اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

رابعا : قوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله ، وبما لا يعرفون تفصيله ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل ، لم يبق لهذا الكلام فائدة.

وخامسها : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : «تفسير لا يسع أحدا جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير تعرفه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى».

وسئل مالك بن أنس عن قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] فقال : «الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة».

والرسوخ : الثبوت والاستقرار ثبوتا متمكّنا ، فهو أخص من مطلق الثّبات.

قال الشاعر : [الطويل]

١٣٢٨ ـ لقد رسخت في القلب منّي مودّة

لليلى أبت آياتها أن تغيّرا (١)

(آمَنَّا بِهِ) في محل نصب بالقول ، و «كلّ» مبتدأ ، أي : كله ، والجار بعده خبره ، والجملة نصب بالقول أيضا.

فإن قيل : ما الفائدة في لفظ «عند» ولو قال : كل من ربنا لحصل المقصود؟

فالجواب : أن الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد من التأكيد.

فإن قيل : لم حذف المضاف إليه من «كلّ»؟

فالجواب : لأن دلالته على المضاف قوية ، فالأمن من اللّبس بعد الحذف حاصل.

قوله : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) مدح للذين قالوا : آمنا ، قال ابن عباس ومجاهد والسّدّيّ : بقولهم آمنّا سماهم الله راسخين في العلم ، فرسوخهم في العلم قولهم : آمنا به ـ أي المتشابه ـ كلّ من عند ربنا ـ المحكم والمتشابه ، وما علمناه ، وما لم نعلم ـ.

وقيل : الراسخون : علماء أهل الكتاب ـ كعبد الله بن سلام (٢) وأصحابه ـ لقوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) [النساء : ١٦٢] يعني الدارسين علم التوراة ، وسئل مالك بن أنس عن الراسخين في العلم فقال : العالم العامل بما علم ، المتّبع له.

وقيل : الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه.

(وَما يَذَّكَّرُ) يتّعظ بما في القرآن (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول.

قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(٨)

اعلم أنه تعالى لمّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون : (آمَنَّا بِهِ) ، حكى أنهم

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٢ / ٣٨٧ ، القرطبي ٤ / ١٤ ، فتح القدير ١ / ٣٦٣ ، الدر المصون ١ / ١٦.

(٢) في أكعبد الله بن سلام وأصحابه.

٤١

يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون ؛ لدلالة الأول عليه ، كما في قوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩١].

قال القرطبيّ : ويجوز أن يكون المعنى : قل يا محمد.

قوله : (لا تُزِغْ) العامة على ضمّ حرف المضارعة ، من أزاغ يزيغ ، و (قُلُوبُنا) مفعول به ، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح : «لا تزغ قلوبنا» ـ بفتح التاء (١) ، ورفع «قلوبنا» ، وقرأ بعضهم (٢) كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، وعلى القراءتين ، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه ، والتذكير والتأنيث باعتبار تأنيث الجمع وتذكيره ، والنهي في اللفظ للقلوب ، وفي المعنى دعاء لله تعالى ـ أي : لا تزغ قلوبنا فتزيغ ، فهو من باب «لا أرينّك ههنا».

وقول النابغة : [البسيط]

١٣٢٩ ـ لا أعرفن ربربا حورا مدامعها

 .......... (٣)

قوله : (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ،) «بعد» منصوب ب «لا تزغ» ، و «إذ» هنا خرجت عن الظرفية ؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل ، وإذا خرجت عن الظرفية ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها ، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكم ، ألا ترى إلى قوله : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) [المائدة : ١١٩] و (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) [الانفطار : ١٩] ـ قراءة من رفع «يوم» في الموضعين ـ.

وقول الآخر : [الطويل]

١٣٣٠ ـ ..........

على حين الكرام قليل (٤)

وقوله : [الطويل](٥)

١٣٣١ ـ على حين من تلبث عليه ذنوبه

 ...........(٦)

__________________

(١) ينظر : الشواذ ١٩ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٠٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٠٣ ، والدر المصون ٢ / ١٦.

(٢) قرأ بها السلمي كما في الشواذ ١٩ ، وينظر السابق.

(٣) هذا صدر البيت وعجزه :

كأن أبكارها نعاج دوار

ينظر : ديوانه ص ٥٥ والكتاب ٣ / ٥١١ ، وشرح الألفية لابن الناظم ص ٦٩٢ ، والمغني ١ / ١٩٩ وشرح شواهده ٢ / ٦٢٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٤٥ ، وشرح الأشموني ٤ / ٠٣ ، والدر المصون ٢ / ١٦.

(٤) البيت لموبال بن جهم ونسب لمبشر بن هذيل الفزاري وهذا جزء بيت وتمامه : ألم تعلمي يا عمرك الله أنني ... كريم. ينظر : أمالي القالي ١ / ٦٣ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٣٧ ، والهمع ١ / ٢١٨ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٥٧ ، والدرر اللوامع ١ / ١٨٧ ، والدر المصون ٢ / ١٦.

(٥) في أ : يكتب.

(٦) صدر بيت للبيد بن ربيعة العامري وعجزه : يجد فقدها وفي المقام تدابر ينظر ديوانه ٢١٧ والخزانة ٣ / ـ

٤٢

وقوله : [الطويل]

١٣٣٢ ـ على حين عاتبت المشيب على الصّبا

 .......... (١)

وقوله : [الطويل]

١٣٣٣ ـ ألا ليت أيّام الصّفاء جديد

 .......... (٢)

كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب ب «ليت» ، ومع ذلك هي مضافة للجمل التي بعدها.

فصل

هذه الآية تدل على أن الزيغ والهداية خلق الله تعالى ، قال أهل السنة : ذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الكفر ، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين ، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى.

فإن كانت تلك الداعية [داعية](٣) الكفر ، فهي الخذلان ، والإزاغة ، والصد ، والختم ، والرّين ، والقسوة والوقر والكنان ، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.

وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان ، فهي التوفيق ، والإرشاد ، والهداية ، والتسديد ، والتثبيت ، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرّحمن ، إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه» (٤) ، والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهمّ مقلّب القلوب

__________________

ـ ٦٤٩ والهمع ٢ / ٦٢ والإنصاف ٣ / ٢٩١ والكتاب ٣ / ٧٥ والمذكر والمؤنث ١ / ٤٥٠ ، والدرر اللوامع ٢ / ٧٧ ، والدر المصون ٢ / ١٦.

