اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

أما الملائكة فقد روي أنهم خلقوا من الريح ، ولهذا قدروا على الطيران ، وعلى حمل العرش ، وسمّوا روحانيين.

وروي أنهم خلقوا من النور ، ولهذا صفت وأخلصت لله ـ تعالى ـ ويمكن الجمع بين الروايتين بأن نقول : أبدانهم من الريح ، وأرواحهم من النور وهؤلاء سكان عالم السموات.

أما الشياطين فهم كفرة ، أما إبليس فكفره ظاهر ؛ لقوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤]. وأما سائر الشياطين فكفرة ؛ لقوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١].

ومن خواص الشياطين أنهم أعداء للبشر ، قال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف : ٥٠] وقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢].

وهم مخلوقون من النار ؛ لقوله تعالى ـ حكاية عن إبليس ـ : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) [الأعراف : ١٢].

وأما الجن فمنهم كافر ، ومنهم مؤمن ، قال تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) [الجن : ١٤].

وأما الإنس فوالدهم الأول آدم ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] وقوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١٠].

واتفق العقلاء على أن البشر أفضل من الجنّ والشياطين ، واختلفوا هل البشر أفضل أم الملك؟ كما قدمناه في البقرة ، واستدل القائلون بأن البشر أفضل بهذه الآية ؛ لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة ، وعلوّ الدرجة ، فكما بيّن ـ تعالى ـ أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين ، وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة ؛ لأنهم من العالمين.

فإن قيل : إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض ؛ لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين ، يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال ، ولو حملناه على كونه أفضل عالمي بلدته ، أو عالمي زمانه ، أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض ، فوجب حمله على هذا المعنى ، دفعا للتناقض وأيضا قال تعالى ـ في صفة بني إسرائيل ـ (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٤٧] ولا يلزم كونهم أفضل من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل قلنا : المراد به عالمو زمان كل واحد منهم ، فكذا هنا.

١٦١

فالجواب أن ظاهر قوله : اصطفى آدم على العالمين ، يتناول كل من يصحّ إطلاق لفظ «العالم» عليه فيندرج فيه الملك ، غاية ما في الباب أنه ترك العمل بعمومه ـ في بعض الصور ـ لدليل قام عليه فلا يجوز أن يتركه في سائر الصور من غير دليل.

فصل

الاصطفاء ـ في اللغة ـ الاختيار فمعنى اصطفاهم : أي : جعلهم صفوة خلقه تمثيلا بما يشاهد من الشيء الذي يصفّى وينقّى من الكدورة ، ويقال : صفّاهم صفوة ، وصفوة ، وصفوة.

ونظير هذه الآية قوله ـ لموسى ـ : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) [الأعراف : ١٤٤].

وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [ص : ٤٤] ، وفي الآية قولان :

أحدهما : المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح ـ على حذف مضاف ـ كما تقدم.

الثاني : أن الله اصطفاهم ؛ أي : صفّاهم من الصفات الذميمة ، وزينهم بالصفات الحميدة ، وهذا أولى لعدم الاحتياج إلى الإضمار ، ولموافقة قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].

فصل

قيل : اختار الله آدم بخمسة أشياء :

أولها : أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته.

الثاني : أنه علّمه الأسماء كلّها.

الثالث : أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له.

الرابع : أنه أسكنه الجنة.

الخامس : أنه جعله أبا البشر.

واختار نوحا بخمسة أشياء :

أولها : أنه جعله أبا البشر ـ بعد آدم ـ ؛ لأن الناس كلّهم غرقوا ، وصار ذريته هم الباقين.

الثاني : أنه أطال عمره ، ويقال : «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله».

الثالث : أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين.

الرابع : أنه حمله على السفينة (١).

الخامس : أنه كان أول من نسخ الشرائع ، وكان قبل ذلك لم يحرّم تزويج الخالات والعمات.

__________________

(١) في أ : مشى الماء.

١٦٢

واختار إبراهيم بخمسة أشياء :

أولها : أنه خرج منها جرا إلى ربه (١) ليهديه.

الثاني : أنه اتخذه خليلا.

الثالث : أنه أنجاه من النار.

الرابع : أنه جعله للناس إماما.

الخامس : أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن.

وأما آل عمران فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنهم اختارهما على العالمين ؛ حيث أنزل على قومهما المن والسلوى ، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم وإن كان عمران أبا مريم فإنه اصطفى مريم بولادة عيسى من غير أب ، وذلك لم يكن لأحد من العالمين والله أعلم.

فصل

ذكر الحليمي في كتابه ـ المنهاج للأنبياء ـ قال : لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية ، والقوى الروحانية ، أما القوى الجسمانية ، فهي إما مدركة ، وإمّا محرّكة ؛ أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة ، وإما الحواس الباطنة ، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة :

أحدها : القوة الباصرة ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخصوصا بكمال هذه الصفة ، لقوله : «زويت لي الأرض ، فأريت مشارقها ومغاربها» (٢) وقوله : «أقيموا صفوفوكم وتراصوا ؛ فإني أراكم من وراء ظهري» (٣) ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وذكر في تفسيرها أنه ـ تعالى ـ قوّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل.

قال الحليمي : وهذا غير مستبعد ؛ لأن البصراء يتفاوتون ، فيروى أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام ، فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوى من بصرها.

__________________

(١) في أ : الله.

(٢) أخرجه مسلم ٤ / ٢٢١٥ في الفتن ، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (١٩ ـ ٢٨٨٩) وأبو داود ٢ / ٤٩٩ في الفتن (٤٢٥٢) ، والترمذي ٤ / ٤١٠ في الفتن (٢١٧٦) ، وابن ماجه ٢ / ١٣٠٤ في الفتن (٣٩٥٢) من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) أخرجه البخاري (٢ / ٣٤٧) كتاب الأذان باب إلزاق المنكب بالمنكب (٧٢٥) والنسائي (٢ / ٩٥ ، ١٠٥) وأحمد (٣ / ١٠٣ ، ١٨٢ ، ٢٦٣) والبيهقي (٢ / ٢١) وأبو داود الطيالسي في «مسنده» (٦٤٩ ـ منحة) والبغوي في «شرح السنة» (٢ / ٣٨٠) وابن عبد البر في «التمهيد» (٩ / ١٨٨) وأبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٣٠٩) عن أنس بن مالك مرفوعا. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب» (١ / ٣٢٠).

