اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

فشقّ ذلك عليه ، فنزلت هذه الآية (١). ويحكى عن مالك إباحة ذلك ، وأنكر ذلك أصحابه(٢).

وروي عن عبد الله بن الحسن ؛ أنه لقي سالم بن عبد الله ، فقال له : يا أبا عمر ؛ ما حدّثت بحديث نافع عن عبد الله ؛ أنه لم يكن يرى بأسا بإتيان النّساء في أدبارهنّ ، قال : كذب العبد وأخطأ ، إنما قال عبد الله : يؤتون في فروجهنّ من أدبارهنّ (٣) ، والدّليل على تحريم الأدبار : ما روى خزيمة بن ثابت ؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إتيان النّساء في أدبارهنّ ، فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «حلال» فلما ولّى الرّجل دعاه ، فقال : «كيف قلت في أيّ الخربتين أو في الخرزتين أو في أيّ الخصفتين ، أمن قبلها في قبلها؟

__________________

(١) أخرجه الدارقطني ودعلج كلاهما في «غرائب مالك» من طريق أبي مصعب وإسحق بن محمد الفروي كلاهما عن نافع عن ابن عمر كما في «الدر المنثور» (١ / ٤٧٥).

(٢) وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرّؤون من ذلك ؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث ؛ لقوله تعالى : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ ؛ ولأن الحكمة في خلق الأزواج بثّ النّسل ؛ فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح ، وهذا هو الحق. وقد قال أصحاب أبي حنيفة : إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم ؛ ولأن القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض ، فكان أشنع. وأما صمام البول فغير صمام الرّحم. وقال ابن العربي في قبسه : قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه : الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين ؛ وأخرج يده عاقدا بها. وقال : مسلك البول ما تحت الثلاثين ، ومسلك الذّكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة ؛ وقد حرّم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة ، فأولى أن يحرم الدّبر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعليّ بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدّثون عنه أنه يجيز ذلك ؛ فنفر من ذلك ؛ وبادر إلى تكذيب الناقل فقال : كذبوا عليّ ، كذبوا عليّ ، كذبوا عليّ! ثم قال : ألستم قوما عربا؟ ألم يقل الله تعالى : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ؟ وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت! وما استدل به المخالف من أنّ قوله عزوجل : أَنَّى شِئْتُمْ شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها ، إذ هي مخصصة بما ذكرناه ، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة ؛ كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار ؛ ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده ، وأبو داود والنّسائيّ والترمذيّ وغيرهم. وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه «تحريم المحل المكروه». ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه «إظهار إدبار ، من أجاز الوطء في الأدبار». قلت : وهذا هو الحقّ المتّبع والصحيح في المسألة ، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرّج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصحّ عنه. وقد حذّرنا من زلّة العالم. وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا ، وتكفير من فعله ؛ وهذا هو اللائق به رضي الله عنه. وكذلك كذّب نافع من أخبر عنه بذلك ، كما ذكر النّسائيّ ، وقد تقدّم. وأنكر ذلك مالك واستعظمه ، وكذّب من نسب ذلك إليه. وروى الدارميّ أبو محمد في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري حين أحمض بهنّ؟ قال : وما التّحميض؟ فذكرت له الدّبر ؛ فقال : هل يفعل ذلك أحد من المسلمين! ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٦٣.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٩٩.

٨١

فنعم ، أم من دبرها في قبلها ؛ فنعم أم من دبرها في دبرها ؛ فلا ، فإنّ الله لا يستحيي من الحقّ ، لا تأتوا النّساء في أدبارهنّ» (١).

وأراد بخربتها مسلكها ، وأصل الخربة : عروة المزادة. شبّه بالثّقب بها ، والخرزة هي : الثقبة التي يثقبها الخرّاز وكنّى به عن المأتى ، وكذلك الخصفة من قولهم : خصفت الجلد إذا خرزته.

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ملعون من أتى امرأة في دبرها» (٢) وقال ـ تعالى ـ في آية المحيض : (قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) جعل الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى ، ولا معنى للأذى إلّا ما يتأذّى الإنسان منه بنتن ريح الدّم ، وهذه العلّة هنا أظهر ؛ فوجب القول بتحريمه.

وروي عن أبي هريرة ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ قال : «من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (٣).

وروى أبو داود الطّيالسي ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تلك اللوطيّة الصّغرى بإتيان المرأة في دبرها» (٤).

وعن طاوس ؛ قال : إنه كان عمل قوم لوط إتيان النّساء في أدبارها. واحتج من جوّزه بوجوه :

الأول : التّمسّك بهذه الآية من وجهين :

أحدهما : أنه جعل الحرث اسما للمرأة لا للموضع المعيّن ، فلمّا قال بعده : «فأتوا

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (١٩٢٤) وأحمد (٥ / ٢١٣) والبيهقي (٧ / ١٩٧) والنسائي (٢ / ٧٦) والدارمي (١ / ٢٦١) وابن حبان (١٢٩٩ و ١٣٠٠) وابن الجارود (٧٢٨) والشافعي (١٦١٩) والطحاوي (٢ / ٢٥).

وأورده المنذري في «الترغيب والترهيب» (٢ / ٢٠٠) وقال : رواه ابن ماجه والنسائي بأسانيد أحدها جيد.

(٢) أخرجه أبو داود (٢١٦٢) وأحمد (٢ / ٢٧٩) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٨٣).

وذكره الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» (٣ / ١٨٠) وانظر كنز العمال (٤٤٨٨٣).

(٣) أخرجه ابن ماجه (١ / ٦١٩) كتاب النكاح باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن (١٩٢٣).

قال البوصيري في «الزوائد» (٢ / ٩٧) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات وأخرجه الترمذي (٣ / ٤٦٩) وابن حبان (١٣٠٢ ـ موارد) وابن أبي شيبة (٤ / ٢٥١ ـ ٢٥٢) وأبو يعلى (٤ / ٢٦٦) رقم (٢٣٧٨) عن ابن عباس وقال الترمذي : حديث حسن غريب.

(٤) أخرجه أبو داود الطيالسي (١٥٩٣ ـ منحة) والبيهقي (٧ / ١٩٨) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا.

وأخرجه البيهقي (٧ / ١٩٨) وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد كما في «الدر المنثور» (١ / ٤٧٣) عن عبد الله بن عمرو موقوفا. وذكر القرطبي المرفوع في «تفسيره» (٣ / ٩٥).

٨٢

حرثكم أنّى شئتم» كان المراد : فأتوا نساءكم أنى شئتم ، فيكون إطلاقا في إتيانهن على جميع الوجوه.

وثانيهما : كلمة «أنّى» معناها : أين ؛ قال ـ تعالى ـ : (أَنَّى لَكِ هذا) [آل عمران: ٣٧] ، معناه : من أين لك هذا ، فصار تقدير الآية : فأتوا حرثكم أين شئتم ، وكلمة «أين» تدلّ على تعدّد الأمكنة ؛ تقول : اجلس أين شئت ، فيكون تخييرا بين الأمكنة.

وإذا ثبت هذا ، فلا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها ، أو من دبرها في قبلها ؛ لأنه على هذا التّقدير ، يكون المكان واحدا ، والتّعدّد إنّما وقع في طريق الإتيان ، فاللّائق به أن نقول : اذهبوا إليه كيف شئتم ، فلمّا لم يذكر كيف ، بل ذكر لفظة «أنّى» وهي مشعرة بالتّخيير بين الأمكنة كما بيّنّا ، ثبت أنّ المراد ما ذكرنا.

الحجة الثانية : تمسّكوا بعموم قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦] ، ترك العمل به في حقّ الذّكور بالإجماع ، فيبقى فيما عداه على العموم.

