اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وأمّا المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان ، والنسخ على خلاف الأصل.

وأجيبوا بأن هذا منسوخ بقوله ـ «تناكحوا تناسلوا» (١) وقوله : «لا رهبانيّة في الإسلام» (٢). وقوله عليه الصلاة والسلام : «النّكاح سنّتي وسنّة الأنبياء من قبلي ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» (٣).

وقولهم : النسخ على خلاف الأصل.

قلنا : مسلم إذا لم يعلم الناسخ ، وقد علمناه.

قوله : (وَنَبِيًّا) اعلم أن السيادة إشارة إلى أمرين :

أحدهما : القدرة على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين.

والثاني : ضبط مصالحهم في تأديبهم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.

والحصور إشارة إلى الزهد التام ، فلما اجتمعا حصلت النبوة ؛ لأنه ليس بعدهما إلا النبوة.

قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) صفة لقوله : (وَنَبِيًّا) فهو في محل نصب ، وفي معناه ثلاثة أوجه :

الأول : معناه من أولاد الصالحين.

الثاني : أنه خيّر ـ كما يقال للرجل الخيّر : إنه من الصالحين.

الثالث : أن صلاحه كان أتمّ من صلاح سائر الأنبياء ؛ لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «ما من نبيّ إلّا عصى وهمّ بمعصية إلّا يحيى بن زكريا ، فإنه لم يعص ولم يهمّ بمعصية» (٤).

فإن قيل : إن كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح ، فما الفائدة في ذكر منصب الصلاح بعد ذكر النبوة؟

فالجواب : أن سليمان ـ بعد حصول النبوة ـ قال : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٩].

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٥٢٨) وقال : قال ابن حجر لم أجده بهذا اللفظ لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند البيهقي إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة.

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ٥٩٢) كتاب النكاح باب ما جاء في فضل النكاح رقم (١٨٤٦).

قال البوصيري في «الزوائد» إسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف عيسى بن ميمون المديني.

(٣) أخرجه أحمد ٢ / ٢٥٤ ، والحاكم ٢ / ٥٩١ من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رفعة «ما من آدمي إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة أو عملها إلا أن يكون يحيى بن زكريا لم يهم بخطيئة ولم يعملها».

وقال الذهبي في التلخيص : إسناده جيد.

وقال الهيثمي في المجمع ٨ / ٢١٢ : رواه أحمد وأبو يعلى والبزار ... والطبراني ، وفيه علي بن زيد وضعفه الجمهور ، وقد وثق ، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.

٢٠١

وتحقيقه أن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، فذلك القدر ـ بالنسبة إليهم ـ يجري مجرى حفظ الواجبات ـ بالنسبة إلينا ـ وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، فكلما كان أكثر نصيبا كان أعلى قدرا. والله أعلم.

قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) يجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها ـ حينئذ ـ وجهان :

أحدهما : «أنّى» لأنها بمعنى «كيف» أو بمعنى «من أين»؟ ، و «لي» ـ على هذا ـ تبيين.

والثاني : أن الخبر هو الجار والمجرور ، و «كيف» منصوب على الظرف. ويجوز أن تكون التامة ، فيكون الظرف والجار ـ كلاهما ـ متعلقين ب «يكون» ، أي : كيف يحدث لي غلام؟

ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «غلام» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفة له.

قوله : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) جملة حالية.

قال أهل المعاني : «كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك».

فلهذا جاز أن نقول : بلغت الكبر ، وجاز أن تقول : بلغني الكبر ، يدل عليه قول العرب : تلقيت الحائط وتلقاني الحائط.

وقيل : لأن الحوادث تطلب الإنسان. وقيل : هو من المقلوب ، كقوله : [البسيط]

١٤٤٠ ـ مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت

نجران أو بلغت سوآتهم هجر (١)

فإن قيل : أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد؟

فالجواب : أنه لا يجوز ، والفرق بينهما أن الكبر كالشيء الطالب للإنسان ، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضا يأتيه ـ أيضا ـ بمرور السنين عليه ، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب ، فظهر الفرق.

فصل

قدم في هذه السورة حال نفسه ، وأخّر حال امرأته ، وفي سورة مريم عكس.

فقيل : لأن ضرب الآيات ـ في مريم ـ مطابق لهذا التركيب ؛ لأنه قدّم وهن عظمه ، واشتعال شيبه ، وخوفه مواليه ممن ورائه ، وقال : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) فلما أعاد ذكرهما

__________________

(١) البيت للأخطل في ديوانه (١٧٨) وينظر شرح شواهد المغني ٢ / ٩٧٢ ، وفي تخليص الشواهد ص ٢٢٤٧ والدرر ٣ / ٢٥ ، والأشباه والنظائر ١ / ٢٣٣٧ وأمالي المرتضى ١ / ٤٦٦ ، ورصف المباني ص ٣٩٠ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٦ والمحتسب ٢ / ١١٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٩٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٦٥ والدر المصون ٢ / ٨٦.

٢٠٢

في استفهامه أخر ذكر الكبر ، ليوافق رؤوس الآي ـ وهي باب مقصود في الفصاحة ـ والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا زمانيّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير.

فصل

الغلام : الفتيّ السّنّ من الناس ـ وهو الذي بقل شاربه ـ وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز ؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه ، وأما الكهل ، فباعتبار ما كان عليه.

قالت ليلى الأخيليّة : [الطويل]

١٤٤١ ـ شفاها من الدّاء العضال الّذي بها

غلام إذا هزّ القناة سقاها (١)

وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمّه سمّي جنينا ، قال تعالى : (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [النجم : ٣٢] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم ، فإذا ولد سمّي صبيّا ، فإذا فطم سمي غلاما إلى سبع سنين ، ثم يسمّى يافعا إلى أن يبلغ عشر سنين ، ثم يطلق عليه حزوّر إلى خمس عشرة سنة ، ثم يصير قمرا إلى خمس وعشرين سنة ، ثم عنطنطا إلى ثلاثين.

قال الشاعر : [الطويل]

١٤٤٢ ـ وبالمخض حتّى صار جعدا عنطنطا

إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه (٢)

ثم حلحلا إلى أربعين ، ثم كهلا إلى خمسين ـ وقيل : إلى ستين ـ ثم شيخا إلى ثمانين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله : (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) ثم هو راغم بعد ذلك.

