اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) المقصود منه التنبيه على عظم المعصية ؛ لأنهم لمّا شاهدوا أن الله ـ تعالى ـ أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقّهم أن يمتنعوا عن المعصية. فلما أقدموا عليها ، سلبهم الله ذلك الإكرام ، وأذاقهم وبال أمرهم.

قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني : الذين تركوا المركز ، وأقبلوا على النهب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير ، حتى قتلوا. قال عبد الله بن مسعود : وما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الدنيا ، حتى كان يوم أحد ، ونزلت هذه الآية(١).

قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) عطف على ما قبله ، والجملتان من قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ (٢) مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) اعتراض بين المتعاطفين ، وقال أبو البقاء (٢) : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) معطوف على الفعل المحذوف.

يعني الذي قدره جوابا للشرط ، ولا حاجة إليه ، و «ليبتليكم» متعلق ب «صرفكم» و «أن» مضمرة بعد اللام.

فصل

اختلفوا في تفسير هذه الآية ؛ وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية ، فكيف أضافه إلى نفسه؟ فقال جمهور المفسّرين : الخير والشر بإرادة الله تعالى وتخليقه ، ومعنى هذا الصّرف أنّ الله تعالى ردّ المسلمين عن الكفار وألقى الهزيمة عليهم ، وسلّط الكفار عليهم.

وقالت المعتزلة : هذا التأويل غير جائز ؛ للقرآن والعقل ، أم القرآن فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) [آل عمران : ١٥٥] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يضيفه بعد هذا إلى نفسه؟

وأما المعقول فإن الله تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ، ولو كان ذلك بفعل الله لم تجز معاتبتهم عليه ، كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم ، ثم ذكروا وجوها من التأويل :

أحدها : قال الجبائيّ : إنّ الرّماة افترقوا فرقتين ، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم ، وبعضهم بقي هناك ، فالذين بقوا أحاط بهم العدوّ ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدوّ من غير فائدة أصلا ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو ـ كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه ـ ولم يكونوا عصاة بذلك ، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه إلى نفسه ، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه ، ثم قال : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) والمراد : أنه ـ تعالى ـ لما صرفهم إلى ذلك

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١ / ٣٦٢.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٥٤.

٦٠١

المكان ، وتحصّنوا به ، أمرهم ـ هناك ـ بالجهاد ، والذّبّ عن بقية المسلمين ، ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام ، وبعد أن شاهدوا قتل أقاربهم وأحبّائهم من أعظم أنواع الابتلاء.

فإن قيل : فعلى هذا التأويل ، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين ، فلم قال : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ).

قلنا : الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ، ومن لم يكن معذورا ، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة ، فقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) راجع إلى المعذورين ؛ لأنّ الآية لما اشتملت على قسمين ، وعلى حكمين ، رجع كلّ حكم إلى القسم الذي يليق به ، ونظيره : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) [التوبة : ٤٠] والمراد الذي قال له : لا تحزن إن الله معنا ـ وهو أبو بكر ـ لأنه كان خائفا قبل هذا القول ، فلما سمع هذا القول سكن ، ثم قال : (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) وعنى بذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أبي بكر ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعا ، هذا قول الجبائي.

الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني : وهو أنّ المراد من قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أنه ـ تعالى ـ أزال ما كان في قلوب الكفار من الرّعب من المسلمين ؛ عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم ، ثم قال : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي : ليجعل ذلك الصّرف محنة عليكم ؛ لتتوبوا إلى الله ، وترجعوا إليه ، وتستغفروه من مخالفة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وميلكم إلى الغنيمة ، ثم أعلمهم أنه ـ تعالى ـ قد عفا عنهم.

الثالث : قال الكعبي : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) بكثرة الإنعام عليكم.

قوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) ظاهره يقتضي تقدّم ذنب منهم.

قال القاضي إن كان ذلك الذنب من الصغائر صحّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة ، فإن كان من الكبائر ، فلا بد من إضمار توبتهم ؛ [لإقامة](١) الدلالة على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرة.

وأجيب بأنّ هذا الذنب لا شك أنه كان كبيرة ، لأنهم خالفوا صريح نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصارت تلك المخالفة سببا لانهزام المسلمين ، وقتل جمع كبير من أكابرهم ، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائر.

وأيضا ظاهر قوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) يدل على كونه كبيرة ، ويضعف قول من قال : إنه خاص في بدر ؛ لأن اللفظ عامّ ، ولا تفاوت في المقصود ، فكان

__________________

(١) في أ : لقيام.

٦٠٢

التخصيص ممتنعا ، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه ـ تعالى ـ عفا عنهم من غير توبة ؛ لأنه لم يذكر التوبة ، فدلّ على أنه ـ تعالى ـ قد يعفو عن أصحاب الكبائر ، ثم قال : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وهو راجع إلى ما تقدّم من ذكر النعم ؛ فإنه نصرهم ـ أولا ـ ثم عفا عنهم ـ ثانيا ـ وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن.

قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٥٣)

العامل في «إذ» قيل : مضمر ، أي : اذكروا.

وقال الزمخشريّ : «صرفكم» أو «ليبتليكم».

وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفا ل «عصيتم» أو «تنازعتم» أو «فشلتم».

وقيل : هو ظرف ل «عفا عنكم» أي : عفا عنكم إذ تصعدون هاربين.

وكل هذه الوجوه سائغة ، وكونه ظرفا ل «صرفكم» جيد من جهة المعنى ، ول «عفا» جيد من جهة القرب ، وعلى بعض هذه الأقوال تكون المسألة من باب التنازع ، ويكون على إعمال الأخير منها ، لعدم الإضمار في الأول ، ويكون التنازع في أكثر من عاملين.

