اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

أحدهما : أنه منصوب على المفعول من أجله ، والعامل فيه «أنزل» أي : أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته.

وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق ، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى ، والوصفان متقاربان.

فإن قيل : لم وصف القرآن ـ في أول سورة البقرة ـ بأنه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ، ولم يصفه هنا بذلك؟ قيل : إنما وصفه ـ هناك ـ بذلك ؛ [لأن](١) المتقين هم المنتفعون به ، فهو هدى لهم لا لغيرهم وهاهنا فالمناظرة كانت مع النصارى ، وهم لا يهتدون بالقرآن ، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدى ، بل قال (٢) : إنه حق في نفسه ـ سواء قبلوه أو ردوه ـ وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما ، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما ، فلا جرم ، وصفهما بكونهما هدى. ويجوز أن يكون متعلقا ـ من حيث المعنى ـ ب «نزّل» و «أنزل» معا ، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول ، تقديره : نزل عليك الكتاب له أي : للهدى ، فحذفه.

ويجوز أن يتعلق بالفعلين ـ معا ـ تعلقا صناعيا ، لا على وجه التنازع ، بل بمعنى أنه علة للفعلين معا ، كما تقول : أكرمت زيدا وضربت عمرا إكراما لك ، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب.

والثاني : أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل. ولم يثنّ ؛ لأنه مصدر ، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف ـ أي ذوي هدى ـ أو على المبالغة ـ بأن جعلا نفس الهدى ـ أو على جعلهما بمعنى هاديين.

وقيل : إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل.

وقيل : حال من الإنجيل فقط ، وحذف مما قبله ؛ لدلالة هذا عليه.

وقال بعضهم : تمّ الكلام عند قوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) فيوقف عليه ، ويبتدأ بقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي : وأنزل الفرقان هدى للناس.

وهذا التقدير غير صحيح ؛ لأنه يؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق ، وهو ممتنع ؛ إذ لو قلت : قام زيد مكتوفة وضربت هندا ـ تعني وضربت هندا مكتوفة ـ لم يصح ، فكذلك هذا.

قوله : «للناس» يحتمل أن يتعلق بنفس «هدى» لأن هذه المادة تتعدى (٣) باللام ، كقوله تعالى : (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] وأن يتعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «هدى».

__________________

(١) في أ : لأنهم.

(٢) في أ : قال هنا.

(٣) في أ : تتعلق باللام.

٢١

قوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية ، ولم يجمع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران ، وهو يحتمل أن يكون مصدرا واقعا موقع الفاعل ، أو المفعول ، والأول أظهر.

قال الزمخشريّ : «وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له. ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس ؛ تعظيما لشأنه ، وإظهارا لفضله».

قال شهاب الدين : «قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا ردّا لقوله الأول ؛ حيث قال : إن «نزّل» يقتضي التنجيم ، و «أنزل» يقتضي الإنزال الدفعي ؛ لأنه جوز (١) أن يراد بالفرقان القرآن ، وقد ذكره ب «أنزل» ، ولكن لا ينبغي أن يعتقد ذلك ؛ لأنه لم يقل : إن أنزل للانزال الدفعيّ فقط ، بل يقول : إن «نزّل» ـ بالتشديد ـ يقتضي التفريق ، و «أنزل» يحتمل التفريق ، ويحتمل الإنزال الدفعي».

فصل في المراد ب «الفرقان»

قيل : المراد بالفرقان هو الزبور ؛ لقوله : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [الإسراء : ٥٥].

وقيل القرآن ، وإنما أعاده تعظيما لشأنه ، ومدحا له بكونه فارقا بين الحق والباطل.

أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ، ليجعله فارقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل ، وعلى هذا التقدير ، فلا تكرار.

وقال الأكثرون : إن المراد أنه تعالى ـ كما جعل (٢) هذه الكتب الثلاثة هدى (٣) ودلالة ـ قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع.

قال ابن الخطيب : «وهذه الأقوال ـ عندي ـ مشكلة.

فأما حمله على الزبور فبعيد ؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام ، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل ـ مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام ـ بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك.

وأما حمله على [القرآن](٤) فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله ، والمعطوف يغاير المعطوف عليه ، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايرا للقرآن ، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [الكتب](٥) فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب ، وعطف الصفة على الموصوف ـ وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [إلا أنه](٦) ضعيف ، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام الله تعالى.

والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان ـ هنا ـ المعجزات المقرونة بإنزال هذه

__________________

(١) في ب : يجوز.

(٢) في أ : كجعل.

(٣) في أ : هدى ورحمة.

(٤) في أ : الفرقان.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

٢٢

الكتب ؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب ، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى (١) يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين ، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق ، ودعوى الكاذب ، فالمعجزة هي الفرقان ، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق ، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة ، فهذا ما عندي».

ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا : المراد به جميع الكتب السماوية ، فيزول الإشكال الذي ذكره ، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٢٧ ـ ٣١].

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ) يحتمل أن يرتفع «عذاب» بالفاعلية بالجار قبله ، لوقوعه خبرا عن «إنّ» ويحتمل أن يرتفع على الابتداء ، والجملة خبر «إنّ» والأول أولى ؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و «انتقام» افتعال ، من النقمة وهي السطوة والتسلط ، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة ، يقال : نقم ـ بالفتح ـ وهو الأفصح ، ونقم ـ بالكسر (٢) ـ وقد قرىء بهما (٣) ويقال : انتقم من انتقم ، أي : عاقبه وقال الليث : ويقال لم أرض عنه ، حتى نقمت ، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع. وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى.

فصل

اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد ؛ زجرا للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) فخصّ بعض المفسّرين ذلك بالنصارى ؛ قصرا للفظ العام على سبب نزوله.