١٦٣

وثانيها : القوة السامعة ، فكان ـ عليه‌السلام ـ أقوى الناس في هذه القوة ؛ لقوله : «أطت السماء وحق لها أن تئط ؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى» (١).

وسمع أطيط السماء وسمع دويا فذكر أنه هويّ صخرة قذفت في جهنم ، فلم تبلغ مقرها إلى الآن.

قال الحليمي : ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا ؛ فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع حفيف الفلك. ونظير هذه القوة لسليمان ـ عليه‌السلام ـ في قصة النملة حيث قالت : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] فالله ـ تعالى ـ أسمع سليمان كلام النملة ، وأوقفه على معناه وحصل ذلك لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تكلم مع الذئب والبعير والضّبّ.

وثالثها : تقوية قوة الشّمّ ، كما في حق يعقوب ـ حين قال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) [يوسف : ٩٤] فأحسّ بها من مسيرة ثلاثة أيام.

ورابعها : تقوية قوة الذوق ، كما في حق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : «إن هذا الذراع يخبرني بأنه مسموم» (٢).

خامسها : تقوية قوة اللمس ، كما في حق الخليل ـ عليه‌السلام ـ حيث جعلت له النار بردا وسلاما وكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السّمندل ، والنعامة.

وأما الحواس الباطنة فمنها : قوة الحفظ ، قال تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى: ٦] ، ومنها : قوة الذكاء : قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : علمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف باب من العلم ، واستنبط من كلّ باب ألف باب. فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

أما القوى المحرّكة ، فمثل عروج الرسول إلى المعراج ، وعروج عيسى حيّا إلى السماء ، ورفع إدريس وإلياس ـ على ما وردت به الأخبار ـ قال تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).

وأما القوة الروحانية العقلية ، فلا بد أن تكون في غاية الكمال ، ونهاية الصفاء ، إذا

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ١٧٣) والترمذي (٤ / ٤٨٢) كتاب الزهد باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو تعلمون ما أعلم رقم (٢٣١٢) عن أبي ذر مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه في الزهد باب الحزن والبكاء. وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (٢٩٨٣٠) وعزاه لابن مردويه عن أنس ورواه ابن منده وابن عساكر عن العلاء بن سعد كما في «كنز العمال» (٢٩٨٦٥).

(٢) أخرجه البخاري ٥ / ٢٧٢ في الهبة ، باب قبول الهدية من المشركين (٢٦١٧) ، ومسلم ٤ / ١٧٢١ في السلام (٤٥ ـ ٢١٩٠) عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشاة مسمومة ، فأكل منها وجيء بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألها عن ذلك. فقالت : أردت لأقتلك. قال : ما كان الله ليسلطك على ذاك. قال أو قال علي. قال قالوا : ألا نقتلها؟ قال : لا. قال : فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٦٤

عرفت هذا فقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) معناه أن الله اصطفى آدم ، إمّا من سكان العالم السفلي ـ على قول من يقول : الملك أفضل من البشر ـ أو من سكان العالم العلويّ والسفليّ ـ على قول من يقول : البشر أفضل المخلوقات ـ ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة ، من أولاد آدم ، وهم شيث وأولاده ، إلى إدريس ، ثم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم حصل من إبراهيم شعبتان : إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو ، فوضع النبوة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو ، واستمرّ ذلك إلى زمان نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما ظهر محمد نقل نور النبوة ، ونور الملك إليه ، وبقيا ـ أعني الدين والملك لا تباعد بينهما إلى قيام الساعة.

فصل

من الناس من قال : المراد بآل إبراهيم : المؤمنون ، لقوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] والصحيح أن المراد بهم الأولاد : إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آل إبراهيم.

وقيل : المراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم وعمران نفسهما ؛ لقوله : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) [البقرة : ٢٤٨] ، وقوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد أعطي مزمارا من مزامير آله داود».

وقال الشاعر : [الطويل]

١٤١٢ ـ ولا تنس ميتا بعد ميت أجنّه

عليّ وعبّاس وآل أبي بكر (١)

وقال الآخر : [الوافر]

١٤١٣ ـ يلاقي من تذكر آل ليلى

كما يلقى السّليم من العداد (٢)

وقيل : المراد من آل عمران عيسى ـ عليه‌السلام ـ لأن أمه ابنة عمران.

وأما عمران فقيل : والد موسى ، وهارون ، وأتباعهما من الأنبياء.

وقال الحسن ووهب (٣) : المراد عمران بن ماثان ، أبو مريم ، وقيل اسمه عمران بن أشهم بن أمون ، من ولد سليمان وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قالوا : وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بأنه والد مريم بذكر قصة مريم عقيبه.

__________________

(١) تقدم برقم ٤٧١.

(٢) البيت لكثير عزة وليس في ديوانه ينظر الجمهرة ١ / ٢٧٩ وغريب الحديث ١ / ٧٣ والصحاح ٢ / ٥٠٧ والتاج ٢ / ٤١٩.

(٣) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٤٩٣) عن وهب بن منبه والحسن.

١٦٥

قوله : «ذرية» في نصبها وجهان :

أحدهما : أنها منصوبة على البدل مما قبلها ، وفي المبدل منه ـ على هذا ـ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها بدل من «آدم» وما عطف عليه وهذا إنّما يتأتّى على قول من يطلق «الذّريّة» على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذهب جماعة.

قال الجرجاني : «الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء. وجاز ذلك ؛ لأنه من ذرأ الخلق ، فالأب ذرىء منه الولد ، والولد ذرىء من الأب».

قال الراغب (١) : «الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل ، لقوله تعالى : (حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أي : آباءهم ، ويقال للنساء : الذراريّ». فعلى هذين القولين صحّ جعل «ذرّيّة» بدلا من «آدم» بما عطف عليه.

قال أبو البقاء : «ولا يجوز أن يكون بدلا من «آدم» ؛ لأنه ليس بذريته» ، وهذا ظاهر إن أراد آدم وحده دون من عطف عليه ، وإن أراد «آدم» ومن ذكر معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذّرّيّة على الآباء.

الثاني ـ من وجهي البدل ـ أنها بدل من «نوح» ومن عطف عليه ، وإليه نحا أبو البقاء.