واشتقاق «الغلام» من الغلمة والاغتلام ، وهو طلب النكاح ، لما كان مسببا عنه أخذ منه لفظه.

ويقال : اغتلم الفحل : أي : اشتدت شهوته إلى طلب النكاح ، واغتلم البحر ، أي : هاج وتلاطمت أمواجه ، مستعار منه.

وجمعه ـ في القلة ـ أغلمة ، وفي الكثرة : غلمان ، وقد جمع ـ شذوذا ـ على غلمة ، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع؟

قال الفراء : «يقال : غلام بيّن الغلومة والغلوميّة والغلامية ، قال : والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون : عبد بيّن العبودية والعباديّة ـ يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل ـ».

قال القرطبي : والغيلم : ذكر السلحفاة ، والغيلم : موضع.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

٢٠٣

وهي مصدر كبر يكبر كبرا أي : طعن في السّنّ ، قال : [الطويل]

١٤٤٣ ـ صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم (١)

فصل

قال الكلبيّ : كان زكريا ـ يوم بشّر بالولد ـ ابن ثنتين وتسعين سنة.

وقيل : ابن ثنتين وسبعين سنة.

وروى الضحاك ـ عن ابن عباس ـ قال : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة (٢).

فإن قيل : قوله : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ) خطاب مع الله ، أو مع الملائكة ، وليس جائزا أن يكون مع الله تعالى ؛ لأن الآية المقدمة دلّت على أن الذين نادوه هم الملائكة ، وهذا الكلام ، لا بدّ أن يكون خطابا مع ذلك المنادى لا مع غيره ، وليس جائزا أن يكون خطابا مع الملك ؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك : يا رب ، فذكر المفسّرون فيه جوابين :

أحدهما : أن الملائكة لما نادوه وبشّروه تعجّب زكريا ، ورجع في إزالة ذلك التعجّب إلى الله ـ تعالى ـ.

الثاني : أنه خطاب مع الملائكة ، والربّ إشارة إلى المربّي ، ويجوز وصف المخلوق به ، فإنه يقال : فلان يربيني ويحسن إليّ.

فإن قيل : لم قال زكريا ـ بعدما وعده الله وبشره بالولد ـ : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ)» أكان ذلك عنده محال أو شكّا في وعد الله وقدرته؟

فالجواب : من وجوه :

أحدها : إن قلنا : معناه من أين؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نطفة إلا من خلق ، ولا خلق إلا من نطفة ، لزم التسلسل ، ولزم حدوث الحوادث في الأزل ـ وهو محال ـ فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله ـ تعالى ـ لا من نطفة ، أو من نطفة خلقها الله ـ تعالى ـ لا من إنسان.

[ثانيها] : يحتمل أن زكريّا طلب ذلك من الله ـ تعالى ـ فلو كان ذلك محالا ممتنعا لما طلبه من الله ـ تعالى ـ.

وإذا كان معنى «أنّى» : كيف ، فحدوث الولد يحتمل وجهين :

أحدهما : أي منع شيخوخته ، وشيخوخة امرأته ، أو يجعله وامرأته شابين ، أو يرزقه الله

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ٣٥) عن ابن عباس.

٢٠٤

ولدا من امرأة أخرى ، فقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) معناه : كيف تعطيني الولد؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول ، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهما لا شاكا. قاله الحسن والأصمّ.

وثانيهما : أن من كان آيسا من الشيء مستبعدا لحصوله ووقوعه ، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود ، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح ، ويقول : كيف حصل هذا؟

ومن أين وقع؟ كمن يرى إنسانا وهب أموالا عظيمة ، يقول : كيف وهب هذه الأموال؟

ومن أين سمحت نفسك بهبتها. كذا هنا.

الثالث : أن الملائكة لما بشّروه بيحيى ، لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى ، أو من صلبه ، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال.

الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء يطلب من السيد ، ثم إن السيد يعده بأنه سيعطيه ، فعند ذلك يلتذّ السائل بسماع ذلك ، فربما أعاد السؤال ؛ ليعيد ذلك الجواب ، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى ، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام.

الخامس : نقل عن سفيان بن عيينة قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارة ، فلما سمع البشارة ـ زمان الشيخوخة ـ استبعد ذلك ـ على مجرى العادة لا شكّا في قدرة الله ـ تعالى ـ.

السادس : قال عكرمة والسّدّيّ : إنّ زكريا ـ عليه‌السلام ـ جاءه الشيطان عند سماع البشارة ، فقال يا زكريا إن هذا الصوت من الشيطان ـ وقد سخر منك ـ ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور (١) ، فقال زكريا ذلك ؛ دفعا للوسوسة ، ومقصوده من هذا الكلام أن يريه الله آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء الشيطان.

قال القرطبي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطين عند الأنبياء عليهم‌السلام ؛ إذ لو جوّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع.

ويمكن أن يجاب بأنه لمّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة ، ولا مدخل للشيطان فيه ، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد ، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات. فلا جرم [بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان](٢) ، فرجع إلى الله ـ تعالى ـ في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٨٦) عن عكرمة وأخرجه الطبري (٦ / ٣٨٦) وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (٢ / ٤٠) عن السدي.

(٢) سقط في أ.

٢٠٥

قوله : (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) جملة حالية ، إما من الياء في «لي» فيتعدد الحال ـ عند من يراه ـ وإما من الياء في «بلغني» ، والعاقر : من لا يولد له رجلا كان أو امرأة ، مشتقا من العقر ، وهو القتل ، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده ، والفعل ـ بهذا المعنى ـ لازم ، وأما عقرت ـ بمعنى «نحرت» فمتعدّ.

قال تعالى : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) [الأعراف : ٧٧].

وقال الشاعر : [الطويل]

١٤٤٤ ـ ...........

