اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

١٣٥٦ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (١)

حيث قال : أبقل ـ وهو مسند لضمير الأرض ـ ولم يقل : أبقلت ، وغيره يخصه بالضرورة.

وقالوا : إذ كان يمكن أن ينقل حركة الهمزة على تاء التأنيث الساكنة ، فيقول : ولا أرض أبقلت أبقالها.

وقد ردّوا عليه بأن الضرورة ليس معناها ذلك ، ولئن سلمنا ذلك فلا نسلّم أن هذا الشاعر كان ممن لغته النقل ، لأن النقل ليس لغة كلّ العرب.

وقرأ مجاهد (٢) ومقاتل : «يقاتل» ـ بالياء من تحت ـ وهي مخرّجة على مذهب ابن كيسان ، ومقوّية له ، قالوا : والذي حسن ذلك كون «فئة» في معنى القوم والناس ، فلذلك عاد الضمير عليها مذكرا.

قوله : (يَرَوْنَهُمْ) ، قرأ نافع (٣) ـ وحده ـ من السبعة ، ويعقوب ، وسهل : «ترونهم» بالخطاب والباقون من السبعة بالغيبة.

فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجه :

أحدها : أن الضمير في «لكم» والمرفوع في «ترونهم» للمؤمنين ، والضمير المنصوب في «ترونهم» والمجرور في «مثليهم» للكافرين ، والمعنى : قد كان لكم ـ أيها المؤمنون ـ آية في فئتين بأن رأيتم الكفار مثلي أنفسهم في العدد ، وهو أبلغ في القدرة ؛ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عدد الكافرين ، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم ، وأوقعوا بهم الأفاعيل ، ونحوه قوله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٩].

واستبعد بعضهم هذا التأويل ؛ لقوله تعالى ـ في الأنفال [الآية : ٤٤] ـ : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ،) فالقصة واحدة ، وهناك تدل الآية على أن الله ـ تعالى ـ قلّل المشركين في أعين المؤمنين ؛ لئلا يجبنوا عنهم ، وعلى هذا التأويل ـ المذكور ههنا ـ يكون قد كثرهم في أعينهم. ويمكن أن يجاب باختلاف الحالين ؛ وذلك أنه في وقت أراهم [إياهم](٤) مثلي عددهم ؛ ليمتحنهم ويبتليهم ، ثم قلّلهم في أعينهم ؛ ليقدموا عليهم ، فالآيتان باعتبارين ، ومثله قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)

__________________

(١) تقدم برقم ٣٠٤.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٤١١ ، والدر المصون ٢ / ٢٧.

(٣) انظر : السبعة ٢٠١ ، والكشف ١ / ٣٤٦ ، والحجة ٢ / ١٧ ، والعنوان ٧٨ وإعراب القراءات ١ / ١٠٨ ، وحجة القراءات ١٥٤ ، وشرح شعلة ٣٠٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٤٦ ، وإتحاف ١ / ٤٧٠.

(٤) سقط في أ.

٦١

[الرحمن : ٣٩] ، وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢] وقوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) مع قوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) [المرسلات : ٣٥].

قال الفرّاء (١) : المراد بالتقليل : التهوين ، كقولك ـ في الكلام (٢) ـ إني لأرى كثيركم قليلا ، أي : قد هوّن عليّ ، [لا أني أرى الثلاثة اثنين](٣).

الثاني : أن يكون الخطاب في «ترونهم» للمؤمنين ـ أيضا ـ والضمير المنصوب في «ترونهم» للكافرين ـ أيضا ـ والضمير المجرور في «مثليهم» للمؤمنين ، والمعنى : ترون أيّها المؤمنون الكافرين مثلي عدد أنفسكم ، وهذا تقليل للكافرين عند المؤمنين في رأي العين ؛ وذلك أن الكفار كانوا ألفا ونيّفا ، والمسلمون على الثلث منهم ، فأراهم إياهم مثليهم ، على ما قرر عليهم ـ في مقاومة الواحد للاثنين ـ في قوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦] بعد ما كلّفوا أن يقاوم كلّ واحد عشرة في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٦٩].

قال الزمخشريّ ـ رحمه‌الله ـ «وقراءة نافع لا تساعد عليه» ، يعني على هذا التأويل المذكور ولم يبين وجه عدم المساعدة ، ووجهه ـ والله أعلم ـ أنه كان ينبغي أن يكون التركيب : ترونهم مثليكم ـ بالخطاب في «مثليهم» لا بالغيبة.

قال أبو عبد الله الفارسيّ ـ بعد الذي ذكره الزمخشريّ ـ : «قلت : بل يساعد عليه ، إن كان الخطاب في الآية للمسلمين ، وقد قيل ذلك» ا ه ، فلم يأت أبو عبد الله بجواب ؛ إذ الإشكال باق. وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين :

أحدهما : أنه من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وأنّ حقّ الكلام : مثليكم ـ بالخطاب ـ إلا أنه التفت إلى الغيبة ، ونظّره بقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢].

والثاني : أن الضمير في «مثليهم» وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ،) والفئة المقاتلة في سبيل الله عبارة عن المؤمنين المخاطبين.

والمعنى : ترون ـ أيها المؤمنون ـ الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله ، [فكأنه](٤) قيل : ترونهم ـ أيها المؤمنون ـ مثليكم ، وهو جواب حسن.

فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأي العين ، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم؟

فالجواب : أن الله ـ تعالى ـ إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٩٥.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : ليس بقليل العدد في شيء.

(٤) في ب : فإن.

٦٢

علم المسلمون (١) أنهم يغلبونهم ؛ وذلك لأنه ـ تعالى ـ قال : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فأظهر ذلك العدد [من المشركين](٢) للمؤمنين ؛ تقوية لقلوبهم ، وإزالة للخوف عن صدورهم.

الثالث : أن يكون الخطاب في «لكم» في «ترونهم» للكفار وهم قريش ، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين أي : قد كان لكم ـ أيها المشركون ـ آية ؛ حيث ترون المسلمين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون قد كثرهم في أعين الكفار ، ليجبنوا عنهم ، فيعود السؤال المذكور بين هذه الآية ، وآية الأنفال ، وهي قوله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] ، فكيف يقال ـ هنا ـ إنه يكثرهم؟ فيعود الجواب المتقدم باختلاف الحالتين ، وهو أنه قللهم أولا ، ليجترىء عليهم الكفار ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم ؛ ليحصل لهم الخور والفشل.

الرابع : كالثالث ، إلا أن الضمير في «مثليهم» يعود على المشركين ، فيعود ذلك السؤال ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال : مثليكم ، ليطابق الكلام ، فيعود الجوابان.