وقال المحقّقون : الاعتبار بعموم اللفظ ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله (وَاللهُ عَزِيزٌ ،) أي : غالب لا يغلب ، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب ، و (ذُو انْتِقامٍ) إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب ، فالأول صفة الذات ، والثاني صفة الفعل.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٦)

هذا الكلام يحتمل وجهين :

الأول : أن ينزّل على سبب النزول ؛ وذلك لأن النصارى ادّعوا الإلهية لعيسى ؛ لأمور :

__________________

(١) في ب : حق.

(٢) ينظر : الصحاح ٥ / ٢٠٤٥.

(٣) في سورة البروج آية ٨.

٢٣

أحدها : العلم ، فإنه كان يخبر عن الغيوب ، ويقول لهذا : إنك أكلت في دارك كذا ، ويقول لذلك : إنك صنعت في دارك كذا.

الثاني : القدرة ، وهي أن عيسى كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا.

الثالث : من جهة الإلزام المعنويّ ، وهو أنه لم يكن له أب من البشر.

الرابع : من جهة الإلزام اللفظي ، وهو قولهم لنا : أنتم تقولون : إنه روح الله ، وكلمته.

فالله تعالى استدل على بطلان قولهم بإلهية عيسى ، والتثليث بقوله : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ ،) فالإله يجب أن يكون حيّا قيّوما ، وعيسى ما كان حيّا قيّوما ، فلزم القطع بأنه لم يكن إلها ، وأجاب عن شبهتهم بعلم الغيوب بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ،) وكون عيسى عالما ببعض المغيّبات ، لا يدل على كونه إلها ؛ لاحتمال أنه علم ذلك بوحي من الله تعالى ، فعدم إحاطته بكل المغيّبات يدل قطعا على أنه ليس بإله ؛ لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء ؛ لأنه خالقهما ، والخالق لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى ما كان عالما بجميع المغيّبات ، وكيف (١) والنصارى يقولون : إنه قتل ، فلو كان يعلم الغيب ، لعلم بأن القوم يريدون قتله ، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه ، وأما تعلقهم بقدرته على إحياء الموتى ، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) وتقديره : أن حصول الإحياء لعيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلها ؛ لاحتمال أنّ الله تعالى أكرمه بذلك إظهارا لمعجزته ، وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعا عدم إلهيته ، لأن الإله هو القادر على أن يصوّر في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب ، فلو كان عيسى قادرا على الإحياء ، والإماتة ، لأمات أولئك الذين أخذوه وقتلوه ـ على زعمهم ـ فثبت أن الإحياء والإماتة في بعض الصور لا تدل على كونه إلها ، وكذلك عدم حصول الإحياء والإماتة له في كل الصور دليل على أنه ما كان إلها.

وأما الشبهة الثالثة وهي الإلزام المعنويّ بأنه لم يكن له أب من البشر ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) فإن شاء صوره من نطفة [الأب](٢) ، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب ، كما خلق آدم من غير أب أيضا ولا أمّ.

وأما قولهم لنا : أنتم تقولون : إنه روح الله وكلمته ، فهذا الإلزام لفظي ، وهو محتمل للحقيقة والمجاز ، فإذا ورد لفظ يكون ظاهره مخالفا للدليل العقلي كان من باب المتشابهات ، فوجب ردّه إلى التأويل ، وذلك هو المراد بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ

__________________

(١) في أ : وكيف المعلوم.

(٢) سقط في أ.

٢٤

مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] ، فظهر بما ذكرنا أن قوله : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) يدل على أن المسيح ليس بإله ، ولا ابن الإله.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) جواب عن تعلّقهم بالعلم ، وقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) جواب عن تمسّكهم بقدرته على الإحياء والإماته ، وعن تمسّكهم بأنه ما كان له أب من البشر ، وقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) جواب عن تمسّكهم بما ورد في القرآن من أن عيسى روح الله وكلمته.

الاحتمال الثاني : أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم ، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح [الخلق](١) ، وذلك لا يتم إلا بأمرين :

الأول : أن يكون عالما بجميع حاجاتهم بالكمية والكيفية.

الثاني : أن يكون قادرا على دفع حاجاتهم ، فالأول لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات ، والثاني لا يتم إلا إذا كان قادرا على جميع الممكنات ، ثم إنه استدل على كونه عالما بجميع المعلومات بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) وذلك يدل على كمال علمه ، وإثبات كونه عالما لا يجوز أن يكون بالسمع ؛ لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالما ما بجميع المعلومات ، وإنما الطريق إليه بالدليل العقلي ، وذلك بأن نقول : إن أفعال الله محكمة متقنة والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالما ، وإذا كان دليل كونه تعالى عالما ما ذكرنا ، فحين ادعى كونه عالما بجميع المعلومات بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [أتبعه](٢) بالدليل العقلي ، وهو أنه يصوّر في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة ويركبها تركيبا غريبا من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، فبعضها أعصاب ، وبعضها أوردة ، وبعضها شرايين ، وبعضها عضلات ، ثم إنه ضمّ بعضها إلى بعض على أحسن تركيب وأكمل تأليف ، وذلك يدل على كمال قدرته ، حيث قدر أن يخلق من قطرة من نطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبع والشكل واللون ، فدلّ هذا الفعل المحكم المتقن على كمال علمه وقدرته.

قوله : (فِي الْأَرْضِ) يجوز أن يتعلق ب «يخفى» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «شيء».

فصل

المراد بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي : لا يخفى عليه شيء.

فإن قيل : ما فائدة قوله : (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) مع أنه لو أطلق لكان أبلغ؟

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : استدل عليه.

٢٥

فالجواب : أن الغرض منه إفهام العباد كمال علمه ، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى ؛ لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض ، فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله تعالى ، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم ، والإدراك أكمل ، ولذلك فإن (١) المعاني الدقيقة إذا أريد إيضاحها ذكر لها مثال ؛ فإن المثال يعين على الفهم.

قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) تحتمل هذه الجملة أن تكون مستأنفة سيقت لمجرد الإخبار بذلك ، وأن تكون في محل رفع خبرا ثانيا لإنّ.