الحجة الثالثة : لو قال للمرأة : دبرك عليّ حرام ، ونوى الطّلاق ، أنه يكون طلاقا ، فيقتضي كون دبرها حلالا له.

والجواب عن الأوّل : أن «الحرث» اسم لموضع الحراثة ، والمرأة بجميع أجزائها ليست محلا للحراثة ، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة كما تقدّم ، فلما أطلق لفظ «الحرث» على ذات المرأة ، حملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية الشّيء باسم جزئه ، وهذه الضّرورة مفقودة في قوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) فوجب حمل الحرث ههنا على موضع الحراثة على التّعيين ؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها إلّا على إتيان النّساء في محلّ الحرث ، وقد قدّمنا أن «الحرث» إنّما يراد للزّرع وهو الولد ، وذلك لا يكون إلّا في المأتى.

وعن الثّاني : أنه لما ثبت أن المراد ب «الحرث» ذلك الموضع المعيّن لم يمكن حمل (أَنَّى شِئْتُمْ) على التّخيير في الأمكنة.

وأما قوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦] فإنه عامّ ، ودلائلنا خاصّة ، والخاصّ مقدّم على العام.

وقولهم : دبرك عليّ حرام ، إنما صلح أن يكون كناية عن الطّلاق ، وإنّه لمحلّ الملامسة والمضاجعة ، وهو جزؤها ، فصار ذلك كقوله : يدك طالق.

هذا الجواب من حيث التّفصيل أمّا من حيث الجملة : فقد بينّا أنّ قوله : (قُلْ هُوَ أَذىً) يدلّ على التّحريم ؛ لوجود العلّة المقتضية له ، فلو جوّزنا ذلك ، لكان جمعا بين دليل التّحريم ، ودليل التّحليل في موضع واحد ، والأصل أنّه لا يجوز ، وأيضا فالرّوايات

٨٣

المشهورة في كون سبب النّزول ، هو اختلافهم في أنّه : هل يجوز إتيانهنّ من دبرهنّ في قبولهن ؛ وسبب النّزول لا يكون خارجا عن الآية ، ومتى حملنا الآية على هذه الصّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السّبب.

ويمكن الجواب عن هذا : بأن الاعتبار بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب ، فإن السّؤال قد يكون خاصّا والجواب عامّا ، وهو كثير.

قوله : (وَقَدِّمُوا) مفعوله محذوف ، أي : نيّة الولد ، أو نية الإعفاف ، وذكر الله أو الخير ؛ كقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ) [البقرة : ١١٠].

وقال عطاء عن ابن عبّاس : هي التّسمية عند الجماع (١).

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا في غاية البعد ، والّذي عندي فيه : أن قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) جار مجرى التّنبيه على إباحة الوطء ؛ كأنه قيل : هؤلاء النّسوان إنّما حكم الشّرع بإباحة وطئهنّ لكم ؛ لأجل أنّهن حرث لكم ، أي بسبب أن يتولّد الولد منهن ، ثم قال بعده : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) ولا تأتوا غير موضع الحرث ؛ فكان قوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) دليلا على الإذن في ذلك الموضع ، والمنع من غير ذلك الموضع ، فلمّا اشتملت الآية على الإذن في أحد الموضعين ، والمنع من الموضع الآخر ، لا جرم قال : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي : لا تكونوا في قيد قضاء الشّهوة ، بل كونوا في قيد تقديم الطّاعة ، ثم إنه ـ تعالى ـ أكّد ذلك بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) ، ثم أكّده ثالثا بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) ، وهذه التّهديدات الثّلاثة المتوالية ، لا يليق ذكرها إلّا إذا كانت مسبوقة بالنّهي عن شيء لذيذ مشتهى ، فثبت أن ما قبل هذه الآية دالّ على تحريم هذا العمل ، وما بعدها أيضا دالّ على تحريمه ؛ فثبت أنّ الصّحيح في تفسير هذه الآية ، ما ذهب إليه الجمهور.

قوله : «لأنفسكم» متعلّق ب «قدّموا» ، واللام تحتمل التعليل والتعديّ ، والهاء في «ملاقوه» يجوز أن تعود على الله تعالى ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ملاقو جزائه ، وأن تعود على مفعول «قدّموا» المحذوف. وتقدّم الكلام في التّقوى ، وتقدّم أيضا تفسير لقاء الله في قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦].

والضمير في «وبشّر» للرّسول عليه الصلاة والسلام لتقدّم ذكره في قوله : «يسألونك» قاله أبو البقاء (٣) ، وفيه نظر ؛ لأنّ ضمير الخطاب والتكلّم لا يحتاج أن يقال فيهما : تقدّم ذكر ما يدلّ عليهما ، ويجوز أن يكون لكلّ من يصحّ منه البشارة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤١٧) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٧٨) عن ابن عباس وعطاء وزاد نسبته للخرائطي في «مكارم الأخلاق» عن عطاء.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦٤.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٤.

٨٤

قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٢٥)

اللام في قوله «لأيمانكم» تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون مقوية لتعدية «عرضة» ، تقديره : ولا تجعلوا الله معدّى ومرصدا لحلفكم.

والثاني : أن تكون للتعيل ، فتتعلّق بفعل النهي ، أي : لا تجعلوه عرضة لأجل أيمانكم.

قوله : «أن تبرّوا» فيه ستة أوجه :

أحدها : ـ وهو قول الزجاج (١) ، والتّبريزي ، وغيرهما ـ : أنها في محلّ رفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره : أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا خير لكم من أن تجعلوه عرضة لأيمانكم ، أو برّكم أولى وأمثل ، وهذا ضعيف ؛ لأنه يؤدّي إلى انقطاع هذه الجملة عمّا قبلها ، والظاهر تعلّقها به.

والثاني : أنّها في محلّ نصب على أنها مفعول من أجله ، وهذا قول الجمهور ، ثم اختلفوا في تقديره : فقيل : إرادة أن تبرّوا وقيل : كراهة أن تبرّوا ، قاله المهدويّ ، وقيل : لترك أن تبرّوا ، قاله المبرّد ، وقيل : لئلّا تبرّوا ، قاله أبو عبيدة والطّبريّ ؛ وأنشدا : [الطويل]

١٠٨٣ ـ ... فلا والله تهبط تلعة

 ..........(٢)

أي : لا تهبط ، فحذف «لا» ومثله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ، أي : لئلا تضلّوا ، وتقدير الإرادة هو الوجه ، وذلك أن التقادير التي ذكرناها بعد تقدير الإرادة لا يظهر معناها ؛ لما فيه من تعليل امتناع الحلف بانتفاء البرّ ، بل وقوع الحلف معلّل بانتفاء البرّ ، ولا ينعقد منهما شرط وجزاء ، لو قلت في معنى هذا النهي وعلّته : «إن حلفت بالله ، بررت» لم يصحّ ، بخلاف تقدير الإرادة ؛ فإنه يعلّل امتناع الحلف بإرادة وجود البرّ ، وينعقد منهما شرط وجزاء تقول : إن حلفت ، لم تبرّ ، وإن لم تحلف ، بررت.

الثالث : أنّها على إسقاط حرف الجرّ ، أي : في أن تبرّوا ؛ وحينئذ : يجيء فيها القولان : قول سيبويه والفراء (٣) فتكون في محلّ نصب ، وقول الخليل والكسائيّ ، فتكون

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٢٩٣.

(٢) تقدم برقم ٩٣٥.

(٣) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١٧.