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل (١)

وقيل : عاقر ـ على النسب ـ أي : ذات عقر ، وهي بمعنى مفعول ، أي : معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ، والعقر ـ بفتح العين وضمها ـ أصل الشيء ، ومنه عقر الدار ، وعقر الحوض ، وفي الحديث : «ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلّوا» (٢) وعقرته ، أي : أصبت عقره ، أي : أصله ـ نحو رأسته ، أي أصبت رأسه ، والعقر ـ أيضا ـ آخر الولد ، وكذلك بيضة العقر ، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل ـ مجازا ـ وفي كلامهم رفع فلان عقيرته ، أي : صوته ، وذلك أن رجلا عقر رجله فرفع صوته ، فاستعير ذلك لكلّ من رفع صوته. وقال : وأنشد الفراء : [الرجز]

١٤٤٥ ـ أرزام باب عقرت أعواما

فعلّقت بنيّها تسماما (٣)

وقال بعضهم : يقال : عقرت المرأة تعقر عقرا وعقارا ويقال : عقر الرجل وعقر وعقر إذا لم تحبل زوجته ، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة.

قال الزّجّاج (٤) : عاقر بمعنى ذات عقر قال : لأن فعلت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة ، وكريمة ، وإنما عاقر على ذات عقر ، قلت : وهذا نص في أن الفعل

__________________

(١) عجز بيت لامرىء القيس وصدره :

تقول وقد مال الغبيط بنا معا

ينظر ديوانه (١١) وابن الشجري ٢ / ٩٣ وشرح القصائد العشر (٧١) واللسان (عقر) والتهذيب (١ / ٢١٨) وتفسير القرطبي ٧ / ٢٤١ وشرح القصائد السبع ص ٣٧ والتاج ٣ / ٤١٥ وحاشية الأمير على المغني (٩٨) ورغبة الآمل ٣ / ١٣٣ والدر المصون ٢ / ٨٧.

(٢) أخرجه أبو داود ٢ / ٢٩٦ في البيوع ، باب النهي عن العينة (٣٤٦٢) وأحمد ٢ / ٨٤ عن ابن عمر رفعه «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».

وذكر الهيثمي في المجمع ٥ / ٢٨٧ عن أبي بكر رفعه «ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب» وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه علي بن سعيد الرازي قال الدار قطني : ليس بذاك ، وقال الذهبي : روى عنه الناس.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٨٧.

(٤) ينظر : معاني القرآن ١ / ٤١٢.

٢٠٦

المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عقرت ـ بضم القاف ؛ إذ لو جاز فتحها ، أو كسرها لجاء منهما فاعل ـ من غير تأويل على النسب ، ومن ورود عاقر وصفا للرجل قول عامر بن الطفيل : [الطويل]

١٤٤٦ ـ لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا

جبانا فما عذري لدى كلّ محضر (١)

قال القرطبيّ : «والعاقر : العظيم من الرمل ، لا ينبت شيئا ، والعقر ـ أيضا ـ مهر المرأة إذا وطئت بشبهة وبيضة العقر : زعموا أنها بيضة الديك ، لأنه يبيض في عمره بيضة واحدة إلى الطول ، وعقر النار ـ أيضا ـ وسطها ومعظمها وعقر الحوض : مؤخّره ـ حيث تقف الإبل إذا وردت».

قوله : (قالَ كَذلِكَ) هذا القائل هو الرب المذكور في قوله : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون هو الله تعالى ، وأن يكون هو جبريل ـ عليه‌السلام.

قوله : (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) في الكاف وجهان :

أحدهما : أنها في محل نصب ، وفيه التخريجان المشهوران :

الأول ـ وعليه أكثر المعربين ـ : أنها نعت لمصدر محذوف ، وتقديره يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة ، مثل ذاك الفعل ، وهو خلق الولد بين شيخ فان وعجوز عاقر.

والثاني أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر ، أي : يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك وهو مذهب سيبويه (٢) ، وقد تقدم إيضاحه.

الثاني ـ من وجهي الكاف ـ : أنها في محل رفع خبر مقدّم ، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر ، فقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة لله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، وقدره ابن عطية : «كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله».

وقدّره أبو حيّان ، فقال : «وذلك على حذف مضاف ، أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، فيكون (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) شرحا للإبهام الذي في اسم الإشارة».

فالكلام ـ على الأول ـ جملة واحدة ، وعلى الثاني جملتان.

وقال ابن عطية : «ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : ربّ على أيّ وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال لهما : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام ، على هذا التأويل ـ في قوله «كذلك» ، وقوله : (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) جملة مبيّنة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب».

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (١١٩) ومجاز القرآن ١ / ٩٢ والطبري ٢ / ٣٨١ والمذكر والمؤنث ١ / ١٧١ والمفضليات ص ٣٦٢ والأصمعيات ص ٢١٥ وشرح المفضليات ٣ / ١٢٣٧ والدر المصون ٢ / ٨٧.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.

٢٠٧

وعلى هذا الذي ذكره يكون «كذلك» متعلقا بمحذوف ، و «الله يفعل» جملة منعقدة مع مبتدأ وخبر.

قوله : (اجْعَلْ لِي آيَةً) يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير ، فيتعدى لاثنين : أولهما «آية» ، الثاني : الجار قبله ، والتقديم ـ هنا ـ واجب ؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة ـ وهي آية ـ أي : لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار ، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله ، والتقدير : صير آية من الآيات لي ، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد ـ أي : أوجد لي آية ـ فيتعدى لواحد ، وفي «لي» ـ على هذا ـ وجهان :

أحدهما : أن يتعلق بالجعل.

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آية» ؛ لأنه لو تأخّر لجاز أن يقع صفة لها. ويجوز أن يكون للبيان.

وحرك الياء ـ بالفتح (١) ـ نافع وأبو عمرو ، وسكنها الباقون.

فصل

المراد بالآية : العلامة ، أي : علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي ، فأزيد في العبادة شكرا لذلك ، وذكروا في الآية وجوها :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ حبس لسانه ثلاثة أيام ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزا ؛ وهو قول أكثر المفسّرين ، وفيه فائدتان :

إحداهما : أن يكون ذلك دليلا على علوق الولد.

والثانية : أنه تعالى ـ حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقدره على الذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، فيكون في تلك المدة مشتغلا بذكر الله ـ تعالى ـ وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة.

