اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢١٧)

قرأ الجمهور : «قتال» بالجرّ ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خفض على البدل من «الشّهر» بدل الاشتمال ؛ إذ القتال واقع فيه ، فهو مشتمل عليه.

والثاني : أنه خفض على التّكرير ، قال أبو البقاء (١) : «يريد أنّ التقدير : عن قتال فيه». وهو معنى قول الفراء (٢) إلّا أنّه قال : هو مخفوض ب «عن» مضمرة. وهذا ضعيف جدّا ؛ لأنّ حرف الجرّ لا يبقى عمله بعد حذفه في الاختيار. وهذا لا ينبغي أن يعدّ خلافا بين البصريين ، والكسائي ، والفراء ؛ لأنّ البدل عند جمهور البصريين على نيّة تكرار العامل ، وهذا هو بعينه قول الكسائي.

وقوله : لأنّ حرف الجرّ لا يبقى عمله بعد حذفه إن أراد في غير البدل ، فمسلّم ، وإن أراد

في البدل ، فممنوع ، وهذا هو الذي عناه الكسائي.

الثالث : قال أبو عبيدة (٣) : «إنه خفض على الجوار».

قال أبو البقاء (٤) : «وهو أبعد من قولهما ـ يعني الكسائيّ والفراء ـ لأنّ الجوار من

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٢.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٤١.

(٣) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٧٢.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٢.

٣

مواضع الضّرورة أو الشذوذ ، فلا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة» وقال ابن عطية : «هو خطأ». قال أبو حيّان إن كان أبو عبيدة عنى بالجوار المصطلح عليه فهو خطأ. وجهة الخطأ أنّ الخفض على الجوار عبارة عن أن يكون الشيء تابعا لمرفوع ، أو منصوب ، من حيث اللفظ والمعنى ، فيعدل به عن تبعيّته لمتبوعه لفظا ، ويخفض لمجاورته لمخفوض ؛ كقولهم : «هذا جحر ضبّ خرب» بجرّ «خرب» ، وكان من حقّه الرفع ؛ لأنه من صفات الجحر ، لا من صفات الضبّ ، ولهذه المسألة مزيد بيان يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، و «قتال» هنا ليس تابعا لمرفوع ، أو منصوب ، وجاور مخفوضا فخفض.

وإن كان عنى أنه تابع لمخفوض فخفضه بكونه جاور مخفوضا ، أي : فصار تابعا له ، لم يكن خطأ ، إلّا أنه أغمض في عبارته ؛ فالتبس بالمصطلح عليه.

وقرأ ابن عباس (١) والأعمش : «عن قتال» بإظهار «عن» وهي في مصحف عبد الله كذلك. وقرأ عكرمة (٢) : «قتل فيه ، قل قتل فيه» بغير ألف.

وقرئ (٣) شاذّا : «قتال فيه» بالرفع وفيه وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ ، والجارّ والمجرور بعده خبر ، وسوّغ الابتداء به وهو نكرة ؛ أنه على نية همزة الاستفهام ، تقديره : أقتال فيه.

والثاني : أنه مرفوع باسم فاعل تقديره : أجائز قتال فيه ، فهو فاعل به. وعبّر أبو البقاء (٤) في هذا الوجه بأن يكون خبر محذوف ، فجاء رفعه من ثلاثة أوجه : إمّا مبتدأ ، وإمّا فاعل ، وإمّا خبر مبتدأ. قالوا : ويظهر هذا من حيث إنّ سؤالهم لم يكن عن كينونة القتال في الشهر أم لا ، وإنّما كان سؤالهم : هل يجوز القتال فيه أم لا؟ وعلى كلا هذين الوجهين ، فهذه الجملة المستفهم عنها في محلّ جرّ ؛ بدلا من الشهر الحرام ، لأنّ «سأل» قد أخذ مفعوليه فلا تكون هي المفعول ، وإن كانت محطّ السؤال.

وقوله : «فيه» على قراءة خفض «قتال» فيه وجهان :

أحدهما : أنه في محلّ خفض ؛ لأنه صفة ل «قتال».

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٩٠ ، والتخريجات النحوية ١٥١ ، والبحر المحيط ٢ / ١٥٤ ، ونسبها أيضا إلى الربيع. وانظر : الدر المصون ١ / ٥٢٧.