الثالث : أنها بدل من الآلين ـ أعني آل إبراهيم وآل عمران ـ وإليه نحا الزمخشريّ. يريد أن الأولين ذرية واحدة.

الوجه الثاني ـ من وجهي نصب «ذرّيّة» ـ النصب على الحال ، تقديره : اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض ، فالعامل فيها اصطفى. وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة.

قوله : (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) هذه الجملة في موضع نصب ، نعتا ل «ذرّيّة».

فصل

قيل : (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) أي : بعضها من ولد بعض.

وقال الحسن وقتادة : (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) في الضلالة.

وقيل : في الاجتباء والاصطفاء والنبوة.

وقيل : بعضها من بعض في التناصر.

وقيل : بعضها على دين بعض ـ أي : في التوحيد ، والإخلاص ، والطاعة كقوله :

__________________

(١) ينظر : المفردات ١٨١.

١٦٦

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] ، أي : بسبب اشتراكهم في النفاق.

قوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قال القفّال : والله سميع لأقوال العباد ، عليم بضمائرهم ، وأفعالهم ، يصطفي من يعلم استقامته قولا وفعلا ، ونظيره قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ٢٤].

وقيل : إن اليهود كانوا يقولون : نحن من ولد إبراهيم ، وآل عمران ، فنحن أبناء الله ، والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله ، وكان بعضهم عالما بأن هذا الكلام باطل ، إلا أنه بقي مصرا عليه ، ليطيّب قلوب العوامّ ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول : والله (سَمِيعٌ) لهذه الأقوال الباطلة منكم ، «عليم» بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال ، فيجازيكم عليها ، فكان أول الآية بيانا لشرف الأنبياء والرسل وتهديدا لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.

قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٧)

في الناصب ل «إذ» أوجه :

أحدها : أنه «اذكر» مقدّرا ، فيكون مفعولا به لا ظرفا ، أي : اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت وإليه ذهب أبو الحسن وأبو العباس.

الثاني : أن الناصب له معنى الاصطفاء ، أي : «اصطفى» مقدّرا مدلولا عليه ب «اصطفى» الأوّل والتقدير : واصطفى آل عمران ـ إذ قالت امرأة عمران. وعلى هذا يكون قوله : (وَآلَ عِمْرانَ) من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ؛ إذ لو جعل من عطف المفردات لزم أن يكون وقت اصطفاء آدم وقول امرأة عمران كيت وكيت ، وليس كذلك ؛ لتغاير الزمانين ، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظ به ، وإلى هذا ذهب الزّجّاج وغيره.

الثالث : أنه منصوب ب «سميع» وبه صرح ابن جرير الطبري ، وإليه نحا الزمخشري ؛ فإنه قال : سميع عليم لقول امرأة عمران ونيّتها ، و «إذ» منصوب به.

قال أبو حيّان : ولا يصحّ ذلك ؛ لأن قوله : (عَلِيمٌ) إمّا أن يكون خبرا بعد خبر ، أو وصفا لقوله : «سميع» فإن كان خبرا فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول ؛ لأنه أجنبيّ عنهما ، وإن كان وصفا فلا يجوز أن يعمل (سَمِيعٌ) في الظرف ؛ لأنه قد وصف ،

١٦٧

واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل معموله لا يجوز له ـ إذ ذاك ـ أن يعمل ، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ؛ لأن اتصافه تعالى ب (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لا يتقيد بذلك الوقت.

قال شهاب الدين : «وهذا القدر غير مانع ؛ لأنه يتّسع في الظرف وعديله ما لا يتّسع في غيره ، ولذلك تقدم على ما في خبر «أل» الموصولة وما في خبر «أن» المصدرية».

وأما كونه ـ تعالى ـ سميعا عليما لا يتقيد بذلك الوقت ، فإن سمعه لذلك الكلام مقيّد بوجود ذلك الكلام ، وعلمه ـ تعالى ـ بأنها تذكر مقيّد بذكرها لذلك ، والتغيّر في السمع والعلم ، إنما هو في النسب والتعلّقات.

الرابع : أن تكون «إذ» زائدة ، وهو قول أبي عبيدة ، والتقدير : قالت امرأة عمران ، وهذا غلط من النحويين ، قال الزّجّاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئا ؛ لأن إلغاء حرف من كتاب الله تعالى ـ من غير ضرورة لا يجوز ، وكان أبو عبيدة يضعّف في النحو.

الخامس : قال الأخفش والمبرّد : التقدير : «ألم تر إذ قالت امرأة عمران ، ومثله في كتاب الله كثير».

فصل

امرأة عمران هي حنّة بنت فاقوذا أم مريم ، وهي حنة ـ بالحاء المهملة والنون ـ وجدة عيسى ـ عليه‌السلام ـ وليس باسم عربي.

قال القرطبيّ : «ولا يعرف في العربية «حنة» : اسم امرأة ـ وفي العرب أبو حنة البدريّ ، ويقال فيه أبو حبة ـ بالباء الموحّدة ـ وهو أصح ، واسمه عامر ، ودير حنة بالشام ، ودير آخر أيضا يقال له كذلك.

قال أبو نواس :

١٤١٤ ـ يا دير حنّة من ذات الأكيراح

من يصح عنك فإنّي لست بالصّاحي (١)

وفي العرب كثير ، منهم أبو حبة الأنصاريّ وأبو السنابل بن بعكك ـ المذكور في حديث سبيعة الأسلمية ، ولا يعرف «خنّة» ـ بالخاء المعجمة ـ إلا بنت يحيى بن أكثم ، وهي أم محمد بن نصر ، ولا يعرف «جنّة» ـ بالجيم ـ إلّا أبو جنة وهو خال ذي الرمة الشاعر ، نقل هذا كله ابن ماكولا».

وعمران بن ماثان ، وليس بعمران أبي موسى ، وبينهما ألف وثمانمائة سنة ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.

وقيل : عمران بن أشهم ، وكان زكريا قد تزوّج إيشاع بنت فاقوذ ، وهي أخت حنة

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ص ٢٩٧ والبحر ٢ / ٤٥٥ ، والتاج ٢ / ٢١١.

١٦٨

أم مريم ، فكان يحيى بن زكريا ومريم عليهما‌السلام ولدي خالة ، وفي كيفية هذا النذر روايات (١).