واعلم أن اشتمال تلك الواقعة على المعجزة من وجوه :

أحدها : أن قدرته على التكلّم بالتسبيح والذكر ، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا من أعظم المعجزات.

وثانيها : أن حصول تلك المعجزة في تلك الأيام المقدرة ـ مع حصول البنية واعتدال المزاج ـ معجزة ظاهرة.

ثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة ، فقد حصل الولد ، ثمّ إنّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر.

__________________

(١) انظر : السبعة ١٥١ ، والدر المصون ٢ / ٨٨.

٢٠٨

الثاني : قال أبو مسلم : إنّ زكريا لما طلب من الله آية تدل على علوق الولد ، قال تعالى : آيتك أن تصير مأمورا بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق ، وأن تكون مشتغلا بالذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، معرضا عن الخلق والدنيا ؛ شكرا لله ـ تعالى ـ على إعطاء مثل هذه الموهبة ، فإن كانت لك حاجة دلّ عليها بالرمز ، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب.

الثالث : قال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام ؛ عقوبة لسؤاله الآية ـ بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ـ فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.

وقوله : (أَلَّا تُكَلِّمَ) «أن» وما في حيّزها في محل رفع ؛ خبرا لقوله : (آيَتُكَ) أي آيتك عدم كلامك الناس. والجمهور على نصب «تكلّم» بأن المصدرية.

وقرأ ابن أبي عبلة برفعه (١) ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة ، واسمها ـ حينئذ ـ ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيّة بعدها في محل رفع ، خبرا ل «أن» ومثله : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ) [طه : ٨٩] وقوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [المائدة : ٧١] ووقع الفاصل بين «أن» والفعل الواقع خبرها حرف نفي ، ولكن يضعف كونها مخفّفة عدم وقوعها بعد فعل يقين.

والثاني : أن تكون «أن» الناصبة حملت على «ما» أختها ، ومثله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] و «أن» وما في حيزها ـ أيضا ـ في محل رفع ، خبرا ل «آيتك».

قوله : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) الصحيح أن هذا النحو ـ وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه ـ منصوب على الظرف ، خلافا للكوفيين ، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به.

وقيل : وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها ، فحذف ، كقوله تعالى : (تَقِيكُمُالْحَرَّ) [النحل : ٨١] ونظائره ؛ يدل على ذلك قوله ـ في سورة مريم ـ (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) [مريم : ١٠] وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من الآيتين ، فلا حاجة إلى ادعاء حذف ؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه ـ يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرى : ثلاث ليال وأيامها.

قوله : (إِلَّا رَمْزاً) فيه وجهان :

أحدهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام ، إذ الرمز الإشارة بعين ، أو حاجب أو نحوهما ، ولم يذكر أبو البقاء غيره.

وبه بدأ ابن عطية مختارا له ، فإنه قال : «والمراد بالكلام ـ في الآية ـ إنما هو النطق

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٣٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٧١ ، والدر المصون ٢ / ٨٨.

٢٠٩

باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاء إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيمان ونحوها ؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا».

والوجه الثاني : أنه متصل ؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معان : الرمز والإشارة من جملتها.

أنشدوا : [الطويل]

١٤٤٧ ـ إذا كلّمتني بالعيون الفواتر

رددت عليها بالدّموع البوادر (١)

وقال آخر : [الطويل]

١٤٤٨ ـ أرادت كلاما فاتّقت من رقيبها

فلم يك إلّا ومؤها بالحواجب (٢)

وهو مستعمل ، قال حبيب : [البسيط]

١٤٤٩ ـ كلّمته بجفون غير ناطقة

فكان من ردّه ما قال حاجبه (٣)

وبهذا الوجه بدأ الزمخشريّ مختارا له ، قال : «لما أدى مؤدّى الكلام ، وفهم منه ما يفهم سمّي كلاما ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا».

والرمز : الإشارة والإيماء بعين ، أو حاجب أو يد ـ ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمسبّحة ومنه قيل للفاجرة : الرّمّازة ، والرمّازة ، وفي الحديث : «نهى عن كسب الرّمّازة» (٤) ، يقال منه : رمزت ترمز وترمز ـ بضم العين وكسرها في المضارع.

وأصل الرمز : التحرك ، يقال : رمز وارتمز أي : تحرّك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، لتحركه واضطرابه.

وقال الراغب (٥) : «الرمز : الإشارة بالشفة والصوت الخفي ، والغمز بالحاجب. وما ارمازّ: أي ما تكلم رمزا ، وكتيبه رمّازة : أي : لم يسمع منها إلا رمزا ؛ لكثرتها».

ويؤيد كونه الصوت الخفي ـ على ما قاله الراغب ـ أنه كان ممنوعا من رفع الصوت.

قال الفراء : «قد يكون الرمز باللسان من غير أن يتبيّن ، وهو الصوت الخفي ، شبه الهمس».

__________________

(١) تقدم برقم ٥٩٩.

(٢) البيت للقناني ينظر في البحر ٢ / ٤٧٢ واللسان (ومأ) ومعاني القرآن للفراء ١ / ٤٠ و ٢ / ٢١ والصحاح ١ / ٨٢ وإعراب النحاس ٤ / ٣٣٠ وتاج العروس ١ / ١٣٦ والدر المصون ٢ / ٨٩.

(٣) ينظر البيت في ديوانه ٤ / ٥٩ والبحر ٢ / ٤٧٢ والدر المصون ٢ / ٨٩.

(٤) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٨ / ٣٠٤).

(٥) ينظر : المفردات ٢٠٣.

٢١٠

وقال عطاء : أراد صوم ثلاثة أيام ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزا.

وقرأ العامة : (رَمْزاً) ـ بفتح الراء وسكون الميم ـ وقرأ يحيى بن وثّاب وعلقمة بن (١) قيس «رمزا» بضمها ـ وفيه وجهان :

أحدهما : أنه مصدر على «فعل» ـ بتسكين العين ـ في الأصل ، ثم ضمّت العين ؛ إتباعا ، كقولهم اليسر والعسر ـ في اليسر والعسر ـ وقد تقدم كلام أهل التصريف فيه.

