اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وقدّر بعضهم الفعل ، فقال : كيف يصنعون؟ [فإن أراد «كان» التامة كانت في موضع نصب على الحال ، وإن أراد الناقصة كانت في موضع نصب على خبر «كان»](١) ، فكيف على ما تقدم من الوجهين.

ويجوز أن تكون «كيف» خبرا مقدما والمبتدأ محذوف ، تقديره : فكيف حالهم؟

قوله : (إِذا جَمَعْناهُمْ) «إذا» ظرف محض من غير تضمين شرط ، والعامل فيه العامل في «كيف» إن قلنا : إنها منصوبة بفعل مقدّر كما تقدم تقريره ـ وإن قلنا : إنها خبر لمبتدأ مضمر ، وهي منصوبة انتصاب الظروف كان العامل في «إذا» الاستقرار العامل في «كيف» ؛ لأنها كالظرف ، وإن قلنا : إنها اسم غير ظرف ، بل لمجرد السؤال كان العامل فيها نفس المبتدأ ـ الذي قدرناه ـ أي : كيف حالهم في وقت جمعهم؟

ويحذف الحال ـ كثيرا ـ مع «كيف» ، لدلالته عليها ، تقول : كنت أكرمه ـ ولم يزرني ـ فكيف لو زارني؟ أي : كيف حاله إذا زارني؟ وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة ، لما فيه من تحرّك النفي على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة ، وكل نوع من أنواع العذاب ـ في هذه الآية ـ.

قوله : «ليوم» متعلق ب «جمعناهم» أي : لقضاء يوم ، أو لجزاء يوم.

فإن قيل : لم قال : «ليوم» ولم يقل : في «يوم».

فالجواب : ما ذكرناه من أنّ المراد : لجزاء يوم ، أو لحساب يوم ، فحذف المضاف ، ودلت اللام عليه قال الفرّاء : اللام لفعل مضمر ، فإذا قلت : جمعوا ليوم الخميس ، كان المعنى : جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس ، وإذا قلت : جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلا.

وأيضا فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة.

وقال الكسائيّ : اللام بمعنى «في».

(لا رَيْبَ فِيهِ) صفة للظرف.

قوله : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) إن حملت «ما كسبت» على عمل العبد ، جعل في الكلام حذف ، والتقدير : ووفيت كلّ نفس جزاء ما كسبت من ثواب وعقاب ، وإن حملت «ما كسبت» على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار ، ثم قال : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص من ثواب حسناتهم ، ولا يزاد على عقاب سيئاتهم.

فصل

استدلوا بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة ـ من أصحاب الصلاة ـ لا يخلّد في

__________________

(١) سقط في أ.

١٢١

النار ؛ لأنه مستحق للعقاب ـ بتلك الكبيرة ـ ومستحق ثواب الإيمان ، فلا بدّ وأن يوفّى ذلك الثواب ؛ لقوله تعالى : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى النار ، وذلك باطل بالإجماع. وإما أن يعاقب في النار ، ثم ينقل إلى دار الثواب أبدا مخلّدا ، وهو المطلوب. وقد تقدم إبطال تمسك المعتزلة بالعمومات.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم؟

فالجواب : أن هذا باطل لما تقدم في البقرة من أن القول بالمحابطة محال ؛ وأيضا فإنا نعلم ـ بالضرورة ـ أن ثواب توحيد [سبعين](١) سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر والمنازع فيه مكابر ، وبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط ثواب كل الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر.

وكان يحيى بن معاذ ـ رحمه‌الله ـ يقول : ثواب إيمان لحظة يسقط كفر ستين سنة ، فثواب إيمان ستين سنة كيف يعقل أن لا يحبط عقاب ذنب لحظة؟

قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧)

لمّا بيّن دلائل التوحيد والنبوّة ، وصحة دين الإسلام ، وذكر صفات المخالفين ، وشدة عنادهم وغرورهم ، ثم ذكر وعيدهم بجمعهم يوم القيامة ، أمر رسوله ـ عليه‌السلام ـ بدعاء وتمجيد يخالف طريقة هؤلاء المعاندين.

قوله : «اللهمّ» اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظة.

قال البصريون : الأصل : يا الله ، فحذف حرف النداء ، وعوّض عنه هذه الميم المشددة ، وهذا خاصّ بهذا الاسم الشريف ، فلا يجوز تعويض الميم من حرف النداء في غيره ، واستدلوا على أنها عوض من «يا» بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر ، كقوله : [الرجز]

١٣٧٨ ـ وما عليك أن تقولي كلّما

سبّحت أو هلّلت يا اللهمّ ما

أردد علينا شيخنا مسلّما

فإنّنا من خيره لن نعدما (٢)

__________________

(١) في أ : ستين.

(٢) ينظر الهمع ٢ / ١٥٧ واللسان (أله) والإنصاف ٢١٢ والدرر ٢ / ٢٢٢٠ ورصف المباني (٣٠٦) ومعاني القرآن للزجاج ١ / ٣٩٦ وللفراء ١ / ٢٠٣ وشرح الكافية ١ / ١٤٦ وضرائر الشعر ص ٥٦ وشرح الكافية ١ / ١٤٦ والخزانة ٢ / ٢٩٦ والإيضاح في شرح المفصل ١ / ٢٩٠ والدر المصون ٢ / ٥٣.

١٢٢

وقول الآخر : [الرجز]

١٣٧٩ ـ إنّي إذا ما حدث ألمّا

أقول : يا اللهمّ ، يا اللهمّا (١)

وقال الكوفيون : الميم المشددة بقيّة فعل محذوف ، تقديره : أمّنا بخير ، أي : اقصدنا به ، من قولك : أممت زيدا ، أي : قصدته ، ومنه : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] أي : قاصديه ، وعلى هذا فالجمع بين «يا» والميم ليس بضرورة عندهم ، وليست عوضا منها.

وقد ردّ عليهم البصريون هذا بأنه قد سمع : اللهمّ أمّنا بخير ، وقال تعالى : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) [الأنفال : ٣٢] فقد صرّح بالمدعوّ به ، فلو كانت الميم بقية «أمّنا» لفسد المعنى ، فبان بطلانه.

وهذا من الأسماء التي لزمت النداء ، فلا يجوز أن يقع في غيره ، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلا ، أنشد الفرّاء : [مخلّع البسيط]

١٣٨٠ ـ كحلفة من أبي دثار

يسمعها اللهم الكبار (٢)

استعمله ـ هاهنا ـ فاعلا بقوله : يسمعها.

ولا يجوز تخفيف الميم ، وجوّزه الفراء ، وأنشد البيت : بتخفيف الميم ؛ إذ لا يمكن استقامة الوزن إلا بذلك.