والجمهور على (تُصْعِدُونَ) ـ بضم التاء وكسر العين ـ من : أصعد في الأرض ، إذا ذهب فيها. والهمزة فيه للدخول ، نحو أصبح زيد ، أي : دخل في الصباح ، فالمعنى : إذ تدخلون في الصعود ، ويبيّن ذلك قراءة أبيّ (١) «تصعدون في الوادي».

وقرأ الحسن ، والسّلمي ، وقتادة : «تصعدون» ـ بفتح التاء والعين (٢) ـ من : صعد في الجبل ، أي : رقي ، والجمع بين القراءتين أنهم ـ أولا ـ أصعدوا في الوادي ، ثم لما هزمهم العدو ـ صعدوا في الجبل ، وهذا على رأى من يفرّق بين صعد وأصعد ، وقرأ أبو حيوة : «تصعّدون» بالتشديد (٣) ـ وأصله : تتصعّدون ، حذفت إحدى التاءين ، إما تاء المضارعة ، أو تاء «تفعّل» والجمع بين قراءته وقراءة غيره كما تقدم.

والجمهور (تُصْعِدُونَ) بتاء الخطاب ، وابن محيصن ـ ويروى عن ابن كثير ـ بياء الغيبة (٤) ، على الالتفات ، وهو حسن.

ويجوز أن يعود الضمير على المؤمنين ، أي : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ) فالعامل في «إذ» «فضل» ويقال : أصعد : أبعد في الذهاب ، قال القتبيّ أصعد :

__________________

(١) انظر : الشواذ ٢٣ ، والمحرر الوجيز ١ / ٥٢٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٨٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٣٣.

(٢) انظر القراءة السابقة.

(٣) انظر : البحر المحيط ٣ / ٨٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٣٣.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٢٦ ، والبحر المحيط ٣ / ٨٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٣٣.

٦٠٣

إذا أبعد في الذهاب ، وأمعن فيه ، فكأن الإصعاد إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع.

قال الشاعر : [الطويل]

١٦٦٢ ـ ألا أيّهذا السّائلي ، أين أصعدت؟

فإنّ لها من بطن يثرب موعدا (١)

وقال آخر : [الرجز]

١٦٦٣ ـ قد كنت تبكين على الإصعاد

فاليوم سرّحت ، وصاح الحادي (٢)

وقال الفرّاء وأبو حاتم : الإصعاد : في ابتداء السفر والمخارج ، والصعود : مصدر صعد : رقي من سفل إلى علو ، ففرّق هؤلاء بين صعد وأصعد.

وقال المفضّل : صعد وأصعد بمعنى واحد ، والصعيد : وجه الأرض.

قال بعض المفسّرين : «وكلتا القراءتين صواب ، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد».

قوله : (وَلا تَلْوُونَ) الجمهور على (تَلْوُونَ) ـ بواوين ـ وقرىء بإبدال الأولى همزة ؛ كراهية اجتماع واوين ، وليس بقياس ؛ لكون الضمة عارضة ، والواو المضمومة تبدل همزة بشروط تقدمت في «البقرة».

منها : ألا تكون الضمة عارضة ، كهذه ، وأن لا تكون مزيدة ، نحو ترهوك.

وألا يمكن تخفيفها ، نحو سور ونور ـ جمع سوار ونوار ـ لأنه يمكن تسكينها فتقول : سور ونور ، فيخف اللفظ بها.

وألا يدغم فيها ، نحو تعوّذ ـ مصدر تعوذ.

ومعنى (وَلا تَلْوُونَ) ولا ترجعون ، يقال : لوى به : ذهب به ، ولوى عليه : عطف.

قال الشاعر : [الطويل]

١٦٦٤ ـ ...........

أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا (٣)

وأصله أن المعرّج على الشيء يلوي عليه عنقه ، أو عنان دابته ، فإذا مضى ـ ولم

__________________

(١) البيت للأعشى ينظر ديوانه (١٨٥) شواهد المغني ص ٥٧٦ ، تذكرة النحاة ص ٥٨٩ ، ٦٣٢ ، والدرر ٣ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٦٠ ، ٣٢٦ ، والمقتضب ٤ / ٢٥٩ وهمع الهوامع ١ / ١٧٥ والبحر ٣ / ٨٧ والدر المصون ٢ / ٢٣٣.

(٢) ينظر البيت في تفسير القرطبي ٤ / ٢٣٩ ومجاز القرآن ١ / ١٠٥ والبحر المحيط ٣ / ٧. والدر المصون ٢ / ٢٣٣.

(٣) عجز بيت لامرىء القيس.

ينظر ديوانه ص ٤٦ وأشعار الشعراء الستة الجاهلين ١ / ٦٥ والعمدة ٢ / ٧٧ والبحر ٣ / ٨٩ والدر المصون ٢ / ٢٣٤.

٦٠٤

يعرّج ـ قيل : لن يلوي ، ثم استعمل في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات إليه ، يقال : فلان لا يلوي على كذا أي : لا يلتف إليه ، وأصل «تلون» تلويون ، فأعلّ بحذف اللام ، وقد تقدم في قوله : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) وقرأ الأعمش ، وأبو بكر بن عيّاش ـ ورويت عن عاصم (١) «تلوون» بضم التاء ـ من ألوى وهي لغة في لوى.

وقرأ الحسن «تلون» ـ بواو واحدة ـ (٢) وخرجوها على أنه أبدل الواو همزة ، ثم نقل حركة الهمزة على اللام ، ثم حذف الهمزة ، على القاعدة ، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء ـ وهي اللام ـ وقال ابن عطية : «وحذفت إحدى الواوين للساكنين ، وكان قد تقدم أن هذه القراءة هي قراءة مركبة على لغة من يهمز الواو ، وينقل الحركة».

وهذا عجيب ، بعد أن يجعلها من باب نقل حركة الهمزة ، كيف يعود ويقول : حذفت إحدى الواوين للساكنين؟ ويمكن تخريج هذه القراءة على وجهين آخرين :

أحدهما : أن يقال : استثقلت الضمة على الواو ؛ لأنها أختها ، فكأنه اجتمع ثلاث واوات ، فنقلت الضمة إلى اللام ، فالتقى ساكنان ـ الواو التي هي عين الكلمة ، والواو التي هي ضمير ـ فحذفت الأولى ؛ لالتقاء الساكنين ، ولو قال ابن عطية هكذا لكان أولى.

