اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الثاني : أن الصلاح ضدّ الفساد ، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال ـ وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحا ، فكان الصّلاح دالّا على أكمل الدرجات.

قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) يجوز في «من» أن تكون للتبعيض ـ وهو الظاهر ـ.

وجعلها ابن عطية لبيان الجنس ، وفيه نظر ؛ إذ لم يتقدم مبهم ، فتبينه هذه.

قوله : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ).

قرأ الأخوان وحفص : «يفعلوا» و «يكفروه» ـ بالغيبة ـ.

والباقون بالخطاب (١).

الغيب مراعاة لقوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ،) فجرى على لفظ الغيبة ، أخبرنا ـ تعالى ـ أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور ؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ).

ويجوز أن يكون التفاتا من الغيبة في قوله : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) إلى آخره ؛ إلى خطابهم ، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب ، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؛ ليزيد في التأنيس.

ويدل على ذلك قراءة الأخوين ؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ).

فصل

اعلم أن اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه : إنكم خسرتم بسبب إيمانكم ، قال الله تعالى : بل فازوا بالدرجات العظمى ، فالمقصود تعظيمهم ؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ، وهذا وإن كان لفظه ـ على قراءة الغيبة ـ لمؤمني أهل الكتاب ، فسائر الخلق يدخلون فيه نظرا إلى العلّة.

أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين ـ ونظيره قوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧] ، وقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) [البقرة : ٢٧٣] ، وقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [المزمل : ٢٠] ، ونقل عن أبي عمرو : أنه كان يقرأها بالقراءتين (٢).

وسمّي منع الجزاء كفرا لوجهين :

الأول : أنه ـ تعالى ـ سمّى إيصال الجزاء شكرا ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١٥٨] ، وسمى منعه كفرا.

__________________

(١) انظر : السبعة ٢١٥ ، والكشف ١ / ٣٥٤ ، والعنوان ٨٠ ، والحجة ٣ / ٧٣ ، وحجة القراءات ١٧٠ ، ١٧١ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٧ ، ١١٨ ، وشرح شعلة ٣٢٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٦٣ ، وإتحاف ١ / ٤٨٦.

(٢) انظر : السابق.

٤٨١

الثاني : أن الكفر ـ في اللغة ـ : الستر. فسمي منع الجزاء كفرا ؛ لأنه بمنزلة الجحد والستر.

فإن قيل : «شكر» و «كفر» لا يتعديان إلا إلى واحد ، يقال : شكر النعمة ، وكفرها ـ فكيف تعدّى ـ هنا ـ لاثنين أولهما قام مقام الفاعل ، والثاني : الهاء في «يكفروه»؟.

فقيل : إنه ضمّن معنى فعل يتعدى لاثنين ـ كحرم ومنع ، فكأنه قيل : فلن يحرموه ، ولن يمنعوا جزاءه.

ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) واسم «الله» يدل على عدم العجز ، والبخل ، والحاجة ؛ لأنه إله جميع المحدثات ، وقوله : «عليم» يدل على عدم الجهل ، وإذا انتفت هذه الصفات ، امتنع المنع من الجزاء ؛ لأن منع الحق لا بد وأن يكون لأحد هذه الأمور.

وقوله : (بِالْمُتَّقِينَ) ـ مع أنه عالم بالكلّ ـ بشارة للمتقين بجزيل الثواب.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١٦)

لمّا وصف المؤمنين بالصفات الحسنة ، أتبعه بوعيد الكفّار ، ليجمع بين الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب.

قال ابن عبّاس : يريد قريظة والنضير ؛ لأن معاندتهم كانت لأجل المال ، لقوله تعالى : في سورة البقرة (تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١].

وقيل : نزلت في مشركي قريش ؛ فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله.

وقيل : نزلت في أبي سفيان ؛ فإنه أنفق مالا كثيرا على المشركين يوم بدر وأحد.

وقيل : إنها عامة في جميع الكفار ؛ لأنهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال ، ويعيّرون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه بالفقر ، ويقولون : لو كان محمد على الحق ، لما تركه ربه في الفقر والشدة.

فالأولون قالوا : إن الآية مخصوصة ، وهؤلاء قالوا : إن اللفظ عام ، ولا دليل يوجب التخصيص ، وخص الأولاد ، لأنهم أقرب أنسابا إليهم.

واحتجّ أهل السنة بقوله : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) على أن فسّاق أهل الصلاة لا يبقون في النار أبدا ؛ لأن هذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقال : أولئك أصحاب زيد ، لا غيرهم ، ولما أفادت معنى : «الحصر» ثبت أن الخلود في النار ليس إلّا ل «الكفار».

قوله تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ

٤٨٢

حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١١٧)

لما بيّن أن أموالهم لا تغني عنهم شيئا ، فربما أنفقوها في وجوه الخير ، فيخطر ببالهم أنهم يبتغون بذلك وجه الله ، فأزال الله تعالى ـ بهذه الآية ـ ذلك الخاطر ، وبيّن أنهم لا ينتفعون بشيء من تلك النفقات.

والمثل : الشبه الذي يصير كالعلم ؛ لكثرة استعماله فيما يشبه به. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية وما بعدها محذوف لاستكمال الشروط أي «ينفقونه». وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم ، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع.

قوله : (كَمَثَلِ رِيحٍ) خبر المبتدأ ، وعلى هذا الظاهر ـ أعني : تشبيه الشيء المنفق بالريح ـ استشكل التشبيه ؛ لأن المعنى على تشبيهه بالحرث ـ أي : الزرع ـ لا بالريح ، وقد أجيب عن ذلك بوجوه :

أحدها : أنه من باب التشبيه المركب ، بمعنى أنه تقابل الهيئة المجتمعة بالهيئة المجتمعة ، وليس تقابل الأفراد بالأفراد كما مر في أول سورة البقرة عند قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ) وهذا اختيار الزمخشري.

ثانيها : أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين ، فذكر أحد المشبّهين ، وترك ذكر الآخر وذكر أحد المشبهين به ، فقد حذف من كل اثنين ما يدل عليه نظيره ، كما مر في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) ، وهو اختيار ابن عطية ، قال : «وهذا غاية البلاغة والإعجاز».

وثالثها : أنه على حذف مضاف ، إمّا من الأول ، تقديره : مثل مهلك ما ينفقونه ، وإما من الثاني ، تقديره : كمثل مهلك ريح ، وهذا الثاني أظهر ؛ لأنه يؤدّي ـ في الأول ـ إلى تشبيه الشيء المنفق ـ المهلك ـ بالريح ، وليس المعنى عليه ، ففيه عود لما فرّ منه.

وذكر أبو حيان التقدير المشار إليه ، ولم ينبه عليه اللهم إلا أن يريد ب «مهلك» اسم مصدر ، أي : مثل إهلاك ما ينفقون ، ولكن يحتاج إلى تقدير مثل هذا المضاف ـ أيضا ـ قبل «ريح» تقديره : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.

