اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

العبد معاملة المختبر ، واختلفوا في هذا الابتلاء ، فقيل : المراد ما نالهم من الشدة والفقر والقتل والجرح من الكفار ، ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد.

وقيل : الابتلاء في الأموال بالمصائب ، وبالإنفاق في سبيل الله وسائر تكاليف الشّرع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب. وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها.

وقال الحسن : التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال ، كالصلاة والزكاة والجهاد.

وقال القاضي : والظاهر يحتمل الكلّ.

قوله : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) المراد منه أنواع الأذى الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين ، وذلك أنهم كانوا يقولون: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) و (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) و (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وكانوا يطعنون في الرسول بكل ما يقدرون عليه ، وهجاه كعب بن الأشرف ، وكانوا يحرّضون الناس على مخالفة الرسول ، ويجمعون الناس لمحاربته ، ويثبّطون المسلمين عن نصرته ، ثم قال : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

قال المفسّرون : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر إلى فنحاص اليهوديّ ، يستمده ، فقال فنحاص : قد احتاج ربكم إلى أن نمده فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له ـ حين أرسله (١) ـ : لا تغلبن على شيء حتى ترجع إليّ ، فتذكّر أبو بكر ذلك ، وكفّ عن الضرب ، فنزلت الآية.

فصل

في الآية تأويلان :

أحدهما : أن المراد منه أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال ، وتحمّل الأذى ، وترك المعارضة والمقابلة ، وذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين ، كقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [الجاثية : ٤٤] وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] وقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) وقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤].

قال الواحديّ : كان هذا قبل نزول آية السيف.

قال القفّال : والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ ، والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحد ، والمعنى : أنهم أمروا بالصّبر على ما يؤذون به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريق الأقوال

__________________

(١) في أ : بعثه.

١٠١

الجارية فيما بينهم ، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال ، والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة.

التأويل الثاني : أن يكون المراد من الصّبر والتقوى : الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم. فالصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه ، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي. وقوله : (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : من صواب التدبير والرشد الذي ينبغي لكل عاقل أن يقدم عليه.

وقيل : (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : من حق الأمور وخيرها.

وقال عطاء : من حقيقة الإيمان.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ)(١٨٧)

في كيفية النظم وجهان :

أحدهما : أنه ـ تعالى ـ لما حكى عنهم الطعن في نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجاب عن ذلك ، بيّن في هذه الآية التعجّب من حالهم.

والمعنى : كيف يليق بكم الطعن في نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتبكم ناطقة بأنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدقه ونبوته؟

ثانيهما : أنه لما أوجب عليه احتمال الأذى من أهل الكتاب ـ وكان من جملة أذاهم كتمان ما في التوراة والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوّته ، وتحريفها ـ بيّن أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر.

قوله : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) هذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وأبو بكر بالياء ، جريا على الاسم الظاهر ـ وهو كالغائب ـ وحسّن ذلك قوله ـ بعده ـ : «فنبذوه» والباقون بالتاء (١) ؛ خطابا على الحكاية ، تقديره : وقلنا لهم ، وهذا كقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ) [البقرة : ٨٣] بالتاء والياء كما تقدم تحريره.

قوله : (وَلا تَكْتُمُونَهُ) يحتمل وجهين :

أحدهما : واو الحال ، والجملة بعدها نصب على الحال ، أي : لتبيننّه غير كاتمين.

الثاني : أنها للعطف ، والفعل بعدها مقسم عليه ـ أيضا ـ وإنما لم يؤكّد بالنون ؛ لأنه منفيّ ، كما تقول : والله لا يقوم زيد ـ من غير نون ـ وقال أبو البقاء : «ولم يأت بها

__________________

(١) انظر : السبعة ٢٢١ ، والحجة ٣ / ١١٦ ، وحجة القراءات ١٨٥ ، والعنوان ٨٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٨٢ ، وشرح شعلة ٣٢٩ ، وإتحاف ١ / ٤٩٧.

١٠٢

في «تكتمون» اكتفاء بالتوكيد في الأول ؛ لأن «تكتمونه» توكيد».

وظاهر عبارته أنه لو لم يكن بعد مؤكّد بالنون لزم توكيده ، وليس كذلك ؛ لما تقدم. وقوله : لأنه توكيد ، يعني أن نفي الكتمان فهم من قوله : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) فجاء قوله : (وَلا تَكْتُمُونَهُ) توكيدا في المعنى.

واستحسن أبو حيّان هذا الوجه ـ أعني : جعل الواو عاطفة لا حالية ـ قال : «وهذا الوجه ـ عندي ـ أعرب وأفصح ؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل «لا» حتى تصير الجملة اسمية في موضع الحال ؛ إذ المضارع المنفي ب «لا» لا تدخل عليه واو الحال». وغيره يقول : إنه يمتنع إذا كان مضارعا مثبتا ، فيفهم من هذا أن المضارع المنفيّ بكلّ ناف لا يمتنع دخولها عليه.

وقرأ عبد الله (١) : ليبينونه ـ من غير توكيد ـ قال ابن عطيّة : «وقد لا تلزم هذه النون لام التوكيد قاله سيبويه».

والمعروف ـ من مذهب البصريين ـ لزومهما معا ، والكوفيون يجيزون تعاقبهما في سعة الكلام.

وأنشدوا : [الطويل]

١٧٠٦ ـ وعيشك ـ يا سلمى ـ لأوقن أنّني

لما شئت مستحل ، ولو أنّه القتل (٢)

وقال الآخر : [المتقارب]

١٧٠٧ ـ يمينا لأبغض كلّ امرىء

يزخرف قولا ولا يفعل (٣)

فأتى باللام وحدها. وقد تقدم تحقيق هذا.