(١) صدر بيت للنابغة الذبياني وتمامه : وقلت ألما أصح والشيب وازع ينظر ديوانه ٥١ والكتاب ٢ / ٣٣٠ ، وابن يعيش ٣ / ١٦ ، ٨ / ١٣٦ والمنصف ١ / ٥٨ وابن عقيل ٢ / ٥٩ ، وأمالي ابن الشجري ١ / ٤٦ ، ٢ / ١٣٢ والخزانة ٣ / ١٥١ ، ومجاز القرآن ٢ / ٩٣ والتصريح ٢ / ٤٢ ، والأشموني ٢ / ٢٥٦ والمغني ٢ / ٥١٧ ، والعيني ٢ / ٤٠٦ ، والدرر ١ / ١٨٧ ، والشذور ١ / ٧ وروح المعاني ١٢ / ٩٢ ، والاستغناء في أحكام الاستثناء ص ١٨٣ ، والإنصاف ١ / ٢٨٢ ، والإفصاح ص ٢٤٧ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٣٣ والإيضاح في شرح المفصل ١ / ٤٥٨ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٥٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨١٦ و ٨٨٣ ، والدر المصون ٢ / ١٧.

(٢) البيت لجميل بن معمر وتمامه :

ألا ليت ريعان الشباب جديد

ودهرا تولى يا بثين يعود

ينظر ديوانه (٢٥) ومجالس ثعلب ٢ / ٥٢٩ ، وأمالي القالي ٢ / ٣٣٢ ، والمذكر والمؤنث ١ / ٢٧٠ ، والإفصاح ص ١٦٥ وضرائر الشعر ص ١٧٩. والدر المصون ٢ / ١٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٢٦) وابن أبي عاصم (١ / ٩٩) وابن عساكر (٦ / ٦٥ ـ تهذيب) وابن عدي في «الكامل» (٧ / ٢٩٥٧).

٤٣

والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك» (١) ومعناه ما ذكرنا ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرّياح ظهرا لبطن» (٢).

وقالت المعتزلة : الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل الله ؛ لقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] ، وهذا صريح في أن ابتداء الزيغ منهم.

والجواب : أن مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لطفا ، وجب عليه ذلك وجوبا لو تركه لبطلت إلاهيته ، ولصار محتاجا ، والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجة إلى طلبه بالدعاء؟

فإن قيل : فما الجواب عن قوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)؟

قلنا : لا يبعد أن الله تعالى يزيغهم ابتداء ، فعند ذلك يزيغون ، ثم يترتب على الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى ، ولا منافاة فيه.

وقوله : (بَعْدَ إِذْ هَدانَا ،) أي : جعلتنا مهتدين ، وهذا صريح أيضا في أن حصول الاهتداء في القلب بتخليق الله تعالى.

قوله : (وَهَبْ لَنا) الهبة : العطيّة ، حذفت فاؤها ، وكان حق عين المضارع منها كسر العين منه ، إلا أن ذلك منعه كون العين حرف حلق ، فالكسرة مقدّرة ، فلذلك اعتبرت تلك الكسرة المقدرة فحذفت لها الواو وهذا نحو : «يضع» و «يسع» ، لكون اللام حرف حلق ، ويكون «هب» فعل أمر بمعنى اعتقد ، فيتعدى لمفعولين.

كقوله : [المتقارب]

١٣٣٤ ـ ...........

وإلّا فهبني امرأ هالكا (٣)

وحينئذ لا يتصرف.

ويقال أيضا : وهبني الله فداك ، أي : جعلني ، ولا يتصرف أيضا عن الماضي بهذا المعنى.

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٤ / ٣٢١) والبخاري في «الأدب المفرد» (٦١٤ ، ٦٨٣) وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم.

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣٤) المقدمة (٨٨) وأحمد (٤ / ٤٠٨ ـ ٤٠٩) وابن أبي عاصم (١ / ١٠٢) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧٥٢ ، ٧٥٣) والسهمي في «تاريخ جرجان» (١٤٣) عن أبي موسى الأشعري وأخرجه البيهقي في الشعب (٧٥١) وابن النجار كما في الكنز (١٢٢٩) عن أنس بن مالك.

(٣) جزء بيت لابن همام السلولي وهو بتمامه :

فقلت أجرني أبا مالك

وإلا فهبني امرأ هالكا

ينظر الخصائص ٢ / ١٨٦ ، والمغني ٩٤ ، والعيني ٢ / ٣٧٨ والتصريح على التوضيح ١ / ٢٤٨ والهمع ١ / ١٤٩ والدرر ١ / ١٣١ والأشموني ٢ / ٢٤ والشذور (٤٣٣) رقم (١٨٢) وشرح ابن عقيل ص ٥٩ ، وشرح المرادي ١ / ٣٧٧ واللسان (وهب) وشرح التصريح ١ / ٢٤٨ والدر المصون ٢ / ١٧.

٤٤

قوله : «من لدنك» متعلق ب «هب» ، و «لدن» ظرف ، وهي لأول غاية زمان أو مكان ، أو غيرها من الذوات نحو : من لدن زيد ، فليست مرادفة ل «عند» ، بل قد تكون بمعناها ، وبعضهم يقيدها بظرف المكان ، وتضاف لصريح الزمان.

قال : [الرجز]

١٣٣٥ ـ تنتهض الرّعدة في ظهيري

من لدن الظّهر إلى العصير (١)

ولا يقطع عن الإضافة بحال ، وأكثر ما تضاف إلى المفردات ، وقد تضاف إلى «أن» وصلتها ؛ لأنهما بتأويل مفرد.

قال : [الطويل]

١٣٣٦ ـ وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا

قرابة ذي قربى ولا حقّ مسلم (٢)

أي : لدن ولايتك إيانا ، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية.

كقوله : [الطويل]

١٣٣٧ ـ وتذكر نعماه لدن أنت يافع

إلى أنت ذو فودين أبيض كالنّسر (٣)

وقد تضاف للفعلية.

كقوله : [الطويل]

١٣٣٨ ـ لزمنا لدن سالمتمونا وفاقكم

فلا يك منكم للخلاف جنوح (٤)

وقال آخر : [الطويل]

١٣٣٩ ـ صريع غوان راقهنّ ورقنه

لدن شبّ حتّى شاب سود الذّوائب (٥)

وفيها لغتان : الإعراب ، وهي لغة قيس ، وبها قرأ أبو بكر (٦) عن عاصم (مِنْ لَدُنْهُ) [النساء : ٤٠] ـ بجر النون ـ ، وقوله : [الرجز]

__________________

(١) البيت قيل : لراجز من طيىء ينظر الهمع ١ / ٢١٥ ، والدرر ١ / ١٨٤ والأشموني ٢ / ٢٦٢ وشرح ابن عقيل ٢ / ٦٨ وشرح شواهد ابن عقيل ص ١٦٣ والدر المصون ٢ / ١٨.