قوله : (فِي الْأَرْحامِ) يجوز أن يتعلق ب «يصوّركم» وهو الظاهر ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «يصوّركم» أي : يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ.

وقرأ طاوس (٢) : تصوّركم ـ فعلا ماضيا ـ ومعناه : صوركم لنفسه ، ولتعبدوه ، وتفعّل يأتي بمعنى فعّل ، كقولهم : تأثلث مالا ، وأثّلته ، أي : جعلته أثلة أي : أصلا ، والتصوير : تفعيل من صاره ، يصوره ، أي : أماله وثناه ، ومعنى صوره : جعل له صورة مائلة إلى شكل أبويه.

والصورة : الهيئة يكون عليها الشيء من تأليف خاص ، وتركيب منضبط ، قاله الواحدي وغيره.

والأرحام : جمع رحم ، وأصلها الرحمة ، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة ، والعطف ، فلهذا سمّي العضو رحما.

قوله : (كَيْفَ يَشاءُ) فيه أوجه :

أظهرها : أنّ «كيف» للجزاء ، وقد جوزي بها في لسانهم في قولهم : كيف تصنع أصنع ، وكيف تكون أكون ، إلا أنه لا يجزم بهما ، وجوابها محذوف ؛ لدلالة ما قبلها عليه ، وكذلك مفعول «يشاء» لما تقدم أنه لا يذكر إلا لغرابة والتقدير : كيف يشاء تصويركم يصوركم ، فحذف تصويركم ؛ لأنه مفعول «يشاء» ويصوركم ؛ لدلالة «يصوّركم» الأول عليه ، ونظيره قولهم : أنت ظالم إن فعلت ، تقديره : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم.

وعند من يجيز تقديم الجزاء في الشرط الصريح يجعل «يصوّركم» المتقدم هو الجزاء ، و «كيف» منصوب على الحال بالفعل بعده ، والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) (٣) ولا جائز أن

__________________

(١) في أ : كان.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٣٣٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٩٥ ، والدر المصون ٢ / ١٢.

(٣) سورة البقرة آية (٢٨).

٢٦

يكون «كيف» معمولة «يصوّركم» ؛ لأن لها صدر الكلام ، وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا أحد شيئين : إما حرف الجر نحو بمن تمر؟ وإما المضاف نحو غلام من عندك؟

الثاني : أن يكون «كيف» ظرفا ل «يشاء» والجملة في محل نصب على الحال من ضمير اسم الله تعالى ، تقديره : يصوركم على مشيئته ، أي : مريدا.

الثالث : كذلك إلا أنه حال من مفعول «يصوّركم» تقديره : يصوركم متقلبين على مشيئته.

ذكر الوجهين أبو البقاء (١) ، ولما ذكر غيره كونها حالا من ضمير اسم الله تعالى قدرها بقوله : يصوركم في الأرحام قادرا على تصويركم مالكا ذلك.

الرابع : أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة كما يشاء قاله الحوفي ، وفي قوله : الجملة في موضع المصدر تسامح ؛ لأن الجمل لا تقوم مقام المصادر ، ومراده أن «كيف» دالة على ذلك ، ولكن لما كانت في ضمن الجملة نسب ذلك إلى الجملة.

فصل في معنى الآية

معنى : (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) ذكرا أو أنثى ، أبيض أو أسود ، حسنا أو قبيحا ، تاما أو ناقصا ، وقد ذكرنا أن هذا ردّ على وفد نجران ؛ حيث قالوا : عيسى ولد الله وكان يقول : كيف يكون ولده وقد صوره في الرحم؟ ثم إنه لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد ؛ زجرا للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) و «العزيز» إشارة إلى كمال القدرة ، يعني أن قدرته أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء ، و «الحكيم» إشارة إلى كمال العلم ، يعني : أن علمه أكمل من علم عيسى بالغيوب ؛ فإن علم عيسى ببعض الصّور ، وقدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلها ، وإنما الإله هو الذي يكون قادرا على كل الممكنات ، عالما بجميع الجزئيات والكليات.

قال عبد الله بن مسعود : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ «إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثمّ يكون علقة مثل ذلك ، ثمّ يكون مضغة مثل ذلك ، ثمّ يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الرّوح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وعمله ، وأجله ، وشقيّ أو سعيد ، فو الّذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النّار

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٢٣.

٢٧

فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتّى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها» (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل الملك على النّطفة بعد ما تستقرّ في الرّحم بأربعين أو خمسة وأربعين يوما ، فيقول : يا ربّ أشقيّ أو سعيد؟ فيكتبان ، فيقول : أي ربّ أذكر أو أنثى؟ فيكتبان ، ويكتب عمله ، وأثره ، وأجله ، ورزقه ، ثمّ تطوى الصّحف ، فلا يزاد فيها ولا ينقص»(٢).

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٧)

وجه النّظم على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة أن النصارى تمسكوا ـ في بعض شبههم ـ بما جاء في القرآن من صفة عيسى عليه‌السلام أنه روح الله وكلمته ، فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم ومتشابه ، والتمسّك بالمتشابهات غير جائز ـ هذا على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة ، وعلى الثاني ـ أنه تعالى لما بين أنه قيوم ، وهو القائم بمصالح الخلق ، والمصالح قسمان : جسمانية ، وروحانية ، فالجسمانية أشرفها تعدليل البنية على أحسن شكل ، وهو المراد بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) وأما الروحانية فأشرفها العلم ، وهو المراد بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ).

قوله : (مِنْهُ آياتٌ) يجوز أن تكون «آيات» رفعا بالابتداء ، والجار خبره ، وفي الجملة على هذا وجهان :

أحدهما : أنها مستأنفة.

والثاني : أنها في محل نصب على الحال من «الكتاب» أي : هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال ، أي : منقسما إلى محكم ومتشابه.