وقرأ ابن عباس (٤) : ميثاق النبيين لتبيننه للناس ، فالضمير في قوله : (فَنَبَذُوهُ) يعود على (الناس) المبيّن لهم ؛ لاستحالة عوده على النبيين ، وكان قد تقدم في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [آل عمران : ٨١] أنه ـ في أحد الأوجه ـ على حذف مضاف ، أي : أولاد النبيين ، فلا بعد في تقديره هنا ـ أعني : قراءة ابن عباس ـ. والهاء في (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) قال سعيد بن جبير والسّدّيّ تعود إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى هذا يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور (٥).

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٥١ ، والبحر المحيط ٣ / ١٤٢ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٩.

(٢) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٤٢ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٩.

(٣) ينظر البيت في أوضح المسالك ٤ / ٩٥ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٩٦ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٠٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٣٨ ، والبحر المحيط ٣ / ١٤٢ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٩.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٥١ ، والبحر المحيط ٣ / ١٤٣ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٩.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (٩ / ١٠٦).

١٠٣

وقال الحسن وقتادة : تعود على «الكتاب» أي : يبينون للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

فإن قيل : البيان يضادّ الكتمان ، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهيا عن الكتمان فما الفائدة في ذكر النّهي عن الكتمان؟.

فالجواب : أن المراد من البيان ذكر الآيات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة والإنجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة ، والشبهات المعطلة.

قال قتادة : هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم شيئا فليعلّمه ، وإياكم وكتمان العلم ، فإنه هلكة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار».

قوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) طرحوه ، وضيّعوه ، ولم يراعوه ، ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثل للطّرح ، ونقيضه : جعله نصب عينيه.

وقوله : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) معناه : أنهم أخفوا الحقّ ؛ ليتوسلوا بذلك إلى وجدان شيء من الدنيا ، ثم قال : (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ).

قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٨٨)

هذا أيضا من جملة أذاهم ؛ لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ويحبّون أن يحمدوا بأنّهم أهل البرّ والصدقة والتقوى ، ولا شك أن الإنسان يتأذّى بمشاهدة مثل هذه الأحوال ، فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمصابرة عليها.

قوله : (لا تَحْسَبَنَ) قرأ ابن كثير وأبو عمر «يحسبنّ» و «فلا يحسبنّهم» ـ بالياء فيهما ، ورفع باء «تحسبنّهم» (٢) وقرأ (٣) الكوفيون بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما معا ، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول ، وتاء الخطاب في الثاني ، وفتح الباء فيهما معا ، وقرىء شاذا بتاء الخطاب وضمّ الباء فيهما معا (٤) ، وقرىء فيه أيضا بياء الغيبة فيهما ، وفتح الباء فيهما أيضا فهذه خمس قراءات ، فأما قراءة ابن كثير وأبي عمرو ففيها خمسة

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) انظر : السبعة ٢١٩ ، ٢٢٠ ، والحجة ٣ / ١٠١ ، وحجة القراءات ١٨٦ ، والعنوان ٨٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٥ ، وشرح شعلة ٣٢٩ ، ٣٣٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٦ ـ ١٧٧ ، ١٨٥ ، وإتحاف ١ / ٤٩٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٣ / ١٤٤ ، والدر المصون ٢ / ٢٧٩.

(٤) انظر : الدر المصون ٢ / ٢٧٩.

١٠٤

أوجه ، وذلك : لأنه لا يخلو إما أن يجعل الفعل الأول مسندا إلى ضمير غائب ، أو إلى الموصول ، فإن جعلناه مسندا إلى ضمير غائب ـ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو غيره ـ ففي المسألة وجهان :

أحدهما : أنّ «الّذين» مفعول أوّل ، والثاني محذوف ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه ، وهو «بمفازة» والتقدير : لا يحسبن الرسول ـ أو حاسب ـ الذين يفرحون بمفازة ، فأسند الفعل الثاني لضمير «الّذين» ومفعولاه الضمير المنصوب ، و «بمفازة».

الثاني : أن «الّذين» مفعول أول ـ أيضا ـ ومفعوله الثاني هو «بمفازة» الملفوظ به بعد الفعل الثاني ، ومفعول الفعل الثاني محذوف ؛ لدلالة مفعول الأول عليه ، والتقدير : لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك ، والعمل كما تقدم ، وهذا بعيد جدا ، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول بكلام طويل من غير حاجة ، والفاء ـ على هذين الوجهين ـ عاطفة ؛ والسببية فيها ظاهرة.

وإن جعلناه مسندا إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجه :

أولها : أن الفعل الأول حذف مفعولاه ، اختصارا ؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما ، تقديره : ولا يحسبن الفارحون أنفسهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين.

كقول الآخر : [الطويل]

١٧٠٨ ـ بأيّ كتاب ، أمّ بأيّة سنّة

ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب (١)

أي : وتحسب حبهم عارا ، فحذف مفعولي الفعل الثاني ؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما ، وهو عكس الآية الكريمة ، حيث حذف فيها من الفعل الأول.

ثانيها : أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا.

قال أبو علي «تحسبنّ» لم يقع على شيء و «الّذين» رفع به ، وقد تجيء هذه الأفعال لغوا ، لا في حكم الجمل المفيدة ، نحو قوله : [الطويل]

١٧٠٩ ـ وما خلت أبقى بيننا من مودّة

عراض المذاكي المسنفات القلائصا (٢)

المذاكي : الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ، الواحد : مذك مثل المخلف من الإبل وفي المثل : جري المذكيات غلاب. والمسنفات : اسم مفعول ، يقال : سنفت البعير أسنفه ، سنفا ، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه ، يتعدى ولا يتعدى وكانت العرب تركب الإبل ،

__________________

(١) تقدم برقم ٧٨٩.

(٢) البيت للأعشى ـ ينظر ديوانه (١٠٠) والبحر ٣ / ١٤٣ واللسان (خيل) والمعاني الكبير ١ / ٩٩ ، و ٢ / ٨٩٩ والدر المصون ٢ / ٢٨٠.

١٠٥

وتجنب الخيل ، تقول : الحرب لا تبقي مودة وقال الخليل : العرب تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد.

يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن ملغاة ، لا مفعول لها.