وقيل : التقدير : مثل الكفر ـ في إهلاك ما ينفقون ـ كمثل الريح المهلكة للحرث.

وقال ابن الخطيب : «لعل الإشارة في قوله : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) إلى ما أنفقوا في إنذار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جمع العساكر عليه ، فكان هذا الإنفاق مهلكا لجميع ما أتوا به من أعمال البر والخير ، حينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار ، وتقديم وتأخير ، والتقدير : مثل ما ينفقون في كونه مبطلا لما أتوا به ـ قبل ذلك ـ من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث».

وهذا فيه نظر ؛ لأن الكفار لا يثبت لهم عمل برّ ، حتى تحبطه النفقة المذكورة ، قال

٤٨٣

تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣].

وقد يمكن أن يجاب عنه بأنه إن كان المراد بالذين كفروا : أهل الكتاب ، فقد كانت لهم أعمال بر قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإن كان المراد : المشركين ، فلا يحكم عليهم إلا بعد البعثة ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥].

ويجوز في : «ما» أن تكون موصولة اسمية ، وعائدها محذوف ـ أي : مثل ما ينفقونه ـ وأن تكون ما مصدرية ، وحينئذ يكون قد شبه إنفاقهم ـ في عدم نفعه ـ بالريح الموصوفة بهذه الصفة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.

فصل

اختلفوا في هذا الإنفاق ـ هاهنا ـ فقيل : هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة ، قال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] والمراد به : جميع أعمال الخير.

وقيل : المراد به : إنفاق الأموال ، للآية المتقدمة.

فصل

اختلفوا هل المراد ـ بهذه الآية ـ جميع الكفار ، أو بعضهم؟

فقيل : جميع الكفار ؛ وذلك لأن إنفاقهم إن كان لمنافع الدنيا ، لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر ، وإن كان لمنافع الآخرة ـ كبناء الرباطات ، والقناطر ، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل ، ووجوه البر ـ يرجو بذلك الإنفاق خيرا ، لم ينتفع به في الآخرة ؛ لأن كفره يبطله ، فكان كمن زرع زرعا ، وتوقع منه نفعا كثيرا ، فأصابته الريح ، فأحرقته ، فلا يبقى معه غير الأسف والحزن ، قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣].

وقيل : المراد : بعض الكفار.

فقيل : أراد نفقات أبي سفيان ، وأصحابه يوم بدر وأحد ـ على عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقال مقاتل : أراد نفقات اليهود على علمائهم ؛ لأجل التحريف (٢).

وقيل : إن المنافقين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل الله ، لكن على سبيل التّقيّة ، والخوف من المسلمين ، مداراة لهم (٣).

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٧٠).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) انظر المصدر السابق.

٤٨٤

قوله : (فِيها صِرٌّ) في محل جر ، نعتا ل «ريح» ، ويجوز أن يكون (فِيها صِرٌّ) : جملة من مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون «فيها» ـ وحده ـ هو الصفة ، و «صرّ» فاعل له ـ وجاز ذلك ؛ لاعتماد الجار على الموصوف ـ وهذا أحسن ؛ لأن الأصل في الأوصاف : الإفراد ، وهذا قريب منه.

والصّرّ : قال ابن عبّاس ، وقتادة ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، وأكثر أهل اللغة : إنه البرد الشديد ، المحرق (١).

قال الشاعر : [البسيط]

١٥٧٨ ـ لا تعدلين أتاويّين تضربهم

نكباء صرّ بأصحاب المحلّات (٢)

وقيل : الصّرّ بمعنى : الصرصر ـ وهو البرد ـ.

قالت ليلى الأخيلية : [الطويل]

١٥٧٩ ـ ولم يغلب الخصم الألدّ ويملأ ال

جفان سريعا يوم نكباء صرصر (٣)

مأخوذ من الشد والتعقيد ، ومنه الصّرّة ـ للعقدة ـ وأصرّ على كذا : لزمه.

وقال أبو بكر الأصمّ ، وابن الأنباري : هي السّموم الحارّة.

وقال الزجاج : الصّرصر : صوت لهيب النار ـ في الريح ـ من صرّ الشيء ، يصرّ ، صريرا ـ أي : صوّت بهذا الحسّ المعروف ، ومنه صرير الباب ، والصرة : الصيحة ، قال تعالى : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) [الذاريات : ٢٩].

وروى ابن الأنباريّ ـ بإسناده ـ عن ابن عبّاس ، في قوله : (فِيها صِرٌّ) قال : فيها نار (٤). وعلى القولين ، فالمقصود من التشبيه حاصل ؛ لأنه ـ سواء كان بردا مهلكا ، أو حرّا محرقا ـ يبطل الحرث والزرع ، وإذا عرف هذا ، فإن قلنا : الصّرّ : البرد الشديد ، أو هو صوت النار ، أو هو صوت الريح ، فظرفيّة الريح له واضحة ، وإن كان الصّرّ صفة الريح ـ كالصرصر ـ فالمعنى : فيها قرّة صر ـ كما تقول : برد بارد ـ وحذف الموصوف ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٢٦) عن ابن عباس وقتادة والسدي والربيع بن أنس وابن زيد.

والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٧) عن ابن عباس. وزاد نسبته لسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.

(٢) ينظر المقاييس ١ / ٥٢ و ٥ / ٤٧٤ والمعاني الكبير ١ / ٣٧٤ وأساس البلاغة ص ١٣٩ والبحر ٣ / ٣٥ والكشاف ١ / ٤٥٦ واللسان (أتى) والدر المصون ٢ / ١٩٢.

(٣) ينظر البيت في الكشاف ١ / ٤٥٧ ورغبة الآمل ٦ / ١٨٤ و ٨ / ١٧٧ والبحر المحيط ٣ / ٣٥ والدر المصون ٢ / ١٩٢.

(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٧١) وعزاه لابن الأنباري عن ابن عباس.

وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٤١) بمعناه.

٤٨٥

وقامت الصفة مقامه ، أو تكون الظرفية مجازا جعل الموصوف ظرفا للصفة.

كقوله : [الوافر]

١٥٨٠ ـ ..........

وفي الرّحمن للضّعفاء كافي (١)

ومنه قوله : إن ضيعني فلان ، ففي الله كاف ، المعنى : الرحمن كاف ، الله كاف ، وهذا فيه بعد.

قوله : «أصابت» هذه الجملة في محل جرّ ـ أيضا ـ صفة ل «ريح».

ولا يجوز أن يكون صفة ل «صر» ؛ لأنه مذكّر ، وبدأ أولا بالوصف بالجار ؛ لأنه قريب من المفرد ، ثم بالجملة ، هذا إن أعربنا «فيها» ـ وحده ـ صفة ، ورفعنا به «صرّ» ، أما إذا أعربناه خبرا مقدما ، أو «صرّ» مبتدأ ، فهما جملة ـ أيضا ـ.