٨٥

في محلّ جرّ ، وقال الزمخشري : ويتعلّق «أن تبرّوا» بالفعل أو بالعرضة ، أي : «ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم عرضة لأن تبرّوا». قال أبو حيان : وهذا التقدير لا يصحّ للفصل بين العامل ومعموله بأجنبيّ ، وذلك أنّ «لأيمانكم» عنده متعلق ب «تجعلوا» ، فوقع فاصلا بين «عرضة» التي هي العامل وبين «أن تبرّوا» الذي هو معموله وهو أجنبيّ منهما ، ونظير ما أجازه أن تقول : «امرر واضرب بزيد هندا» ، وهو غير جائز ، ونصّوا على أنه لا يجوز : «جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق» أي رجل ذو فرس أبلق راكب لما فيه من الفصل بالأجنبيّ.

الرابع : أنها في محلّ جرّ ؛ عطف بيان ل «أيمانكم» ، أي : للأمور المحلوف عليها التي هي البرّ والتقوى والإصلاح كما في الحديث. قال أبو حيان : «وهو ضعيف لما فيه من جعل الأيمان بمعنى المحلوف عليه» ، والظاهر أنها هي الأقسام التي يقسم بها ، ولا حاجة إلى تأويلها بما ذكر من كونها بمعنى المحلوف عليه ؛ إذ لم تدع إليه ضرورة ، وهذا بخلاف الحديث ، وهو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها» (١) فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة.

الخامس : أن تكون في محلّ جرّ على البدل من «لأيمانكم» ؛ بالتأويل الذي ذكره الزمخشريّ ، وهذا أولى من وجه عطف البيان ؛ فإنّ عطف البيان أكثر ما يكون في الأعلام.

السادس ـ وهو الظاهر ـ : أنّها على إسقاط حرف الجر ، لا على ذلك الوجه المتقدّم ، بل الحرف غير الحرف ، والمتعلّق غير المتعلّق ، والتقدير : «لإقسامكم على أن تبرّوا» ف «على» متعلق بإقسامكم ، والمعنى : ولا تجعلوا الله معرّضا ومتبدّلا لإقسامكم على البرّ والتقوى والإصلاح الّتي هي أوصاف جميلة ؛ خوفا من الحنث ، فكيف بالإقسام على ما ليس فيه برّ ولا تقوى!!!

والعرضة في اشتقاقها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها «فعلة» بمعنى «مفعول» ؛ من العرض ؛ كالقطبة والغرفة ، ومعنى الآية على هذا : لا تجعلوه معرّضا للحلف من قولهم : فلان عرضة لكذا ، أي : معرّض ، قال كعب(٢): [البسيط]

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٤٨.

(٢) أخرجه مسلم (٥ / ٨٥) ومالك في «الموطأ» (٢ / ٤٧٨) والترمذي (١ / ٢٨٩) وأحمد (٢ / ٣٦١) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه مسلم (٥ / ٨٦) والبيهقي (١٠ / ٣١) عن أبي حازم عن أبي هريرة وأخرجه البخاري (٤ / ٢٥٨ ، ٢٨٠) ومسلم (٥ / ٨٢) وأبو داود (٣٢٧٦) والنسائي (٢ / ١٤٠ ـ ١٤١) وابن ماجه (٢١٠٧) والبيهقي (١٠ / ٣٢) والطيالسي (٥٠٠) وأحمد (٤ / ٣٩٨) من طريق أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا وأخرجه ـ

٨٦

١٠٨٤ ـ من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الأعلام مجهول (١)

وقال حبيب : [الطويل]

١٠٨٥ ـ متى كان سمعي عرضة للّوائم

وكيف صفت للعاذلين عزائمي (٢)

وقال حسّان : [الوافر]

١٠٨٦ ـ ..........

هم الأنصار عرضتها اللّقاء (٣)

وقال أوس : [الطويل]

١٠٨٧ ـ وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها

لرحلي وفيها هزّة وتقاذف (٤)

فهذا كلّه بمعنى معرّض لكذا.

والثاني : أنها اسم ما تعرضه على الشيء ، فيكون من : عرض العود على الإناء ، فيعترض دونه ، ويصير حاجزا ومانعا ، ومعنى الآية على هذا النّهي عن أن يحلفوا بالله على أنهم لا يبرّون ولا يتّقون ، ويقولون : لا نقدر أن نفعل ذلك لأجل حلفنا.

والثالث : أنّها من العرضة ، وهي القوة ، يقال : «جمل عرضة للسّفر» ، أي : قويّ عليه؛ وقال ابن الزّبير : [الطويل]

١٠٨٨ ـ فهذي لأيّام الحروب وهذه

للهوي وهذي عرضة لارتحالنا (٥)

أي قوة وعدّة. ثم قيل لكلّ ما صلح لشيء فهو عرضة له ، حتى قالوا للمرأة : هي عرضة للنّكاح إذا صلحت له ومعنى الآية على هذا : لا تجعلوا اليمين بالله تعالى قوة لأنفسكم في الامتناع عن البرّ.

__________________

ـ البخاري (٣ / ١٦٩ ، ٤ / ١٥ ، ٢٨٠ ـ ٢٨١ ، ٤٩٨ ـ ٤٩٩) ومسلم (٥ / ٨٣ ـ ٨٤) والطيالسي (١٠٢٧ ، ١٠٢٨) والبيهقي (١٠ / ٣٢) وأحمد (٤ / ٢٥٦ ـ ٢٥٩) والدارمي (٢ / ١٨٦) عن عدي بن حاتم.

وأخرجه البخاري (٤ / ٢٥٨ ، ٢٨١ ، ٢٨٦) ومسلم (٥ / ٨٦) وأبو داود (٣٢٧٧) وابن الجارود (٩٢٩) والبيهقي (١٠ / ٣٢) والطيالسي (١٣٥١) وأحمد (٥ / ٦١) عن عبد الرحمن بن سمرة.

وأخرجه النسائي (٢ / ١٤١) وابن ماجه (٢١١١) والبيهقي (١٠ / ٣٣ ـ ٣٤) والطيالسي (٢٢٥٩) وأحمد (٢ / ١٨٥ ، ٢١١ ، ٢١٢) عن عبد الله بن عمرو وأخرجه ابن حبان (١١٧٠) والحاكم (٤ / ٣٠١) عن عائشة وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين.

(١) ينظر : ديوانه (١٩) ، الطبري ٤ / ٤٢٤ ، القرطبي ٣ / ٩٨ ، الدر المصون ١ / ٥٤٧.

(٢) ينظر : البحر ٢ / ١٨٥ ، الدر المصون ١ / ٥٤٨.

(٣) عجز بيت وصدره :

وقال الله قد يسرت جندا

ينظر ديوانه (١٨) ، الدر المصون ١ / ٥٤٨.

(٤) ينظر ديوانه (٦٤) ، القرطبي ٣ / ٩٨ ، الدر المصون ١ / ٥٤٨.

(٥) هو عبد الله بن الزّبير ، بفتح الزاي وكسر الموحدة والزبير : طي البئر وهو شاعر كوفيّ من شعراء الدولة الأموية ت ٧٥ ه‍. ينظر : القرطبي (٣ / ٩٨) ، الدر المصون ١ / ٥٤٨.

٨٧

والأيمان : جمع يمين : وأصلها العضو ، واستعملت في الحلف مجازا لما جرت عادة المتعاقدين بتصافح أيمانهم ، واشتقاقها من اليمن ، واليمين أيضا : اسم للجهة التي تكون من ناحية هذا العضو ، فينتصب على الظرف ، وكذلك اليسار ، تقول : زيد يمين عمرو ، وبكر يساره ، وتجمع اليمين على «أيمن وأيمان» وهل المراد بالأيمان في الآية القسم نفسه ، أو المقسم عليه؟ قولان ، الأول أولى. وقد تقدّم تجويز الزمخشريّ أن يكون المراد به المحلوف عليه واستدلاله بالحديث والجواب عنه.