قال بعضهم : هذا خطأ فاحش ، وذلك لأن الميم بقية «أمّنا» ـ على رأي الفراء ـ فكيف يجوزه الفراء؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك ، بل الرواية : [مخلّع البسيط]

١٣٨١ ـ .............

يسمعها لاهه الكبار

قال شهاب الدين (٣) : «وهذا لا يعارض الرواية الأخرى ؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك».

ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل : يا الله أمّنا للفظ به منبّها على الأصل ، كما قالوا ـ في ويلمّه ـ : ويل لأمّه.

وردوا مذهب الفراء ـ أيضا ـ بأنه يلزم منه جواز أن تقول : يا اللهم ، ولما لم يجز

__________________

(١) البيت لأبي خراش الهذلي ينظر شرح ابن عقيل ١٤٠ والإنصاف ١ / ٣٤١ والدرر اللوامع ١ / ١٥٥ وشرح شواهد ابن عقيل ص ٢١٧ والهمع ١ / ١٧٨ وأوضح المسالك ٤ / ٣١ وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٣٤٦ والبهجة الرضية ١٤٠ ، والخزانة ٢ / ٢٩٥.

(٢) تقدم برقم ٣١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٤.

١٢٣

ذلك علمنا فساد قول الفراء ، بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازما ، كما يقال : يا الله اغفر لي ، وأجاب الفراء عن قول الزّجّاج بأن أصله ـ عندنا ـ أن يقال : يا الله أمّنا ـ ومن ينكر جواز التكلم بذلك ـ؟ وأيضا فلأن كثيرا من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل ، ألا ترى أنّ مذهب الخليل وسيبويه أن «ما أكرمه» معناه : شيء أكرمه ، ثم إنه ـ قط ـ لا يستعمل هذا الكلام ـ الذي زعموا أنه هو الأصل ـ في معرض التعجّب ، فكذا هنا.

وأجاب عن الرد الثاني بقوله : من الذي يسلّم لكم أنه لا يجوز أن يقال : يا اللهمّ ، وأنشد قول الراجز المتقدم يا اللهمّ ، وقول البصريين : هذا الشعر غير معروف ، فحاصله تكذيب النقل ، ولو فتحنا هذا الباب لم يبق من اللغة والنحو شيء سليما من الطعن.

وقولهم : كان يلزم ذكر حرف النداء ، فقد يحذف حرف النداء ، كقوله : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [يوسف : ٤٦] فلا يبعد أن يخصّ هذا الاسم بالتزام الحذف.

واحتج الفراء على فساد قول البصريين بوجوه :

أحدها : أنا لو جعلنا الميم قائما مقام حرف النداء ، لكنا قد أجزنا تأخير حرف النداء عن ذكر المنادى فيقال : الله يا ، وهذا لا يجوز ألبتة.

ثانيها : لو كان هذا الحرف قائما مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء ، فيقال : زيدمّ ، وبكرمّ كما يجوز يا زيد ، يا بكر.

ثالثها : لو كانت الميم بدلا عن حرف النداء لما اجتمعا ، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه.

ومن أحكام هذه اللفظة أنها كثر دورها ، حتى حذفت منها الألف واللام ـ في قولهم : لاهمّ ـ أي : اللهم.

قال الشاعر : [الرجز]

١٣٨٢ ـ لاهمّ إنّ عامر بن جهم

أحرم حجّا في ثياب دسم (١)

وقال آخر : [الرجز]

١٣٨٣ ـ لاهمّ إنّ جزهما عبادكا

النّاس طرق وهم بلادكا (٢)

قوله : (مالِكَ الْمُلْكِ) فيه أوجه :

أحدها : أنه بدل من «اللهمّ».

__________________

(١) ينظر البيت في أساس البلاغة ١ / ٢٧١ ومشكل القرآن لابن قتيبة (١٤٢) والبحر المحيط ٢ / ٤٣٣ وغريب الحديث ٢ / ٥٤ والتاج ٨ / ٢٩٠ ، ٩ / ٩١ واللسان (رسم) والدر المصون ٢ / ٥٤.

(٢) البيت ذكره السمين في الدر المصون ٢ / ٥٤.

١٢٤

الثاني : أنه عطف بيان.

الثالث : أنه منادى ثان ، حذف منه حرف النداء ، أي : يا مالك الملك ، وهذا هو البدل في الحقيقة ؛ إذ البدل على نية تكرار العامل ؛ إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابع.

الرابع : أنه نعت ل «اللهم» على الموضع ، فلذلك نصب ، وهذا ليس مذهب سيبويه ؛ لأنه لا يجيز نعت هذه اللفظة ؛ لوجود الميم في آخرها ؛ لأنها أخرجتها عن نظائرها من الأسماء ، وأجاز المبّرد ذلك ، واختاره الزّجاج ، قالا : لأن الميم بدل من «يا» والمنادى مع «يا» لا يمتنع وصفه ، فكذا مع ما هو عوض منها ، وأيضا فإن الاسم لم يتغير عن حكمه ؛ ألا ترى إلى بقائه مبنيّا على الضم كما كان مبنيّا مع «يا».

وانتصر الفارسيّ لسيبويه ، بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد «اللهمّ» ، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة ، ودخل في حيّز ما لا يوصف من الأصوات ، وجب أن لا يوصف. والأسماء المناداة ، المفردة ، المعرفة ، القياس أن لا توصف ـ كما ذهب إليه بعض الناس ؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف وكما أنه لما وقع موقع ما لا يعرب لم يعرب ، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف ، فأما قوله : [الرجز]

١٣٨٤ ـ يا حكم الوارث عن عبد الملك (١)

[وقوله] : [الرجز]

١٣٨٥ ـ يا حكم بن المنذر بن الجارود

سرادق المجد عليك ممدود (٢)

وقوله : [الوافر]

١٣٨٦ ـ فما كعب بن مامة وابن سعدى

بأجود منك يا عمر الجوادا (٣)

فإن الأول على أنت.

والثاني على نداء ثان.

والثالث : على إضمار أعني.

__________________

(١) صدر بيت لرؤبة وعجزه :

أوديت إن لم تحب حبو المعتنك

ينظر ديوانه ١١٨ وأمالي الشجري ٢ / ٢٩٩ والخصائص ٢ / ٣٨٩ و ٣ / ٣٣٠ ومغني اللبيب ١ / ١٨ والمقتضب ٤ / ٢٠٨ والإنصاف ٢ / ٦٢٨ ، و ٦٢٩ والدر المصون ٢ / ٥٥.