(٢) انظر : السابق.

(٣) نسبها القرطبي إلى الأعرج ٤٠ ، وانظر : البحر المحيط ٢ / ١٥٤ ، والدر المصون ١ / ٥٢٨.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٢.

٤

والثاني : أنه في محلّ نصب ؛ لتعلّقه بقتال ، لكونه مصدرا.

وقال أبو البقاء (١) : كما يتعلّق ب «قتال» ولا حاجة إلى هذا التشبيه ، فإنّ المصدر عامل بالحمل على الفعل.

فصل

والضمير في «يسألونك» قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول ، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانوا مسلمين ، فما قبل هذه الآية (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) [البقرة : ٢١٤] (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢١٥] حكاية عن المؤمنين ، وما بعدها كذلك وهو قوله : و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٩] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) [البقرة : ٢٢٠] فوجب أن تكون هذه كذلك.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنه قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن (٢) ، ومنها (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ).

وقيل : الضمير للكفار ؛ سألوا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن القتال في الشهر الحرام ، فأخبرهم أنه حرام ؛ فتركوا ، واستحلوا قتالهم فيه فأنزل الله : «عن الشّهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير» ولكن الصدّ عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام ، والكفر به ، أكبر من هذا القتال. (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) فبيّن تعالى أنّ غرضهم من هذا السؤال ، أن يقاتلوا المسلمين ، ثم أنزل الله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] فصرّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائز والألف واللام في «الشّهر الحرام» قيل : للعهد ، وهو رجب ، وقيل : للجنس ، فيعمّ جميع الأشهر الحرم.

قوله : (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) جملة من مبتدأ وخبر ، محلّها النصب بقل والمعنى : القتال في الشهر الحرام وجاز الابتداء بالنكرة لأحد وجهين :

إمّا الوصف ، إذا جعلنا قوله : «فيه» صفة له.

وإمّا التخصيص بالعمل ، إذا جعلناه متعلقا بقتال ، كما تقدّم في نظيره.

فإن قيل : قد تقدّم لفظ نكرة ، وأعيدت من غير دخول ألف ولام عليها ، وكان حقّها ذلك ، كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ـ ١٦]

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٢.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي (٦ / ٢٧).

٥

لأنّه لو لم يكن كذلك ، كان المذكور الثاني غير الأول ، وهذا غير واضح ؛ لأنّ الألف كقوله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ، ٦].

فقال أبو البقاء (١) : «ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسؤول عنه ، حتى يعاد بالألف واللام ، بل المراد تعظيم أيّ قتال كان ، فعلى هذا «قتال» الثاني غير الأول ، وهذا غير واضح ؛ لأنّ الألف واللام في الاسم السّابق المعاد أولا لا تفيد تعظيما ، بل إنما تفيد العهد في الاسم السابق. وأحسن منه قول بعضهم : إنّ الثّاني غير الأول ، وذلك أنّ سؤالهم عن قتال عبد الله جحش ، وكان لنصرة الإسلام وخذلان الكفر ؛ فليس من الكبائر ، بل الذي من الكبائر قتال غير هذا ، وهو ما كان فيه إذلال الإسلام ، ونصرة الكفر ، فاختير التنكير في هذين اللفظين ؛ لهذه الدقيقة ، ولو جيء بهما معرفتين ، أو بأحدهما معرّفا ، لبطلت هذه الفائدة.