وهما : إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وإما عوده على الفئة الكافرة ؛ لأنها عبارة عن المشركين ، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة ، ويكون التقدير : ترون ـ أيها المشركون ـ المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة. وعلى هذا فيكونون قد رأوا المؤمنين مثلي أنفس المشركين ـ ألفين ونيفا ـ وهذا مدد من الله تعالى ، حيث أرى الكفار المؤمنين مثلي عدد المشركين ، حتى فشلوا ، وجبنوا ، فطمع المسلمون فيهم ، فانتصروا عليهم ، ويؤيده قوله تعالى : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) [آل عمران : ١٣] الإرادة ـ هنا ـ بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما ، ويعود السؤال ، وهو كيف كثرهم إلى هذه الغاية مع قوله ـ في الأنفال ـ : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ)؟ ويعود الجواب.

الخامس : أن الخطاب في «لكم» و «ترونهم» لليهود ، والضميران ـ المنصوب والمجرور ـ على هذا عائدان على المسلمين ، على معنى : ترونهم ـ لو رأيتموهم ـ مثليهم ، وفي هذا التقدير تكلّف لا حاجة إليه.

وكأن هذا القائل اختار أن يكون الخطاب في الآية المتقدمة ـ وهي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ)(٣) (كَفَرُوا) ـ (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) ـ لليهود ، فجعله في «ترونهم» لهم ـ أيضا ـ ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أولى من هذا التقدير المتكلف ؛ لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعة ، حتى يخاطبوا برؤيتهم لهم كذلك ، ويجوز ـ على هذا القول ـ أن يكون الضمير ـ المنصوب والمجرور ـ عائدين على الكفار ، أي : أنهم كثّر في أعينهم الكفار ، حتى صاروا مثلي عدد المؤمنين (٣) ، ومع ذلك غلبهم المؤمنون ، وانتصروا

__________________

(١) في أ : المؤمنون.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : الكفار.

٦٣

عليهم ، فهو أبلغ في القدرة. ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين ، والمجرور على المشركين ، أي: ترون ـ أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين ؛ مهابة لهم ، وتهويلا لأمر المؤمنين ، كما كان ذلك في حق المشركين ـ فيما تقدم من الأقوال ـ ، ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين ، والمجرور على المسلمين ، والمعنى : ترون ـ أيها اليهود لو رأيتم ـ المشركين مثلي عدد المؤمنين وذلك أنتم قلّلوا في أعينهم ؛ ليحصل لهم الفزع والغمّ ؛ لأنه كان يغمهم قلة المؤمنين ، ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين ، حسدا وبغيا.

فهذه ثلاثة أوجه مرتبة على الوجه الخامس ، فتصير ثمانية أوجه في قراءة نافع. أما قراءة الباقين ففيها أوجه :

أحدها : أنها كقراءة الخطاب ، فكل ما قيل في المراد به الخطاب هناك قيل به هنا ، ولكنه جاء على باب الالتفات من خطاب إلى غيبة.

الثاني : في أن الخطاب في «لكم» للمؤمنين ، والضمير المرفوع في «يرونهم» للكفار ، والمنصوب والمجرور للمسلمين ، والمعنى : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين ـ ستمائة ونيفا وعشرين ـ أراهم الله ـ مع قلتهم ـ إياهم ضعفهم ؛ ليهابوهم ، ويجبنوا عنهم.

الثالث : أن الخطاب في «لكم» للمؤمنين ـ أيضا ـ والضمير المرفوع في «يرونهم» للكفار ، والمنصوب للمسلمين ، والمجرور للمشركين ، أي : يرى المشركون [المؤمنين](١) مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم ؛ لما تقدم في الوجه قبله.

الرابع : أن يعود الضمير المرفوع في «يرونهم» على الفئة الكافرة ؛ لأنها جمع في المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين ، أو [على](٢) المسلمين ، أو أحدهما لأحدهم.

والذي تقوى في هذه الآية ـ من جميع الوجوه المتقدمة ـ من حيث المعنى أن يكون مدار الآية على تقليل المسلمين ، وتكثير الكافرين ؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالة على قدرة الله الباهرة ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم ، وخذلان الكافرين مع كثرة عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله ، وليس سببه كثرتكم وقلة عدوّكم ، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم ، ويؤيده قوله بعد ذلك : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) وقال في موضع آخر : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) [التوبة : ٢٥].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٦٤

وقال أبو شامة ـ بعد ذكر هذا المعنى وتقويته ـ : فالهاء في «يرونهم» للكفار ، سواء قرىء بالغيبة أم بالخطاب ، والهاء في «مثليهم» للمسلمين.

فإن قلت : إن كان المراد هذا فهلّا قيل : يرونهم ثلاثة أمثالهم ، فكان أبلغ في الآية ، وهي نصر القليل على هذا الكثير ، والعدة كانت كذلك أو أكثر؟

قلت : أخبر عن الواقع ، وكان آية أخرى مضمومة إلى آية البصر ، وهي تقليل الكفار في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه ، وهو أن الواحد من المسلمين يغلب الاثنين ، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا ، وفيه فائدة وقوع ما ضمن لهم من النصر فيه انتهى.

قال شهاب الدين (١) : «وإلى هذا المعنى ذهب الفراء (٢) ، أعني أنهم يرونهم ثلاثة أمثالهم فإنه قال : مثليهم : ثلاثة أمثالهم ، كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها».

وغلطه أبو إسحاق ـ في هذا ـ وقال : مثل الشيء : ما ساواه ، ومثلاه [ما ساواه](٣) مرتين. قال ابن كيسان : الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا ـ يوم بدر ـ ثلاثة أمثال المؤمنين فتوهّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم ، والمعنى ليس عليه ، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين :

إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك.

والأخرى : أنه آية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والجملة ـ على قراءة نافع ـ يحتمل أن تكون مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون لها محل ، وفيه ـ حينئذ ـ وجهان :

أحدهما : النصب على الحال من الكاف في «لكم» أي : قد كان لكم حال كونكم ترونهم.

والثاني : الجر ؛ نعتا ل «فئتين» ؛ لأن فيها ضميرا يرجع عليهما ، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف ، ويحتمل الرفع ؛ صفة لإحدى الفئتين ، ويحتمل الجر ؛ صفة ل «فئتين» أيضا ، على أن تكون الواو في «يرونهم» ترجع (٤) إلى اليهود ؛ لأن في الجملة ضميرا يعود على الفئتين.

وقرأ ابن عباس وطلحة «ترونهم» (٥) ـ مبنيا للمفعول على الخطاب ـ والسّلميّ كذلك إلا أنه بالغيبة وهما واضحتان مما تقدم تقريره والفاعل المحذوف هو الله تعالى والرؤية ـ هنا ـ فيها رأيان :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٩.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٩٥.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : راجع.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤١١ ، والدر المصون ٢ / ٣٠ ، والقرطبي ٤ / ١٩.

