اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

يريد : «ينبع» ، فمطل ومثله قول الآخر : [الرجز]

١٦١١ ـ أقول إذ خرّت على الكلكال

يا ناقتا ما جلت من مجال (١)

يريد : «الكلكل» ، فمطل ومثله قول الشاعر : [الوافر]

١٦١٢ ـ فأنت من الغوائل حين ترمى

ومن ذمّ الرّجال بمنتزاح (٢)

يريد : بمنتزح.

قال أبو الفتح : «فإذا جاز أن يعترض هذا [الفتور](٣) والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما اثنان».

قال أبو حيان (٤) ـ بعد نقل كلام ابن عطية ـ : «وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وإجراء الوقف مجرى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة ، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوصل ، وإنما نظير هذا قولهم : ثلاثة أربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال ، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل».

وقرىء شاذّا ـ أيضا ـ : بثلاثة آلاف ـ بتاء ساكنة (٥) ، وهي أيضا من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن ، أهي تاء التأنيث التي كانت ، فسكنت فقط ، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ ولا طائل تحته.

قوله : (مِنَ الْمَلائِكَةِ) يجوز أن تكون «من» للبيان ، وأن تكون «من» ومجرورها في

__________________

ـ ١٢١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٣٨ ، ٢ / ٧١٩ ، ولسان العرب (عقب) (بوع) ، (نبع) ، والإنصاف ١ / ٢٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٤ ، والمحتسب ١ / ٢٥٨ ، ٣٤٠ ، والخصائص ٣ / ١٩٣ ، ٢١٣ ، ومجالس ثعلب ٢ / ٥٣٩ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ٧٠ ، ٢ / ٨٤ ، ورصف المباني ص ١١.

(١) ينظر ابن الشجري ١ / ١٢٢ والخصائص ٢ / ٣١٦ والمحتسب ١ / ١٦٦ والإنصاف ١ / ٢٥ وضرائر الشعر ص ٣٣ والأشموني ٣ / ١٥٧ والصاحبي ص ٣٨ وشرح أبيات سيبويه ص ٤٧ واللسان (كلل) والدر المصون ٢ / ٢٠٥ والبحر المحيط ٣ / ٥٣.

(٢) البيت لابن هرمة ينظر : ديوانه (٩٢) والأشباه والنظائر ٢ / ٣٠ ، والخصائص ٢ / ١٠٦ ، ٣٢ / ١٢١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٥ ، ٢ / ٧١٩ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٥ ، ولسان العرب (ترح) والمحتسب ١ / ١١٦ ، ٣٤٠ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥٥٧ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٥.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٥.

٥٢١

موضع الجر صفة ل «لثلاثة» أو ل «آلاف».

قوله : (مُنْزَلِينَ) صفة ل «ثلاثة آلاف» ، ويجوز أن يكون حالا من «الملائكة» والأول أظهر. وقرأ ابن عامر «منزّلين» ـ بالتضعيف (١) ـ وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) إلا أنه هنا ـ اسم مفعول ، وهناك اسم فاعل.

والباقون خفّفوها (٢) وقرأها ابن أبي عبلة ـ هنا ـ منزّلين ـ بالتشديد مكسور الزاي ، مبنيا للفاعل.

وبعضهم قرأه كذلك ، إلا أنه خفف الزاي (٣) ، جعله من أنزل ـ كأكرم ـ والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية ، ففعّل وأفعل بمعنى ، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالّا على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتين الأخيرتين يكون المفعول محذوفا ، أي : منزلين النصر على المؤمنين ، والعذاب على الكافرين.

قوله : (بَلى) حرف جواب ، وهو إيجاب للنفي في قوله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله : (يُمْدِدْكُمْ).

والفور : العجلة والسرعة ، ومنه : فارت القدر ، إذا اشتد غليانها وسارع ما فيها إلى الخروج ، والفور مصدر ، يقال : فار يفور فورا ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) [هود : ٤٠] ، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة ، يقال : جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحدة ؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه ، فالفور ـ في الأصل ـ : مصدر ، ثم يعبّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين : معنى «من فورهم هذا» : من وجههم هذا.

وقال مجاهد والضّحّاك : من غضبهم هذا ؛ لأنهم إنّما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر.

قوله : (مُسَوِّمِينَ) كقوله : (مُنْزَلِينَ ،) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو ، على اسم الفاعل ، والباقون بفتحها على اسم المفعول ، فأما القراءة الأولى ، فيحتمل أن تكون من السوم ـ وهو ترك الماشية ترعى ـ والمعنى : أنهم سوّموا خيلهم ، أي أعطوها سومها من الجري والجولان ، وتركوها كذلك ، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢١٥ ، والكشف ١ / ٢٥٥ ، والحجة ٣ / ٧٥ ، وإعراب ١ / ١١٨ ، وحجة القراءات ١٧٢ ، والعنوان ٨٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٦ ، وشرح شعلة ٣٢١ ، وإتحاف ١ / ٤٨٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٠٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٤ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٥.

(٣) قرأ بها أبو حيوة كما في الشواذ ٢٢ ، وينظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٠٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٤ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٥ ، ٢٠٦.

٥٢٢

ويحتمل أن تكون من السومة ـ وهي العلامة ـ على معنى أنهم سوموا أنفسهم ، أو خيلهم.

روي أنهم كانوا على خيل بلق (١) ، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خيل بلق ، عليهم عمائم بيض ، قد أرسلوها بين أكتافهم (٢).

وقال هشام بن عروة : عمائم صفر (٣).

وروي أنهم كانوا بعمائم بيض ، إلا جبريل فبعمامة صفراء ، على مثال الزبير بن العوام.

قال قتادة والضّحّاك : كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها (٤).

وروي أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه يوم بدر : تسوموا ، فإنّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم (٥). وأما القراءة الثانية ، فواضحة بالمعنيين المذكورين ، فمعنى السوم فيها : أن الله أرسلهم ، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنصرة نبيه والمؤمنين.

قال أبو زيد : سوم الرجل خيله ، أي أرسلها.