(٢) ينظر البيت في خزانة الأدب ٧ / ١١١ ، والدرر ٣ / ١٣٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٥. والدر المصون ٢ / ١٨.

(٣) قد نسب البيت إلى رجل من طيىء. ينظر خزانة الأدب ٧ / ١١١ والألفية للمرادي ٢ / ٢٧٤ والارتشاف ٢ / ٢٦٥ والهمع ١ / ٢١٥ والدرر اللوامع ١ / ١٨٤ والأشموني ٢ / ٢٦٢ والدر المصون ٢ / ١٨.

(٤) ينظر مغني اللبيب ص ٤٢١ ؛ شرح شواهد المغني ص ٨٣٦ والدر المصون ٢ / ١٨.

(٥) البيت للقطامي ينظر ديوانه (٤٤) خزانة الأدب ٧ / ٨٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٤٥٥ ، وسمط اللآلي ص ١٣٢ ، والدرر ٣ / ١٣٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٢٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٨١ الأشباه والنظائر ٤ / ٤٧ ، مغني اللبيب ص ١٥٧ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣١٨ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٥ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٤٥ ، وتخليص الشواهد ص ٢٦٣ والدر المصون ٢ / ١٨.

(٦) ينظر السبعة ٣٨٨ ، وستأتي في الكهف آية ٢.

٤٥

١٣٤٠ ـ ...........

من لدن الظّهر إلى العصير (١)

ولا تخلو من «من» غالبا ، قاله ابن جني ، ومن غير الغالب ما تقدم من قوله :

١٣٤١ ـ .......... لدن أنت يافع(٢)

 ..........

وإن وقع بعدها لفظ «غدوة» خاصة ـ جاز نصبها ، ورفعها ، فالنصب على خبر «كان» أو التمييز والرفع على إضمار «كان» التامة ، ولو لا هذا التقدير لزم إفراد «لدن» عن الإضافة ، وقد تقدم أنه لا يجوز ، فمن نصب «غدوة» قوله : [الطويل]

١٣٤٢ ـ فما زال مهري مزجر الكلب منهم

لدن غدوة حتّى دنت لغروب (٣)

واللغة المشهورة بناؤها ؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمال واحد ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف «عند» ، و «لدن» فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا ؛ إذ يكون فضلة ، وعمدة ، وغاية وغير غاية ، بخلاف «لدن».

وقال بعضهم : «علة بنائها كونها دالة على الملاصقة ، ومختصة بها ، بخلاف «عند» فإنها لا تدل على الملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف (٤) ، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضع لذلك ، فلم يوضع ، كما قالوا في اسم الإشارة ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان ب «لدن» المفتوحة اللام ، المضمومة الدال ، الواقع آخرها نون ، وأما بقية لغاتها فهي ـ فيها ـ مبنية عند جميع العرب ، وفيها عشر لغات : أشهرها الأولى ، ولدن ، ولدن ـ بفتح الدال وكسرها ـ ولدن ، ولدن ـ بفتح اللام وضمها ، مع سكون الدال وكسر النون ـ ولدن ـ بالضم والسكون وفتح النون ـ ، ولد ، ولد ـ بفتح اللام وضمها مع سكون الدال ، ولد ـ بفتح اللام وضم الدال ولت ـ بإبدال الدال تاء ساكنة ، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب ردّ النون.

قوله : (أَنْتَ الْوَهَّابُ) «أنت» يحتمل أن يكون مبتدأ ، وأن يكون ضمير الفصل ، وأن يكون تأكيدا لاسم «إنّ».

فصل

اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يجعل قلوبهم مائلة إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم برقم ١٣٣٧.

(٣) البيت لأبي سفيان بن حرب ينظر الدرر ٣ / ١٣٨ ، الحيوان ١ / ٣١٨ جواهر الأدب ص ١٢٨ ؛ وشرح ابن عقيل ص ٣٩٤ ، ولسان العرب (لدن) ، وشرح الأشموني ٢ / ٣١٨ وشرح التصريح ٢ / ٤٠٤٦ والمقاصد النحوية ٣ / ٤٢٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٥ والدر المصون ٢ / ١٨.

(٤) في أ : الظرف.

٤٦

وقال «رحمة» ؛ ليشمل جميع أنواع الرحمة ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيم إلا هو أكد ذلك بقوله : (مِنْ لَدُنْكَ) تنبيها للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه.

وقوله : (أَنْتَ الْوَهَّابُ) كأن العبد يقول : إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ ـ حقير ـ بالنسبة إلى كمال كرمك ، وغاية جودك ورحمتك ؛ فإنك أنت الوهاب.

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٩)

قرأ أبو حاتم (١)(جامِعُ النَّاسِ) بالتنوين والنصب ـ و «ليوم» اللام للعلة ، أي : لجزاء يوم ، وقيل : هي بمعنى «في» ، ولم يذكر المجموع لأجله ، و «لا ريب» صفة ل «يوم» ، أي : لا شك فيه ، فالضمير في «فيه» عائد عليه ، وأبعد من جعله عائدا على الجمع المدلول عليه ب «جامع» ، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى ، أو على العرض.

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) يجوز أن يكون من تمام حكاية قول الراسخين ، فيكون التفاتا من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيان بالاسم الظاهر ؛ دلالة على تعظيمه ، ويجوز أن يكون مستأنفا من كلام الله تعالى ، فلا التفات حينئذ.

و «الميعاد» مصدر ، وياؤه منقلبة عن واو ، لانكسار ما قبلها كميقات.

فإن قيل : لم قالوا ـ في هذه الآية ـ : إن الله لا يخلف الميعاد ، وقالوا ـ في تلك الآية ـ إنك لا تخلف الميعاد؟

فالجواب : أن هذه الآية في مقام الهيبة ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر ؛ لينتصف للمظلومين من الظالمين ، فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام ، وفي تلك الآية مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله ، ويتجاوز عن سيئاته ، فليس مقام الهيبة ، فلا جرم قال : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ).

فصل

اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصّون عن الزيغ ، وأن يخصّهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ؛ فإنها منقضية ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة ؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ووعدك حق ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ، ومن وفقته وهديته ورحمته بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.

فصل

احتج الجبائيّ ـ بهذه الآية ـ على القطع بوعيد الفساق ، قال : لأن الوعيد داخل

__________________

(١) وقرأ بها الحسن بن أبي الحسن ومسلم بن جندب.

انظر : الشواذ ١٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٠٤ ، والدر المصون ٢ / ١٩.

٤٧

تحت لفظ الوعد ؛ لقوله تعالى : (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] ، والموعد والميعاد واحد ، وقد أخبر ـ في هذه الآية ـ أنه لا يخلف الميعاد.