فصل

روى أكثر المفسرين عن ابن عباس : سبب نزول هذه الآية أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعث عبد الله بن جحش الأسديّ ، وهو ابن عمّته قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة شهرا من الهجرة وبعث معه ثمانية رهط ، من المهاجرين ؛ سعد بن أبي وقّاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السّلمي ، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل ابن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله الحنظليّ ، وخالد بن بكير ، وكتب معهم لأميرهم عبد الله بن جحش كتابا وعهدا ، ودفعه إليه ، وقال : سر على اسم الله ، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين ، فإذا نزلت ، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ، ثمّ امض إلى ما أمرتك ، ولا تستكرهنّ أحدا من أصحابك على السّير معك ، فسار عبد الله يومين ، ثم نزل وفتح الكتاب ، وإذا فيه «بسم الله الرّحمن الرّحيم» أمّا بعد : فسر على بركة الله بمن معك من أصحابك ؛ حتّى تنزل بطن نخلة (٢) ، فترصد بها عير قريش ؛ لعلك تأتينا منهم بخبر ، فلمّا نظر في الكتاب ، قال سمعا وطاعة ، ثم قال لأصحابه ذلك ، وقال : إنّه نهاني أن أستكره أحدا منكم ؛ فمن كان يريد الشهادة ، فلينطلق معي ، ومن كره ، فليرجع ، ثم مضى ، ومضى معه أصحابه ، لم يتخلّف عنه منهم أحد ، حتى كان بمعدن فوق الفرع يقال له نجران ، أضلّ سعد بن أبي وقّاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما ، كانا يعتقبانه ؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى ببقية أصحابه ، حتى نزل «ببطن نخلة» بين «مكّة» و «الطائف» فبينما هم

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٩٢.

(٢) قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة ينظر معجم البلدان ١ / ٥٣٣.

٦

كذلك ، مرت عير لقريش تحمل زبيبا ، وأدما ، وتجارة من تجارات الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفل بن عبد الله المخزوميّان ، فلما رأوا أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هابوهم ، فقال عبد الله بن جحش إنّ القوم قد ذعروا منكم ، فاحلقوا رأس رجل منكم ؛ وليتعرض لهم ، فحلقوا رأس عكاشة ، ثم أشرفوا عليهم ؛ فقالوا : قوم عمّار ، لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة. فكانوا يرون أنّه من جمادى ، وهو من رجب فتشاور القوم ، وقالوا : لئن تركتموهم الليلة ؛ ليدخلنّ الحرم ، فليمنعنّ به منكم ، فأجمعوا أمرهم في مواقفة القوم ، فرمى واقد بن عبد الله السّهمي عمرو بن الحضرميّ بسهم ، فقتله ، فكان أوّل قتيل من المشركين ، واستأسر الحكم وعثمان ، فكانا أوّل أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم ، واستاق المؤمنون العير والأسيرين ، حتّى قدموا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في المدينة ، فقالت قريش : لقد استحلّ محمد الشهر الحرام ؛ فسفك فيه الدّماء ، وأخذ الأموال فما شهر يأمن فيه الخائن ، وغير ذلك ، فقال أهل «مكّة» من كان بها من المسلمين وقالوا : يا معشر الصّبأة ، استحللتم الشهر الحرام ، وقاتلتم فيه ، فقال عبد الله بن جحش : يا رسول الله : إنّا قتلنا ابن الحضرمي ، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري : أفي رجب أصبناه ، أم في جمادى.

فوقّف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ العير ، والأسارى ؛ وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك ، فعظم ذلك على أصحاب السريّة ، وظنّوا أن قد هلكوا ، وسقط في أيديهم ، وأكثر الناس في ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، فأخذ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ العير ، فعزل منه الخمس ، فكان أول خمس في الإسلام ، وقسّم الباقي بين أصحاب السّريّة ، وكان أول غنيمة في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهما فقال : بل نبقيهما حتّى يقدم سعد وعتبة ، وإن لم يقدما ، قتلناهما بهما ، فلمّا قدما ؛ فاداهما ، فأمّا الحكم بن كيسان ، فأسلم ، وأقام مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالمدينة ، فقتل يوم بئر معونة (١) شهيدا ، وأمّا عثمان بن عبد الله ، فرجع إلى مكة ؛ فمات بها كافرا ، وأمّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الاحزاب (٢) ؛ ليدخل

__________________

(١) قال ابن إسحاق : بئر معونة بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم وقيل : بئر معونة بين جبال يقال لها : أبلى في الطريق المصعد من المدينة إلى مكة وهي لبني سليم ؛ قاله عرام. وقال أبو عبيدة في كتاب مقاتل الفرسان : بئر معونة ماء لبني عامر بن صعصعة. ينظر معجم البلدان ١ / ٣٥٨ ، ٣٥٩.

