اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2298-3
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

تكرير هذه الكلمة ؛ فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان ، هي هذه الكلمة ، فإذا كان في أكثر أوقاته مشتغلا بذكرها ، كان مشتغلا بأعظم أنواع العبادات».

قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل من «هو».

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر.

الثالث : أنه نعت ل «هو» ، وهذا إنما يتمشّى على مذهب الكسائي ؛ فإنه يرى وصف الضمير الغائب.

فصل

ذكر هاتين الصفتين إشارة إلى كمال العلم ؛ لأن الإلهية لا تحصل إلا معهما ؛ لأن كونه قائما بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالما بمقادير الحاجات ، وكان قادرا على تحصيل المهمات ، وقد قدّم «العزيز» على «الحكيم» ؛ لأن العلم بكونه ـ تعالى ـ قادرا متقدم على العلم بكونه عالما في طريق المعرفة الاستدلالية ، فلما كان هذا الخطاب مع المستدلين ـ لا جرم ـ قدّم ذكر «العزيز» على «الحكيم».

قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١٩)

قرأ الكسائيّ بفتح الهمزة (١) ، والباقون بكسرها ، فأما قراءة الجماعة فعلى الاستئناف ، وهي مؤكّدة للجملة الأولى.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت : فائدته أن قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) توحيد ، وقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) تعديل ، فإذا أردفه بقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس في شيء من الدين عنده».

وأما قراءة الكسائي ففيها أوجه :

أحدها : أنها بدل من (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ـ على قراءة الجمهور ـ في أن (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيها وجهان :

أحدهما : أنه من بدل الشيء من الشيء ، وذلك أن الدين ـ الذي هو الإسلام ـ يتضمن العدل ، والتوحيد ، وهو هو في المعنى.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٠٢ ، والكشف ١ / ٣٣٨ ، والحجة ٣ / ٢٢ ، وحجة القراءات ١٥٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٩ ، والعنوان ٧٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٥٠ ، وشرح شعلة ٣٠٩ ، وإتحاف ١ / ٤٧٢.

١٠١

والثاني : أنه بدل اشتمال ؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل.

والثاني : من الأوجه السابقة : أن يكون «إنّ الدّين» بدلا من قوله «بالقسط» ثم لك اعتباران :

أحدهما : أن تجعله بدلا من لفظه ، فيكون محل «إنّ الدّين» الجر.

والثاني : أن تجعله بدلا من موضعه ، فيكون محلها نصبا ، وهذا ـ الثاني ـ لا حاجة إليه ـ وإن كان أبو البقاء ذكره.

وإنما صحّ البدل في المعنى ؛ لأن الدين ـ الذي هو الإسلام ـ قسط وعدل ، فيكون ـ أيضا ـ من بدل الشيء من الشيء ـ وهما لعين واحدة ـ.

ويجوز أن يكون بدل اشتمال ؛ لأن الدين مشتمل على القسط ـ وهو العدل ـ وهذه التخاريج لأبي علي الفارسي ، وتبعه الزمخشريّ في بعضها.

قال أبو حيّان : «وهو ـ أبو علي ـ معتزليّ ، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه خرجه هو وغيره ، وليس بجيد ؛ لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي في كلام العرب وهو : عرف زيد أنّه لا شجاع إلّا هو وبنو تميم وبنو دارم ملاقيا للحروب ، لا شجاع إلّا هو البطل الحامي ، إنّ الخصلة الحميدة هي البسالة ، وتقريب هذا المثال : ضرب زيد عائشة ، والعمران حنقا أختك ، فحنقا ، حال من «زيد» و «أختك» بدل من «عائشة» ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف ـ وهذا لا يجوز ـ والحال لغير المبدل منه ـ وهو لا يجوز ـ ؛ لأنه فصل بأجنبي بين البدل والمبدل منه».

قوله عرف زيد هو نظير (شَهِدَ اللهُ) ، وقوله : أنه لا شجاع إلا هو نظير (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقوله : وبنو دارم نظير قوله : «والملائكة» وقوله : ملاقيا للحروب نظير قوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) وقوله : لا شجاع إلا هو نظير قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فجاء به مكرّرا ـ كما في الآية ـ وقوله : البطل الحامي نظير قوله (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقوله : إن الخصلة الحميدة هي البسالة نظير قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ).

قال شهاب الدين : «ولا يظهر لي منع ذلك ولا عدم صحة تركيبه ، حتى يقول : ليس بجيّد ، وبعيد أن يأتي عن العرب مثله ، وما ادّعاه بقوله ـ في المثال الثاني ـ : إن فيه الفصل بأجنبيّ فيه نظر ؛ إذ هذه الجمل صارت كلّها كالجملة الواحدة ؛ لما اشتملت عليه من تقوية كلمات بعضها ببعض ، وأبو علي وأبو القاسم وغيرهما لم يكونوا في محل من يجهل صحة تركيب بعض الكلام وفساده».

ثم قال أبو حيّان : «قال الزمخشريّ : وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والمبدل هو المبدل منه في

١٠٢

المعنى ، فكان بيانا صريحا ؛ لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل» فقال : فهذا نقل كلام أبي عليّ دون استيفاء.

الثالث ـ من الأوجه ـ : أن يكون «إنّ الدّين» معطوفا على (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) حذف منه حرف العطف ، قاله ابن جرير ، وضعفه ابن عطية ، ولم يبيّن وجه ضعفه.

قال أبو حيان : «ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو أكل زيد خبزا ، وعمرو سمكا ، يعني فصلت بين زيد وعمرو ب «خبزا» وفصلت بين «خبزا» و «سمكا» ب «عمرو» ؛ إذ الأصل ـ قبل الفصل ـ أكل زيد وعمرو خبزا وسمكا».

الرابع : أن يكون معمولا لقوله : (شَهِدَ اللهُ ،) أي : شهد الله بأن الدين ، فلما حذف حرف الجر جاز أن يحكم على موضعه بالنصب ، أو الجر.

فإن قلت : إنما يتجه هذا التخريج على قراءة ابن عباس ، وهي كسر «أنّ» الأولى ، وتكون الجملة ـ حينئذ ـ اعتراضا بين «شهد» وبين معموله كما تقدم ، وأما على قراءة فتح «أن» الأولى ـ وهي قراءة العامة ـ فلا يتجه ما ذكرت من التخريج ؛ لأن الأولى معمولة له ، استغنى بها.

