اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الثالث : أنها منصوبة على الحال ، وصاحب الحال فاعل «تتّقوا» وعلى هذا تكون حالا مؤكدة لأن معناه مفهوم من عاملها ، كقوله : (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ٣٣] ، وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦٠] وهو ـ على هذا ـ جمع فاعل ، ـ وإن لم يلفظ ب «فاعل» من هذه المادة ـ فيكون فاعلا وفعلة ، نحو : رام ورماة ، وغاز وغزاة ، لأن «فعلة» يطّرد جمعا ل «فاعل» الوصف ، المعتل اللام.

وقيل : بل لعله جمع ل «فعيل» أجاز ذلك كلّه أبو علي الفارسي.

قال شهاب الدين : «جمع فعيل على «فعلة» لا يجوز ، فإن «فعيلا» الوصف المعتل اللام يجمع على «أفعلاء» نحو : غنيّ وأغنياء ، وتقيّ وأتقياء ، وصفيّ وأصفياء.

فإن قيل : قد جاء «فعيل» الوصف مجموعا على «فعلة» قالوا : كميّ وكماة.

فالجواب : أنه من النادر ، بحيث لا يقاس عليه».

وقرأ ابن عباس ومجاهد ، وأبو رجاء وقتادة وأبو حيوة ويعقوب وسهل وعاصم (١) ـ في رواية المعتل عينه ـ تتقوا منهم تقيّة ـ بوزن مطيّة ـ وهي مصدر ـ أيضا ـ بمعنى تقاة ، يقال : اتّقى يتقي اتقاء وتقوى وتقاة وتقيّة وتقى ، فيجيء مصدر «افتعل» من هذه المادة على الافتعال ، وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزان ، ويقال ـ أيضا ـ : تقيت أتقي ـ ثلاثيا ـ تقيّة وتقوى وتقاة وتقى ، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق.

وأمال الأخوان «تقاة» (٢) هنا ؛ لأن ألفها من قلبة عن ياء ، ولم يؤثّر حرف الاستعلاء في منع الإمالة ؛ لأن السبب غير ظاهر ، ألا ترى أن سبب الياء الإمالة المقدرة ـ بخلاف غالب ، وطالب ، وقادم فإن حرف الاستعلاء ـ هنا ـ مؤثّر ؛ لكن سبب الإمالة ظاهر ، وهو الكسرة ، وعلى هذا يقال : كيف يؤثر مع السبب الظاهر ، ولم يؤثر مع المقدّر وكان العكس أولى.

والجواب : أن الكسرة سبب منفصل عن الحرف الممال ـ ليس موجودا فيه ـ بخلاف الألف المنقلبة عن ياء ، فإنها ـ نفسها ـ مقتضية للإمالة ، فلذلك لم يقاومها حرف الاستعلاء.

وأمال الكسائيّ (٣) ـ وحده ـ (حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٥٢] فخرج حمزة عن

__________________

(١) ينظر : القراءة السابقة.

(٢) يعني حمزة والكسائي.

انظر : السبعة ٢٠٤ ، والحجة ٢ / ٢٧ ، وحجة القراءات ١٥٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٥١ ، وإعراب القراءات ١ / ١١٠ ـ ١١١ ، والعنوان ٧٩.

(٣) انظر : السبعة ٢٠٤ ، والحجة ٢ / ٢٧ ، وحجة القراءات ١٦٠ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٠.

١٤١

أصله ، وكأن الفرق أن «تقاة» ـ هذه ـ رسمت بالياء ، فلذلك وافق حمزة الكسائيّ عليه ، ولذلك قال بعضهم : «تقيّة» ـ بوزن مطيّة ـ كما تقدم ؛ لظاهر الرسم ، بخلاف «تقاته».

قال شهاب الدين (١) : [وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا ؛ لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذّ ؛ لأجل حرف الاستعلاء ، وأن سيبويه حكى عن قوم أنّهم يميلون شيئا لا تجوز إمالته ، نحو : رأيت عرقى بالإمالة ، وليس هذا من ذلك ؛ لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في كسره ظاهر.

وقوله : ...](٢) «منهم» متعلق ب «تتّقوا» أو بمحذوف على أنه حال من «تقاة» ؛ لأنه ـ في الأصل ـ يجوز أن يكون صفة لها ، فلما قدّم نصب حالا ، هذا إذا لم نجعل «تقاة» حالا ، فأما إذا جعلناها حالا تعيّن أن يتعلّق «منهم» بالفعل قبله ، ولا يجوز أن يكون حالا من «تقاة» لفساد المعنى ؛ لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين.

فصل في كيفية النظم

في كيفية النظم وجهان :

أحدهما : أنه ـ تعالى ـ لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله ـ تعالى ـ ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس ، فقال : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

والثاني : أنه لما بيّن أنه ـ تعالى ـ مالك الدنيا والآخرة ، بيّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه ـ دون أعدائه ـ.

فصل

في سبب النزول وجوه :

أحدها : قال ابن عبّاس : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد [قد بطنوا](٣) بنفر من الأنصار ؛ ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن عبد المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلّا مباطنتهم ، فنزلت هذه الآية (٤).

وثانيها : قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وغيره ؛ حيث كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم عنها (٥).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٢.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : يباطنون.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣١٤) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٨) وزاد نسبته لابن اسحق وابن أبي حاتم.

(٥) ذكره الفخر الرازي في «تفسيره» (٨ / ١٠) عن مقاتل.

١٤٢

ثالثها : قال الكلبيّ ـ عن أبي صالح عن ابن عبّاس ـ : نزلت في المنافقين ـ عبد الله بن أبيّ وأصحابه ـ كانوا يتولّون اليهود والمشركين ، ويأتونهم بالأخبار ، يرجون لهم الظفر والنصر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية (١).

ورابعها : أنها نزلت في عبادة بن الصامت ـ وكان له حلفاء من اليهود ـ في يوم الأحزاب قال : يا رسول الله ، معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي ، فنزلت هذه الآية في تحريم موالاة الكافرين (٢).

وقد نزلت آيات أخر في هذا المعنى ، منها قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨] ، وقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢] وقوله : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١] وقوله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] ، وقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١].

فصل

موالاة الكافر تنقسم ثلاثة أقسام.

الأول : أن يرضى بكفره ، ويصوّبه ، ويواليه لأجله ، فهذا كافر ؛ لأنه راض بالكفر ومصوّب له.

الثاني : المعاشرة الجميلة بحسب الظاهر ، وذلك غير ممنوع منه.