والجواب : لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقا ، بل ذلك مشروط بعدم العفو ، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاق ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه توعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ، ويكون قوله : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] وقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] ، فيكون من باب التهكم ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى.

وذكر الواحديّ في البسيط ـ أنه يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ؛ لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ؛ لأنهم يمدحون بذلك ، قال : [الطويل]

١٣٤٣ ـ إذا وعد السّرّاء أنجز وعده

وإن أوعد الضّرّاء فالعفو مانعه (١)

وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عبيد : قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد فما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال : أقول : إنّ الله تعالى وعد وعدا وأوعد إيعادا ، فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده ، فقال أبو عمرو بن العلاء : إنك رجل أعجم ، لا أقول : أعجم اللسان ، ولكن أعجم القلب ؛ إن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، وأنشد : [الطويل]

١٣٤٤ ـ وإنّي إن أوعدته أو وعدته

لمكذب إيعادي ومنجز موعدي (٢)

فقال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو ، فهل يسمّى الله مكذب نفسه؟ فقال : لا ، فقال له عمرو بن عبيد : فقد سقطت حجتك (٣).

قال ابن الخطيب : «وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قست الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ؛ وذلك لأن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره ، فذلك هو اللؤم ، فظهر الفرق.

__________________

(١) البيت لأبي الحسن السري ينظر ديوان الرفاء ٢ / ٣٦٨ ويتيمة الدهر ٢ / ١٣٣ ومفاتيح الغيب ٧ / ١٨٣ والبحر ٢ / ٤٠٤ ، ومحاسن التأويل ٤ / ٥٥.

(٢) البيت لعامر بن الطفيل ينظر ديوانه ص ٥٨ وغرائب القرآن ٣ / ١٣٣ والعمدة ٢ / ١ واللسان (وعد) والتاج ٢ / ٥٣٦ و ٥٣٧.

(٣) ينظر التفسير الكبير للفخر الرازي ٧ / ١٥٩. المحرر الوجيز ١ / ٤٠٥.

٤٨

وأما قولك : لو لم يفعل لصار كاذبا ، أو مكذب نفسه.

فالجواب : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط ، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى».

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ)(١٠)

لما حكى دعاء المؤمنين وتضرّعهم حكى كيفية حال الكافرين ، وشدة عقابهم ، وفيهم قولان :

أحدهما : أن المراد بهم وفد نجران ؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسول الله حقا ، ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال ، فبيّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذاب الله.

الثاني : أن اللفظ عام ، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ.

قوله : (لَنْ تُغْنِيَ) العامة (١) على «تغني» بالتاء من فوق ؛ مراعاة لتأنيث الجميع ، وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن (٢) بالياء من تحت ـ بالتذكير ـ على الأصل ، وسكّن الحسن ياء «تغني» ؛ استثقالا للحركة على حرف العلة ، وذهابا به مذهب الألف ، وبعضهم يخص هذا بالضرورة.

قوله : (مِنَ اللهِ) في «من» هذه أربعة أوجه :

أحدها : أنها لابتداء الغاية ـ مجازا ـ أي : من عذاب الله وجزائه.

الثاني : أنها بمعنى «عند» قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤] ، أي : عند جوع ، وعند خوف ، وهذا ضعيف عند النحويين.

الثالث : أنها بمعنى بدل.

قال الزمخشري : قوله : (مِنَ اللهِ) مثل قوله : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [يونس : ٣٦] ، والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعته شيئا ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق ومنه [قوله](٣) : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» (٤) ، أي : لا

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٤٠٥ ، والدر المصون ٢ / ٢ / ١٩.

(٢) وقرأ بها علي.

انظر : الكشاف ١ / ٣٣٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٠٥ ، والدر المصون ٢ / ١٩.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه البخاري ٢ / ٣٧٨ كتاب الأذان ، باب الذكر بعد الصلاة (٨٤٤) من حديث المغيرة بن شعبة ومسلم في الصلاة ، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع (٢٠٦ ـ ٤٧٨) من حديث ابن عباس (٢ / ٤٣١ ، ٤٣٢ شرح النووي).

٤٩

ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلا ، أي : بدل طاعتك وما عندك ، وفي معناه قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ : ٣٧] ، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يأباه ؛ فإن عامة ما أورده يتأوّله الجمهور.

ومنه قوله : [الرجز :]

١٣٤٥ ـ جارية لم تأكل المرقّقا

ولم تذق من البقول الفستقا (١)

وقول الآخر : [الكامل]

١٣٤٦ ـ أخذوا المخاض من الفصيل غلبّة

ظلما ، ويكتب للأمير أفيلا (٢)

وقوله تعالى : (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) [الزخرف : ٦٠] ، وقوله : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨]؟

الرابع : أنها تبعيضية ، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنيا على إعراب «شيئا» مفعولا به ، بمعنى : لا تدفع ، ولا تمنع ، قال : فعلى هذا يجوز أن يكون «من» في موضع الحال من «شيئا» ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت له ، فلما تقدم انتصب على الحال ، وتكون «من» إذ ذاك ـ للتبعيض.

قال شهاب الدين (٣) : «وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة ؛ لأن «من» التبعيضية تؤوّل بلفظ بعض مضافة لما جرّته «من» ألا ترى أنك إذا قلت : رأيت رجلا من بني تميم ، معناه : بعض بني تميم ، وأخذت من الدراهم : أي : بعض الدراهم ، وهنا لا يتصوّر ذلك أصلا ، وإنما يصح جعله صفة ل «شيئا» إذا جعلنا «من» لابتداء الغاية ، كقولك : عندي درهم من زيد ، أي : كائن أو مستقر من زيد ، ويمتنع فيها التبعيض ، والحال كالصفة في المعنى ، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله «من الله» حالا من «شيئا» ، وأبو حيّان تبع أبا البقاء في ذلك ، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك ـ قدّر مضافا وضّح به قوله ، والتقدير : شيئا من عذاب الله ، فكان ينبغي أن يتبعه ـ في هذا الوجه ـ مصرّحا بما يدفع هذا الذي ذكرته». و «شيئا» إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية ، أي : شيئا من الإغناء.

قوله : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) هذه الجملة تحتمل وجهين :

__________________

(١) البيت لأبي نخيلة يعمر ينظر المخصص ١١ / ١٣٩ والجنى الداني (٣١٦) والمغني ١ / ٣٢٠ والعمدة ٢ / ٢٤١ واللسان (بقل) وابن عقيل ص ٩٩ والمزهر ٢ / ٥٠٣ وشرح شواهد ابن عقيل ص ١٤٦ والدر المصون ٢ / ٢٠.