فالجواب : أن ذلك متّجه ـ أيضا ـ مع فتح الأولى ، وهو أن يجعل الأولى على حذف لام العلة تقديره : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ؛ لأنه لا إله إلا هو ، وهذا التخريج ذكره الواحديّ ، وقال : «هذا معنى قول الفراء حيث يقول ـ في الاحتجاج للكسائي ـ : إن شئت جعلت «أنه» على الشرط ، وجعلنا الشهادة واقعة على قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، ويكون «إنّ» الأولى يصلح فيها الخفض ، كقولك : شهد الله لوحدانية أن الدين عند الله الإسلام».

وهو كلام مشكل في نفسه ، ومعنى قوله على الشرط ، أي : العلة ، سمّى العلة شرطا ؛ لأن المشروط متوقف عليه كتوقف المعلول على علته ، فهو علة ، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين.

ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يحسن إعادة اسم «الله» ، ولكان التركيب : إن الدين عنده الإسلام ؛ لأن الاسم قد سبق ، فالوجه الكناية.

ثم أجاب بأن العرب ربّما أعادت الاسم موضع الكناية ، وأنشد : [الخفيف]

١٣٧٢ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (١)

__________________

(١) البيت لأمية بن أبي الصلت ، وقيل لعدي بن زيد ، وقيل لابنه سواد بن عدي ينظر الكتاب ١ / ٦٢ ومعاني القرآن للأخفش ١ / ٢١٢ والمغني ٢ / ١٠٧ والبحر ٣ / ٢٧ والخزانة ١ / ٣٧٩ والدر المصون ٢ / ٤٧.

١٠٣

يعني : أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر ، ويزيده ـ هنا ـ حسنا أنه في موضع تعظيم وتفخيم.

الخامس : أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ «الحكيم» ، كأنه قيل : الحكيم بأن ، أي : الحاكم بأن ف «حكيم» مثال مبالغة ، محوّل من فاعل ، فهو كالعليم والخبير والبصير ، أي : المبالغ في هذه الأوصاف ، وإنما عدل عن لفظ «حاكم» إلى «حكيم» ـ مع زيادة المبالغة ـ ؛ لموافقة «العزيز» ، ومعنى المبالغة : تكرار حكمه ـ بالنسبة إلى الشرائع ـ أن الدين عند الله الإسلام ؛ إذ حكم في كلّ شريعة بذلك ، قاله أبو حيّان ، ثم قال : فإن قلت : لم حملت «الحكيم» على أنه محوّل من «فاعل» إلى فعيل ؛ للمبالغة ، وهلّا جعلته «فعيلا» ، بمعنى «مفعل» فيكون معناه «المحكم» كما قالوا في «أليم» : إنه بمعنى «مؤلم» وفي «سميع» من قول الشاعر : [الوافر]

١٣٧٣ ـ أمن ريحانة الدّاعي السّميع

 .......... (١)

أي : المسمع؟

فالجواب : أنا لا نسلم أن «فعيلا» يأتي بمعنى «مفعل» ، وقد يؤول «أليم» و «سميع» على غير «مفعل» ، ولئن سلمنا ذلك ، فهو من الندور والشذوذ ، بحيث لا ينقاس ، [وأما](٢) «فعيل» محوّل من «فاعل» ؛ للمبالغة فهو منقاس ؛ كثير جدا ، خارج عن الحصر ، كعليم ، وسميع ، وقدير ، وخبير ، وحفيظ إلى ألفاظ لا تحصى كثرة ، وأيضا فإن العربيّ القحّ ، الباقي على سجيته لم يفهم من «حكيم» إلا أنه محوّل من «فاعل» ؛ للمبالغة ، ألا ترى أنه لما سمع قارئا يقرأ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) والله غفور رحيم أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق (والله غفور رحيم) ، فقيل له : التلاوة : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ،) فقال : هكذا يكون ، عزّ فحكم فقطع ، ففهم من «حكيم» أنه محوّل ـ للمبالغة ـ من «حاكم» ، وفهم هذا العربيّ حجّة قاطعة بما قلناه ، وهذا تخريج سهل ، سائغ جدا ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات التي ينزّه كتاب الله عنها ، وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل (إِنَّ الدِّينَ) معمولا ل «شهد» ـ كما فهموا ـ وأن (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعتراض ـ يعني بين الحال وصاحبها ، وبين معموله ـ بل نقول : معمول «شهد» هو «إنّه» ـ بالكسر ـ على تخريج من خرج أن «شهد» ـ لما كان بمعنى القول ـ كسر ما بعده ؛ إجراء له مجرى القول.

أو نقول : إنه معموله ، وعلقت ، ولم تدخل اللام في الخبر ؛ لأنه منفي ، بخلاف ما لو كان مثبتا فإنك تقول : شهدت إنّ زيدا لمنطلق ، فتعلق ب «إنّ» مع وجود اللام ؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت «إنّ» ، فقلت : شهدت أنّ زيدا منطلق ، فمن قرأ بفتح «أنّه» ، فإنه لم ينو

__________________

(١) تقدم برقم ٧٥٣.

(٢) في أ : بخلاف.

١٠٤

التعليق ، ومن كسر فإنه نوى التعليق ، ولم تدخل اللام في الخبر ؛ لأنه منفي كما ذكرنا.

قال شهاب الدين (١) : وكان الشيخ ـ لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية ـ قال ما نصه : «وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) هو معمول «شهد» ويكون في الكلام اعتراضان :

أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

والثاني بين المعطوف والحال وبين المفعول ل «شهد» ، وهو (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وإذا أعربنا (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبر مبتدأ محذوف كان ذلك ثلاثة اعتراضات ، انظر هذه التوجيهات البعيدة ، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب ، وإنما حمل على ذلك العجمة ، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب ، وحفظ أشعارها».