ويجوز أن يكون «منه» هو الحال ـ وحده ـ وآيات : رفع [به](٣) ـ على الفاعلية.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ٢٣٠) كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة (٣٢٠٨) ، (٨ / ٢١٩) كتاب القدر باب رقم (١) رقم (٦٥٩٤) ، (٩ / ٢٤٢) كتاب التوحيد باب : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا» (٧٤٥٤) ومسلم (١٦ / ١٨٩ ـ ١٩٥ ـ نووي).

(٢) أخرجه مسلم (١٦ / ١٩٣ ـ نووي) كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وأحمد (٤ / ٧) والحميدي في «مسنده» (٨٢٦) والطبراني في «الكبير» (٣ / ١٩٥) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٣ / ٢٧٨) وابن عساكر (٤ / ٩٦ ـ تهذيب).

(٣) سقط في أ.

٢٨

و (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) يجوز أن تكون الجملة صفة للنّكرة قبلها ، ويجوز أن تكون مستأنفة.

وأخبر بلفظ الواحد «أمّ» عن جمع «هنّ» إمّا لأن المراد أن كل واحدة منه أمّ ، وإمّا لأن المجموع بمنزلة آية واحدة ، كقوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠] ، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع ، كقوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) [البقرة : ٧].

وقوله : [الوافر]

١٣٢٢ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

 .......... (١)

وقوله : [الطويل]

١٣٢٣ ـ بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب (٢)

وقال الأخفش (٣) : وحّد «أمّ الكتاب» بالحكاية على تقدير الجواب ، كأنه قيل : ما أمّ الكتاب؟ فقال : هن أم الكتاب ، كما يقال : من نظير زيد؟ فيقول قوم : نحن نظيره ، كأنهم حكوا ذلك اللفظ ، وهذا على قولهم (٤) : دعني من تمرتان ، أي : مما يقال له : تمرتان (٥).

قال ابن الأنباري : «وهذا بعيد من الصواب في الآية ؛ لأن الإضمار (٦) لم يقم عليه دليل ، ولم تدع إليه حاجة».

وقيل : لأنه بمعنى أصل الكتاب ، والأصل يوحّد.

قوله : «وأخر» نسق على «آيات» و «متشابهات» نعت ل «أخر» ، وفي الحقيقة «أخر» نعت لمحذوف تقديره : وآيات أخر متشابهات.

قال أبو البقاء : فإن قيل : واحدة [متشابهات : متشابهة ، وواحدة أخر : أخرى ، والواحد هنا ـ لا يصح أن يوصف بهذا الواحد ـ ، فلا يقال : أخرى متشابهة](٧) ، إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضا ، وليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى ، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده؟

قيل : التشابه لا يكون إلا بين اثنين فصاعدا ، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحد منها مشابها للآخر ، فلما لم يصح التشابه (٨) إلا في حالة الاجتماع وصف الجمع بالجمع ؛ لأن كل واحد منها يشابه باقيها ، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى ، ونظيره قوله : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) [القصص : ١٥] فثنّى الضمير ، وإن كان الواحد لا

__________________

(١) تقدم برقم ١٦٤.

(٢) تقدم برقم ١٦٥.

(٣) ينظر معاني القرآن ١ / ١٩٣.

(٤) ينظر تفسير الطبري ٦ / ١٧١.

(٥) في أ : عريان.

(٦) في أ : الاحتمال.

(٧) سقط في أ.

(٨) في أ : المتشابه.

٢٩

يقتتل ، يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات ، وإن كان الأصل ذلك كما أنه لا يشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته ، وقريب من ذلك قوله : (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر : ٧٥] ، وقيل : ليس ل «حافين» مفرد ؛ لأنه ولو قيل : حافّ لم يصحّ ؛ إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط ، إنما يتحقق بجمع يحيطون بذلك الشيء المحفوف [وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى](١).

فصل

اعلم أن القرآن الكريم كلّه محكم من جهة الإحكام والإتقان والفصاحة وصحة المعاني ، وكونه كلاما حقّا ؛ لقوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ٢] ، وقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [يونس : ١] فهو أفضل من كل كلام يوجد في هذه المعاني ، ولا يمكن أحد أن يأتي بكلام يساويه فيها ، والعرب تقول في البناء الوثيق ، والعقد الوثيق الذي لا يمكن حلّه : محكم ، وكلّه متشابه من حيث إنه يشبه بعضه بعضا في الحسن ، ويصدّق بعضه بعضا ؛ لقوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣].

وذكر في هذه الآية أن بعضه محكم ، وبعضه متشابه.

واختلف المفسّرون في المحكم ـ هنا ـ والمتشابه ، فقال ابن عباس : المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الانعام ، (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) الآيات (٢) ، ونظيرها في بني إسرائيل (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣].

وعنه أنه قال : المتشابهات : حروف التهجي في أوائل السور (٣).

وقال مجاهد وعكرمة : المحكم : ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك متشابه ، يشبه بعضه بعضا في الحق ، ويصدق بعضه بعضا ، كقوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٨] ، وقوله : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)(٤) [يونس : ١٠٠].

وقال قتادة والضحاك والسّديّ : المحكم : الناسخ الذي يعمل به ، والمتشابه : المنسوخ الذي لا يعمل به (٥) ويؤمن به ، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٤) والحاكم (٢ / ٢٨٨) وابن مردويه كما في «الدر المنثور» (٢ / ٦).

وقال الحاكم : صحيح ووافقه الذهبي.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان بمعناه كما في «الدر المنثور» (٢ / ٨).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٧) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لعبد بن حميد والفريابي.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٥) وينظر فتح القدير (١ / ٣١٤) والبغوي (١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩) وزاد المسير (١ / ٣٥٠) والبحر المحيط (٢ / ٣٩٦).

٣٠

محكمات القرآن : ناسخه ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه ، وما يؤمن به ولا يعمل به(١).