الثالث : الموالاة ، بمعنى الركون إليهم ، والمعونة ، والنّصرة ، إما بسبب القرابة ، وإما بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل ـ فهذا منهيّ عنه ، ولا يوجب الكفر ؛ لأنه ـ بهذا المعنى ـ قد يجره إلى استحسان طريقه ، والرّضى بدينه ، وذلك يخرجه عن الإسلام ، ولذلك هدد الله بهذه الآية ـ فقال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء ـ بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين ـ فأما إذا تولّوهم ، وتولّوا المؤمنين معهم ، فليس ذلك بمنهيّ عنه ، وأيضا فقوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) فيه زيادة مزيّة ؛ لأن الرجل قد يوالي غيره ، ولا يتخذه مواليا له ، فالنهيّ عن اتخاذه مواليا لا يوجب النهي عن أصل موالاته؟

فالجواب : أن هذين الاحتمالين ـ وإن قاما في الآية ـ إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا يجوز موالاتهم دلت على سقوط هذين الاحتمالين.

فصل

معنى قوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : من غير المؤمنين ، كقوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) انظر المصدر الصابق.

١٤٣

دُونِ اللهِ) [البقرة : ٢٣] ، أي : من غير الله ؛ لأن لفظة «دون» تختص بالمكان ، تقول : زيد جلس دون عمرو ، أي : في مكان أسفل منه ، ثم إن من كان مباينا لغيره في المكان ، فهو مغاير له ، فجعل لفظ «دون» مستعملا في معنى «غير» ، ثم قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) يقع عليه اسم الولاية أي : فليس من ولاية الله في شيء ، يعني أنه منسلخ من ولاية الله ـ تعالى ـ رأسا ، وهذا أمر معقول ؛ فإن موالاة الوليّ وموالاة عدوّه ضدان.

قال الشاعر : [الطويل]

١٣٩٨ ـ تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني

صديقك ، ليس النّوك عنك بعازب (١)

وكتب الشّعبيّ إلى صديق له كتابا ، من جملته : ومن والى عدوّك فقد عاداك ، ومن عادى عدوّك فقد والاك. وقد تقدم القول بأن المعنى فليس من دون الله في شيء.

ثم قال : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي : إلا أن تخافوا منهم مخافة ، قال الحسن : أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لأحدهما : تشهد أن محمّدا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم ـ وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ، ومحمد رسول قريش ـ فتركه ، ودعا الآخر قال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم نعم نعم ، فقال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم ، ثلاثا ـ فقدمه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه ، فهنيئا له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه (٢).

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)[النحل : ١٠٦].

فصل

التّقيّة لها أحكام :

منها : أنها تجوز إذا كان الرجل في قوم كفار ، ويخاف منهم على نفسه ، وماله ، فيداريهم باللسان ، بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز له أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، بشرط أن يضمر خلافه ، وأن يعرّض في كلّ ما يقول ؛ فإن التقية تأثيرها في الظاهر ، لا في أحوال القلوب ، ولو أفصح بالإيمان ـ حيث يجوز له التقية ـ كان أفضل ؛ لقصة مسيلمة.

ومنها : أنها إنما تجوز فيما يتعلق بدفع الضرر عن نفسه ، أما ما يرجع ضرره إلى

__________________

(١) البيت للعتابي ينظر الكشاف ١ / ٤٢٢ ومحاسن التأويل ٤١ / ٧٩ وغرائب القرآن ٣ / ١٦٦ والبحر المحيط ٢ / ٤٤١ والعقد الفريد ٢ / ٢٠٧ والشعر والشعراء ص ٥٠٢.

(٢) ينظر التفسير الكبير للفخر الرازي ٨ / ١٢.

١٤٤

الغير كالقتل ، والزنا ، وغصب الأموال ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين ، فلا تجوز ألبتة.

ومنها : أنها تحل مع الكفار الغالبين ، وقال بعض العلماء : إنها تحل مع المسلمين ـ إذا شاكلت حالهم حال المشركين ؛ محاماة على النفس ، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد» (١) ، ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم ؛ دفعا لذلك القدر من نقصان المال ، فهاهنا أولى.

فصل

قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التّقيّة في أول الإسلام ـ قبل استحكام الدين ، وقوة المسلمين ـ أما اليوم فلا ؛ لأن الله أعزّ الإسلام ، فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم ، وروي عن الحسن أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة (٢).

قال ابن الخطيب : «وهذا القول أولى ؛ لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان».

وقال يحيى البكاليّ : قلت لسعيد بن جبير ـ في أيام الحجاج ـ : إن الحسن كان يقول : لكم التقية باللسان ، والقلب مطمئن ، فقال سعيد بن جبير : ليس في الإسلام تقيّة ، إنما التّقيّة لأهل الحرب.

قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، «نفسه» مفعول ثان ل «يحذّر» ؛ لأنه في الأصل متعدّ لواحد ، فازداد بالتضعيف آخر ، وقدّر بعضهم حذف مضاف ـ أي : عقاب نفسه ـ وصرح بعضهم بعدم الاحتياج إليه ، كذا نقله أبو البقاء عنهم.

قال الزّجّاج : «أي : ويحذركم الله إياه ، ثم استغنوا عن ذلك بذا ، وصار المستعمل ، قال تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] فمعناه : تعلم ما عندي ، وما في حقيقتي ، ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك».

قال شهاب الدين (٣) : «وليس بشيء ؛ إذ لا بد من تقدير هذا المضاف ، ألا ترى إلى

__________________

(١) أخرجه البخاري ٥ / ١٤٧ في المظالم ، باب من قاتل دون ماله (٢٤٨٠) ومسلم ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥ في الإيمان ، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره (٢٢٦ ـ ١٤١) من حديث عبد الله بن عمرو.

وأخرجه مسلم في المصدر السابق (٢٢٥ ـ ١٤٠) من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري في المصدر السابق (٢٤٥٢) من حديث سعيد بن زيد.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩ وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٣.

١٤٥

غير ما نحن فيه ـ في نحو قولك : حذرتك نفس زيد ـ أنه لا بد من شيء تحذر منه ـ كالعقاب والسطوة ؛ لأن الذوات لا يتصوّر الحذر منها نفسها ، إنما يتصور من أفعالها وما يصدر عنها».

قال أبو مسلم : «والمعنى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أن تعصوه ، فتستحقوا عقابه».

وعبّر ـ هنا ـ بالنفس عن الذات ؛ جريا على عادة العرب ، كما قال الأعشى : [الكامل]

١٣٩٩ ـ يوما بأجود نائلا منه إذا

نفس الجبان تجهّمت سؤّالها (١)

قال بعضهم : «الهاء في «نفسه» تعود على المصدر المفهوم من قوله : (لا يَتَّخِذِ) ، أي : ويحذركم الله نفس الاتخاذ ، والنفس : عبارة عن وجود الشيء وذاته».