(٢) البيت للراعي النميري ينظر ديوانه ص ٢٤٢ ، وتذكرة النحاة ص ٣١١ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٦٠٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٣٦ ، وجواهر الأدب ص ٢٧٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٨٨ ، وشرح المفصل ٦ / ٤٤ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٠.

٥٠

أحدهما : أن تكون مستأنفة.

والثاني : أن تكون منسوقة على خبر «إنّ» و «هم» تحتمل الابتداء والفصل.

وقرأ العامة «وقود» بفتح الواو ، والحسن بضمّها (١) وتقدم تحقيق ذلك في البقرة ، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضا ، وحيث كان مصدرا فلا بد من تأويله ، فلا حاجة إلى إعادته.

فصل

اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما ينتفع به ، ثم تجتمع عليه الأسباب المؤلمة.

الأول هو المراد بقوله : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ؛) فإن المرء ـ عند الخطوب ـ يفزع إلى المال والولد ؛ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها في دفع النوائب ، فبيّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا ، وإذا تعذّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمال والولد ـ وهما أقرب الطرق ـ فما عداه بالتعذّر أولى ، ونظيره : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٨ ، ٨٩].

وأما الثاني من أسباب كمال العذاب ـ وهو اجتماع الأسباب المؤلمة ـ فهو المراد بقوله : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) وهذا هو النهاية في العذاب ؛ فإنه لا عذاب أعظم من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس.

قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١١)

في كاف «كدأب» وجهان :

أحدهما : أنها في محل رفع ؛ خبرا لمبتدأ مضمر ، تقديره : دأبهم ـ في ذلك ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) وبه بدأ الزمخشريّ ، وابن عطية.

الثاني : أنها في محل نصب ، وفي الناصب لها تسعة أقوال :

أحدها : أنها نعت لمصدر محذوف ، والعامل فيه «كفروا» ، تقديره : إنّ الذين كفروا كفرا كدأب آل فرعون ، أي : كعادتهم في الكفر ، وهو رأي الفرّاء (٢).

وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فلزم الفصل بين أبعاض العلة بالأجنبيّ ، وهو لا يجوز.

__________________

(١) وقرأ بها مجاهد وجماعة.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٠٥ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٥ ، والدر المصون ٢ / ٢١.

(٢) ينظر معاني القرآن ١ / ١٩١.

٥١

الثاني : أنه منصوب ب «كفروا» لكن مقدر ؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه.

الثالث : أن الناصب مقدّر ، مدلول عليه بقوله : (لَنْ تُغْنِيَ) أي : بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد كعادة آل فرعون في ذلك. والمعنى : إنكم قد عرفتم ما حلّ بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل ـ من العذاب المعجل الذي عنده ـ لم ينفعهم مال ولا ولد.

الرابع : أنه منصوب بلفظ «وقود» ، أي : توقد النار بهم كما توقد بآل فرعون ، كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشريّ ، وفيه نظر ؛ لأن الوقود ـ على القراءة المشهورة ـ الأظهر فيه أنه اسم لما يوقد به ، وإذا كان اسما فلا عمل له ، فإن قيل : إنه مصدر على قراءة الحسن صحّ ، ويكون معنى الدأب : الدؤوب ـ وهو اللّبث والدوام ، وطول البقاء في الشيء ـ وتقدير الآية : «وأولئك هم وقود كدأب آل فرعون».

[أي : دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون](١).

الخامس : أنه منصوب بنفس (لَنْ تُغْنِيَ) أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، ذكره الزمخشري ، وضعّفه أبو حيّان (٢) بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة ـ التي هي قوله : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) قال : «على أي التقديرين اللّذين قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر «إنّ» أو على الجملة المؤكّدة ب «إنّ» قال : فإن جعلتها اعتراضية ـ وهو بعيد ـ جاز ما قال الزمخشريّ».

السادس : أن يكون العامل فيها فعلا مقدّرا ، مدلولا عليه بلفظ «الوقود» ، تقديره : توقد بهم كعادة آل فرعون ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، قاله ابن عطية.

السابع : أن العامل يعذّبون كعادة آل فرعون ، يدل عليه سياق الكلام.

الثامن : أنه منصوب ب (كَذَّبُوا بِآياتِنا ،) والضمير في «كذّبوا» ـ على هذا ـ لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أي : كذبوا تكذيبا كعادة آل فرعون في ذلك التكذيب.

التاسع : أن العامل فيه قوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ ،) أي : فأخذهم الله أخذا كأخذه آل فرعون ، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل ، وتارة إلى المفعول ، والمعنى : كدأب الله في آل فرعون ، ونظيره قوله تعالى : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥] أي : كحبّهم لله ، وقال : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) [الإسراء : ٧٧] والمعنى : سنتي فيمن أرسلنا قبلك ، وهذا مردود ؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها ، لا يجوز قمت زيدا فضربت وأما زيدا فاضرب ، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٠٦.

٥٢

وقد حكى بعض النحاة ـ عن الكوفيين ـ أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف ، فعلى هذا يجوز هذا القول ، وفي كلام الزمخشريّ سهو ؛ فإنه قال (١) : ويجوز أن ينتصب محلّ الكاف ب (لَنْ تُغْنِيَ) أو ب «خالدون» ، [أي : لم تغن عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، أو هم فيها خالدون كما يخلّدون](٢).

وليس في لفظ الآية الكريمة «خالدون» ، إنما نظم الآية (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) ، ويبعد أن يقال : أراد «خالدون» مقدّرا ، يدل عليه السياق ، اللهم إلا إن فسرنا الدأب باللّبث والدوام وطول البقاء.

وقال القفّال : «يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى ، والعادة المضافة إلى الكفار ، كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعادة من قبلهم في إيذاء رسلهم وعادتنا أيضا في إهلاك الكفار ، كعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين ، والمقصود ـ على جميع التقديرات ـ نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إيذاء الكفار ، وبشارته بأن الله سينتقم منهم».

الدأب : العادة ، يقال : دأب ، يدأب ، أي : واظب ، ولازم ، ومنه (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) [يوسف : ٤٧] ، أي : مداومة.

وقال امرؤ القيس : [الطويل]

١٣٤٧ ـ كدأبك من أم الحويرث قبلها

وجارتها أمّ الرّباب بمأسل (٣)

وقال زهير : [الطويل]

١٣٤٨ ـ لأرتحلن بالفجر ثمّ لأدأبن

إلى اللّيل إلّا أن يعرّجني طفل (٤)

وقال الواحديّ : «الدأب : الاجتهاد والتعب ، يقال : صار فلان يومه كله يدأب فيه ، فهو دائب ، أي : اجتهد في سيره ، هذا أصله في اللغة ، ثم [يصير](٥) الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة ؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله».