قال شهاب الدين (٢) : «ونسبة كلام أعلام الأئمة إلى العجمة ، وعدم معرفتهم بكلام العرب ، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز ، وأن هذا ـ الذي ذكره ـ هو تخريج سهل واضح ، غير مقبول ولا مسلّم ، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناس ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآية الكريمة موجود نظيرها في كلام العرب ، وكيف يجهل الفارسي (٣) (٣) والزمخشريّ والفراء وأضرابهم ذلك؟ وكيف يتبجّح باطّلاعه على ما لم يطلع عليه مثل هؤلاء؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرف مواقع النظم ، وهو المسلّم له في علم المعاني والبيان والبديع ، ولا يشك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرف جملة صالحة من هذه العلوم».

قوله : (عِنْدَ اللهِ) ظرف ، العامل فيه لفظ «الدّين» ؛ لما تضمنه من معنى الفعل.

قال أبو البقاء : «ولا يكون حالا ؛ لأن «إنّ» لا تعمل في الحال».

قال شهاب الدين (٤) : قد جوز في «ليت» وفي «كأن» أن تعمل في الحال.

قالوا : لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه ، ف «إن» للتأكيد ، فلتعمل في الحال ـ أيضا ـ فليست تتباعد عن «الهاء» التي للتنبيه.

قيل : هي أولى منها ، وذلك أنها عاملة ، و «هاء» ليست بعاملة ، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء.

فصل

الدين ـ في أصل اللغة ـ عبارة عن الانقياد والطاعة والتسليم والمتابعة ، قال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء : ٩٤] ، أي : لمن صار منقادا

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٩.

(٣) في ب : الناس.

(٣) في ب : الناس.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٩.

١٠٥

لكم ، ومتابعا ، والإسلام هو الدخول في السلم ، يقال : أسلم ، أي : دخل في السلم ، كقولهم : أشتى ، وأقحط ، وأصل السّلم : السلامة ، وقال ابن الأنباري : «المسلم : معناه المخلص لله عبادته ، من قولهم : سلم الشيء لفلان ، أي : خلص ، فالإسلام معناه : إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى».

وأما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان ؛ لوجهين :

أحدهما : هذه الآية ؛ لأن قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) يقتضي أن الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام ، فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان دينا مقبولا عند الله ـ وهو باطل ـ.

الثاني : قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون مقبولا عند الله تعالى.

قال القرطبي : الإسلام هو الإيمان ، بمعنى التداخل ، وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمّى الآخر ، كما في هذه الآية ؛ إذ قد دخل فيهما التصديق والأعمال ، ومنه قوله ـ عليه‌السلام ـ : «الإيمان معرفة بالقلب ، وقول باللّسان ، وعمل بالأركان» (١) أخرجه ابن ماجه.

فإن قيل : قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] صريح في أن الإسلام غير الإيمان.

فالجواب : أن الإسلام عبارة عن انقياد ـ كما بينّا في أصل اللغة ـ والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف ـ فلا جرم ـ كان الإسلام حاصلا في الظاهر ، والإيمان ـ أيضا ـ كان حاصلا في حكم الظاهر ؛ لأنه ـ تعالى ـ قال : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] والإيمان الذي يبيح النكاح في الحكم ـ هو الإقرار الظاهر ، فعلى هذا ، الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر دون الباطن ، وتارة في الباطن والظاهر ، فالأول هو النفاق ، وهو المراد بقوله : «قالت الأعراب» ؛ لأن باطن المنافق غير منقاد لدين الله تعالى ، فكان تقدير الآية : لم تسلموا في القلب والباطن ، ولكن قولوا : أسلمنا في الظاهر.

فصل

قال قتادة ـ في قوله تعالى ـ : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ،) شهادة ألا إله إلا الله ،

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (١ / ٢٥ ـ ٢٦) المقدمة : باب في الإيمان حديث (٦٥) من طريق أبي الصلت الهروي ثنا علي بن موسى الرضى عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب مرفوعا.

قال البوصيري : إسناد هذا الحديث ضعيف لاتفاقهم على ضعف أبي الصلت الهروي.

١٠٦

والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رسله ودلّ عليه أولياءه ، لا يقبل غيره ، ولا يجزي إلا به (١).

روى غالب القطان ، قال : أتيت الكوفة في تجارة ، فنزلت قريبا من الأعمش ، فكنت أختلف إليه ، فلما كنت ذات ليلة ، أردت أن أنحدر إلى البصرة ، قام من الليل يتهجد ، فمرّ بهذه الآية : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي ـ عند الله ـ وديعة ، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ـ قالها مرارا.

قلت : لقد سمع فيها شيئا ، فصليت معه ، وودعته ، ثم قلت : إني سمعتك تردّدها ، فما بلغك؟ قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة ، فكتبت على بابه ذلك اليوم ، وأقمت سنة ، فلمّا مضت السنة ، قلت : يا أبا محمد ، قد مضت السنة ، فقال : حدّثني من حدثني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يجاء بصاحبها يوم القيامة ، فيقول الله تعالى : إنّ لعبدي هذا ـ عندي ـ عهدا ، وأنا أحقّ من وفى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة» (٢).

قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

قال الكلبي : نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام ، أي : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا من بعد ما جاءهم العلم ، يعني بيان نعته في كتبهم.

وقال الربيع : إن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بني إسرائيل ، فاستودعهم التوراة ، واستخلف يوشع بن نون ، فلما مضى القرن الأول ، والثاني ، والثالث ، وقعت الفرقة بينهم ، ـ وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين ـ حتى أهرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشّرّ والاختلاف (٣) ، وذلك (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) يعني بيان ما في التوراة ، (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي : طلبا للملك والرياسة ، فسلط الله عليهم الجبابرة.

قال محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت في نصارى نجران (٤) ، معناها : (وَمَا اخْتَلَفَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٧٥) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٢) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١ / ٩٩) وابن عدي (٥ / ١٦٩٤) والبغوي (١ / ٣٣٠) وذكره القرطبي في تفسيره (٤ / ٤٢).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨) عن الربيع.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٧٨) عن محمد بن جعفر بن الزبير ورواه ابن هشام في «السيرة النبوية (٢ / ٢٢٧) عن ابن إسحاق وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٢) وعزاه لابن جرير وحده.

١٠٧

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني الإنجيل في أمر عيسى ، وفرّقوا القول فيه : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بأن الله واحد ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، (بَغْياً بَيْنَهُمْ) ، أي : المعاداة والمخالفة.