قال عكرمة : إنها كانت عاقرا لا تلد ، وتغبط النساء بالأولاد ، فقالت : اللهم إن لك علي نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيتك المقدّس ، فيكون من سدنته (٢).

الثانية : قال محمد ابن إسحاق : إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد ، فلما شاخت جلست يوما في ظل شجرة فرأت ظائرا يطعم فراخا له فتحركت نفسها للولد ، فدعت ربّها أن يهب لها ولدا ، فحملت مريم وهلك عمران ـ فلما عرفت جعلته لله محررا ـ أي : خادما للمسجد ـ (٣).

قال الحسن البصري : إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ـ تعالى ـ ولو لاه لما فعلت ، كما رأى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر الله تعالى ـ وإن لم يكن عن وحي ، وكما ألهم الله أمّ موسى بقذفه في اليم وليس بوحي ، فلما حررت ما في بطنها ـ ولم تعلم ما هو ، قال لها زوجها : ويحك : ما صنعت؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا يصح لذلك؟ فوقعوا جميعا في همّ من ذلك ، فهلك عمران وحنة حامل بمريم (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى).

قوله : «محرّرا» في نصبه أوجه :

أحدها : أنها حال من الموصول ـ وهو (ما فِي بَطْنِي) ـ فالعامل فيها «نذرت».

الثاني : أنه حال من الضمير المرفوع بالجار ؛ لوقوعه صلة «ما» وهو قريب من الأول ، فالعامل الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور.

الثالث : أن ينتصب على المصدر ؛ لأن المصدر يأتي على زنة اسم المفعول من الفعل الزّائد على ثلاثة أحرف ، وعلى هذا ، فيجوز أن يكون في الكلام حذف مضاف ، تقديره : نذرت لك ما في بطني نذر تحرير ، ويجوز أن يكون «ما» انتصب على المعنى ؛ لأن معنى (نَذَرْتُ لَكَ) : حرّرت لك ما في بطني تحريرا ، ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله : (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ : ١٩] وقوله : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج : ١٨] ـ في قراءة من فتح الراء ـ أي : كلّ تمزيق ، فما له من إكرام.

ومثله قول : [الوافر]

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٣٢) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٣) وزاد نسبته لابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٣٠).

١٦٩

١٤١٥ ـ ألم تعلم مسرّحي القوافي

فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (١)

أي تسريحي القوافي.

الرابع : أن يكون نعتا لمفعول محذوف ، تقديره : غلاما محرّرا ، قاله مكيّ بن أبي طالب ـ وجعل ابن عطية ، في هذا القول نظرا.

قال شهاب الدين (٢) : «وجه النظر فيه أن «نذر» قد أخذ مفعوله ـ وهو قوله : (ما فِي بَطْنِي) فلم يتعد إلى مفعول آخر ، وهو نظر صحيح».

وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالا مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العتق ومقدرة معنى خدمة الكنيسة ـ كما جاء في التفسير ، ووقف أبو عمرو والكسائي على «امرأة» بالهاء ـ دون التاء ـ وقد كتبوا «امرأة» بالتاء وقياسها الهاء هاهنا وفي يوسف «امرأة العزيز» موضعين ـ وامرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون ، وأهل المدينة يقفون بالتاء ؛ إتباعا لرسم المصحف ، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة : حمزت.

وأنشدوا :

١٤١٦ ـ والله نجّاك بكفّي مسلمت

من بعدما وبعدما وبعدمت (٣)

فصل

والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه وهذا النوع من النّذر كان في بني إسرائيل ، ولم يوجد في شرعنا.

قال ابن العربي : «لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر ؛ لكونها حرّة ، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده. وكيفما تصرفت حاله فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر وله في ذلك ، وإن كان حرّا ، فلا يصح أن يكون ، مملوكا له ، وكذلك المرأة مثله ، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه ـ والله أعلم ـ أن المرء إنما يريد ولده للأنس به والتسلّي ، والاستنصار ، فطلبت هذه المرأة أنسا به ، وسكونا إليه ، فلمّا منّ الله ـ تعالى ـ عليها به نذرت أن حظها من الأنس متروك فيه ، وهو على خدمة الله ـ تعالى ـ موقوف ، وهذا نذر الأحرار من الأبرار ،

__________________

(١) البيت لجرير ينظر شرح أبيات سيبويه ١ / ٩٧ ، والكتاب ١ / ٢٣٣ ، ٣٣٦ ، ولسان العرب (جلب) ، (سحج) ، والمقتضب ١ / ٧٥ ، ٢ / ١٢١ ، والدر المصون ٢ / ٧١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٧٢.

(٣) البيت لأبي النجم ـ ينظر الخصائص ١ / ٣٠٤ ومجالس ثعلب (٢٧٠) وسر الصناعة ١ / ١٧٧ واللسان (للكميت) ورصف المباني ١٦٢ وابن يعيش ٩ / ٨١ وشرح الشافية ٢ / ٨٩ وشرح التصريح ٢ / ٣٤٤ والأشموني ٤ / ٢١٤ وأوضح المسالك ١ / ٣٤٨ والخصائص ١ / ٣٤ وضرائر الشعر ص ٢٣٢ والهمع ٢ / ٢٠٩ والدرر اللوامع ٢ / ٢١٤ والدر المصون ٢ / ٧٢.

١٧٠

وأرادت به محرّرا من جهتي رق الدنيا وأشغالها.

قوله : (ما فِي بَطْنِي) أتى ب «ما» التي لغير العاقل ؛ لأن ما في بطنها مبهم أمره ، والمبهم أمره يجوز أن يعبّر عنه ب «ما».

ومثاله أن تقول إذا رأيت شبحا من بعيد لا تدري إنسان هو أم غيره : ما هذا؟ ولو عرفته إنسانا وجهلت كونه ذكرا أو أنثى ، قلت : ما هو أيضا؟ والآية من هذا القبيل ، هذا عند من يرى أن «ما» مخصوصة بغير العاقل ، وأما من يرى وقوعها على العقلاء ، فلا يتأوّل شيئا.

وقيل : إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر عنه ب «ما» التي لغير العقلاء.

المحرر : الذي يجعل حرّا خالصا ، يقال : حرّرت العبد ـ إذا أخلصته من الرق ـ وحرّرت الكتاب ، أي : أصلحته وخلصته من وجوه الغلط ، ورجل حرّ : إذا كان خالصا لنفسه ، وليس لأحد عليه تعلّق.