٦٥

أحدهما : أنها البصرية ، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد ، وهو قوله : «رأي العين».

قال الزمخشريّ : «رؤية ظاهرة مكشوفة ، لا لبس فيها» ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط ، وسلامة الحاسّة ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [بوجوه](١):

أحدها : أن عند الاشتغال بالمحاربة لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر ، وينظر إليهم على سبيل التأمل.

وثانيها : أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض.

وثالثها : يجوز أن يقال : إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر ، [فعلى هذا](٢) ، يتعدى لواحد ، ومثليهم نصب على الحال.

الثاني : أنها من رؤية القلب ، فعلى هذا يكون «مثليهم» مفعولا ثانيا ، وقد ردّه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب ـ على كل الأقوال ـ لوجهين :

أحدهما : قوله : «رأي العين».

الثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يعلم الشيء شيئين.

وأجيب عن [الوجه](٣) الأول بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي ، أي : رأيا مثل رأي العين ، أي : يشبه رأي العين ، فليس إياه على التحقيق ، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يراد بها الاعتقاد ، فلا يلزم المحال المذكور ، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم ـ في اللغة ـ على الاعتقاد ـ دون اليقين ـ فلأن يطلقوا عليه الرأي أولى وأحرى.

ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) [الممتحنة : ١٠] ؛ إذ لا سبيل إلى العلم اليقيني في ذلك ؛ إذ لا يعلم ذلك إلّا الله تعالى ، فالمعنى : فإن اعتقدتموهن ، والاعتقاد قد يكون صحيحا ، وقد يكون فاسدا ، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ «ترونهم» ـ بالتاء والياء مبنيّا للمفعول ـ ؛ لأن قولهم : أرى كذا ـ بضم الهمزة ـ يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمين ، لا يقين وعلم ، فلما كان اعتقاد التضعيف في جمع الكفار ، أو في جمع المؤمنين تضمينا وظنا ؛ لا يقينا دخل الكلام ضرب من الشكّ ، وأيضا ـ كما يستحيل حمل الرؤية هنا على العلم ـ يستحيل أيضا حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال ، وذلك كما أنه لا يقع العلم غير مطابق للمعلوم ، كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المبصر المنظور إليه ، فكان المراد التخمين والظن ، لا اليقين والعلم ، كذا قيل ، وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم

__________________

(١) في أ : من وجوه.

(٢) في ب : ففي.

(٣) سقط في أ.

٦٦

أن البصر لا يخالف المبصر ؛ لجواز أن يحصل خلل في البصر ، وسوء في النظر ، فيتخيل الباصر الشيء شيئين فأكثر ، وبالعكس.

احتج من قال : إن الرائي هو المشركون بوجوه :

الأول : أن تعلّق الفعل بالفاعل أشدّ من تعلّقه بالمفعول ، فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا أولى من العكس ، وأقرب المذكورين هو قوله : (كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ).

الثاني : مقدّم الآية ـ وهو قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) خطاب مع الكفار ، فقراءة نافع ـ بالتاء ـ تكون خطابا مع أولئك الكفار ، والمعنى : ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم ، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركا.

الثالث : أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار حتى تكون حجّة عليهم ، ولو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجّة على الكافر.

واحتج من قال : الراءون هم المسلمون بأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال ـ ولو كان الراءون هم المؤمنين لزم أن لا يرى ما هو موجود ، وهذا ليس بمحال فكان أولى ، قال ابن مسعود : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ، ثم قللهم الله ـ أيضا ـ في أعينهم حتى رأوا عددا يسيرا أقل من أنفسهم ، قال ابن مسعود : «حتّى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم ، فقلنا : كم كنتم؟ قال : ألفا» (١).

فصل

وجه النظم أنه ـ تعالى ـ لما أنزل الآية المتقدمة في اليهود ، وهي قوله : (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ،) فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام ، أظهروا التمرد ، وقالوا : لسنا أمثال قريش في الضعف ، وقلة المعرفة بالقتال ، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما نغلب به كلّ من ينازعنا ، فقال تعالى : إنكم ـ وإن كنتم [أغنياء](٢) ، أقوياء ، أرباب قدرة وعدة فإنكم ـ ستغلبون ، ثم ذكر ـ تعالى ـ ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك ، فقال : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) يعني واقعة بدر ؛ فإن الكثرة والعدّة كانت للكفار ، والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ، ثم إن الله تعالى قهر الكفار ، ونصر المسلمين ، وهذا يدل على أن النصر بتأييد الله ونصره.

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره ٦ / ٢٣٤ ، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٢ / ١٧.

(٢) سقط في أ.

٦٧

الفئة : الجماعة ، والمراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله ـ أي : في طاعته ـ رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يوم بدر ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، سبعة وسبعين رجلا من المهاجرين ، ومائتين وستة وثلاثين من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين عليّ بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيرا ، بين كل أربعة منهم بعير ، وفرسان : فرس للمقداد بن عمرو ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد ، وأكثرهم رجّالة ، وكان معهم من الدروع ستة ، وثمانية سيوف ، والمراد بالأخرى الكافرة مشركو مكة ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة ، رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم مائة فرس ، وكان فيهم أبو سفيان وأبو جهل ، وكان معهم من الإبل سبعمائة بعير ، وأهل الخيل كلّهم كانوا دارعين وهم مائة نفر ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك.

فصل

ذكر العلماء في كون هذه الواقعة آية وجوها :

أحدها : أن المسلمين كانوا قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور ، منها : قلّة العدد.

ومنها : أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا.

ومنها : قلّة السلاح والخيل.

ومنها : أن ذلك أول غزواتهم ، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من كثرة العدد ، وأنهم خرجوا متأهبين للمحاربة ، وأنهم كانوا معتادين للحروب في الأزمنة الماضية ، وإذ كان الأمر كذلك فكان غلب هؤلاء الضعفاء خارجا عن العادة ، فيكون معجزا.

وثانيها : أنه ـ عليه‌السلام ـ كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش ، بقوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الأنفال : ٧] ، يعني جمع قريش ، وكان قد أخبر ـ قبل الحرب ـ بأن هذا مصرع فلان ، فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره ، كان ذلك إخبارا عن الغيب ؛ فكان معجزا.

وثالثها : قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ، والصحيح أن الرائين هم المشركون ، والمرئيين هم المؤمنون ، وعلى كلا التقديرين يكون معجزا.

ورابعها : قال الحسن : إن الله ـ تعالى ـ أمد رسوله في تلك الغزوة بخمسة آلاف من الملائكة ، لقوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال : ٩] ، وقال : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران : ١٢٥] قيل : إنه كان على أذناب خيولهم ونواصيهم صوف أبيض ، وهو المراد من قوله : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ).

