اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الثاني : بمعنى : التوحيد ، قال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) [الأنعام : ١٦٠] أي : بالتوحيد.

الثالث : الرّخاء : قال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] أي : رخاء.

الرابع : بمعنى : العاقبة ، قال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) [الرعد : ٦] أي بالعذاب قبل العاقبة.

الخامس : القول بالمعروف ، قال تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [الرعد : ٢٢] أي : بالقول المعروف.

فصل

والسيئة ـ أيضا ـ على خمسة أوجه :

الأول : بمعنى : الهزيمة ـ كما تقدم ـ كقوله : (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) [آل عمران : ١٢٠] أي : هزيمة.

الثاني : الشرك ، قال تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) [الأنعام : ١٦٠] أي : بالشرك.

الثالث : القحط ، قال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨] أي : قحط ، ومثله قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١].

الرابع : العذاب ، قال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) [الرعد : ٢٢].

قوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا) أي : على طاعة الله ، وعلى ما ينالكم فيها من شدة ، وغمّ ، (وَتَتَّقُوا) كلّ ما نهاكم عنه ، (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ).

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : «يضركم» بكسر الضاد ، وجزم الراء (١) في جواب الشرط ، من ضاره يضيره ويقال ـ أيضا ـ : ضاره يضوره ، ففي العين لغتان ، ويقال ضاره يضيره ضيرا ، فهو ضائر ، وهو مضير ، وضاره يضوره ضورا ، فهو ضائر ، وهو مضير ، نحو : قلته أقوله ، فأنا قائل ، وهو مقول.

وقرأ الباقون : (يَضُرُّكُمْ) بضم الضاد ، وتشديد الراء مرفوعة ، وفي هذه القراءة أوجه :

الأول : أن الفعل مرتفع ، وليس بجواب للشرط ، وإنما هو دالّ على جواب الشرط ، وذلك أنه على نية التقديم ؛ إذ التقدير : لا يضركم إن تصبروا وتتقوا ، فلا

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٥ ، والكشف ١ / ٣٥٥ ، والحجة ٣ / ٧٤ ، ٥٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٨ ، وحجة القراءات ١٧١ ، والعنوان ٨٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٤ ، ١٦٥ ، وشرح شعلة ٣٢١ ، وإتحاف ١ / ٤٨٦.

٥٠١

يضركم ، فحذف فلا يضركم الذي هو الجواب ، لدلالة ما تقدم عليه ، ثم أخر ما هو دليل على الجواب ، وهذا تخريج سيبويه وأتباعه ، إنما احتاجوا إلى ارتكاب ذلك ، لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجزم ، ومثله قول الراجز :

١٥٩٩ ـ يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع (١)

برفع «تصرع» الأخير ـ.

وكذلك قوله : [البسيط]

١٦٠٠ ـ وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول : لا غائب مالي ولا حرم (٢)

برفع «يقول» ـ إلّا أن هذا النوع مطّرد ، بخلاف ما قبله ـ أعني : كون فعل الشرط والجزاء مضارعين ـ فإن المنقول عن سيبويه ، وأتباعه وجوب الجزم ، إلا في ضرورة.

كقوله : [الرجز]

١٦٠١ ـ ...........

إنّك إن يصرع أخوك تصرع (٣)

وتخريجه هذه الآية على ما تقدم عنه يدل على أن ذلك لا يخصّ بالضرورة.

الوجه الثاني : أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدّرة ، وهي وما بعدها الجواب في الحقيقة ، والفعل متى وقع بعد الفاء رفع ليس إلّا كقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥].

والتقدير : فلا يضركم ، والفاء حذفت في غير محل النزاع.

كقوله : [البسيط]

١٦٠٢ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان (٤)

أي : فالله يشكرها ، وهذا الوجه نقله بعضهم عن المبرد ، وفيه نظر ؛ من حيث إنهم ، لما أنشدوا البيت المذكور ، نقلوا عن المبرد أنه لا يجوّز حذف هذه الفاء ـ ألبتة ـ لا ضرورة ، ولا غيرها ـ وينقلون عنه أنه يقول : إنما الرواية في هذا البيت : [البسيط]

١٦٠٣ ـ من يفعل الخير فالرّحمن يشكره

وردوا عليه بأنه إذا صحّت رواية ، فلا يقدح فيها غيرها ، ونقله بعضهم عن الفراء والكسائي ، وهذا أقرب.

الوجه الثالث : أن الحركة حركة إتباع ؛ وذلك أن الأصل : «لا يضرركم». بالفك وسكون الثاني جزما ، وسيأتي أنه إذا التقى مثلان في آخر فعل سكن ثانيهما ـ جزما ، أو وقفا ـ فللعرب فيه مذهبان.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم برقم ١٤٩.

٥٠٢

الجزم : وهو لغة تميم.

والفك : وهو لغة الحجاز.

لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك ، فاضطررنا إلى تحريك المثل الثاني ، فحرّكناه بأقرب الحركات إليه ، وهي الضمة التي على الحرف قبله ، فحرّكناه بها ، وأدغمنا ما قبله فيه ، فهو مجزوم تقديرا ، وهذه الحركة ـ في الحقيقة ـ حركة إتباع ، لا حركة إعراب ، بخلافها في الوجهين السابقين ، فإنها حركة إعراب.

واعلم أنه متى أدغم هذا النوع ، فإما أن تكون فاؤه مضمومة ، أو مفتوحة ، أو مكسورة ، فإن كانت مضمومة ـ كالآية الكريمة.

وقولهم : مدّ ـ ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام :

الضم للإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين ، فتقول : مدّ ومدّ ومدّ.

وينشدون على ذلك قول الشاعر : [الوافر]

١٦٠٤ ـ فغضّ الطّرف إنّك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا (١)

بضم الضاد ، وفتحها ، وكسرها ـ على ما تقرر ـ وسيأتي أن الآية قرىء فيها بالأوجه الثلاثة.

وإن كانت فاؤه مفتوحة ، نحو عضّ ، أو مكسورة ، نحو فرّ ، كان في اللام وجهان : الفتح ، والكسر ؛ إذ لا وجه للضمّ ، لكن لك في نحو فرّ أن تقول : الكسر من وجهين : إما الإتباع ، وإما التقاء الساكنين ، وكذلك لك في الفتح ـ نحو عضّ ـ وجهان ـ أيضا ـ : إما الإتباع ، وإمّا التخفيف.

هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب ، فأما إذا اتصل به ضمير الغائب ـ نحو ردّه ـ ففيه تفصيل ولغات ليس هذا موضعها.

وقرأ عاصم ـ فيما رواه المفضّل ـ : بضم الضاد ، وتشديد الراء مفتوحة (٢) ـ على ما تقدم من التخفيف ـ وهي عندهم أوجه من ضم الراء.

وقرأ الضحاك بن مزاحم : «لا يضرّكم» ـ بضم الضاد ، وتشديد الراء المكسورة (٣) ـ على ما تقدم من التقاء الساكنين.

__________________

(١) ينظر ديوانه (٨٢١) وخزانة الأدب ١ / ٧٢ ، ٧٤٢ ، ٩ / ٥٤٢ ، والدرر ٦ / ٣٢٢ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٩٦ ، وشرح المفصل ٩ / ١٢٨ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨٩٧ ؛ وشرح شافية ابن الحاجب ص ٢٤٤ والكتاب ٣ / ٤٥٣٣ والمقتضب ١ / ١٨٥ ، والدر المصون ٢ / ٢ / ٢٠٠.

(٢) انظر : الشواذ ٢٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٩٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٠.

(٣) انظر : البحر المحيط ٣ / ٤٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٠.

٥٠٣

وكأن ابن عطيّة لم يحفظها قراءة ؛ فإنه قال : فأما الكسر فلا أعرفه قراءة.

وعبارة الزجّاج في ذلك متجوّز فيها ؛ إذ يظهر من روح كلامه أنها قراءة وقد بينا أنها قراءة.

وقرأ أبيّ : «لا يضرركم» بالفكّ (١) ، وهي لغة الحجاز.

والكيد : المكر والاحتيال.

وقال الراغب : هو نوع من الاحتيال ، وقد يكون ممدوحا ، وقد يكون مذموما ، وإن كان استعماله في المذموم أكثر.

قال ابن قتيبة : وأصله من المشقة ، من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي : يجود بها في غمرات الموت ، ومشقاته.

ويقال : كدت فلانا ، أكيده ـ كبعته أبيعه.

قال الشاعر : [الخفيف]

١٦٠٥ ـ من يكدني بسيّىء كنت منه

كالشّجى بين حلقه والوريد (٢)

و «شيئا» منصوب نصب المصادر ، أي : شيئا من الضرر ، وقد تقدم نظيره.

ومعنى الآية : أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى ، واتقى عما نهى الله عنه ، كان في حفظ الله ، فلا يضره كيد الكائدين ، ولا حيل المحتالين.

قوله : (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) قراءة العامة (يَعْمَلُونَ) ـ بالغيبة ، وهي واضحة.

وقرأ الحسن بالخطاب (٣) ، إما على الالتفات ، والتقدير : إنه عالم ، محيط بما تعملونه من الصبر والتقوى ، فيفعل بكم ما أنتم أهله ، وإما على إضمار : قل لهم يا محمد.

وإنما قال : (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ولم يقل : إنّ الله محيط بما يعملون ؛ لأنهم يقدّمون الأهم ، والذي هم بشأنه أعنى ، وليس المقصود ـ هنا ـ بيان كونه تعالى عالما ، بل بيان أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ، ومجازيهم عليها ، فلا جرم قدّم ذكر العمل.

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٣ / ٤٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٠١.

(٢) البيت لأبي زبيد الطائي ينظر ديوانه (٥٢) وخزانة الأدب ١ / ٧٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٤٧ ورصف المباني ص ١٠٥ ، وشرح الأشموني ٣ / ٢٥٨٥ والمقتضب ٢ / ٥٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٥٨٥ والمقرب ١ / ٢٧٥ ، ونوادر أبي زيد ص ٦٨ والدر المصون ٢ / ٢٠١.

(٣) انظر : الشواذ ٢٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٩٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٦ ، والدر المصون ٢ / ٢٠١ ، وإتحاف ١ / ٤٨٧.

٥٠٤

قوله تعالى : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١٢١)

العامل في «إذ» مضمر ، تقديره : واذكر إذ غدوت ، فينتصب المفعول به لا على الظرف ، وجوّز أبو مسلم أن يكون معطوفا عل (فِئَتَيْنِ) في قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) أي : قد كان لكم آية في فئتين ، وفي إذ غدوت ، وهذا لا ينبغي أن يعرّج عليه.

وقال بعضهم : العامل في «إذ» «محيط» تقديره : بما يعملون محيط إذ غدوت.

قال بعضهم : وهذا لا يصحّ ؛ لأن الواو في (وإذ) يمنع من عمل (محيط) فيها.

والغدوّ : الخروج أول النهار ، يقال : غدا يغدو ، أي : خرج غدوة ، وفي هذا دليل على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال ؛ لأن المفسّرين أجمعوا على أنه إنما خرج بعد أن صلّى الجمعة.

ويستعمل بمعنى : «صار» عند بعضهم ، فيكون ناقصا ، يرفع الاسم ، وينصب الخبر ، وعليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو توكّلتم على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطّير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا» (١).

قوله : «من أهلك» متعلق ب «غدوت» ، وفي «من» وجهان :

أحدهما : أنها لابتداء الغاية ، أي : من بين أهلك.

قال أبو البقاء : «وموضعه نصب ، تقديره فارقت أهلك».

قال شهاب الدّين (٢) : «وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب ، ولا تفسير معنى ؛ فإن المعنى على غير ما ذكر».

الثاني : أنها بمعنى : «مع» أي : مع أهلك ، وهذا لا يساعده لفظ ، ولا معنى.

قوله : «تبوىء» يجوز أن تكون الجملة حالا من فاعل : «غدوت» ، وهي حال مقدرة ، أي : قاصدا تبوئة المؤمنين ؛ لأن وقت الغدو ليس وقتا للتبوئة ، ويحتمل أن تكون حالا مقارنة ؛ لأن الزمان متسع.