الثاني : أن يكون «تلون» مضارع ولي ـ من الولاية ـ وإنما عدّي ب «على» لأنه ضمّن معنى العطف. وقرأ حميد (٣) بن قيس : «على أحد» ـ بضمتين ـ يريد الجبل ، والمعنى : ولا تلوون على من في جبل أحد ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقوى ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرّ الناس عنه ، وهذه الحال ـ من إصعادهم ـ إنما كانت وهو يدعوهم.

ومعنى الآية : تعرجون ، ولا يلتفت بعض إلى بعض.

قوله : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) ، مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، العامل فيها «تلوون».

أي : والرسول يدعوكم في أخراكم ومن ورائكم ، يقول : «إليّ عباد الله ؛ فأنا رسول الله ، من يكر فله الجنّة».

ويحتمل أنه كان يدعوكم إلى نفسه ، حتى تجتمعوا عنده ، ولا تتفرقوا. و «أخراهم» آخر الناس كما يقال في أولهم ، ويقال : جاء فلان في أخريات الناس.

قوله : (فَأَثابَكُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على «تصعدون» و «تلوون» ، ولا يضر كونهما مضارعين ؛

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٢٦ ، والبحر المحيط ٣ / ٩٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٣٤.

(٢) انظر : القراءة السابقة.

(٣) انظر : القراءة السابقة.

٦٠٥

لأنهما ماضيان في المعنى ؛ لأن «إذ» المضافة إليهما صيرتهما ماضيين ، فكأن المعنى إذا صعدتم ، وألويتم.

الثاني : أنه معطوف على «صرفكم».

قال الزمخشريّ (فَأَثابَكُمْ) عطف على صرفكم ، وفيه بعد ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان :

أحدهما : أنه الباري تعالى.

والثاني : أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الزّمخشريّ : ويجوز أن يكون الضمير في (فَأَثابَكُمْ) للرسول أي : فآساكم من الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة.

و «غما» مفعول ثان.

وقوله : (فَأَثابَكُمْ) هل هو حقيقة أو مجاز فقيل : مجاز كأنه جعل الغم قائما مقام الثواب الّذي كان يحصل لولا الفرار فهو كقوله : [الطويل]

١٦٦٥ ـ أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا (١)

وقول الآخر :

١٦٦٦ ـ تحية بينهم ضرب وجيع (٢)

جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء ، والضرب بمنزلة التحية.

وقال الفرّاء : «الإثابة ـ هاهنا ـ بمعنى المعاقبة» وهو يرجع إلى المجاز ؛ لأن الإثابة أصلها في الحسنات.

قوله : (بِغَمٍ) يجوز في الباء أوجه :

أحدها : أن تكون للسببية ، على معنى أن متعلّق الغمّ الأول الصحابة ، ومتعلق الغمّ الثاني قيل المشركين يوم بدر.

قال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغمّ يوم بدر للمشركين ، والمعنى : فأثابكم غما بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدر.

وقيل متعلّق الغمّ الرسول ، والمعنى : أذاقكم الله غمّا بسبب الغمّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ومخالفتكم أمره ، أو فأثابكم الرسول غما بسبب غم اغتممتموه لأجله ، والمعنى أن الصحابة لما رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجّ وجهه وكسرت رباعيته ، وقتل عمه ، اغتممتموه لأجله ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رآهم قد عصوا ربّهم لأجل الغنيمة ـ ثم

__________________

(١) البيت للفرزدق ـ ينظر ديوانه ١ / ٧٧ ، والبحر ٣ / ٩٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٣٥.

(٢) تقدم برقم ٧٢٠.

٦٠٦

بقوا محرومين من الغنيمة ـ وقتل أقاربهم ، اغتم لأجلهم.

الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ، أي : غما مصاحبا لغم ، ويكون الغمّان للصحابة ، بمعنى غمّا مع غم أو غما على غم ، فالغم الأول : الهزيمة والقتل ، والثاني إشراف خالد بخيل الكفار ، أو بإرجافهم : قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلى الأول تتعلق الباء ب (فَأَثابَكُمْ).

قال أبو البقاء وقيل : المعنى بسبب غم ، فيكون مفعولا به.

وعلى الثاني يتعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «غمّ» أي : غما مصاحبا لغم ، أو ملتبسا بغمّ ، وأجاز أبو البقاء أن تكون الباء بمعنى «بعد» أو بمعنى «بدل» وجعلها ـ في هذين الوجهين ـ صفة ل «غما». وكونها بمعنى «بعد» و «بدل» بعيد ، وكأنه يريد تفسير المعنى ، وكذا قال الزمخشريّ غما بعد غمّ. واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة :

أولا : غمّهم بما نالهم من العدوّ في الأنفس والأموال (١).

ثانيا : غمّهم بما لحق المسلمين من ذلك (٢).

ثالثا : غمّهم بما وصل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

رابعا : غمّهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها (٤).

خامسا : غمّهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم ؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام ، وذلك من أشق الأشياء ؛ لأن الإنسان بعد انهزامه ـ يضعف قلبه ويجبن ، فإذا أمر بالمعاودة ، فإن فعل خاف القتل ، وإن لم يفعل خاف الكفر وعقاب الآخرة ـ وهذا الغمّ أعظمها (٥).

سادسها : غمّهم حين سمعوا أن محمدا قتل (٦).

سابعها : غمّهم حين أشرف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين (٧).

ثامنها : غمّهم حين أشرف أبو سفيان (٨) ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلق يومئذ

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٣٤).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣١٠ ـ ٣١١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

وذكره الرازي في «تفسيره» (٩ / ٣٤) وانظر «البحر المحيط» لأبي حيان (٣ / ٩٠).