فصل

ذكر المفسّرون في هذه الآية أقوالا كثيرة ، وأجودها وجهان :

أحدهما : ما ذكره أبو مسلم (١) الأصفهاني ، وهو أنّ قوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) نهي عن الجزأة على الله بكثرة الحلف به ؛ وذلك لأنه من أكثر ذكر شيء في معنّى من المعاني ، فقد جعله عرضة له ، فيقول الرّجل : قد جعلتني عرضة للومك ؛ قال الشّاعر : [الطويل]

١٠٨٩ ـ ..........

ولا تجعلوني عرضة للّوائم (٢)

وقد ذمّ الله تعالى من أكثر من الحلف بقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) [القلم : ١٠] ، وقال تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) [المائدة : ٨٩] والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف ؛ كما قال كثير : [الطويل]

١٠٩٠ ـ قليل الألايا حافظ ليمينه

وإن سبقت منه الأليّة برّت (٣)

والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان ؛ أن من حلف في كلّ قليل وكثير بالله ، انطلق لسانه بذلك ، ولا يبقى لليمين في قلبه وقع ، فلا يؤمن إقدامه على الأيمان الكاذبة ، فيختلّ ما هو الغرض من اليمين ، وأيضا كلّما كان الإنسان أكثر تعظيما لله ـ تعالى ـ ، كان أكمل في العبوديّة ، ومن كمال التّعظيم أن يكون ذكر الله ـ تعالى ـ أجلّ وأعلى عنده ، من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدّنيويّة.

فإن قيل : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البرّ والتّقوى ، والإصلاح بين النّاس؟ فالجواب : أنّ من ترك الحلف ؛ لاعتقاده أنّ الله أعظم وأجلّ من أن يستشهد باسمه المعظّم في طلب الدّنيا ، وخسائس مطالب الحلف ، ولا شك أن هذا من أعظم أبواب البرّ.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٢٦٧.

(٣) ينظر ديوانه ٢ / ٢٢٠ ، البحر ٢ / ١٨٧ ، اللسان : (ألا) ، الدر المصون ١ / ٥٥١.

٨٨

فصل في سبب النزول

نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة ؛ كان بينه وبين ختنه على أخيه بشير بن النّعمان شيء ، فحلف عبد الله ألّا يدخل عليه ، ولا يكلّمه ، ولا يصلح بينه وبين خصمه ، وإذا قيل له فيه ، قال : قد حلفت بالله ألّا أفعل ، فلا يحلّ لي إلّا أن تبرّ يميني فأنزل الله هذه الآية (١).

وقال ابن جريج : نزلت في أبي بكر الصّدّيق ، حين حلف ألّا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك (٢) ، ومعنى الآية : لا تجعلوا الحلف بالله شيئا مانعا لكم من البرّ والتّقوى ، يدعى أحدكم إلى صلة الرّحم أو برّ ، فيقول : حلفت بالله ألّا أفعله ، فيعتل بيمينه في ترك البرّ(٣).

قوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ختم بهاتين الصفتين ؛ لتقدّم مناسبتهما ؛ فإنّ الحلف متعلّق بالسّمع ، وإرادة البرّ من فعل القلب متعلقة بالعلم ، وقدّم السميع ؛ لتقدّم متعلّقه ، وهو الحلف.

قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ).

واللّغو : مصدر لغا يلغو ، يقال : لغا يلغو لغوا ، مثل غزا يغزو غزوا ، ولغي يلغى لغّى مثل لقي يلقى لقّى إذا أتى بما لا يحتاج إليه من الكلام ، أو بما لا خير فيه ، أو بما يلغى إثمه ؛ كقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت فقد لغوت» (٤).

ومن الثاني قوله تعالى : (وَالْغَوْا فِيهِ).

قال الفرّاء : اللّغا مصدر للغيت (٥).

قال أبو العبّاس المقري : ورد لفظ «اللّغو» في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى اليمين بغير عقديّة كهذه الآية.

__________________

(١) ذكره ابن عطية في تفسيره (١ / ٣٠١) والسمرقندي في «تفسيره» «بحر العلوم» (١ / ٢٠٦) عن الكلبي.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٣٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٧٩) عن ابن جريج.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٠٠.

(٤) أخرجه البخاري (٢ / ٤٨) كتاب الجمعة باب الإنصات يوم الجمعة رقم (٩٣٤) ومسلم (٣ / ٤) والنسائي (١ / ٢٠٨) والترمذي (٢ / ٣٨٧) وابن ماجه (١١١٠) والدارمي (١ / ٣٦٤) والبيهقي (٣ / ٢١٨) وأحمد (٢ / ٢٧٢ ، ٣٩٣ ، ٣٩٦ ، ٤٧٤ ، ٤٨٥) من طرق عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا وللحديث شاهد من حديث أبي بن كعب : أخرجه ابن ماجه (١١١١) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (٥ / ١٤٣) وقال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (١ / ٧٧) هذا إسناد رجاله ثقات وأورده المنذري في «الترغيب والترهيب» (١ / ٢٥٧) وقال إسناده حسن.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦٦.

٨٩

الثاني : بمعنى الشّتيمة ؛ قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] ، أي : لم يجيبوهم ؛ ومثله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص : ٥٥].

الثالث : بمعنى الحلف عند شرب الخمر ؛ قال تعالى : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها) [الطور : ٢٣] ، أي : لا يحلف بعضهم على بعض.

فصل

والباء في «باللّغو» متعلّق ب «يؤاخذكم» والباء معناها السّببيّة ، كقوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] ، (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) [النحل : ٦١].

واختلف في اللّغو : فقيل : ما سبق به اللسان من غير قصد ، قاله الفرّاء ، ومنه قول الفرزدق : [الطويل]

١٠٩١ ـ ولست بمأخوذ بلغو تقوله

إذا لم تعمّد عاقدات العزائم (١)

ويحكى أن الحسن سئل عن اللّغو وعن المسبيّة ذات زوج ، فنهض الفرزدق ، وقال : ألم تسمع ما قلت ، وأنشد البيت : [الطويل]

ولست بمأخوذ ...

 ..........

وقوله : [الطويل]

١٠٩٢ ـ وذات حليل أنكحتها رماحنا

حلال لمن يبني بها لم تطلّق (٢)

فقال الحسن : «ما أذكاك لو لا حنثك» ، وقد يطلق على كلّ كلام قبيح «لغو».

قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) [الفرقان : ٧٢] ، (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) [مريم : ٦٢] ؛ وقال العجاج : [الرجز]

١٠٩٣ ـ وربّ أسراب حجيج كظّم

عن اللّغا ورفث التّكلّم (٣)

وقيل : ما يطرح من الكلام ؛ استغناء عنه ، مأخوذ من قولهم لما لا يعتدّ به من أولاد الإبل في الدّية «لغو» ؛ قال جرير : [الوافر]

١٠٩٤ ـ ويهلك وسطها المرئيّ لغوا

كما ألغيت في الدّية الحوارا (٤)

وقيل : «اللّغو» السّاقط الذي لا يعتدّ به سواء كان كلاما أو غيره ، فأمّا وروده في

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٨٥١) ، الدر المصون ١ / ٥٤٩.

(٢) ينظر : ديوانه ٢ / ٥٧٦ ، الدر المصون ١ / ٥٤٩.

(٣) ينظر : ديوانه (٨٥٦) ، الدر المصون ١ / ٥٤٩.

(٤) وهو لذي الرمة : ينظر ديوانه (١٩٦) ، أمالي القالي ٢ / ١٤٢ اللسان والتاج : (لغو) ، الدر المصون ١ / ٥٤٩.