وحكى بعضهم : سومت غلامي ، أي : أرسلته ، ولهذا قال الأخفش : معنى «مسوّمين» مرسلين.

ومعنى السومة فيها : أن الله ـ تعالى ـ سومهم ، أي جعل عليهم علامة ، وهي العمائم ، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعا خاصا ـ وهي البلق ـ فقد سوموا خيلهم.

فصل

قال القرطبيّ : «وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة ، والعلامة للقبائل ، والكتائب ، يجعلها السلطان لهم ؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب ، وعلى فضل الخيل البلق ؛ لنزول الملائكة عليها».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٨٧) عن قتادة والربيع وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٨٨) عن عروة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٥) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٨٧ ـ ١٨٨) عن أبي أسيد وعباد بن حمزة.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٨٧) عن مجاهد وقتادة.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٨٦) وابن أبي شيبه (١٤ / ٣٥٨) والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٥) وعزاه للطبري وابن أبي شيبة.

وينظر تفسير «زاد المسير» (١ / ٤٥٢).

٥٢٣

قال القرطبي : «ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد ؛ فإنه كان أبلق ، ولم يكن له فرس غيره ، فنزلت الملائكة على الخيل البلق ، إكراما للمقداد ، كما نزل جبريل معتما بعمامة صفراء على مثال الزبير».

قوله : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) الكناية في «جعله» عائدة على المصدر ، أي : ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون ، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله ، وهو استثناء مفرغ ؛ إذ التقدير : وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبشرى ، وشروط نصبه موجودة ، وهي اتحاد الفاعل ، والزمان ، وكونه مصدرا سيق للعلة.

والثاني : أنه مفعول ثان ل «جعل» على أنها تصييرية.

والثالث : أنه بدل من الهاء في «جعله» قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدة على الوعد بالمدد.

والبشرى : مصدر على «فعلى» كالرّجعى.

وقيل : اسم من الإبشار ، وتقدّم الكلام في معنى البشرى في قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [البقرة : ٢٥].

قوله : (وَلِتَطْمَئِنَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه معطوف على «بشرى» هذا إذا جعلناها مفعولا من أجله ، وإنما جرّ باللام ؛ لاختلال شرط من شروط النصب ـ وهو عدم اتحاد الفاعل ـ فإن فاعل الجعل هو الله ـ تعالى ـ وفاعل الاطمئنان القلوب ، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط ، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه ، وقد تقدم ، والتقدير : وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة.

والثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : ولتطمئن قلوبكم ، فعلى ذلك ، أو كان كيت وكيت.

وقال أبو حيان : و «تطمئن» منصوب بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر.

ثم نقل عن ابن عطية أنه قال : «اللام في (وَلِتَطْمَئِنَ) متعلقة بفعل مضمر يدل عليه «جعله» ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، ولتطمئن به قلوبكم.

قال أبو حيان : «وكأنه رأى أنه لا يمكن ـ عنده ـ أن يعطف (وَلِتَطْمَئِنَ) على (بُشْرى ،) على الموضع ؛ لأن من شرط العطف على الموضع ـ عند أصحابنا ـ أن يكون ثمّ محرز للموضع ، ولا محرز هنا ؛ لأن عامل الجرّ مفقود ، ومن لم يشترط المحرز ، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهّم».

٥٢٤

قال شهاب الدين : «وقد جعل بعضهم الواو في (وَلِتَطْمَئِنَ) زائدة ، وهو لائق بمذهب الأخفش ، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى ، أي : أن البشرى علّة للجعل ، والطمأنينة علة للبشرى ، فهي علة العلة».

قال ابن الخطيب : في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر :

فأحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله : (إِلَّا بُشْرى).

الثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا يجنبون ، وهذا هو المقصود الأصلي ، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيها على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية ، فعطف الفعل على الاسم ، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة ، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة ، فقال : (وَلِتَطْمَئِنَ) ونظيره قوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب ، أدخل عليه حرف التعليل ، فكذا هاهنا.

قال أبو حيان : «ويناقش في قوله : عطف الفعل على الاسم ؛ إذ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك كما ذكره». انتهى.

قال شهاب الدّين : «إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة ، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة ، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسهل».

وقال الجرجانيّ في نظمه : «هذا على تأويل : وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن ، ومن أجاز إقحام الواو ـ وهو مذهب الكوفيين ـ جعلها مقحمة في (وَلِتَطْمَئِنَ) فيكون التقدير : وما جعله الله إلا بشرى لكم ؛ لتطمئنّ قلوبكم به».

والضميران في قوله (وَما جَعَلَهُ ،) و «به» يعودان على الإمداد المفهوم من الفعل المتقدم ، وهو قوله : «يمددكم».

وقيل : يعودان على النصر.

وقيل : على التسويم.

وقيل : على التنزيل.

وقيل : على المدد.

وقيل : على الوعد.

فصل

قال في هذه الآية : «لكم» وتركها في سورة الأنفال ؛ لأن تيك مختصر هذه ، فكان الإطناب ـ هنا ـ أولى ؛ لأن القصة مكملة هنا ، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه ، وأخر ـ هنا ـ «به» وقدمه في سورة الأنفال ؛ لأن الخطاب ـ هنا ـ موجود في «لكم» فأتبع الخطاب الخطاب ، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وجاء بهما في

٥٢٥

جملة مستأنفة في سورة الأنفال ، في قوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ١٠] ؛ لأنه لما خاطبهم ـ هنا ـ حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم ، أي : لا يغالب ، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب ، فالنصر من عنده ، فاستعينوا به ، وتوكلوا عليه ؛ لأن العز والحكم له.

قوله : (لِيَقْطَعَ) في متعلق هذه اللام سبعة أوجه :

أحدها : أنها متعلقة بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) قاله الحوفيّ ، وفيه بعد ؛ لطول الفصل.

الثاني : أنها متعلقة بالنصر في قوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) والمعنى : أن المقصود من نصركم ، هو أن تقطعوا طرفا من الذين كفروا ، أي : تملكوا طائفة منهم ، وتقتلوا قطعة منهم ، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ ، وهو الخبر.