(٢) في شوال سنة خمس من الهجرة خرجت قريش وغطفان في عشرة آلاف مقاتل ، بعد أن دفعهم نفر من اليهود إلى ذلك ، وما أن علم الرسول بخروجهم حتى ضرب الخندق على المدينة بمشورة سلمان الفارسي ، وأقبلت قريش ومن تبعها من كنانة وأهل تهامة ، حتى نزلت بمجتمع الأسيال ، ونزلت غطفان ، ومن تبعهم بجانب «أحد» وخرج الرسول ـ عليه‌السلام ـ في ثلاثة آلاف من ـ

٧

الخندق ، فوقع في الخندق مع فرسه فتحطّما جميعا فقتله الله ، فطلب المشركون جيفته بالثمن ؛ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خذوه فإنّه خبيث الجيفة ، خبيث الدّية (١).

فصل

اتفق الجمهور : على أنّ هذه الآية تدلّ على حرمة القتال في الشهر الحرام ، ثمّ اختلفوا : هل ذلك الحكم باق أو نسخ؟

فقال ابن جريج : حلف لي عطاء بالله أنّه لا يحلّ للناس الغزو في الحرم ، ولا في الشّهر الحرام ، إلّا على سبيل الدّفع (٢) وروى جابر قال : لم يكن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يغزو في الشهر الحرام إلّا أن يغزى (٣).

وسئل سعيد بن المسيب : هل يجوز للمسلمين أن يقاتلوا الكفّار في الشهر الحرام؟ قال : نعم (٤).

قال أبو عبيد : والناس بالثغور اليوم جميعا يرون الغزو على هذا القول مباحا في الشهور كلّها (٥) ولم أر أحدا من علماء «الشام» (٦) ، و «العراق» (٧) ينكره عليهم ، وكذلك أحسب قول أهل الحجاز.

__________________

ـ المسلمين ، فجعل ظهره إلى سهل «سلع» وضرب هنالك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وانضم بنو قريظة إلى جيش الأحلاف ، فعظم بذلك البلاء على المسلمين ، وبينما المسلمون على ذلك إذا بالخلاف يدب بين جيش الكفار بوساطة نعيم بن مسعود الغطفاني ، وتهب عاصفة شديدة فتقلع الخيام ، وتقلب قدور الطعام ، وتهدم المعسكر فيرتحلون جميعا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، ويكفي الله المؤمنين شر القتال.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ـ ٣٠٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٤٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

وأخرجه البزار (٢١٩١ ـ زوائده) عن ابن عباس بمعناه وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ٢٠١ ـ ٢٠٢) وقال : وفيه أبو سعيد البقال وهو ضعيف وأخرجه الطبري (٤ / ٣٠٦) والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» (٦ / ٢٠١) وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (١ / ٤٤٨) عن جندب بن عبد الله.

وقال الهيثمي في «المجمع (٦ / ٢٠١) : ورجاله ثقات.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٢٨.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٠٠) عن جابر بن عبد الله.

(٤) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» ٦ / ٢٨.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) بفتح أوله ، وسكون همزته أو فتحها ، ولغة ثالثة بغير همز ، ولا تمد إلا أنها جاءت ممدودة في شعر قديم وحديث ، ولعله لضرورة الشعر ؛ ويذكر ويؤنث.

وسميت بالشام ؛ لتشاؤم بني كنعان بن حام إليها ، أو لأن «سام بن نوح» أول من نزلها ، فجعلت السين شينا ، وكان اسمها الأول سوري ، وحدّها من الفرات إلى العريش طولا وعرضا من جبلي طيئ إلى بحر الروم وبها من أمهات المدن : منبج ، وحلب ، وحماة ، وحمص ، ودمشق ، وبيت المقدس ، وفي سواحلها عكّا ، وصور ، وعسقلان. ينظر : مراصد الاطلاع ٢ / ٧٧٥.

(٧) والعراق المشهور هو ما بين حديثة الموصل إلى عبّادان طولا وما بين عذيب القادسية إلى حلوان ـ

٨

وحجته قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وهذا ناسخة لتحريم القتال في الشهور الحرام.