ثالثها : أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفا ، والثاني هو نفس «بمفازة» ويكون «فلا يحسبنهم» توكيدا للفعل الأول ، وهذا رأي الزمخشريّ ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة ـ : «على أن الفعل ل (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) والمفعول الأول محذوف ، على معنى : لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى : لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين ، و «فلا يحسبنهم» تأكيد».

قال أبو حيّان : «وتقدم لنا الرّدّ على الزمخشريّ في تقديره : لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي) [آل عمران : ١٧٨] وأن هذا التقدير لا يصح».

قال شهاب الدّين : قد تقدّم ذلك والجواب عنه ، لكن ليس هو في قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي) بل في قوله : (ولا يحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) من قراءة من قرأ بياء الغيبة ، فهناك ردّ عليه بما قال ، وقد أجيب عنه والحمد لله ، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد.

ويجوز أن يقال ـ في تقرير هذا الوجه الثالث ـ : أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن «بمفازة» مفعول ثان للفعل الأول ، حذفت من الفعل الثاني ، و «هم» في «فلا يحسبنهم» مفعول أول للفعل الثاني ، وهو محذوف من الأول.

وإذا عرفت ذلك فالفعل الثاني ـ على هذه الأوجه الثلاثة ـ تأكيد للأول.

وقال مكّيّ : إن الفعل الثاني بدل من الأول.

وفي تسمية مثل هذا بدلا نظر لا يخفى ، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر ، فهو يرجع إلى معنى التأكيد. وكذلك قال بعضهم : والثاني معاد على طريق البدل ، مشوبا بمعنى التأكيد.

وعلى هذين القولين ـ أعني كونه تأكيدا ، أو بدلا ـ فالفاء زائدة ، ليست عاطفة ولا جوابا.

قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) أصله : تحسبوننّهم ، بنونين ـ الأولى نون الرفع ، والثانية للتوكيد ـ وتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة. وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل ، وهو خاص بباب الظن ، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال. لو قلت : «أكرمتني» ، أي : «أكرمت أنا نفسي» لم يجز.

وأما قراءة الكوفيين فالفعلان فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو

١٠٦

كل من يصلح للخطاب ـ والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثير ، على قولنا إن الفعل الأول مسند لضمير غائب ، والفعل الثاني تأكيد للأول ، أو بدل منه ، والفاء زائدة ، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير ، على قولنا : إن الفعلين مسندان للموصول ؛ لأن الفاعل فيهما واحد ، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر : [الكامل]

١٧١٠ ـ لا تجزعي إن منفسا أهلكته

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (١)

وقول الآخر : [الكامل]

١٧١١ ـ لمّا اتّقى بيد عظيم جرمها

فتركت ضاحي جلدها يتذبذب (٢)

وقول الآخر : [الكامل]

١٧١٢ ـ حتّى تركت العائدات يعدنه

فيقلن : لا تبعد ، وقلت له : ابعد (٣)

إلا أنّ زيادة الفاء ليس رأي الجمهور ، إنما قال به الأخفش.

وأما قراءة نافع وابن عامر ـ بالغيبة في الأول ، والخطاب في الثاني ـ فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين ، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم ، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير ، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به ، إلا أنه ممتنع ـ هنا ـ أن يكون الفعل الثاني تأكيدا للأول ، أو بدلا منه ؛ لاختلاف فاعليهما ، فتكون الفاء ـ هنا ـ عاطفة ليس إلا ، وقال أبو علي في الحجة ـ : إن الفاء زائدة ، والثاني بدل من الأول ، قال : «وليس هذا موضع العطف لأن الكلام لم يتم ، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يذكر بعد».

وفيه نظر ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.

وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين ، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيين.

__________________

(١) البيت للنمر بن تولب ينظر ديوانه ص ٧٢ ، وتخليص الشواهد ص ٤٩٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٣١٤ ، ٣٢١ ، ١١ / ٣٦ ، وسمط اللآلي ص ٤٦٨ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٦٠ ، والكتاب ١ / ١٣٤ ، ولسان العرب (نفس) (خلل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٣٥ ، وشرح المفصل ٢ / ٣٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٧٢ ، ٢ / ٨٢٩ ، ومغني اللبيب ١ / ١٦٦ ، ٤٠٣ والمقتضب ٢ / ٧٦ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٥١ ، والأزهية ص ٢٤٨ ، وجواهر الأدب ص ٦٧ ، والجنى الداني ص ٧٢ ، والرد على النحاة ص ١١٤ وشرح الأشموني ١ / ١٨٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٦٤ ، وشرح قطر الندى ص ١٩٥ ، وابن الشجري ١ / ٣٣٣ ، ومعاني القرآن للأخفش ٤٧٦ ، والكامل ٣ / ٣٠٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٨١.

(٢) تقدم.

(٣) البيت لحاتم الطائي ينظر ديوانه ص ٢١٥ ، الأزهيّة ص ٢٤٧ ، سر صناعة الإعراب ١ / ٢٦٩. والبحر المحيط ٣ / ١٤٤ ، والدر المصون ٢ / ٢٨١.

١٠٧

وأما قراءة الغيبة وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندان إلى ضمير غائب ، أي : لا يحسبن الرسول ، أو حاسب.

والكلام في المفعولين للفعلين ، كالكلام في القراءة التي قبلها ، والثاني من الفعلين تأكيد ، أو بدل ، والفاء زائدة ـ على هاتين القراءتين ـ لاتحاد الفاعل.

وقرأ النّخعيّ (١) ، ومروان بن الحكم «بما آتوا» ممدودا ، أي : أعطوا ، وقرأ علي بن أبي طالب «أوتوا» مبنيا للمفعول (٢).

فصل

قال ابن عبّاس : قوله : (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) هم اليهود ، حرّفوا التوراة ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل (٣).

وقيل : سأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود عن شيء من التوراة ، فأخبروه بخلافه ، وفرحوا بذلك التلبيس وطلبوا أن يثنى عليهم بذلك.