الثالث : أنها متعلقة بما تعلّق به الخبر ، وهو قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ ،) والتقدير : وما النصر إلا كائن ، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع.

والرابع : أنها متعلقة بمحذوف ، تقديره : أمدّكم ، أو نصركم ، ليقطع.

الخامس : أنها معطوفة على قوله : (وَلِتَطْمَئِنَ) حذف حرف العطف لفهم المعنى ؛ لأنه إذا كان البعض قريبا من البعض جاز حذف العاطف ، كقوله : (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) وقول السيد لعبده : أكرمتك لتخدمني ، لتعينني ، لتقوم بخدمتي ، فحذف العاطف لقرب البعض من البعض ، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهو ساقط الاعتبار.

السادس : أنها متعلقة بالجعل قاله ابن عطية.

السابع : أنها متعلقة بقوله : (يُمْدِدْكُمْ) وفيه بعد ؛ للفواصل بينهما.

والطرف : المراد به : جماعة ، وطائفة ، وإنما حسن ذكر الطرف ـ هنا ـ ولم يحسن ذكر الوسط ؛ لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف ، وهذا يوافق قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) [التوبة : ١٢٣] وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١].

قوله : (مِنَ الَّذِينَ) يجوز أن يكون متعلّقا بالقطع ، فتكون «من» لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل «طرفا» وتكون «من» للتبعيض.

قوله : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) عطف على «ليقطع».

و «أو» ؛ قيل : على بابها من التفصيل ، أي : ليقطع طرفا من البعض ، ويكبت بعضا آخرين.

٥٢٦

وقيل : بل هي بمعنى الواو ، أي : يجمع عليهم الشيئين.

والكبت : الإصابة بمكروه.

وقيل : هو الصّرع للوجه واليدين ، وعلى هذين فالتاء أصلية ، ليست بدلا من شيء ، بل هي مادة مستقلة.

وقيل : أصله من كبده ، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وجعا ، كقولك : رأسته ، أي : أصبت رأسه ، ويدل على ذلك قراءة لا حق بن حميد : أو يكبدهم ـ بالدال ـ والعرب تبدل التاء من الدال ، قالوا : هرت الثوب ، وهرده ، وسبت رأسه ، وسبده ـ إذا حلقه ـ.

وقد قيل : إنّ قراءة لاحق أصلها التاء ، وإنما أبدلت دالا ، كقولهم : سبد رأسه ، وهرد الثوب ، والأصل فيهما التاء.

فصل

معنى قوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) أي : ليهلك طائفة.

وقال السّدّيّ : ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر ، فقتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر ـ سبعون ، وأسر سبعون ، ومن حمل الآية على أحد ، فقد قتل منهم يومئذ ستة عشر ، وكانت النّصرة للمسلمين ، حتى خالفوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانقلبت عليهم (١).

(أَوْ يَكْبِتَهُمْ).

قال الكلبي : يهزمهم (٢).

وقال السّدي : يلعنهم.

وقال أبو عبيدة : يهلكهم ويصرعهم على وجوههم (٣).

وقيل (٤) : يخزيهم والمكبوت الحزين.

وقيل : يغيظهم (٥).

وقيل : يذلهم.

قوله : (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) لن ينالوا خيرا مما كانوا يرجون من الظفر بكم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٩٣) عن السدي وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٥٥).

(٢) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٥٥) عن ابن عباس والزجاج.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٩٣ ـ ١٩٤) عن قتادة والربيع وأخرجه ابن المنذر عن مجاهد كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٦).

(٥) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٥٥) عن النضر بن شميل.

٥٢٧

والخيبة لا تكون إلا بعد التوقّع ، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقّع وقبله ، فنقيض اليأس الرجاء ، ونقيض الخيبة : الظفر يقال : خاب يخيب خيبة.

و (خائِبِينَ) نصب على الحال.

قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ)(١٢٨)

اختلفوا في سبب النزول.

فقيل : نزلت في قصة أحد ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يدعو على الكفار ، فنزلت هذه الآية ، وهؤلاء ذكروا أقوالا :

أحدها : أن عتبة بن أبي وقاص شجّه ، وكسر رباعيته ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم ، وهو يقول : كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيهم بالدم ، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ ثم أراد أن يدعو عليهم ، فنزلت هذه الآية (١).

وروى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن أقواما ، فقال : اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن صفوان بن أميّة ، فنزلت هذه الآية.

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فتاب على هؤلاء ، وحسن إسلامهم (٢).

وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب لما رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فعلوا به من المثلة ، قال : لأمثّلنّ بهم كما مثّلوا به. فنزلت هذه الآية (٣).

قال القفال : وكل هذه الأشياء حصلت يوم أحد ، فنزلت الآية عند الكل ، فلا يمنع حملها على الكل.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧ / ٢٨١) ومسلم (٢ / ٦٧) والترمذي (٤ / ٨٣) وأحمد (٣ / ٢٥٣) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص (٩٠) والطبري في «تفسيره» (٧ / ١٩٦) والبيهقي في دلائل النبوة (٣ / ٢٦٢) عن أنس بن مالك.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٦) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٧٨) كتاب التفسير باب سورة آل عمران رقم (٤٥٥٩) ، (٩ / ١٩١) كتاب الاعتصام باب قول الله تعالى ليس لك من الأمر شيء رقم (٧٣٤٦) والترمذي (٤ / ٨٣) وأحمد (٦٣٤٩ ـ شاكر) وأبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص (٩٨) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٠٠).

(٣) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٢٨٦) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٧٦) والخبر في «السيرة النبوية» لابن هشام (٣ / ٣٩ ـ ٤٠) بلفظ : لئن ظفرنا بهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد.

٥٢٨

الثاني : أنها نزلت بسبب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا ، فمنعه الله من ذلك قاله ابن عباس.

الثالث : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا ، وخالفوا أمره ، ويدعو لهم ، فنزلت الآية.