قال ابن الخطيب (١) : والذي عندي أن قوله تعالى : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) نكرة في سياق الإثبات ، فيتناول فردا واحدا ، ولا يتناول كلّ الأفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مطلقا في الشهر الحرام ، ولا حاجة إلى النسخ فيه.

قوله : «وصدّ» فيه وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ وما بعده عطف عليه ، و «أكبر» خبر عن الجميع ، قاله الزّجّاج ، ويكون المعنى أنّ القتال الذي سألتم عنه ، وإن كان كبيرا ، إلّا أن هذه الأشياء أكبر منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنّ عذره ظاهر ؛ لأنّه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعا في جمادى الآخرة ، ونظيره في المعنى قوله تعالى لبني إسرائيل (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤] وقوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢].

وجاز الابتداء ب «صدّ» لأحد ثلاثة أوجه :

إمّا لتخصيصه بالوصف بقوله : (عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

وإمّا لتعلّقه به.

وإمّا لكونه معطوفا والعطف من المسوّغات.

والثاني : أنه عطف على «كبير» أي : قتال فيه كبير وصدّ ، قاله الفراء (٢).

قال ابن عطية : وهو خطأ ؛ لأنّ المعنى يسوق إلى أنّ قوله : «وكفر به» عطف أيضا على «كبير» ويجيء من ذلك أنّ إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر ، وهو بيّن فساده.

وهذا الذي ردّ به قول الفراء ، غير لازم له ؛ إذ له أن يقول : إنّ قوله «وكفر به» مبتدأ ، وما بعده عطف عليه ، و «أكبر» خبر عنهما ، أي : مجموع الأمرين أكبر من القتال والصدّ ، ولا يلزم من ذلك أن يكون إخراج أهل المسجد أكبر من الكفر ، بل يلزم منه أنه أكبر من القتال في الشهر الحرام.

__________________

ـ عرضا ، وسمّي بالعراقين الكوفة والبصرة ؛ لأنهما محال جند المسلمين بالعراق. ولكل واحد منهما وال يختصّ به.

وسمّي عراقا ؛ لأن اسمها بالفارسية إيراق ، فعربتها العرب وقالوا : عراق.

وقيل : سمّي عراقا ، لاستواء أرضه وخلوّها من جبال تعلو وأودية تنخفض. وقيل غير ذلك ينظر : مراصد الاطلاع ٢ / ٩٢٦.

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٢٨.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٤١.

٩

وهو مصدر حذف فاعله ومفعوله ؛ إذ التقدير : وصدّكم ـ يا كفار ـ المسلمين عن سبيل الله وهو الإسلام.

و «كفر» فيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف [على «صدّ» على قولنا بأن «صدّا» مبتدأ لا على] قولنا : بأنه خبر ثان عن «قتال» ، لأنه يلزم منه أن يكون القتال في الشهر الحرام كفرا ، وليس كذلك ، إلّا أن يراد بقتال الثاني ما فيه هدم الإسلام ، وتقوية الكفر ؛ كما تقدّم ذلك عن بعضهم ، فيكون كفرا ، فيصحّ عطفه عليه مطلفا ، وهو أيضا مصدر لكنه لازم ، فيكون قد حذف فاعله فقط ، أي : وكفركم.

والثاني : أن يكون مبتدأ ، كما يأتي تفصيل القول فيه. والضمير في «به» فيه وجهان :

أحدهما : أنه يعود على «سبيل» لأنه المحدّث عنه.

والثاني : أنه يعود على الله ، والأول أظهر. و «به» فيه وجهان ، أعني كونه صفة لكفر ، أو متعلقا به ، كما تقدّم في «فيه».

قوله : «والمسجد» مجرورا ، وقرئ (١) شاذا مرفوعا. فأمّا جرّه فاختلف فيه النحويون على أربعة أوجه.

أحدها : وهو قول المبرد وتبعه الزمخشري ـ وقال ابن عطية «وهو الصحيح» ـ أنه عطف على «سبيل الله» أي : وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد.

وردّ هذا بأنّه يؤدّي إلى الفصل بين أبعاض الصّلة بأجنبيّ تقريره أنّ «صدّا» مصدر مقدّر بأن ، والفعل ، و «أن» موصولة ، وقد جعلتم «والمسجد» عطفا على «سبيل» ، فهو من تمام صلته ، وفصل بينهما بأجنبيّ ، وهو «وكفر به». ومعنى كونه أجنبيا أنّه لا تعلّق له بالصّلة. فإن قيل : يتوسّع في الظّرف وحرف الجرّ ما لم يتوسع في غيرهما.