وقيل : المراد اليهود والنصارى ، واختلافهم هو قول اليهود : عزير ابن الله ، وقول النصارى : المسيح ابن الله ، وأنكروا نبوة محمد ، وقالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش ، لأنهم أمّيّون ، ونحن أهل الكتاب.

وقوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي : الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم ؛ لأنا لو حملناهم على العلم لصاروا معاندين ، والعناد على الجمع العظيم لا يصح. [وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب ، وهو جمع عظيم.

وقال الأخفش : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ؛ بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.

وقال ابن عمر وغيره : أخبر ـ تعالى ـ عن](١) اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا.

وفي الكلام تقديم وتأخير ، فالمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.

قوله : «بغيا» فيه أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله ، العامل فيه «اختلف» والاستثناء مفرّغ ، والتقدير : وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره ، قاله الأخفش ، ورجحه أبو علي.

الثاني : أنه مصدر في محل نصب على الحال من «الذين» كأنه قيل : ما اختلفوا إلا في هذه الحال ، والاستثناء مفرّغ أيضا.

الثالث : أنه منصوب على المصدر ، والعامل فيه مقدّر ، كأنه لما قيل : (وَمَا اخْتَلَفَ) دل على معنى : وما بغى ، فهو مصدر ، قاله الزّجّاج ، ووقع بعد «إلا» مستثنيان ، وهما : «من بعد» و «بغيا» وقد تقدم تخريج ذلك.

قال الأخفش : قوله : «بغيا» من صلة قوله : «اختلفوا» ، والمعنى : وما اختلفوا بغيا بينهم إنما اختلفوا للبغي.

قال القفّال : وهذا أجود من الأول ؛ لأن الأول يوهم أنّ اختلافهم بسبب مجيء العلم ، والثاني يفيد أن اختلافهم لأجل الحسد والبغي.

قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) «من» مبتدأ ، وفي خبره الأقوال الثلاثة ـ أعني : فعل

__________________

(١) سقط في أ.

١٠٨

الشرط وحده ، أو الجواب وحده ، أو كلاهما ـ وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدّر ، أي : سريع الحساب له.

فصل

وهذا تهديد ، وفيه وجهان :

الأول : المعنى : فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعا ، فيحاسبه ، أي : يجازيه على كفره.

الثاني : أن الله تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره ، بإحصاء سريع ، مع كثرة الأعمال.

قوله تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)(٢٠)

(فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي : خاصموك يا محمد في الدين بالأقاويل المزوّرة ، والمغالطات ، فأسند أمرك إلى ما كلّفت به من الإيمان والتبليغ ، وعلى الله نصرك وذلك أن اليهود والنصارى قالوا : لسنا على ما سميتنا به يا محمد ، إنما اليهودية والنصرانية نسب ، والدين هو الإسلام ، ونحن عليه ، فقال الله تعالى ـ (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي : انقدت لله وحده ، وإنما خص الوجه ؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان.

وقال الفرّاء : معناه : أخلصت عملي لله.

وفي كيفية إيراد هذا الكلام وجوه :

أحدها : أنه ـ عليه‌السلام ـ كان قد أظهر لهم الحجة ـ على صدقه ـ قبل نزول هذه الآية ـ مرارا ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ، ودعاء الشجرة ، وكلام الذئب ، وغيرها مما يدل على صحة دينه ، وذكر الحجة على فساد قول النصارى بقوله «الحى القيوم» ، وأجاب عن شبه القوم بأسرها ، ومشاهدة يوم بدر وأثبت التوحيد ، ونفى الضدّ والندّ والصاحبة والولد بقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ،) وبين ـ تعالى ـ أن إعراضهم عن الحق إنما كان بغيا وحسدا ، فلما لم يبق حجة على فرق الكفار إلا أقامها ، قال بعده : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) وهذه عادة المحقّ مع المبطل ، إذا أورد عليه حجّة بعد حجّة ، ولم يرجع إليه ، فقد يقول ـ في آخر الأمر ـ : أما أنا فمنقاد للحق ، فإن وافقتم ، واتبعتم الحق الذي أنا عليه ، فقد اهتديتم ، وإن اعترضتم ، فالله بالمرصاد.

ثانيها : أن القوم كانوا مقرّين بوجود الصانع ، وكونه مستحقا للعبادة ، فكأنه ـ عليه‌السلام ـ قال لهم : هذا القدر متفق عليه بين الكلّ ، فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه ، وداعي الخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك ، وأنتم المدعون فعليكم الإثبات ،

١٠٩

ونظيره قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤].

وثالثها : قال أبو مسلم : هو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرّين بتعظيم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وبأنه كان محقّا صادقا في دينه إلا في زيادات من الشرائع ، فأمر الله تعالى ـ محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يتبع ملته ، بقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النحل : ٢٣] ، ثم أمر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم حيث قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] فقل يا محمد : «أسلمت وجهي» كقول إبراهيم : «وجّهت وجهي» ، أي : أعرضت عن كل معبود سوى الله ـ تعالى ـ وقصدته وأخلصت له ، كأنه قال : فإن نازعوك في هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريقة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وأنتم مقرون بأن طريقته حق لا شبهة فيها ، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات.

فصل

فتح الياء من «وجهي» ـ هنا وفي الأنعام ـ نافع وابن عامر وجعفر وحفص (١) وسكنها الباقون.

قوله : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) في محل «من» وجوه :

أحدها : الرفع ؛ عطفا على التاء في «أسلمت» ، وجاز ذلك ؛ لوجود الفصل بالمفعول ؛ قاله الزمخشريّ وابن عطية.

قال أبو حيان : «ولا يمكن حمله على ظاهره ؛ لأنه إذا عطف الضمير في نحو : «أكلت رغيفا وزيد» لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك ؛ لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم. وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلم وجهه ، بل المعنى على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلم وجهه لله ، وأنهم أسلموا وجوههم لله ؛ [فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول «أسلمت» والتقدير : ومن اتبعني وجهه ، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر ؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم لله](٢) ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : عمرو كذلك ، أي : قضى نحبه».

قال شهاب الدين (٣) : «إنما صحت المشاركة في نحو : أكلت رغيفا وزيد ؛ لإمكان ذلك ، وأما في الآية الكريمة فلا يتوهّم فيه المشاركة».