القول الثاني : أنها نزلت في واقعة أخرى ، وهي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث جمعا من خيار أصحابه ـ وهم سبعون رجلا من القرّاء إلى بئر معونة ، في صفر سنة أربع من الهجرة ، على رأس أربعة أشهر من أحد ، ليعلّموا الناس القرآن والعلم ، أميرهم المنذر بن عمرو ، فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره فقتلهم ، فوجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك وجدا شديدا ، وقنت شهرا في الصلوات كلّها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين ، فنزلت الآية ، قاله مقاتل وأكثر العلماء متفقون على أنها في قصة أحد.

فإن قيل : ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت للمنع من أمر كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد أن يفعله ، وذلك الفعل إن كان بأمر الله ، فكيف يمنعه منه؟ وإن كان بغير أمر الله ، فكيف يصح هذا مع قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣]؟ وأيضا فالآية دالة على عصمة الأنبياء ، فالأمر الممنوع منه في هذه الآية ، إن كان حسنا فلم منعه الله؟ وإن كان قبيحا ، فكيف يكون فاعله معصوما؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع كان مشتغلا به ؛ فإنه تعالى ـ قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ، وإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشرك قط ، وقال : «يا أيها النبي اتق الله» وهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ، ثم قال : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) [الأحزاب : ١] ، وهذا لا يدل على أنه أطاعهم ، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغمّ الشديد ، والغضب العظيم ، وهو قتل عمه حمزة ، وقتل المسلمين. والظاهر أن هذا الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل ، فنصّ الله على المنع ؛ تقوية لعصمته ، وتأكيدا لطهارته.

والثاني : لعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم همّ أن يفعل ، لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل ، والأولى ، فلا جرم ، أرشده الله تعالى إلى اختيار الأولى ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [النحل : ١٢٦ ـ ١٢٧] فكأنه ـ تعالى ـ قال : إن كان لا بد أن تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل ، ثم قال ثانيا : وإن تركته كان ذلك أولى ، ثم أمره أمرا جازما بتركه ، فقال : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [النحل : ١٢٧].

ووجه ثالث : وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مال قلبه إلى اللعنة عليهم ، استأذن ربه فيه ، فنزلت الآية بالنص على المنع. وعلى هذا التقدير ، فلا يدل هذا النهي على القدح في العصمة.

٥٢٩

فصل

في معنى الآية قولان :

الأول : ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك.

وثانيها : ليس لك في أن يتوب الله عليهم ، ولا في أن يعذبهم شيء إلا إذا كان على وفق أمري ، وهو كقوله : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) [الأنعام : ٦٢] ، واختلفوا في هذا المنع من اللعن ، لأي معنى كان؟

فقيل : الحكمة فيه أنه ـ تعالى ـ ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب ، وأنه سيولد له ولد ، يكون مسلما ، برّا ، تقيّا ، فإذا حصل دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم بالهلاك ، فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود ، وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى ـ من اللّعن ، وأمره بأن يفوّض الكل إلى علم الله سبحانه وتعالى.

وقيل المقصود منه إظهار عجز العبودية وألا يخوض العبد في أسرار الله تعالى.

قوله : (أَوْ يَتُوبَ) في نصبه أوجه :

أحدها : أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبله ، تقديره : ليقطع ، أو يتوب عليهم ، أو يكبتهم ، أو يعذبهم. وعلى هذا فيكون قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) جملة معترضة بين المتعاطفين ، والمعنى : إن الله تعالى هو المالك لأمرهم ، فإن شاء قطع طرفا منهم ، أو هزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا ، أو يعذبهم إن تمادوا على كفرهم ، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء ، والزجاج.

الثاني : أن «أو» هنا بمعنى «إلا أن» كقولهم : لألزمنك أو تقضين حقي أي : إلا أن تقتضينه.

الثالث : «أو» بمعنى : «حتى» ، أي : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله : «ليس لك من الأمر شيء» ، والمعنى : ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام ، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه ، أو يعذبهم بقتل ، أو نار في الآخرة ، فتشقى بهم ، وممن ذهب إلى ذلك الفراء ، وأبو بكر بن الأنباري ، قال الفراء : ومثل هذا من الكلام : لألزمنك أو تعطيني ، على معنى إلا أن تعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرىء القيس : [الطويل]

١٦١٣ ـ فقلت له : لا تبك عينك إنّما

تحاول ملكا ، أو تموت ، فتعذرا (١)

أراد : حتى تموت ، أو : إلا أن تموت.

__________________

(١) تقدم.

٥٣٠

قال شهاب الدين (١) : «وفي تقدير بيت امرىء القيس ب «حتى» نظر ؛ إذ ليس المعنى عليه ؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية ، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى : إلا أن».

الثالث : منصوب بإضمار : «أن» عطفا على قوله : «الأمر» ، كأنه قيل : ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم ، أو تعذيبهم شيء ، فلما كان في تأويل الاسم عطف على الاسم قبله ، فهو من باب قوله : [الطويل]

١٦١٤ ـ فلولا رجال من رزام أعزّة

وآل سبيع ، أو أسوءك علقما (٢)

وقوله : [الوافر]

١٦١٥ ـ للبس عباءة ، وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (٣)

الرابع : أنه معطوف ـ بالتأويل المذكور ـ على «شيء» ، والتقدير : ليس لك من الأمر شيء ، أو توبة الله عليهم ، أو تعذيبهم ، أي : ليس لك ـ أيضا ـ توبتهم ولا تعذيبهم ، إنما ذلك راجع إلى الله عزوجل.

وقرأ أبّيّ : أو يتوب ، أو يعذبهم ، برفعهما (٤) على الاستئناف في جملة اسمية ، أضمر مبتدؤها ، أي : هو يتوب ، ويعذبهم.

فصل

يحتمل أن يكون المراد من هذا العذاب : هو عذاب الدنيا ـ بالقتل والأسر ـ وأن يكون عذاب الآخرة ، وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوّض إلى الله تعالى.