وقيل : فرحوا بكتمان النصوص الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحبوا أن يحمدوا بأنهم متبعون دين إبراهيم.

وقيل : هم المنافقون ، فرحوا بنفاقهم للمسلمين ، وأحبّوا أن يحمدهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإيمان.

وقيل : هم بعض المنافقين ، تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغزو ، وفرحوا بقعودهم ، واعتذروا ، وطمعوا أن يثنى عليهم ، كما يثنى على المجاهدين.

وقيل : المراد كتم اليهود الميثاق المأخوذ عليهم بالاعتراف بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفرحوا بذلك الكتمان ، وزعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه.

فصل

قال الفرّاء : (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي : بما فعلوا ، كقوله : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) [مريم : ٢٧] أي : فعلت ، وقوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) [النساء : ١٦]. قال الزمخشريّ : «أتى وجاء تستعملان بمعنى فعل قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) [مريم : ٦١] ويدل عليه قراءة أبي (٤) يفرحون بما فعلوا».

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٥٣ ، والبحر المحيط ٣ / ١٤٤ ، والدر المصون ٢ / ٢٨٢.

(٢) وقرأ بها أبيّ وسعيد بن جبير وأبو عبد الرحمن السلمي. انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٥٣ ، والبحر المحيط ٣ / ١٤٤ ، والدر المصون ٢ / ٢٨٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٦٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٩١ ـ ١٩٢) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس.

(٤) انظر : الكشاف ١ / ٤٥١.

١٠٨

قوله : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) قد تقدم معناه في كيفية النظم (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ) أي : بمنجاة من العذاب ، من قولهم : فاز فلان ـ إذا نجا ـ أي : ليسوا بفائزين.

وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوّز الرجل ـ إذا مات ـ.

وقال الفرّاء : أي : ببعيد من العذاب ؛ لأن الفوز معناه التباعد من المكروه ، ثم حقّق ذلك بقوله: (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قوله : (مِنَ الْعَذابِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل «مفازة» أي : بمفازة كائنة من العذاب على جعلنا «مفازة» مكانا ، أي : بموضع فوز.

قال أبو البقاء : «لأن المفازة مكان ، والمكان لا يعمل».

يعني فلا يكون متعلقا بها ، بل بمحذوف ، على أنه صفة لها ، إلا أن جعله صفة مشكل ؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها (مِنَ الْعَذابِ) اللهم إلا أن يقدّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارّ شيئا خاصا حتى يصبح المعنى تقديره : بمفازة منجية من العذاب ، وفيه الإشكال المعروف ، وهو أنه لا يقدّر المحذوف ـ في مثله ـ إلا كونا مطلقا.

الثاني : أن يتعلق بنفس «مفازة» على أنها مصدر بمعنى الفوز ، تقول : فزت منه أي : نجوت ، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء ؛ لأنها مبينة عليها ، وليست الدالة على التوحيد.

كقوله : [الطويل]

١٧١٣ ـ فلو لا رجاء النّصر منك ورهبة

عقابك قد كانوا لنا كالموارد (١)

فأعمل «رهبة» في «عقابك» وهو مفعول صريح ، فهذا أولى.

قال أبو البقاء : «ويكون التقدير : فلا تحسبنهم فائزين ، فالمصدر في موضع اسم الفاعل».

فإن أراد تفسير المعنى فذاك ، وإن أراد أنه بهذا التقدير ـ يصح التعلّق ، فلا حاجة إليه ؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظا ومعنى.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٨٩)

قال القرطبيّ : «هذا احتجاج على الذين قالوا : إنّ الله فقير ونحن أغنياء ، وتكذيب لهم».

وقيل : المعنى : لا تظنّنّ الفرحين ينجون من العذاب ، فإنّ لله كلّ شيء ، وهم في قبضة القدير ، فيكون معطوفا على الكلام الأول ، أي : إنهم لا ينجون من عذابه ، يأخذهم متى شاء.

__________________

(١) تقدم.

١٠٩

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : لهم عذاب أليم ممن له ملك السموات والأرض ، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا المالك القادر؟

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(١٩٢)

اعلم أنه ـ تعالى ـ لما قرّر الأحكام ، وأجاب عن شبه المبطلين ، عاد إلى ذكر ما يدل على التوحيد فذكر هذه الآية.

قال ابن عبيد قلت لعائشة ـ رضي الله عنها ـ : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فبكت وأطالت ، ثم قالت : كلّ أمره عجب ، أتاني في ليلتي ، فدخل في لحافي ، حتى ألصق جلده بجلدي ، ثم قال لي : يا عائشة ، هل لك أن تأذني لي اللّيلة في عبادة ربّي؟ فقلت : يا رسول الله ، إنّي لأحبّك وأحبّ مرادك ، فقد أذنت لك ، فقام إلى قربة من ماء في البيت ، فتوضّأ ، ولم يكثر من صبّ الماء ، ثمّ قام يصلّي ، فقرأ من القرآن ، وجعل يبكي ، ثمّ رفع يديه ، فجعل يبكي حتّى رأيت دموعه قد بلّت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة ، فرآه يبكي ، فقال : يا رسول الله ، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال : يا بلال ، أفلا أكون عبدا شكورا ، ثمّ قال : ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه اللّيلة : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآيات ، ثمّ قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها (١). وروي : ويل لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأمّل فيها (٢).

وروي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل يتسوك ، ثم ينظر إلى السماء ويقول : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

واعلم أنه ـ تعالى ـ ذكر هذه الآية في سورة البقرة (٣) ، وختمها بقوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وختمها هنا ـ بقوله : (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وذكر في سورة البقرة ـ مع هذه

__________________

(١) أخرجه ابن حبان (٥٢٣ ـ موارد) وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ص : ١٨٦.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٩٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في «التفكر» وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم والأصبهاني في «الترغيب» وابن عساكر عن عطاء.

أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفلا أكون عبدا شكورا فهو عند البخاري كتاب التفسير باب : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (٤٨٣٧).