قوله : (ظَلَمُوا) صفة ل «قوم» ، والضمير في (ظَلَمَهُمُ) يعود على القوم ذوي الحرث ، أي : ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي التي كانت سببا في إهلاكهم ؛ أو لأنهم زرعوا في غير موضع الزرع ، أو في غير وقته ؛ لأن الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وبهذا يتأكد وجه الشبه ؛ لأن الزرع ـ لا في موضعه ، ولا في وقته ـ يضيع ، ثم أصابته الريح الباردة ، فكان أولى بالضياع ، وكذا ـ هاهنا ـ الكفار لما أتوا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤم كفرهم ، فصار ضائعا ، والله أعلم.

وجوّز الزّمخشريّ وغيره : أن يعود الضمير على المنفقين ، وإليه نحا ابن عطيّة ، ورجحه بأن أصحاب الحرث لم يذكروا للرد عليهم ، ولا لتبيين ظلمهم ، بل لمجرد التشبيه.

وقوله : (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) العامّة على تخفيف «لكن» ، وهي استدراكية ، و «أنفسهم» مفعول مقدّم ، قدّم للاختصاص ، أي : لم يقع وبال ظلمهم إلّا بأنفسهم خاصّة ، لا يتخطاهم ، ولأجل الفواصل ـ أيضا ـ.

وقرأها بعضهم مشدّدة (٢) ، ووجهها أن تكون (أَنْفُسَهُمْ) اسمها ، و (يَظْلِمُونَ) الخبر ، والعائد من الجملة الخبريّة على الاسم محذوف ، تقديره : ولكن أنفسهم يظلمونها ، فحذف ، وحسّن حذفه كون الفعل فاصلة ، فلو ذكر مفعوله ، لفات هذا الغرض.

وقد خرجه بعضهم على أن يكون اسمها ضمير الأمر والقصة ـ حذف للعلم به ،

__________________

(١) هذا عجز بيت لأبي خالد القناني وصدره :

ولولاهن قد سومت مهري

ينظر الكامل ٨٩٥ والكشاف ١ / ٤٥٧ و ٤ / ٤٥٦ واللسان (كرم) والدر المصون ٢ / ١٩٢.

(٢) انظر : البحر المحيط ٣ / ٤١ ، والدر المصون ٢ / ١٩٢ ، ١٩٣.

٤٨٦

و «أنفسهم» مفعول مقدم ل «يظلمون» كما تقدم والجملة خبر لها.

وقد ردّ هذا بأن حذف اسم هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة.

كقوله : [الخفيف]

١٥٨١ ـ إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء (١)

على أن بعضهم لا يقصره على الضرورة ، مستشهدا بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون».

قال : تقديره : إنه ، ويعزى هذا للكسائي (٢).

وقد ردّه بعضهم ، وخرّج الحديث على زيادة «من» والتقدير : إن أشد الناس.

والبصريون لا يجيزون زيادة «من» في مثل هذا التركيب لما تقدم وإنما يجيزها الأخفش.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(١١٨) (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا

__________________

(١) البيت للأخطل : ينظر خزانة الأدب ١ / ٤٥٧ ، الأشباه والنظائر ٨ / ٤٦ ، الكافية ١ / ١٠٣ ، ابن يعيش ٣ / ١٥٥ ، الهمع ١ / ١٣٦ ، ابن الشجري ١ / ٢٩٥ ، إيضاح شواهد الإيضاح ل ٢٢ ، المقرب لابن ١ / ١٠٩ ، ٢٧٧ ، الجمل للزجاجي ٢٢١ ، المغني ٣٧ ، ٥٨٩ (٤٥ ، ٣١٠) الدر اللوامع ١ / ١١٥ ، شرح الجمل لابن عصفور ١ / ٤٤٢ ، شرح أبياته لابن سيده ل ١٣٤ ، الحلل ٢٨٧ الفصول والجمل ١٩٣ ، ضرائر الشعر ١٧٨ ، شرح شواهد المغني ١ / ١٢٢ ، ٢ / ٩١٨ ، شرح أبياته ١ / ١٨٥ ، إيضاح شواهد الإيضاح ل ٢٢ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ١٨١ البسيط في شرح جمل الزجاجي ١ / ٤٣٥ ، ٢ / ٩١٣ والدر المصون ٢ / ١٩٣.

(٢) عند ذكر جملة من الجمل الاسمية أو الفعلية فقد يقدمون قبلها ضميرا يكون كناية عن تلك الجملة ، وتكون الجملة خبرا عن ذلك الضمير ، وتفسيرا له ، ويوحدون الضمير ؛ لأنهم يريدون الأمر والحديث ؛ لأن كل جملة شأن وحديث ، ولا يفعلون ذلك إلا في مواضع التفخيم والتعظيم ، وذلك قولك : هو زيد قائم ، فهو ضمير لم يتقدمه ظاهر ، وإنما هو ضمير الشأن والحديث ، وفسره ما بعده من الخبر ، وهو زيد قائم ، ولم تأت في هذه الجملة بعائد إلى المبتدأ ؛ لأنها هو في المعنى ، ولذلك كانت مفسرة له ويسميه الكوفيون الضمير المجهول ؛ لأنه لم يتقدمه ما يعود عليه ، ويجيء هذا الضمير مع العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر ، نحو أن وأخواتها ، وظننت وأخواتها ، وكان وأخواتها وتعمل فيه هذه العوامل كإنّ المكسورة المشددة وتكون حرف توكيد وتنصب الاسم وترفع الخبر ، وقد تنصبهما في لغة ، وقد يرتفع بعدها المبتدأ فيكون اسمها ضمير شأن ، فإنه لا يحسن حذفه إلا في ضرورة ؛ كما قاله الأعلم في «شرح أبيات الجمل» وابن عصفور في كتاب ـ الضرائر ـ بشرط ألا يؤدي حذفه إلى أن يلي إن وأخواتها فعل كما في البيت الشاهد فتقديره : إنه من يدخل الكنيسة ، وإنما لم تجعل ـ من ـ اسمها لأنها شرطية بدليل جزمها الفعلين والشرط له المصدر فلا يعمل فيه ما قبله ، فوجب أن تكون ـ من ـ مبتدأ.

ينظر المصادر السابقة لتخريج البيت.

٤٨٧

خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١١٩)

لما شرح أحوال المؤمنين والكافرين ، شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين ، وأكد الزجر عن الركون إلى الكفار ، وهو متّصل بما سبق من قوله : (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

قوله : (مِنْ دُونِكُمْ) يجوز أن يكون صفة ل «بطانة» ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة من غيركم.