٦٨

قوله : (رَأْيَ الْعَيْنِ) في انتصابه ثلاثة أوجه ، تقدم منها اثنان النصب على المصدر التوكيدي ، أو النصب على المصدر التشبيهيّ.

الثالث : أنه منصوب على ظرف المكان ، قال الواحديّ : «.. كما تقول : ترونهم أمامكم ، ومثله هو مني مزجر الكلب ، ومناط [العنق](١) ، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه ـ مع عدم المساعد ـ معنى أو صناعة.

و «رأى» مشترك بين «رأى» معنى أبصر ، ومصدره : الرّأي ، والرؤية ، وبمعنى اعتقد وله الرأي وبمعنى الحلم ، وله الرؤيا كالدنيا ، فوقع الفرق بالمصدر ، فالرؤية للبصر خاصة ، والرؤيا للحلم فقط ، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية ، يقال : هذا رأي فلان ، أي : اعتقاده.

قال : [الطويل]

١٣٥٧ ـ رأى النّاس ـ إلّا من رأى مثل رأيه

خوارج ترّاكين قصد المخارج

قوله : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) التأييد : تفعيل ، من الأية ، وهو القوّة ، والباء سببية أي : سبب تأييده ، ومفعول «يشاء» محذوف ، أي : من يشاء تأييده (٢).

وقرأ ورش (٣) «يويّد» ، بإبدال الهمزة واوا محضة ، وهو تسهيل قياسيّ ؛ قال أبو البقاء وغيره : «ولا يجوز أن يجعل بين بين ؛ لقربها من الألف ، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا ، ولذلك لم تجعل الهمزة المبدوء بها بين بين لاستحالة الابتداء بالألف».

وهو مذهب سيبويه في الهمزة المفتوحة بعد كسرة قلبها ياء محضة ، وبعد الضمة قلبها واوا محضة للعلة المذكورة وهي قرب الهمزة التي بين بين من الألف ، والألف لا تكون ضمة ولا كسرة.

و «عبرة» : فعلة ـ من العبور كالركبة وكالجلسة ، والعبور : التجاوز ، ومنه عبرت النهر ، والمعبر السفينة ؛ لأن بها يعبر إلى الجانب الآخر ، وعبرة العين : دمعها ؛ لأنها تجاوزها ، وعبّر بالعبرة عن الاتعاظ والاستيقاظ ؛ لأن المتّعظ يعبر من الجهل إلى العلم ، ومن الهلاك إلى النجاة ، والاعتبار : افتعال منه ، والعبارة : الكلام الموصل إلى الغرض ، لأن فيه مجاوزة ، وعبرت الرؤيا وعبّرتها ، ـ مخفّفا ومثقلا ـ لأنك نقلت ما عندك من تأويلها إلى رائيها.

و «لأولي أبصار» صفة ل «عبرة» ، أي : عبرة كائنة لأولي الأبصار ـ لذوي العقول يقال : لفلان بصر بهذا الأمر.

__________________

(١) في أ : العيوق.

(٢) ينظر الدرر ٢ / ٢٤٩ ، ٥ / ٢٧٥ ، وهمع الهوامع ١ / ١٥ ، ٢ / ٩٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٠.

(٣) ينظر الكشف ١ / ١٠٤ ، وإتحاف ١ / ٤٧٠ ، والدر المصون ٢ / ٣١.

٦٩

وقيل : لمن أبصر الجمعين.

قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)(١٤)

والعامة على بناء «زيّن» للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الله تعالى ؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء ، وقيل : هو الشيطان ، فالأوّل قول أهل السنة ؛ قالوا : لو كان المزين هو الشيطان فمن ذا الذي زيّن الكفر والبدعة للشيطان؟ فإن كان ذلك شيطانا آخر لزم التسلسل ، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن في الإنسان كذلك ، وإن كان من الله وهو الحق ـ فليكن في حقّ الإنسان أيضا كذلك ، ويؤيده قوله تعالى : (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] يعني إن اعتقد أحد أنّا أغويناهم ، فمن الذي أغوانا؟ وهذا ظاهر جدا ، وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) [الكهف : ٧] ونقل عن المعتزلة ثلاثة أقوال :

أحدها : أن الشيطان زيّن لهم ، حكي عن الحسن أنه [كان](١) ـ يحلف بالله على ذلك ـ ويقول : من زينها؟ إنما زيّنها الشيطان ؛ لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها.

احتج لهم القاضي بوجوه :

الأول : أنه تعالى أطلق حبّ الشهوات ، فيدخل فيه حبّ الشهوات المحرمة ، ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وحبّ هذا المال الكثير لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ، ومنتهى مقصوده ؛ لأن أهل الآخرة يكتفون بالبلغة.

الثالث : قوله تعالى : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ،) فذكره في معرض ذمّ الدنيا ، والذامّ للشيء لا يزينه.

الرابع : قوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها له ، وذلك لا يليق بمن يزيّن الدنيا في عينه.

القول الثاني : أن المزين هو الله تعالى ، واحتجوا عليه بوجوه :

أحدها : أنه تعالى كما رغّب في منافع الآخرة فقد خلق ملاذّ الدنيا ، وأباحها لعبيده ؛ فإنه إذا خلق الشهوة والمشتهى ، وخلق للمشتهى علما بما في تناول المشتهى من اللذة ، ثم أباح له ذلك التناول ؛ يقال : إنه زيّنها له.

__________________

(١) في ب : قال.

٧٠

وثانيها : أن الانتفاع بهذه الشهوات وسائل إلى منافع الآخرة ، والله تعالى ندب إليها ، فكان تزيينا لها ، أمّا كونها وسائل إلى ثواب الآخرة أنه يتصدق بها ، ويتقوّى بها على الطاعة وأيضا إذا علم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله حمله ذلك على الاشتغال بالشكر.

قال الصاحب بن عبّاد : «شرب الماء البارد في الصّيف يستخرج الحمد من أقصى القلب» وأيضا فإن القادر على التمتّع باللذات إذا تركها واشتغل بالعبادة ، وتحمل ما في ذلك من المشقة كان أكثر ثوابا.

وثالثها : قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] ، وقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) [الكهف : ٧] وقال : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣٣] ، وقال : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) [البقرة : ٢٠٢] ، وقال : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة : ١٦٨] ، وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى.