قوله : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) جملة مستقلة ، والمقصود من ذكرها : تعليل حسن التعذيب ، والمعنى : إن يعذبهم فبظلمهم.

واعلم أنه إذا كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفار صحّ ذلك ، وسمّاهم ظالمين ؛ لأن الشرك ظلم ، بل هو أعظم الظلم ؛ لأن الله تعالى قال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره ، صح الكلام ـ أيضا ـ ؛ لأن من عصى الله ، فقد ظلم نفسه.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٢٩)

والمقصود منه : تأكيد ما ذكره أولا من قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ،) والمعنى :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٠٩.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم برقم ٧٦٢.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٠٦ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٦ ، والدر المصون ٢ / ٢١٠.

٥٣١

إنما يكون ذلك لمن له الملك ، وليس هو لأحد إلا الله.

وقال : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ولم يقل : من ؛ لأن الإشارة إلى الحقائق والماهيات ، فدخل الكلّ فيه.

قوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) احتجوا بذلك على أنه سبحانه ـ له أن يدخل الجنة ـ بحكم إلهيته ـ جميع الكفّار ، وله أن يدخل النار ـ بحكم إلهيته ـ جميع المقربين ، ولا اعتراض عليه ؛ لأن فعل العبد متوقف على الإرادة ، وتلك الإرادة مخلوقة لله ـ تعالى ـ فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع ، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى ، فطاعة العبد من الله ، ومعصيته ـ أيضا ـ من الله ـ وفعل الله لا يوجب على الله شيئا ـ ألبتة ـ ، فلا الطاعة توجب الثواب ، ولا المعصية توجب العقاب ، بل الكل من الله ـ بحكم إلهيته وقهره وقدرته ـ فصح ما ادعيناه.

فإن قيل : أليس ثبت أنه لا يغفر للكفّار ، ولا يعذّب الملائكة والأنبياء ـ عليهم‌السلام.

قلنا : مدلول الآية أنه لو أراد فعل ، ولا اعتراض عليه ، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل ، أو لا يفعل.

ثم قال : «والله غفور رحيم» والمقصود منه أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب ، لا على سبيل الوجوب ، بل على سبيل الفضل والإحسان.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١٣٢)

قال بعضهم : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين ، فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد ، اتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي ، والترغيب والتحذير ، وعلى هذا التقدير ، فيكون ابتداء كلام ، لا تعلّق له بما قبله.

وقال القفال : يحتمل أن يكون متصلا بما قبله من أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا ، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين على الإقدام على الربا ، فيجمعوا المال ، وينفقوه على العساكر ، فيتمكنون من الانتقام منهم ، فنهاهم الله عن ذلك.

قوله : (أَضْعافاً) جمع ضعف ، ولما كان جمع قلة ـ والمقصود : الكثرة ـ أتبعه بما يدل على الكثرة وهو الوصف بقوله : (مُضاعَفَةً).

وقال أبو البقاء : (أَضْعافاً) مصدر في موضع الحال من «الرّبا» ، تقديره : مضاعفا ، وتقدم الكلام على (أَضْعافاً) ومفرده في البقرة.

٥٣٢

وقرأ ابن كثير وابن عامر : «مضعّفة» ـ مشددة العين ، دون ألف (١).

والباقون بالألف والتخفيف ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.

فصل

لما كان الرجل في الجاهلية ، إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل ، ولم يكن المديون واجدا لذلك المال فقال : زدني في المال حتّى أزيدك في الأجل ، فربما جعله مائتين ، ثمّ إذا حلّ الأجل الثاني ، فعل مثل ذلك ، ثمّ إلى آجال كثيرة ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها ، فهذا هو المراد بقوله : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإن اتقاء الله واجب ، والفلاح يقف عليه ، وهذا يدل على أن الربا من الكبائر ، وقد تقدم الكلام على الربا في «البقرة».

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) في هذه الآية سؤالان.

الأول : أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم ؛ وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه ، فكيف قال : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)؟

والجواب : أن التقدير : اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا ، فتصيروا كافرين.

السؤال الثاني : أن ظاهر قوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) يقتضي أنها ما أعدت لغيرهم ، وهذا يقتضي القطع بأن أحدا من المؤمنين لا يدخل النار ، وهو خلاف سائر الآيات.

والجواب عليه من وجوه :

أحدها : أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات ، أعدّ بعضها للكفار ، وبعضها للفسّاق ، فتكون هذه الآية إشارة إلى الدركات المخصوصة بالكفار ، وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى أعدّت لغير الكفار.

وثانيها : أن تكون النار معدّة للكافرين ، ولا يمنع دخول المؤمنين فيها ؛ لأن أكثر أهل النار الكفار ، فذكر الأغلب ، كما أن الرجل يقول : هذه الدابة أعددتها للقاء المشركين ، ولا يمنع من ركوبها لحوائجه ، ويكون صادقا في ذلك.

وثالثها : أن القرآن كالسورة الواحدة ، فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين ، وباقي الآيات دلّت أيضا على أنها معدة لمن سرق ، وقتل ، وزنى ، وقذف ، ومثله قوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) [الملك : ٨] ، وليس جميع الكفار قال ذلك ، وقوله : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) إلى قوله (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٩٤ ـ ٩٨] ، وليس هذا صفة جميعهم ، لما كانت هذه الصفات مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة ـ هاهنا ـ.

__________________

(١) ينظر : السبعة ١٨٤ ، والعنوان ٨٠ ، وإتحاف ١ / ٤٨٧ ، والدر المصون ٢ / ٢١٠.

٥٣٣

الرابع : أن قوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) إثبات كونها معدة لهم ، ولا يدل على الحصر ، كقوله ـ في الجنة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] ، ولا يدل ذلك على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين ، والحور العين.

وخامسها : أنّ المقصود من وصفها ـ بكونها (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) : تعظيم الزّجر ؛ لأن المؤمنين مخاطبين باتقاء المعاصي ، إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى ، دخلوا النار المعدة للكافرين ، وقد تقرّر في عقولهم عظم عقوبة الكافرين ، انزجروا عن المعاصي أتمّ الانزجار ، كما يخوف الوالد ولده بأنك إن عصيتني أدخلتك دار السباع ، ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم.

وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة في الأزل ؛ لأن قوله : «أعدّت» إخبار عن الماضي، فلا بد وأن يكون ذلك الشيء دخل في الوجود.

قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لما ذكر الوعيد ذكر بعده الوعد ـ على عادته المستمرّة في القرآن.

قال محمد بن إسحاق بن يسار : هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد (١).

قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٣٤)

قرأ نافع ، وابن عامر : سارعوا ـ بدون واو (٢) ـ وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام.

والباقون بواو العطف ، وكذلك هي في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان.

فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك ، أو أراد العطف ، لكنه حذف العاطف ؛ لقرب كل واحد منهما من الآخر في المعنى ـ كقوله تعالى : (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] ، فإن قوله : (وَسارِعُوا ،) وقوله : (وَأَطِيعُوا) كالشيء الواحد ، وقد تقدم ضعف هذا المذهب.

ومن أثبت الواو عطف جملة أمرية على مثلها ، وبعد إتباع الأثر في التلاوة ، أتبع كل رسم مصحفه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٠٦) عن محمد بن إسحاق.

(٢) انظر : السبعة ٢١٦ ، والكشف ١ / ٣٥٦ ، والحجة ٣ / ٧٧ ، ٧٨ ، والعنوان ٨٠ وإعراب القراءات ١ / ١١٩ ، وحجة القراءات ١٧٤ ، وشرح شعلة ٣٢١ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٧ ، وإتحاف ١ / ٤٨٨.

٥٣٤

وروى الكسائيّ : الإمالة في (وَسارِعُوا ،) و (أُولئِكَ يُسارِعُونَ) [المؤمنون : ٦١] ، و (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) [المؤمنون : ٦٥] وذلك لمكان الراء المكسورة.

قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) صفة ل «مغفرة» ، و «من» للابتداء مجازا.

فصل

قال بعضهم : في الكلام حذف ، والتقدير : وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم.

وفيه نظر ؛ لأن الموجب للمغفرة ، ليس إلا أفعال المأمورات ، وترك المنهيات ، فكان هذا أمرا بالمسارعة إلى فعل المأمورات ، وترك المنهيات.

وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية ، في أن ظاهر الأمر يوجب الفور (١) ؛ لأنه

__________________

(١) اختلفت آراء العلماء فيما يقتضيه الأمر المجرد عن القرائن ، هل يقتضي الفور أو التراخي؟ وقد انعكس هذا الاختلاف فيما بينهم إلى اختلافهم في كثير من الأحكام الفقهية المستنبطة.

إن إفادة الأمر للفور تقتضي أن يمتثل المكلّف لهذا الأمر ، دون تأخير عند سماعه الأمر وعدم المانع ، فإذا تأخر دون عذر ، لم تبرأ ذمته.

أما إفادته التراخي ، فهي تقتضي أنه ليس واجبا على المكلف المبادرة لأداء الأمر فورا ، بل له أن يؤخّره إلى وقت آخر ، إذا ظن القدرة على أدائه في ذلك الوقت.

وقد اختلفت آراء العلماء في ذلك إلى مذاهب ، سنذكرها فيما يلي : فالذين ذهبوا إلى أنّ صيغة الأمر للتكرار قالوا : إن الأمر يدل على الفور ؛ فيلزم من دلالته على التكرار بذاتها دلالتها على الفور.

والذين ذهبوا إلى أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن لا تدل على التكرار بذاتها ، اختلفوا فيما بينهم إلى فرق ومذاهب متعددة. المذهب الأول : وهو رأي الجمهور من الشافعية ، والحنفية ، وأتباعهم ، واختاره سيف الدين الآمدي ، وابن الحاجب ، والإمام الرازي ، والقاضي البيضاوي ؛ حيث قالوا : إن صيغة الأمر لا تدل على الفور ، وهو طلب الإتيان وامتثال الفعل عقب ورود الأمر ، ولا على التراخي ؛ إنما صيغة الأمر موضوعة لطلب الفعل ، وإيجاد حقيقته في الوجود الخارجي ، فهي ـ إذا ـ لمطلق الطلب من غير تقييد بفور أو تراخ.

المذهب الثاني : ويعزى إلى بعض المالكية ، والحنابلة ، والحنفية ؛ حيث ذهبوا إلى القول بأنه يدلّ على الفور ، وهو امتثال الفعل في أول أوقات الإمكان من غير تراخ.

قال القرافي : وهو عند مالك للفور ، وعند الحنفية خلافا لأصحابنا المغاربة والشافعية وقال القاضي عبد الوهاب : إنه للفور.

المذهب الثالث : وينسب للقاضي أبي بكر الباقلاني ؛ حيث ذهب إلى أن الأمر يدل على الفور ، فيجب الفعل في أول الوقت ، أو العزم على الإتيان به في ثاني الحال.

المذهب الرابع : وإليه ذهب الإمام الجويني ؛ حيث توقف عن القول بالفور أو التراخي.

قال الجويني : فيمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي لعدم رجحان أحدهما على الآخر مع التوقف في إثمه بالتراخي لا بالفور ؛ لعدم احتمال وجوب التراخي.

والذي نختاره من هذه المذاهب : هو مذهب الجمهور ، والذي يرى أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن لا تدلّ على الفور ، ولا على التراخي. قال الرازي في «المحصول» : والحق أنه موضوع لطلب الفعل ، ـ

٥٣٥

ذكر المغفرة على سبيل التنكير ، والمراد منه : المغفرة العظيمة المتناهية في العظم ، وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام.

فصل

قال ابن عبّاس : إلى الإسلام (١).

وروي عنه إلى التوبة (٢) ـ وهو قول عكرمة ـ والمعنى : وبادروا ، وسابقوا.

وقال عليّ بن أبي طالب : إلى أداء الفرائض (٣) ؛ لأن الأمر مطلق ، فيعم كل المفروضات.