(٢) البيت للحكم بن المنذر العبدي ونسب لرؤبة وهو في ملحقات ديوانه (١٧٢) ينظر ابن يعيش ٢ / ٥ والأشموني ١ / ١٤٢ واللسان (سردق) والعيني ٤ / ٢١٠ والتصريح ٢ / ١٦٩ والكتاب ٢ / ١٠٣ وأوضح المسالك ٤ / ٢٢ وشرح أبيات سيبويه ص ٢٤٢ والدر المصون ٢ / ٥٥.

(٣) البيت لجرير ينظر : خزانة الأدب ٤ / ٤٤٢ ، وشرح شواهد المغني ص ٥٦ ، وشرح التصريح ٢ / ١٦٩ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٥٤ ، واللمع ص ١٩٤ ، والمقتضب ٤ / ٢٠٨ ، وينظر أوضح المسالك ٤ / ٢٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٤٧ ، وشرح ابن عقيل ص ١٩١ ، وشرح قطر الندى ص ٢١٠ ، ومغني اللبيب ص ١٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧٦ والدر المصون ٢ / ٥٥.

١٢٥

فلما كان هذا الاسم الأصل فيه أن لا يوصف ؛ لما ذكرنا ، كان «اللهم» أولى أن لا يوصف ؛ لأنه قبل ضمّ الميم إليه واقع موقع ما لا يوصف ، فلما ضمّت إليه الميم صيغ معها صياغة مخصوصة فصار حكمه حكم الأصوات ، وحكم الأصوات أن لا توصف نحو غاق ، وهذا ـ مع ما ضمّ إليه من الميم ـ بمنزلة صوت مضموم إلى صوت نحو حيّهل ، فحقه أن لا يوصف ، كما لا يوصف حيّهل.

قال شهاب الدين (١) : «هذا ما انتصر به أبو علي لسيبويه ، وإن كان لا ينتهض مانعا».

قوله : «تؤتي» هذه الجملة ، وما عطف عليها يجوز أن تكون مستأنفة ، مبينة لقوله : (مالِكَ الْمُلْكِ) ويجوز أن تكون حالا من المنادى.

وفي انتصاب الحال من المنادى خلاف ، الصحيح جوازه ؛ لأنه مفعول به ، والحال ـ كما يكون لبيان هيئة الفاعل ـ يكون لبيان هيئة المفعول ، ولذلك أعرب الحذّاق قول النابغة : [البسيط]

١٣٨٧ ـ يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

أقوت وطال عليها سالف الأبد (٢)

«بالعلياء» حالا من «دار مية» ، وكذلك «أقوت».

والثالث من وجوه «تؤتي» : أن تكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : أنت تؤتي ، فتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالية.

قوله : «تشاء» أي : تشاء ايتاءه ، وتشاء انتزاعه ، فحذف المفعول بعد المشيئة ؛ للعلم به ، والنزع : الجذب ، يقال : نزعه ، ينزعه ، نزعا ـ إذا جذبه ـ ويعبّر به عن الميل ، ومنه : نزعت نفسه إلى كذا كأن جاذبا جذبها ، ويعبر به عن الإزالة ، يقال نزع الله عنك الشر ـ أي : أزاله ـ ومنه قوله تعالى : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) ومثله هذه الآية ، فإن المعنى وتزيل الملك.

فصل في بيان سبب النزول

في سبب النزول وجوه :

أحدها : قال ابن عباس وأنس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين افتتح مكة ـ وعد أمته ملك فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهات ، هيهات ، من أين لمحمد ملك فارس والروم ـ

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٥.

(٢) ينظر ديوانه ص ١٤ ، والأغاني ١١ / ٢٧ ، والدرر ١ / ٢٧٤ ، ٦ / ٣٢٦ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٥٤ والصاحبي في الفقه ص ٢١٥ ، والكتاب ٢ / ٣٢١ ، والمحتسب ١ / ٢٥١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٥١ وينظر أوضح المسالك ٤ / ٩٢ ، ورصف المباني ص ٤٥٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٩٣ ، وشرح التصريح ١ / ١٤٠ ولسان العرب (سند) ، (قصد) (جرا) (يا) والدر المصون ٢ / ٥٦.

١٢٦

وهم أعزّ وأمنع من ذلك ـ! ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (١).

وثانيها : روي أنه ـ عليه‌السلام ـ لما خطّ الخندق عام الأحزاب (٢) ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون ، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم ، لم تعمل فيها المعاول.

فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ المعول من سلمان ، فلما ضربها صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها ، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم ، فكبر ، وكبر المسلمون ، وقال عليه‌السلام : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء ، ثم ضرب الثالثة فقال : أخبرني جبريل ـ عليه‌السلام ـ أن أمتي ظاهرة على كلها ، فأبشروا ، فقال المنافقون : ألا تعجبوا من نبيكم ، يعدكم الباطل ، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا ، فنزلت هذه الآية (٣).

وثالثها : قال الحسن : إن الله ـ تعالى ـ أمر نبيه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ، ويردّ ذل العرب عليهما ، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء ، وهكذا منازل الأنبياء ـ إذا أمروا بدعاء استجيب دعاؤهم (٤).

وقيل : نزلت دامغة لنصارى نجران ، في قولهم : إن عيسى هو الله ، وذلك أن هذه الأوصاف تبين ـ لكل صحيح الفطرة ـ أن عيسى ليس فيه شيء منها.

قال ابن إسحاق : أعلم الله ـ تعالى ـ في هذه الآية ـ بعنادهم وكفرهم ، وأن عيسى

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٠٠) عن قتادة وانظر تفسير الفخر الرازي (٨ / ٤).

(٢) غزوة الخندق : في شوال سنة خمس من الهجرة خرجت قريش وغطفان في عشرة آلاف مقاتل ، بعد أن دفعهم نفر من اليهود إلى ذلك ، وما أن علم الرسول بخروجهم ، حتى ضرب الخندق على المدينة بمشورة سلمان الفارسي ، وأقبلت قريش ، ومن تبعها «من كنانة» وأهل «تهامة» ، حتى نزلت بمجتمع الأسيال ، ونزلت غطفان ، ومن تبعهم بجانب أحد ، وخرج الرسول عليه‌السلام في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فجعل ظهره إلى سهل «سلع» ، وضرب هنا لك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وانضم بنو قريظة إلى جيش الأحلاف ، فعظم بذلك البلاء على المسلمين ، وبينما المسلمون على ذلك ؛ إذا بالخلاف يدبّ بين جيش الكفار بوساطة «نعيم بن مسعود الغطفاني» ، وتهبّ عاصفة شديدة فتقتلع الخيام ، وتقلب قدور الطعام ، وتهدم المعكسر ، فيرتحلون جميعا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، ويكفي الله المؤمنين شر القتال.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١٨٦) وعزاه لابن سعد وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي في «الدلائل» من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده.