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٣٠) والترمذي (٤ / ٥٧٣) كتاب الزهد : باب في التوكل على الله (٢٣٤٥) وابن ماجه (٢ / ١٣٩٤) كتاب الزهد : باب التوكل واليقين (٤١٦٤) والحاكم (٤ / ٣١٨) وابن حبان (٢٥٤٨ ـ موارد) وأبو يعلى (١ / ٢١٢) رقم (٢٤٧) وأبو نعيم في «الحلية» (١٠ / ٦٩) وابن المبارك في «الزهد» رقم (٥٥٩) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٣٢٨) والقضاعي في «مسند الشهاب» (٢ / ٣١٩) رقم (١٤٤٤) عن أبي تميم الجيشاني عن عمر بن الخطاب مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح ووافقه الذهبي.

وقال البغوي : حديث حسن ، الخماص : جمع الخميص البطن وهو الضامر والمخمصة : الجوع ، لأن البطن يضمر به.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٠١.

٥٠٥

و «تبوىء» أي تنزل ، فهو يتعدى لمفعولين ، إلى أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجر ، وقد يحذف ـ كهذه الآية ـ ومن عدم الحذف قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) وأصله من المباءة ـ وهي المرجع ـ.

قال الشاعر : [الطويل]

١٦٠٦ ـ وما بوّأ الرّحمن بيتك منزلا

بشرقيّ أجياد الصّفا والمحرّم (١)

وقال آخر : [مجزوء الكامل]

١٦٠٧ ـ كم صاحب لي صالح

بوّأته بيديّ لحدا (٢)

وقد تقدم اشتقاقه.

وقيل : اللام في قوله «لإبراهيم» مزيدة ، فعلى هذا يكون متعديا لاثنين بنفسه.

و «مقاعد» جمع مقعد ، والمراد به ـ هنا ـ مكان القعود ، و «قعد» قد يكون بمعنى : «صار» في المثل خاصة.

قال الزمخشري : «وقد اتّسع في قام ، وقعد ، حتى أجريا مجرى صار».

قال أبو حيان : أما إجراء قعد مجرى صار ، فقال بعض أصحابنا : إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل قولهم : شحذ شفرته حتّى قعدت كأنّها حربة ، ولذلك نقد على الزمخشري تخريجه قوله تعالى : (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً) [الإسراء : ٢٢] بمعنى تصير ؛ لأنه لا يطّرد إجراء قعد مجرى صار.

قال شهاب الدين (٣) : «وهذا ـ الذي ذكره الزمخشري ـ صحيح ، من كون قعد بمعنى : صار في غير ما أشار إليه هذا القائل ؛ حكى أبو عمر الزاهد ـ عن ابن الأعرابي ـ أن العرب تقول : قعد فلان أميرا بعد أن كان مأمورا ، أي : صار».

ثم قال أبو حيان : وأما إجراء قام مجرى صار ، فلا أعلم أحدا عدّها في أخوات «كان» ، ولا جعلها بمعنى «صار» إلا ابن هشام الخضراوي ، فإنه ذكر ـ في قول الشاعر : [الوافر]

__________________

(١) البيت للأعشى وله روايات متعددة ـ فرواية الديوان :

وما جعل الرحمن بيتك في العلى

بأجياد غربيّ الصفا والمحرم

ورواية اللسان :

وما جعل الرحمن بيتك في الذرى

بأجياد غربيّ الصفا والمحطم

ينظر ديوانه ١٢٣ واللسان (جيد) والبحر ٣ / ٤٩ والدر المصون ٢ / ٢٠٢.

(٢) البيت لعمرو بن معديكرب ينظر الحماسة ١ / ١٠٥ والخزانة ١١ / ٢١٩ والكشاف ٤ / ٧ ، ورغبة الآمل ٨ / ١٤٧ والبحر المحيط ٣ / ٤٨ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٢.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٠٢.

٥٠٦

١٦٠٨ ـ على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد (١)

أنها من أفعال المقاربة.

قال شهاب الدين : «وغيره من النحويين من يجعلها زائدة ، وهو شاذّ ، أيضا».

وقرأ العامة : (تُبَوِّئُ) فعدّوه بالتضعيف ، وقرأ عبد الله : «تبوىء» ، بسكون الباء (٢) فعدّاه بالهمزة ، فهو مضارع أبوأ ـ كأكرم.

وقرأ يحيى بن وثّاب «تبوي» (٣) كقراءة عبد الله ، إلا أنه سهّل بإبدالها ياء ، فصار لفظه كلفظ : يحيي.

وقرأ عبد الله : للمؤمنين (٤) ـ بلام الجر ـ كقوله : «وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت» وقد تقدم أن في هذه اللام قولين ، والظاهر أنها معدية ؛ لأنه قبل التضعيف ، والهمزة غير متعدّ بنفسه. ويحتمل أن يكون قد ضمّنه ـ هنا ـ تهيّىء ، وترتّب.

وقرأ الأشهب «مقاعد القتال» (٥) ـ بإضافتها للقتال ـ واللام في «للقتال» ـ في قراءة الجمهور ـ فيها وجهان :

أوّلهما : ـ وهو أظهر ـ : أنها متعلقة ب «تبوىء» على أنها لام العلة.

والثاني : أنها متعلقة بمحذوف ؛ لأنها صفة ل «مقاعد» أي : مقاعد كائنة ، ومهيّأة للقتال ، ولا يجوز تعلقها ب «مقاعد» ، وإن كانت مشتقة ؛ لأنها مكان ، والأمكنة لا تعمل.

فصل

كيفية النظم أنه ـ تعالى ـ لما قال : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أتبعه ببيان أن الصبر يؤدي إلى النّصرة ، والمعونة ، ودفع ضرر العدو ، وأن عدم الصبر يؤدي إلى خلاف ذلك ، فقال : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) يعني : يوم أحد ، كانوا كثيرين ، مستعدّين للقتال ، فلما خالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم انهزموا ، ويوم بدر كانوا قليلين ، غير مستعدين للقتال ، فلما أطاعوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلبوا.

وفيه وجه آخر ، وهو أنه لما نهى عن اتخاذ المنافقين بطانة ، بيّن ـ هنا ـ العلة في ذلك ، وهي أن انكساركم يوم أحد ، إنما حصل بسبب تخلّف عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، المنافق.

__________________

(١) تقدم برقم ٦٦٥.

(٢) انظر : الشواذ ٢١ ، وينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٢.

(٣) انظر السابق.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٠١ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٢.