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٥٥) وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٩٠) عن ابن عباس ومقاتل.

(٨) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٩٠) وعزاه للثعلبي.

٦٠٧

يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه ، وأراد أن يرميه ، فقال : أنا رسول الله ، ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رأى من يمتنع به ، فأقبلوا على المشركين ، يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشّعب ، فلما نظر المسلمون إليهم همّهم ذلك ، وظنوا أنهم يميلون عليهم ، فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، ثم بدأ أصحابه ، فرموهم بالحجارة حتّى أنزلوهم.

وإذا عرفت هذا فكلّ واحد من المفسّرين فسّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال : وعندنا أن الله ـ تعالى ـ ما أراد بقوله : (غَمًّا بِغَمٍ) اثنين ، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها ، أي : أن الله عاقبكم بغموم كثيرة ، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ، ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم ، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ، ومثل إقدامكم على المعصية ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ؛ ليصير ذلك زاجرا لكم عن الإقدام على المعصية ، والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى.

والغمّ : التغطية ، يقال : يوم غمّ ، وليلة غمّة ـ إذا كانا مظلمين ـ ومنه : غمّ الهلال ـ إذا لم ير ، وغمّ الأمر ، يغمى ـ إذا لم يتبيّن.

قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) هذه لام «كي» وهي لام جرّ ، والنصب ـ هنا ـ ب «كي» لئلّا يلزم دخول حرف جرّ على مثله ، وفي متعلّق هذه اللام قولان :

أحدهما : أنه (فَأَثابَكُمْ) وفي «لا» على هذا وجهان :

الأول : أنها زائدة ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن ، والمعنى : أنه غمهم ليحزنهم ؛ عقوبة لهم على تركهم مواقفهم ، قاله أبو البقاء.

الثاني : أنها ليست زائدة ، فقال الزمخشريّ : معنى (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) لتتمرّنوا على تجرّع الغموم ، وتتضرروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضارّ.

وقال ابن عطية : «المعنى : لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم ورّطتم أنفسكم ، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه».

ثانيهما : أن اللام تتعلق ب «عفا» لأن عفوه يذهب كلّ حزن ، وفيه بعد ؛ لطول الفصل.

ثم قال : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم ، قادر على مجازاتها ، وهذا زجر عظيم للبعد عن الإقدام على المعصية.

٦٠٨

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(١٥٤)

في نصب «أمنة» أربعة أوجه :

الأول : أنها مفعول «أنزل».

الثاني : أنها حال من «نعاسا» لأنها في الأصل ـ صفة ، فلما قدّمت نصبت حالا.

الثالث : أنها مفعول من أجله ، وهو فاسد ؛ لاختلال شرطه ـ وهو اتحاد الفاعل ـ فإنّ فاعل «أنزل» غير فاعل الأمنة.

الرابع : أنه حال من المخاطبين في «عليكم» وفيه حينئذ ـ تأويلان :

إما على حذف مضاف ـ أي ذوي أمنة ـ وإما أن يكون «أمنة» جمع آمن ، نحو بار وبررة ، وكافر وكفرة.

وأما «نعاسا» فإن أعربنا «أمنة» مفعولا به كان بدلا ، وهو بدل اشتمال ؛ لأن كلّا من الأمنة والنّعاس يشتمل على الآخر ، أو عطف بيان عند غير الجمهور ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارف ، أو مفعولا من أجله ، وهو فاسد ؛ لما تقدم وإن أعربنا «أمنة» حالا ، كان «نعاسا» مفعولا ب «أنزل» و «أنزل» عطف على «فأثابكم» وفاعله ضمير الله تعالى ، و «أل» في «الغمّ» للعهد ؛ لتقدّم ذكره ورد أبو حيان على الزمخشريّ كون «أمنة» مفعولا به بما تقدم ، وفيه نظر ، فإن الزمخشريّ قال أو مفعولا له بمعنى نعستم أمنة. فقدر له عاملا يتحد فاعله مع فاعل «أمنة» فكأنه استشعر السؤال ، فلذلك قدر عاملا على أنه قد يقال : إن الأمنة من الله تعالى ، بمعنى أنه أوقعها بهم ، كأنه قيل : أنزل عليكم النعاس ليؤمّنكم به.

و «أمنة» كما يكون مصدرا لمن وقع به الأمن يكون مصدرا لمن أوقع به.

وقرأ الجمهور : أمنة ـ بفتح الميم ـ إما مصدرا بمعنى الأمن ، أو جمع آمن ، على ما تقدم تفصيله. والنّخعيّ وابن محيصن ـ بسكون الميم (١) وهو مصدر فقط ، والأمن والأمنة بمعنى واحد ، وقيل الأمن يكون مع زوال سبب الخوف ، والأمنة مع بقاء سبب الخوف.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٢٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٩٢ ، والدر المصون ٢ / ٢٣٦ وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٩١.

٦٠٩

فصل في بيان كيفية النظم

في كيفية النّظم وجهان :

أحدهما : أنه لما وعد المؤمنين بالنصر ، فالنصر لا بدّ وأن يسبق بإزالة الخوف عنهم ؛ ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى منجز وعده في نصر المؤمنين.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ بيّن نصر المؤمنين ـ أولا ـ فلما عصى بعضهم سلط عليهم الخوف.

ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلوب من كان صادقا في إيمانه ، مستقرّا على دينه بحيث غلب النعاس عليه.

واعلم أن الذين كانوا مع رسول الله يوم أحد فريقان :

أحدهما : الجازمون بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهؤلاء كانوا قاطعين بأنّ الله ينصر هذا الدين ، وأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال ، فلا جرم كانوا مؤمنين ، وبلغ ذلك الأمن إلى حيث غشيهم النّعاس فإن النوم لا يجيء مع الخوف ، فقال ـ هاهنا ـ في قصة أحد : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) وقال في قصة بدر : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) [الأنفال : ١١].