__________________

(١) انظر : إتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٧٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٢٨ ، والدر المصون ٢ / ٤٩.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٠.

١١٠

الثاني : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف ـ كما تقدم.

الثالث : أنه منصوب على المعية ، والواو بمعنى «مع» أي : أسلمت وجهي لله مع من اتبعني ؛ قاله الزمخشريّ.

وقال أبو حيّان : «ومن الجهة التي امتنع عطف «من» على الضمير ـ إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل ـ يمتنع كون «من» منصوبا على أنه مفعول معه ؛ لأنك إذا قلت : أكلت رغيفا وعمرو أي مع عمرو ـ دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز الزمخشريّ هذا الوجه ، ـ وهو لا يجوز ـ لما ذكرنا ـ على كل حال ؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواو واو «مع» ألبتة».

قال شهاب الدين : «فهم المعنى ، وعدم الإلباس يسوّغ ما ذكره الزمخشريّ ، وأي مانع من أن المعنى : فقل : أسلمت وجهي لله مصاحبا لمن أسلم وجهه لله أيضا ، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية».

الرابع : أن محل «من» الخفض ، نسقا على اسم «الله» ، وهذا الإعراب ـ وإن كان ظاهره مشكلا ـ قد يؤول على معنى : جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له.

وقد أثبت الياء في «من اتّبعني» نافع (١) ، وحذفها أبو عمرو وخلاد ـ وقفا ـ والباقون حذفوها فيهما ؛ موافقة للرسم ، وحسن ذلك أيضا كونها فاصلة ورأس آية ، نحو (أَكْرَمَنِ) [الفجر : ١٥] و (أَهانَنِ) [الفجر : ١٦] وعليه قول الأعشى : [المتقارب]

١٣٧٤ ـ وهل يمنعنّي ارتيادي البلا

د من حذر الموت أن يأتين (٢)

وقول الأعشى ـ أيضا ـ : [المتقارب]

١٣٧٥ ـ ومن شانىء كاسف باله

إذا ما انتسبت له أنكرن (٣)

قال بعضهم : حذف هذه الياء مع نون الوقاية ـ خاصّة ـ فإن لم تكن نون فالكثير إثباتها.

قوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني اليهود والنصارى ، والمراد بالأميّيّن : مشركو

__________________

(١) انظر : حجة القراءات ١٥٨ ، والكشف ١ / ٣٣٢ ، وإتحاف ١ / ٤٧٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٢٨ ، والدر المصون ٢ / ٥٠.

(٢) ينظر ديوانه ص ٦٥ ، ٦٩ ، والكتاب ٤ / ٩٨٧ والدرر ٥ / ١٥١ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٤٦ ، وشرح المفصل ٩ / ٤٠ ، ٨٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٢٤ ، والمحتسب ١ / ٣٤٩ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٩٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ٧٨ ، والدر المصون ٢ / ٥٠.

(٣) ينظر ديوانه ص ٦٥ ، ٦٩ ، والكتاب ٤ / ١٨٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٤٧ ، وشرح المفصل ٩ / ٨٣ ، والدر المصون ٢ / ٥١.

١١١

العرب ، ووصفهم بكونهم أميين ؛ لأنهم لم يدّعوا كتابا ، شبههم بمن لا يقرأ ولا يكتب ، وإما لكونهم ليسوا من أهل الكتابة والقراءة ، وإن كان فيهم من يكتب فهو نادر.

قوله : (أَأَسْلَمْتُمْ) صورته استفهام ، ومعناه الأمر ، أي : أسلموا ، كقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١].

قال الزمخشري : «يعني أنه قد أتاكم من البيّنات ما يوجب الإسلام ، ويقتضي حصوله ـ لا محالة ـ فهل أسلمتم بعد أم أنتم على كفركم؟ ، وهذا كقولك ـ لمن لخّصت له المسألة ، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلّا سلكته ـ : هل فهمتها ، أم لا ـ لا أمّ لك ـ ومنه قوله ـ عزوجل ـ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي الاستفهام استقصار ، وتعبير بالمعاندة ، وقلة الإنصاف ؛ لأن المنصف ـ إذا تجلّت له الحجّة ـ لم يتوقف إذعانه للحق».

وقال الزّجّاج : (أَأَسْلَمْتُمْ) تهديد.

قال القرطبيّ : «وهذا حسن ؛ لأن المعنى : أأسلمتم أم لا؟».

قوله : (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) دخلت «قد» على الماضي ؛ مبالغة في تحقّق وقوع الفعل ، وكأنه قد قرب من الوقوع.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية ، فقال أهل الكتاب : أسلمنا ، فقال لليهود : أتشهدون أنّ عيسى كلمة الله وعبده ، ورسوله؟ فقالوا : معاذ الله ، وقال للنّصارى : أتشهدون أنّ عيسى عبد الله ورسوله؟ فقالوا معاذ الله أن يكون عيسى عبدا ، فقال الله عزوجل ـ : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ،) أي : تبليغ الرسالة ، وليس عليك الهداية (١).

والبلاغ : مصدر «بلغ» ـ بتخفيف عين الفعل ـ.

قيل : إنها نسخت بالجهاد. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن ، وهذا يفيد الوعد والوعيد.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٢)

لما ذكر حال من يعرض ويتولّى وصفهم في هذه الآية بثلاث صفات :

الأولى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله : (فَبَشِّرْهُمْ ،) وهذا هو الصحيح ، أعني أنه إذا نسخ المبتدأ ب «إنّ» فجواز دخول الفاء باق ؛ لأن المعنى لم يتغير ، بل ازداد تأكيدا ، وخالف الأخفش ،

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٢٨٧).

١١٢

فمنع دخولها من نسخه ب «إنّ» والسماع حجّة عليه كهذه الآية ، وكقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) الآية [البروج : ١٠] ، وكذلك إذا نسخ ب «لكنّ» كقوله : [الطويل]

١٣٧٦ ـ فو الله ما فارقتكم عن ملالة

ولكنّ ما يقضى فسوف يكون (١)

وكذلك إذا نسخ ب «أنّ» ـ المفتوحة ـ كقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ،) [الأنفال : ٤١] أما إذا نسخ ب «ليت» ، و «لعلّ» و «كأنّ» امتنعت الفاء عند الجميع ؛ لتغيّر المعنى.