(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ٤ ـ ٥) عن الحسن.

١٢٧

ـ عليه‌السلام ـ وإن كان الله ـ تعالى ـ أعطاه آيات تدل على نبوته ، من إحياء الموتى ـ وغير ذلك ـ فإن الله ـ عزوجل ـ هو المنفرد بهذه الأشياء ـ من قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) إلى قوله: (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

فصل

قوله : (مالِكَ الْمُلْكِ) أي : مالك العباد وما ملكوا.

وقيل : مالك السموات والأرض قال الله تعالى ـ في بعض كتبه ـ : «أنا الله ، مالك الملك وملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة ، وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسبّ الملوك ، ولكن توبوا إليّ فأعطّفهم عليكم».

فصل

قال الزمخشريّ : «مالك الملك ، أي : يملك جنس الملك ، فيتصرف فيه تصرّف الملّاك فيما يملكون».

قال مجاهد وسعيد بن جبير والسّدّي : (تُؤْتِي الْمُلْكَ) يعني النبوّة (١) والرسالة ، كما قال تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤] ، فالنبوة أعظم مراتب الملك ؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ ظاهرا وباطنا ، أما باطنا ؛ فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم ، وأن يعتقد أنه هو الحقّ ، وأما ظاهرا ؛ فلأنهم لو خالفوهم لاستوجبوا القتل.

فإن قيل : قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) يدل على أنه قد يعزل عن النبوة من جعله نبيّا ، وذلك لا يجوز.

فالجواب من وجهين :

الأول : أن الله تعالى ـ إذا جعل النبوة في نسل رجل ، فإذا أخرجها الله تعالى من نسله ، وشرّف بها إنسانا آخر ـ من غير ذلك النسل ـ صح أن يقال : إنه ـ تعالى ـ نزعها منهم (٢) ، واليهود كانوا معتقدين أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل ، فلما شرّف الله بها محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صحّ أن يقال : إنه نزع ملك النبوة من بني إسرائيل إلى العرب.

الثاني : أن يكون المراد من قوله : (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) ، أي : تحرمهم ، ولا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٠٠) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٦) عن ابن عباس وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) في أ : عنهم.

١٢٨

تعطيهم هذا الملك ، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه ، ونظيره قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٢] مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قطّ.

وحكي عن الكفار قولهم ـ للأنبياء عليهم‌السلام ـ : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨] وقول الأنبياء : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٨٩] مع أنهم لم يكونوا فيها ـ قط ـ.

وعلى هذا القول تكون الآية ردّا على أربع فرق :

إحداها : الذين استبعدوا أن يجعل الله بشرا رسولا.

الثانية : الذين جوّزوا أن يكون الرسول من البشر ، إلا أنهم قالوا : إن محمدا فقير (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١].

الثالثة : اليهود الذين قالوا : إن النبوة في أسلافنا ، وإن قريشا ليست أهلا للكتاب والنبوة.

الرابعة : المنافقون ، فإنهم كانوا يحسدونه على النبوة ـ على ما حكى عنهم في قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤].

وقيل : المراد ما يسمّى ملكا في العرف ، وهو عبارة عن أشياء :

أحدها : كثرة المال والجاه.

الثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره طاعته ، ويكون تحت أمره ونهيه.

الثالث : أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد قدر على قهر ذلك المنازع.

أما كثرة المال فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له ـ مع العناء العظيم ، والمعرفة الكثيرة ـ إلا قليل من المال ، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها.

وأما الجاه ، فالأمر فيه أظهر ، وأما القسم الثاني ـ وهو وجوب طاعة الغير له ـ فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله.

وأما القسم الثالث ـ وهو حصول النصرة والظفر ـ فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى ؛ فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى.

فصل

قال الكعبيّ : قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ،) أي : بالاستحقاق ، فتؤتيه من يقوم به ، وتنزعه من الفاسق ؛ لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] وقوله ـ في العبد الصالح ـ : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة : ٢٤٧] فجعله سببا للملك.

١٢٩

وقال الجبائيّ : هذا الملك مختص بملوك العدل ، فأما ملوك الظلم ، فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله ـ تعالى ـ وكيف يصح أن يكون بايتاء الله ـ تعالى ـ وقد ألزمهم أن لا يمتلكوه ، ومنعهم من ذلك ، فقد صح ـ بما ذكرناه ـ أن الملوك العادلين هم المخصوصون بأن الله ـ تعالى ـ آتاهم ذلك الملك ، وأما الظالمون فلا ، قالوا : ونظير هذا ما قلنا في الرزق أنه لا يكون من الحرام الذي زجر الله ـ تعالى ـ عنه ، وأمره بأن يرده على مالكه ، فكذا ههنا.

قالوا : وأما النزع ، فإنه بخلاف ذلك ؛ لأنه ـ كما ينزع الملك من الملوك العادلين ؛ لمصلحة تقتضي ذلك ـ قد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ، ونزع الملك يكون بوجوه : منها : بالموت ، وإزالة العقل ، وإزالة القوى ، والقدرة ، والحواس.

ومنها : بورود الهلاك ، والتلف على الأموال.

ومنها : أن يأمر الله ـ تعالى ـ المحقّ بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ، ويؤتيه القوة ، والنّصرة عليه ، فيقهره ، ويسلب ملكه ، فيجوز أن يضاف هذا السلب ، والنزع إلى الله ـ تعالى ـ لأنه واقع عن أمره ، كما نزع الله ـ تعالى ـ ملك فارس ، على يد الرسول ـ عليه‌السلام.

فالجواب : أن تقول : حصول الملك للظالم إما أن يكون حصل لا عن فاعل ، وذلك يقتضي نفي الصانع ، وإما أن يكون حصل بفعل المتغلّب ، وذلك باطل ؛ لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ، ولا يتيسر له ألبتة ، فلم يبق إلا أن يقال : بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى ـ وهذا أمر ظاهر ؛ فإن الرجل قد يكون مهابا ، والقلوب تميل إليه ، والنصر قريب له ، والظفر جليس معه ، وأينما توجه حصل مقصوده ، وقد يكون على الضد من ذلك ، ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله.