٩٠

الكلام ؛ فكقوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص : ٥٥] وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) [الواقعة : ٢٥] ، وقوله : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] ، (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) [الغاشية : ١١] وقال عليه الصّلاة والسّلام : «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب : أنصت فقد لغوت» (١).

وأما قوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) [الفرقان : ٧٢] فيحتمل أن يكون المراد وإذا مرّوا بالكلام الّذي يكون لغوا ، وأن يكون المراد : وإذا مرّوا بالفعل الّذي يكون لغوا ، وأمّا ورود هذه اللّفظة في غير الكلام ، فكما ورد فيما لا يعتّد به من الدّية في أولاد الإبل.

وقيل : هو ما لا يفهم ، من قولهم : «لغا الطّائر» ، أي : صوّت ، واللّغو : ما لهج به الإنسان ، واللغة مأخوذة من هذا.

وقال الراغب (٢) : ولغي بكذا : أي لهج به لهج العصفور بلغاه ، ومنه قيل للكلام الذي تلهج به فرقة «لغة» ؛ لجعلها مشتقة من لغي بكذا ، أي : أولع به ، وقال ابن عيسى ـ وقد ذكر أن اللّغو ما لا يفيد ـ : «ومنه اللغة ؛ لأنّها عند غير أهلها لغو» ، وقد غلّطوه في ذلك.

قوله : (فِي أَيْمانِكُمْ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلّق بالفعل قبله.

الثاني : أن يتعلّق بنفس المصدر قبله ؛ كقولك : «لغا في يمينه».

الثالث : أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من اللّغو ، وتعرفه من حيث المعنى ؛ أنك لو جعلته صلة لموصول ، ووصفت به اللغو ، لصحّ المعنى ، أي : اللغو الذي في أيمانكم. وسمّي الحلف يمينا ؛ لأن العرب كانوا إذا تحالفوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر.

وقيل : لأنّه يحفظ الشّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشّيء.

فصل في تفسير اللغو

ذكر المفسّرون في «اللّغو» وجوها :

أحدها : قال الشّافعيّ وغيره : هو قول الرّجل في عرض حديثه : «لا والله» و «بلى والله» من غير قصد إليهما ، وهو قول عائشة ، وإليه ذهب الشّعبي وعكرمة ، لما روت عائشة ؛ قالت : سبب نزول هذه الآية : قول الرّجل في عرض حديثه : (لا والله) و (بلى

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٤١٤) كتاب «الجمعة» : باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب حديث (٣٩٤) ، ومسلم (٢ / ٥٨٣) كتاب «الجمعة» : باب في الإنصات يوم الجمعة (١١ / ٨٥١).

(٢) ينظر : المفردات للراغب ٤٧٢.

٩١

والله) أخرجه البخاريّ (١) ، ويروى عن عائشة : أيمان اللّغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة ، والحديث الّذي لا ينعقد عليه القلب (٢).

وقال آخرون : هو أن يحلف على شيء يرى أنّه صادق ، ثم تبيّن أنه خلاف ذلك ، وهو قول ابن عبّاس والحسن ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، والزّهري ، والسّدّيّ ، وإبراهيم النّخعي ، وقتادة ، ومكحول ، وبه قال أبو حنيفة (٣).

وفائدة الخلاف : أنّ الشّافعيّ لا يوجب الكفّارة في قول الرجل : «لا والله» و «بلى والله» ، ويوجبها ، فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنّه كان ، ثم بان أنّه لم يكن ، وأبو حنيفة يحكم بالضّدّ من ذلك.

وقال سعيد بن جبير : هو اليمين في المعصية ، لا يؤاخذه الله بالحنث فيها ، بل يحنث ويكفّر (٤).

وقال مسروق : ليس عليه كفّارة ، أنكفّر خطوات الشّيطان (٥)؟ وقال الشّعبيّ : الرّجل يحلف على المعصية كفّارته أن يتوب منها (٦) ، وكلّ يمين لا يحلّ لك أن تفي بها ، فليس فيها كفّارة ، ولو أمرته بالكفّارة ، لأمرته أن يتمّ على قوله.

هذا هو اللّغو ؛ لأن اللّغو هو المعصية ؛ قال تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ).

وقال عليّ : هو اليمين في الغضب ، وبه قال طاوس (٧).

وقال الضّحّاك : اللّغو هو اليمين المكفّرة (٨) ، سمّيت لغوا ، لأن الكفّارة أسقطت الإثم ؛ كأنه قيل : لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ، إذ كفّرتم.

وقال زيد بن أسلم : هو دعاء الرّجل على نفسه ؛ كقوله : «أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا ، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا» أو يقول : هو كافر إن فعل كذا (٩) ، فهذا كلّه لغو لا يؤاخذه الله به ، ولو آخذ الله به ، لعجّل لهم العقوبة ؛ قال تعالى : (وَيَدْعُ

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٤٧٦) وأبو داود (٣ / ٣٠٤) رقم (٣٢٥٤) ومالك في الموطأ (٢ / ٤٧٧) والبيهقي (١٠ / ٤٨) والطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩) عن عائشة موقوفا.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٤٣) عن عائشة.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦٦ ، وتفسير البغوي ١ / ٢٠١.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في «الدر المنثور» (١ / ٤٧٩).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٣٤٢) عن مسروق.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٤١) عن الشعبي.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٣٨) عن طاووس.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٤٥) عن الضحاك.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٥٤) عن زيد بن أسلم.

٩٢

الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [الإسراء : ١١] ، (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) [يونس : ١١].

وقال القاضي (١) : هو كلّ ما يقع سهوا من غير قصد ؛ لقوله تعالى بعد ذلك : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ، أي : يؤاخذكم إذا تعمّدتم ، ومعلوم أنّ المقابل للعمد هو السّهو ، حجّة الشّافعي ـ رضي الله عنه ـ ما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ؛ أنّ النّبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «لغو اليمين قول الرّجل في قلبه : كلّا والله ، بلى والله ، لا والله» (٢).

وروي أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرّ بقوم ينتضلون ، ومعه رجل من أصحابه ، فرمى رجل من القوم ، فقال : أصبت والله ، ثم أخطأ فقال الّذي مع النّبي عليه الصلاة والسلام : حنث الرّجل يا رسول الله ، فقال النّبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «كلّ أيمان الرّماة لغو لا كفّارة فيها ، ولا عقوبة» (٣).

وأيضا فقوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) هو الّذي يقصد الإنسان على سبيل الجدّ ، ويربط قلبه به ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون اللّغو كالمقابل له ، ويكون معناه: ما لا يقصد الإنسان بالجدّ ، ولا يربط قلبه به ، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه : لا والله ، وبلى والله من غير قصد على سبيل العادة.

وأيضا : فإنّه قال قبل هذه الآية : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) وتقدّم أنّ معناه : النّهي عن كثرة الحلف ، والّذين يقولون على سبيل العادة لا والله ، وبلى والله ، لا شك أنّهم يكثرون الحلف واليمين ، فلمّا ذكرهم الله ـ تعالى ـ عقيب قوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) ، وبين أنّه لا مؤاخذة عليهم ، ولا كفارة ، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إمّا أن يمتنعوا عن الكلام ، أو يلزمهم في كلّ لحظة كفّارة ، وكلاهما حرج في الدّين.

واحتجّ أبو حنيفة بوجوه :

الأول : قوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذي هو خير وليكفّر عن يمينه» (٤) ، فأوجب الكفّارة على الحانث مطلقا ، ولم يفصل بين الجدّ والهزل.