القول الثالث ـ وهو اختيار الجبائي والقاضي ـ : وهو التفصيل ، فإن كان حراما فالتزيين فيه من الشيطان ، وإن كان واجبا ، أو مندوبا ، فالتزيين فيه من الله تعالى ذكره القاضي في تفسيره وبقي قسم ثالث ، وهو المباح الذي ليس في فعله ثواب ، ولا في تركه عقاب ، وكان من حق القاضي أن يذكره فلم يذكره. ويبيّن التزيين فيه ، هل هو من الله تعالى أو من الشيطان؟

وقرأ مجاهد (١) : «زيّن» مبنيّا للفاعل ، و «حب» مفعول به نصا ، والفاعل إما ضمير الله تعالى ؛ المتقدم ذكره في قوله : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ،) وإما ضمير الشيطان ، أضمر ـ وإن لم يجر له ذكر ـ لأنه أصل ذلك ، فذكر هذه الأشياء مؤذن بذكره ، وأضاف المصدر لمفعوله في (حُبُّ الشَّهَواتِ).

والشهوات جمع شهوة ـ بسكون العين ـ فحرّكت في الجمع ، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة ، كقوله : [الطويل]

١٣٥٨ ـ وحمّلت زفرات الضّحى فأطقتها

وما لي بزفرات العشيّ يدان (٢)

بتسكين الفاء. والشهوة مصدر يراد به اسم المفعول ، أي : المشتهيات ، فهو من

__________________

(١) وبها قرأ الضحاك ينظر المحرر الوجيز ١ / ٤٠٨ ، والبحر المحيط ٢ / ٤١٣ ، والدر المصون ٢ / ٣١ ، والقرطبي ٤ / ٢٠.

(٢) البيت لعروة بن حزام ينظر خزانة الأدب ٣ / ٣٨٠ ، والدرر ١ / ٨٦ ، ولأعرابي من بني عذرة في شرح التصريح ٢ / ٢٩٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥١٩ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٠٤ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٦٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٦٣٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤ ، والدر المصون ٢ / ٣١.

٧١

باب : رجل عدل حيث جعلت نفس المصدر مبالغة. والشهوة : ميل النفس ، وتجمع على شهوات ـ كالآية الكريمة ـ وعلى شهى ـ كغرف ـ.

قالت امرأة من بني نصر بن معاوية : [الطويل]

١٣٥٩ ـ فلولا الشّهى ـ والله ـ كنت جديرة

بأن أترك اللّذات في كلّ مشهد (١)

قال النحويون : لا تجمع فعلة ـ المعتلة اللام يعنون بفتح الفاء وسكون العين على فعل إلا ثلاثة ألفاظ : قرية وقرى ، ونزوة ونزى ، وكوّة ـ عند من فتح الكاف ـ وكوى.

واستدرك أبو حيّان : «واستدركت ـ أنا ـ شهى ، وأنشد البيت».

وقال الراغب (٢) : «.... وقد يسمّى المشتهى ، شهوة ، وقد يقال للقوّة التي بها يشتهى الشيء : شهوة ، وقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) يحتمل الشهوتين».

قال الزمخشريّ : وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان :

إحداهما : أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات ؛ مبالغة في كونها مشتهاة ، محروصا على الاستمتاع بها.

الثانية : أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية ، فكأن المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير منها.

فصل

وجه النظم : أنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني قال لأخيه : إنه يعرف صدق محمد فيما جاء به ، إلا أنه لا يقرّ بذلك ؛ خوفا من أن يأخذ ملك الروم منه المال والجاه ، وأيضا روينا أن النبي ـ عليه‌السلام ـ لما دعا اليهود إلى الإسلام ـ بعد غزوة بدر ـ أظهروا من أنفسهم القوة والشدة ، والاستظهار والسلاح ، فبين ـ تعالى ـ في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها ـ من متاع الدنيا ـ زائلة ، باطلة ، وأن الآخرة خير وأبقى.

فصل

قال المتكلمون : دلت هذه الآية على أن الحبّ غير الشهوة ؛ لأنه أضافه إليها ، والمضاف غير المضاف إليه ، والشهوة فعل الله تعالى ، والمحبة فعل العبد.

قالت الحكماء : الإنسان قد يحب شيئا ، ولكنه يحب ألا يحبه ، كالمسلم قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات ، لكنه يحب ألا يحبه ، وأما من أحب شيئا ، وأحب أن يحبه ،

__________________

(١) ينظر الأشباه والنظائر ٥ / ٢٨ وتذكرة النحاة ص ٦٢ وتاج العروس (شهى) والبحر المحيط ٢ / ٤٠٩ والدر المصون ٢ / ٣٢.

(٢) ينظر : المفردات ٢٧٧.

٧٢

فذلك هو كمال المحبة ، فإن كان ذلك في جانب الخير ، فهو كمال السعادة ، كقول سليمان : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) [ص : ٣٢] ، ومعناه : أحب الخير ، وأحب أن أكون محبا للخير ، وإن كان ذلك في جانب الشرّ فهو كما قال في هذه الآية ؛ فإن قوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) يدل على ثلاثة أمور مترتبة :

أولها : أنه يشتهي أنواع المشتهيات.

ثانيها : أنه يحب شهوته لها.

ثالثها : أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة.

ولما اجتمعت هذه الدرجات الثلاث في هذه القضية بلغت الغاية القصوى في الشدة ، فلا تنحلّ إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى ، ثم إنه أضاف ذلك إلى الناس ، ولفظ «النّاس» عام ، دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق ، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس ، والعقل ـ أيضا ـ يدل عليه ؛ لأن كل ما كان لذيذا ونافعا فهو محبوب ، ومطلوب لذاته ، والمنافع قسمان : جسماني ، وروحاني ، فالجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر ، والروحاني لا يحصل إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ، ثم إن انجذاب نفسه إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب ، فلا جرم كان الغالب على الخلق هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية ، فلهذا السبب عم الله هذا الحكم في الكل.

قوله تعالى : (مِنَ النِّساءِ) في محل نصب على الحال من الشهوات ، والتقدير : حال كون الشهوات من كذا وكذا ، فهي مفسرة لها في المعنى.

ويجوز أن تكون «من» لبيان الجنس ، لقول الزمخشريّ : «ثم يفسره بهذه الأجناس».

كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ، والمعنى : فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس.

وقدم النساء على الكل ، قال القرطبيّ : لكثرة تشوّق النفوس إليهن ؛ لأنهن حبائل الشيطان ، وفتنة الرجال ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرّجال من النّساء» أخرجه البخاري ومسلم (١) لأن الالتذاذ منهن أكثر ، والاستئناس بهن أتمّ ، ولذلك قال

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧ / ١٤) كتاب النكاح باب ما يتقى من شؤم ... الخ (٥٠٩٦) ومسلم (٤ / ٢٠٩٧) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء (٩٧ ـ ٢٧٤٠) والترمذي (٢٧٨٠) وأحمد (٥ / ٢٠٠) والبيهقي (٧ / ٩١) والطبراني (١ / ١٣٣) وعبد الرزاق (٢٠٦٠٨) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٣٥) وابن عساكر (٢ / ٣٩٥ ـ تهذيب) والخطيب في «تاريخ بغداد» (١٢ / ٣٢٩).