وكذا قال الزمخشريّ ، قال : «مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه ، فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله».

__________________

(١) وعبارة الزمخشري : ويجوز أن ينتصب محل الكاف ب «لَنْ تُغْنِيَ» ، أو ب «الوقود» أي ؛ لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، أو توقد بهم النار كما توقد بهم ، تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك تريد : كظلم أبيك. ينظر الكشاف ١ / ٣٤٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) تقدم برقم ٥٩.

(٤) ينظر ديوانه ٨٤ ، واللسان (طفل) ، وأساس البلاغة ص ٣٩٢ ، والتاج ٧ / ٤١٧ ، والدر المصون ٢ / ٢٢.

(٥) سقط في أ.

٥٣

ويقال : دأب ، ودأب ـ بفتح الهمزة وسكونها ـ وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأن وكالمعز والمعز وقرأ حفص (١) : (سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) بالفتح.

قال الفرّاء : «والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنّعل والنّعل ، والنّهر والنّهر ، والشّأم والشّأم.

وأنشد : [البسيط]

١٣٤٩ ـ قد سار شرقيّهم حتّى أتوا سبأ

وانساح غربيّهم حتّى هوى الشّأما (٢)

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يجوز أن يكون مجرورا نسقا على (آلِ فِرْعَوْنَ) ، وأن يكون مرفوعا على الابتداء ، والخبر قوله ـ بعد ذلك ـ «كذبوا بآيات الله» ، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقا ، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكاف في محل رفع ، فقال : «فعلى هذا ـ أي : على كونها مرفوعة المحل ؛ خبرا لمبتدأ مضمر ـ يجوز في (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وجهان :

أحدهما : الجر ، بالعطف أيضا ، و ـ «كذّبوا» في موضع الحال ، و «قد» معه مضمرة ، ويجوز أن يكون مستأنفا لا موضع له ، ذكر لشرح حالهم.

الوجه الآخر : أن يكون الكلام تمّ على (آلِ فِرْعَوْنَ) و (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مبتدأ ، و «كذّبوا» خبره».

قوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبرا عن «الّذين» إن قيل : إنه مبتدأ ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضا أنه يكون تفسيرا للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ، وما فعل بهم؟ فقيل : كذبوا بآياتنا ، فهو جواب سؤال مقدر ، وأن يكون حالا ، وفي قوله : (بِآياتِنا) التفات ؛ لأن قبله (مِنَ اللهِ) وهو اسم ظاهر.

والمراد بالآيات : المعجزات ، والباء في «بذنوبهم» يجوز أن تكون سببية ، أي : أخذهم بسبب ما اجترحوا ، وأن تكون للحال ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب ، غير تائبين منها والذنب في الأصل ـ التّلو والتابع ، وسمّيت الجريمة ذنبا ؛ لأنها يتلو ، أي : يتبع عقابها فاعلمه والذّنوب : الدّلو ؛ لأنها تتلو الحبل في الجذب ، وأصل ذلك من ذنب الحيوان ؛ لأن يذنبه أي : يتلوه ، يقال : ذنبه يذنبه ذنبا ، أي : تبعه ، واستعمل في الأخذ ؛ لأن من بين يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلّص. قوله (شَدِيدُ الْعِقابِ) كقوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) [البقرة : ٢٠٢] ، أي : شديد عقابه وقد تقدم تحقيقه.

__________________

(١) ينظر السبعة ٣٤٩ ، وستأتي في يوسف آية ٤٧.

(٢) ينظر الدر المصون ٢ / ٢٣.

٥٤

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٢)

قرأ الأخوان (١) : «سيغلبون» و «يحشرون» ـ بالغيبة ـ والباقون بالخطاب ، وهما واضحان كقولك : قل لزيد : قم ؛ على الحكاية ، وقل لزيد : يقوم وقد تقدم نحو من هذا في قوله: (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ).

وقال أبو حيّان : ـ في قراءة الغيبة ـ : «الظاهر أنّ الضمير للذين كفروا ، وتكون الجملة ـ إذ ذاك ليست محكية ب «قل» بل محكية بقول آخر ، التقدير : قل لهم قولي : سيغلبون وإخباري أنهم سيقع عليهم الغلبة ، كما قال : «قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف» فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيغلبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيغلبون».

وهذا الذي قاله سبقه إليه الزمخشريّ ، فأخذه منه ، ولكن عبارة الزمخشريّ أوضح ، قال رحمه‌الله : فإن قلت : أيّ فرق بين القراءتين ـ من حيث المعنى؟

قلت معنى القراءة بالتاء ـ أي من فوق ـ الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنّم ، فهو إخبار بمعنى : ستغلبون وتحشرون ، فهو كائن من نفس المتوعّد به ، وهو الذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخبر به من وعيدهم بلفظه ، كأنه قال : أدّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك : «سيغلبون ويحشرون».

وجوّز الفرّاء (٢) وثعلب أن يكون الضمير في «سيغلبون ويحشرون» لكفار قريش ، ويراد بالذين كفروا اليهود ، والمعنى : قل لليهود : ستغلب قريش. وهذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط.

قال مكيّ : «ويقوّي القراءة بالياء ـ أي من تحت ـ إجماعهم على الياء في قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] ، والتاء يعني من فوق أحبّ إليّ ، لإجماع الحرميّين (٣) وعاصم وغيرهم على ذلك».

قال شهاب الدين (٤) : ومثل إجماعهم على قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) [الأنفال : ٣٨] إجماعهم على قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا) [النور : ٣٠] ، وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ) [الجاثية : ١٤] ، وقال الفرّاء : «من قرأ بالتاء جعل

__________________

(١) انظر : السبعة ٢٠١ ، والكشف ١ / ٣٣٥ ، والحجة ٣ / ١٧ ، وحجة القراءات ١٥٣ ، والعنوان ٧٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٨ ، وشرح شعلة ٣٠٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٤٦ ، وإتحاف ١ / ٤٦٩.

(٢) ينظر معاني القرآن ١ / ١٩١.

(٣) الحرميان هما الإمامان نافع وابن كثير رحمهما‌الله تعالى.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٤.

٥٥

اليهود والمشركين داخلين في الخطاب ، ثم يجوز ـ في هذا المعنى ـ التاء والياء ، كما تقول في الكلام : قل لعبد الله : إنه قائم ، وإنك قائم».

وفي حرف عبد الله : «قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف» ، ومن قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود ، وأنّ الغلبة تقع على المشركين ، كأنه قيل : قل يا محمد لليهود سيغلب المشركون ، ويحشرون ، فليس يجوز في هذا المعنى إلّا الياء لأن المشركين غيب.