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٩ / ١٠٩).

(٣) آية : ١٦٤.

١١٠

الدلائل الثلاثة ـ خمسة أنواع أخر حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل ، وهنا اكتفى بذكر ثلاثة ـ وهي السموات والأرض والليل والنهار ـ فأمّا الأول فلأن العقل له ظاهر ، وله لبّ ، ففي أول الأمر يكون عقلا ، وفي كمال الحال يكون لبّا ، ففي حالة كماله لا يحتاج إلى كثرة الدلائل ، فلذلك ذكر له ثلاثة أنواع من الدلائل ، وأسقط الخمسة ، واكتفى بذكر هذه الثلاثة ؛ لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر ، والعجائب فيها أكثر.

قوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه نعت ل (لِأُولِي الْأَلْبابِ) فهو مجرور.

ثانيها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين.

ثالثها : أنه منصوب بإضمار أعني. وهذان الوجهان يسمّيان بالقطع كما تقدم.

رابعها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : يقولون : ربنا. قاله أبو البقاء.

خامسها : أنه بدل من (لِأُولِي الْأَلْبابِ) ذكره مكّيّ ، والأول أحسنها.

و (قِياماً وَقُعُوداً) حالان من فاعل (يَذْكُرُونَ) و (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) حال ـ أيضا ـ فيتعلق بمحذوف ، والمعنى : يذكرونه قياما وقعودا ومضطجعين ، فعطف الحال المؤوّلة على الصريحة ، عكس الآية الأخرى ـ وهي قوله تعالى : (دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) [يونس : ١٢] ـ حيث عطف الصريحة على المؤولة.

و (قِياماً وَقُعُوداً) جمعان لقائم وقاعد ، وأجيز أن يكونا مصدرين ، وحينئذ يتأوّلان على معنى : ذوي قيام وقعود ، ولا حاجة إلى هذا.

فصل

قال عليّ بن أبي طالب ، وابن عباس ، والنّخعيّ ، وقتادة : هذا في الصلاة ، يصلي قائما ، فإن لم يستطع فعلى جنب (١).

وقال سائر المفسّرين : أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال ، لأن الإنسان قلما يخلو من إحدى هذه الحالات (٢).

قوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنها عطف على الصلة ، فلا محلّ لها.

والثاني : أنها في محل نصب على الحال ، عطفا على (قِياماً) أي : يذكرونه متفكّرين.

فإن قيل : هذا مضارع مثبت ، فكيف دخلت عليه الواو؟

__________________

(١) تقدم.

(٢) في أ : الآيات.

١١١

فالجواب : أن هذه واو العطف ، والممنوع إنما هو واو الحال.

و «خلق» فيه وجهان :

أحدهما : أنه مصدر على أصله ، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة ، ويكون مصدرا مضافا لمفعوله.

الثاني : أنه بمعنى المفعول ، أي : في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف ، أي : يتفكرون فيما أودع الله هذين الظرفين من الكواكب وغيرها.

وقال أبو البقاء : «وأن يكون بمعنى المخلوق ، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو هو في المعنى».

قال شهاب الدّين (١) : «وهذا كلام متهافت ؛ إذ لا يضاف الشيء إلى نفسه ، وما أو هم بذلك يؤوّل».

فصل

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما أبدع فيهما ؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع ، [ويعرفوا](٢) أن لها مدبّرا حكيما.

وقال بعض العلماء : الفكرة تذهب الغفلة ، وتحدث للقلب خشية ، كما يحدث الماء للزرع والنبات ، ولا أجليت القلوب بمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفكرة.

واعلم أن دلائل التوحيد محصورة في قسمين :

دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائل الآفاق أجلّ وأعظم ، كما قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض ؛ لأن دلالتها أعجب ، وكيف لا تكون كذلك ولو أنّ الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها ، ثم يتشعّب من ذلك العرق عروق كثيرة من الجانبين ، ثم يتشعّب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخرى ، حتى تصير في الورقة بحيث لا يراها البصر ، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة ، وأسرارا عجيبة ، وأن الله تعالى أودع فيها قوة جاذبة لغذائها من قعر الأرض ، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزّع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء ـ بتقدير العزيز العليم ـ ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه ، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات ـ مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ـ وإلى الأرض ـ مع ما فيها من

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٨٣.

(٢) في أ : ويقولون.

١١٢

البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان ـ عرف أن تلك الورقة ـ بالنسبة إلى هذه الأشياء ـ كالعدم ، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير ، عرف أنه لا سبيل له ـ ألبتة ـ إلى الاطلاع على عجائب حكمته في خلق السّموات والأرض فلم يبق ـ مع هذا ـ إلا الاعتراف بأنّ الخالق أجلّ وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين ، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حكم بالغة ـ وإن كان لا سبيل له إلى معرفتها ـ فعند ذلك يقول : (سُبْحانَكَ) والمراد منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد ، ويشتغل بالدعاء ، فيقول : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ).

قوله : (رَبَّنا) هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف ، تقديره : يقولون ، والجملة القولية فيها وجهان :

أظهرهما : أنها حال من فاعل «يتفكّرون» أي : يتفكرون قائلين ربنا ، وإذا أعربنا «يتفكّرون» حالا ـ كما تقدم ـ فيكون الحالان متداخلين.

والوجه الثاني : أنها في محل رفع ؛ خبرا ل «الّذين» على قولنا بأنه مبتدأ ، كما تقدم نقله عن أبي البقاء.

قوله : «هذا» إشارة إلى الخلق ، إن أريد به المخلوق ، وأجاز أبو البقاء ـ حال الإشارة إليه ب «هذا» ـ أن يكون مصدرا على حاله ، لا بمعنى المخلوق ، وفيه نظر.

أو إلى السّموات والأرض ـ وإن كانا شيئين ، كل منهما جمع ـ لأنهما بتأويل هذا المخلوق العجيب ، أو لأنهما في معنى الجمع ، فأشير إليهما كما يشار إلى لفظ الجمع.