(٥) انظر : البحر المحيط ٣ / ٤٩ ، والدر المصون ٢ / ٢٠٢.

٥٠٧

فصل

اختلفوا في هذا اليوم.

فقال ابن عباس ، والسّدّيّ ، وابن إسحاق ، والرّبيع ، والأصم ، وأبو مسلم ، وأكثر المفسرين : إنه يوم أحد (١).

وقال الحسن : هو يوم بدر (٢).

وقال مجاهد ومقاتل : هو يوم الأحزاب (٣) ، واحتج الأولون بوجوه :

الأول : أن أكثر العلماء بالمغازي ذكروا أن هذه الآية نزلت في واقعة أحد.

والثاني : أنه ـ تعالى ـ قال بعد هذه الآية : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) ، والظاهر أنه معطوف على ما تقدم ، وحقّ المعطوف أن يغاير المعطوف عليه ، وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، لا يوم الأحزاب ، فكانت قصة أحد أليق بهذا الكلام ، لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ).

الثالث : أن الانكسار كان في يوم أحد أكثر منه في يوم الأحزاب ، لأن في يوم أحد قتلوا جمعا كثيرا من أكابر الصحابة ، ولم يتفق ذلك في يوم الأحزاب ، فكان حمل الآية على يوم أحد أولى.

الرابع : أن ما بعده إلى قريب من آخر السورة متعلق بحرب أحد.

فصل

قال مجاهد ، والكلبيّ ، والواقدي : غدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من منزل عائشة ، فمشى على رجليه إلى أحد ، فجعل يصفّ أصحابه للقتال ، كما يقوم القداح (٤) ، وروي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ، فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنزولهم ، استشار أصحابه ، ودعا عبد الله

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٠) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي.

وعزا هذا القول أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٤٨) لعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود والزهري وابن إسحاق.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٠) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عنه.

(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٧٩) عن الحسن.

(٣) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٤٨) وعزاه لقتادة ومقاتل والحسن.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦١) عن الحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٤) انظر : «التفسير الكبير» (٨ / ١٨٠)

٥٠٨

ابن أبيّ ابن سلول ـ ولم يدعه قط قبلها ـ ، فاستشاره ، فقال عبد الله بن أبيّ ، وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ، لا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا عنها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه ، فدعهم ، فإن أقاموا أقاموا بشرّ موضع ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ، فأعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الرأي.

وقال آخرون : اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب ؛ لئلا يظنّوا أنا قد خفناهم وضعفنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّي رأيت في منامي بقرة تذبح حولي ، فأوّلتها خيرا ، ورأيت في ذبابة سيفي ثلما ، فأوّلته هزيمة ورأيت كأنّي أدخلت يدي في درع حصينة ، فأوّلتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة ، وتدعوهم ـ وكان يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة ، فيقاتلوا في الأزقّة ـ فقال رجال من المسلمين فاتهم يوم بدر ، وأكرمهم الله بالشّهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا ، فلم يزالوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى دخل ، فلبس لأمته ، فلمّا رأوه قد لبس السّلاح ندموا ، وقالوا : بئس ما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوحي يأتيه!!! فقاموا ، واعتذروا إليه ، وقالوا : اصنع ما رأيت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته ، فيضعها حتّى يقاتل ـ وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء ، ويوم الخميس ـ فراح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة بعد ما صلى بأصحابه الجمعة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار ، فصلّى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمّ خرج إليهم ، فأصبح بالشّعب من أحد يوم السّبت للنصف من شوّال سنة ثلاث من الهجرة ، فمشى على رجليه ، وجعل يصفّ أصحابه للقتال كما تقوّم القداح ، إن رأى صدرا بارزا تأخّر ، وكان نزوله في جانب الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وأمّر عبد الله بن جبير على الرّماة ، وقال : ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : اثبتوا في هذا المقام ، فإذا عاينوكم ولّوكم الأدبار ، فلا تطلبوا المدبرين ، ولا تخرجوا من هذا المقام.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خالف رأي عبد الله بن أبي شق ذلك عليه ، وقال : أطاع الولدان وعصاني ، ثم قال لأصحابه : إن محمدا إنما يظفر بعدوه بكم ، وقد واعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا ، فإذا رأيتم أعداءه فانهزموا ، فيتبعوكم ، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما التقى الفريقان انهزم عدو الله بالمنافقين ، وكان جملة عسكر المسلمين ألفا ، فانهزم عبد الله بن أبي بثلاثمائة ، وبقيت سبعمائة ، فذلك قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا).

أي : أن تضعفا ، وتجبنا ، وتتخلفا.

والطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا جناحي العسكر ، وكان عليه‌السلام قد خرج في ألف رجل ، فانخزل عبد الله بن أبي بثلث الجيش ، وقال : نقتل أنفسنا وأولادنا! فتبعهم أبو جابر السّلمي ، وقال : أنشدكم الله في نبيكم ، وفي

٥٠٩

أنفسكم ، فقال عبد الله بن أبيّ : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ ،) وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبيّ ، فعصمهم الله ، فلم ينصرفوا ، فذكرهم الله عظيم نعمته. فقال ـ عزوجل ـ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) ناصرهما ، وحافظهما ، ثم قواهم الله ، حتى هزموا المشركين ، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم ، طلبوا المدبرين ، فأراد الله أن يعظهم عن هذا الفعل ؛ لئلا يقدموا على مخالفة أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليعلموا أن نصرهم إنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله ، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم ، فنزع الله الرّعب من قلوب المشركين ، فكرّ عليهم المشركون ، وتفرق العسكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) [آل عمران : ١٥٣] ، وشجّ وجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشلّت يد طلحة دونه ، ولم يبق معه إلا أبو بكر ، وعليّ ، والعباس ، وطلحة وسعد ، ووقعت الصيحة في العسكر بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، ثم نودي على الأنصار بأن هذا رسول الله ، فرجع إليه المهاجرون والأنصار ، وكان قد قتل منهم سبعون ، وأكثر فيهم الجراح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رحم الله رجلا ذبّ عن إخوانه ، وشدّ على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى ، وكان الكفار ثلاثة آلاف (١) ، والمسلمون ألفا ـ أو أقل ـ رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ، وبقي مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعمائة ، وأعانهم الله حتى هزموا الكفار ، ثم لمّا خالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم ، وانهزموا.

قوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : سميع لأقوالكم ، «عليم» بضمائركم ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما شاور أصحابه في تلك الحرب ، فقال بعضهم : أقم بالمدينة ، وقال آخرون : اخرج إليهم ، فكان لكل أحد غرض في نفسه ، فمن موافق ومن منافق ، فقال تعالى : «أنا سميع لما تقولون عليم بما تسرون».

قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٢٢)

قوله : (إِذْ هَمَّتْ) في هذا الظرف أوجه :

أحدها : أنه ظرف ل (غَدَوْتَ).

الثاني : أنه بدل من (وَإِذْ غَدَوْتَ)، فالعامل فيه هو العامل في المبدل منه.

الثالث : أنه ظرف ل (تُبَوِّئُ).

وهذه الأوجه تحتاج إلى نقل تاريخي في اتحاد الزمانين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٣ ـ ١٦٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٠ ـ ١٢١) وزاد نسبته لابن إسحاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

والأثر في «السيرة النبوية» لابن هشام (٣ / ٦٦ ـ ٦٧).

٥١٠

الرابع : أن الناصب له «عليم» ـ وحده ـ ذكره أبو البقاء.

الخامس : أن العامل فيه إما «سميع» ، وإما «عليم» على سبيل التنازع ، وتكون المسألة ـ حينئذ ـ من إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول ، لأضمر في الثاني.

قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى : (سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

قال أبو حيان : «وهذا غير محرّر ؛ لأن العامل لا يكون مركبا من وصفين ، فتحريره أن يقال : عمل فيه معنى سميع : أو عليم ، وتكون المسألة من التنازع».

قال شهاب الدين : «لم يرد الزمخشري بذلك إلا ما ذكرناه من إرادة التنازع ، ويصدق أن يقول : عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور ؛ لا أنهما عملا فيه معا ، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدعا قولا ؛ إذ الفراء يرى ذلك ، ويقول ـ في نحو : ضربت وأكرمت زيدا : إن زيدا منصوب بهما ، وإنهما سلّطا عليه معا».

فإن قيل : إذا كان الهمّ العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل ، والترك ـ وذلك معصية ـ فكيف يليق أن يقال : (وَاللهُ وَلِيُّهُما)؟

فالجواب : أن الهمّ قد يراد به الكفر ، وقد يراد به : حديث النفس ، وقد يراد به : ما يظهر من القول الدالّ على قوة العدو وكثرة عدده ، وأيّ شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف صاحبه بأنه همّ أن يفشل ، من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف القلب ، وإذا كان كذلك ، فلا يدل على أن المعصية وقعت منهما ، وبتقدير أن يقال ذلك ، فيكون من باب الصغائر ؛ لقوله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما).

وقيل : الهمّ دون العزّم ، وذلك أن أول ما يمر بقلب الإنسان يسمّى : خاطرا ، فإذا قوي سمّي : حديث نفس ، فإذا قوي سمّي : همّا ، فإذا قوي سمّي : عزما ، ثم بعده إما قول ، أو فعل.

وبعضهم يعبّر بالهم عن الإرادة ، تقول العرب : هممت بكذا ، أهم به ـ بضم الهاء ـ ويقال : همت ـ بميم واحدة ـ حذفوا إحدى الميمين تخفيفا ، كما قالوا : مست وظلت ، وحست ـ في مسست وظللت وحسست ـ وهو غير مقيس.

والهم ـ أيضا ـ : الحزن الذي يذيب صاحبه ، وهو مأخوذ من قولهم : همت الشحم ـ أي : أذبته ، والهم الذي في النفس قريب منه ، لأنه قد يؤثر في نفس الإنسان ، كما يؤثر الحزن.

ولذلك قال الشاعر : [الطويل]

١٦٠٩ ـ وهمّك ما لم تمضه لك منصب (١)

__________________

(١) ينظر الشطر في المفردات في غريب القرآن ص ٥٤٣ والدر المصون ٢ / ٢٠٣.

٥١١

أي : إنك إذا هممت بشيء ، ولم تفعله ، وجال في نفسك ، فأنت في تعب منه حتى تقضيه.

قوله : (أَنْ تَفْشَلا) متعلق ب «همّت» ؛ لأنه يتعدى بالباء ، والأصل : بأن تفشلا ، فيجري في محل «أن» الوجهان المشهوران.

والفشل : الجبن والخور.

وقال بعضهم : الفشل في الرأي : العجز ، وفي البدن : الإعياء ، وعدم النهوض ، وفي الحرب الجبن والخور ، والفعل منه فشل ـ بكسر العين ـ وتفاشل الماء ـ إذا سال ـ.

وقرأ عبد الله : والله وليهم (١) ، كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩].

قوله : (وَعَلَى اللهِ) متعلق بقوله : (فَلْيَتَوَكَّلِ ،) قدم للاختصاص ، ولتناسب رؤوس الآي. وتقدم القول في نحو هذه الفاء.

قال أبو البقاء : «دخلت الفاء لمعنى الشرط ، والمعنى : إن فشلوا فتوكلوا أنتم ، أو إن صعب الأمر فتوكلوا».

قال جابر : نزلت هذه الآية ـ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) ـ فينا ـ بني سلمة ، وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل ، والله يقول : (وَاللهُ وَلِيُّهُما).(٢)

قال ابن الخطيب : «ومعنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأن تلك الهمّة ، ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى».

والتوكّل : تفعّل ، إمّا من الوكالة (٣) ـ وهي : تفويض الأمر إلى من يوثق بحسن

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٠١ ، والبحر المحيط ٣ / ٥١.

(٢) أخرجه البخاري (٧ / ٣٥٧) كتاب المغازي باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ... رقم (٤٠٥١) ، (٨ / ٢٢٥) كتاب التفسير باب إذ همت طائفتان ... ومسلم (٤ / ١٩٤٨) كتاب فضائل الصحابة رقم (١٧١) والطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٧) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٢٢١) عن جابر.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٢٢) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) الوكالة ، بفتح الواو وكسرها : التفويض ، يقال : وكله ، أي : فوض إليه ، ووكلت أمري إلى فلان ، أي : فوضت إليه ، واكتفيت به ، وتقع الوكالة أيضا على الحفظ ، وهو : اسم مصدر بمعنى التوكيل.