فصل في سبب النزول

في سبب نزول الآية أوجه :

الأول : قال ابن إسحاق ـ ورواه سعيد بن جبير ، وعكرمة عن ابن عباس ـ : لما أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا ببدر ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع ، وقال : يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، فأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم ، فقالوا : يا محمد ، لا يغرّنّك أنك لقيت قوما أغمارا ـ لا علم لهم بالحرب ـ فأصبت منهم فرصة ، وإنا ـ والله ـ لو قاتلناك لعرفت أنّا نحن الناس ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ،) يعني اليهود «ستغلبون» تهزمون ، «وتحشرون» في الآخرة (إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي : الفراش.

الثاني : قال الكلبيّ عن ابن عباس ـ أيضا ـ : إن يهود أهل المدينة ـ لما شاهدوا هزيمة المشركين يوم بدر ـ قالوا : والله إن هذا لهو النبيّ الأميّ الذي بشّرنا به موسى ، وفي التوراة نعته ، وأنه لا يردّ عليه رأيه ، وأرادوا اتباعه ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى ، فلما كان يوم أحد ، ونكب أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكّوا ، وقالوا : ليس هو ذلك ، فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا ، وقد كان بينهم وبين أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا ـ إلى مكة يستنفرهم ، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآية (١).

الثالث : أن هذه الآية واردة في جميع الكفار.

فصل في تكليف ما لا يطاق

استدلوا على [جواز](٢) تكليف ما لا يطاق بهذه الآية ، قالوا : لأن الله تعالى أخبر

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨) عن ابن عباس.

(٢) سقط في أ.

٥٦

عن الكفار بأنهم يحشرون إلى جهنم ، فلو آمنوا لانقلب هذا الخبر كذبا ، وذلك محال ، فكأنّ الإيمان منهم محال ، وقد أمروا به ، فيكون تكليفا بالمحال.

(سَتُغْلَبُونَ) إخبار عن أمر يحصل في المستقبل ، وقد وقع مخبره على (١) موافقته ، فكان هذا إخبارا عن الغيب ، فهو معجز ، ونظيره ـ في حق عيسى ـ (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩].

قوله : (وَبِئْسَ الْمِهادُ) المخصوص بالذم محذوف ، أي بئس المهاد جهنم ، والحذف للمخصوص يدل على صحة مذهب سيبويه (٢) من أنه مبتدأ.

والجملة قبله خبره ، ولو كان ـ كما قال غيره ـ مبتدأ محذوف الخبر ، أو بالعكس ، لما حذف ثانيا ؛ للإجحاف بحذف سائر الجملة.

و «بئس» مأخوذ من البأساء ، وهو الشر والشدة ، قال تعالى : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦٥] أي : شديد.

قوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣)

«قد كان» جواب قسم محذوف ، و «آية» اسم «كان» ولم يؤنث الفعل ؛ لأن تأنيث الآية مجازيّ ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان.

فهذا (٣) كقول امرىء القيس : [المتقارب]

١٣٥٠ ـ برهرهة ، رؤدة ، رخصة

كخرعوبة البانة المنفطر (٤)

قال الأصمعي : «البرهرهة : الممتلئة المترجرجة ، والرّؤدة ، والرادة : الناعمة».

قال أبو عمرو : وإنما قال : المنفطر ، ولم يقل : المنفطرة ؛ لأنه ردّ على القضيب ، فكأنه قال : البان المنفطر ، والخرعوبة : القضيب ، والمنفطر : الذي ينفطر بالورق ، وهو ألين ما يكون.

قال أبو حيّان : أوّل البانة بمعنى القضيب ، فلذلك ذكر المنفطر ، ولوجود الفصل ب «لكم» فإن الفصل مسوغ لذلك مع كون التأنيث حقيقيّا ، كقوله : [البسيط]

١٣٥١ ـ إنّ امرأ غرّه منكنّ واحدة

بعدي وبعدك في الدّنيا لمغرور (٥)

__________________

(١) في أ : عن.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٣٠٠.

(٣) في أ : فهو.

(٤) ينظر ديوانه ٥٣ ، واللسان (بره) والتاج ٩ / ٣٧٩.

(٥) ينظر البيت في الإنصاف ١ / ١٧٤ ، وتخليص الشواهد ص ٤٨١ ، الخصائص ٢ / ٤١٤ ، الدرر ٦ / ـ

٥٧

وقال بعضهم : محمول على المعنى ، والمعنى : قد كان لكم بيان هذه الآية.

وفي خبر «كان» وجهان :

أحدهما : أنه «لكم» و «في فئتين» في محل رفع نعتا ل «آية».

والثاني : أنه «في فئتين» وفي «لكم» وجهان :

أحدهما : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «آية» ؛ لأنه ـ في الأصل ـ صفة لآية ، فلمّا تقدّم نصب حالا.

الثاني : أنه متعلق ب «كان» ذكره أبو البقاء (١) ، وهذا عند من يرى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ولكن في جعل «في فئتين» الخبر إشكال ، وهو أن حكم اسم «كان» حكم المبتدأ ، فلا يجوز أن يكون اسما لها إلا ما جاز الابتداء به ، وهنا لو جعلت «آية» مبتدأ ، وما بعدها خبرا لم يجز ؛ إذ لا مسوّغ للابتداء بهذه النكرة ، بخلاف ما إذا جعلت «لكم» الخبر ، فإنّه جائز لوجود المسوّغ ، وهو تقدّم الخبر حرف جرّ.

قوله : (الْتَقَتا) في محل جر ، صفة ل «فئتين» ، أي : فئتين ملتقيتين ، يعني بالفئتين المسلمين والمشركين يوم بدر.

قوله : (فِئَةٌ تُقاتِلُ) العامة على رفع «فئة» وفيها أوجه :

أحدها : أن ترتفع على البدل من فاعل «التقتا» ، وعلى هذا فلا بد من ضمير محذوف يعود على «فئتين» المتقدمتين في الذكر ؛ ليسوغ الوصف بالجملة ؛ إذ لو لم يقدّر ذلك لما صحّ ؛ لخلو الجملة الوصفية من ضمير ، والتقدير : في فئتين التقت فئة منهما مؤمنة ، وفئة أخرى كافرة.

الثاني : أن يرتفع على خبر ابتداء مضمر ، تقديره : إحداهما فئة تقاتل ، فقطع الكلام عن أوله ، ومثله ما أنشده الفرّاء على ذلك : [الطويل]

١٣٥٢ ـ إذا متّ كان النّاس صنفين شامت

وآخر مثن بالذي كنت أصنع (٢)

أي أحدهما شامت ، وآخر مثن ، ومثله في القطع قول الآخر : [البسيط]

__________________

ـ ٢٧١ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٣ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٢٤ وشرح المفصل ٥ / ٢٩٣ ولسان العرب (غرر) واللمع ص ١١٦ ، المقاصد النحوية ٢ / ٤٧٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٧١ ، والدر المصون ٢ / ٢٤.