والطين الحر : الخالص من الرمل والحمأة والعيوب ، فمعنى «محرّرا» ، أي : مخلصا للعبادة ، قاله الشعبيّ.

وقيل : خادما للبيعة.

وقيل : عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله.

وقيل : خادما لمن يدرس الكتاب ، ويعلّم في البيع.

والمعنى أنها نذرت أن تجعل الولد وقفا على طاعة الله تعالى.

قيل : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا شيء ، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا ؛ وذلك ؛ لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين ، فكانوا ـ بالنذر ـ يتركون ذلك النوع من الانتفاع ، ويجعلونهم محرّرين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى.

وقيل : كان المحرر يجعل في الكنيسة ـ يقوم بخدمتها ـ حتى يبلغ الحلم ، ثم يخيّر بين المقام والذهاب فإن أبي المقام ، وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار ، ولم يكن نبيّ إلا ومن نسله محرّر في بيت المقدس.

وهذا التحرير لم يكن جائزا إلا في الغلمان ، أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك ؛ لما يصيبها من الحيض ، والأذى ، وحنّة نذرت مطلقا ، إما لأنها بنت الأمر على التقدير ، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر ومعنى : نذرت لك أي لعبادتك ، وتقدم الكلام على النذر ، ثم قال تعالى ـ حاكيا عنها ـ : (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ،) والتقبّل : أخذ الشيء على الرضا ، قال الواحديّ : «وأصله من المقابلة ؛

١٧١

لأنه يقابل بالجزاء ، وهذا كلام من لم يرد بفعله إلا رضا الله ـ تعالى ـ والإخلاص في عبادته ومعنى (السَّمِيعُ) أي : لتضرعي ودعائي وندائي (الْعَلِيمُ) بما في ضميري ونيّتي.

قوله : (فَلَمَّا وَضَعَتْها) الضمير في «وضعتها» يعود على «ما» ـ من حيث المعنى ـ ؛ لأن الذي في بطنها أنثى ـ في علم الله ـ فعاد الضمير على معناها دون لفظها.

وقيل : إنما أنث ؛ حملا على مضيّ النسمة أو الجبلّة أو النفس ، قاله الزمخشريّ.

وقال ابن عطية : حملا على الموجودة ، ورفعا للفظ«ما» في قوله (ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً).

قوله : (أُنْثى) فيه وجهان :

أحدهما : أنها منصوبة على الحال ، وهي حال مؤكّدة ؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير ، فجاءت «أنثى» مؤكدة.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف جاز انتصاب «أنثى» حالا من الضمير في «وضعتها» وهو كذلك كقولك : وضعت الأنثى أنثى؟

قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال ؛ لأن الحال وذا الحال لشيء واحد ، كما أنث الاسم في من كانت أمك ؛ لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) [النساء : ١٧٦].

وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهر ، كأنه قيل : إني وضعت النسمة أنثى».

يعني أن الحال على الجواب الثاني ـ تكون مبيّنة لا مؤكّدة ؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى ، فلما حصل الاشتراك جاءت الحال مبيّنة لها ، إلا أن أبا حيّان ناقشة في الجواب الأول ، فقال : وآل قوله ـ يعني الزمخشري ـ إلى أن «أنثى» تكون حالا مؤكّدة ، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالا مؤكّدة ، وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك ـ حيث عاد الضمير على معنى «ما» ـ فليس ذلك نظير (وَضَعْتُها أُنْثى). ؛لأن ذلك حمل على معنى «ما» إذ المعنى : أية امرأة كانت أمك ، أي كانت هي أي أمّك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر ، وإنما هو من باب الحمل على معنى «ما» ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير (وَضَعْتُها أُنْثى ؛) لأن الخبر تخصّص بالإضافة إلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم ، بخلاف «أنثى» فإنه لمجرّد التأكيد ، وأما تنظيره بقوله: (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ). فيعني أنه ثنّى الاسم ؛ لتثنية الخبر. والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات ، فالأحسن أن يجعل الضمير ـ في (وَضَعْتُها أُنْثى) ـ عائدا على النسمة أو النفس ، فتكون الحال مبيّنة مؤكّدة.

قال شهاب الدين : قوله : «ليس نظيرها ؛ لأن من كانت أمك» حمل فيه على معنى

١٧٢

من ، وهذا أنث لتأنيث الخبر» ليس كما قال ، بل هو نظيره ، وذلك أنه في الآية الكريمة حمل على معنى «ما» كما حمل هناك على معنى «من» ، وقول الزمخشري : «لتأنيث الخبر» أي لأن المراد ب «من» : التأنيث ، بدليل تأنيث الخبر ، فتأنيث الخبر بيّن لنا أن المراد ب «من» المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى ، بيّن لنا أن المراد ب «ما» في قوله : (ما فِي بَطْنِي) أنه شيء مؤنث ، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر ، وأما قوله : «فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف (وَضَعْتُها أُنْثى ،) فإنه لمجرد التوكيد» ليس بظاهر أيضا ؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقبل مجيء الخبر في النظير المذكور ؛ أما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض ، فلا يضر ذلك في التنظير ، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة ، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان :

أحدهما : أنها مؤكّدة إن قلنا : إن الضمير في (وَضَعَتْها) عائد على معنى «ما».

الثاني : أنها مبيّنة إن قلنا : إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجبلّة لصدق كل من هذه الألفاظ الثلاثة على الذكر والأنثى.

الوجه الثاني من وجهي «أنثى» : أنها بدل من «ها» في (وَضَعَتْها) بدل كل من كل ـ قاله أبو البقاء.

ويكون في هذا البدل بيان ما المراد بهذا الضمير ، وهذا من المواضع التي يفسّر فيها الضمير بما بعده لفظا ورتبة ، فإن كان الضمير مرفوعا نحو : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : ٣] ـ على أحد الأوجه ـ فالكل يجيزون فيه البدل ، وإن كان غير مرفوع نحو ضربته زيدا ومررت به زيد فاختلف فيه ، والصحيح جوازه كقول الشاعر : [الطويل]

١٤١٧ ـ على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (١)

بجر حاتم الأخير بدلا من الهاء في «جوده».

