله والرحم» ، وإذا كان كذلك ، كان قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] مختصا بالعرب ، فيكون قوله: (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مختصا بهم ، لأن الخطابين متوجهان إلى مخاطب واحد.

ويمكن الجواب عنه بأن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم الآية (٥).

فصل

اعلم أنه تعالى جعل هذا الافتتاح لسورتين في القرآن :

أحدهما : هذه وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن ، وعلل الأمر بالتقوى فيهما بما يدل على معرفة المبدأ بأنه خلق الخلق من نفس واحدة ، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وحكمته.

__________________

(١) ينظر تفسير الرازي ٩ / ١٢٨.

(٢) ذكره السمرقندي في «بحر العلوم» (١ / ٣٢٧) عن ابن عباس وتقدم تخريجه في سورة البقرة.

(٣) في ب : بلاتفاق وهو تحريف.

(٤) في أ : يختص.

(٥) فكان قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ» عاما في الكل ، وقوله : وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ خاصا بالعرب ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٢٩.

١٣٩

والثانية : سورة الحج وهي الرابعة أيضا من النصف الثاني من القرآن وعلّل الأمر بالتقوى فيها بما يدل على معرفة المعاد.

فجعل صدر هاتين السورتين دليلا على معرفة المبدأ والمعاد ، وقدّم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد ، وهذا سر عظيم (١).

(مِنْ نَفْسٍ) متعلق ب «خلقكم» فهو في محل نصب ، و «من» لابتداء الغاية ، وكذلك (مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما) والجمهور على واحدة بتاء التأنيث (٢) ، وأجمع المسلمون على أنّ المراد بالنفس الواحدة [هاهنا](٣) آدم عليه‌السلام ، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) [الكهف : ٧٤].

وابن أبي عبلة (٤) واحد من غير [تاء](٥) تأنيث وله وجهان :

أحدهما : مراعاة المعنى (٦) ؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه‌السلام.

والثاني : أن النفس تذكر وتؤنث. وعليه قوله : [الوافر]

١٧٢٦ ـ ثلاثة أنفس وثلاث ذود

لقد جار الزّمان على عيالي (٧)

قوله : (وَخَلَقَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه عطف على معنى «واحدة» لما فيه من معنى الفعل ، كأنه قيل : «من نفس وحدت» أي : انفردت ، يقال : «رجل وحد يحد وحدا وحدة» انفرد.

الثاني : أنه عطف على محذوف.

قال الزّمخشريّ (٨) : «كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى شعّبكم من نفس واحدة هذه صفتها» بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها ، وإنّما حمل الزمخشري رحمه‌الله تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاة الترتيب الوجودي ؛ لأن خلق حواء ـ وهي المعبر عنها بالزوج ـ قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك ، لأن الواو لا تقتضي ترتيبا على الصحيح.

الثالث : أنه عطف على «خلقكم» ، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يبالى بها ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٩ / ١٢٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٩٥ ، تفسير الرازي ٩ / ١٣١.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣ ، والبحر المحيط ٣ / ١٦٢ ، والدر المصون ٢ / ٢٩٥.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : مراعاة اللفظ بالمعنى.

(٧) تقدم برقم ٤٦٨.

(٨) ينظر : الكشاف ١ / ٤٦١ ، الدر المصون ٢ / ٢٩٥.

١٤٠