انظر : المصباح المنير : ٢ / ٦٧٠ ، الصحاح : ٥ / ١٨٤٥ ، المغرب : ٢ / ٣٦٨ المطلع : ٢٥٨ ، تهذيب الأسماء واللغات : ٢ / ١٩٥.

واصطلاحا :

عرفها الحنفية بأنها : تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل.

عرفها الشافعية بأنها : تفويض شخصي ما له فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته. ـ

٥١٢

تدبيره ، ومعرفته في التصرّف ـ وإمّا من وكل أمره إلى فلان ، إذا عجز عنه.

قال ابن فارس : «هو إظهار العجز ، والاعتماد على غيرك» ، يقال : فلان وكله يكله ، أي : عاجز يكل أمره إلى غيره ، والتاء في تكلة بدل من الواو ، كتخمة وتجاه وتراث.

فصل

اختلف العلماء في حقيقة التوكل ، فسئل عنه سهل بن عبد الله ، فقال : قالت فرقة : هو الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين (١).

وقال قوم : التّوكّل : ترك الأسباب ، والركون إلى مسبّب الأسباب ، فإذا شغله السبب عن المسبب ، زال عنه اسم التوكّل (٢).

قال سهل : من قال : التوكل يكون بترك السبب ، فقد طعن في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله يقول : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً)(٣) [الأنفال : ٦٩] ، والغنيمة اكتساب ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله يحبّ العبد المحترف» (٤).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ)(١٢٧)

في كيفية النظم وجهان :

أحدهما : أنه ـ تعالى ـ لّما ذكر قصة أحد أتبعها بقصة بدر ؛ لأن المشركين كانوا في غاية القوة ، ثم سلط المسلمين عليهم ، فصار ذلك دليلا على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى غرضه إلا بالتوكل على الله ، ويكون ذلك تأكيدا لقوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)

__________________

ـ عرفها المالكية بأنها : نيابة في حق غير مشروطة بموته ولا إمارة.

عرفها الحنابلة بأنها : استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.

انظر : بدائع الصنائع : ٧ / ٣٤٤٥ ، تبيين الحقائق : ٤ / ٢٥٤ ، حاشية ابن عابدين : ٥ / ٥٠٩ ، مغني المحتاج : ٢ / ٢١٧ ، الشرح الصغير للدردير : ٣ / ٢٢٩ ، شرح منتهى الإرادات : ٢ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

(١) انظر تفسير القرطبي (٤ / ١٢٢).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) انظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (١٢٣٧) وابن عدي في «الكامل» (١ / ٣٧٨) والحكيم الترمذي والطبراني كما في «كنز العمال» (٩١٩٩) وعزاه أيضا لابن النجار عن عبد الله بن عمر والحديث ذكره ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (٢ / ١٢٨) رقم (١٨٧٧) وقال : قال أبي : هذا حديث منكر. وذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٢٢).

٥١٣

[آل عمران : ١٢٠] ، وقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران : ١٢٢].

الثاني : أنه ـ تعالى ـ حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل ، ثم قال : (وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

يعني : من كان الله ناصرا له ومعينا له فكيف يليق به الفشل؟ ثم أكّد ذلك بقصة بدر ؛ فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ، ولكن لمّا كان الله تعالى ناصرا لهم ، فازوا بمطلوبهم ، وقهروا خصومهم ، فهذا وجه النظم. والنصر : العون ، نصرهم الله يوم بدر ، وقتل فيه صناديد المشركين ، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام ، وكان أول قتال قاتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (بِبَدْرٍ) متعلق ب (نَصَرَكُمُ ،) وفي الباء ـ حينئذ ـ قولان :

أحدهما : ـ وهو الأظهر ـ : أنها ظرفية ، أي : في بدر ، كقولك : زيد بمكة ، أي : في مكة.

الثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة ، فمحلّها النصب على الحال ، أي : مصاحبين لبدر ، و «بدر» : اسم لماء بين مكة والمدينة ، سمّي بذلك لصفائه كالبدر.

وقيل : لاستدراته وقيل : اسم بئر لرجل يقال له : بدر ، وهو بدر بن كلدة ، قاله الشعبي ، وأنكر عليه بذكر الله ـ تعالى ـ منّته عليهم بالنّصرة يوم بدر وقيل : إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه. قاله الواقدي وشيوخه.

وقيل : اسم واد ، وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة ، لثمانية وعشرين شهرا من الهجرة.

قوله : (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) في محل نصب على الحال من مفعول : (نَصَرَكُمُ) و (أَذِلَّةٌ) جمع ذليل وهو جمع قلة ؛ إشعارا بقلتهم مع هذه الصفة ، و «فعيل» الوصف ـ قياس جمعه على فعلاء ، كظريف وظرفاء ، وشريف وشرفاء ، إلا أنه ترك في المضعّف ؛ تخفيفا ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذللاء وخللاء من الثقل؟

فإن قيل : قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] فما معنى قوله : (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ؟) فالجواب من وجوه :

الأول : أنه بمعنى : القلة وضعف الحال ، وقلة السلاح والمال ، وعدم القدرة على مقاومة العدو ، وأن نقيضه العز ، وهو القوة والغلبة.

روي أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، ولم يكن فيهم إلا فرس واحد ، وأكثرهم رجّالة ، وربما كان الجمع منهم يركبون جملا واحدا ، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل ، ومعهم مائة فرس ، مع الأسلحة الكثيرة ، والعدّة الكاملة.

قال القرطبيّ : واسم الذل في هذا الموضع مستعار ، ولم يكونوا في أنفسهم إلا

٥١٤

أعزّة ، لكن نسبتهم إلى عدوهم ، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض ، تقتضي عند التأمل ذلّتهم ، وأنهم يغلبون.

الثاني : لعل المراد : أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين ، واعتقادهم ؛ لأجل قلة عددهم ، وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله ـ تعالى ـ عن الكفار قولهم : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨].

الثالث : أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار بمكة في قوتهم ، وثروتهم ، إلى ذلك الوقت ، ولم يبق للصحابة عليهم استيلاء ، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم ، فلهذا السبب كانوا يهابونهم ويخافونهم.