وقيل المحكمات : ما أوقف الله الخلق على معناها ، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه ، ولا سبيل لأحد إلى علمه نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال ، ونزول عيسى عليه‌السلام وطلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة ، وفناء الدنيا (٢).

وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه (٣) ، والمتشابه ما احتمل أوجها (٤).

وقيل : المحكم : ما يعرف معناه ، وتكون حججه واضحة ، ولا تشتبه دلائله ، والمتشابه : هو الذي يدرك علمه بالنظر ، ولا يعرف العوامّ تفصيل الحق فيه من الباطل ، وقيل المحكم : ما يستقل (٥) بنفسه في المعنى ، والمتشابه : ما لا يستقل بنفسه بل يردّ إلى غيره.

فصل

«في تفسير المحكم في أصل اللغة» :

العرب تقول : أحكمت وحكمت بمعنى رددت ، ومنعت ، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم ، وحكمة اللجام هي التي تمنع الفرس عن الاضطراب ، وفي حديث النّخعيّ :أحكم اليتيم كما تحكم ولدك ، أي : امنعه من الفساد.

وقال جرير : [الطويل]

١٣٢٤ ـ أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

 ............(٦)

أي : امنعوهم.

وبناء محكم : أي : وثيق ، يمنع من تعرّض له ، وسمّيت الحكمة حكمة ؛ لأنها تمنع عما لا ينبغي.

والمتشابه : هو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر ، بحيث يعجز الذهن عن التمييز

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٥) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : وجه واحد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٧) عن محمد بن جعفر بن الزبير وانظر «البحر المحيط» (٢ / ٣٩٦) و «التفسير الكبير» للرازي (٧ / ١٧٠ ـ ١٧١). والبغوي ١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩).

(٥) في أ : ما يعرف معناه.

(٦) ينظر البيت في ديوانه ص (٧٢) وخزانة الأدب ٩ / ٢٣٦ والكامل في اللغة والأدب ٣ / ٢٦ واللسان : (حكم) ورغبة الآمل ٦ / ١٣٣ وتاج العروس ٨ / ٢٥٣.

٣١

[بينهما](١) ، قال تعالى : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) [البقرة : ٧] ، وقال في وصف ثمار الجنة : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [البقرة : ٢٥] أي : متّفق المنظر ، وقال تعالى : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة : ١١٨] ، ويقال : أشبه عليّ الأمر إذا لم يظهر له الفرق ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبينهما أمور متشابهات» (٢) وفي رواية مشتبهات ، ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما ، سمّي كلّ ما لا يهتدي إليه الإنسان بالمتشابه ؛ إطلاقا لاسم السبب على المسبّب ، ونظيره المشكل ، سمّي بذلك ؛ لأنه أشكل أي : دخل في شكل غيره ، فأشبهه وشاكله ، ثمّ يقال لكل ما غمض ـ وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة ـ مشكلا ، ولهذا يحتمل أن يقال للذي لا يعرف ثبوته أو عدمه ، وكان الحكم بثبوته مساويا للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابها [له](٣) ، ولم يتميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان ، فلا جرم يسمّى غير المعلوم بأنه متشابه.

قال ابن الخطيب : «فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ، والناس قد أكثروا في تفسير المحكم والمتشابه ، ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول : إذا وضع اللفظ لمعنى فإما أن يحتمل غيره أو لا ، فإن كان لا يحتمل غيره فهو النص ، وإن احتمل غيره فإما أن يكون احتماله لأحدهما راجحا على الآخر ، فيكون بالنسبة إلى الراجح ظاهرا ، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا ، وإن كان احتماله لهما على السوية ، فيكون اللفظ (٤) بالنسبة إليهما معا مشتركا ، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملا ، فحصل من هذا التقسيم أن اللفظ ، إما أن يكون نصا ، أو ظاهرا ، أو مؤولا ، أو مشتركا ، والنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح ، إلا أن النص راجح مانع من الغير ، فهذا القدر المشترك هو المسمّى بالمحكم ، أما المجمل والمؤول ، فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة [وإن لم يكن راجحا ، أو غير مرجوح ، والمؤوّل ـ مع أنه غير راجح ـ فهو مرجوح ، لا بحسب الدليل المنفرد](٥) ، فهذا القدر المشترك هو المسمّى المتشابه ؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعا ، وقد بينّا أن ذلك يسمى متشابها ، إما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابها للإثبات في الذهن ، وإما لأجل أن الذي [يحصل] فيه التشابه يصير غير معلوم ، فيطلق لفظ «المتشابه» على ما لا يعلم ؛ إطلاقا لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصّل في المحكم والمتشابه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه البخاري ١ / ١٥٣ كتاب الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه (٥٢) ومسلم ٣ / ١٢١٩ كتاب المساقاة ، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (١٠٧ ـ ١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : فاللفظ.

(٥) سقط في أ.

٣٢

فصل

روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، قال : ما هي؟ قال : قوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] وقال : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٥٠] ، وقوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٧] مع قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٢] فقد كتموا في هذه الآية وفي «النازعات» قال : (أَمِ السَّماءُ بَناها) إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٠] فذكر خلق السماء قبل الأرض ، وقال (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩ ـ ١١] إلى : «طائعين» فذكر خلق الأرض قبل السماء وقال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١٠٠](وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ١٥٨](وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء : ١٣٤] فكأنه كان ثم مضى.

فقال ابن عباس : معنى قوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ، وفي النفخة الأخيرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

أما قولهم : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) أي : أن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون : تعالوا نقول : ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم ، وتنطق جوارحهم بأعمالهم ، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثا ، وعنده (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢] ، وخلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ثم دحا الأرض ، بسطها فأخرج منها الماء والمرعى ، وخلق فيها الأشجار والجبال (١) [والآكام](٢) وما بينهما في يومين آخرين ، وذلك قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فخلق الأرض وما فيها في أربعة أيام وخلق السماء في يومين.

وقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يعني نفسه ، أي : لم يزل ، ولا يزال كذلك ، وأن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراده ويحك ، فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلّا من عند الله (٣).

فصل

في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكما ، وبعضه متشابها.

قال ابن الخطيب : «طعن بعض الملحدة في القرآن ؛ لأجل اشتماله على المتشابهات ، وقالوا : إنكم تقولون : إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم

__________________

(١) في أ : الجبال والأشجار.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه البخاري في «صحيحه» ٨ / ٤١٧ ، ٤١٨ كتاب التفسير باب سورة حم السجدة عن سعيد بن جبير تعليقا.

٣٣

القيامة ، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الأنعام : ٢٥] ، والقدريّ يقول : بل هذا مذهب الكفار ؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨] ، وأيضا مثبت الرؤية يتمسك بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] ، والنافي يتمسك بقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ، ومثبت الجهة يتمسك بقوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢] وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] والنافي يتمسك بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة ، وإنما يرجع في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية ، ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم (١) أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهرا جليا خاليا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض؟ فذكر العلماء في فوائد المتشابهات وجوها :

الأول : أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.

الثاني : أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ، ويصل (٢) إلى ضياء الاستدلال ، ولو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية ، وكان يبقى ـ حينئذ ـ في الجهل والتقليد.

الثالث : أن القرآن لما كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات ، وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علوم اللغة ، والنحو ، وأصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان يحتاج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان في إيراد هذه المتشابهات هذه الفوائد.

الرابع : أن القرآن يشتمل على دعوة الخواص ، والعوامّ بالكلية ، وطباع العوام تنبو ـ في أكثر الأمر ـ عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام ـ في أول الأمر ـ إثبات موجود ليس بجسم ولا متحرك (٣) ولا يشار إليه ظنّ بأن هذا عدم ونفي ، فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه ، وتخيلوه ، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح فالمخاطبة في أول الأمر تكون من أبواب المتشابهات ، والثاني وهو الذي انكشف لهم في آخر الأمر هو المحكم.

__________________

(١) في أ : بالحكم.

(٢) في أ : ويحصل.

(٣) في أ : بمتحرك.

٣٤

الخامس : [لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد ، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما ينفّر أرباب المذاهب عن قبوله ، وعن النظر فيه ، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملا على المحكم والمتشابه ، فحينئذ يطمع صاحب كلّ مذهب أن يجد فيه ما يقوي له حكمه ويؤثر مقالته ، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمل فيه كلّ صاحب مذهب ، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ، ويصل إلى الحق ، والله أعلم](١).

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) يجوز أن يرتفع «زيغ» بالفاعلية ؛ لأن (٢) الجار قبله صلة لموصول ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره الجار قبله.

قوله «الزيغ» قيل : الميل [مطلقا](٣) ، وقال بعضهم : هو أخصّ من مطلق الميل ؛ فإن الزيع لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل.

قال الراغب (٤) : «الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال ومال متقارب ، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل» انتهى. يقال : زاغ يزيغ زيغا ، وزيغوغة وزيغانا ، وزيوغا.

قال الفراء : والعرب (٥) تقول في عامة ذوات الياء ـ فيما يشبه زغت ـ مثل : سرت ، وصرت ، وطرت : سيرورة ، وصيرورة ، وطيرورة ، وحدت حيدودة ، وملت ميلولة .. لا أحصي ذلك ، فأما ذوات الواو مثل قلت ، ورضت ، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظ : الكينونة والدّيمومة ـ من دام والهيعوعة ـ من الهواع ، والسّيدودة ـ من سدت ـ ، ثم ذكر كلاما كثيرا غير متعلق بما نحن فيه. وقد تقدم الكلام على هذا المصدر ، وأنه قد سمع في هذا المصدر الأصل ـ وهو كينونة ـ في قول الشاعر : [الرجز]

١٣٢٥ ـ يا ليتنا قد ضمّنا سفينه

حتّى يعود الوصل (٦) كيّنونه (٧)

قوله : (ما تَشابَهَ) مفعول الاتباع ، وهي موصولة ، أو موصوفة ، ولا تكون مصدرية ؛ لعود الضمير من «تشابه» عليها ، إلا على رأى ضعيف ، و «منه» حال من فاعل «تشابه» أي تشابه حال كونه بعضه.

قوله : «ابتغاء» منصوب على المفعول له ، أي : لأجل الابتغاء ، وهو مصدر مضاف لمفعوله. والتأويل : مصدر أوّل يؤوّل ، وفي اشتقاقه قولان :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : لأجل.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : المفردات ٢١٧.

(٥) في ب : والعامة.

(٦) في أ : النحو.

(٧) تقدم برقم ٨٨٧.

٣٥

أحدهما : أنه من آل يئول أولا ، ومآلا ، أي : عاد ، ورجع ، وآل الرجل من هذا ـ عند بعضهم إلا أنهم يرجعون إليه في مهمّاتهم ويقولون (١) : أولت الشيء : أي : صرفته لوجه لائق به فانصرف ، قال الشاعر : [السريع]

١٣٢٦ ـ أؤوّل الحكم على وجهه

ليس قضائي بالهوى الجائر (٢)

وقال بعضهم : أوّلت الشيء ، فتأول ، فجعل مطاوعه تفعل ، وعلى الأول مطاوعه فعل ، وأنشد الأعشى : [الطويل]

١٣٢٧ ـ على أنّها كانت تأوّل حبّها

تأوّل ربعيّ السّقاب فأصحبا (٣)

أي : يعني أن حبها كان صغيرا ، قليلا ، فآل إلى العظم كما يئول السّقب إلى الكبر ، ثم قد يطلق على العاقبة ، والمردّ ؛ لأنّ الأمر يصير إليهما.

الثاني : أنه مشتق من الإيالة ، وهي السياسة ، تقول العرب : قد ألنا وإيل علينا (٤) ، أي : سسنا وساسنا غيرنا ، وكأن المؤوّل للكلام سايسه ، والقادر عليه ، وواضعه موضعه ، نقل ذلك عن النضر بن شميل.