الثاني : أنّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ ، فلا يعتبر فيه القصد كالطّلاق والعتاق ، وهاتان الحجّتان توجبان الكفّارة في قول النّاس لا والله ، وبلى والله ، إذا حصل الحنث.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٢٩) عن عائشة مرفوعا وأخرجه البخاري (١١ / ٤٧٦) وأبو داود (٣ / ٣٠٤) رقم (٣٢٥٤) ومالك في «الموطأ» (٢ / ٤٧٧) والبيهقي (١٠ / ٤٨) عن عائشة موقوفا.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤٤٤) عن الحسن مرسلا وأورده الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (١ / ٥٢٧) من هذا الوجه وقال : هذا مرسل حسن عن الحسن.

(٤) تقدم.

٩٣

ويؤيّد ما قلناه : أنّ اليمين في اللّغة عبارة عن القوّة ؛ قال الشّاعر : [الوافر]

١٠٩٥ ـ إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين (١)

أي : بالقوّة ، والمقصود من اليمين : تقوية جانب البرّ على جانب الحنث بسبب اليمين ، وإنّما يفعل هذا في الموضع الّذي يكون قابلا للتّقوية ، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل ، فأمّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التّقوية ألبتّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمّا اليمين على المستقبل ، فإنه قابل للتّقوية.

قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ) وقعت هنا «لكن» بين نقيضين ؛ باعتبار وجود اليمين ؛ لأنّها لا تخلو : إمّا ألّا يقصدها القلب ، بل جرت على اللسان ، وهي اللّغو ، وإمّا أن يقصدها ، وهي المنعقدة.

قوله تعالى : «بما كسبت» متعلّق بالفعل قبله ، والباء للسببية كما تقدّم ، و «ما» يجوز فيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها مصدرية لتقابل المصدر ، وهو اللّغو ، أي : لا يؤاخذكم باللغو ، ولكن بالكسب.

والثاني : أنها بمعنى «الذي» ، ولا بدّ من عائد محذوف ، أي : كسبته ؛ ويرجّح هذا أنها بمعنى «الّذي» أكثر منها مصدرية.

والثالث : أن تكون نكرة موصوفة ، والعائد أيضا محذوف ، وهو ضعيف ، وفي هذا الكلام حذف ، تقديره : ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم ؛ فحذف لدلالة ما قبله عليه.

فصل

قوله : (يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ، أي : عزمتم وقصدتم إلى اليمين ، وكسب القلب : العقد والنّيّة.

وقال زيد بن أسلم في قوله «ولكم (يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) هو في الرّجل يقول: هو مشرك إن فعل أي : هذا اللّغو إلّا أن يعقد الشّرك بقلبه ويكسبه.

واعلم أنّ اليمين لا تنعقد إلّا بالله تعالى أو اسم من أسمائه ، أو صفة من صفاته ، فاليمين بالله أن يقول : والّذي أعبده ، والّذي أصلّي له ؛ والّذي نفسي بيده ، ونحو ذلك.

واليمين بأسمائه ؛ كقوله : والله ؛ والرّحمن ونحوه.

__________________

(١) البيت للشماخ : ينظر : ديوانه (٣٣٦) ، الأغاني ٨ / ٩٧ ، تهذيب اللغة (يمن).

٩٤

واليمين بصفاته ؛ كقوله : وعزّة الله ؛ وعظمة الله ؛ وجلال الله ، وقدرة الله ، ونحوها.

فإذا حلف بشيء منها على أمر في المستقبل فحنث ، وجبت عليه الكفّارة ، وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن وقد كان ، إن كان عالما به حال اليمين ، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر ، وتجب فيه الكفّارة عند الشّافعيّ ، عالما كان أو جاهلا (١).

وقال أصحاب الرّأي : إن كان عالما ، فهو كبيرة ، ولا كفّارة لها كسائر الكبائر ، وإن كان جاهلا ، فهو يمين اللّغو عندهم.

واحتجّ الشّافعيّ بهذه الآية على وجوب الكفّارة في اليمين الغموس ؛ قال : «لأنّه ـ تعالى ـ ذكر ههنا المؤاخذة بكسب القلب ، وقال في آية المائدة : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة : ٨٩] ، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الّذي مضادّه الحلّ ، فلما ذكر ههنا قوله : (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب ، وأيضا ذكر المؤاخذة ، ولم يبيّن تلك المؤاخذة ما هي ، وبيّنها في آية المائدة بقوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ) ، فتبيّن أن المؤاخذة هي الكفّارة ، فكل مؤاخذة من هاتين الآيتين مجملة من وجه ، مبيّنة من وجه آخر ، فصارت كل واحدة منهما مفسّرة للأخرى من وجه ، وحصل من كلّ واحدة منهما أنّ كلّ يمين ذكر على سبيل الجدّ وربط القلب به ، فالكفّارة واجبة فيها ، ويمين الغموس كذلك ، فكانت الكفّارة واجبة فيها.

__________________

(١) قالت الأئمة الثلاثة : «الأيمان ثلاثة : لغو ؛ ومنعقدة : وهو الحلف على أمر مستقبل ليفعلنّ أو ليتركن ؛ وغموس : وهو ما كان الحالف بها عالما بكذبه فيما حلف عليه.

فقالت الحنفية والحنابلة : لا كفّارة فيها ، سواء تعلقت بالماضي أو بالحال ؛ لقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس من الكبائر لا كفارة لهن : الإشراك بالله تعالى ، والفرار من الزحف ، وبهت المؤمن ، وقتل المسلم بغير حق ، والحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم».

وقالت المالكية : اليمين الغموس إن تعلّقت بالحال أو الاستقبال ، ففيها الكفارة ، ولعل وجهتهم في ذلك أن اليمين عند تعلقها بالماضي يكون الكذب فيها محققا ، والذنب فيها عظيما ، فتصير أكبر من أن تعمل فيها الكفارة ، أما عند تعلقها بالحال أو بالاستقبال فيكون الأمر على خلاف هذا ، فتصبح قريبة من اليمين المنعقدة ، وتأخذ حكمها فتعمل فيها الكفارة.

وبالنظر في أدلّة كلّ : نرى أن القول بعدم الكفارة من غير توبة في يمين الغموس هو الراجح ؛ لأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبر بصريح العبارة بأنه لا كفارة فيها ، وأما استدلال الشافعية بشمول الآية لها مطلقا فغير ظاهر ؛ لما تقدم من الحديث. وأما تفرقة المالكية في اليمين الغموس بين الماضي والحال والمستقبل ـ فدعوى يعوزها الدليل ، ويردها قول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «خمس من الكبائر لا كفارة فيها ... الخ» وعد منها اليمين الغموس ؛ لأنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يفرق في الغموس بين الماضي وغيره ، فالتوبة مسقطة لحق العبد ، والكفارة لحق المولى سبحانه.

٩٥

فصل في كراهية الحلف بغير الله

ومن حلف بغير الله مثل أن قال : والكعبة ، وبيت الله ، ونبيّ الله ؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك ، فلا يكون يمينا ، ولا تجب فيه الكفّارة إذا حنث ، وهو يمين مكروه ؛ قال الشّافعيّ : وأخشى أن تكون معصية.

روى مالك عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أدرك عمر بن الخطّاب ، وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه ؛ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (١).

قوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) قد تقدّم أن «الغفور» مبالغة في ستر الذّنوب ، وفي إسقاط عقوبتها.