وقدره الزمخشريّ : من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون.

ويجوز أن يتعلق بفعل النهي ، وجوّز بعضهم أن تكون «من» زائدة ، والمعنى : دونكم في العمل والإيمان.

وبطانة الرجل : خاصّته الذين يباطنهم في الامور ، ولا يظهر غيرهم عليها ، مشتقة من البطن ، والباطن دون الظاهر ، وهذا كما استعاروا الشعار والدّثار في ذلك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النّاس دثار ، والأنصار شعار» (١).

والشعار : ما يلي الجسد من الثياب. ويقال : بطن فلان بفلان ، بطونا ، وبطانة.

قال الشاعر : [الطويل].

١٥٨٢ ـ أولئك خلصاني ، نعم وبطانتي

وهم عيبتي من دون كلّ قريب (٢)

فالبطانة مصدر يسمّى به الواحد والجمع ، وأصله من البطن ، ومنه : بطانة الثوب غير ظهارته.

فإن قيل : قوله : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) نكرة في سياق النفي ، فيقتضي العموم في النهي عن مصاحبة الكفار ، وقد قال تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) فكيف الجمع فيهما.

فالجواب : أن الخاص مقدّم على العام.

قوله : (لا يَأْلُونَكُمْ) لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذكر علّة النهي ، وهي أمور :

أحدها : قوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) يقال : ألا في الأمر ، يألو فيه ، أي : قصّر ـ نحو غزا يغزو ـ فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى. واختلف في نصب «خبالا» على وجوه:

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة (١٢ / ١٦٠) ، (١٤ / ٤٨٠ ، ٥٢٧) والبزار كما في «مجمع الزوائد» (٨ / ٢٢٠).

وقال الهيثمي : وفيه إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل وهو متروك والحديث ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٣٠٢٠٤).

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٥ ومجمع البيان ٢ / ١٧٦ والقرطبي ٤ / ١٧٨ والدر المصون ٢ / ١٩٣.

٤٨٨

أحدها : أنه مفعول ثان ، وإنما تعدّى لاثنين ؛ للتضمين.

قال الزمخشري : يقال : ألا في الأمر ، يألو فيه ـ أي : قصّر ـ ثم استعمل معدّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحا ، ولا آلوك جهدا ، على التضمين ، والمعنى : لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه.

الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض (١) ، والأصل : لا يألونكم في خبال ، أو في تخبيلكم ، أو بالخبال ، كما يقال : أو جعته ضربا ، وهذا غير منقاس ، بخلاف التضمين ؛ فإنه ينقاس ، وإن كان فيه خلاف واه.

الثالث : أن ينتصب على التمييز ، وهو ـ حينئذ ـ تمييز منقول من المفعولية ، والأصل : لا يألون خبالكم ، أي : في خبالكم ، ثم جعل الضمير ـ المضاف إليه ـ مفعولا بعد إسقاط الخافض فنصب الخبال ـ الذي كان مضافا ـ تمييزا ، ومثله قوله : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] أي : عيون الأرض ، ففعل به ما تقدم ، ومثله ـ في الفاعلية قوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، الأصل : شيب الرأس ، وهذا عند من يثبت كون التمييز منقولا من المفعولية.

وقد منعه بعضهم ، وتأوّل قوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] على أن «عيونا» بدل بعض من كل ، وفيه حذف العائد ، أي : عيونا منها ، وعلى هذا التخريج ، يجوز أن يكون «خبالا» يدل اشتمال من «كم» والضمير أيضا محذوف أي : «خبالا منكم» وهذا وجه رابع.

الخامس : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : متخبلين.

السادس : قال ابن عطيّة : معناه : لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم.

فعلى هذا ـ الذي قدره ـ يكون المضمر ، و «خبالا» منصوبين على إسقاط الخافض ، وهو اللام ، وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها جملة استئنافية ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جيء بها ، وبالجمل التي بعدها ، لبيان حال الطائفة الكافرة ، حتى ينفروا منها ، فلا يتخذوها بطانة ، وهو وجه حسن.

الثاني : أنها جملة في موضع نصب ؛ حال من الضمير المستكن في «دونكم» على أن الجار صفة لبطانة.

الثالث : أنها في محل نصب ؛ نعتا ل «بطانة» ـ أيضا ـ.

والألو ـ بزنة الغزو ـ التقصير ـ كما تقدم ـ.

__________________

(١) في أ : حرف الجر.

٤٨٩

قال زهير : [الطويل]

١٥٨٣ ـ سعى بعدهم قومي لكي يدركوهم

فلم يفعلوا ، ولم يليموا ، ولم يألوا (١)

وقال امرؤ القيس : [الطويل]

١٥٨٤ ـ وما المرء ما دامت حشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي (٢)

يقال : آلى ، يولي ـ بزنة أكرم ، فأبدلت الهمزة الثانية ألفا.

وأنشدوا : [الوافر]

١٥٨٥ ـ ...........

فما آلى بنيّ ولا أساءوا (٣)

ويقال : ائتلى ، يأتلي ـ بزنة اكتسب يكتسب ـ.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٥٨٦ ـ ألا ربّ خصم فيك ألوى رددته

نصيح على تعذاله غير مؤتلي (٤)

فيتحد لفظ آلى بمعنى قصّر ، وآلى بمعنى حلف ـ وإن كان الفرق بينهما ثابتا من حيث المادة ؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء ، ومن معنى التقصير واو.

قال الراغب (٥) : وألوت فلانا ، أي : أوليته تقصيرا ـ نحو كسبته ، أي : أوليته كسبا ـ وما ألوته جهدا ، أي : ما أوليته تقصيرا بحسب الجهد ، فقولك : جهدا ، تمييز.

وقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) [آل عمران : ١١٨] أي : لا يقصّرون في طلب الخبال ، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم ، قال تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) [النور : ٢٢].

قيل : هو «يفتعل» من ألوت.

وقيل : هو من آليت ، أي : حلفت.

والخبال : الفساد ، وأصله ما يلحق الحيوان من مرض ، وفتور ، فيورثه فسادا

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ١١٤ والبحر ٣ / ٣٥ ورغبة الآمل ١ / ١٢٤ وأشعار الشعراء الستة الجاهليين ١ / ٢٩٦ والدر المصون ٢ / ١٩٤.

(٢) ينظر البيت في ديوانه ١٤٥ وأشعار الشعراء الستة الجاهليين ١ / ٥٢ ومجمع الأمثال ١ / ٣٤٨ و ٣ / ١٩٣ ومجمع البيان ٢ / ١٧٦ واللسان (ألا) والدر المصون ٢ / ١٩٤.