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ «النفس» في القرآن على أربعة أضرب :

الأول : بمعنى العلم بالشيء ، والشهادة ، كقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)، يعني علمه فيكم ، وشهادته عليكم.

الثاني : بمعنى البدن ، قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥].

الثالث : بمعنى الهوى ، كقوله : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣] يعني الهوى.

الرابع : بمعنى الروح ، قال تعالى : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ٩٣] ، أي : أرواحكم.

فصل

المعنى : يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفّار ، وارتكاب المناهي ومخالفة المأمور.

والفائدة في ذكر النفس : أنه لو قال : ويحذركم الله ، فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله ـ تعالى ـ أو من غيره ، فلما ذكر النفس زالت هذه الأشياء ، ومعلوم أن العقاب الصادر عنه ، يكون أعظم أنواع العقاب ؛ لكونه قادرا على ما لا نهاية له ، وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد ، ثم قال : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ،) أي : يحذركم الله عقابه عند مصيركم إليه.

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٩)

لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ـ واستثنى عنه التّقيّة في الظاهر ـ أتبعه

__________________

(١) ينظر : ديوانه (١٤٥) ، والبحر المحيط ٢ / ٤٤٣ ، والصاحبي ص ٤٢٢ ، ورغبة الآمل ٤ / ٥٠ ، والدر المصون ٢ / ٦٢.

١٤٦

بالوعيد على أن يصير الباطن موافقا للظاهر ـ في وقت التقية ـ ؛ لئلا يجرّه ذلك الظاهر إلى الموالاة في الباطن ، فبيّن ـ تعالى ـ أن علمه بالظاهر كعلمه بالباطن.

فإن قيل : قوله : (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) شرط ، وقوله : (يَعْلَمْهُ اللهُ) جزاء ، ولا شك أن الجزاء مترتّب على الشرط ، متأخرّ عنه ، فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى.

فالجواب : أن تعلق علم الله بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ، وهذا التجدّد إنما يعرض في النّسب ، والإضافات ، والتعلّقات ، لا في حقيقة العلم.

فإن قيل : إن محل البواعث والضمائر هو القلب ، فلم قال : (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) ولم يقل : «ما فى قلوبكم»؟

فالجواب : لأن القلب في الصدر ، فجاز إقامة الصدر مقام القلب ، كما قال : (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس : ٥].

فصل

قوله : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) قلوبكم ، من مودة الكفار وموالاتهم (أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ).

وقال الكلبيّ : إن تسرّوا ما في قلوبكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التكذيب ، أو تظهروه ، لحربه وقتاله يعلمه الله ، ويجازكم عليه.

قوله : «ويعلم» مستأنف ، وليس منسوقا على جواب الشرط ؛ لأن علمه بما في السموات وما في الأرض غير متوقّف على شرط ، فلذلك جيء مستأنفا ، وقوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من باب ذكر العام بعد الخاص. (ما فِي صُدُورِكُمْ) ، وقدّم ـ هنا ـ الإخفاء على الإبداء وجعل محلهما الصدور ، بخلاف آية البقرة ـ فإنه قدّم فيها الإبداء على الإخفاء ، وجعل محلهما النفس ، وجعل جواب الشرط المحاسبة ؛ تفنّنا في البلاغة ، وذكر ذلك للتحذير ؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف يخفى عليه الضمير؟

قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهو تمام التحذير ؛ لأنه إذا كان قادرا على جميع المقدورات كان ـ لا محالة ـ قادرا على إيصال حق كل أحد إليه ، فيكون هذا تمام الوعد ، والوعيد ، والترغيب ، والترهيب.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠)

في ناصب «يوم» أوجه :

أحدها : أنه منصوب ب «قدير» ، أي : قدير في ذلك اليوم العظيم ، لا يقال : يلزم

١٤٧

من ذلك تقييد قدرته بزمان ؛ لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يسلب فيه كلّ أحد قدرته ، فلأن يقدر في غيره بطريق الأولى. وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن الأنباري.

الثاني : أنه منصوب ب «يحذّركم» ، أي : يخوفكم عقابه في ذلك اليوم ، وإلى هذا نحا أبو إسحاق ، ورجحه.

ولا يجوز أن ينتصب ب «يحذّركم» المتأخرة.

قال ابن الأنباري : «لا يجوز أن يكون اليوم منصوبا ب «يحذّركم» المذكور في هذه الآية ؛ لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها».

وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرف وناصبه معترضا ، وهو كلام طويل ، والفصل بمثله مستبعد ، هذا من جهة الصناعة ، وأما من جهة المعنى ، فلا يصح ؛ لأن التخويف لم يقع في ذلك اليوم ؛ لأنه ليس زمان تكليف ؛ لأن التخويف موجود ، واليوم موعود ، فكيف يتلاقيان؟

قال : أن يكون منصوبا بالمصير ، والتقدير : وإلى الله المصير يوم تجد ، وإليه نحا الزّجّاج ـ أيضا ـ وابن الأنباري ومكيّ ، وغيرهم ، وهذا ضعيف على قواعد البصريين ؛ للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلام طويل.

وقد يقال : إن جمل الاعتراض لا يبالى بها في الفصل ، وهذا من ذاك.

الرابع : أن يكون منصوبا ب «اذكر» مقدرا ، فيكون مفعولا به لا ظرفا ، وقدر الطبريّ الناصب له «اتّقوا» ، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصل ، مع الاستغناء عنه.

الخامس : أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل «نفسه» ، أي : يحذركم الله عقاب نفسه يوم تجد ، فالعامل فيه «عقاب» لا «يحذركم» قاله أبو البقاء ، وفي قوله : «لا يحذّركم» فرار عما أورد على أبي إسحاق كما تقدم.

السادس : أنه منصوب ب «تودّ».

قال الزمخشريّ : «يوم تجد» منصوب ب «تودّ» والضمير في «بينه» لليوم ، أي : يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها تتمنى لو أن بينها ، وبين ذلك اليوم ، وهوله أمدا بعيدا».

وهذا ظاهر حسن ، ولكن في هذه المسألة خلاف ضعيف ؛ جمهور البصريين والكوفيين على جوازها ، وذهب الأخفش الفرّاء إلى منعها.

وضابط هذه المسألة أنه إذا كان الفاعل ضميرا عائدا إلى شيء متّصل بمعمول الفعل نحو : ثوبي أخويك يلبسان ، فالفاعل هو الألف ، وهو ضمير عائد على «أخويك» المتصلين بمفعول «يلبسان» ومثله : غلام هند ضربت ، ففاعل «ضربت» ضمير عائد على «هند» المتصلة ب «غلام» المنصوب ب «ضربت» والآية من هذا القبيل ؛ فإن فاعل «تودّ»

١٤٨

ضمير عائد على «نفس» المتصلة ب «يوم» لأنها في جملة أضيف الظرف إلى تلك الجملة ، والظرف منصوب ب «تودّ» ، والتقدير : يوم وجدان كل نفس خيرها وشرها محضرين تودّ كذا.