وفرق الناس بين التفسير والتأويل في الاصطلاح بأن التفسير مقتصر (٥) به على ما لا يعلم إلّا بالتوقيف كأسباب النزول ، ومدلولات الألفاظ ، وليس للرأي فيه مدخل ، والتأويل يجوز لمن حصلت عنده صفة أهل العلم ، وأدوات يقدر أن يتكلم بها إذا رجع بها إلى أصول وقواعد.

فصل

روى ابن عباس : أن رهطا من اليهود منهم حييّ بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له حييّ : بلغنا أنه نزل عليك الم ، فننشدك الله ، أنزل عليك؟ قال : نعم ، قال : فإن كان ذلك حقا فأنا أعلم مدّة ملك أمتك ، هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرها؟ قال : نعم ، المص ، قال : هذه أكثر ، هي مائة (٦) وإحدى وثلاثون سنة ، فهل أنزل غيرها؟ قال : نعم ، المر ، قال : هذه أكثر ، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ، وقد خلّطت علينا ، فلا ندري أبكثيره نأخذ ، أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن

__________________

(١) في ب : ويقال.

(٢) تقدم برقم ٧٤٠.

(٣) ينظر : البيت في ديوانه ٢١ ، اللسان (ربع) ، ومجاز القرآن ١ / ٨٦ ، التاج ٧ / ١٥ ، ومقاييس اللغة ١ / ١٦٢ ، والدر المصون ٢ / ١٥.

(٤) ينظر مجمع الأمثال ٢ / ٤٩٦ (٢٨٨٢) لسان العرب ١ / ١٧٣.

(٥) في ب : يقتصر.

(٦) في ب : مائتان.

٣٦

بهذا؟ فأنزل الله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ)(١).

وقال الربيع : هم وفد نجران ، خاصموا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عيسى ، وقالوا : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال : بلى ، قالوا : حسبنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ثم أنزل : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩].

قال ابن جريج : هم المنافقون (٢).

وقال الحسن : هم الخوارج ، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم (٣) ، وقال المحققون : إن هذا يعم جميع المبطلين ، قالت عائشة : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية «منه آيات محكمة هي أم الكتاب وأخر متشابهات» إلى قوله : «أولي الألباب» (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) فقال رسول الله : «فإذا رأيت الّذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم» (٤). وعن أبي غالب قال : «كنت أمشي مع أبي أمامة ، وهو على حمار حتى إذا انتهى إلى درج مسجد (٥) دمشق ، فإذا رؤوس منصوبة ، فقال : ما هذه الرؤوس؟ قيل : هذه رؤوس يجاء بهم من العراق ، فقال أبو أمامة : كلاب النار ، كلاب النار ، [كلاب النار](٦) أو قتلى تحت ظل السماء ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه ـ يقولها ثلاثا ـ ثم بكى ، فقلت : ما يبكيك يا أبا أمامة؟ قال : رحمة لهم ؛ إنهم كانوا من أهل الإسلام ، فخرجوا منه ، ثم قرأ : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) الآية ، ثم قرأ : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) [آل عمران : ١٠٥] ، فقلت : يا أبا أمامة ، هم هؤلاء؟ قال : نعم ، قلت : أشيء تقوله برأيك ، أم شيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : إني إذن لجريء ، إني إذا لجريء ، بل سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مرة ولا مرتين ، ولا ثلاث ، ولا أربع ، ولا خمس ، ولا ست ، ولا سبع ، ووضع أصبعيه في أذنيه ، قال : وإلا فصمّتا ، قالها ثلاثا ـ ثم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول تفرّقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة ،

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧ ـ ٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٨٤) وانظر «التفسير الكبير» (٧ / ١٧٣).

(٣) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٣٩٩).

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ١٥٧ ـ ١٥٩) ومسلم (٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤) والطيالسي (١٤٣٣) وأبو داود (٤٥٩٨) والترمذي (٤ / ٨٠) وابن حبان (٧٢) والطبري في «تفسيره» (٦ / ١٩٢ ـ ١٩٣). وقال الترمذي : حسن صحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨ ـ ٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن حبان وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الدلائل» من طرق عن عائشة.

(٥) في أ : شجرة.

(٦) سقط في أ.

٣٧

واحدة في الجنّة ، وسائرهم في النّار ، ولتزيدنّ عليهم هذه الأمة واحدة ، واحدة في الجنّة وسائرهم في النّار (١).

فصل

لما بيّن الله تعالى أن الزائغين يتّبعون المتشابه بيّن أنّ لهم فيه غرضين :

الأول : ابتغاء الفتنة.

والثاني : ابتغاء التأويل.

أما الفتنة فقال الربيع والسدي : الفتنة : طلب الشرك (٢).

وقال مجاهد : ابتغاء الشبهات واللّبس ، ليضلوا بها جهّالهم (٣).

وقال الأصم : متى وقعوا في المتشابهات ، صار بعضهم مخالفا للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل ، والهرج والمرج.

وقيل : المتمسك بالمتشابه يقرّر البدع والأباطيل في قلبه ، فيصير مفتونا بذلك الباطل ، عاكفا عليه ، لا يقلع (٤) عنه بحيلة ألبتة لأن الفتنة في اللغة : التوغّل في محبة الشيء ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، أي : موغل في طلبها.

وقيل : الفتنة في الدين هي الضلال عنه ، [ومعلوم أنه لا فتنة ، ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه](٥).

وأما التأويل فقد ذكرنا تفسيره في اللغة ، والفرق بينه وبين التفسير.

قد يسمى التفسير تأويلا قال تعالى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٧٨] ، وقال : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [الإسراء : ٣٥] ، وذلك لأنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى ، والمراد منه : أنهم يطلبون التأويل الذي ليس (٦) عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا بيان ، كطلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب للمطيع والعاصي كم تكون (٧)؟

__________________

(١) أخرجه الطبراني (٨ / ٣٢٨) والحارث بن أبي أسامة كما في «المطالب العالية» (٣ / ٨٦ ـ ٨٧) رقم (٢٩٥٤).