والثاني : أنه جمع رموز ـ كرسل في جمع رسول ـ ولم يذكر الزمخشريّ غيره.

وقال أبو البقاء : «وقرىء بضمها ـ أي : الراء ـ وهو جمع رمزة ـ بضمتين ـ وأقر ذلك في الجمع. ويجوز أن يكون مسكّن الميم ـ في الأصل ـ وإنما أتبع الضمّ الضّمّ.

ويجوز أن يكون مصدرا غير جمع ، وضمّ ، إتباعا ، كاليسر واليسر».

قال شهاب الدين : قوله : «جمع رمزة» إلى قوله : في الأصل ؛ كلام لا يفهم منه معنى صحيح.

وقرأ الأعمش : «رمزا» بفتحهما.

وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز ـ كخادم وخدم ـ وانتصابه على هذا ـ على الحال من الفاعل ـ وهو ضمير زكريا ـ والمفعول معا ـ وهو الناس ـ كأنه قال : إلا مترامزين ، كقوله : [الوافر]

١٤٥٠ ـ متى ما تلقني فردين ترجف

روانف أليتيك وتستطارا (٢)

وكقوله : [الكامل]

١٤٥١ ـ فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أيّي وأيّك فارس الأحزاب (٣)؟

قوله : «كثيرا» نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير ذلك المصدر ، أو نعت لزمان محذوف تقديره : ذكرا كثيرا ، أو زمانا كثيرا ، والباء في قوله : «بالعشيّ» بمعنى «في» أي : في العشي والإبكار.

والعشي : يقال من وقت زوال الشمس إلى مغيبها ، كذا قال الزمخشريّ.

__________________

(١) انظر : الشواذ ٢٠ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٣٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٧٢ والدر المصون ٢ / ٨٩.

(٢) البيت لعنترة العبسي ينظر خزانة الأدب ٤ / ٢٩٧ ، ٧ / ٥٠٧ ، ٥١٤ ، ٥٥٣ ، ٨ / ٢٢ ، والدرر ٥ / ٩٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٩٤ ، وشرح شواهد الشافية ص ٥٠٥ ، وشرح عمدة الحافط ص ٤٦٠ وشرح المفصل ٢ / ٥٥ ، ولسان العرب (طير) ، (ألا) ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٧٤ وبلا نسبة في أسرار العربية ص ١٩١ ، وأمالي ابن الحاجب ١ / ٤٥١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٧٩ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٣٠١ ، وشرح المفصل ٤ / ١١٦ ، ٦ / ٨٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ٦٣. والدر المصون ٢ / ٩٠.

(٣) ينظر البيت في مغني اللبيب ص ١٤١ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٢٢ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٤٢ ، والدرر ٥ / ٣٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣١٧ ، وشرح التصريح ٢ / ٤٤ ، ١٣٨ ، والمحتسب ١ / ٢٥٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥١. والدر المصون ٢ / ٩٠.

٢١١

وقال الراغب : «العشيّ من زوال الشمس إلى الصباح». والأول هو المعروف.

قال الشاعر : [الطويل]

١٤٥٢ ـ فلا الظّلّ من برد الضّحى تستطيعه

ولا الفيء من برد العشيّ تذوق (١)

وقال الواحديّ : «العشيّ : جمع عشية ، وهي آخر النهار».

والعامة قرءوا : «والإبكار» بكسر الهمزة ، وهو مصدر أبكر يبكر إبكارا ـ أي : خرج بكرة ، ومثله : بكر ـ بالتخفيف ـ وابتكر.

قال عمر بن أبي ربيعة : [الطويل]

١٤٥٣ ـ أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

 .......... (٢)

وقال : [الخفيف]

١٤٥٤ ـ أيّها الرّائح المجدّ ابتكارا

 .......... (٣)

وقال أيضا : [الطويل]

١٤٥٥ ـ بكرن بكورا واستحزن بسحرة

فهنّ لوادي الرّسّ كاليد للفم (٤)

وقرىء شاذا «والأبكار» ـ بفتح الهمزة (٥) ـ وهو جمع بكر ـ بفتح الفاء والعين ـ ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرّف ، فلا يستعمل غير ظرف ، تقول : أتيتك يوم الجمعة بكر. وسبب منع صرفه التعريف والعدل عن «أل». فلو أريد به وقت مبهم انصرف نحو أتيتك بكرا من الأبكار ونظيره سحر وأسحار ـ في جميع ما تقدم.

وهذه القراءة تناسب قوله : (بِالْعَشِيِ) عند من يجعلها جمع عشيّة ؛ ليتقابل الجمعان.

ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

__________________

(١) البيت لحميد بن ثور ينظر : ديوانه ص ٤٠ والعمدة ١ / ٣١٢ وجامع البيان ٦ / ٣٩١ وزاد المسير ١ / ٣٨٦ و ٤ / ٣١٩ والتاج ١ / ٩٨ والمحرر الوجيز ١ / ٤٣٢.

(٢) صدر بيت وعجزه :

غداة غد أم رائح فمهجر

ينظر ديوانه (٨٤) والجمهرة ١ / ٢٧٣ وجامع البيان ٦ / ٣٩٢ والفاضل ص ١١ والاشتقاق ص ٤٩ ورغبة الآمل ٧ / ١٦٥ والمحرر الوجيز ١ / ٤٣٣ والدر المصون ٢ / ٩٠.

(٣) صدر بيت لعمر بن أبي ربيعة وعجزه :

قد قضى من تهامة الأوطارا

ينظر ديوانه (٤٩٣) والكامل ٢ / ٢٣٠ والدر المصون ٢ ؛ ٩٠.

(٤) تقدم.

(٥) انظر : الشواذ ٢٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٧٣ ، والدر المصون ٢ / ٩١.

٢١٢

وقال الراغب (١) : أصل الكلمة هي البكرة ـ أول النهار ـ فاشتقّ من لفظه لفظ الفعل ، فقيل : بكر فلان بكورا ـ إذا خرج بكرة. والبكور : المبالغ في البكور ، وبكّر في حاجته ، وابتكر وباكر. [وتصور فيها](٢) معنى التعجيل ؛ لتقدّمها على سائر أوقات النهار فقيل لكل متعجّل : بكّر.