احتج الجمهور على الجواز بالسماع.

وهو قول الشاعر : [الخفيف]

١٤٠٠ ـ أجل المرء يستحثّ ولا يد

ري إذا يبتغي حصول الأماني (١)

ففاعل «يستحث» ضمير عائد على «المرء» المتصل ب «أجل» المنصوب ب «يستحث».

واحتج المانعون بأن المعمول فضلة ، يجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزوم ذكره ، فيتنافى هذان السببان ، ولذلك أجمع على منع زيدا ضرب ، وزيدا ظن قائما ، أي : ضرب نفسه ، وظنها ، وهو دليل واضح للمانع لولا ما يرده من السماع كالبيت المتقدم وفي الفرق عسر بين : غلام زيد ضرب ، وبين : زيدا ضرب ، حيث جاز الأول ، وامتنع الثاني ، بمقتضى العلة المذكورة.

قوله : «تجد» يجوز أن تكون [المتعدية لواحد بمعنى «تصيب» ، ويكون «محضرا» على هذا منصوبا على الحال ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن تكون علمية](٢) ، فتتعدى لاثنين ، أولهما «ما عملت» ، والثاني «محضرا» وليس بالقويّ في المعنى ، و «ما» يجوز فيها وجهان :

أظهرهما : أنها بمعنى «الذي» فالعائد ـ على هذا ـ مقدّر ، أي : ما عملته ، وقوله : (مِنْ خَيْرٍ) حال ، إما من الموصول ، وإما من عائده ، ويجوز أن تكون «من» لبيان الجنس.

ويجوز أن تكون «ما» مصدرية ، ويكون المصدر ـ حينئذ ـ واقعا موقع مفعول ، تقديره : يوم تجد كلّ نفس عملها ـ أي : معمولها ـ فلا عائد حينئذ [عند الجمهور](٣).

قوله : (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ) يجوز في «ما» هذه أن تكون منسوقة على «ما» التي قبلها بالاعتبارين المذكورين فيها ـ أي : وتجد الذي عملته ، أو وتجد عملها ـ أي : معمولها ـ من سوء. فإن جعلنا «تجد» متعديا لاثنين ، فالثاني محذوف ، أي : وتجد الذي عملته من سوء محضرا ، أو وتجد عملها محضرا ، نحو علمت زيدا ذاهبا وبكرا ـ أي : وبكرا ذاهبا ـ فحذفت مفعوله الثاني ؛ للدلالة عليه بذكره مع الأول. وإن جعلناها متعدية لواحد ، فالحال من الموصول أيضا ـ محذوفة ، أي : تجده محضرا ـ أي : في هذه الحال ـ وهذا كقولك : أكرمت زيدا ضاحكا وعمرا ـ أي : وعمرا ضاحكا ـ حذفت حال الثاني ؛

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٢ / ٤٤٤ وحاشية الشهاب ٣ / ١٧ وروح المعاني ٣ / ١٢٧ والدر المصون ٢ / ٦٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

١٤٩

لدلالة حال الأول عليه ـ ، وعلى هذا فيكون في الجملة من قوله : «تودّ» وجهان :

أحدهما : أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل «عملت» ، أي : وما عملته حال كونها وادّة ، أي : متمنّية البعد من السوء.

والثاني : أن تكون مستأنفة ، أخبر الله تعالى عنها بذلك ، وعلى هذا لا تكون الآية دليلا على القطع بوعيد المذنبين.

ووضع الكرم ، واللطف هذا ؛ لأنه نصّ في جانب الثواب على كونه محضرا ، وأما في جانب العقاب فلم ينصّ على الحضور ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه ، والبعد عنه ، وذلك بيّن على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد.

ويجوز أن تكون «ما» مرفوعة بالابتداء ، والخبر الجملة في قوله : «تودّ» ، أي : والذي عملته وعملها تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.

والضمير في «بينه» فيه وجهان :

أحدهما ـ وهو الظاهر ـ عوده على «ما عملت» ، وأعاده الزمخشري على «اليوم».

قال أبو حيّان : «وأبعد الزمخشري في عوده على «اليوم» ؛ لأن أحد القسمين اللذين أحضروا له في ذلك اليوم هو الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير ، إلا بتجوّز إذا كان يشتمل على الخير والشر ، فتود تباعده ؛ لتسلم من الشرّ ، ودعه لا يحصل له الخير. والأولى عوده على (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) ؛ لأنه أقرب مذكور ؛ ولأن المعنى أن السوء تتمنّى في ذلك اليوم التباعد منه».

فإن قيل : هل يجوز أن تكون «ما» هذه شرطية؟

فالجواب : أن الزمخشريّ ، وابن عطية منعا من ذلك ، وجعلا علة المنع عدم جزم الفعل الواقع جوابا ، وهو «تودّ».

قال شهاب الدين : «وهذا ليس بشيء ؛ لأنهم نصّوا على أنه إذا وقع فعل الشرط ماضيا ، والجزاء مضارعا جاز في ذلك المضارع وجهان ـ الجزم والرفع ـ وقد سمعا من لسان العرب ، ومنه بيت زهير : [البسيط]

١٤٠١ ـ وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول : لا غائب مالي ولا حرم (١)

__________________

(١) ينظر ديوانه ص ١٥٣ ، ولسان العرب (خلل ، حرم) ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٨ ، ٧٠ ، والدرر ٥ / ٨٢ ، ورصف المباني ١٠٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٨٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٨ ، والإنصاف ٢ / ٦٢٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٤٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٢٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٢٩ ، والمقتضب ٢ / ٧٠ وأوضح المسالك ٤ / ٢٠٧ وجواهر الأدب ص ٢٠٣ وشرح المفصل ٨ / ١٥٧ وشرح عمدة الحافظ ص ٣٥٣ وشرح شذور الذهب ص ٤٥١ وشرح ابن عقيل ص ٥٨٦ وشرح الأشموني ٣ / ٥٨٥ والهمع ٢ / ٦٠ والدر المصون ٢ / ٦٤.

١٥٠

ومن الجزم قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِ) [هود : ١٥] ، وقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ ،) وقوله : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) [الشورى : ٢٠] فدل ذلك على أن المانع من شرطيتها ليس هو رفع تودّ».