وقال عثمان بن عفان : إنه الإخلاص (٤) ؛ لأنه المقصود من جميع العبادات ؛ لقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥].

وقال أبو العالية : إلى الهجرة (٥).

وقال الضحاك ومحمد بن إسحاق : إلى الجهاد (٦) ؛ لأن من قوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) [آل عمران : ١٢١] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أحد ، فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصّة بما يتعلق بالجهاد.

وقال سعيد بن جبير : إلى التكبيرة الأولى (٧) ، وهو مروي عن أنس. وقال يمان : إنه الصلوات.

وقال عكرمة ومقاتل : إنه جميع الطاعة (٨) ؛ لأن اللفظ عام ، فيتناول الكلّ.

وقال الأصمّ : (وَسارِعُوا) بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب ؛ لأنه ـ تعالى ـ نهى

__________________

ـ وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور ، وطلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورا ، أو تراخيا.

ينظر : المعتمد ١ / ١٢٠ ، العدة لأبي يعلى ١ / ٢٨١ ، اللمع ص ٩ ، التبصرة ص ٥٢ ، البرهان لإمام الحرمين ١ / ٢٣١ ، المستصفى ٢ / ٤ ، المنخول ص ١١١ ، المحصول ١ / ٢ / ١٨٩ ، الإحكام للآمدي ٢ / ٢٤٢ ، أصول السرخسي ١ / ٢٦ ، المنتهى لابن الحاجب ص ٦٨ ، شرح التنقيح ص ١٢٨ ، الإبهاج ٢ / ٥٧ ، الروضة ص ١٠٥ ، تيسير التحرير ١ / ٣٥٦ ، التمهيد للإسنوي ص ٢٨٧ ، حاشية بخيت على نهاية السول ٢ / ٢٨٧ ، فواتح الرحموت ١ / ٣٨٧.

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٩ (٥) وأبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٦١) عن ابن عباس.

(٢) ينظر تفسير القرطبي (٤ / ١٣١) والبحر المحيط (٣ / ٦٢).

(٣) انظر المصادر السابقة.

(٤) انظر تفسير القرطبي (٤ / ١٣١).

(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٥) وأبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٦٢) عن أبي العالية.

(٦) انظر المصدرين السابقين.

(٧) ينظر تفسير القرطبي (٤ / ١٣١) و «البحر المحيط» (٣ / ٦٢) لأبي حيان.

(٨) ينظر تفسير الرازي (٩ / ٥).

٥٣٦

أوّلا عن الربا ، ثم قال : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وهذا يدل على أن المراد منه : المسارعة في ترك ما تقدم النّهي عنه.

قال ابن الخطيب : «والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات ، والتوبة عن جميع المحظورات ، لأن اللفظ عامّ ، فلا وجه لتخصيصه ، ثم إنه ـ تعالى ـ بيّن أنه كما تجب المسارعة والمغفرة ، فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة ، وإنما فصل بينهما ؛ لأن الغفران معناه إزالة العقاب ، والجنة معناها حصول الثواب ، فجمع بينهما ؛ للإشعار بأنه ، لا بدّ للمكلف من تحصيل الأمرين».

قوله : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [لا بد فيه من حذف ؛ لأن نفس السموات](١) لا تكون عرضا للجنة ، فالتقدير : عرضها مثل عرض السموات والأرض ، يدل على ذلك قوله : «كعرض» ، والجملة في محل جر صفة ل «جنّة».

فصل

في معنى قوله : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وجوه :

أحدها : أن المراد : لو جعلت السموات والأرض طبقات طبقات ، بحيث تكون كل واحدة من تلك الطبقات خطا مؤلفا من أجزاء لا تجزّأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا ، لكان مثل عرض الجنة.

وثانيها : أن الجنة التي يكون عرضها كعرض السموات والأرض ، إنّما تكون للرجل الواحد ؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكا له.

وثالثها : قال أبو مسلم : إن الجنة لو عرضت بالسموات والأرض على سبيل البيع ، لكانت ثمنا للجنة ، يقول : إذا بعت الشيء بالشيء : عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر ، وكذلك ـ أيضا ـ في معنى : القيمة ؛ لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء للشيء حتى يكون كلّ واحد منهما مثلا للآخر.

ورابعها : أن المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة ؛ لأنه ليس شيء عنده أعرض منها ، ونظيره قوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧ ـ ١٠٨] فإن أطول الأشياء بقاء ـ عندنا ـ هو السموات والأرض فخوطبنا على قدر ما عرفناه.

فإن قيل : لم خصّ العرض بالذكر.

فالجواب من وجهين :

الأول : أنه لما كان الغرض تعظيم سعتها ، فإذا كان عرضها بهذا العظم ، فالظاهر أن الطول يكون أعظم ، ونظيره قوله : (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] ، فذكر البطائن؛

__________________

(١) سقط في أ.

٥٣٧

لأن الظاهر أنّها أقل حالا من الظّهارة ، فإذا كانت البطائن هكذا ، فكيف الظهارة.

الثاني : قال القفّال : ليس المراد بالعرض ـ هاهنا ـ المخالف للطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة ، واسعة عظيمة.

قال الشاعر : [الطويل]

١٦١٦ ـ كأنّ بلاد الله ـ وهي عريضة ـ

على الخائف المطلوب كفّة حابل (١)

والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دقّ ، فجعل العرض كناية عن السعة.

فصل

روي أن يهوديّا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : إنك تدعو إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله!! فأين الليل إذا جاء النهار» (٢).

وروي عن طارق بن شهاب أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب ـ وعنده أصحابه ـ فقالوا : أرأيتم قولكم : وجنة عرضها السموات والأرض؟ فأين النار.

قال عمر : أرأيتم إذا جاء النهار ، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل ، أين يكون النهار.

فقالوا له : إنه لمثلها في التوراة ، ومعناه حيث شاء الله (٣).

سئل أنس بن مالك عن الجنة ، أفي السماء ، أم في الأرض.

فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة.

قيل : فأين هي.

فقال : فوق السماوات السبع ، تحت العرش (٤).