وأما الفريق الثّاني فهم المنافقون ، فكانوا شاكّين في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة ، فهؤلاء اشتد جزعهم ، وعظم خوفهم.

فإن قيل : لم قدم ذكر الأمنة على النّعاس في قصة أحد ، وأخرها في قصة بدر؟

فالجواب : أنه لما وعدهم بالنصر ، فالأمن وزوال الخوف إشارة ودليل على إنجاز الوعد.

قوله : (يَغْشى) قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق ، والباقون بالياء (١) ؛ ردّا إلى النّعاس ، وخرّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة ل «أمنة» ؛ مراعاة لها ، ولا بدّ من تفصيل ، وهو إن أعربوا «نعاسا» بدلا ، أو عطف بيان ، أشكل قولهم من وجهين :

الأول : أن النّحاة نصّوا على أنه إذا اجتمع الصفة والبدل ، أو عطف البيان ، قدّمت الصفة ، وأخر غيرها ، وهنا قد قدّموا البدل ، أو عطف البيان عليها.

الثاني : أن المعروف في لغة العرب أن يحدّث عن البدل ، لا عن المبدل منه ، تقول : هند حسنها فاتن ، ولا يجوز فاتنة ـ إلا قليلا ـ فجعلهم «نعاسا» بدلا من «أمنة» يضعف لهذا.

فإن قيل : قد جاء مراعاة المبدل منه في قول الشاعر : [الكامل]

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٧ ، والحجة ٣ / ٨٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٠ ، ١٢١ ، والعنوان ٨١ ، وحجة القراءات ١٧٦ ، وشرح شعلة ٣٢٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٩ ، وإتحاف ١ / ٤٩١.

٦١٠

١٦٦٧ ـ وكأنّه لهق السّراة كأنّه

ما حاجبينه معيّن بسواد (١)

فقال : «معيّن» ؛ مراعاة للهاء في «كأنه» ولم يراع البدل ـ حاجبيه ـ ومثله قول الآخر : [الكامل]

١٦٦٨ ـ إنّ السّيوف غدوّها ورواحها

تركت هوازن مثل قرن الأعضب (٢)

فقال : تركت ؛ مراعاة للسيوف ، ولو راعى البدل لقال : تركا.

فالجواب : أنّ هذا ـ وإن كان قد قال به بعض النحويين ؛ مستندا إلى هذين البيتين ـ مؤوّل بأن «معين» خبر ل «حاجبيه» لجريانهما مجرى الشيء الواحد في كلام العرب ، وأنّ نصب «غدوّها ورواحها» على الظرف ، لا على البدل. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : (عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) [البقرة : ١٠٢].

وإن اعربوا «نعاسا» مفعولا من أجله لزم الفصل بين الصفة والموصوف بالمفعول له ، وكذا إن أعربوا «نعاسا» مفعولا به و «أمنة» حال يلزم الفصل ـ أيضا ـ وفي جوازه نظر ، والأحسن ـ حينئذ ـ أن تكون هذه جملة استئنافية جوابا لسؤال مقدّر ، كأنه قيل : ما حكم هذه الأمنة؟ فأخبر بقوله : «تغشى».

ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على «نعاسا» وتكون الجملة صفة له ، و «منكم» متعلق بمحذوف ، صفة ل «طائفة».

فصل

قال أبو طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافّنا يوم أحد ، فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه (٣) ، وقال ثابت : عن أنس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد ، فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النّعاس (٤).

__________________

(١) تقدم برقم ٧٠٥.

(٢) تقدم برقم ٧٠٣.

(٣) أخرجه البخاري كتاب المغازي باب ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ... رقم (٤٠٦٨) ، (٨ / ٢٢٨) كتاب التفسير باب سورة آل عمران والنسائي في «الكبرى» كما في «تحفة الأشراف» (٣ / ٢٤٧) والترمذي كتاب التفسير باب سورة آل عمران والطبري في «تفسيره» (٧ / ٣١٧ ، ٣١٨) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٢٧٢) عن أبي طلحة الأنصاري.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٥) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في «دلائل النبوة».

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٢٩) رقم (٣٠١٠) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٣١٧) والحاكم (٢ / ٢٩٧) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٢٧٣) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٥) وزاد نسبته لابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي نعيم في «الدلائل».

٦١١

وقال الزبير : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتدّ الخوف ، فأنزل الله علينا النوم ، والله إنّي لأسمع قول معتّب بن قشير ـ ما أسمعه إلّا كالحلم ـ يقول : «لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا» (١).

فصل

قال ابن مسعود : النّعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشّيطان (٢) ، وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق بالله ، والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصّلاة إلا من غاية البعد عن الله تعالى. واعلم أنّ ذلك النعاس فيه فوائد :

الأولى : أنه وقع على كافة المؤمنين ـ لا على الحد المعتاد ـ فكان معجزة ظاهرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا شكّ أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيمانا مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازداد أحدهم في محاربة العدو.

الثانية : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال ، والنوم يفيد عود القوة والنشاط ، واشتداد القوة والقدرة.

الثالثة : أنّ الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم ؛ لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم.

الرابعة : أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السّلامة في مثل تلك المعركة ـ من أدلّ الدّلائل على أنّ حفظ الله وعصمته معهم ، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى.

قوله : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) في هذه الواو ثلاثة أوجه :

الأول : أنها واو الحال ، وما بعدها في محل نصب على الحال ، والعامل فيها «يغشى».

الثاني : أنها واو الاستئناف ، وهي التي عبر عنها مكيّ بواو الابتداء.

الثالث : أنها بمعنى «إذ» ذكره مكي (٣) ، وأبو البقاء (٤) ، وهو ضعيف.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٢٣) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٢٧٣) عن الزبير.

والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٦) وزاد نسبته لابن إسحاق وإسحاق بن راهويه وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

والخبر ذكره الصالحي في «السيرة الشامية» (٤ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣١٩) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣٢٨) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وقال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه قيس بن الربيع وثقه شعبة وغيره وضعفه جماعة.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ١٦٤.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ١٥٤.

٦١٢

و «طائفة» مبتدأ ، والخبر (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) وجاز الابتداء بالنكرة لأحد شيئين:

إما للاعتماد على واو الحال ، وقد عده بعضهم مسوغا ـ وإن كان الأكثر لم يذكره ـ.

وأنشدوا : [الطويل]

١٦٦٩ ـ سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا

محيّاك أخفى ضوءه كلّ شارق (١)

وإما لأن الموضع تفصيل ؛ فإن المعنى : يغشى طائفة ، وطائفة لم يغشهم.

فهو كقوله :

١٦٧٠ ـ إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشقّ وشقّ عندنا لم يحول (٢)

ولو قرىء بنصب «طائفة» ـ على أن تكون المسألة من باب الاشتغال ـ لم يكن ممتنعا إلا من جهة النقل ؛ فإنه لم يحفظ قراءة ، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجه :

أحدها : أنه (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) كما تقدّم.

الثاني : أنه «يظنّون» والجملة قبله صفة ل «طائفة».

الثالث : أنه محذوف ، أي : ومنكم طائفة وهذا يقوّي أنّ معناه التفصيل ، والجملتان صفة ل «طائفة» أو يكون «يظنّون» حالا من مفعول «أهمّتهم» أو من «طائفة» لتخصّصه بالوصف ، أو خبرا بعد خبر إن قلنا : (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) خبر أول. وفيه من الخلاف ما تقدم.

الرابع : أن الخبر (يَقُولُونَ) والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين ، أو خبرين ، أو إحداهما خبر ، والأخرى حال.

ويجوز أن يكون (يَقُولُونَ) صفة أو حالا ـ أيضا ـ إن قلنا : إن الخبر هو الجملة التي قبله ، أو قلنا : إن الخبر مضمر.

قوله : (يَظُنُّونَ) له مفعولان ، فقال أبو البقاء : (غَيْرَ الْحَقِ) المفعول الأول ، أي أمرا غير الحق ، و «بالله» هو المفعول الثاني.

وقال الزمخشريّ : (غَيْرَ الْحَقِ) في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أي يظنّ به. و (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل منه.

ويجوز أن يكون المعنى : يظنون بالله ظن الجاهلية و (غَيْرَ الْحَقِ) تأكيدا ل (يَظُنُّونَ) كقولك : هذا القول غير ما يقول.

فعلى ما قال لا يتعدى «ظن» إلى مفعولين ، بل تكون الباء ظرفية ، كقولك : ظننت

__________________

(١) ينظر في الأشباه والنظائر ٣ / ٩٨ ، وتخليص الشواهد ص ١٩٣ ، والدرر ٢ / ٢٣ ، وشرح الأشموني ١ / ٩٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٣ ، وشرح ابن عقيل ص ١١٤ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٧١ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٤٦ ، وهمع الهوامع ١ / ١٠١ والدر المصون ٢ / ٢٣٧.

(٢) تقدم برقم ٢٣٦.

٦١٣

بزيد ، أي : جعلته مكان ظني ، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قول الشاعر : [الطويل]

١٦٧١ ـ فقلت لهم : ظنّوا بألفي مدجّج

سراتهم في الفارسي المسرّد (١)

أي قلت لهم : اجعلوا ظنكم في ألفي مدجّج.

ويحصل في نصب (غَيْرَ الْحَقِ) وجهان :

أحدهما : أنه مفعول أول ل «يظنّون».

والثاني : أنه مصدر مؤكّد للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريّ.

وفي نصب (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) وجهان ـ أيضا ـ : البدل من (غَيْرَ الْحَقِ) أو أنه مصدر مؤكّد ل (يَظُنُّونَ).

و «بالله» إما متعلق بمحذوف على جعله مفعولا ثانيا ، وإما بفعل الظنّ ـ على ما تقدم ـ وإضافة الظنّ إلى الجاهلية ، قال الزمخشريّ : «كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدق ، يريد : الظنّ المختص بالملة الجاهلية ، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية».

وقال غيره : المعنى : المدة الجاهلية ، أي : القديمة قبل الإسلام ، نحو : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) [الفتح : ٢].

فصل

هؤلاء هم المنافقون ـ عبد الله بن أبيّ ، ومعتب بن قشير ، وأصحابهما ـ كان همتهم خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء ـ إذا كان من همي وقصدي ـ وذلك أن الإنسان إذا اشتدّ انشغاله بالشيء صار غافلا عما سواه ، فلما كان أحبّ الأشياء إلى الإنسان نفسه ، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها ، فهذا هو المراد من قوله : (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)، وفي هذا الظنّ احتمالان :

أحدهما ـ وهو الأظهر ـ : أنهم كانوا يقولون في أنفسهم : لو كان محمد محقّا في دعواه لما سلّط الكفار عليه ـ وهذا ظنّ فاسد ، أما على قول أهل السّنّة فلأنه ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا اعتراض عليه. وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه ، فلا يبعد أن يكون لله حكم خفيّة ، وألطاف مرعيّة في تخلية الكافر بحيث يقهر المسلم ، فإنّ الدنيا دار امتحان وابتلاء ، ووجوه المصالح مستورة عن العقول.

قال القفال : لو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة كون المحقّ محقّا ، وذلك ينافي التكليف ، واستحقاق الثواب والعقاب ، والمحقّ إنما يعرف بما معه من الدّلائل والبيّنات ، فأمّا القهر فقد يكون من المبطل للمحقّ ومن المحقّ للمبطل.

__________________

(١) تقدم برقم ٤٥٨.

٦١٤

الاحتمال الثاني : أن ذلك الظنّ هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم ، وينكرون النبوة والبعث ـ فلا جرم ـ ما وثقوا بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أنّ الله تعالى يقوّيهم وينصرهم.