فصل

والفائدة في قولها : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها ، وكان الغالب على ظنّها أنه ذكر ، فلم تشترط ذلك في كلامها ، وكانت عادتهم تحرير الذكر ، لأنه هو الذي يفرّغ لخدمة المسجد دون الأنثى ، فقالت : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتد به ، ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم ، فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار ، لا على سبيل الإعلام ؛ تعالى الله عن [أن يحتاج إلى إعلامها](٢).

__________________

(١) تقدم برقم ٦٤١.

(٢) في أ : ذلك.

١٧٣

قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) قرأ ابن عامر وأبو بكر (١) «وضعت» بتاء المتكلم ـ وهو من كلام أمّ مريم خاطبت بذلك نفسها ؛ تسلّيا لها واعتذارا لله تعالى ؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس.

قال الزمخشريّ ـ وقد ذكر هذه القراءة ـ : «تعني ولعل لله ـ تعالى ـ فيه سرّا وحكمة ، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر ؛ تسلية لنفسها».

وقيل : قالت ذلك ؛ خوفا أن يظنّ بها أنها تخبر الله ـ تعالى ـ فأزالت الشبهة بقولها هذا وبينت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للإعلام ـ وفي قولها : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) التفات من الخطاب إلى الغيبة ؛ إذ لو جرت على مقتضى قولها : «ربّ» لقالت : وأنت أعلم.

وقرأ الباقون : «وضعت» بتاء التأنيث الساكنة ـ على إسناد الفعل لضمير أم مريم ، وهو من كلام الباري تعالى ، وفيه تنبيه على عظم قدر هذا المولود ، وأنّ له شأنا لم تعرفيه ، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير ، دون ما يئول إليه من أمور عظام ، وآيات واضحة.

قال الزمخشريّ : «ولتكلّمها بذلك على وجه التحسّر والتحزّن قال الله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) تعظيما لموضوعها ، وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت ، وما علق به من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آية للعالمين ، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت».

وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ) قال : «ولو كان من كلام مريم لكان التركيب : وأنت أعلم». وقد تقدم جوابه بأنه التفات.

وقرأ ابن عباس «والله أعلم بما وضعت» (٢) ـ بكسر التاء ـ خاطبها الله ـ تعالى ـ بذلك ، بمعنى : أنك لا تعلمين قدر هذه المولودة ، ولا قدر ما علم الله فيها من عظائم الأمور.

قوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ؛) هذه الجملة ـ يحتمل أن تكون معترضة ، وأن يكون لها محل ، وذلك بحسب القراءات المذكورة في «وضعت» ـ كما يأتي تفصيله ـ والألف واللام في «الذكر» يحتمل أن تكون للعهد ، والمعنى : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : فما معنى قولها : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)؟

__________________

(١) ينظر : الكشف ١ / ٣٤٠ ، والسبعة ٣٠٤ ، والحجة ٣ / ٣٢ ، والعنوان ٧٩. وحجة القراءات ١٦٠ ، وإعراب القراءات ١ / ١١١ ، وشرح شعلة ٣١١ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٥٢ ، وإتحاف ١ / ٤٧٥.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٣٥٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٥٧ ، والدر المصون ٢ / ٧٤.

١٧٤

قلت : هو بيان لما في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) من التعظيم للموضوع ، والرفع منه ، ومعناه : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها ، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس ، على أن المراد : أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية ؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب ، بخلاف الأنثى ؛ لما يعتريها من الحيض ، وعوارض النسوان.

وكان سياق الكلام ـ على هذا ـ يقتضي أن يدحل النفي على ما استقر ، وحصل عندها ، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المقصود منه ، فكان التركيب : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عدل عن ذلك ؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده ، وهو المتلجلج في صدرها ، والحائل في نفسها ، فلم يجر لسانها في ابتداء النطق إلا به ، فصار التقدير : وليس جنس الذكر مثل جنس الأنثى ، لما بينهما من التفاوت فيما ذكر ، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء ، وفهموها عن الله ـ تعالى ـ لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنى ؛ إذ كلّ أحد يعلم أن الذكر ليس كالأنثى.

وقوله : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) هذه الجملة معطوفة على قوله : (إِنِّي وَضَعْتُها) على قراءة من ضمّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت : إني وضعتها ، وقالت : والله أعلم بما وضعت ، وقالت : وليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إنّي سمّيتها مريم.

وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون (وَإِنِّي سَمَّيْتُها) أيضا معطوفا على (إِنِّي وَضَعْتُها) ويكون قد فصل بين المتعاطفين بجملتي اعتراض ، كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٦] قاله الزمخشريّ.

قال أبو حيّان (١) : «ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان ؛ لأنه يحتمل أن يكون : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) من كلامها في هذه القراءة» ويكون المعترض جملة واحدة ـ كما كان من كلامها في قراءة من قرأ «وضعت» بضم التاء ـ بل ينبغي أن يكون هذا المتعيّن ؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، ولأن في اعتراض جملتين خلافا لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان.

وأيضا تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما ـ على زعمه ـ بين المعطوف والمعطوف عليه ، بقوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٦] ليس تشبيها مطابقا للآية ؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم ـ الذي هو (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] ـ وبين جوابه ـ الذي هو (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ـ بجملة واحدة ـ وهي قوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) ـ لكنه جاء في جملة

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٥٨.

١٧٥

الاعتراض ـ بين بعض أجزائها ، وبعض اعتراض بجملة ـ وهي قوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) اعتراض بها بين المنعوت الذي هو «لقسم» ـ وبين نعته ـ الذي هو «عظيم» ـ فهذا اعتراض ، فليس فصلا بجملتي اعتراض كقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى).

قال شهاب الدين (١) : والمشاحّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة ، وقوله : «ليس فصلا بجملتي اعتراض» ممنوع ، بل هو فصل بجملتي اعتراض ، وكونه جاء اعتراضا في اعتراض لا يضر ولا يقدح في قوله : فصل بجملتين» ف «سمى» يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه ، تقول : سميت زيدا ، والأصل : بزيد ، وجمع الشاعر بين الأصل والفرع في قوله : [المتقارب]

١٤١٨ ـ وسمّيت كعبا بشرّ العظام

وكان أبوك يسمّى الجعل (٢)

أي يسمى بالجعل ـ وقد تقدم الكلام في مريم واشتقاقها ومعناها.