وظاهر هذه العبارة أن البكر مختص بطلوع الشمس إلى الضّحى ، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصل.

وقد صرح الواحديّ بذلك ، فقال : «هذا معنى الإبكار ، ثم يسمّى ما بين طلوع الفجر إلى الضّحى إبكارا كما يسمى إصباحا».

فصل

قيل : المراد بالذكر الكثير : الذكر بالقلب ، وقوله : (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) محمول على الذكر باللسان.

وقيل : المراد بالتسبيح : الصلاة ؛ لأنها تسمى تسبيحا ، قال تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧]. ومنه سمي صلاة الظهر والعصر : صلاتي العشيّ.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٥١)

إن شئت جعلت «إذ» نسقا على الظرف قبله ـ وهو قوله : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) ،

__________________

(١) ينظر : المفردات ٥٥.

(٢) في ب : وفهم منها.

٢١٣

وإن شئت جعلته منصوبا بمقدّر ، قاله أبو البقاء.

وقرأ ابن مسعود وابن عمر : وإذ قال الملائكة ، ـ دون تاء تأنيث (١) ، وتقدم توجيهه في «فناداه الملائكة» ـ ومعمول القول الجملة المؤكدة ب «إنّ» ـ من قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) ـ وكرر الاصطفاء ؛ رفعا من شأنها.

قال الزمخشريّ : «اصطفاك أولا حين تقبّلك من أمّك ، وربّاك ، واختصك بالكرامة السنية ، واصطفاك آخرا على نساء العالمين ، بأن وهب لك عيسى من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء».

واصطفى : «افتعل» من الصفوة أبدلت التاء طاء ؛ لأجل حرف الإطباق كما تقدم تقريره في البقرة ، وتقدم سبب تعديه ب «على» وإن كان أصل تعديته بمن.

وقال أبو البقاء : «وكرر اصطفى إما توكيدا وإما لتبيين من اصطفاها عليهم».

وقال الواحديّ : «وكررّ الاصطفاء ؛ لأنّ كلا الاصطفاءين يختلف معناهما ، فالاصطفاء الأول عموم يدخل فيه صوالح النساء ، والثاني : اصطفاء بما اختصت به من خصائصها».

فصل

المراد بالملائكة ـ هنا جبريل وحده كقوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) [النحل : ٢] يعني : جبريل وإنما عدلنا عن الظاهر ؛ لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليه‌السلام هو جبريل ؛ لقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [مريم : ١٧].

فصل

اعلم أن مريم ـ عليها‌السلام ـ ما كانت من الأنبياء ، لقوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [الأنبياء : ٧] ، وهذا الاستدلال فيه نظر ؛ لأن الإرسال ليس هو المدّعى ، وإنما المدّعى هو النبوة ، فإنّ كلّ رسول نبيّ ، وليس كلّ نبيّ رسولا ، وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل إليها إمّا يكون كرامة لها ـ وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء ـ وإرهاصا لعيسى ، والإرهاص : هو مقدمة تأسيس النبوة ، وإما أن يكون معجزة لزكريا عليه‌السلام وهو قول جمهور المعتزلة.

وقال بعضهم : إن ذلك كان على سبيل النفث في الرّوع ، والإلهام ، والإلقاء في القلب ، كما كان في حقّ أم موسى ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧].

فصل

قيل : المراد بالاصطفاء الأول أمور :

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٣٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٧٦ ، والدر المصون ٢ / ٩١.

٢١٤

أحدها : أنه ـ تعالى ـ قبل تحريرها ـ مع كونها أنثى ـ ولم يحصل هذا لغيرها.

وثانيها : قال الحسن : إن أمّها لما وضعتها ما غذّتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، فكان رزقها يأتيها من الجنّة.

وثالثها : أنّه ـ تعالى ـ فرّغها لعبادته ، وكفاها أمر رزقها.

ورابعها : أنه ـ تعالى ـ أسمعها كلام الملائكة شفاها ، ولم يتّفق ذلك لأنثى غيرها.

فصل

وفي التطهير أيضا وجوه :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ طهرها عن الكفر والمعصية ، كقوله تعالى في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣].

وثانيها : طهرها عن مسيس الرجال.

وثالثها : طهرها عن الحيض والنفاس.

ورابعها : طهرها عن الأفعال الخسيسة.

وخامسها : طهرها عن مقال اليهود وكذبهم وافترائهم. وأما الاصطفاء الثاني ، فالمراد منه أنه ـ تعالى ـ وهب لها عيسى عليه‌السلام من غير أب ، وأنطق عيسى حين انفصاله منها وحين شهد لها ببراءتها من التهمة ، وجعلها وابنها آية للعالمين. وقال علي ـ رضي الله عنه ـ سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خير نسائها مريم ابنة عمران ، وخير نسائها خديجة» (١) رواه وكيع وأشار وكيع إلى السماء والأرض.

وعن أبي موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كمل من الرّجال كثير ، ولم يكمل من النّساء إلّا مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وإنّ فضل عائشة على سائر النّساء كفضل الثّريد على سائر الطّعام» (٢).

وعن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حسبك من نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، وآسية امرأة فرعون» (٣).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧ / ١٦٥) كتاب مناقب الأنصار : باب تزويج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٨١٥) ومسلم (٤ / ١٨٨٦) كتاب فضائل الصحابة : باب فضائل خديجة (٦٩ ـ ٢٤٣٠) والترمذي (٥ / ٦٥٩) كتاب المناقب باب فضل خديجة (٣٨٧٧) وأحمد (١ / ٥٤ ، ١١٦ ، ١٣٢ ، ١٤٣) والبيهقي (٩ / ٣٦٧) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٣٢٧) عن علي بن أبي طالب مرفوعا.

(٢) أخرجه البخاري (٧ / ١٣٣) كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة (٣٧٦٨) ومسلم (٤ / ١٨٨٦) كتاب فضائل الصحابة باب فضل خديجة (٧٠ ـ ٢٤٣١) والترمذي (٤ / ٢٤٢) كتاب الأطعمة باب فضل الثريد (١٨٣٤) وابن ماجه (٣٢٨٠) وأحمد (٤ / ٣٩٤ ، ٤٠٩) والبغوي (٧ / ٢٦٤) وابن أبي شيبة (١٢ / ١٢٨) وأبو نعيم في «الحلية» (٥ / ٩٩).