وأجاب أبو حيّان بأنها ليست شرطية ـ لا لما ذكر الزمخشريّ وابن عطيّة ـ بل لعلّة أخرى ، قال : كنت سئلت عن قول الزمخشريّ : فذكره ثم قال : ولنذكر هاهنا ما تمس إليه الحاجة بعد أن تقدم ما ينبغي تقديمه ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضيا ، وبعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع ، الجزم ، وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك : إن قام زيد يقم ـ ويقوم عمرو ، فأما الجزم فعلى جواب الشرط ولا نعلم في جواز ذلك خلافا ، وأنه فصيح ، إلا ما ذكره صاحب كتاب «الإعراب» عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع «كان» كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ) [هود : ١٥] ، لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها ، وظاهر كلام سيبويه ، وكلام الجماعة ، أنه لا يختص ذلك ب «كان» بل سائر الأفعال في ذلك مثل «كان».

وأنشد سيبويه للفرزدق : [البسيط]

١٤٠٢ ـ دسّت رسولا بأنّ القوم إن قدروا

عليك يشفوا صدورا ذات توغير (١)

وقال أيضا : [الطويل]

١٤٠٣ ـ تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (٢)

وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثيرا.

قال بعض أصحابنا : هو أحسن من الجزم ، ومنه بيت زهير السابق. ومثله ـ أيضا ـ قوله: [الطويل]

١٤٠٤ ـ وإن شلّ ريعان الجميع مخافة

نقول ـ جهارا ـ ويلكم لا تنفّروا (٣)

وقال أبو صخر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر في ديوانه ١ / ١٢٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٩٠ والدرر ٥ / ٨٣ ، وشرح عمدة الحافط ص ٣٧١ ، والكتاب ٣ / ٦٩ ولسان العرب (وغر) ، وهمع الهوامع ٢ / ٦٠ ، والدر المصون ٢ / ٦٥.

(٢) البيت للفرزدق. ينظر ديوانه (٦٢٨) والكتاب ٢ / ٤١٦ وابن الشجري ٢ / ١١٣ والخصائص ٢ / ٤٢٢ والعيني ١ / ٤٦١ والهمع ١ / ٨٧ وابن يعيش ٢ / ١٣٢ و ٤ / ٣ والأشموني ١ / ١٥٣ والمحتسب ١ / ٢١٩ ، ٢ / ١٤٥ والجمل (٣٤٣) والدرر ١ / ٦٤ ـ ٦٥ والمغني (٤٠٤) وارتشاف الضرب ١ / ٥٣٩ والدرر اللوامع ١ / ٦٥ ورغبة الآمل ٤ / ٥٥ والدر المصون.

(٣) البيت لزهير انظر ديوانه (٥٧) والبحر المحيط ٢ / ٤٤٦ والدر المصون ٢ / ٦٥.

١٥١

١٤٠٥ ـ ولا بالّذي إن بان عنه حبيبه

يقول ـ ويخفي ـ الصّبر ـ إنّي لجازع (١)

وقال الآخر : [الطويل]

١٤٠٦ ـ وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه

تشوّف أهل الغائب المتنظّر (٢)

وقال الآخر : [الطويل]

١٤٠٧ ـ فإن كان لا يرضيك حتّى تردّني

إلى قطريّ لا إخالك راضيا (٣)

وقال الآخر : [البسيط]

١٤٠٨ ـ إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا

في الجهد أدرك منهم طيب أخبار (٤)

قال شهاب الدين (٥) : «هكذا ساق هذا البيت في جملة الأبيات الدالة على رفع المضارع ، ويدل على ذلك أنه قال ـ بعد إنشاده هذه الأبيات كلّها ـ : فهذا الرفع ـ كما رأيت ـ كثير».

وهذا البيت ليس من ذلك ؛ لأن المضارع فيه مجزوم ـ وهو يعطوه ـ وعلامة جزمه سقوط النون فكان ينبغي أن ينشده حين أنشد : دسّت رسولا ، وقوله : «تعال فإن عاهدتني».

وقال : فهذا الرفع كثير ـ كما رأيت ـ ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام ـ وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره ـ وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي ـ وهو مصنف كتاب رصف المباني ـ رحمه‌الله ـ : لا أعلم منه شيئا جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم ؛ لأنه أصل العمل في المضارع ـ تقدم الماضي أو تأخّر ـ وتأوّل هذا المسموع على إضمار الفاء ، وجملة مثل قول الشاعر : [الرجز]

١٤٠٩ ـ ............

إنّك إن يصرع أخوك تصرع (٦)

__________________

(١) ينظر شرح الأشموني ٣ / ٥٨٥ والدر المصون ٢ / ٦٦.

(٢) البيت لعروة بن الورد ينظر ديوانه ص ٣٧ والبحر المحيط ٢ / ٤٤٦ والحماسة ١ / ٢٣٨ وجمهرة أشعار العرب ص ٥٤ والأصمعيات ص ٤٦ والدر المصون ٢ / ٦٦.

(٣) البيت لسوار بن المضرب ينظر شرح التصريح ١ / ٢٧٢ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٥١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٧٩ ، وشرح المفصل ١ / ٨٠ والخصائص ٢ / ٤٣٣ وشرح الأشموني ١ / ١٦٩ ، والمحتسب ٢ / ١٩٢ والدر المصون ٢ / ٦٦.

(٤) البيت لعبيد بن العرندس ـ ينظر البحر المحيط ٢ / ٤٤٦ وديوان الحماسة ٤ / ١٥٩٣ والحيوان ٢ / ٢٦٥ ورغبة الآمل ٢ / ٦ والتنبيه على أوهام أبي علي في أماليه ص ٧٩ وحاشية الشهاب ٣ / ١٧ والكامل ١ / ٩ ، ومعجم الشعراء ص ٣٠٦ والدر المصون ٢ / ٦٦.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٦.

(٦) عجز بيت لجرير وصدره :

يا أقرع بن حابس يا أقرع

ينظر الكتاب ٣ / ٦٧ وشواهد المغني (٧٩٧) وابن يعيش ٨ / ١٥٨ والمغني ٢ / ٥٥٣ والخزانة ٣ / ٣٩٦ ـ

١٥٢

على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة.

وأما المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرّفع.

فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم ، وأنّ جواب الشرط ليس مذكورا عنده ، وذهب المبرد والكوفيون إلى أنه هو الجواب ، وإنما حذفت منه الفاء ، والفاء يرفع ما بعدها ، كقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] فأعطيت ـ في الإضمار ـ حكمها في الإظهار.