(٣) هذا عجز بيت للربيع بن ضبع الفزاري وصدره :

وإن كنائني لنساء صدق

ينظر الإفصاح ص ٢٧٠ وكتاب المعاني الكبير ١ / ٥٣٢ والمسائل البصريات ص ٧٤٤ وأمالي الزجاجي ص ١٤٦ والخزانة ٧ / ٣٨١ والتاج ١٠ / ١٩ واللسان (ألا) والدر المصون ٢ / ١٩٤.

(٤) ينظر البيت في ديوانه (١٨) وأشعار الشعراء الستة الجاهليين ١ / ٣٦ وشرح القصائد العشر ص ٦٦ وشرح القصائد السبع ص ٧٣ والدر المصون ٢ / ١٩٤.

(٥) ينظر : المفردات ١٨.

٤٩٠

واضطرابا ، يقال منه : خبله وخبّله ـ بالتخفيف والتشديد ، فهو خابل ، ومخبّل ، ومخبول ، والمخبل : الناقص العقل ، قال تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) [التوبة : ٤٧] ، ويقال : خبل ، وخبل ، وخبال وفي الحديث : «من شرب الخمر ثلاثا كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» (١).

وقال زهير بن أبي سلمى : [الطويل]

١٥٨٧ ـ هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا

وإن يسألوا يعطوا ، وإن ييسروا يغلوا (٢)

والمعنى في هذا البيت : أنهم إذا طلب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه ، وهذا كناية عن كرمهم.

فصل

قال ابن عبّاس : كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود ؛ لما بينهم من القرابة ، والصداقة ، والحلف ، والجوار ، والرضاع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم فيها عن مباطنتهم (٣).

قال مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين ، كانوا يواصلون المنافقين ، فنهاهم الله عن

__________________

(١) أخرج مسلم ٣ / ١٥٨٧ في الأشربة ، باب بيان أن كل مسكر خمر ... (٧٢ ـ ٢٠٠٢) ، والنسائي ٨ / ٣٢٧ في الأشربة ، باب ذكر ما أعد الله عزوجل لشارب المسكر ... (٥٧٠٩) عن جابر أن رجلا قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر؟

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو مسكر هو؟ قال : نعم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل مسكر حرام ، إن على الله عزوجل عهدا لمن يشرب المسكر ، أن يسقيه من طينة الخبال قال : يا رسول الله ، وما طينة الخبال؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار.

وأخرج النسائي ٨ / ٣١٧ في الأشربة ، باب توبة شارب الخمر (٥٦٧) ، وابن ماجه ٢ / ١١٢٠ في الأشربة ، باب من شرب الخمر لم تقبل له صلاة (٣٣٧٧) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه «من شرب الخمر وسكر ، لم تقبل له صلاة أربعين صباحا ، وإن مات دخل النار. فإن تاب تاب الله عليه ، وإن عاد فشرب فسكر ، لم تقبل له صلاة أربعين صباحا. فإن مات دخل النار ، فإن تاب تاب الله عليه. وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا ، فإن تاب تاب الله عليه ، وإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة. قالوا : يا رسول الله ، وما ردغة الخبال؟ قال عصارة أهل النار».

وفي الباب عن ابن عباس بنحوه عند أبي داود ٢ / ٣٥٢ في الأشربة ، باب النهي عن المسكر(٣٦٨٠).

وفي الباب عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عند الترمذي ٤ / ٢٥٧ في الأشربة ، باب ما جاء في شارب الخمر (١٨٦٢).

وقال : هذا حديث حسن ، وقد روي نحو هذا عن عبد الله بن عمرو وابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٤١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٨) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس والأثر في «سيرة ابن هشام» (٢ / ٢٠٧).

٤٩١

ذلك (١) ، ويؤيّد هذا القول ما ذكره بعد في قوله : (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩] وهذه صفة المنافقين.

وقيل : أراد جميع الكفار.

والعنت : شدة الضرر والمشقة ، قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) [البقرة : ٢٢٠] ، وقد تقدم اشتقاقه.

قوله : (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) هذه العلة الثانية ، وفي هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : وهو الأظهر ـ أن تكون مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب ـ كما هو الظاهر في التي قبلها.

والثاني : أنها نعت ل «بطانة» فمحلّها نصب.

قال الواحدي : «ولا يصح هذا ؛ لأن البطانة قد وصفت بقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) ، ولو كان هذا صفة ـ أيضا ـ ، لوجب إدخال حرف العطف بينهما».

والثالث : أنها حال من الضمير في «يألونكم» ، و «ما» مصدرية ، و «عنتّم» صلتها ، وهي وصلتها مفعول الودادة ، أي : عنتكم ، أي : مقتكم.

وقال الراغب : «المعاندة ، والمعانتة ، يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة : أن يتحرى مع الممانعة المشقة».

والفرق بين قوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ،) وقوله : (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ،) في المعنى من وجوه :

الأول : لا يقصرون في إفساد دينكم ، فإن عجزوا عنه ، ودّوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر.

الثاني : لا يقصرون عن إفساد أموركم ، فإن لم يفعلوا ذلك ؛ لمانع ، فحبّه في قلوبهم.

الثالث : لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا ، فإن عجزوا عنه لمانع لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم.

قال القرطبيّ : «وقد انقلبت هذه الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء ، وتسوّدوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء».

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بعث الله من نبيّ ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٤١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٤١) من قول ابن عباس وقتادة والسدي والربيع بن أنس.

٤٩٢

ولا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف ، وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشّر ، وتحضّه عليه ، فالمعصوم من عصم الله تعالى» (١).

وروى أنس بن مالك قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تستضيئوا بنار المشركين ، ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا» (٢).

وفسره الحسن بن أبي الحسن ، فقال : أراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا.

قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) الآية (٣).

العلة الثالثة : قوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ) هذه الجملة كالتي قبلها ، وقرأ عبد الله «بدا» ـ من غير تاء (٤) ـ لأن الفاعل مؤنّث مجازيّ ؛ ولأنها في معنى البغض ، والبغضاء : مصدر ـ كالسراء والضراء ـ يقال منه : بغض الرجل ، فهو بغيض ، كظرف فهو ظريف.

قوله : (مِنْ أَفْواهِهِمْ) متعلق ب «بدت» و «من» لابتداء الغاية ، وجوّز أبو البقاء أن يكون حالا ، أي : خارجة من أفواههم ، والأفواه : جمع فم ، وأصله فوه ، فلامه هاء ، يدل على ذلك جمعه على أفواه ، وتصغيره على «فويه» ، والنسب إليه على فوهي ، وهل وزنه فعل ـ بسكون العين ـ أو «فعل» ـ بفتح العين ـ؟ خلاف للنحويين ، ثم حذفوا لامه تخفيفا ، فبقي آخره حرف علة ، فأبدلوه ميما ؛ لقربه منها ؛ لأنهما من الشفة ، وفي الميم هويّ في الفم يضارع المد الذي في الواو.