فصل

المراد بهؤلاء الكفار اليهود والنصارى.

فإن قيل : ظاهر هذه الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله ـ تعالى ـ ، واليهود والنصارى ، كانوا مقرّين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد.

الجواب : أن تصرف الآيات إلى المعهود السابق ـ وهو القرآن ومحمد ـ أو نحمله على العموم ، ونقول : إن من كذب بنبوة محمد ـ عليه‌السلام ـ يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى.

الصفة الثانية : قوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه : التكثير ، وجاء ـ هنا ـ (بِغَيْرِ حَقٍ) منكّرا ، وفي البقرة (بِغَيْرِ الْحَقِ) معرّفا قيل : لأن الجملة ـ هنا ـ أخرجت مخرج الشرط ـ وهو عام لا يتخصّص ـ فلذلك ناسب أن تذكر في سياق النفي ؛ لتعمّ.

وأما في البقرة فجاءت الآية في ناس معهودين ، مختصين بأعيانهم ، وكان الحق الذي يقتل به الإنسان معروفا عندهم ، فلم يقصد هذا العموم الذي هنا ، فجيء في كل مكان بما يناسبه.

فصل

روى أبو عبيدة بن الجراح ، قال : قلت : يا رسول الله ، أيّ الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيّا ، أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقرأ هذه الآية ، ثم قال : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا ، من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل ، واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل ، فأمروا قتلتهم

__________________

(١) البيت للأفوه الأودي ينظر الدرر ٢ / ٤٠ ، وأمالي القالي ١ / ٩٩ ، وأوضح المسالك ١ / ٣٤٨ ، وشرح الأشموني ١ / ١٠٨ ، وشرح التصريح ١ / ٢٢٥ ، وشرح قطر الندى ص ١٤٩ ، ومعجم البلدان ٢ / ٢٢٠ (الحجاز) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣١٥ ، وهمع الهوامع ١ / ١١٠. والدر المصون ٢ / ٥١.

١١٣

بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا من آخر النّهار في ذلك اليوم ، فهم الّذين ذكرهم الله تعالى (١).

وأيضا القوم قتلوا يحيى بن زكريا ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم.

فإن قيل : قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) في حكم المستقبل ؛ لأنه كان وعيدا لمن كان في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقع منهم قتل الأنبياء ، ولا الآمرين بالقسط ، فكيف يصحّ ذلك؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذه لما كانت طريقة أسلافهم صحّت الإضافة إليهم ؛ إذ كانوا مصوّبين لهم ، راضين بطريقتهم ، فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن ، إذا كان راضيا به.

الثاني : أن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتل المؤمنين ، إلا أن الله ـ تعالى ـ عصمه منهم ، فلما كانوا راغبين في ذلك صحّ إطلاق هذا الاسم عليهم ـ على سبيل المجاز ـ كما يقال : النار محرقة ، السّمّ قاتل.

فإن قيل : قتل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق ، فما فائدة قوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)؟

فالجواب تقدم في البقرة ، وأيضا يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم.

فإن قيل : قوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) ظاهره يشعر بأنهم قتلوا كلّ النبيّين ، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ، ولا الأكثر ، ولا النصف.

فالجواب أن الألف واللام هنا للعهد ، لا للاستغراق.

الصفة الثالثة : قوله : (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ) قرأ حمزة (٢) «ويقاتلون» ـ من المقاتلة ـ والباقون «ويقتلون» ـ كالأول.

فأما قراءة حمزة فإنه غاير فيها بين الفعلين ، وهي موافقة لقراءة عبد الله (٣) «وقاتلوا» ـ من المقاتلة ـ إلا أنه أتى بصيغة الماضي ، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع ـ في قراءته ـ لحكاية الحال ، ومعناه : المضيّ.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٨٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٢) انظر : السبعة ٢٠٣ ، والكشف ١ / ٣٣٨ ، والحجة ٣ / ٢٣ ، وحجة القراءات ١٥٨ ، والعنوان ٧٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٥١ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٩ ، وشرح شعلة ٣٠٩ ، ٣١٠ ، وإتحاف ١ / ٤٧٣.

(٣) وبها قرأ الأعمش.

ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤١٥ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٣٠ ، والدر المصون ٢ / ٥١ ، والتخريجات النحوية ٢٦٤ ، ٣٦٣.

١١٤

وأما الباقون فقيل ـ في قراءتهم ـ : إنما كرر الفعل ؛ لاختلاف متعلّقه ، أو كرّر ؛ تأكيدا ، وقيل : المراد بأحد القتلين إزهاق الروح ، وبالآخر الإهانة ، وإماتة الذكر ، فلذلك ذكر كل واحد على حدته ، ولولا ذلك لكان التركيب : ويقتلون النّبيّين والذين يأمرون ، وبهذا التركيب قرأ أبيّ(١).

قوله : (مِنَ النَّاسِ) إما بيان ، وإما للتبعيض ، وكلاهما معلوم أنهم من الناس ، فهو جار مجرى التأكيد.

فصل

قال القرطبيّ : «دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة ، وهو فائدة الرّسالة وخلافة النبوة».

قال الحسن : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أمر بالمعروف ، أو نهى عن المنكر ، فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله ، وخليفة كتابه».

وعن درّة بنت أبي لهب ، قالت : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر ـ فقال : من خير الناس يا رسول الله؟ قال : «آمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم لله ، وأوصلهم لرحمه».

قد ورد في التنزيل : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة : ٦٧] ، ثم قال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ٧١].

فجعل ـ تعالى ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين ، فدل ذلك على أن أخصّ أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه ، ثم إن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا يليق بكل أحد ، وإنما يقوم به السلطان ؛ إذ كانت إقامة الحدود إليه ، والتعزير إلى رأيه ، والحبس والإطلاق له ، والنفي والتغريب ، فينصب في كل بلدة رجلا قويّا ، عالما ، أمينا ، ويأمره بذلك ، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) [الحج : ٤١].

فصل

قال الحسن : هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ عند الخوف ـ تلي منزلته ـ في العظم ـ منزلة الأنبياء ، وروي أنّ رجلا قام إلى رسول الله

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٣٠.

١١٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنّى ـ فقال : أيّ الجهاد أفضل؟ فقال عليه‌السلام : «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (١).