قيل : إنّما قيل بذلك في التّقديم ، لا في الفصل.

الثاني : أنّه عطف على الهاء في «به» ، أي : وكفر به ، وبالمسجد ، وهذا يتخرّج على قول الكوفيّين. وأمّا البصريّون ؛ فيشترطون في العطف على الضّمير المجرور إعادة الخافض إلّا في ضرورة ، فهذا التّخريج عندهم فاسد ولا بدّ من التّعرّض لهذه المسألة ، وما هو الصّحيح فيها؟ فنقول وبالله التوفيق : اختلف النّحاة في العطف على الضّمير المجرور على ثلاثة مذاهب :

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ١٥٥ ، والدر المصون ١ / ٥٢٩. قال ابن عطية ١ / ٢٩٠ : و «المسجد» معطوف على «سبيل الله» وهذا هو الصحيح.

١٠

أحدها ـ وهو مذهب البصريّين ـ : وجوب إعادة الجارّ إلّا في ضرورة.

الثاني : أنّه يجوز ذلك في السّعة مطلقا ، وهو مذهب الكوفيين ، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشّلوبين.

والثالث : التّفصيل ، وهو إن أكّد الضّمير ؛ جاز العطف من غير إعادة الخافض نحو : «مررت بك نفسك ، وزيد» ، وإلّا فلا يجوز إلا ضرورة ، وهو قول الجرميّ ، والّذي ينبغي جوازه مطلقا لكثرة السّماع الوارد به ، وضعف دليل المانعين واعتضاده بالقياس.

أمّا السّماع : ففي النّثر كقولهم : «ما فيها غيره ، وفرسه» بجرّ «فرسه» عطفا على الهاء في «غيره». وقوله : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] في قراءة جماعة كثيرة ، منهم حمزة كما سيأتي إن شاء الله ، ولو لا أنّ هؤلاء القرّاء ، رووا هذه اللغة ، لكان مقبولا بالاتّفاق ، فإذا قرءوا بها في كتاب الله تعالى كان أولى بالقبول.

ومنه : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) [الحجر : ٢٠] ف «من» عطف على «لكم» في قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها مَعايِشَ). وقوله : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [النساء: ١٢٧] عطف على : «فيهنّ» ، وفيما يتلى عليكم. أما النّظم فكثير جدّا ، فمنه قول العبّاس بن مرداس: [الوافر]

١٠٥٤ ـ أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أفيها كان حتفي أم سواها (١)

ف «سواها» عطف على «فيها» ؛ وقول الآخر : [الطويل]

١٠٥٥ ـ تعلّق في مثل السّواري سيوفنا

وما بينها والأرض غوط نفانف (٢)

وقول الآخر : [الطويل]

١٠٥٦ ـ هلّا سألت بذي الجماجم عنهم

وأبي نعيم ذي اللّواء المحرق (٣)

وقول الآخر : [الطويل]

١٠٥٧ ـ بنا أبدا لا غيرنا تدرك المنى

وتكشف غمّاء الخطوب الفوادح (٤)

__________________

(١) تقدم برقم ٨٤ ..

(٢) البيت لمسكين الدارمي ينظر ديوانه ص ٥٣ (وفيه ، تنائف) مكان (نفانف) ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٦٤ ، والحيوان ٦ / ٤٩٤ ، ولسان العرب (غوط) وشرح المفصل ٣ / ٨ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٦٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٣٠ ، والإنصاف ٢ / ٤٦٥. والدر المصون ١ / ٥٣٠.

(٣) ينظر : الإنصاف (٤٦٦) وخزانة الأدب ٥ / ١٢٢٥ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٦٢ والبحر ٢ / ١٥٦ ، والدر المصون ١ / ٥٣٠.

(٤) ينظر المقاصد النحوية ٤ / ١٦٦ ، شرح عمدة الحافظ ص (٦٦٤) ، الإنصاف (٤٦٦) البحر ٣ / ١٥٦ ، الدر المصون ١ / ٥٣٠.