وهذا كله إذا أفردوه عن الإضافة ، فإن أضافوه لم يبدلوا حرف العلة.

كقوله : [البسيط]

١٥٨٨ ـ فوه كشقّ العصا لأيا تبيّنه

أسكّ ما يسمع الأصوات مصلوم (٥)

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ٢٠١) كتاب الأحكام : باب بطانة الإمام (٧١٩٨) والنسائي (٧ / ١٥٨) كتاب الزيتة باب بطانة الإمام (٤٢٠٢) وأحمد (٣ (٩٣) والبيهقي (١٠ / ١١١) والبغوي في «شرح السنة» (١٠ / ١١١).

(٢) أخرجه النسائي (٨ / ١٧٦ ـ ١٧٧) رقم (٥٢٠٩) والطبري في «تفسيره» (٧ / ١٤٢) والبيهقي (١٠ / ١٢٧) وفي «شعب الإيمان» (٩٣٧٥) والبخاري في «التاريخ الكبير» (١ / ٤٥٥) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٢٥٢) من طرق عن أزهر بن راشد عن أنس بن مالك مرفوعا والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) تفسير الحسن أخرجه مسدد في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (٢ / ٢٧٨) رقم (٢٢٢٣) عن أزهر بن راشد عن أنس.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٩٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٢ ، والدر المصون ٢ / ١٩٥.

(٥) البيت لعلقمة بن عبدة الفحل ينظر ديوانه (٥٩) وشرح الجمل ٢ / ٣٨٧ والدر المصون ٢ / ١٩٥.

٤٩٣

عكس الأمر في الطرفين ، فأتى بالميم في حال الإضافة ، وبحرف العلة في القطع عنها.

فمن الأول قوله : [الرجز]

١٥٨٩ ـ يصبح ظمآن وفي البحر فمه (١)

وخصّه الفارسيّ وجماعة بالضرورة ، وغيرهم جوّزه سعة ، وجعل منه قوله : «لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك».

ومن الثاني قوله : [الرجز]

١٥٩٠ ـ خالط من سلمى خياشيم وفا (٢)

أي : وفاها ، وإنما جاز ذلك ؛ لأن الإضافة كالمنطوق بها.

وقالت العرب : رجل مفوّه ـ إذا كان يجيد القول ـ وأفوه : إذا كان واسع الفم.

قال لبيد : [الوافر]

١٥٩١ ـ ...........

وما فاهوا به أبدا مقيم (٣)

وفي الفم تسع لغات ، وله أربع مواد : ف م ه. ف م و. ف م ي. ف م م ؛ بدليل أفواه ، وفموين ، وفميين ، وأفمام.

فصل

(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ) أي : ظهرت علامة العداوة من أفواههم.

فإن حملناه على المنافقين ، فمعناه أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ، وعدم الود والنصيحة ، كقوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] ، أو بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين ، والكفّار ، لإطلاع بعضهم بعضا على ذلك.

وإن حملناه على اليهود فمعناه : أنهم يظهرون تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكتاب ، وينسبونه

__________________

(١) البيت لرؤبة ـ ينظر ديوانه (١٥٩) والدرر ١ / ١٤ والمخصص ١ / ١٣٦ والخزانة ٢ / ٢٦٦ ومجمع الأمثال ٢ / ٣١٦ والمسائل العسكرية ص ١٧٣ والصناعتين ص ٧٦ والهمع ١ / ٤٠ والبصريات ٨٩٣ والدر المصون ٢ / ١٩٦.

(٢) البيت للعجاج ـ ينظر ديوانه ٢ / ٢٥٥ والمخصص ١ / ١٣٦ وابن يعيش ٦ / ٨٩ والدرر اللوامع ١ / ١٤ وارتشاف الضرب ١ / ٤٨ وتذكرة النحاة ص ٥٥٣ وليس في كلام العرب ص ٢١٧ وأوضح المسالك ١ / ٤٠ والهمع ١ / ٤٠ والبصريات ص ٨٩٦ والدر المصون ٢ / ١٩٦.

(٣) هذا عجز بيت للبيد ونسبه الفراء وغيره لأمية بن أبي الصلت وصدر البيت يروى بروايتين مختلفتين والأشهر منهما هي:

فلا لغو ولا تأثيم فيها

وما فاهوا به أبدا مقيم

انظر أوضح المسالك ٢ / ١٩ ومعاني الفراء ١ / ١٢١ وشرح الأشموني ٢ / ١١ والارتشاف ٢ / ١٦٥ واللسان (فوه) والدر المصون ٢ / ١٩٦.

٤٩٤

إلى الجهل. وإن حملناه على الكفّار ، فمعنى البغضاء الشتيمة والوقيعة في المسلمين.

فصل

قال القرطبيّ : «وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوّه لا تجوز ، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز ، وروي عن أبي حنيفة جواز ذلك.

وحكى ابن بطّال عن ابن شعبان أنه قال : أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء ، وإن كان عدلا ـ والعداوة تزيل العدالة ، فكيف بعداوة الكافر».

قوله : (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) يجوز أن تكون «ما» بمعنى : الذي ، والعائد محذوف ـ أي : تخفيه فحذف ـ وأن تكون مصدرية ـ أي : وإخفاء صدورهم ـ وعلى كلا التقديرين ، ف «ما» مبتدأ و «أكبر» خبره ، والمفضّل عليه محذوف ، أي : أكبر من الذي أبدوه بأفواههم.

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) شرط ، حذف جوابه ، لدلالة ما تقدم عليه ، أو هو ما تقدم ـ عند من يرى جوازه ـ.

والمعنى : إن كنتم من أهل العقل ، والفهم ، والدراية.

وقيل : إن كنتم تعقلون الفصل بين ما يستحقه الوليّ والعدوّ ، والمقصود منه : استعمال العقل في تأمل هذه الآيات ، وتدبّر هذه البينات.

قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) قد تقدم نظيره.

قال الزّمخشريّ : «ها» للتنبيه ، و «أنتم» مبتدأ و «أولاء» خبره ، و «تحبّونهم» في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة.

ويجوز أن يكون «أولاء» بمعنى : الذي ، و «تحبّونهم» صلة له ، والموصول مع الصلة خبر.

قال الفرّاء : «أولاء» خبر ، و «يحبونهم» خبر بعد خبر.

ويجوز أن يكون «أولاء» في موضع نصب بفعل محذوف ، فتكون المسألة من باب الاشتغال ، نحو : أنا زيدا ضربته.

قوله : (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) يحتمل أن يكون استئناف إخبار ، وأن يكون جملة حالية.

فصل

قال المفضّل : «تحبّونهم» تريدون لهم الإسلام ، وهو خير الأشياء ، و (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) ، فإنهم يريدون بقاءكم على الكفر ، وهو يوجب الهلاك.