وذكره الهيثمي مختصرا في «مجمع الزوائد» (٧ / ٢٥٨) وقال : رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره وبقية رجال الأوسط ثقات وكذلك أحد إسنادي الكبير.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٩٦) عن السدي والربيع وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٣٩٨).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٦٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد عن مجاهد. وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٤٠٠) والبغوي (١ / ٢٧٩).

(٤) في أ : ينقطع.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : له.

(٧) في أ : لم.

٣٨

وقيل : ابتغاء التأويل : طلب عاقبته ، وطلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل (١) ؛ لقوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [الإسراء : ٣٥] أي : عاقبة.

وقول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) اختلف الناس في هذا الموضع : فقال قوم : الواو في قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) عاطفة على الجلالة ، فيكونون داخلين في علم التأويل وعلى هذا يجوز في الجملة القولية وجهان :

أحدهما : أنها حال : أي : يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك.

والثاني : أن تكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم يقولون ـ وهذا قول مجاهد والربيع وهذا لقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الحشر : ٧] ثم قال (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [الحشر : ٨] إلى أن قال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٩] ثم قال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ولهذا عطف على ما سبق ثم قال : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) [الحشر : ١٠] يعني هم مع استحقاقهم الفيء

__________________

(١) وحساب الجمل هو عبارة عن إعطاء كل حرف من الأبجدية العربية رقم حسابي معين. وكانت تستعمل للدّلالة على الأرقام المعروفة ؛ لأن فيها تسعة أحرف للآحاد ، وتسعة للعشرات ، وتسعة للمئين ، وحرفا للألف.

فالآحاد :

أ

ب

ج

د

ه

و

ز

ح

ط

١

٢

٣

٤

٥

٦

٧

٨

٩

والعشرات

ي

ك

ل

م

ن

س

ع

ف

ص

١٠

٢٠

٣٠

٤٠

٥٠

٦٠

٧٠

٨٠

٩٠

والمئون :

ق

ر

ش

ت

ث

خ

ذ

ض

ظ

١٠٠

٢٠٠

٣٠٠

٤٠٠

٥٠٠

٦٠٠

٧٠٠

٨٠٠

٩٠٠

والألف :

غ

١٠٠٠

وإذا زاد العدد على الألف ، كررت الحروف ، فخمسة آلاف : هغ ، وأربعون ألفا : مغ ، هذا عند المشارقة.

والآحاد عند المغاربة كما هي عند المشارقة.

والعشرات:

ي

ك

ل

م

ن

ص

ع

ف

ض

١٠

٢٠

٣٠

٤٠

٥٠

٦٠

٧٠

٨٠

٩٠

والمئون :

ق

ر

س

ت

ث

خ

ذ

ظ

غ

١٠٠

٢٠٠

٣٠٠

٤٠٠

٥٠٠

٦٠٠

٧٠٠

٨٠٠

٩٠٠

والألف :

ش

١٠٠٠

ويتميّز الرمز بهذه الحروف بالاختصار ، وجمع الأعداد الكثيرة في كلمة واحدة أو كلمات ، تقع في النثر والنظم ، ومن ثمّ وقع في نظم بعض العلوم والمعارف الفلكية ، وفي تاريخ موت السلطان برقوق ، من سلاطين المماليك في مصر ، فقال : «في المشمش» ؛ أي في سنة ٨٠١ ه‍. ينظر المعجم الكبير ١ / ٢٣.

٣٩

يقولون : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) أي : قائلين على حال. وروي عن ابن عباس : أنه كان يقول في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم ، وعن مجاهد : أنا ممن يعلم تأويله.

وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) واو الاستئناف ، فيكون مبتدأ ، وتم الكلام عند قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) والجملة من قوله : «يقولون» خبر المبتدأ ، وهذا قول أبيّ بن كعب ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، ورواية طاوس عن ابن عباس وبه قال الحسن ، وأكثر التابعين ، واختاره الكسائي ، والفرّاء ، والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحدا من خلقه ، كمااستأثر بعلم اسّاعة ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدّجّال ونزول عيسى ـ عليه‌السلام ـ ونحوها ، والخلق متعبدون بالمتشابه ، والإيمان به ، وفي المحكم في الإيمان به والعمل ، ومما يصدّق ذلك قراءة عبد الله (١) : «إن تأويله إلا عند الله والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به ..» وفي حرف أبي : ويقول الراسخون في العلم آمنا به. قال عمر بن عبد العزيز ـ في هذه الآية ـ : انتهى علم الرّاسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنا به ، كل من عند ربنا.

وهذا القول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية ، ويدل لهذا القول وجوه :

أحدها : أنه ذم طالب المتشابه بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ).

الثاني : أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ،) وقال [في أول البقرة](٢): (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٢٦] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل كان لهم في الإيمان به مدح ؛ لأن كل من عرف شيئا على سبيل التفصيل ، فلا بد وأن يؤمن به.

الثالث : لو كان قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) معطوفا لصار قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ابتداء ، وهو بعيد عن الفصاحة ، وكان الأولى أن يقال : وهم يقولون ، أو يقال : ويقولون.

فإن قيل : في تصحيحه وجهان :

الأول : أن «يقولون» خبر مبتدأ ، والتقدير : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا.

الثاني : أن يكون «يقولون» حالا من الراسخين.

فالجواب : أن الأول مدفوع بأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى ، والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره ـ وهو الراسخون ـ فوجب أن يكون قوله : (آمَنَّا بِهِ) حالا من الراسخين لا من «الله» وذلك ترك للظاهر.

__________________

(١) وقرأ بها ابن عباس فيما رواه طاوس عنه. ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٠٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٠١.

(٢) سقط في ب.

٤٠