وذهب غيرهما إلى أن المضارع هو الجواب بنفسه ـ أيضا ـ كالقول قبله ، إلا أنه ليس معه فاء مقدرة قالوا : لكن لما كان فعل الشرط ماضيا ، لا يظهر لأداة الشرط فيه عمل ظاهر استضعفوا أداة الشرط ، فلم يعملوها في الجواب ؛ لضعفها ، فالمضارع المرفوع ـ عند هذا القائل ـ جواب بنفسه من غير نية تقديم ، ولا على إضمار الفاء ، وإنما لم يجزم لما ذكر ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان.

وتلخص من هذا الذي قلناه ـ أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطا ، لكن امتنع أن يكون «وما عملت» شرطا لعلة أخرى ـ لا لكون «تودّ» مرفوعا ، وذلك على ما تقرّر من مذهب سيبويه أن النية بالمرفوع التقديم ، وأنه ـ إذ ذاك ـ دليل على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : لما كان «تودّ» منويا به التقديم أدّى إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية ، ألا ترى أن الضمير في قوله : «وبينه» عائد على اسم الشرط ـ الذي هو «ما» ـ فيصير التقدير : تودّ كلّ نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء ، فلزم هذا التقدير تقديم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز.

فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخّر عن اسم الشرط وإن كانت نيّته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله ، وذلك نظير : ضرب زيدا غلامه ، فالفاعل رتبته التقديم ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير؟

فالجواب : أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه ؛ لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء ـ لا دليله ـ ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل؟ بل إنها تعمل في جملة الجزاء ، وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب ، وإذا كان كذلك تدافع الأمر ؛ لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل شرط ، ومن حيث عود الضمير على اسم

__________________

ـ والمقرب ١ / ٢٧٥ والأشموني ٤ / ١٨ والتصريح ٢ / ٢٤٩ والهمع ١ / ٧٢ ، ٢ / ٦١ وابن الشجري ١ / ٨٤ والمقتضب ٢ / ٧١ وضرورة الشعر ص ١١٥ والإيضاح في شرح المفصل ٢ / ٢٤٥ وشواهد التوضيح والتصحيح ص ٢٧٦ والارتشاف ٢ / ٥٥٥ وشرح التصريح ٢ / ٢٤٩ ورغبة الآمل ٢ / ١١٠ والدرر اللوامع ١ / ٤٧ والدر المصون ٢ / ٦٦.

١٥٣

الشرط اقتضاها ، فتدافعا ، وهذا بخلاف : ضرب زيد أخاه ؛ فإنها جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معا ، فكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ومن ذلك جاز ـ عند بعضهم ـ ضرب غلامها هندا ، لاشتراك الفاعل ـ المضاف إلى الضمير ـ والمفعول الذي عاد عليه الضمير ـ في العامل ، وامتنع ضرب غلامها جاز عنده ؛ لعدم الاشتراك في العامل ، ففرق ما بين المسألتين ، ولا يحفظ من لسان العرب : أودّ لو أني أكرمه أبا ضربت هند ؛ لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسّره ـ في غير المواضع التي ذكرها النحويون ـ فلذلك لا يجوز تأخيره» انتهى.

وقد جوّز أبو البقاء كونها شرطية ، ولم يلتفت لما منعوا به ذلك ، فقال : «والثاني ـ أنها شرط وارتفع «تودّ» على إرادة الفاء ، أي : فهو تود».

ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف ؛ لأن الشرط ـ هنا ـ ماض ، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الوجهان : الجزم والرفع.

[وقد تقدم تحقيق القول في ذلك ، فالظاهر موافقته للقول الثالث من تخريج الرفع في المضارع كما تقدم تحقيقه وقرأ ...](١) عبد الله وابن أبي عبلة (٢) : «ودت» ـ بلفظ الماضي ـ وعلى هذه القراءة يجوز في «ما» وجهان :

أحدهما : أن تكون شرطية ، وفي محلها ـ حينئذ ـ احتمالان (٣).

الأول : النصب بالفعل بعدها ، والتقدير : أيّ شيء عملت من سوء ودت ، ف «ودّت» جواب الشرط.

الثاني : الرفع على الابتداء ، والعائد على المبتدأ محذوف ، تقديره : وما عملته ، وهذا جائز في اسم الشرط خاصة عند الفرّاء في فصيح الكلام ، أعني حذف عائد المبتدأ إذا كان منصوبا بفعل نحو : «أيّهم ضرب أكرمه» ـ برفع «أيّهم» وإذا كان المبتدأ غير ذلك ضعف نحو : زيد ضربت ، [وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في قراءة من قرأ : «أفحكم الجاهلية يبغون» (٤) ، وفي قوله : «وكل وعد الله الحسنى» في الحديد (٥)](٦).

الوجه الثاني من وجهي «ما» : أن تكون موصولة ، بمعنى : الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ، ومحلها ـ على هذا ـ رفع بالابتداء ، و «ودّت» الخبر ، وهو اختيار الزمخشريّ ؛ لأنه قال : «لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى : لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت ؛ لموافقة قراءة العامة» انتهى.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٢١ ، البحر المحيط ٢ / ٤٤٧ ، الدر المصون ٢ / ٦٨.

(٣) في ب : وجهان.

(٤) سورة المائدة آية ٥٠.

(٥) آية ١٠.

(٦) سقط في ب.

١٥٤

فإن قيل : لم لم يمتنع أن تكون «ما» شرطية على هذه القراءة ، كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة؟

فالجواب : أن العلة إن كانت رفع الفعل ، وعدم جزمه ـ كما قال به الزمخشريّ وابن عطية ـ فهي مفقودة في هذه القراءة ؛ لأن الماضي مبني اللفظ ، لا يظهر فيه لأداة الشرط عمل وإن كانت العلة أن النية به التقديم ، فيلزم عود الضمير على متأخّر لفظا ورتبة ، فهي أيضا مفقودة فيها ؛ إذ لا داعي يدعو إلى ذلك.

قوله ـ هنا ـ على بابها ، من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وعلى هذا ففي الكلام حذفان :

أحدهما : حذف مفعول «تودّ».

والثاني : حذف جواب «لو» ، والتقدير فيها : تود تباعد ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لسرّت بذلك ، أو لفرحت ونحوه. والخلاف في «لو» بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية كما تقدم تحريره في البقرة ، يبعد مجيئه هنا ؛ لأن بعدها حرفا مصدريا وهو «أن».

قال أبو حيان : ولا يباشر حرف مصدري حرفا مصدريا إلا قليلا كقوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] ، قال شهاب الدين : إلا قليلا يشعر بجوازه ، وهو لا يجوز ألبتة ، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة.