ثم قال : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي : في الثّبات مع رسوله.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بتقواكم ما أنعم الله به عليكم من نصرته ، أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام ؛ لأنه سبب له.

قوله : (إِذْ تَقُولُ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكر.

الثاني : إن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم بدر ، فالعامل في «إذ» قوله : (نَصَرَكُمُ اللهُ) والتقدير : إذ نصركم الله ببدر ، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين.

وإن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم أحد ، فيكون بدلا من قوله : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ) ، فهذه ثلاثة أوجه.

فصل

روي عن ابن عبّاس والكلبيّ والواقديّ ومقاتل ومحمّد بن إسحاق : أنه يوم أحد ، لوجوه :

أحدها : أن يوم بدر إنما أمدّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألف من الملائكة لقوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ)، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف ، وخمسة آلاف (١)؟

وثانيها : أن الكفار كانوا يوم بدر ألفا ، وما يقرب منه ، والمسلمون كانوا على الثلث منهم ؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفا من الملائكة ، فصار عدد الكفّار مقابلا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين ، فلا جرم ، وقعة الهزيمة على الكفار ، فكذلك يوم أحد ، كان عدد المسلمين ألفا ، وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم ، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٨٣).

٥١٥

آلاف من الملائكة ؛ ليصير عدد الكفار مقابلا لعدد الملائكة ، مع زيادة عدد المسلمين ، فيصير ذلك دليلا على أن المسلمين يهزمونهم ، كما هزموهم يوم بدر ، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم (١).

وثالثها : أنه قال في هذه الآية : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).

والمراد : ويأتيكم أعداؤكم من فورهم ، ويوم أحد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء ، فأما يوم بدر ، فإنهم لم يأتوهم ، بل هم ذهبوا إلى الأعداء (٢).

فإن قيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدهم بخمسة آلاف يوم أحد ، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن إنزال الآلاف الخمسة ، كان مشروطا بأن يصبروا ، ويتّقوا في المغانم ، فخالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما فات الشرط ، فات المشروط ، وأمّا إنزال الآلاف الثلاثة ، فقد وعد المؤمنين بها حين بوّأهم مقاعد القتال.

الثاني : أنا لا نسلم أنّ الملائكة ما نزلت.

روى الواقدي عن مجاهد قال : حضرت الملائكة يوم أحد ، ولكنهم لم يقاتلوا (٣) ، وروي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى اللواء مصعب بن عمير ، فقتل مصعب ، فأخذه ملك في صورة مصعب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تقدم يا مصعب ، فقال الملك : لست بمصعب ، فعرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ملك أمدّ به (٤).

وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أرمي السهم يومئذ ، فيرد علي رجل أبيض ، حسن الوجه ، وما كنت أعرفه ، وظننت أنه ملك (٥).

فعلى هذا القول يكون قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) معترضا بين الكلامين.

وقال قتادة : أمدّهم الله يوم بدر بألف من الملائكة ، على ما قال : (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) [الأنفال : ٩] ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف ، كما قال هاهنا : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ) [آل عمران : ١٢٥] ، فصبروا يوم بدر واتقوا ، فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد ، ويدل على ذلك أنّ قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر ، فكان الاحتياج إلى المدد يقوي القلب

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٨٤) عن مجاهد.

(٤) ذكره القاضي عياض في «الشفا في أحوال المصطفى» رقم (٧١٢٨).

(٥) ينظر : «تفسير الفخر الرازي» (٨ / ١٨٤).

٥١٦

ـ في ذلك اليوم ـ أكثر ، فصرف الكلام إليه أولى ؛ ولأن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقا ، غير مشروط بشرط ، فوجب أن يحصل ، وإنّما حصل يوم بدر ، لا يوم أحد ، وليس لأحد أن يقول : إنهم نزلوا ، لكن ما قاتلوا ؛ لأنهم وعدوا بالإمداد ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد ، بل لا بدّ من الإعانة ، والإعانة حصلت يوم بدر ، لا يوم أحد.

وأما الجواب عن أدلة الأولين ، فأما قولهم ـ في الحجّة الأولى ـ إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما أمدّ يوم بدر بألف ، فالجواب من وجهين :

الأول : أنه ـ تعالى ـ أمد أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألف ، ثم زاد فيهم ألفين ، فصاروا ثلاثة آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين ، فصاروا خمسة آلاف فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا : بلى فقال لهم : إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربّكم بخمسة آلاف.

الثاني : أن أهل بدر إنّما أمدّوا بألف ـ على ما ذكر في سورة الأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير ، فخافوا ، وشقّ عليهم ذلك ، لقلّة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد ، فأنا أمدّكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش ، فاستغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف.

وأما قولهم : إن الكفار كانوا ـ يوم بدر ـ ألفا ، فأنزل الله تعالى ألفا من الملائكة ، ويوم أحد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف ، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك ، بل يفعل الله ما يشاء من زيادة ونقص بحسب ما يريد ، وأما التمسك بقوله : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) فالجواب : أن المشركين لما سمعوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد تعرّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم ، واجتمعوا ، وقصدوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك ، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم بخمسة آلاف من الملائكة.

فصل

قال القرطبيّ : «نزول الملائكة سبب من أسباب النصر ، لا يحتاج إليه الرّبّ تعالى ، وإنما يحتاج إليه المخلوق ، فليعلق القلب بالله ، وليثق به ، فهو الناصر بسبب وبغير سبب (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢] ، ولا يقدح ذلك في التوكّل ، وهو ردّ على من قال : إن الأسباب إنما سنّت في حقّ الضعفاء ، لا الأقوياء ؛ فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا أقوياء ، وغيرهم هم الضعفاء ، وهذا واضح».

٥١٧

فصل في اختلافهم في عدد الملائكة

اختلفوا في عدد الملائكة ، فمن الناس من ضمّ العدد الناقص إلى العدد الزائد ؛ فقالوا : الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه ، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتّقوى ، ومجيء الكفار من فورهم ، فلا بد من التغاير ، وهذا القول ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة ، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط.

ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد.

فعلى القول الأول إن حملنا الآية على قصة بدر ، كان عدد الملائكة تسعة آلاف ؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف ، وذكر خمسة آلاف ، فالمجموع تسعة آلاف.