٧٣

تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ،) ثم ثنّى بالولد الذّكر ؛ لأن حبّ الولد الذكر أكثر من حب الولد الأنثى ، واعلم أن لله تعالى ـ في إيجاد حبّ الزوجة والولد في قلب الإنسان ـ حكمة بالغة ؛ إذ لولا هذا الحبّ لما حصل التوالد والتناسل ، وهذه المحبة غريزة في جميع الحيوان ، والبنين : جمع ابن ، قال نوح : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥] ويصغّر «ابن» على بنيّ ، قال لقمان : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) [لقمان : ١٣] ، وقال نوح : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) [هود : ١٨٥].

قوله تعالى : (وَالْقَناطِيرِ) هي جمع قنطار ، وفي نونه قولان :

أحدهما : أنها أصلية ، وأن وزنه فعلال ، كحملاق ، وقرطاس.

والثاني : أنها زائدة ، وأن وزنه فنعال كفنعاس ، وهو الجمل الشديد ، واشتقاقه من قطر يقطر ـ إذا سال ؛ لأن الذهب والفضة يشبّهان بالماء في سرعة الانقلاب ، وكثرة التقلّب.

وقال الزّجّاج : هو مأخوذ من قنطرت الشيء ـ إذا عقدته وأحكمته ـ ومنه القنطرة ؛ لإحكام عقدها.

حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون : القنطار وزن لا يحدّ.

قال ابن الخطيب : «وهذا هو الصحيح».

وقال الربيع بن أنس : القنطار : المال الكثير بعضه على بعض (١).

وقال القرطبي : «والعرب تقول قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار».

وقال معاذ بن جبل ـ ورواه أبيّ بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «القنطار ألف ومئتا أوقية» (٢).

وقال ابن عباس والضحاك : ألف ومائتا مثقال (٣) ، وعنهما ـ في رواية أخرى ـ اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية أحدكم ، وبه قال الحسن (٤).

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «القنطار اثنا عشر ألف أوقية» (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٩) عن الربيع وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٥) عن أبي بن كعب مرفوعا وأورده ابن كثير في «تفسيره» (٢ / ١١٠) وقال : وهذا حديث منكر والأقرب أن يكون موقوفا على أبي بن كعب كغيره من الصحابة.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٦) عن الضحاك وابن عباس.

وأخرجه البيهقي (٧ / ٢٣٣) عن ابن عباس أيضا.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٧) عن ابن عباس والضحاك والحسن.

(٥) أخرجه أحمد (٢ / ٣٦٣) وابن ماجه (٣٦٦٠) كتاب الأدب باب : بر الوالدين والدارمي (٢ / ٤٧٦) والبيهقي (٧ / ٢٣٣) وابن حبان (٦٦٣ ـ موارد) عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال البوصيري : إسناده صحيح ورجاله ثقات.

٧٤

وروى أنس ـ أيضا ـ عنه أن القنطار ألف دينار (١).

وروى سعيد بن المسيب وقتادة : ثمانون ألفا (٢).

وقال مجاهد : سبعون ألفا (٣).

وقال السّديّ : أربعة آلاف مثقال (٤).

وقال الكلبيّ أبو نضرة : القنطار ـ بلسان الروم ـ ملء مسك الثور من ذهب ، أو فضة(٥).

وقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال.

وقال سعيد بن جبير وعكرمة : مائة ألف ، ومائة منّ ، ومائة رطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم ، وقد جاء الإسلام ـ يوم جاء ـ وبمكة مائة رجل قد قنطروا.

قوله : «المقنطرة» منفعلة من القنطار وهو للتأكيد ، كقولهم : ألف مؤلّفة ، وبدرة مبدرة ، وإبل مؤبّلة ، ودراهم مدرهمة.

وقال الكلبي : القناطير الثلاثة ، والمقنطرة المضاعفة ، فكان المجموع ستة.

وقال الضحاك : معنى «المقنطرة» : المحصّنة المحكمة (٦).

وقال قتادة : هي الكثير بعضها فوق بعض (٧).

وقال السّدّي : المضروبة ، المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير (٨).

وقال الفراء : المضعّفة ، والقناطير الثلاثة ، فالمقنطرة تسعة وجاء في الحديث أن القنطار ألف ومائتا أوقية ، والأوقية خير مما بين السماء والأرض.

وقال أبو عبيدة : القناطير أحدها قنطار ، ولا نجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه.

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٣٧٨) كتاب النكاح وصححه عن أنس بن مالك.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٨) وعزاه لعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٨) عن مجاهد وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٨) لعبد بن حميد.

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٢٤٨) عن السدي.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٨) عن أبي نضرة. ومثله عن أبي سعيد الخدري :

أخرجه عبد بن حميد وابن أبي الحاتم والبيهقي عن أبي سعيد كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٨) بلفظ: القنطار ملء مسك الثور ذهبا.

(٦) أخرجه الطبري (٦ / ٢٥٠).

(٧) انظر المصدر السابق.

(٨) انظر المصدر السابق.

٧٥

وقال ثعلب : المعوّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار ، فإذا قالوا : قناطير مقنطرة ، فهي اثنا عشر دينارا وقيل : إن القنطار ملء جلد ثور ذهبا.

وقيل : ثمانون ألفا وقيل : هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير.

قوله : (مِنَ الذَّهَبِ) كقوله : (مِنَ النِّساءِ) ، [والذّهب] مؤنث ، ولذلك يصغّر على ذهيبة ، ويجمع على أذهاب وذهوب ، واشتقاقه من الذهاب ، ويقال : رجل ذهب بكسر الهاء ـ رأى معدن الذهب فدهش و [«الفضة» تجمع على فضض ، واشتقاقها من انفض إذا تفرق](١).

قال القرطبيّ : والذهب مكيال لأهل اليمن ، قال : واشتقاق الذهب والفضة ، يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد في الوجود ، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بعضهم : [البسيط]

١٣٦٠ ـ النّار آخر دينار نطقت به

والهمّ آخر هذا الدّرهم الجاري

والمرء بينهما إذ كان ذا ورع

معذّب القلب بين الهمّ والنّار (٢)

والذهب والفضة : إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء ، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء.

قوله : «والخيل» عطف على النساء ، قال أبو البقاء : [معطوف على النساء](٣) ، لا على الذهب والفضة ، لأنها لا تسمى قنطارا وتوهم مثل هذا بعيد جدا ، والخيل فيه قولان :

أحدهما : قال الواحديّ : «إنه جمع لا واحد له من لفظه ، كالقوم ، والنساء والرهط».