وقد تقدم الكلام في «أنّ» الواقعة بعد «لو» هذه ، هل محلها الرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ـ كما ذهب إليه سيبويه ـ أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدّر ، أي : لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن «لو» ـ هنا ـ مصدرية ، هي وما في حيزها في معنى المفعول ل «تودّ» ، أي تود تباعد ما بينها وبينه ، وفي ذلك إشكال ، وهو دخول حرف مصدري على مثله ، لكن المعنى على تسلّط الودادة على «لو» وما في حيّزها لولا المانع الصناعي. والأمد : غاية الشيء ومنتهاه ، وجمعه آماد ـ نجو أجل وآجال ـ فأبدلت الهمزة ألفا ، لوقوعها ساكنة بعد همزة «أفعال».

قال الراغب : «الأمد والأبد متقاربان ، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حدّ محدود ، ولا يتقيد فلا يقال : أبد كذا والأمد مدة لها حدّ مجهول إذا أطلق ، وقد ينحصر إذا قيل : أمد كذا ، كما يقال : زمان كذا ، والفرق بين الأمد والزمان ، أن الأمد يقال لاعتبار الغاية ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان».

فصل

المعنى : (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ) يعني : لو أن بين النفس وبين السوء أمدا بعيدا.

١٥٥

قال السّدّيّ : مكانا بعيدا.

وقال مقاتل : كما بين المشرق والمغرب ؛ لقوله تعالى : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف : ٣٨].

قال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبدا.

اعلم أن المقصود تمني بعده ، سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان ، أو على المكان.

ثم قال : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) وهو تأكيد للوعيد ، ثم قال : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) وفيه وجوه :

الأول : أنه رؤوف بهم ، حيث حذّرهم من نفسه ، وعرفهم كمال علمه وقدرته ، وأنه يمهل ولا يهمل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذّرهم من استحقاق غضبه.

قال الحسن : «ومن رأفته بهم أن حذّرهم نفسه».

الثاني : أنه رؤوف بالعباد ، حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتّلافي.

الثالث : أنه لما قال : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ـ وهو للوعيد ـ أتبعه بالوعد ، وهو قوله: (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ،) ليعلم العبد أن وعد رحمته غالب على وعيده.

الرابع : أن لفظ «العباد» في القرآن مختص بالمؤمنين ، قال تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] ، وقال : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] ، فعلى هذا لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة ، فقال : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ،) أي : كما هو منتقم من الكفار والفساق فهو رؤوف بالعباد المطيعين.

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)(٣٢)

قرأ العامة «تحبّون» ـ بضم حرف المضارعة ، من «أحبّ» وكذلك (يُحْبِبْكُمُ اللهُ).

وقرأ أبو رجاء العطارديّ (١) «تحبّون ، يحببكم» بفتح حرف المضارعة ـ من حبّ ـ وهما لغتان ، يقال حبّه يحبّه ـ بضم الحاء وكسرها في المضارع ـ وأحبّه يحبّه.

وحكى أبو زيد : حببته ، أحبّه.

وأنشد :

١٤١٠ ـ فو الله لولا ثمره ما حببته

ولا كان أدنى من عويف ومشرق (٢)

__________________

(١) انظر : الشواذ ٢٠ ، والمحرر الوجيز ١ / ٤٢٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٤٨ ، والدر المصون ٢ / ٦٩.

(٢) البيت لغيلان بن شجاع النهشلي ينظر لسان العرب ١ / ٢٨٩ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٤١٠ ، والخزانة ٩ / ٤٢٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٨٠ وشرح المفصل ٧ / ١٣٨ ، والخصائص ٢ / ٢٢٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٦.

١٥٦

ونقل الزمخشريّ : قراءة يحبكم (١) ـ بفتح الياء والإدغام ـ وهو ظاهر ، لأنه متى سكن المثلين جزما ، أو وقفا جاز فيه لغتان : الفك والإدغام. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله في المائدة.

والحبّ : الخابية ـ فارسيّ معرّب ـ والجمع : حباب وحببة ، حكاه الجوهريّ.

وقرأ الجمهور (فَاتَّبِعُونِي) بتخفيف النون ، وهي للوقاية.

وقرأ الزّهري بتشديدها (٢) ، وخرّجت على أنه ألحق الفعل نون التأكيد ، وأدغمها في نون الوقاية وكان ينبغي له أن يحذف واو الضمير ؛ لالتقاء الساكنين ، إلا أنه شبّه ذلك بقوله : (أَتُحاجُّونِّي) وهو توجيه ضعيف ولكن هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ.

وطعن الزجاج على من روى عن أبي عمرو إدغام الراء من «يغفر» في لام «لكم».

وقال : هو خطأ وغلط على أبي عمرو. وقد تقدم تحقيقه ، وأنه لا خطأ ولا غلط ، بل هو لغة للعرب ، نقلها الناس ، وإن كان البصريون لا يجيزون ذلك كما يقول الزجاج.

فصل

اعلم أنه ـ تعالى ـ لما دعاهم إلى الإيمان به وبرسوله على سبيل التهديد والوعيد دعاهم إلى ذلك بطريق آخر ، وهو أن اليهود كانوا يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] فنزلت هذه الآية.

وروي الضحاك ـ عن ابن عباس ـ أن النبي وقف على قريش ـ وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها السيوف.

ـ فقال : يا معشر قريش ، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم ، فقالت قريش : إنما نعبدها حبا لله : (لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ،) فقال الله ـ تعالى ـ : «قل» يا محمد (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) فتعبدون الأصنام لتقربكم إليه (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) فأنا رسوله إليكم ، وحجته عليكم أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله (٣).

وقال القرطبي : «نزلت في وفد نجران ؛ إذ زعموا أنّ ما ادّعوه في عيسى حبّ لله عزوجل».

وروي أن المسلمين قالوا : يا رسول الله ، والله إنا لنحب ربّنا ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي)(٤) [آل عمران : ٣١].

__________________

(١) انظر : الكشاف ١ / ٣٥٣ ، وفي الشواذ ٢٠ نسبتها إلى أبي رجاء.

وانظر : البحر المحيط ٢ / ٤٤٨ ، والدر المصون ٢ / ٦٩.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٢٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٤٨ ، والدر المصون ٢ / ٦٩.

(٣) انظر التفسير الكبير للفخر الرازي ٨ / ١٦.

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٣٢٢) من طريق بكر بن الأسود عن الحسن وأخرجه الطبري (٦ / ٣٢٢) وابن ـ

١٥٧

قال ابن عرفة : المحبة ـ عند العرب ـ إرادة الشيء على قصد له.

وقال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما ، واتباعه أمرهما ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) [آل عمران : ٣١] [ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران ، قال الله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ٣٢] ، أي : لا يغفر لهم](١).