وإن حملناها على قصّة أحد ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة ، فيكون المجموع ثمانية آلاف.

وعلى القول الثاني : وهو إدخال الناقص في الزائد ، فإن حملنا الآية على قصة بدر ، فقالوا : عدد الملائكة : خمسة آلاف ؛ لأنهم وعدوا بالألف ، ثم ضمّ إليه الألفان ، فصاروا ثلاثة ، ثم ضمّ إليه ألفان ، فلا جرم ، وعدوا بخمسة آلاف.

وقد روي أن أهل بدر أمدّوا بألف ، فقيل : إن كرز بن جابر المحاربيّ يريد أن يمدّ المشركين ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم : «ألن يكفيكم» يعني : بتقدير أن يجيء المشركين مدد ، فالله ـ تعالى ـ يمدكم ـ أيضا ـ بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ، ثم إن المشركين ما جاءهم المدد.

وإن حملناها على قصة أحد ، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف ؛ لأن الخمسة ، وعدوا بها بشرط أن يصبروا ويتقوا ، ويأتوهم من الفور.

فصل

أجمع المفسرون وأهل السّير على أن الله ـ تعالى ـ أنزل الملائكة يوم بدر ، وأنهم قاتلوا الكفار.

قال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ، ولا يقاتلون ، إنما يكونون عددا ومددا وهذا قول الأكثرين.

وقال الحسن : هؤلاء الخمسة آلاف ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة.

وأنكر أبو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار ، واحتجّ عليه بوجوه :

الأول : أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض ؛ فإنّ المشهور أنّ جبريل ـ عليه‌السلام ـ أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط ، وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة ، ثم رفعها إلى السماء ، فجعل عاليها سافلها ، فإذا حضر هو يوم بدر ، فأيّ حاجة

٥١٨

إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره ، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟

الثاني : أن أكابر الكفار كانوا مشهورين ، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم ، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.

الثالث : أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس ، أو لا ، فإن رآهم الناس ، فإما أن يروهم في صورة الناس ، أو في صورة غيرهم ، فإن رأوهم في صورة الناس ، صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر ، ولم يقل بذلك أحد ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس ، لزم وقوع الرّعب الشديد في قلوب الخلق ؛ لأن من شاهد الجن ، لا شك أنه يشتد فزعه ـ ولم ينقل ذلك ألبتة ـ وإن لم يروهم ، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا ، وحزوا الرؤوس ، وشقّوا البطون ، وأسقطوا الكفار عن الأفراس ، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحدا من الفاعلين ، وهذا يكون من أعظم المعجزات ، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد ، ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساده.

الرابع : أن الملائكة الذين نزلوا ، إما أن يكونوا أجساما لطيفة أو كثيفة ، فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم ، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك ، وإن كانت لطيفة مثل الهواء ـ لم يكن فيهم صلابة وقوة ، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول.

والجواب : أن نص القرآن ناطق بها ، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عمير (١) لما رجعت قريش من أحد ، جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ، ويقولون : لم نر الخيل البلق ، ولا الرجال البيض الذين كنّا نراهم يوم بدر (٢).

وقال سعد بن أبي وقاص : رأيت عن يمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض (٣) ، ما رأيتهما قبل ، ولا بعد.

قال سعد بن إبراهيم : يعني : جبريل وميكائيل.

وهذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوة ، فأما من يقرّ بهما ، فلا يليق به شيء من هذا ، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله ـ تعالى ـ زالت ؛ فإنه ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء ؛ لأنه قادر على جميع الممكنات.

فصل

اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة.

__________________

(١) في الرازي ٨ / ١٨٦ عبد الله بن عمر.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره ٨ / ١٨٦.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٢٤٨) والقرطبي ٤ / ١٢٥.

٥١٩

فقال بعضهم : بالقتال مع المؤمنين.

وقال بعضهم : بل بتقوية نفوسهم ، وإشعارهم بأن النّصرة لهم ، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار.

وقال أكثر المفسرين : إنهم لم يقاتلوا في غير بدر.

قوله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) معنى الكفاية : هو سدّ الخلة ، والقيام بالأمر.

يقال : كفاه أمر كذا ، أي : سدّ خلته.

والإمداد : إعانة الجيش بالجيش ، وهو في الأصل إعطاء الشيء حالا بعد حال.

قال المفضّل : ما كان على جهة القوة والإعانة ، قيل فيه : أمدّه يمدّه ، وما كان على جهة الزيادة ، قيل فيه : مدّه يمدّه مدّا ومنه : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧].

وقيل : المدّ في الشر ، والإمداد في الخير ؛ لقوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥] وقوله : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) [مريم : ٧٩] وقال في الخير : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ) [الأنفال : ٩] وقال : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [الإسراء : ٦].

قوله : (أَنْ يُمِدَّكُمْ) فاعل ، (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) أي : ألن يكفيكم إمداد ربكم ، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار ، وجيء ب «لن» دون «لا» ؛ لأنها أبلغ في النفي ، وفي مصحف أبيّ «ألا» بدون «لن» وكأنه قصد تفسير المعنى.

و «بثلاثة» متعلق ب (يُمِدَّكُمْ).

وقرأ الحسن البصريّ «ثلاثة آلاف» ـ بهاء ـ ساكنة في الوصل ـ وكذلك «بخمسة آلاف» كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهي ضعيفة ؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال.

قال ابن عطية : ووجه هذه القراءة ضعيف ؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول ، والهاء إنما هي أمارة وقف ، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، من ذلك ما حكاه الفرّاء من قولهم : أكلت لحما شاة ـ يريدون لحم شاة ـ فمطلوا الفتحة ، حتى نشأت عنها ألف ، كما قالوا في الوقف قالا ـ يريدون قال ـ ثم مطلوا الفتحة في القوافي ، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت.

ومن ذلك في الشعر قوله : [الكامل]

١٦١٠ ـ ينباع من دفرى غضوب جسرة

زيّافة مثل الفنيق المكدم (١)

__________________

(١) البيت لعنترة ينظر ديوانه ص ٢٠٤ ، وخزانة الأدب ١ / ١٢٢ ، ٨ / ٣٧٣ ، ١١ / ١٨٣ ، والخصائص ٣ / ـ

٥٢٠