وقيل : (تُحِبُّونَهُمْ) بسبب ما بينكم وبينهم من القرابة ، والرضاع ، والمصاهرة ، (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) لأجل الإسلام.

٤٩٥

وقيل : (تُحِبُّونَهُمْ) بسبب إظهارهم لكم الإسلام (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) بسبب أن الكفر مستغرق في قلوبهم.

وقال أبو العالية ، ومقاتل : المحبة ـ هاهنا ـ بمعنى : المصافاة ، أي : أنتم ـ أيها المؤمنون ـ تصافونهم ، ولا يصافونكم ؛ لنفاقهم.

وقال الأصمّ : (تُحِبُّونَهُمْ) بمعنى : أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات ، والمحن ، (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) بمعنى : أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ، ويتربصون بكم الدوائر.

وقيل : (تُحِبُّونَهُمْ) بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يبغضون الرسول ، ومحب المبغوض مبغوض.

وقيل : (تُحِبُّونَهُمْ) أي : تخالطونهم ، وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) أي : لا يفعلون ذلك بكم.

قوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) يجوز أن تكون الألف واللام ـ في الكتاب ـ للجنس ، والمعنى : بالكتب كلها ، فاكتفى بالواحد.

وقيل : أفرد الكتاب ؛ لأنه مصدر ، فيجوز أن يسمّى به الجمع.

وقيل : إن المصدر لا يجمع إلا على التأويل ، فلهذا لم يقل : الكتب ـ بدلا من الكتاب ـ ، وإن كان لو قاله لجاز ، توسعا.

ويجوز أن يكون للعهد ، والمراد به : كتاب مخصوص.

وهنا جملة محذوفة ، يدل عليها السياق ، والتقدير : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ ،) وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وحسن العطف ، لما تقدم من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الآخر ، وتقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها ، وهم ـ مع ذلك ـ يبغضونكم ، فما بالكم ـ مع ذلك ـ تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟.

وفيه توبيخ شديد بأنهم ـ في باطلهم ـ أصلب منكم في حقكم.

قوله : (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) ومعناه : إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة ، وشدة الغيظ على المؤمنين ، حتى تبلغ الشدة إلى عضّ الأنامل ، كما يفعل الإنسان ـ إذا اشتد غيظه ، وعظم حزنه ـ على فوت مطلوبه ، ولمّا كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب ، وإن لم يكن هناك عض.

قوله : (عَلَيْكُمُ) متعلق ب «عضّوا» ، وكذلك (مِنَ الْغَيْظِ) و «من» فيه لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكون بمعنى اللام ، فيفيد العلّيّة ـ أي : من أجل الغيظ ـ.

وجوز أبو البقاء ـ في «عليكم» ، وفي (مِنَ الْغَيْظِ) ـ أن يكونا حالين ، فقال : «ويجوز أن يكون حالا ، أي : حنقين عليكم من الغيظ. و (مِنَ الْغَيْظِ) متعلق ب «عضّوا»

٤٩٦

أيضا ، و «من» لابتداء الغاية ، أي : من أجل الغيظ ، ويجوز أن يكون حالا ، أي : مغتاظين». انتهى.

وقوله : و «من» لابتداء الغاية ـ أي : من أجل الغيظ كلام متنافر ؛ لأن التي للابتداء لا تفسّر بمعنى : «من أجل» ، فإنه معنى العلة ، والعلة والابتداء متغايران ، وعلى الجملة ، فالحالية ـ فيهما ـ لا يظهر معناها ، وتقديره الحال ليس تقديرا صناعيّا ؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة.

والعضّ : الأزم بالأسنان ، وهو تحامل الأسنان بعضها على بعض ، يقال : عضضت ـ بكسر العين في الماضي ـ أعضّ ـ بالفتح ـ عضّا ، وعضيضا.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٥٩٢ ـ ...........

كفحل الهجان ينتحي للعضيض (١)

ويعبر به عن الندم المفرط ـ ومنه : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) [الفرقان : ٢٧] ـ وإن لم يكن ثم عضّ حقيقة.

قال أبو طالب : [الطويل]

١٥٩٣ ـ وقد صالحوا قوما علينا أشحّة

يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل (٢)

جعل الباء زائدة في المفعول ؛ إذ الأصل : يعضون خلفنا الأنامل.

وقال آخر : [المتقارب]

١٥٩٤ ـ قد افنى أنامله أزمه

فأضحى يعضّ عليّ الوظيفا (٣)

وقال الحارث بن ظالم المري : [الطويل]

١٥٩٥ ـ وأقتل أقواما لئاما أذلّة

يعضّون من غيظ رءوس الأباهم (٤)

وقال آخر : [البسيط]

١٥٩٦ ـ إذا رأوني ـ أطال الله غيظهم ـ

عضّوا من الغيظ أطراف الأباهيم (٥)

__________________

(١) هذا عجز بيت وصدره :

له قصريا عير وساقا نعامة

ينظر ديوانه (٧٥) والدر المصون ٢ / ١٩٧.

(٢) ينظر البيت في ديوانه ص ١٠١ والروض الأنف ٢ / ١٣ والسيرة النبوية ١ / ٢٧٢ والمقتضب ٤ / ٩٠ والدر المصون ٢ / ١٩٧.

(٣) البيت لصخر الغي ـ ينظر ديوان الهذليين ٢ / ٧٣ وزاد المسير ٤ / ٣٤٨ وشرح أشعار الهذليين ١ / ٢٩٩ والدر المصون ٢ / ١٩٧.

(٤) ينظر البيت في شواهد الكشاف ٤ / ١٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٤ والدر المصون ٢ / ١٩٧.

(٥) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢ / ٣٥٨ والبحر المحيط ٣ / ٤٤ والتاج ٨ / ٢٠٨ والقرطبي ٤ / ١٨٢ واللسان (بهم) والدر المصون ٢ / ١٩٧.

٤٩٧

والعضّ كله بالضاد ، إلا في قولهم : عظّ الزمان ـ أي : اشتد ـ وعظت الحرب ، فإنهما بالظاء ـ أخت الطاء ـ.

قال الشاعر : [الطويل]

١٥٩٧ ـ وعظّ زمان ـ يابن مروان لم يدع

من المال إلّا مسحتا أو مجلّف (١)

قال شهاب الدين : «وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : وعضّ زمان ـ بالضاد».

والعضّ ـ بضم الفاء ـ علف من نوى مرضوض وغيره ، ومنه : بعير عضاضيّ ـ أي : سمين ـ كأنه منسوب إليه ، وأعضّ القوم ـ إذا أكلت إبلهم ذلك ، والعضّ ـ بكسر الفاء ـ الرجل الداهية ، كأنهم تصوروا عضّه وشدته.

وزمن عضوض ـ أي : جدب ، والتّعضوض : نوع من التمر ، سمّي بذلك لشدة مضغه وصعوبته.