قال سهل بن عبد الله : علامة حبّ الله حبّ القرآن ، وعلامة حب القرآن حبّ النبي ، وعلامة حب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حب السنة ، وعلامة حب السنة ، حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة ، أن لا يحب نفسه ، وعلامة أن لا يحب نفسه أن يبغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة.

قوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) الآية قيل : إنه لما نزلت هذه الآية ، قال عبد الله بن أبي لأصحابه : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ـ عليه‌السلام ـ فنزل قوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عنها (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم.

والمعنى : إنما أوجب الله عليكم طاعتي ، ومتابعتي ـ لا كما تقول النصارى في عيسى ، [بل لكوني رسولا من عند الله](٢).

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مضارعا ، والأصل «تتولّوا» فحذف إحدى التاءين كما تقدم ، وعلى هذا ، فالكلام جار على نسق واحد ، وهو الخطاب.

والثاني : أن يكون فعلا ماضيا مسندا لضمير غيب ، فيجوز أن يكون من باب الالتفات ، ويكون المراد بالغيّب المخاطبين في المعنى ، ونظيره قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢].

فصل

روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»

__________________

ـ المنذر كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠) من طريق أبي عبيدة الناجي عن الحسن.

وأخرجه الطبري (٦ / ٣٢٣) وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠) من طريق عباد بن منصور عن الحسن.

(١) بدل ما بين المعكوفين في أ :

فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره ، وإيثار طاعته ، وابتغاء مرضاته ، وحب الله المؤمنين ثناؤه عليهم ، وثوابه لهم ، وعفوه عنهم ، فذلك قوله تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني غفور في الدنيا ، فيستر على العبد معصيته ، رحيم في الآخرة بفضله ، وكرمه.

(٢) سقط في أ.

١٥٨

قالوا : ومن يأبى؟ قال : «من أطاعني دخل الجنّة ، ومن عصاني فقد أبى» (١).

قال جابر بن عبد الله : «جاء الملائكة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو نائم ـ فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العين نائمة ، والقلب يقظان ، فقالوا : إن لصاحبكم هذا مثلا ، فاضربوا له مثلا ، فقالوا : مثله كمثل رجل بنى دارا ، وجعل فيها مأدبة ، وبعث داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، فقالوا : أوّلوها له بفقهها ، فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العين نائمة والقلب يقظان ، قالوا : فالدار الجنة ، والداعي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أطاع محمدا فقد أطاع الله ، ومن عصى محمدا فقد عصى الله ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرق بين الناس» (٢).

روى الترمذي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وأن لا يؤذي جاره» (٣) وروى مسلم ـ عن أبي هريرة ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الله إذا أحبّ عبدا دعا جبريل فقال : إنّي أحبّ فلانا ، فأحبه ، قال : فيحبه جبريل ، ثم ينادي في السماء ، فيقول : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السّماء ، قال : ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول : إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال : فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، قال فيبغضونه ، ثم توضع له البغضاء في الأرض» (٤).

وقال : (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) ولم يقل : فإنه لا يحب ؛ لأن العرب إذا عظّمت الشيء أعادت ذكره ، أنشد سيبويه [قول الشاعر](٥) : [الخفيف]

١٤١١ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (٦)

ويحتمل أن يكون لأجل أنه تقدم ذكر الله والرسول ، فذكره للتمييز ؛ لئلّا يعود الضمير على الأقرب.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٣٤)

لما بين ـ تعالى ـ أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسول بين علو درجات الرّسل

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ١٦٦) كتاب الاعتصام باب الاقتداء بسنن ... (٧٢٨٠) وأحمد (٢ / ٣٦١) والحاكم (١ / ٥٥) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٣٨) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٠٢١٩).

(٢) أخرجه البخاري ١٣ / ٢٦٣ في الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧٢٨١).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ٤٠) وصدره بصيغة التمريض.

(٤) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة ١٥٧ وأحمد (٢ / ٢٦٧ ، ٤١٣) والطيالسي (٢١٠٣) والبخاري في «الأدب المفرد» (١٤١) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (٤٩٨).

(٥) سقط في أ.

(٦) تقدم.

١٥٩

فقال : «إنّ الله اصطفى آدم ونوحا» «نوح» اسم أعجمي ، لا اشتقاق له عند محققي النحويين ، وزعم بعضهم أنه مشتق من النّواح. وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب ، وهو منصرف وإن كان فيه علّتان فرعيّتان : العلمية والعجمة الشخصية ـ لخفّة بنائه ؛ لكونه ثلاثيا ساكن الوسط ، وقد جوّز بعضهم منعه ؛ قياسا على «هند» وبابها لا سماعا ؛ إذ لم يسمع إلا مصروفا وادعى الفرّاء أن في الكلام حذف مضاف ، تقديره : إن الله اصطفى دين آدم.

قال التبريزي : «وهذا ليس بشيء ؛ لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل : ونوح ـ بالجر ـ إذ الأصل دين آدم ودين نوح».

وهذه سقطة من التبريزيّ ؛ إذ لا يلزم أنه إذا حذف المضاف ، بقي المضاف إليه [على جره](١) ـ حتى يرد على الفراء بذلك ، بل المشهور ـ الذي لا يعرف الفصحاء غيره ـ إعراب المضاف إليه بإعراب المضاف حين حذفه ، ولا يجوز بقاؤه على جرّه إلا في قليل من الكلام ، بشرط مذكور في النحو يأتي في الأنفال إن شاء الله تعالى.

وكان ينبغي ـ على رأي التبريزيّ : أن يكون قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] بجر «القرية» ؛ لأن الكلّ هو وغيره ـ يقولون : هذا على حذف مضاف ، تقديره : أهل القرية.

قال القرطبيّ : «وهو ـ نوح ـ شيخ المرسلين ، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ـ بعد آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتحريم البنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وسائر القرابات المحرمة ، ومن قال ـ من المؤرخين ـ إن إدريس كان قبله فقد وهم» على ما يأتي بيانه في الأعراف ـ إن شاء الله تعالى.

وعمران اسم أعجميّ.

وقيل : عربيّ ، مشتق من العمر ، وعلى كلا القولين فهو ممنوع من الصرف ؛ للعلمية ، والعجمة الشخصية ، وإما للعلمية ، وزيادة الألف والنون.

قوله : (عَلَى الْعالَمِينَ) متعلق ب «اصطفى».

قوله : «اصطفى» يتعدى ب «من» نحو اصطفيتك من الناس.

فالجواب : أنه ضمّن معنى «فضّل» ، أي : فضّلهم بالاصطفاء.

فصل

اعلم أن المخلوقات على قسمين : مكلّف ، وغير مكلّف ، واتفقوا على أن المكلّف أفضل. وأصناف المكلفين أربعة : الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين.

__________________

(١) في أ : مجرورا.

١٦٠