فصل

ظاهر هذا الكلام يدل على أن عمران كان قد مات قبل وضع حنّة مريم ، فلذلك تولّت الأم تسميتها ؛ لأن العادة أن التسمية يتولّاها الآباء ، وأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله أن يعصمها من آفات الدين والدنيا ؛ لأن مريم ـ في لغتهم ـ العبادة ، ويؤكد ذلك قوله : بعد ذلك: (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ). وقولها : (سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) جعلت هذا اللفظ اسما لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة ، وعلى أن تسمية الولد يكون يوم الوضع.

قوله : (وَإِنِّي أُعِيذُها) عطف على (وَإِنِّي سَمَّيْتُها) وأتى ـ هنا ـ بخبر «إنّ» فعلا مضارعا ؛ دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف قوله : (وَضَعَتْها) و (سَمَّيْتُها) حيث أتى بالخبرين ماضيين ؛ لانقطاعهما ، وقدم المعاذ به على المعطوف ؛ اهتماما به.

وفتح نافع ياء المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة ، وكذلك ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين فإن الكلّ اتفقوا على سكونها فيهما ـ : (بِعَهْدِي أُوفِ) [البقرة : ٤٠] و (آتُونِي أُفْرِغْ) [الكهف : ٩٦] والباقي عشرة مواضع ، هذا الذي في هذه السورة أحدها.

فصل

لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلا خادما للمسجد ، تضرعت إلى الله تعالى

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٧٥.

(٢) البيت لعتبة بن الوغل التغلبي ونسبه صاحب الخزانة إلى الأخطل وليس في ديوانه. ينظر : الشعر والشعراء ٢ / ٦٥٣ والاشتقاق ص ٣٣٦ ومعجم الشعراء ص ٨٤ والخزانة ١ / ٤٦٠ والمؤتلف والمختلف (٨٤) والدر المصون ٢ / ٧٥.

١٧٦

أن يحفظها من الشيطان ، وأن يجعلها من الصالحات القانتات.

قال القرطبي : «معنى قوله : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) يعني خادم الرب ـ بلغتهم ـ (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) مريم. (وَذُرِّيَّتَها) عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصّة».

قوله : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها) الجمهور على (فَتَقَبَّلَها) فعلا ماضيا على «تفعّل» بتشديد العين ـ و (رَبُّها) فاعل به ، وتفعل يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون بمعنى المجرّد ـ أي فقبلها ـ بمعنى رضيها مكان الذّكر المنذور ، ولم يقبل أنثى منذورة ـ قبل مريم ـ كذا ورد في التفسير ، و ـ «تفعّل» يأتي بمعنى «فعل» مجرّدا ، نحو تعجب وعجب من كذا ، وتبرّأ وبرىء منه.

والثاني : أن «تفعل» بمعنى : استفعل ، أي : فاستقبلها ربّها ، يقال : استقبلت الشيء أي : أخذته أول مرة.

والمعنى : أن الله تولّاها من أول أمرها وحين ولادتها.

ومنه قول الشاعر : [الوافر]

١٤١٩ ـ وخير الأمر ما استقبلت منه

وليس بأن تتبّعه اتّباعا (١)

ومنه المثل : خذ الأمر بقوابله. و «تفعّل» بمعنى «استفعل» كثير ، نحو : تعظم ، واستعظم ، وتكبر ، واستكبر ، وتعجّل واستعجل.

قال بعض العلماء : «إن ما كان من باب التفعّل ، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل ، كالتصبّر والتجلّد ، ونحوهما ، فإنهما يفيد أن الجدّ في إظهار الصبر والجلد ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول».

فإن قيل : فلم لم يقل : فتقبلها ربّها بتقبّل حسن ، حتى تكمل المبالغة؟

فالجواب : أنّ لفظ التّقبّل ـ وإن أفاد ما ذكرنا ـ يفيد نوع تكلّف خلاف الطبع ، فذكر التقبل ، ليفيد الجد والمبالغة ، ثم ذكر القبول ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع ، بل على وفق الطبع ، وهذه الوجوه ـ وإن كانت ممتنعة في حقّ الله تعالى ـ تدل من حيث الاستعارة ـ على حصول العناية العظيمة في تربيتها ، وهو وجه مناسب.

والباء ـ في قوله : «بقبول» ـ فيها وجهان :

أحدهما : أنها زائدة ، أي : قبولا ، وعلى هذا فينتصب «قبولا» على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد ؛ إذ لو جاء على «تقبّل» لقيل : تقبّلا ، نحو تكبّر تكبّرا.

وقبول : من المصادر التي جاءت على «فعول» ـ بفتح الفاء ـ قال سيبويه : خمسة

__________________

(١) تقدم.

١٧٧

مصادر جاءت على «فعول» قبول ، وطهور ، ووقود ، ووضوء ، وولوع ، إلا أن الأكثر في الوقود ـ إذا كان مصدرا ـ الضّمّ ، يقال : قبلت الشيء قبولا ، وأجاز الفرّاء والزّجّاج ضم القاف من قبول وهو القياس ، كالدخول والخروج ، وحكاها ابن الأعرابي عن الأعراب : قبلت قبولا وقبولا ـ بفتح القاف وضمها ـ سماعا ، وعلى وجهه قبول ـ لا غير ـ يعني لم يقل هنا إلا بالضم ، وأنشدوا : [السريع]

١٤٢٠ ـ قد يحمد المرء وإن لم يبل

بالشّرّ والوجه عليه القبول (١)

بضم القاف ـ كذا حكاه بعضهم.

قال الزّجّاج : إن «قبولا» هذا ليس منصوبا بهذا الفعل حتى يكون مصدرا على غير المصدر ، بل هو منصوب بفعل موافق له ، ـ أي : مجردا ـ قال : والتقدير : فتقبلها بتقبّل حسن ، وقبلها قبولا حسنا ، أي : رضيها ، وفيه بعد.

والوجه الثاني : أن الياء ليست بزائدة ، بل هي على حالها ، ويكون المراد بالقبول ـ هنا ـ اسما لما يقبل به الشيء ، نحو اللدود ، لما يلدّ به. والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر.

فصل

في تفسير ذلك القبول الحسن وجوه :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ استجاب دعاء أمّ مريم ، وعصمها ، وعصم ولدها عيسى ـ عليه

السلام ـ من الشيطان.