والأنامل : جمع أنملة ـ وهي رؤوس الأصابع.

قال الرّماني : واشتقاقها من النمل ـ هذا الحيوان المعروف ـ شبهت به لدقتها ، وسرعة تصرفها وحركتها ، ومنه قالوا للنمام : «نمل ومنمل» لذلك.

قال الشاعر : [المتقارب]

١٥٩٨ ـ ولست بذي نيرب فيهم

ولا منمش فيهم منمل (٢)

وفي ميمها الضم والفتح.

والغيظ : مصدر غاظه ، يغيظه ـ أي : أغضبه ـ. وفسره الراغب (٣) بأنه أشد الغضب ، قال : وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه. وإذا وصف به الله تعالى ، فإنما يراد به الانتقام. والتغيظ : إظهار الغيظ ، وقد يكون مع ذلك صوت ، قال تعالى : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) [الفرقان : ١٢] ، والجملة من قوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) معطوفة على (تُحِبُّونَهُمْ ،) ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة.

قال الزمخشري : والواو في (وَتُؤْمِنُونَ) للحال ، وانتصابها من (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم ـ مع ذلك ـ يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم.

قال أبو حيان (٤) : «وهو حسن ، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر البيت في الدرر ٦ / ١٦٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٩ ، ولسان العرب (نمش) ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٧٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٢ ، والدر المصون ٢ / ١٩٨.

(٣) ينظر : المفردات ٢٨٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤٣.

٤٩٨

جعل الواو في (وَتُؤْمِنُونَ) للحال ، وانتصابها من (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) والمضارع المثبت ـ إذا وقع حالا ـ لا تدخل عليه واو الحال ، تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز : ويضحك ، فأما قولهم : قمت وأصكّ عينه ، ففي غاية الشذوذ ، وقد أوّل على إضمار مبتدأ ، أي : وأنا أصكّ عينه ، فتصير الجملة اسمية ، ويحتمل هذا التأويل هنا : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، لكنّ الأولى ما ذكرنا من كونها للعطف».

يعني : فإنه لا يحوج إلى حذف ، بخلاف تقديره مبتدأ ، فإنه على خلاف الأصل.

قوله : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) يجوز أن تكون الباء للحال ، أي : موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم ، وهو كناية عن كثرة الإسلام وفشوّه ؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم ، ويجوز أن تكون للسببية أي : بسبب غيظكم ، وليس بالقويّ.

وقوله : (مُوتُوا) صورته أمر ومعناه الدعاء ، فيكون دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم ، حتى يهلكوا به ، والمراد من ازدياد الغيظ : ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام ، وعزّ أهله ، وما لهم في ذلك من الذّلّ ، والخزي ، والعار.

وقيل : معناه الخبر ، أي : أن الأمر كذلك.

وقد قال بعضهم : إنه لا يجوز أن يكون بمعنى : الدعاء ؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعا على هذه الصفة ؛ فإنّ دعوته لا ترد ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآية ، [وليس بخبر](١) ؛ لأنه لو كان خبرا لوقع على حكم ما أخبره ، ولم يؤمن أحد بعد ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يبق إلا أن يكون معناه التوبيخ ، والتهديد ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] و «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» (٢).

وهذا ـ الذي قاله ـ ليس بشيء ؛ لأن من آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء ـ إن قصد به الدعاء ـ ولا تحت الخبر ، إن قصد به الإخبار.

قوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، أخبر ـ تعالى ـ بذلك ؛ لأنهم كانوا يخفون غيظهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد ، ويحتمل أن يكون من جملة المقول ، أي : قل لهم : كذا ، وكذا ، فيكون في محل نصب بالقول ، ومعنى قوله : (بِذاتِ) أي : بالمضمرات ، ذوات الصدور ، ف «ذات» ـ هنا ـ تأنيث «ذي» بمعنى صاحب ؛ فحذف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ، أي : عليم

__________________

(١) في أ : ولا يجوز أن يكون بمعنى الخبر.

(٢) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٢٣) كتاب الأدب باب إذا لم تستح فاصنع ما تشاء رقم (٦١٢٠) وأبو داود (٤ / ٢٥٢) رقم (٤٧٩٧) وابن ماجه (٢ / ١٤٠٠) كتاب الزهد باب الحياء (٤١٨٣) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٧٦).

٤٩٩

بالمضمرات صاحبة الصدور ، و «ذو» جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها ، وعدم انفكاكها عنها ، نحو أصحاب النار ، وأصحاب الجنة.

والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي ، والصوارف الموجودة فيه.

واختلفوا في الوقف على هذه اللفظة ، هل يوقف عليها بالتاء ، أو بالهاء؟.

فقال الأخفش ، والفرّاء ، وابن كيسان : الوقف عليها بالتاء اتباعا لرسم المصحف.

وقال الكسائي ، والجرميّ : يوقف عليها بالهاء ، لأنها تاء تأنيث ، كهي في صاحبة ، وموافقة الرسم أولى ؛ فإنّه قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء ، فإذا وقفنا ـ هنا ـ بالتاء ، وافقنا تلك اللغة ، والرسم ، بخلاف عكسه.

قوله تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (١٢٠)

قرأ العامة (تَسُؤْهُمْ ،) بالتأنيث ؛ مراعاة للفظ «حسنة».

وقرأ أبو عبد الرّحمن بالياء من تحت (١) ؛ لأنّ تأنيثها مجازيّ ، وقياسه أن يقرأ «وإن يصبكم سيئة» بالتذكير ـ أيضا ـ لكن لم يبلغنا عنه في ذلك شيء.

والمس : أصله باليد ، ثم يسمّى كل ما يصل إلى الشيء ماسّا ، على سبيل التشبيه ، يقال : فلان مسّه العصب والنصب ، قال تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨].

وقال الزمخشري : المسّ مستعار هاهنا بمعنى : الإصابة ، قال تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا) [التوبة : ٥٠].

وقال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩].

والمراد بالحسنة ـ هنا : منفعة الدنيا ، من صحة البدن ، وحصول الخصب والغنيمة ، والاستيلاء على الأعداء ، وحصول الألفة والمحبة بين المؤمنين.

والمراد بالسيّئة : أضدادها ، والسيئة : من ساء الشيء يسيء ـ فهو سيّىء ، والأنثى سيئة ـ أي : قبح ، ومنه قوله تعالى : (ساءَ ما يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٦] ، والسوء ضد الحسن ، وهذه الآية من تمام وصف المنافقين.

فصل

قال أبو العباس : وردت الحسنة على خمسة أوجه :

الأول : بمعنى : النصر والظفر ، قال تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [آل عمران : ١٢٠] أي : نصر وظفر.

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٣ / ٤٦ ، والدر المصون ٢ / ١٩٨.

٥٠٠