قوله : «باطلا» في نصبه خمسة أوجه :

أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : خلقا باطلا ، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالا من ضمير ذلك المصدر.

الثاني : أنه حال من المفعول به ، وهو «هذا».

الثالث : أنه على إسقاط حرف خافض ـ وهو الباء ـ والمعنى : ما خلقتهما بباطل ، بل بحقّ وقدرة.

الرابع : أنه مفعول من أجله ، و «فاعل» قد يجيء مصدرا ، كالعاقبة ، والعافية.

الخامس : أنه مفعول ثان ل «خلق» قالوا : و «خلق» إذا كانت بمعنى «جعل» التي تتعدى لاثنين ، تعدّت لاثنين. وهذا غير معروف عند أهل العربية ، بل المعروف أن «جعل» إذا كانت بمعنى «خلق» تعدت لواحد فقط.

وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالا من «هذا» وهي حال لا يستغنى عنها ؛ لأنها لو حذفت لا ختلّ الكلام ، وهي كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [الدخان : ٣٨].

١١٣

قوله : (سُبْحانَكَ) تقدم إعرابه ، وهو معترض بين قوله : (رَبَّنا) وبين قوله : (فَقِنا).

وقال أبو البقاء : «دخلت الفاء لمعنى الجزاء ، والتقدير : إذا نزهناك ، أو وحّدناك فقنا».

وهذا لا حاجة إليه ، بل التسبب فيها ظاهر ؛ تسبب عن قولهم : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) طلبهم وقاية النار.

وقيل : هي لترتيب السؤال على ما تضمنه (سُبْحانَكَ) من معنى الفعل ، أي : سبحانك فقنا. وأبعد من ذهب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء.

فصل

قالت المعتزلة : دلّت هذه الآية على أنّ كلّ ما يفعله الله تعالى ، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد ، ولأجل الحكمة ، والمراد منها رعاية مصالح العباد ، قالوا : لأنه لو لم يخلق السموات والأرض لغرض كان قد خلقهما باطلا ، وذلك ضد هذه الآية ، قالوا : وقوله : (سُبْحانَكَ) تنزيه له عن خلقه لهما باطلا.

وأجاب الواحدي : بأنّ الباطل هو الذاهب الزائل ؛ الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء ، وخلق السموات والأرض محكم ، متقن ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣]؟ وقوله تعالى : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) [النبأ : ١٢]. فكان المراد من قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) هذا المعنى ، لا ما ذكره المعتزلة.

فإن قيل : هذا الوجه مدفوع بوجوه :

الأول : لو كان المراد بالباطل : الرخو ، المتلاشي ؛ لكان قوله : (سُبْحانَكَ) تنزيها له أن يخلق مثل هذا الخلق ، وذلك باطل.

الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه ؛ لأن التقدير : ما خلقته باطلا بغير حكمة ، بل خلقته بحكمة عظيمة. فعلى قولنا يحسن النظم ، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النّظم.

الثالث : أنه ـ تعالى ـ ذكر هذا في آية أخرى ، فقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] وقال في آية أخرى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدخان : ٣٨ ـ ٣٩] وقال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) [المؤمنون : ١١٥ و ١١٦]. أي : فتعالى الملك الحقّ عن أن يكون خلقه عبثا ، وإذا لم يكن عبثا فامتناع كونه باطلا أولى.

فالجواب : أنّ بديهة العقل شاهدة بأنّ الموجود إما واجب لذاته ، وإما ممكن لذاته ،

١١٤

وشاهدة بأنّ كلّ ممكن لذاته فإنه لابد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء الله ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المراد من الآية تعليل أفعال الله ـ تعالى ـ بالمصالح وأما قوله : لو كان كذلك لكان قوله : (سُبْحانَكَ) تنزيها عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة ، وذلك باطل ، فجوابه : لم لا يجوز أن يكون المراد : ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب ، بل خلقته صلبا محكما؟ وقوله : (سُبْحانَكَ) معناه : أنك إن خلقت السموات والأرض صلبة ، شديدة ، باقية ، فأنت منزه عن الاحتياج إليه والانتفاع به.

وأما قولهم : إنما يحسن وصل قوله : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) به إذا فسّرناه بقولنا ، فالجواب : لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله : (سُبْحانَكَ) اعتراف بكونه غنيا عن كل ما سواه ، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة ، فقال : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) وهذا الوجه أحسن في النظم.

وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث ، واللعب ، والبطلان ونحن نقول بموجبه ، وأنّ أفعاله كلّها حكمة وصواب.

وقوله : (سُبْحانَكَ) إقرار بعجز العقول عن الإحاطة بآثار حكمة الله في خلق السموات والأرض. يعني أنّ الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر.

والمقصود منه تعليم العباد كيفية الدعاء وآدابه ، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناء ، ثم يذكر بعده الدعاء ، كهذه الآية.

قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) «من» شرطية ، مفعول مقدم ، واجب التقديم ، لأن له صدر الكلام ، و «تدخل» مجزوم بها ، و (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) جواب لها.

وحكى أبو البقاء عن بعضهم قولين غريبين :

الأول : أن تكون «من» منصوبة بفعل مقدّر ، يفسّره قوله : (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ). وهذا غلط ؛ لأن من شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسّر على ما هو منصوب ، والجواب لا يعمل فيما قبل فعل الشرط ؛ لأنه لا يتقدم على الشرط.

الثاني : أن تكون «من» مبتدأ ، والشرط وجوابه خبر هذا المبتدأ. وهذان الوجهان غلط ، والله أعلم. وعلى الأقوال كلّها فهذه الجملة الشرطية في محل رفع ؛ خبرا ل «إنّ». ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثيا ورباعيا ـ والأكثر الرباعي ، وخزي الرجل يخزى خزيا ـ إذا افتضح ـ وخزاية ـ إذا استحيا ـ فالفعل واحد ، وإنما يتميز بالمصدر.