وأمّا «الحليم» فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة ، والسّكون مع القدرة والقوّة ، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال ، أي : على أشدّها قوّة في السّير ، ومنه الحلم ، لأنّه يرى في حال السّكون ، وحملة الثّدي ؛ والحليم من حلم ـ بالضم ـ يحلم إذا عفا مع قدرة ، وأمّا حلم الأديم فبالكسر يحلم بالفتح ، فسد وتثقّب ؛ وقال [الوافر]

١٠٩٦ ـ فإنّك والكتاب إلى عليّ

كدابغة وقد حلم الأديم (٢)

وأمّا «حلم» ، أي : رأى في نومه ، فبالفتح ، ومصدر الأول «الحلم» بالكسر ؛ قال الجعديّ : [الطويل]

١٠٩٧ ـ ولا خير في حلم إذا لم تكن له

بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا (٣)

ومصدر الثاني «الحلم» بفتح اللام ومصدر الثالث : «الحلم» و «الحلم» بضم الحاء مع ضمّ اللام وسكونها.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٢٣٦) كتاب الأيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم رقم (٦٦٤٧) ومسلم (٥ / ٨١) ومالك في «الموطأ» (٢ / ٤٨٠) وأبو داود (٣٢٤٩) والترمذي (١ / ٢٨٩) والدارمي (٢ / ١٨٥) وابن أبي شيبة (٤ / ١٧٩) والبيهقي (١٠ / ٢٨) وأحمد (٢ / ١١ ، ١٧ ، ١٤٢) ، من طرق عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدرك عمر بن الخطاب ... فذكره وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه البخاري (٤ / ٣٦٣) ومسلم (٥ / ٨٠) والنسائي (٢ / ١٣٩) والترمذي (١ / ٢٩٠) وابن ماجه (٢٠٩٤) وابن أبي شيبة (٤ / ١٧٩) وابن الجارود (٩٢٢) والبيهقي (١٠ / ٢٩) وأحمد (٢ / ٨).

لكن ليس في حديثهم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه مسلم (٥ / ٨١) والنسائي (٢ / ١٣٩) وأحمد (٢ / ٧٦ ، ٩٨) من طريق عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر مرفوعا بلفظ : من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله وكانت قريش تحلف بآبائها فقال : لا تحلفوا بآبائكم.

(٢) البيت للوليد بن عقبة ؛ ينظر البحر ٢ / ١٨٥ ، اللسان : (حلم) ، الدر المصون ١ / ٥٥٠.

(٣) ينظر ديوانه (١٧٣) ، اللسان : (رفق) ، الدر المصون ١ / ٥٥٠.

٩٦

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٢٧)

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ) : هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وعلى رأي الأخفش من باب الفعل والفاعل ؛ لأنه لا يشترط الاعتماد ، و (مِنْ نِسائِهِمْ) في هذا الجارّ ثمانية أوجه :

أحدها : أن يتعلّق ب «يؤلون».

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف عدّي ب «من» وهو معدى ب «على»؟ قلت: قد ضمّن في هذا القسم المخصوص معنى البعد ، فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم مؤلين ، أو مقسمين».

الثاني : أنّ «آلى» يتعدّى ب «على» وب «من» ؛ قاله أبو البقاء (١) نقلا عن غيره ؛ أنه يقال : آلى من امرأته ، وعلى امرأته.

الثالث : أنّ «من» قائمة مقام «على» على رأي الكوفييّن.

والرابع : أنها قائمة مقام «في» ، ويكون ثم مضاف محذوف ، أي : على ترك وطء نسائهم ، أو في ترك وطء نسائهم.

والخامس : أنّ «من» زائدة ، والتقدير : يؤلون أن يعتزلوا نساءهم.

والسادس : أن تتعلّق بمحذوف ، والتقدير : والذين يؤلون لهم من نسائهم تربّص أربعة أشهر ؛ فتتعلّق بما يتعلق به «لهم» المحذوف ، هكذا قدّره أبو حيّان وعزاه للزمخشريّ قال شهاب الدين وفيه نظر ؛ فإنّ الزمخشريّ قال : ويجوز أن يراد : لهم من نسائهم تربّص ؛ كقولك : «لي منك كذا» فقوله «لهم» لم يرد به أن ثمّ شيئا محذوفا ، وهو لفظ «لهم» ، إنما أراد أن يعلّق «من» بالاستقرار الذي تعلّق به «للّذين» ، غاية ما فيه : أنه أتى بضمير «الّذين» تبيينا للمعنى ، وإلى هذا المنحى نحا أبو البقاء (٢) ؛ فإنه قال : وقيل : الأصل «على» ، ولا يجوز أن تقوم «من» مقام «على» فعلى ذلك تتعلّق «من» بمعنى الاستقرار ، يريد الاستقرار الذي تعلّق به قوله «للّذين» ، وعلى تقدير تسليم أنّ لفظة «لهم» مقدرة ، وهي مرادة ، فحينئذ : إنما تكون بدلا من «للّذين» بإعادة العامل ، وإلّا يبقى قوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) مفلتا ، وبالجملة فتعلّقه بالاستقرار غير ظاهر ، وأمّا تقدير الشيخ : «والذين يؤلون لهم من نسائهم تربّص» ، فليس كذلك ؛ لأنّ «الّذين» لو جاء كذلك غير مجرور باللام ، سهل الأمر الذي ادّعاه ، ولكن إنما جاء كما تراه مجرورا باللام ، سهل الأمر الذي ادّعاه ، ولكن إنما جاء كما تراه مجرورا باللام ، ثم قال أبو حيّان : وهذا كلّه ضعيف ينزّه

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٥.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٩٧

القرآن عنه ، وإنما يتعلّق ب «يؤلون» على أحد وجهين : إمّا أن تكون «من» للسّبب ، أي يحلفون بسبب نسائهم ، وإمّا أن يضمّن معنى الامتناع ، فيتعدّى ب «من» فكأنه قيل «للّذين يمتنعون من نسائهم بالإيلاء» فهذان وجهان مع الستة المتقدّمة ؛ فتكون ثمانية ، وإن اعتبرت مطلق التضمين فتجيء سبعة.

والإيلاء : الحلف. مصدر آلى يؤلي ، نحو : أكرم يكرم إكراما ، والأصل : «إئلاء» فأبدلت الهمزة الثانية ياء ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ؛ نحو : «إيمان».

ويقال : تألّى وايتلى على افتعل ، والأصل : ائتلى ، فقلبت الثانية ياء ؛ لما تقدّم.

والحلفة : يقال لها : الأليّة والألوّة والألوة والإلوة ، وتجمع الأليّة على «ألايا» ؛ كعشيّة وعشايا ، ويجوز أن تجمع الألوّة أيضا على «ألايا» ؛ كركوبة وركائب ؛ قال كثيّر عزّة : [الطويل]

١٠٩٨ ـ قليل الألايا حافظ ليمينه

إذا صدرت منه الأليّة برّت (١)

وقد تقدّم كيف تصريف أليّة وألايا عند قوله : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) [البقرة : ٥٨] جمع خطيئة والإيلاء من عرف الشّرع : هو اليمين على ترك الوطء ؛ كقوله : لا أجامعك ، أو لا أباضعك ، أو لا أقاربك (٢).

ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره : للّذين يؤلون من نسائهم ألّا يطئوهم ، إلّا أنّه حذف لدلالة الباقي عليه.

قال ابن الخطيب (٣) : هذا إذا حملنا لفظ «الإيلاء» على المفهوم اللّغويّ ، أمّا إذا

__________________

(١) تقدم برقم ١٠٩٠.

(٢) الإيلاء لغة : بالمد : الحلف ، وهو : مصدر. يقال : آلى بمدة بعد الهمزة ، يؤلي إيلاء ، وتألى وائتلى ، والأليّة ، بوزن فعيلة : اليمين ، وجمعها ألايا ؛ بوزن خطايا ، قال الشاعر :

قليل الألايا حافط ليمينه

وإن سبقت فيه الأليّة برّت

والألوة بسكون اللام ، وتثليث الهمزة : اليمين أيضا.