قال ابن جريج (٢) : كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل ـ ولم يكن يأتيهم كتاب ـ فيذكّرون قومهم فيقتلون ، فيقوم رجال ممن تبعهم وصدّقهم ، فيذكرون قومهم ، فيقتلون ـ أيضا ـ فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ) قرأ ابن عباس (٣) وأبو عبد الرحمن «حبطت» بفتح الباء ـ وهي لغة معروفة ، أي : بطلت في الدنيا ـ بإبدال المدح بالذم ، والثناء باللعن ، وقتلهم ، وسبيهم وأخذ أموالهم ، واسترقاقهم ، وغير ذلك من أنواع الذل ـ وفي الآخرة ـ بإزالة الثواب ، وحصول العقاب ـ (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنهم.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢٣)

لمّا نبّه على عنادهم بقوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) بيّن في هذه الآية غاية عنادهم ، واعلم أن ظاهر الآية يتناول الكلّ ؛ لأنه ذكره في معرض الذم ، إلا أنه قد دلّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك ، لقوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [آل عمران : ١١٣] والمراد بالكتاب غير القرآن ؛ لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار ، وهم اليهود والنصارى.

فصل

في سبب النزول وجوه :

أحدها : روى ابن عباس : أنّ رجلا وامرأة ـ من اليهود ـ زنيا وكانا ذوي شرف ، وكان في كتابهم الرّجم ، فكرهوا رجمهما ؛ لشرفهما ، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم ، فحكم الرسول ـ عليه‌السلام ـ بالرجم ، فأنكروا ذلك ، فقال ـ عليه‌السلام ـ بيني وبينكم التوراة ؛ فإن فيها الرّجم ، فمن أعلمكم؟ قالوا : رجل أعور يسكن فدك ، يقال له : ابن صوريا ، فأرسلوا إليه ، فقدم المدينة ، وكان جبريل قد وصفه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت ابن صوريا؟ قال : نعم ، قال :

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٥٢٧ ـ ٥٢٨) كتاب الملاحم باب الأمر والنهي برقم (٤٣٤٤) وابن ماجه (٢ / ١٣٢٩) كتاب الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رقم (٤٠١١) والخطيب (٧ / ٢٣٨) عن أبي سعيد الخدري.

وأخرجه الطبراني في «الكبير» كما في كنز العمال (٣ / ٧٨) رقم (٥٥٧٦) عن واثلة بن الأسقع.

(٢) في أ : ابن جرير.

(٣) وقرأ بها أبو السمال العدوي.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤١٥ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٣١ ، والدر المصون ٢ / ٥٢.

١١٦

أنت أعلم اليهود؟ قال : كذلك يزعمون ، قال : فأحضروا التوراة ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها ، فقال ابن سلام : قد جاوز موضعها يا رسول الله ، وقام فرفع كفّه عنها فوجدوا آية الرجم ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهما فرجما ، فغضبت اليهود لذلك غضبا شديدا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وثانيها : روى سعيد بن جبير وعكرمة ـ عن ابن عباس ـ قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المدارس (١) على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله ـ عزوجل ـ فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن يزيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال : على ملة إبراهيم ، قالا : إن إبراهيم كان يهوديّا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فهلموا إلى التوراة ؛ فهي بيننا وبينكم حكم ، فأبيا عليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

وثالثها : أن علامة بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذكورة في التوراة ، والدلائل على صحة نبوته موجودة فيها فلما جادلوه في النبوة والبعثة دعاهم إلى التحاكم إلى كتابهم ، فأبوا ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية ، ولذلك قال : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣] وهذه الآية تدل على أن دلائل صحة نبوته موجودة في التوراة ؛ إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إليه ، ولما ستروا ذلك.

رابعها : أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى ؛ فإن دلائل صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل.

وقوله : (نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أي : من علم الكتاب ؛ لأنا لو أجريناه على ظاهره ، فهم قد أوتوا كل الكتاب ، والمراد بذلك العلماء منهم ، وهم الذين يدعون إلى الكتاب ؛ لأن من لا علم له بذلك لا يدعى إليه.

قوله : «يدعون» في محل نصب على الحال من (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

قوله : (إِلى كِتابِ اللهِ) قال أكثر المفسرين : هو التوراة ؛ لوجوه :

أحدها : ما ذكرنا في سبب النزول.

ثانيها : أن الآية سيقت للتعجّب من تمرّدهم وإعراضهم ، والتعجّب إنما يحصل إذا تمرّدوا على حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته.

ثالثها : أن هذا هو المناسب لما قبل الآية ؛ لأنه لما بيّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبّره على معاندتهم ـ مع ظهور الحجّة عليهم ـ بيّن أنهم استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته ، فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على صحة نبوة محمد ـ عليه‌السلام ـ فهذا يدل على أنهم في غاية التعصّب والبعد عن قبول الحق.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (١ / ٣٣٢) وتفسير الرازي (٧ / ١٨٨).

(٢) انظر تفسير الرازي (٧ / ١٨٨) وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩).

١١٧

قال ابن عباس والحسن وقتادة : هو القرآن.

روى الضّحّاك عن ابن عباس ـ في هذه الآية ـ أن الله ـ تعالى ـ جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهدى ، فأعرضوا عنه ، وقال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩] ، وقال تعالى: (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) [النور : ٤٨].

فإن قيل : كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به؟

فالجواب : أنهم دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالّة على أنه كتاب من عند الله.

قوله : «ليحكم» متعلق ب «يدعون». وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور.

وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري (١) «ليحكم» ـ مبنيّا للمفعول ـ والقائم مقام الفاعل هو الظرف ، أي : ليقع الحكم بينهم.

قال الزمخشريّ : قوله : (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) يقتضي أن يكون الاختلاف واقعا فيما بينهم ، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى) عطف على «يدعون» و «منهم» صفة ل «فريق» ، وقوله : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) يجوز أن تكون صفة معطوفة على الصفة قبلها ـ فتكون الواو عاطفة ـ وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في «منهم» ؛ لوقوعه صفة ـ فتكون الواو واو الحال ـ ويجوز أن تكون حالا من «فريق» ، وجاز ذلك ـ وإن كان نكرة ـ لتخصيصه بالوصف قبله ، وإن كان حالا فيجوز أن تكون مؤكّدة ؛ لأن التولّي والإعراض بمعنى ، ويجوز أن تكون مبينة ؛ لاختلاف متعلّقهما قالوا : لأن التوّلي عن الداعي ، والإعراض عما دعا إليه.