وقيل : ظنوا أن محمدا قد قتل. و (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل من قوله : (غَيْرَ الْحَقِ) وفائدة هذا الترتيب أنّ غير الحقّ أديان كثيرة ، وأقبحها مقالة أهل الجاهلية ، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيّن أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي هي غير حقّة أقبحها وأكثرها بطلانا ، وهو ظنّ أهل الجاهلية.

قوله : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) «من» ـ في (مِنْ شَيْءٍ) ـ زائدة في المبتدأ ، وفي الخبر وجهان :

أحدهما ـ وهو الأصحّ ـ : أنه «لنا» فيكون (مِنَ الْأَمْرِ) في محل نصب على الحال من «شيء» لأنه نعت نكرة ، قدم عليها ، فنصب حالا ، وتعلق بمحذوف.

الثاني : ـ أجازه أبو البقاء ـ أن يكون (مِنَ الْأَمْرِ) هو الخبر ، و «لنا» تبيين ، وبه تتم الفائدة كقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤].

وهذا ليس بشيء ؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذ يتعلق بمحذوف ، وإذا كان كذلك فيصير «لنا» من جملة أخرى ، فتبقى الجملة من المبتدأ والخبر غير مستقلة بالفائدة ، وليس نظيرا لقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فإن «له» فيها متعلق بنفس «كفوا» لا بمحذوف ، وهو نظير قولك : لم يكن أحد قاتلا لبكر. ف «لبكر» متعلق بنفس الخبر.

وهل هنا الاستفهام على حقيقته ، أم لا؟ فيه وجهان :

أظهرهما : نعم ، ويعنون بالأمر : النصر والغلبة.

والثاني : أنه بمعنى النفي ، كأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر ـ أي النصر ـ شيء ، وإليه ذهب قتادة وابن جريج.

ولكن يضعف هذا بقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) فإن من نفى عن نفسه شيئا لا يجاب بأنه ثبت لغيره ؛ لأنه يقرّ بذلك ، اللهم إلّا أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة ، فكأنّهم قالوا : ليس لنا من الأمر شيء ، بل لمن أكرهنا على الخروج وحملنا عليه ، فحينئذ يحسن الجواب بقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) لقولهم هذا ، وهذه الجملة الجوابية اعتراض بين الجمل التي جاءت بعد قوله : «وطائفة» فإن قوله : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) وكذا (يَقُولُونَ) ـ الثانية ـ إما خبر عن «طائفة» أو حال مما قبلها.

فصل

اعلم أنّ قوله : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) حكاية للشبهة التي تمسّك بها المنافقون ، وهي تحتمل وجوها :

الأول : أنّ عبد الله بن أبيّ لما شاوره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا

٦١٥

يخرج من المدينة ، ثمّ إنّ الصحابة ألحّوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يخرج إليهم ، فغضب عبد الله بن أبي من ذلك ، فقال : عصاني وأطاع الولدان ، فلما كثر القتل في بني الخزرج ، ورجع عبد الله بن أبي قيل له : قتل بنو الخزرج!! فقال : «هل لنا من الأمر من شيء»؟

يعني : أن محمدا لم يقبل قولي حين أمرته بأن لا يخرج من «المدينة».

والمعنى : هل لنا أمر يطاع؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار.

الثاني : ما تقدم في الإعراب أنّ معناه النفي ، أي : هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو النصر والقوة ـ شيء؟ وهذا استفهام على سبيل الإنكار.

الثالث : أن التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتمل أن يكون قائله من المؤمنين ، ويكون المراد منه إظهار الشّفقة ، أنه متى يكون الفرج والنّصرة؟ وهو المراد ـ أيضا ـ بقوله : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ).

وقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو «كلّه» ـ رفعا (١) ـ وفيه وجهان :

الأول : ـ وهو الأشهر ـ أنه رفع بالابتداء ، و «لله» خبره والجملة خبر «إنّ» نحو : إن مال زيد كله عنده.

الثاني : أنه توكيد على المحل ، فإن اسمها ـ في الأصل ـ مرفوع بالابتداء ، وهذا مذهب الزّجّاج والجرمي ، يجرون التوابع كلّها مجرى عطف النسق ، فيكون «لله» خبرا ل «إنّ» أيضا.

وقرأ الباقون بالنصب ، فيكون تأكيدا لاسم «إنّ» وحكى مكي (٢) عن الأخفش أنه بدل منه ـ وليس بواضح ـ و «لله» خبر «إنّ».

وقيل على النعت ؛ لأنّ لفظة «كلّ» للتأكيد ، فكانت كلفظة «أجمع».

فصل

هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره ؛ لأن المنافقين قالوا : إن محمدا لو قبل منّا رأينا ونصحنا ، لما وقع في هذه المحنة ، فأجابهم الله تعالى بأن لأمر كلّه لله ، وهذا [الجواب](٣) إنما ينتظم إذا كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين.

قوله : (يُخْفُونَ) إما خبر ل (طائِفَةً) وإما حال مما قبله ـ كما تقدم ـ وقوله : (يَقُولُونَ)

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٧ ، والحجة ٣ / ٩٠ ، وحجة القراءات ١٧٧ ، والعنوان ٨١ وإعراب القراءات السبع ١ / ١٢١ ، وشرح شعلة ٣٢٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٩ ، وإتحاف ١ / ٤٩١.

(٢) انظر السابق.

(٣) سقط في أ.

٦١٦

يحتمل هذين الوجهين ، ويحتمل أن يكون تفسيرا لقوله : (يُخْفُونَ) فلا محلّ له حينئذ.

قوله : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كقوله : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) وقد عرف الصحيح من الوجهين.