قال الواحديّ : الإخزاء ـ في اللغة ـ يرد على معان يقرب بعضها من بعض.

قال الزّجّاج : أخزى الله العدوّ : أي : أبعده.

١١٥

وقال غيره : أخزاه الله : أي : أهانه.

وقال شمر : أخزاه الله : أي : فضحه ، وفي القرآن : (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي)[هود : ٧٨].

وقال المفضّل : أخزاه الله : أي : أهلكه.

وقال ابن الأنباري : الخزي ـ في اللغة ـ الهلاك بتلف أو انقطاع حجة ، أو وقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة.

وقال الزمخشريّ : «فقد أخزيته» أي : أبلغت في إخزائه.

فصل

قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة ـ من أهل الصّلاة ـ ليس بمؤمن ؛ لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله ؛ لدلالة هذه الآية ، والمؤمن لا يخزى ؛ لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] فوجب من [مجموع هاتين](١) الآيتين ألا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا.

والجواب أن قوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقا ، وإنما يقتضي ألا يحصل الإخزاء حال ما يكونون مع النبيّ ، وهذا النفي لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة ؛ لاحتمال أن يحصل الإخزاء في وقت آخر.

وأجاب الواحديّ في «البسيط» بثلاثة أجوبة أخر :

أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المسيّب ، والثوري ، وقتادة ، أن قوله : (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) مخصوص بمن يدخل النّار للخلود. وهذا الجواب ضعيف ؛ لأن مذهب المعتزلة أنّ كلّ فاسق دخل النّار ، فإنّما يدخلها للخلود فيها.

وثانيها : أن المدخل في النار مخزى في حال دخوله ، وإن كان عاقبته أن يخرج منها. وهذا ـ أيضا ـ ضعيف ؛ لأنّ موضع الاستدلال أن قوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الإطلاق ، وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النّار ، فحصل بحكم هاتين الآيتين ـ بين كونه مؤمنا ، وبين كونه كافرا ـ من يدخل النار ـ منافاة.

وثالثها : أنّ الإخزاء يحتمل وجهين :

أحدهما : الإهانة والإهلاك. وثانيهما : التخجيل ، يقال : خزي خزاية : إذا استحيا ، وأخزاه غيره : إذا عمل به عملا يخجله ويستحيي منه.

قال ابن الخطيب : «واعلم أنّ حاصل هذا الجواب : أنّ لفظ الإخزاء مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك ، واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على

__________________

(١) في أ : عموم.

١١٦

معنييه جميعا ، وإذا كان كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] غير المثبت في قوله : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وعلى هذا يسقط الاستدلال ، إلا أنّ هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الإخزاء مشتركا بين هذين المفهومين ، أما إذا كان لفظا متواطئا ، مفيدا لمعنى واحد وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحديّ نوعين تحت جنس واحد ، سقط هذا الجواب ؛ لأن قوله : (لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) لنفي الجنس ، وقوله : (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) لإثبات النوع ، وحينئذ تحصل المنافاة بينهما».

قال القرطبيّ : «وقال أهل المعاني : الخزي يحتمل أن يكون بمعنى الحياء ، يقال : خزي يخزى خزاية إذا استحيا ، فهو خزيان.

قال ذو الرمة : [البسيط]

١٧١٤ ـ خزاية أدركته عند جرأته

من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب (١)

فخزي المؤمنين ـ يومئذ ـ استحياؤهم في دخول النّار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها ، والخزي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موت ، والمؤمنون يموتون ، فافترقوا ، كذا ثبت في صحيح السنة ، من حديث أبي سعيد الخدريّ ، أخرجه مسلم».

فصل

احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع بأنّ صاحب الكبيرة لا يخزى ، وكل من دخل النّار فإنه يخزى ، فيلزم القطع بأنّ صاحب الكبيرة لا يدخل النار ، وإنما قلنا : صاحب الكبيرة لا يخزى ؛ لأن صاحب الكبيرة مؤمن ، والمؤمن لا يخزى ، وإنما قلنا : إنه مؤمن ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] سمي الباغي ـ حال كونه باغيا ـ مؤمنا ، والبغي من الكبائر بالإجماع ، وأيضا قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨] سمى القاتل ـ بالعمد العدوان ـ مؤمنا ، فثبت أنّ صاحب الكبيرة مؤمن ، وإنما قلنا : إن المؤمن لا يخزى ؛ لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] ولقوله : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٩٤] ، ثم قال : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) وهذه الاستجابة تدل على أنه ـ تعالى ـ لا يخزي المؤمنين ، فثبت أنّ صاحب الكبيرة لا يخزى وكل من دخل النار فإنه يخزى ؛ لقوله تعالى : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) فثبت ـ بهاتين المقدمتين ـ أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار.

والجواب : ما تقدم من أن قوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) إنما يدل على نفي الإخزاء حال كونهم مع النّبيّ ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقت آخر.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ١ / ١٠٣ واللسان (خزا) وجمهرة أشعار العرب ص ٧٧١.

١١٧

فصل

عموم هذه الآية مخصوص في مواضع ، منها قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم: ٧١] ثم قال : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم : ٧٢] وأهل الثّواب مصونون عن الخزي.

ومنها : أنّ الملائكة ـ الذين هم خزنة جهنّم يكونون في النّار ، وهم ـ أيضا ـ مصونون عن الخزي ، قال تعالى : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦].

قوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) «من» زائدة ، لوجود الشّرطين ، وفي مجرورها وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره في الجارّ قبله ، وتقديمه ـ هنا ـ جائز لا واجب ؛ لأنّ النفي مسوّغ وحسّن تقديمه كون مبتدئه فاصلة.

الثاني : أنه فاعل بالجارّ قبله ؛ لاعتماده على النفي ، وهذا جائز عند الجميع.