ولذلك قال بعض الشعراء : [الكامل]

١٣٨٨ ـ لو كان بالحيل الغنى لوجدتني

بأجلّ أسباب السّماء تعلّقي

لكنّ من رزق الحجا حرم الغنى

ضدّان مفترقان أيّ تفرّق

ومن الدّليل على القضاء وكونه

بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق (١)

وقيل : قوله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) محمول على جميع أنواع الملك ، فيدخل فيه ملك النبوة ، وملك العلم ، وملك العقل والأخلاق الحسنة ، وملك البقاء

__________________

(١) الأبيات للإمام الشافعي وهي في ديوانه ص ٥٨ وغرائب القرآن ٣ / ١٦٣ وما بعدها ومفاتيح الغيب ٨ / ٧ وشذرات الذهب ٢ / ١١.

١٣٠

والقدرة ، وملك محبة القلوب ، وملك الأموال ؛ لأن اللفظ عام ، فلا يجوز التخصيص من غير دليل.

وقال الكلبيّ : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) محمّدا وأصحابه ، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أبا جهل وصناديد قريش.

وقيل : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) العرب ، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) فارس والروم.

وقال آخرون : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) آدم وولده ، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) من إبليس وجنده.

قوله : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ).

قال عطاء : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) المهاجرين والأنصار ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) فارس والروم.

وقيل : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) محمدا وأصحابه ، حين دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) أبا جهل وأصحابه ، حين حزّت رؤوسهم ، وألقوا في القليب.

وقيل : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالإيمان والهداية ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالكفر والضلالة.

وقيل : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالطاعة ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالمعصية.

وقيل : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالنصر ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالقهر.

وقيل : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالغنى ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالفقر.

وقيل : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالقناعة والرّضا ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالحرص والطمع.

قوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) في الكلام حذف معطوف ، تقديره : والشّرّ ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، أي : والبرد.

وكقوله : [الطويل]

١٣٨٩ ـ كأنّ الحصى من خلفها وأمامها

إذا أنجلته رجلها خذف أعسرا (١)

أي ويدها.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف قال : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) دون الشّرّ؟

قلت : لأنّ الكلام إنّما وقع في الخير الّذي يسوقه الله إلى المؤمنين ، ـ وهو الّذي أنكرته الكفرة.

فقال : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك».

__________________

(١) البيت لامرىء القيس ينظر في ديوانه ص ٦٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٤٧ ، ولسان العرب (خذف) ، (نجل) ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٦٩ ، والدر المصون ٢ / ٥٦.

١٣١

وقيل : خصّ الخير ؛ لأنّه في موضع دعاء ، ورغبة في فضله.

وقيل : هذا من آداب القرآن ؛ حيث لم يصرّح إلّا بما هو محبوب لخلقه ، ومثله : «والشر ليس إليك» ، وقوله تعالى : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠].

فصل

الألف واللام في «الخير» يوجبان العموم ، والمعنى : [أنّ الخيرات تحصل](١) بقدرتك ، فقوله : «بيدك» لا بيد غيرك ، كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] ، أي : لكم دينكم لا لغيركم ، وذلك الحصر مناف لحصول الخير بيد غيره فثبت دلالة الآية على أنّ الجميع منه بخلقه وتكوينه ، وإيجاده وفضله ، وأفضل الخيرات هو الإيمان بالله ، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله لا من تخليق العبد ، وهذا استدلال ظاهر.

وزاد بعضهم فقال : كلّ فاعلين فعل أحدهما أفضل من فعل الآخر ، كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر ، ولا شكّ أنّ الإيمان أفضل من الخير ، ومن كلّ ما سوى الإيمان ، فلو كان الإيمان بخلق العبد ـ لا بخلق الله تعالى ـ لوجب كون العبد زائدا في الخيرية على الله ـ تعالى ـ وذلك كفر قبيح ، فدلت الآية ـ من هذين الوجهين ـ على أنّ الإيمان بخلق الله تعالى.

فإن قيل : هذه الآية حجّة عليكم من وجه آخر ؛ لأنه لما قال : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كان معناه : ليس بيدك إلا الخير ، وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية بيده.

فالجواب : أن قوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) يفيد أن بيدك الخير ـ لا بيد غيرك ـ فهذا ينافي أن يكون الخير بيد غيره ، لكن لا ينافي أن يكون بيده الخير ، وبيده ما سوى الخير ، إلا أنه خصّ الخير بالذكر ؛ لأنه الأمر المنتفع به ، فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى.

قال القاضي : «كل خير حصل من جهة العباد فلو لا أنه ـ تعالى ـ أقدرهم عليه ، وهداهم إليه ، لما تمكنوا منه ، فلهذا السبب كان مضافا إلى الله تعالى».

قال ابن الخطيب : «وهذا ضعيف ؛ لأن بعض الخير يصير مضافا إلى الله ـ تعالى ـ ويصير أشرف الخيرات مضافا إلى العبد ، وهذا خلاف النص».

وقوله : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكا لإيتاء الملك ونزعه ، والإعزار ، والإذلال.

قوله : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) يقال : ولج ، يلج ، ولوجا ، ولجة ـ كعدة ـ وولجا ـ ك «وعدا» ، واتّلج ، يتّلج ، اتّلاجا ، والأصل : اوتلج ، يوتلج ، اوتلاجا ، فقلبت الواو تاء قبل تاء الافتعال ، نحو : اتّعد يتّعد اتّعادا.

__________________

(١) في أ : بقدرتك كل الخيرات.

١٣٢

قال الشاعر : [الطويل]

١٣٩٠ ـ فإنّ القوافي يتّلجن موالجا

تضايق عنها أن تولّجها الإبر (١)

الولوج : الدخول ، والإيلاج : الإدخال ـ ومعنى الآية على ذلك.

وقول من قال : معناه النقص فإنما أراد اللازم ؛ لأنه ـ تبارك وتعالى ـ إذا أدخل من هذا في هذا فقد نقص المأخوذ منه المدخل في ذلك الآخر. وزعم بعضهم أن تولج بمعنى ترفع ، وأن «في» بمعنى «على» وليس بشيء.

وقيل : المعنى : أنه ـ تعالى ـ يأتي بالليل عقيب النهار ـ ، فيلبس الدنيا ظلمته ـ بعد أن كان فيها ضوء النهار ـ ثم يأتي بالنهار عقيب الليل ، فيلبس الدنيا ضوءه ، فكأن المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر.

قال ابن الخطيب : «والقول بأن معناه النقص أقرب إلى اللفظ ؛ لأنه إذا كان النهار طويلا ، فجعل ما نقص منه زيادة في الليل ، كان ما نقص منه زيادة في الآخر».