وقال قتادة : كانوا يرون أن الجنة فوق السموات السبع ، وأن جهنّم تحت الأرضين السبع(٥).

__________________

(١) البيت للبيد بن ربيعة وقيل للقتال الكلابي. ينظر ملحقات ديوان لبيد بن ربيعة ص ٢٣٨ وديوان القتال الكلابي ص ٩٩ ولباب التأويل ١ / ٤١٩ والقرطبي ٤ / ٢٠٥ وغريب القرآن لابن قتيبة ص ١١٢ واللسان (كفف) والبحر المحيط ٣ / ٦٢.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (٣ / ٤٤١ ـ ٤٤٢) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٠٩).

وذكره الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (٥ / ١٥ ـ ١٦) من رواية أحمد وقال : هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به تفرد به أحمد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٩) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٩ / ٦) عن أنس بن مالك.

(٥) انظر المصدر السابق.

٥٣٨

فإن قيل : قال الله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢] ، وأراد بالذي وعدنا الجنة ، وإذا كانت الجنة في السماء ، فكيف يكون عرضها السموات والأرض.

فالجواب : أن باب الجنة في السماء ، وعرضها كما أخبر.

وقيل : إن الجنة والنار تخلقان بعد قيام الساعة ، فعلى هذا لا يبعد أن تخلق الجنة في مكان السموات ، والنار في مكان الأرض.

قوله : (أُعِدَّتْ) يجوز أن يكون محلها الجرّ ، صفة ثانية ل «جنّة» ، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من «جنّة» ؛ لأنها لما وصفت تخصّصت ، فقربت من المعارف.

قال أبو حيان : «ويجوز أن يكون مستأنفا ، ولا يجوز أن يكون حالا من المضاف إليه ؛ لثلاثة أشياء :

أحدها : أنه لا عامل ، وما جاء من ذلك متأوّل على ضعفه.

والثاني : أن العرض ـ هنا ـ لا يراد به : المصدر الحقيقي ، بل يراد به : المسافة.

الثالث : أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال ، وصاحبه بالخبر».

يعني بالخبر : قوله : (السَّماواتُ ،) وهو ردّ صحيح.

وظاهر الآية يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، وهو نص حديث الإسراء في الصحيحين وغيرهما.

وقالت المعتزلة : إن الجنة والنار غير مخلوقتين في وقتنا هذا ، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء ؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب ، فخلقتا في وقت الجزاء ؛ لأنه لا يجتمع دار التكليف ، ودار الجزاء في الدنيا ، كما لم يجتمعا في الآخرة.

وقال ابن فورك : «الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة».

قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) يجوز في محله الألقاب الثلاثة ، فالجر على النعت ، أو البدل ، أو البيان ، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح ، ولما أخبر بأن الجنة معدّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث ، حتى يقتدى بهم في تلك الصفات :

فالصفة الأولى : قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ).

فقيل : معناه : في العسر واليسر (١).

وقيل : سواء كانوا في سرور ، أو حزن ، أو في عسر ، أو في يسر.

وقيل : سواء سرهم ذلك الإنفاق ـ بأن كان على وفق طبعهم ـ أو ساءهم ـ بأن كان على خلاف طبعهم ـ فإنهم لا يتركونه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١٤) عن ابن عباس.

٥٣٩

روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «السّخيّ قريب من الله ، قريب من الجنّة ، قريب من النّاس ، بعيد من النّار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الجنّة ، بعيد من النّاس ، قريب من النّار ، ولجاهل سخيّ أحبّ إلى الله من عابد بخيل» (١).

وروي أنّ عائشة تصدّقت بحبّة عنب.

الصفة الثانية : قوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) يجوز فيه الجر والنّصب على ما تقدم قبله.

والكظم : الحبس ، يقال : كظم غيظه ، أي : حبسه ، وكظم القربة والسقاء كذلك ، والكظم ـ في الأصل ـ مخرج النفس ، يقال : أخذ بكظمه ، أي : أخذ بمجرى نفسه.

والكظوم : احتباس النفس ، ويعبّر به عن السكوت ، قال المبرد : تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه ، يقال : كظمت السّقاء ، إذا ملأته وسددت عليه ، وكل ما سددت من مجرى ماء ، أو باب ، أو طريق ، فهو كظم ، والذي يسدّ به يقال له : الكظامة والسدادة ، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض : كظامة ، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة ، والمكظوم : الممتلىء غيظا ، وكأنه ـ لغيظه لا يستطيع أن يتكلم ، ولا يخرج نفسه ، والكظيم : الممتلىء أسفا.

قال أبو طالب : [الكامل]

١٦١٧ ـ فحضضت قومي ، واحتسبت قتالهم

والقوم من خوف المنايا كظّم (٢)

وكظم البعير جرّته ، إذا ردّها في جوفه ، وترك الاجترار.

ومنه قول الراعي : [الكامل]

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٣ / ١٤٣) والعقيلي في «الضعفاء» (٢ / ١١٧) من طريق سعيد بن محمد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن محمد وقال العقيلي : ليس لهذا الحديث أصل من حديث يحيى ولا غيره وللحديث شواهد عن عائشة وحديث عائشة أخرجه الطبراني في الأوسط كما في «مجمع الزوائد» (٣ / ١٣٠).

وقال الهيثمي : وفيه سعيد بن محمد الوراق وهو ضعيف.

وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» من طريق سعيد بن مسلمة وتليد بن سليمان.

وقال الهيثمي : وسعيد وتليد ضعيفان.

وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢٣٥٢) : قال أبي : هذا حديث باطل سعيد ضعيف الحديث أخاف أن يكون أدخل عليه.

(٢) البيت نسبه المؤلف إلى أبي طالب وليس في ديوانه ونسبه أبو حيان والسيوطي إلى أبيه عبد المطلب. ينظر الدر المنثور ٢ / ١٣٠ والبحر ٣ / ٥٩ ، والدر المصون ٢ / ٢١١. وروي البيت في الدر المنثور : «فخشيت ...».

٥٤٠