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٦٦٠) كتاب المناقب باب فضل خديجة (٣٨٧٨) وأحمد (٣ / ١٣٥) والحاكم (٣ / ١٥٧) وعبد الرزاق (٢٠٩١٩) والطحاوي في «مشكل الآثار» (١ / ٥٠) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٢٣٠) وأبو نعيم في «الحلية» (٢ / ٣٤٤) والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (٣٦).

٢١٥

وقيل : دلّ هذا الحديث على أن هؤلاء الأربع أفضل من سائر النساء ، وهذه الآية دلت على أنّ مريم عليها‌السلام أفضل من الكلّ. وقول من قال : المراد أنها مصطفاة على عالمي زمانها ، فهذا ترك للظاهر. وروى موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «سيّدة نساء العالمين مريم ثمّ فاطمة ، ثمّ خديجة ، ثمّ آسية» (١) حديث حسن.

قال القرطبي : خصّ الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء ؛ وذلك أن روح القدس كلّمها ، وظهر لها ونفخ في درعها ، ودنا منها للنفخة ، وليس هذا لأحد من النساء ، وصدّقت بكلمات ربّها ، ولم تسأل آية عندما بشرت ـ كما سأل زكريا ـ من الآية ، ولذلك سمّاها الله ـ تعالى ـ في تنزيله : صدّيقة ، قال «وأمّه صدّيقة» وقال : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم : ١٢] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى ، وشهد لها بالقنوت ؛ ولما بشّر زكريا بالغلام لحظ إلى كبر سنّه ، وعقم رحم امرأته فقال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) [آل عمران : ٤٠] ، فسأل آية. وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ، ولم يمسسها بشر ، فقيل لها كذلك قال ربّك فاقتصرت على ذلك ، وصدّقت بكلمات ربها ، ولم تسأل آية ، فمن يعلم كنه هذا الأمر ، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب؟

قوله : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة : ٢٣٨]. وأنه طول القيام.

فإن قيل : لم قدم ذكر السجود على الركوع؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن الواو تفيد التشريك لا الترتيب.

الثاني : أن غاية قرب العبد من ربه إذا كان ساجدا ، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قدّم على باقي الطّاعات.

الثالث : قال ابن الأنباري : «قوله تعالى : (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أمر بالعبادة على العموم ، وقوله بعد ذلك : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) يعني استعملي السجود في وقته اللائق به ، وليس المراد أن تجمع بينهم ، ثم تقدم السجود على الركوع».

الرابع : أن الصلاة تسمى سجودا ـ كما قيل في قوله : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) وفي الحديث : «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين».

وأيضا قال : فالسجود أفضل أجزاء الصلاة ، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٢) وعزاه لابن عساكر وينظر كنز العمال ١٢ / ١٤٣ ـ ١٤٥.

٢١٦

وإذا ثبت ذلك فقوله : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) معناه : قومي ، وقوله : (وَاسْجُدِي) أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد ، وقوله : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمر بالخضوع ، والخشوع بالقلب.

الخامس : لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّما على الركوع. فإن قيل : لم لم يقل : واركعي مع الراكعات؟

فالجواب : لأن الاقتداء بالرجل ـ حال الاختفاء من الرجال ـ أفضل من الاقتداء بالنساء.

وقيل : لأنه أعم وأشمل.

قال المفسّرون : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات ـ شفاها ـ لمريم قامت في الصّلاة ، حتى تورمت قدماها ، وسالت دما وقيحا.

وقوله : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) قيل : معناه : افعلي كفعلهم.

وقيل : المراد به الصلاة الجامعة.

قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ) يجوز فيه أوجه :

أحدها : أن يكون «ذلك» خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : الأمر ذلك. و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) ـ على هذا ـ يجوز أن يكون من تتمة هذا الكلام ، حالا من اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون الوقف على «ذلك» ويكون (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) متعلقا بما بعده ، وتكون الجملة من «نوحيه» ـ إذ ذاك ـ إما مبيّنة وشارحة للجملة قبلها ، وإما حالا.

الثاني : أن يكون «ذلك» مبتدأ ، و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) خبره ، والجملة من «نوحيه» مستأنفة ، والضمير من «نوحيه» عائد على الغيب ، أي : الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار ، ولذلك أتى بالمضارع في «نوحيه». وهذا أحسن من عوده على «ذلك» ؛ لأن عوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص ، وما لم يتقدم منها ، ولو أعدته على «ذلك» اختص بما مضى وتقدم.

الثالث : أن يكون «نوحيه» هو الخبر و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) على وجهيه المتقدمين من كونه حالا من ذلك ، أو متعلقا ب «نوحيه».

ويجوز فيه وجه ثالث ـ على هذا ـ وهو أن يجعل حالا من مفعول «نوحيه» ، أي : نوحيه حال كونه بعض أنباء الغيب.

فصل

الإنباء هو الإخبار عما غاب عنك ـ والإيحاء ، ورد بإزاء معان مختلفة ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة.

٢١٧

كما في قوله : [الطويل]

١٤٥٦ ـ ...........

فأوحت إلينا والأنامل رسلها (١)

وقال تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا). ويكون بالكتابة ، قال زهير : [الطويل]

١٤٥٧ ـ أتى العجم والآفاق منه قصائد

بقين بقاء الوحي في الحجر الأصم (٢)

ويطلق الوحي على الشيء المكتوب ، قال : [الكامل]

١٤٥٨ ـ فمدافع الرّيان عرّي رسمها

خلقا كما ضمن الوحيّ سلامها (٣)

قيل : الوحيّ : جمع وحي ـ كفلس وفلوس ـ كسرت الحاء إتباعا.

قال القرطبيّ : «وأصل الوحي في اللغة : إعلام في خفاء».

وتعريف الوحي بأمر خفي من إشارة ، أو كتابة ، أو غيرها ، وبهذا التفسير يعدّ الإلهام وحيا ، كقوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] وقال ـ في الشياطين ـ : (لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [الأنعام : ١٢١] وقال : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ١١] ، فلما ألقى الله ـ تعالى ـ هذه الأنباء إلى الرسول عليه‌السلام ـ بواسطة جبريل عليه‌السلام ـ بحيث يخفى ذلك على غيره ـ سمّاه وحيا.