روى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مولود إلّا والشّيطان يمسه ـ حين يولد ـ فيستهلّ صارخا من مسّ الشّيطان إلّا مريم وابنها» ، ثم قال أبو هريرة : اقرأوا ـ إن شئتم ـ (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)(٢) ، طعن القاضي في هذا الخبر ، وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدّليل ؛ وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوه :

الأول : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشّرّ من يعرف الخير والشر ، والطفل المولود ليس كذلك.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٧٦.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ٣١٧) كتاب الأنبياء باب قول الله تعالى واذكر في الكتاب مريم ... رقم (٣٤٣١) ومسلم (٢ / ٢٢٤) وأحمد (٣ / ٢٨٨ ، ٢٩٢) والطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٣٧) من طرق عن أبي هريرة مرفوعا وأخرجه الطبري (٦ / ٣٣٦) والحاكم (٢ / ٥٩٤) من طريق يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٣٠) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٥) وعزاه للطبري عن ابن عباس.

١٧٨

الثاني : أن الشيطان لو تمكّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك ـ من إهلاك الصالحين ، وإفساد أحوالهم.

الثالث : لم خصّ ـ بهذا الاستثناء ـ مريم وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ دون سائر الأنبياء؟

الرابع : أن ذلك المس لو وجد بقي أثره ، ولو بقي أثره لدام الصّراخ والبكاء ، فلمّا لم يكن كذلك علمنا بطلانه.

الوجه الثاني ـ في معنى القبول الحسن ـ : ما روي أن حنّة ـ حين ولدت مريم ـ لفّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون ـ وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ـ وقالت : خذوا هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها ؛ لأنها كانت بنت إمامهم ، فقال لهم زكريّا : أنا أحق بها ؛ عندي خالتها ، فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا ـ وكانوا سبعة وعشرين ـ إلى نهر جار. قال السّدّيّ : هو نهر الأردن ـ فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها ، على أن كل من يرتفع قلمه ، فهو الراجح ، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء ، وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريّا (١).

قاله محمد بن إسحاق وجماعة ، وقيل : جرى قلم زكريا مصعدا إلى أعلى الماء ، وجرت أقلامهم بجري الماء (٢).

وقال السّدّيّ وجماعة : ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامهم ، فذهب بها الماء ، فسهمهم زكريا ـ وكان رأس الأحبار ونبيهم ـ فأخذها.

الوجه الثالث : روى القفّال عن الحسن أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها ـ كما تكلم المسيح ـ ولم تلتقم ثديا قط ، وإن رزقها كان يأتيها من الجنّة (٣).

الوجه الرابع : أن عادتهم في شريعتهم أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام ، وحتى يصير عاقلا قادرا على خدمة المسجد ، وهنا قبل الله تلك الجارية على صغرها ، وعدم قدرتها على خدمة المسجد.

وقيل : معنى التّقبّل : التكفّل في التربية ، والقيام بشأنها.

وقال الحسن : معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢) عن ابن عباس وعزاه لإسحق بن بشر وابن عساكر عنه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٥٣) عن محمد بن إسحاق.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ٢٦) وعزاه للقفال عن الحسن.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٥٢) عن الحسن.

١٧٩

وقوله : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) نبات : مصدر على غير المصدر ؛ إذ القياس إنبات ، وقيل : بل هو منصوب بمضمر موافق له أيضا ، تقديره : فتنبت نباتا حسنا ، قاله ابن الأنباريّ.

وقيل : كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام.

وقيل : تنبت في الصلاح والعفّة والطاعة.

وقال القرطبي : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي : سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان.

قوله : (وَكَفَّلَها) قرأ الكوفيون (١)(وَكَفَّلَها) ـ بتشديد العين ـ «زكريّا» ـ بالقصر ـ إلا أبا بكر ، فإنه قرأه بالمد كالباقين ، ولكنه ينصبه ، والباقون يرفعونه.

وقرأ مجاهد (٢) «فتقبّلها» بسكون اللام «ربّها» منصوبا ، «وأنبتها» ـ بكسر الباء وسكون التاء ـ وكفّلها ـ بكسر الفاء [وسكون اللام](٣) والتخفيف وقرأ أبي : «وأكفلها» ـ كأكرمها ـ فعلا ماضيا.

وقرأ عبد الله المزني «وكفلها» ـ بكسر الفاء والتّخفيف ـ.

فأما قراءة الكوفيين فإنهم عدوّا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين ، ثانيهما زكريا ، فمن قصره ، كالأخوين وحفص ـ كان عنده مقدّر النصب ، ومن مدّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به ، وأما قراءة بقية السبعة ف «كفل» مخفف عندهم ، متعد لواحد ـ وهو ضمير مريم ـ وفاعله زكريا.

قال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ولا مخالفة بين القراءتين ؛ لأن الله لما كفّلها إياه كفلها ، وهو في قراءتهم ممدود ، مرفوع بالفاعلية.

وأما قراءة : «أكفلها» فإنه عدّاه بالهمزة كما عدّاه غيره بالتضعيف نحو خرّجته وأخرجته ، وكرّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعراب ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى ، والمفعول الأول هو : ضمير مريم والثاني : هو زكريا.

أما قراءة «وكفلها» ـ بكسر الفاء ـ فإنها لغة في «كفل» يقال : كفل يكفل ـ كقتل يقتل ـ وهي الفاشية ، وكفل يكفل ـ كعلم يعلم ـ وعليها هذه القراءة ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون «زكريا» فاعلا.

وأما قراءة مجاهد فإنها «كفّلها» على لفظ الدعاء من أم مريم لله ـ تعالى ـ بأن يفعل لها ما سألته ربّها منصوب على النداء ، أي : فتقبّلها يا ربّها ، وأنبتها وكفّلها يا ربّها ،

__________________

(١) انظر : السعة ٢٠٤ ، والكشف ١ / ٣٤١ ، والحجة ٣ / ٣٣ ـ ٣٤ ، وحجة القراءات ١٦١ ، وإعراب القراءات ١ / ١١١ ، والعنوان ٧٩ ، وشرح شعلة ٣١١ ، ٣١٢ ، وشرح الطيبة ١٥٢ ـ ١٥٤ ، وإتحاف ١ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

(٢) انظر : الكشاف ١ / ٣٥٨ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٢٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٦٠ والدر المصون ٢ / ٧٦ ، والقرطبي ٤ / ٤٦.

(٣) سقط في أ.

١٨٠