وقوله : (ما قُتِلْنا هاهُنا) جواب «لو» وجاء على الأفصح ، فإن جوابها إذا كان منفيا ب «ما» فالأكثر عدم اللام ، وفي الإيجاب بالعكس ، وقد أعرب الزمخشريّ هذه الجمل الواقعة بعد قوله : «وطائفة» إعرابا أفضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال : «فإن قلت : كيف مواقع هذه الجمل الواقعة بعد قوله : «وطائفة».

قلت : (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) صفة ل («طائِفَةً) و (يَظُنُّونَ) صفة أخرى ، أو حال ، بمعنى : قد أهمتهم. نفسهم ظانّين ، أو اشتئناف على وجه البيان للجملة قبلها و (يَقُولُونَ) بدل من (يَظُنُّونَ).

فإن قلت : كيف صحّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلا من الإخبار بالظنّ؟

قلت : كانت مسألتهم صادرة عن الظن ، فلذلك جاز إبداله منه ، و (يُخْفُونَ) حال من (يَقُولُونَ) و (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) اعتراض بين الحال وذي الحال ، و (يَقُولُونَ) بدل من (يُخْفُونَ) والأجود أن يكون استئنافا». انتهى.

وهذا من أبي القاسم بناء على أنّ الخبر محذوف ، كما تقدم تقريره في قوله : (وَطائِفَةٌ) أي : ومنكم طائفة ، فإنه موضع تفصيل.

فإن قيل : ما الفرق بين قوله : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) وبين قوله : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) وقد أجاب عن الأول بقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) وأجاب ههنا بغير ذلك؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أن المنافقين قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ، وما قتلنا هاهنا ، وهذا يدلّ على أنّ الأمر ليس كما قلتم من أنّ الأمر كلّه لله ، وهذا كالمناظرة الدائرة بين أهل السّنّة والمعتزلة ؛ فإنّ السّنّي يقول : الأمر كلّه ـ في الطّاعة والمعصية ، والإيمان والكفر بيد الله ، والمعتزلي يقول : ليس الأمر كذلك ؛ فإن الإنسان مختار ، ومستقلّ بالفعل ، إن شاء آمن وإن شاء كفر ، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشّبهة الأولى.

الثاني : أن المراد من قوله : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي : هل لنا من النّصرة التي وعدنا بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء؟ ويكون المراد من قوله : «لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا» هو ما كان يقوله عبد الله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني ما خرج عن «المدينة» ، وما قتلنا ههنا.

٦١٧

واعلم أنه ـ تعالى ـ أجاب عن هذه [الشّبهة](١) من ثلاثة أوجه :

الأول : قوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) ومعناه : أن الحذر لا يدفع القدر ، فالذين قدّر الله عليهم القتل ، لا بدّ وأن يقتلوا على كل تقدير ؛ لأنّ الله تعالى لما أخبره أنه يقتل ، فلو لم يقتل ، لانقلب علمه جهلا.

وقال المفسّرون : لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مضاجعهم ومصارعهم ، حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد وقيل : تقدير الكلام : كأنه قيل للمنافقين : لو جلستم في بيوتكم ، وتخلّفتم عن الجهاد ، لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم ، ولم يتخلّفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلّفكم.

قوله : (لَبَرَزَ) جاء على الأفصح ، وهو ثبوت اللام في جواب «لو» مثبتا. وقراءة الجمهور (لَبَرَزَ) مخفّفا مبنيا للفاعل ، وقرأ أبو حيوة «لبرّز» مشدّدا ، مبنيّا للمفعول (٢) ، عدّاه بالتضعيف. وقرىء «كتب» مبنيا للفاعل (٣) ، و «القتل» مفعول به.

وقرأ الحسن كتب عليهم القتال رفعا (٤).

الجواب الثاني عن هذه الشّبهة قوله : «وليبتلي» فيه خمسة أوجه :

فقيل : إنه متعلق بفعل قبله ، وتقديره : فرض الله عليكم القتال ، ولم ينصركم يوم أحد ، ليبتلي ما في صدوركم ، أي : ضمائركم.

وقيل : بفعل بعده ، أي : ليبتلي فعل هذه الأشياء.

وقيل : الواو زائدة ، واللام متعلقة بما قبلها.

وقيل : «وليبتلي» عطف على «ليبتلي» الأول وإنما كرّرت لطول الكلام ، فعطف عليه (وَلِيُمَحِّصَ) قاله ابن بحر.

وقيل : هو عطف على علة محذوفة تقديره : ليقضي الله أمره وليبتلي.

الجواب الثالث عن هذه الشّبهة قوله : (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أن هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات ، وتطهرها.

الثاني : أنها تصيره كفّارة لذنوبكم ، فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات.

فإن قيل : قد سبق ذكر الابتلاء في قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) [آل عمران : ١٥٢] فلم أعاده؟

__________________

(١) في أ : الآية.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٢٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٩٧ ، والدر المصون ٢ / ٢٤٠.

(٣) انظر : البحر المحيط ٣ / ٩٧ ، والدر المصون ٢ / ٢٤٠.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٢٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٩٧ ، والدر المصون ٢ / ٢٤٠.

٦١٨

فالجواب : أنه أعاده ؛ لطول الكلام بينهما ، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والابتلاء الثاني سائر الأحوال.

فإن قيل : قوله : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) المراد منه القلب ؛ لقوله : (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصّدر ـ وهو ما في القلب من النّيّة ـ وجعل متعلق التمحيص ما في القلب ـ وهو النيات والعقائد ـ فلم خالف بين اللفظين في المتعلّق؟

فالجواب : أنه لما اختلف المتعلّقان حسن اختلاف لفظيهما. ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : الأسرار والضمائر ؛ لأنها حالّة فيها ، مصاحبة لها ، وذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفى عليه ما في الصدور وغيره ـ لأنه عالم بجميع المعلومات ـ وإنما ابتلاهم لمحض الإلهية.

تمّ الجزء الخامس ، ويليه الجزء السّادس

وأوّله : «قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ...)»

٦١٩
٦٢٠