قوله تعالى : (إِذْ يُلْقُونَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبرا.

والثاني ـ وإليه ذهب الفارسي ـ : أنه منصوب ب «كنت». وهو منه عجيب ؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدث ، فكيف يعمل في الظرف ، والظرف وعاء للأحداث؟

والذي يظهر أن الفارسيّ إنما جوّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مرادا في الآية ، وهو أن تكون «كان» تامة بمعنى : وما وجدت في ذلك الوقت.

والضمير في «لديهم» عائد على المتنازعين في مريم ـ وإن لم يجر لهم ذكر ـ ؛ لأن السياق قد دلّ عليهم.

فإن قيل : لم نفيت المشاهدة ـ وانتفاؤها معلوم بالضرورة ـ وترك نفي استماع هذه الأنباء من حفّاظها ، وهو أمر مجوز؟

__________________

(١) ينظر : اللسان (وحى) ، والبحر المحيط ٢ / ٤٧٤ ، والدر المصون ٢ / ٩٣.

(٢) البيت لكعب بن زهير وليس كما قال المصنف ينظر ديوانه (٦٤) والبحر المحيط ٢ / ٤٧٤ وتفسير الطبري ٢ / ٤٠٦ والمحرر الوجيز ١ / ٤٣٥ والدر المصون ٢ / ٩٣.

(٣) البيت للبيد بن أبي ربيعة ينظر ديوانه ٣١٠ والخصائص ١ / ١٩٦ والجمهرة ١ / ١٧٢ وشرح القصائد العشر ص ٢٠١ واللسان (روى) والتاج ١ / ٣٨٥ والبحر ٢ / ٤٧٥ والدر المصون ٢ / ٩٣.

٢١٨

فالجواب : أن هذا الكلام ونحوه ، كقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) [القصص : ٤٦] وقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) [يوسف : ١٠٢] وقوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] ـ وإن كان انتفاؤه معلوما بالضرورة ـ جار مجرى التهكّم بمنكري الوحي ، يعني أنه إذا علم أنك لم تعاصر أولئك ، ولم تدارس أحدا في العلم ، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوحي.

ومعنى الآية : ذلك ـ الذي ذكرناه ـ من حديث زكريا ويحيى ومريم ـ عليهم‌السلام ـ من أخبار الغيب نوحيه إليك ، وذلك دليل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أخبر عن قصصهم ـ ولم يكن قرأ الكتب ـ وصدّقه أهل الكتاب بذلك. ثم قال : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي : وما كنت يا محمد بحضرتهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ).

أقلام : جمع قلم ، وهو فعل بمعنى مفعول ، أي : مقلوم.

والقلم : القطع ، ومثله : القبض بمعنى المقبوض ، والنقض بمعنى المنقوض ، وجمع القلم على أقلام ـ وهو جمع قلّة ـ وحكى ابن سيده أنه يجمع على قلام ـ بوزن رماح ـ في الكثرة.

وقيل له : قلم ؛ لأنه يقلم ، ومنه قلمت ظفري ـ أي : قطعته وسويته.

قال زهير : [الطويل]

١٤٥٩ ـ لدى أسد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم (١)

وقيل : سمي القلم قلما ، تشبيها بالقلامة ـ وهو نبت ضعيف ـ وذلك لأنه يرقق فيضعف.

فصل

في المراد بالأقلام ـ هنا ـ وجوه :

أحدها : التي يكتب بها ، وكان اقتراعهم أن من جرى قلمه عكس جري الماء ، فالحقّ معه ، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك ، فسلموا الأمر له ، وهذا قول الأكثرين.

الثاني : قال الربيع : ألقوا عصيّهم في الماء.

الثالث : قال أبو مسلم : هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة ، يكتبون عليها أسماءهم ، فمن خرج له السهم سلّم إليه الأمر ، قال تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١]. وإنما سميت هذه السهام أقلاما ؛ لأنها تقلم وتبرى ، وكلما قطعت شيئا بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا يسمّى ما يكتب به قلما.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ص ٢٨ وشرح القصائد السبع ص ٢٧٧ وشرح القصائد العشر ص ١٩٠ والبحر ٢ / ٤٧٤ والخزانة ٣ / ١٦.

٢١٩

واختلفوا فيهم ، فقيل : هم سدنة (١) البيت ، وقيل : هم العلماء والأحبار وكتّاب الوحي.

قوله : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) هذه الجملة منصوبة المحل ؛ لأنها معلقة لفعل محذوف ، ذلك الفعل في محل نصب على الحال ، تقديره : يلقون أقلامهم ينظرون ـ أو يعلمون ـ أيهم يكفل مريم.

وجوز الزمخشريّ : أن يقدّر ب «يقولون» فيكون محكيّا به ، ودل [على ذلك](٢) قوله ، يلقون.

وقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) كقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ).

فصل

اختلفوا في السبب ، الذي لأجله رغبوا في كفالتها ، حتى تنازعوا فيها :

قيل : لأن أباها عمران كان رئيسا لهم ، ومتقدّما فيهم ، فلأجل حقّ أبيها رغبوا في كفالتها.

وقيل : لأن أمّها حرّرتها لعبادة الله ـ تعالى ـ ولخدمة بيته ، فلأجل ذلك حرصوا على التكفّل بها. وقيل : لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيّنا في الكتب الإلهية ، فلهذا السبب اختصموا في كفالتها.

فصل

دلّت هذه الآية على إثبات القرعة ، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة.

قال القرطبيّ : وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة ؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم ، وترتفع الظّنّة عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه (٣) ، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا معنى لها ، وزعموا أنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها.

قال أبو عبيد : «وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ومحمد صلّى الله

عليهم وسلّم».

قال ابن المنذر : «واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء».

فصل

قال القرطبيّ : دلّت هذه الآية على أن الخالة أحقّ بالحضانة من سائر القرابات ما

__________________

(١) في أ : خزنة.

(٢) في ب : عليه.

(٣) في أ : أحد.

٢٢٠