ينظر : الصحاح : ٦ / ٢٢٧ ، المغرب : ٢٨ ، لسان العرب : ١ / ١١٧ المصباح المنير : ١ / ٣٥.

واصطلاحا :

عرفه الحنفية : هو عبارة عن اليمين على ترك وطء المنكوحة أربعة أشهر أو أكثر.

وعرفه الشافعية بأنه : هو حلف زوج يصحّ طلاقه ليمتنعن من وطئها مطلقا أو فوق أربعة أشهر.

وعرفه المالكية بأنه : حلف الزوج المسلم المكلف الممكن وطؤه بما يدل على ترك وطء زوجته غير المرضع أكثر من أربعة أشهر أو شهرين للعبد تصريحا أو احتمالا قيد أو أطلق وإن تعليقا.

وعرفه الحنابلة بأنه : حلف الزوج ـ القادر على الوطء ـ بالله تعالى أو صفة من صفاته على ترك وطء زوجته في قبلها مدة زائدة على أربعة أشهر.

ينظر : تبين الحقائق شرح كنز الدقائق : ٢ / ٢٦١ ، مغني المحتاج : ٣ / ٣٤٣ ، الشرح الصغير : ٢ / ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، المطلع : ٣٤٣ ، تحفة المحتاج : ٨ / ١٨٨ ، شرح المحلي على المنهاج : ٢٤.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦٩.

٩٨

حملناه على المفهوم الشّرعي ، لم يحتج إلى هذا الإضمار.

وقرأ أبيّ (١) وابن عباس : «للّذين يقسمون» ، نقله القرطبي.

وقرأ (٢) عبد الله : «آلوا من نسائهم».

والتّربص : الانتظار ، وهو مقلوب التّصبّر ؛ قال : [الطويل]

١٠٩٩ ـ تربّص بها ريب المنون لعلّها

تطلّق يوما أو يموت حليلها (٣)

وإضافة التربّص إلى الأشهر فيها قولان :

أحدهما : أنّه من باب إضافة المصدر لمفعوله ؛ على الاتساع في الظرف ؛ حتّى صار مفعولا به ، فأضيف إليه ، والحالة هذه كقوله : «بينهما مسيرة يوم» أي : مسيرة في يوم.

والثاني : أنه أضيف الحدث إلى الظرف من غير اتّساع ، فتكون الإضافة بمعنى «في» وهو مذهب كوفيّ ، والفاعل محذوف ، تقديره : تربّصهم أربعة أشهر.

فصل

قال قتادة : كان الإيلاء طلاقا لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المسيّب (٤) : كان ذلك من ضرار أهل الجاهليّة (٥) ، وكان الرّجل لا يحبّ امرأته ، ولا يريد أن يتزوّجها غيره ، فيحلف ألّا يقربها أبدا ، فيتركها لا أيما ولا ذات بعل ، وكانوا في ابتداء الإسلام يفعلون ذلك أيضا ؛ فأزال الله تعالى ذلك ، وضرب للزّوج مدّة يتروّى فيها ويتأمّل ، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارّة ، فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة ، فارقها (٦).

وقال القرطبيّ (٧) : وقد آلى النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وطلّق ، وسبب إيلائه : سؤال نسائه إيّاه من النّفقة ما ليس عنده ؛ كذا في «صحيح مسلم» (٨) ، وقيل : لأن زينب ردّت عليه

__________________

(١) انظر : القرطبي ٣ / ٦٨ ، والمحرر الوجيز ١ / ٣٠٢ ، والبحر المحيط ٢ / ١٩١.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ١٩١ ، والقرطبي ٣ / ٦٨.

(٣) ينظر البحر ٢ / ١٨٦ ، الجمهرة ١ / ٢٥٩ ، اللسان (ريص) ، الدر المصون ١ / ٥٥١.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٠٢.

(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» المحرر الوجيز (١ / ٣٠٢).

(٦) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ٦٩) عن سعيد بن المسيب.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٦٨.

(٨) أخرجه مسلم كتاب الطلاق (١٤٧٩) باب في الإيلاء واعتزال النساء والبخاري في «العلم» (٨٩) باب التفاوت في العلم وفي «المظالم» (٢٤٦٨) وفي «النكاح» (٥١٩١) باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها والترمذي (٣٣١٨) والنسائي (٤ / ١٣٧) وأبو يعلى (١ / ١٤٩ رقم ١٦٤) عن ابن عباس وأخرجه مسلم في الطلاق (١٤٧٩) (٣٢) باب في الإيلاء عن عمر بن الخطاب وأخرجه البخاري (١ / ١٧٠) رقم (٣٧٨) و (٣ / ٦٤) رقم (١٩١١) و (٣ / ٢٧٠) رقم (٣٤٦٩) و (٧ / ٥٦) رقم (٥٢٠١) و (٧ / ٨٨) رقم (٥٢٨٩) و (٨ / ٢٤٩) رقم (٦٦٨٤) عن أنس بن مالك.

٩٩

هديّته ، فغضب ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فآلى منهنّ ، ذكره ابن ماجه (١).

فصل

واختلف أهل العلم فيه :

فذهب أكثرهم إلى أنّه إن حلف لا يقرب زوجته أبدا ، أو سمّى مدّة أكثر من أربعة أشهر يكون مؤليا ، فلا يتعرّض لها قبل مضي أربعة أشهر ، وبعد مضيّها يوقف ويؤمر بالفيئة أو الطّلاق بعد مطالبة المرأة ، والفيئة : هي الرّجوع عمّا قال بالوطء إن قدر عليه ، وإن لم يقدر فبالقول ، فإن لم يف ولم يطلّق ، طلّق عليه الحاكم واحدة.

وذهب إلى الوقف بعد مضيّ المدّة : عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وأبو الدّرداء ، وابن عمر(٢).

قال سليمان بن يسار : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كلّهم يقول بوقف المؤلي (٣) ، وإليه ذهب سعيد بن جبير ، وسليمان بن يسار ، ومجاهد ، وبه قال مالك والشّافعي وأحمد وإسحاق.

وقال بعض أهل العلم : إذا مضت عليها أربعة أشهر ، يقع عليها طلقة بائنة ، وهو قول ابن عبّاس وابن مسعود ، وبه قال سفيان الثّوريّ وأصحاب الرّأي (٤).

وقال سعيد بن المسيّب والزّهري : تقع طلقة رجعيّة (٥) ، ولو حلف ألّا يطأها أقلّ من أربعة أشهر ، لا يكون مؤليا ، بل هو حانث إذا وطئها قبل مضيّ تلك المدّة ، وتجب عليه كفّارة يمين على الصّحيح ، ولو حلف ألّا يطأها أربعة أشهر ، لا يكون مؤليا عند من يقول بالوقف بعد مضيّ المدّة ، لأن بقاء المدّة شرط للوقف ، وثبوت المطالبة بالفيئة أو الطّلاق ، وقد مضت المدّة ، وعند من لا يقول بالوقف لا يكون مؤليا ويقع الطّلاق بمضيّ المدّة.

وقال ابن عبّاس لا يكون مؤليا حتى يحلف لا يطأها أبدا (٦).

وقال الحسن البصريّ وإسحاق : أي مدّة حلف عليها ، كان مؤليا وإن كان يوما (٧).

__________________

(١) أخرج ابن ماجه (١ / ٦٦٤) كتاب الطلاق باب الإيلاء رقم (٢٠٥٩).

قال البوصيري في «زوائد ابن ماجه» (٢ / ١٣٥) : هذا إسناد فيه حارثة بن أبي الرجال وقد ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وابن عدي وغيرهم.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٠٢.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» ١ / ٢٠٢.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٧٢.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

١٠٠