قوله : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) اختلف القراء في لفظة «الميّت» فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم (٢) لفظ «الميت» من غير تاء تأنيث ـ مخفّفا ، في جميع القرآن ، سواء وصف به الحيوان نحو : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [آل عمران : ٢٧] أو الجماد نحو : (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) [فاطر : ٩] ـ منكّرا أو معرفا كما تقدم ذكره ـ إلا قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣] ، وقوله : (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم: ١٧] ـ في إبراهيم ـ مما لم يمت بعد ، فإن الكل ثقلوه ، وكذلك لفظ «الميتة» في قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) [يس : ٣٣] دون الميتة المذكورة مع الدم ـ فإن تلك لم يشدّدها إلا بعض قرّاء الشواذ ـ وكذلك قوله : (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) [الأنعام : ١٢٢] ، وقوله : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الزخرف : ١١] ، وقوله : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) [الأنعام : ١٣٩] فإنها مخفّفات عند الجميع ، وثقّل نافع جميع ذلك ، والأخوان وحفص ـ عن نافع ـ وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] ، وفي الحجرات: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) [الحجرات : ١٢] ، وفي يس : (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) [يس : ٣٣] ، ووافقوا نافعا فيما عدا ذلك ، فجمعوا بين اللغتين ؛ إيذانا بأن كلّا من القراءتين صحيح ، وهما بمعنى ؛ لأن «فيعل» يجوز تخفيفه في المعتل بحذف إحدى ياءيه ، فيقال : هين وهيّن ، لين وليّن ، ميت وميّت ، وقد جمع

__________________

(١) البيت لطرفة بن العبد ينظر في ديوانه ص ٤٤٧ وسر صناعة الإعراب ص ١٤٧ ، والخصائص ١ / ١٤١ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٩٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨١ ، والممتع في التصريف ١ / ٣٨٦ وأوضح المسالك ٤ / ٣٩٧ ، وشرح المفصل ١ / ٣٧ ، ولسان العرب (ولج) والدر المصون ٢ / ٥٦.

(٢) انظر : السبعة ٢٠٣ ، والكشف ١ / ٣٣٩ ، والحجة ٣ / ٢٥ ـ ٢٦ ، وحجة القراءات ١٥٩ ، والعنوان ٧٨ ، وإعراب القراءات ١٠٩ ، ١١٠ وشرح الطيبة ٤ / ١٥١ ، وشرح شعلة ٣١٠ ، وإتحاف ١ / ٤٧٣.

١٣٣

الشاعر بين اللغتين في قوله : [الخفيف]

١٣٩١ ـ ليس من مات فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

إنّما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرّجاء (١)

وزعم بعضهم أن «ميتا» بالتخفيف ـ لمن وقع به الموت ، وأن المشدّد يستعمل فيمن مات ومن لم يمت ، كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، وهذا مردود بما تقدم من قراءة الأخوين ، وحفص ؛ حيث خففوا في موضع لا يمكن أن يراد به الموت ، وهو قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] ؛ إذ المراد الكفر ـ مجازا ـ هذا بالنسبة إلى القراء ، وإن شئت ضبطته باعتبار لفظ «الميت» فقلت : هذا اللفظ بالنسبة إلى قراءة السبعة ثلاثة أقسام :

اسم لا خلاف في تثقيله ـ وهو ما لم يمت ـ نحو : (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ، و (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠].

وقسم لا خلاف في تخفيفه ـ وهو ما تقدم في قوله : (الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) و (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) [الأنعام : ١٣٩](إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ،) وقوله : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الزخرف : ١١].

وقسم فيه الخلاف ـ وهو ما عدا ذلك ـ وتقدم تفصيله وقد تقدم أيضا أن أصل «ميّت» ميوت ، فأدغم ، وفي وزنه خلاف ، هل وزنه «فيعل» ـ وهو مذهب البصريين ـ أو «فعيل» ـ وهو مذهب الكوفيين ـ وأصله مويت ، قالوا : لأن فيعلا مفقود في الصحيح ؛ فالمعتل أولى أن لا يوجد فيه ، وأجاب البصريون عن قولهم : لا نظير له في الصحيح بأن قضاة ـ في جميع قاض ـ لا نظير له في الصحيح ، وتفسير هذا الجواب : أنا لا نسلم أن المعتل يلزم أن يكون له نظير في الصحيح ، ويدل على عدم التلازم «قضاة» جمع قاض وفي «قضاة» خلاف طويل ليس هذا موضعه.

واعترض عليهم البصريون بأنه لو كان وزنه «فعيلا» لوجب أن يصح ، كما صحت نظائره من ذوات الواو نحو : طويل ، وعويل ، وقويم ، فحيث اعتل بالقلب والإدغام امتنع أن يدّعى أن أصله «فعيل» لمخالفة نظائره ، وهو ردّ حسن.

فصل

قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة : يخرج الحيوان من النطفة ـ

__________________

(١) البيتان لعدي بن الرعلاء ينظر المنصف ٢ / ١٧ ، ٣ / ٦٢ وأمالي الشجري ١ / ١٥٢ والأصمعيات ١٥٢ وابن يعيش ١٠ / ٦٩ والأشموني ٢ / ١٦٩ ومعاني الأخفش ١ / ١٥٥ والبيان ١ / ١٩٨ وشرح شواهد المغني ١ / ٤٠٥ و ٢ / ٨٥٨ والاشتقاق ص ٥١ واللسان (موت) والنكت والعيون (١ / ٣١٧) والدر المصون ٢ / ٥٧.

١٣٤

وهي ميتة ـ والطير من البيضة ، وبالعكس (١).

وقال الحسن وعطاء : يخرج المؤمن من الكافر ـ كإبراهيم من آزر ـ والكافر من المؤمن ـ مثل كنعان من نوح (٢).

وقال الزّجّاج : يخرج النبات الغضّ الطريّ من الحب اليابس ، ويخرج الحب اليابس من النبات ، قال القفّال : «والكلمة (٣) محتملة للكل.

أما الحيوان والنطفة فقال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨].

وأما الكافر والمؤمن فقال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١١٢] ، أي: كافرا فهديناه».

قال القرطبيّ : روى معمر عن الزهريّ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على نسائه ، فإذا بامرأة حسنة النعمة ، قال : من هذه؟ قلن : إحدى خالاتك ، قال : ومن هي؟ قلن : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الذي يخرج الحي من الميت» (٤).

وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافرا.

وأما النبات والحب فقال تعالى : (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [فاطر : ٩].

قوله : (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل ، أي : ترزقه وأنت لم تحاسبه ، أي : لم تضيّق عليه ، أو من المفعول ، أي : غير مضيّق عليه وقد تقدم الكلام على مثل هذا مشبعا في قوله تعالى في البقرة : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

واشتملت هذه الآية على أنواع من البديع :

منها : التجنيس المماثل في قوله تعالى : (مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥) عن ابن مسعود ومجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧) عن الحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٧) وزاد نسبته لأبي الشيخ.

وأخرج مثله مرفوعا ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أو سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في «الدر المنثور» (٢ / ٢٧).