قال ابن الخطيب : «فكأن المتولّي والمعرض هو ذلك الفريق ، والمعنى أنه متولّ عن استماع الحجّة في ذلك المقام ، ومعرض عن استماع سائر الحجج».

ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، لا محل لها ، أخبر عنهم بذلك ، فيكون المتولّي هم الرؤساء والعلماء ، والأتباع معرضون عن القبول ؛ لأجل تولّي علمائهم.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢٥)

قوله : «ذلك» فيها وجهان :

أصحهما : أنها مبتدأ ، والجار بعده خبره ، أي : ذلك التولّي بسبب هذه الأقوال الباطلة ، التي لا حقيقة لها.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٤١٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٣٤ ، والدر المصون ٢ / ٥٢ ، والقرطبي ٤ / ٣٣.

١١٨

والثاني : أن «ذلك» خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، وهو قول الزّجّاج وعلى هذا قوله : «بأنّهم» متعلق بذلك المقدّر ـ وهو الأمر ونحوه ـ.

وقال أبو البقاء : فعلى هذا يكون قوله «بأنّهم» في موضع نصب على الحال بما في «ذا» من معنى الإشارة ، أي : ذلك الأمر مستحقا بقولهم ، ثم قال : «وهذا ضعيف».

قلت : بل لا يجوز ألبتة.

وجاء ـ هنا ـ «معدودات» ، بصيغة الجمع ـ وفي البقرة «معدودة» ، تفنّنا في البلاغة ، وذلك أن جمع التكسير ـ غير العاقل ـ يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المونثة تارة ، ومعاملة جمع الإناث أخرى ، فيقال : هذه جبال راسية ـ وإن شئت : راسيات ـ ، وجمال ماشية ، وإن شئت : ماشيات.

وخص الجمع بهذا الموضع ؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا ، فأتى بلفظ الجمع مبالغة في زجرهم ، وزجر من يعمل بعملهم.

فصل

قال الجبائيّ : «هذه الآية فيها [دلالة](١) على بطلان قول من يقول : إنّ أهل النار يخرجون من النار ، قال : لأنه لو صحّ ذلك في هذه الآية لصح في سائر الأمم ، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذبا ، ولما استحق الذمّ ، فلما ذكر الله ـ تعالى ـ ذلك في معرض الذمّ ، علمنا أن القول بخروج أهل النار من النار [قول](٢) باطل».

قال ابن الخطيب : «كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام ؛ لأن مذهبه أن العفو حسن ، جائز من الله ، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم سلمنا أنه لا يلزم ذلك ، لكن لم قلتم : إن القوم إنما استحقوا الذمّ على مجرّد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار؟

بل ههنا وجوه أخر :

الأول : لعلهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة ، قليلة ؛ فإنه روي أنهم كانوا يقولون : إنّ مدة عذابنا سبعة أيام ، ومنهم من قال : لا ، بل أربعين ليلة ـ على قدر مدّة عبادة العجل ـ.

الثاني : أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ، ويقولون : بتقدير وقوع الخطأ منا ، فإنّ عذابنا قليل ، وهذا خطأ ؛ لأن عندنا المخطىء في التوحيد والنبوة والمعاد كافر ، والكافر عذابه دائم.

الثالث : أنهم لما قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) استحقروا تكذيب محمد

__________________

(١) في أ : تدل.

(٢) سقط في ب.

١١٩

ـ عليه‌السلام ـ ، واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ العقاب ، فكان ذلك تصريحا بتكذيبه ـ عليه‌السلام ـ وذلك كفر ، والكافر المصرّ على كفره لا شكّ أن عذابه مخلّد ، فثبت أنّ احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف».

قوله : (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ) الغرور : الخداع ، يقال منه : غرّه ، يغرّه ، غرورا ، فهو غارّ ، ومغرور.

والغرور : ـ بالفتح ـ مثال مبالغة كالضّروب.

والغرّ : الصغير ، والغرّيرة : الصغيرة ؛ لأنهما يخدعان ، والغرّة (١) : مأخوذة من هذا ، قال : أخذه على غرّة ، أي : تغفّل وخداع ، والغرّة : بياض في الوجه ، يقال منه : وجه أغرّ ، ورجل أغرّ وامرأة غرّاء.

والجمع القياسي : غرّ ، وغير القياسي غرّان.

قال : [الطويل]

١٣٧٧ ـ ثياب بني عوف طهارى نقيّة

وأوجههم عند المشاهد غرّان (٢)

والغرة من كل شيء أنفسه ، وفي الحديث : «وجعل في الجنين غرّة ، عبدا أو أمة».

قيل : الغرّة : الخيار ، وقال أبو عمرو بن العلاء ـ في تفسير هذا الحديث ـ إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق ، كأنه أخذه من الغرّة ، وهو البياض في الوجه.

قوله : (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) «ما» يجوز أن تكون مصدرية ، أو بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف أي : الذي كانوا يفترونه.

قيل هو قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨].

وقيل هو قولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [آل عمران : ٢٤].

وقيل : هو قولهم : نحن على الحق وأنت على الباطل.

قوله : «فكيف إذا» «كيف» منصوبة بفعل مضمر ، تقديره : كيف يكون حالهم ، كذا قدّره الحوفيّ وهذا يحتمل أن يكون الكون تاما ، فيجيء في «كيف» الوجهان المتقدمان في قوله : «كيف تكفرون» (٣) من التشبيه بالحال ، أو الظرف ، وأن تكون الناقصة فتكون «كيف» خبرها.

__________________

(١) في أ : المعرة.

(٢) البيت لامرىء القيس. ينظر ديوانه (١٦٧) والمعاني الكبير لابن قتيبة ١ / ٤٨١ و ٤٨٥ ، و ٥٩٣ والصناعتين ص ٣٨٩ واللسان (طهر) والبحر المحيط ٢ / ٤٣٣ وتاج العروس ٣ / ٣٦٢ و ٤٤٤ ، والدر المصون ٢ / ٥٣.

(٣) سورة البقرة : آية (٢٨).

١٢٠