الثاني : أن واحده خائل ، فهو نظير راكب وركب ، وتاجر وتجر ، وطائر وطير.

وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش ، فسيبويه يجعله اسم جمع ، والأخفش يجعله جمع تكسير.

وفي اشتقاقها وجهان :

أحدهما : من الاختيال ـ وهو العجب (٤) ـ سمّيت بذلك ؛ لاختيالها في مشيتها بطول أذنابها قال امرؤ القيس : [المتقارب]

١٣٦١ ـ لها ذنب مثل ذيل العروس

تسدّ به فرجها من دبر (٥)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر القرطبي ٤ / ٢٢.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : التعجب.

(٥) ينظر ديوانه ص ٥٥ ، وينظر الاقتضاب ٣ / ١١١ ، والعمدة ٢ / ٥٦ ، واللسان «لون» ، والدر المصون ٢ / ٣٢.

٧٦

الثاني : من التخيل ، قيل : لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها.

وقيل : أصل الاختيال من التخيل ، وهو التشبيه بالشيء ؛ لأن المختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه كبرا. والأخيل : الشّقرّاق ؛ لأنه يتغير لونه ، فمرة أحمر ، ومرة أصفر وعليه قوله: [مجزوء الكامل]

١٣٦٢ ـ كأبي براقش كلّ لو

ن لونه يتخيّل (١)

وجوز بعضهم : أن يكون مخفّفا من «خيّل» ـ بتشديد الياء ـ نحو ميت ـ في ميّت ـ وهين في هيّن ، وفيه نظر ؛ لأن كل ما سمع فيه التخفيف سمع فيه التثقيل ، وهذا لم يسمع إلا مخفّفا ؛ وهذا تقدم.

وقال الراغب (٢) : «الخيل ـ في الأصل ـ اسم للأفراس والفرسان جميعا ، قال تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٦] في الأصل للأفراس ، ويستعمل في كل واحد منهما منفردا ، نحو ما روي «يا خيل الله اركبي» (٣) ، فهذا للفرسان ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «عفوت لكم عن صدقة الخيل» (٤) ، يعني الأفراس ، وفيه نظر ؛ لأن أهل اللغة نصّوا على أن قوله ـ عليه‌السلام ـ «يا خيل الله اركبي» إما مجاز إضمار أو مجاز علاقة ، ولو كان للفرسان حقيقة لما ساغ قولهم.

قوله : «المسوّمة» أصل التسويم : التعليم ، ومعنى مسومة : معلّمة.

قال أبو مسلم : مأخوذ من السيما ـ بالمد والقصر ـ ومعناه واحد ، وهو الهيئة الحسنة ، قال تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) [الفتح : ٢٩] واختلفوا في تلك العلامة.

فقال أبو مسلم : هي الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل وهي أن تكون غرّا محجلة.

وقال الأصم : البلق.

وقال قتادة : الشّية (٥). وقال المؤرج : الكيّ ، والأول أحسن ؛ لأن الإشارة في الآية إلى أشرف أحوالها وقال : بل هي من سوم الماشية ، أي : مرعية ، يقال : أسمت ما شيتي ، فسامت ، قال تعالى : (فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل : ١٠] ، وسومتها فاستامت ، أي : مرعية ، فيتعدى ـ تارة ـ بالهمزة ، وتارة بالتضعيف.

__________________

(١) البيت للأسدي ينظر الاقتضاب ٣ / ١٦١ واللسان (برقش) والصحاح (برقش) ٣ / ٩٩٤ ومجمع الأمثال ١ / ٥٤٠٤ والمفردات في غريب القرآن (خيل) ص ١٦٤ وأساس البلاغة ص ١٨٠ والدر المصون ٢ / ٣٧.

(٢) ينظر : المفردات ١٦٤.

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ١٣٣) وابن سعد (٢ / ١ / ٥٨) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٤ / ١٨٧).

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٥٤) عن قتادة.

٧٧

وقيل : بل هو من السيمياء ـ وهي الحسن ـ فمعنى مسومة : أي : ذات حسن (١) ، قاله عكرمة ، واختاره النحاس ؛ قال لأنه من الوسم ، ورد عليه بعضهم : باختلاف المادتين ، وأجاب بعضهم بأنه من باب المقلوب ، فيصح ما قاله وتقدم تحقيق ذلك في «يسومونكم» وقوله «بسيماهم».

فصل

قال القرطبيّ : جاء في الخبر عن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله عزوجل خلق الفرس من الريح ، ولذلك جعلها تطير بلا جناح (٢).

قال وهب بن منبه : خلقها من ريح الجنوب. وفي الخبر : أن الله تعالى عرض على آدم جميع الدواب ، فقال له : اختر منها واحدة ، فاختار الفرس ، فقيل له : اخترت عزّك ، فصار اسمه الخيل من هذا الوجه ، وسمّي خيلا ؛ لأن من ركبها اختال على أعداء الله ، وسمّي فرسا ؛ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس السبع ، ويقطعها كالالتهام بيديه على الشيء خطفا وتناولا ، وسمي عربيّا ؛ لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل ؛ جزاء على رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي ، فصارت له نحلة من الله ، وسمي عربيا ، وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الشّيطان دارا فيها فرس عتيق» (٣) ، وإنما سمي عتيقا ؛ لأنه تخلص من الهجانة ، وقال ـ عليه‌السلام ـ : «خير الخيل الأدهم ، الأقرع ، الأرثم ثم الأقرح المحجل طلق اليمين» (٤).

قوله : (وَالْأَنْعامِ) جمع نعم ، والنعم مختصة بالإبل ، والبقر ، والغنم.

وقال الهروي : النعم يذكر ويؤنث ، فإذا جمع أطلق على الإبل والبقر والغنم ، وظاهر هذا أنه ـ قبل جمعه على أنعام ـ لا يطلق على الثلاثة ، بل يختص بواحد منها ، وقد صرّح الفراء بهذا ، فقال النعم : الإبل فقط قال بعضهم لكونها تشبه النعام في جزاء الصبر. وقال ابن كيسان : إذا قلت : نعم لم يكن إلا للإبل وإذا قلت : أنعام وقعت على الإبل وكل ما يرعى ؛ قال حسان : [الوافر]

١٣٦٣ ـ وكانت لا يزال بها أنيس

خلال مروجها نعم وشاء (٥)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٥٣) عن عكرمة.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٣٢).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ٢٢).

(٤) أخرجه الترمذي (١٦٩٧) وابن ماجه (٢٧٨٩) والحاكم (٢ / ٩٢) وأحمد (٥ / ٣٠٠) والبيهقي (٦ / ٣٣٠) والطيالسي (١ / ٢٤٢) رقم (١٧٨٨) وابن حبان (١٦٣٣ ـ موارد).