(٣) في ب : والجملة.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٠٨) وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٨ / ١٨١).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق الزهري عن عبد الله بن عبد الله أن خالدة ابنة الأسود بن عبد يغوث دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال من هذه ...

١٣٥

ومنها : الطباق ، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما ـ في قوله : «تؤتي» و «تنزع» وتعزّ وتذلّ وفي قوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي : والشّرّ ـ عند بعضهم ـ ، وفي قوله : «اللّيل» و «النّهار» و «الحيّ» و «الميّت».

ومنها ردّ الأعجاز على الصدور ، والصدور على الأعجاز في قوله : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ،) وفي قوله : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ونحوه عادات الشاذات شاذات العادات.

وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المضمر في قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) وفي تجوّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه ، والحذف لفهم المعنى.

فصل

قال أبو العبّاس المقرىء : ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى التعب ، قال تعالى : (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

الثاني : بمعنى العدد ، كقوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : بغير عدد.

الثالث : بمعنى المطالبة ، قال تعالى : (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [أي : بغير مطالبة](١).

فصل

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، وآيتين من آل عمران ـ وهما (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ، قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) معلّقات ، ما بينهنّ وبين الله حجاب ، قلن : يا ربّ ، تهبطنا إلى أرضك ، وإلى من يعصيك؟ قال الله ـ عزوجل ـ : إنّي حلفت لا يقرؤكنّ أحد من عبادي دبر كلّ صلاة إلا جعلت الجنة مثواه ـ على ما كان منه ـ ولأسكنته حظيرة القدس ، ولنظرت إليه بعين مكنونة كلّ يوم سبعين مرة ، ولقضيت له كلّ يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ـ ولأعذته من كلّ عدوّ وحاسد ، ونصرته منهم» (٢).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) رواه ابن حبان في «المجروحين» (١ / ٢١٨) وابن السني (٣٢٢) عن محمد بن زنبور عن الحارث بن عمير ثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب.

قال ابن حبان : موضوع لا أصل له والحارث كان ممن يروي عن الأثبات الموضوعات والحديث أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (١ / ٢٤٥) من رواية ابن حبان.

١٣٦

قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٢٨)

العامة على قراءة (١) «لا يتّخذ» نهيا ، وقرأ الضّبّيّ (٢) «لا يتّخذ» برفع الذال ـ نفيا ـ بمعنى لا ينبغي ، أو هو خبر بمعنى النهي نحو (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) و (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ) ـ فيمن رفع الراء.

قال أبو البقاء وغيره : «وأجاز الكسائيّ فيه [رفع الراء](٣) على الخبر ، والمعنى : لا ينبغي».

وهذا موافق لما قاله الفرّاء ، فإنه قال : «ولو رفع على الخبر ـ كقراءة من قرأ : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) جاز».

قال أبو إسحاق : ويكون المعنى ـ على الرفع ـ أنه من كان مؤمنا ، فلا ينبغي أن يتخذ الكافر وليا ؛ [لأن ولي الكافر راض بكفره ، فهو كافر](٤).

كأنهما لم يطّلعا على قراءة الضبي ، أو لم تثبت عندهما.

و «يتخذ» يجوز أن يكون متعديا لواحد ، فيكون «أولياء» حالا ، وأن يكون متعديا لاثنين ، وأولياء هو الثاني.

قوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أن «من» لابتداء الغاية ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ.

قال علي بن عيسى : «أي : لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين».

وقد تقدم تحقيق هذا ، عند قوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) في البقرة [الآية ٢٣].

والثاني ـ أجاز أبو البقاء (٥) ـ أن يكون في موضع نصب ، صفة ل «أولياء» فعلى هذا يتعلق بمحذوف.

قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أدغم الكسائيّ اللام في الذال هنا ، وفي مواضع أخر تقدم التنبيه عليها في البقرة.

قوله : (مِنَ اللهِ) الظاهر أنه في محل نصب على الحال من «شيء» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفة له.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٤١ ، والدر المصون ٢ / ٥٨.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٣٩٨.

(٣) في ب : الدفع.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ١٣٠.

١٣٧

«في شيء» هو خبر «ليس» ؛ لأن به تستقل فائدة الإسناد ، والتقدير : فليس في شيء كائن من الله ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : فليس من ولاية الله.

وقيل : من دين الله ، ونظّر بعضهم الآية الكريمة ببيت النابغة : [الوافر]

١٣٩٢ ـ إذا حاولت من أسد فجورا

فإنّي لست منك ولست مني (١)

قال أبو حيّان : «والتنظير ليس بجيّد ؛ لأن «منك» و «مني» خبر «ليس» وتستقل به الفائدة ، وفي الآية الخبر قوله : «في شيء» فليس البيت كالآية».

وقد نحا ابن عطية هذا المنحى المذكور عن بعضهم ، فقال : فليس من الله في شيء مرضيّ على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من غشّنا فليس منّا» (٢) وفي الكلام حذف مضاف ، تقديره : فليس من التقرب إلى الله والثواب ، وقوله : «في شيء» هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله : (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ).

قال أبو حيّان (٣) : «وهو كلام مضطرب ؛ لأن تقديره : «فليس من التقرّب إلى الله» يقتضي أن لا يكون «من الله» خبرا ل «ليس» ؛ إذ لا يستقل ، وقوله : «في شيء» هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبرا ، فيبقى «ليس» ـ على قوله ـ ليس لها خبر ، وذلك لا يجوز ، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من غشنا فليس منا» ليس بجيّد ؛ لما بينّا من الفرق بين بيت النابغة ، وبين الآية الكريمة».

قال شهاب الدين (٤) : «وقد يجاب عن قوله : إن «من الله» لا يكون خبرا ؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذف مضاف ، تقديره : فليس من أولياء الله ؛ لأن اتخاذ الكفار أولياء ينافي ولاية الله ـ تعالى ـ ، وكذا قول ابن عطية : فليس من التقرّب ، أي : من أهل التقرب ، وحينئذ يكون التنظير بين الآية ، والحديث ، وبيت النابغة مستقيما بالنسبة إلى ما

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٦٩) وأبو عوانة في «صحيحه» (١ / ٥٧) وأبو داود (٣٤٥٢) والترمذي (١ / ٢٤٧) وابن ماجه (٢٢٢٤) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ١٣٤) وابن الجارود (٥٦٤) وأحمد (٢ / ٢٤٢) وأبو يعلى (٢ / ٩٢٣) عن أبي هريرة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وأخرجه أحمد (٢ / ٥٠) والطبراني في «الأوسط» (٢ / ١٣٧) والدارمي (٢ / ٢٤٨) عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في المجمع (٤ / ٧٩) عن أنس قال المنذري في «الترغيب والترهيب» (٣ / ٢٢) : وهو إسناد جيد وقال الهيثمي (٤ / ٧٩) : ورجاله ثقات.