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٢٦.

(٢) البيت للعجير السلولي ينظر تخليص الشواهد ص ٢٤٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٧٢ ، ٧٣ والكتاب ١ / ٧١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٨٥ ، والدرر ١ / ٢٢٣ ، ٢ / ٤١ ، والأزهية ص ١٩٠ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥٦ ، وأسرار العربية ص ١٣٦ ، وشرح الأشموني ١ / ١١٧ ، واللمع في العربية ص ١٢٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٧ ، ١١١ ، والدر المصون ٢ / ٢٥.

٥٨

١٣٥٣ ـ حتّى إذا ما استقلّ النّجم في غلس

وغودر البقل ملويّ ومحصود (١)

أي : بعضه ملويّ ، وبعضه محصود.

قال أبو البقاء (٢) : فإن قلت : إذا قدرت في الأولى إحداهما مبتدأ كان القياس أن يكون والأخرى أي الفئة الأخر كافرة.

قيل : لمّا علم أن التفريق هنا لنفس الشيء المقدم ذكره كان التعريف والتنكير واحدا ، ومثل الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيت المتقدّم : شامت ، وآخر مثن ، فجاء به نكرة دون أل.

الثالث : أن يرتفع على الابتداء ، وخبره مضمر ، تقديره : منهما فئة تقاتل ، وكذا في البيت ، أي : منهم شامت ، ومنهم مثن.

ومثله قول النابغة : [الطويل]

١٣٥٤ ـ توهّمت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام ، وذا العام سابع

رماد ككحل العين لأيا أبينه

نؤي كجذم الحوض أثلم خاشع (٣)

تقديره : منهنّ ـ أي من الآيات ـ رماد ، ومنهن نؤي ويحتمل البيت أن يكون ـ كما تقدم ـ من تقدير مبتدأ ، ورماد خبره ، كما تقدم في نظيره.

وقرأ الحسن ومجاهد وحميد (٤) : و (فِئَةٌ تُقاتِلُ) بالجر على البدل من «فئتين» ، ويسمّى هذا البدل بدلا تفصيليا كقول كثيرّ عزّة : [الطويل]

١٣٥٥ ـ وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت (٥)

هو بدل بعض من كل ، وإذا كان كذلك فلا بد من ضمير يعود على المبدل منه ، تقديره : فئة منهما.

وقرأ ابن السّميفع ، وابن أبي عبلة (٦) «فئة» بالنصب ، وفيه أربعة أوجه :

أحدها : النصب بإضمار أعني.

__________________

(١) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه ٣٦٦ ومعاني القرآن للفراء ١ / ١٩٣ والدر المصون ٢ / ٢٥.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٢٦.

(٣) تقدم الأول برقم ٤٢٢ ، والثاني برقم ٤٥٧.

(٤) وبها قرأ الزهري. ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٠٨ ، والبحر المحيط ٢ / ٤١١ ، والدر المصون ٢ / ٢٥ ، والقرطبي ٤ / ١٨.

(٥) ينظر ديوانه ٩٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٤١ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢١١ ، ٢١٨ ، وأمالي المرتضى ١ / ٤٦ ، والكتاب ١ / ٤٣٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٠٤ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤١ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٣٨ ، وشرح المفصل ٣ / ٦٨ ، والمقتضب ٤ / ٢٩٠ ، والدر المصون ٢ / ٢٥.

(٦) ينظر : القراءة السابقة.

٥٩

والثاني : النصب على المدح ، وتحرير هذا القول أن يقال على المدح في الأول وعلى الذم في الثاني ، كأنه قيل : أمدح فئة تقاتل في سبيل الله ، وأذمّ أخرى كافرة.

والثالث : أن ينتصب على الاختصاص ، جوّزه الزمخشريّ.

قال أبو حيّان : «وليس بجيد ؛ لأن المنصوب لا يكون نكرة ولا مبهما».

قال شهاب الدين (١) : لا يعني الزمخشريّ الاختصاص المبوّب له في النحو نحو : «نحن ـ معاشر الأنبياء ـ لا نورث» (٢) ، إنما على النصب بإضمار فعل لائق ، وأهل البيان يسمّون هذا النحو اختصاصا.

الرابع : أن ينتصب «فئة» على الحال من فاعل «التقتا» ، كأنه قيل : التقتا مؤمنة وكافرة ، فعلى هذا يكون «فئة» و «أخرى» توطئة للحال ؛ لأن المقصود ذكر وصفيهما ، وهذا كقولهم : زيد رجلا صالحا ، ومثله في باب الإخبار ـ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) [الأعراف : ٨١] ، ونحوه. قوله : (وَأُخْرى كافِرَةٌ) «أخرى» صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وفئة أخرى كافرة وقرئت «كافرة» بالرفع والجر على حسب القراءتين المذكورتين في (فِئَةٌ تُقاتِلُ) ، وهذه منسوقة عليها.

وكان من حق من قرأ «فئة» ـ بالنصب ـ أن يقرأ «وأخرى كافرة» بالنصب عطفا على الأولى ، وفي عبارة الزّمخشريّ ما يوهم القراءة به ؛ فإنه قال : «وقرىء «فئة تقاتل» «وأخرى كافرة» بالجر على البدل من «فئتين» ، والنصب على الاختصاص أو الحال» فظاهر قوله : و «بالنصب» أي في جميع ما تقدم وهو فئة تقاتل أخرى كافرة وقد تقدم سؤال أبي البقاء ، وهو لو لم يقل : والأخرى بالتعريف أعني حال رفع فئة تقاتل على خبر ابتداء مضمر تقديره إحداهما ، والجواب عنه.

والعامة على «تقاتل» ـ بالتأنيث ـ ؛ لإسناد الفعل إلى ضمير المؤنث ، ومتى أسند إلى ضمير المؤنث وجب تأنيثه ، سواء كان التأنيث حقيقة أو مجازا ، نحو الشمس طلعت ، وعليه جمهور الناس.

وخالف ابن كيسان ، فأجاز : الشمس طلع.

مستشهدا بقول الشاعر : [المتقارب]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٢٦.

(٢) أخرجه البخاري ٧ / ٩٧ في فضائل الصحابة ، باب مناقب قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٧١١ ، ٣٧١٢) ومسلم ٣ / ١٣٨٠ في الجهاد والسير ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نورث ما تركناه صدقة (٥٢ ـ ١٧٥٩) من حديث عائشة أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أفاء على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطلب صدقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا نورث ما تركنا فهو صدقة ...

٦٠