وقال الترمذي : حسن غريب صحيح.

وقال الحاكم : هذا حديث غريب صحيح وقد احتجّ الشيخان بجميع رواته ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٥) ينظر : القرطبي ٤ / ٢٣.

٧٨

وهو مذكر ولا يؤنث ، تقول : هذا نعم وارد ، وهو جمع ، لا واحد له من لفظه.

وقال ابن قتيبة : «الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحده : نعم وهو جمع لا واحد له من لفظه» ، سميت بذلك ؛ لنعومة مشيها ولينها ، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدّا.

قوله : «والحرث» ، الحرث تقدم تفسيره وهو ـ هنا ـ مصدر واقع موقع المفعول به ، فلذلك وحّد ، ولم يجمع كما جمعت أخواته ، ويجوز إدغام الثاء في الذال ، وإن كان بعض الناس ضعفه : بأنه يلزم الجمع بين ساكنين ، والأول ليس حرف لين ، قال : بخلاف «يلهث ذلك» حيث أدغم الثاء في الذال ؛ لانتفاء التقاء الساكنين ، إذ الهاء قبل الثاء متحركة.

فصل

الحرث هنا اسم لكل ما يحرث. تقول : حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض بمعنى الفلاحة ، ويقال : حرث وفي الحديث : «احرثوا هذا القرآن أي : فتشوه» قال ابن الأعرابي الحرث : التفتيش ، وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث ، لأن الحارث هو الكاسب ، واحترس المال كسبه ، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس ، والجمع : أحرثة ، وأحرث الرجل ناقته أهزلها. وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعا من الفصاحة والبلاغة ، منها : الإتيان بها مجملة ، ومنها جعله لها نفس الشهوات ؛ مبالغة في التنفير عنها ، ومنها : البداءة بالأهم ، فالأهم ، فذكر ـ أولا ـ النساء لأنهن أكثر امتزاجا ، ومخالطة بالإنسان ، وهن حبائل الشيطان ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرّجال من النساء» ، وقال : «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للبّ الرّجل الحليم منكنّ» ، ويروى : الحازم منكن.

وقيل : فيهن فتنتان ، وفي البنين فتنة واحدة ؛ لأنهن يقطعن الأرحام والصلات بين الأهل ـ غالبا ـ ، وهن سبب في جمع المال من حلال وحرام ـ غالبا ـ ، والأولاد يجمع لأجلهم المال ، فلذلك ثنى بالبنين ، وفي الحديث : «الولد مبخلة مجبنة» (١) ، ولأنهم

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ١٧٢) والبيهقي (١٠ / ٢٠٢) والحاكم (٣ / ١٦٤) وابن أبي شيبة (١٢ / ٩٧) والرامهرمزي في «الأمثال» كما في «كنز العمال» (٣٧٦٦٥) عن يعلى بن مرة العامري. وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه أبو يعلى (٢ / ٣٠٥) رقم (١٠٣٢) والبزار (١٨٩٢) وذكره الهيثمي في «المجمع» (٨ / ١٥٥) وقال : وفيه عطية العوفي وهو ضعيف.

وله شاهد آخر عن الأسود بن خلف ، أخرجه البزار (١٨٩١ ـ كشف).

وقال الهيثمي (٨ / ١٥٥) ورجاله ثقات.

قال المناوي في «فيض القدير» (٦ / ٣٧٨) مجبنة مبخلة محزنة أي يجبن أباه عن الجهاد خشية ضيعته وعن الإنفاق في الطاعة خوف فقره فكأنه أشار إلى التحذير من النكول عن الجهاد والنفقة بسبب الأولاد بل يكتفي بحسن خلافة الله فيقدم ولا يحجم فمن طلب الولد للهوى عصى مولاه ودخل في قوله تعالى ـ

٧٩

فروع منهن ، وثمرات نشأت عنهن ، وفي كلامهم : «المرء مفتون بولده» ، وقدّمت على الأموال ؛ لأنها أحبّ إلى المرء من ماله.

وأما تقديم المال على الولد ـ في بعض المواضع ـ فإنما ذلك في سياق امتنان ، وإنعام أو نصرة ، ومعاونة ؛ لأن الرجال تستمال بالأموال ـ ثم ذكر تمام اللذة ، وهو المركوب البهيمي من بين سائر الحيوانات ، ثم أتى بما يحصل به جمال حين تريحون وحين تسرحون ، كما تشهد به الآية الأخرى ثم ذكر ما به قوامهم ، وحياة بنيتهم ، وهو الزروع والثمار.

ومنها الإتيان بلفظ يشعر بشدة حب هذه الأشياء ، بقوله : «زين» والزينة محبوبة في الطباع.

ومنها : بناء الفعل للمفعول ؛ لأن الغرض الإعلام بحصول ذلك.

ومنها : إضافة الحبّ للشهوات ، والشهوات هي الميل والنزوع إلى الشيء.

ومنها التجنيس : القناطير المقنطرة.

ومنها : الجمع بين ما يشبه المطابقة في قوله : (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛) لأنهما صارا متقابلين في غالب العرف.

ومنها : وصف «القناطير» ب «المقنطرة» الدالة على تكثيرها مع كثرتها في ذاتها.

ومنها : ذكر هذا الجنس بمادة «الخيل» لما في اللفظ من الدلالة على تحسينه ، ولم يقل : الأفراس ، وكذا قوله «الأنعام» ، ولم يقل : الإبل والبقر والغنم ؛ لأنه أخصر.

فصل

قال القرطبيّ : قال العلماء : ذكر الله ـ تعالى ـ أربعة أصناف من المال ، كل نوع منها يتموّل به صنف من الناس ، أمّا الذهب والفضة فيتموّل به التّجّار ، وأما الخيل المسومة فيتموّل بها الملوك ، وأما الأنعام فيتموّل بها أهل البوادي ، وأما الحرث فيتموّل به أهل البساتين ، فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتموّل به ، وأما النساء والبنون ففتنة للجميع.

قوله : (ذلِكَ مَتاعُ) الإشارة بذلك للمذكور المتقدم ، فلذلك وحّد اسم الإشارة والمشار إليه متعدد ، كقوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨]. وقد تقدم.

فصل

قال القاضي : وهذا يدل على أن هذا التزيين مضاف إلى الله تعالى ؛ لأن متاع الدنيا

__________________

ـ (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) فالكامل لا يطلب الولد إلا لله فيربيه على طاعته ويمتثل فيه أمر ربه (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) وسئل حكيم عن ولده فقال ما أصنع بمن إن عاش كدني وإن مات هدني.

٨٠