وأخرجه أحمد (٣ / ٤٦٦ ، ٤ / ٤٥) والطبراني في «الكبير» والأوسط. والبزار كما في «المجمع» (٤ / ٧٨).

وقال الهيثمي : وفيه جميع بن عمير وثقه أبو حاتم وضعفه البخاري وغيره.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٤١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٩.

١٣٨

ذكر ، ونظير تقدير المضاف هنا ـ قوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ،) أي : من أشياعي وأتباعي ، وكذا قوله : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩] أي : من أشياعي وقول العرب : أنت مني فرسخين ، أي : من أشياعي ما سرنا فرسخين ، ويجوز أن يكون «من الله» هو خبر «ليس» و «في شيء» يكون حالا من الضمير في «ليس» ـ كما ذهب إليه ابن عطية تصريحا ، وغيره إيماء ، وتقدم الاعتراض عليهما والجواب».

قوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) هذا استثناء مفرّغ من المفعول من أجله ، والعامل فيه (لا يَتَّخِذِ) أي : لا يتخذ المؤمن الكافر وليّا لشيء من الأشياء إلا للتقية ظاهرا ، أي : يكون مواليه في الظاهر ، ومعاديه في الباطن ، وعلى هذا فقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) وجوابه معترض بين العلة ومعلولها وفي قوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) التفات من غيبة إلى خطاب ، ولو جرى على سنن الكلام الأول لجاء الكلام غيبة ، وذكروا للالتفات ـ هنا ـ معنى حسنا ، وذلك أن موالاة الكفار لما كانت مستقبحة لم يواجه الله ـ تعالى ـ عباده بخطاب النهي ، بل جاء به في كلام أسند الفعل المنهي عنه لغيب ، ولما كانت المجاملة (١) ـ في الظاهر ـ والمحاسنة (٢) جائزة لعذر ـ وهو اتقاء شرهم ـ حسن الإقبال إليهم ، وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك.

قوله : (تُقاةً) في نصبها ثلاثة أوجه ، وذلك مبنيّ على تفسير «تقاة» ما هي؟

أحدها : أنها منصوبة على المصدر ، والتقدير : تتقوا منهم اتّقاء ، ف «تقاة» واقعة موقع الاتقاء ، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها ، والأصل : أن تتقوا اتقاء ـ نحو : تقتدر اقتدارا ـ ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائد ، كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] والأصل إنباتا.

ومثله قول الشاعر : [الوافر]

١٣٩٣ ـ ............

وبعد عطائك المائة الرّتاعا (٣)

أي : اعطائك ، ومن ذلك ـ أيضا ـ قوله : [الوافر]

١٣٩٤ ـ ............

وليس بأن تتبّعه اتّباعا (٤)

__________________

(١) في ب : المسامحة.

(٢) في ب : المهادنة.

(٣) تقدم برقم ٣٩٣.

(٤) عجز بيت للقطامي وصدره :

وخير الأمر ما استقبلت منه

ينظر ديوانه (٤٠) والكتاب ٤ / ٨٢ والخصائص ٢ / ٣٠٩ وابن يعيش ١ / ١١١ وأمالي الشجري ٢ / ١٤١ والخزانة ١ / ٣٩٢ والمقتضب ٣ / ٢٠٥ وديوان الحماسة ١ / ١٣٥ والبيان ٢ / ٤٧٠ وإعراب القرآن للنحاس ١ / ٣٧١ والكشاف ١ / ٤٢٧ والدر المصون ٢ / ٦٠.

١٣٩

وقول الآخر : [الوافر]

١٣٩٥ ـ ولاح بجانب الجبلين منه

ركام يحفر الأرض احتفارا (١)

وهذا عكس الآية ؛ إذ جاء المصدر مزادا فيه ، والفعل الناصب له مجرّد من تلك الزوائد ، ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً).

وقول الآخر : [الرجز أو السريع]

١٣٩٦ ـ وقد تطوّيت انطواء الحضب (٢)

والأصل : تطوّيّا ، والأصل في «تقاة» وقية مصدر على فعل من الوقاية. وقد تقدم تفسير هذه المادة ، ثم أبدلت الواو تاء مثل تخمة وتكأة وتجاه ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، فصار اللفظ «تقاة» كما ترى بوزن «فعلة» ومجيء المصدر على «فعل» و «فعلة» قليل ، نحو : التخمة ، والتؤدة ، والتهمة والتكأة ، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير المصدر ، والكثير مجيء المصادر جارية على أفعالها.

قيل : وحسّن مجيء هذا المصدر ثلاثيا كون فعله قد حذفت زوائده في كثير من كلامهم ، نحو : تقى يتقى.

ومنه قوله : [الطويل]

١٣٩٧ ـ ............

تق الله فينا والكتاب الّذي تتلو (٣)

وقد تقدم تحقيق ذلك أول البقرة.

الثاني : أنها منصوبة على المفعول به ، وذلك على أن «تتّقوا» بمعنى تخافوا ، وتكون «تقاة» مصدرا واقعا موقع المفعول به ، وهو ظاهر قول الزمخشريّ ، فإنه قال : «إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه».

وقرىء «تقيّة» (٤) وقيل ـ للمتقى ـ : تقاة ، وتقية ، كقولهم : ضرب الأمير ـ لمضروبه فصار تقدير الكلام : إلا أن تخافوا منهم أمرا متّقى.

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٢ / ٤٢٢ وارتشاف الضرب ٢ / ٢٠٣ والدر المصون ٢ / ٦٠.

(٢) البيت لرؤبة. ينظر ديوانه (١٦) والكتاب ٤ / ٨٢ والمخصص ٨ / ١١٠ وابن يعيش ١ / ١١٢ والهمع ١ / ١٨٧ وابن الشجري ٢ / ١٤١ وإعراب القرآن للنحاس ١ / ٣٧١ واللسان (حضب) والدرر اللوامع ١ / ١٦٠ والدر المصون ٢ / ٦٠.

(٣) تقدم برقم ٢٩٨.

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤١٩ ، وقال ابن عطية : «وقرأ ابن عباس والحسن وحميد بن قيس ، ويعقوب الحضرمي ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو رجاء ، والجحدري وأبو حيوة «تقيّة» بفتح التاء وشد الياء على وزن فعيلة ، وكذلك روى المفضل عن عاصم ..». وانظر : البحر المحيط ٢ / ٤٤٣ ، والدر المصون ٢ / ٦١.

١٤٠