فصل

تمسّك المعتزلة بهذه الآية في نفي الشفاعة للفسّاق ؛ وذلك لأن الشفاعة ، نوع نصرة ، ونفي الجنس يقتضي نفي النّوع ، والجواب من وجوه :

أحدها : أن القرآن دلّ على أنّ الظالمين ـ بالإطلاق ـ هم الكفّار ، قال تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤] ويؤكّده ما حكى عن الكفار من نفيهم الشفعاء والأنصار في قولهم : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١].

ثانيها : أنّ الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن الله تعالى ، قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادرا على النّصرة إلا بعد الإذن ، وإذا حصل الإذن ففي الحقيقة إنما ظهر العفو من الله تعالى ، فقوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) يفيد أنه لا حكم إلا لله ، كما قال : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) [الأنعام : ٦٢] وقال : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩].

فإن قيل : فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين ـ بهذا الحكم ـ فائدة.

فالجواب : بل فيه فائدة ، لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدّنيا بالفوز بالثّواب ، والنجاة من العقاب ، فلهم يوم القيامة هذه المنزلة ، وأما الفسّاق فليس لهم ذلك ، فصحّ تخصيصهم بنفي الأنصار على الإطلاق.

ثالثها : أن هذه الآية عامة ، والأحاديث الواردة بثبوت الشفاعة خاصة ، والخاصّ مقدّم على العامّ.

١١٨

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ)(١٩٤)

«سمع» إن دخلت على ما يصح أن يسمع ـ نحو : سمعت كلامك وقراءتك ـ تعدّت لواحد ، فإن دخلت على ما لا يصح سماعه ـ بأن كان ذاتا ـ فلا يصحّ الاقتصار عليه وحده ، بل لا بد من الدلالة على شيء يسمع ، نحو سمعت رجلا يقول كذا ، وسمعت زيدا يتكلم ، وللنحويين ـ في هذه المسألة ـ قولان :

أحدهما : أنها تتعدى فيه ـ أيضا ـ إلى مفعول واحد ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة ، أو حالا ، إن كان معرفة.

والثاني : ـ قول الفارسيّ وجماعة ـ : أنها تتعدى لاثنين ، والجملة في محلّ الثاني منهما ، فعلى قول الجمهور يكون «ينادي» في محل نصب ، لأنه صفة لمنصوب قبله ، وعلى قول الفارسيّ يكون في محل نصب على أنه مفعول ثان.

وقال الزمخشريّ : «تقول : سمعت رجلا يقول كذا ، وسمعت زيدا يتكلم ، فتوقع الفعل على الرجل ، وتحذف المسموع ؛ لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالا منه ، فأغناك عن ذكره ، ولو لا الوصف أو الحال لم يكن منه بدّ ، وأن تقول : سمعت كلام فلان أو قوله».

وهذا قول الجمهور المتقدم ذكره.

إلا أن أبا حيّان اعترض عليه ، فقال «وقوله : ولو لا الوصف أو الحال ... إلى آخره ، ليس كذلك ، بل لا يكون وصف ولا حال ، ويدخل «سمع» على ذات لا على مسموع ، وذلك إذا كان في الكلام ما يشعر بالمسموع ـ وإن لم يكن وصفا ولا حالا ـ ومنه قوله تعالى : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) [الشعراء : ٧٢] فأغنى ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع».

وأجاز أبو البقاء في «ينادي» أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في «مناديا». فإن قيل : ما الفائدة في الجمع بين «مناديا» و «ينادي»؟

فأجاب الزمخشريّ بأنه ذكر النداء مطلقا ، ثم مقيّدا بالإيمان ، تفخيما لشأن المنادي ؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان ، ونحوه قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع وكذلك الهادي يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، وغير ذلك فإذا قلت : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخّمته.

١١٩

وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبة :

أحدها : التوكيد ، نحو : قم قائما.

الثاني : أنه وصل به ما حسّن التكرير ، وهو الإيمان.

الثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون «سمع» مقرونا بالنداء بذكر ما ليس بنداء ، فلمّا قال : «ينادي» ثبت أنهم سمعوا نداءه في تلك الحال.

ومفعول «ينادي» محذوف ، أي : ينادي في الناس ، ويجوز ألا يراد مفعول ، نحو : أمات وأحيا. ونادى ودعا يتعديان باللام تارة ، وب «إلى» أخرى ، وكذلك ندب.

قال الزمخشريّ : وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعا ، فاللام في موضعها ولا حاجة إلى أن يقال : إنها بمعنى «إلى» ولا أنها بمعنى الباء ، ولا أنها لام العلة ـ أي : لأجل الإيمان ـ كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملا على الرشد وكان كل من تأمّله وصل به إلى الهدى ـ إذا وفّقه الله لذلك ـ صار كأنه يدعو إلى الهدى ، وينادي بما فيه من أنواع الدلائل ، كما قيل ـ في جهنم ـ : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) [المعارج : ١٧] إذ كان مصيرهم إليها.

فصل

اختلفوا في المراد بالمنادي ، فقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وأكثر المفسّرين : يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) وقال القرطبيّ : يعني القرآن ؛ إذ ليس كلهم سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودليل هذا القول ما أخبر الله ـ تعالى ـ عن مؤمني الجنّ إذ قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ١ ـ ٢]. قوله : (أَنْ آمِنُوا) في «أن» قولان :

أحدهما : أنها تفسيرية ؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه ، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعراب.

ثانيهما : أنها مصدرية ، وصلت بفعل الأمر ، وفي وصلها به نظر ، من حيث إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية ، واستدلوا على وصلها بالأمر بقولهم : كتبت إليه بأن قم فهي ـ هنا ـ مصدرية [ليس إلا ، وإلا يلزم عدم تعلّق حرف الجر ، وإذا قيل بأنها مصدرية](٢) فالأصل التعدي إليها بالباء ، أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبان المشهوران ـ الجرّ والنصب.

قوله : «فآمنّا» عطف على «سمعنا» والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبب الإيمان على السّماع من غير مهلة ، والمعنى : فآمنا بربنا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٨١) عن ابن جريج وابن زيد.

(٢) سقط في أ.

١٢٠