١١

وقول الآخر : [البسيط]

١٠٥٨ ـ لو كان لي وزهير ثالث وردت

من الحمام عدانا شرّ مورود (١)

وقال الآخر : [الطويل]

١٠٥٩ ـ إذا أوقدوا نارا لحرب عدوّهم

فقد خاب من يصلى بها وسعيرها (٢)

وقول الآخر : [البسيط]

١٠٦٠ ـ إذا بنا بل أنيسان اتّقت فئة

ظلّت مؤمّنة ممّن يعاديها (٣)

وقول الآخر : [الرجز]

١٠٦١ ـ آبك أيّه بي أو مصدّر

من حمر الجلّة جأب حشور (٤)

وأنشد سيبويه : [البسيط]

١٠٦٢ ـ فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب (٥)

فكثرة ورود هذا ، وتصرّفهم في حروف العطف ، فجاءوا تارة بالواو ، وأخرى ب «لا» ، وأخرى ب «أم» ، وأخرى ب «بل» دليل على جوازه ، وأمّا ضعف الدّليل : فهو أنّهم منعوا ذلك ؛ لأنّ الضّمير كالتّنوين ، فكما لا يعطف على التّنوين لا يعطف عليه إلّا بإعادة الجارّ.

ووجه ضعفه أنّه كان بمقتضى هذه العلّة ألّا يعطف على الضّمير مطلقا ، أعني سواء كان مرفوع الموضع ، أو منصوبه ، أو مجروره ، وسواء أعيد معه الخافض ، أم لا كالتّنوين.

وأمّا القياس ، فلأنه تابع من التّوابع الخمسة ، فكما يؤكّد الضّمير المجرور ، ويبدل منه ، فكذلك يعطف عليه (٦).

__________________

(١) ينظر عمدة الحافظ ٦٦٤ البحر ٢ / ١٥٧ ، الدر المصون ١ / ٥٣٠.

(٢) ينظر : الإنصاف (٤٦٥) ، عمدة الحافظ (٦٦٣) ، المقاصد النحوية ٤ / ١٦٦ ، المفصل (٤٥٣) والبحر ٢ / ١٥٧ ، الدر المصون ١ / ٥٣٠.

(٣) ينظر عمدة الحافظ ص ٦٦٢ البحر ٢ / ١٥٧ ، الدر المصون ١ / ٥٣٠.

(٤) ينظر البحر ٢ / ١٥٧ ، الكتاب ١ / ٢. ٣ ، اللسان : أوب ، الدر المصون ١ / ٥٣٠.

(٥) البيت ينظر في الكتاب ٢ / ٣٨٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠٧ ، وشرح المفصل ٣ / ٧٨ ، ٧٩ ، والمقرب ١ / ٢٣٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٦٣ ، وخزانة الأدب ٥ / ١٢٣ ، ١٢٦ ، ١٢٨ ، ١٢٩ ، ١٣١ ، والدرر ٢ / ٨١ ، ٦ / ١٥١ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٣٠ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٦٢ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٠٣ ، واللمع في العربية ص ١٨٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٩ ، والإنصاف ص ٤٦٤ والدر المصون ١ / ٥٣١.

(٦) رجّح المصنّف رأي الكوفيين ، ونذكر هنا ما احتج به الكوفيون ، وما ذكره أبو البركات بن الأنباري في كتاب «الإنصاف» ؛ من ردّ البصريين على كلمات الكوفيين ، مرجحا مذهب البصريين ، خلافا للمصنف ، فقال : ـ

١٢

الثالث : أن يكون معطوفا على «الشّهر الحرام» ثم بعد هذا طريقان :

__________________

ـ ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على الضمير المخفوض ، وذلك نحو قولك : «مررت بك وزيد». وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز.

أما الكوفيون فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجوز أنه قد جاء ذلك في التنزيل وكلام العرب ، قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) بالخفض ، وهي قراءة أحد القراء السبعة ـ وهو حمزة الزيات ـ وقراءة إبراهيم النخعي ، وقتادة ، ويحيى بن وثاب ، وطلحة بن مصرف والأعمش ، ورواية الأصفهانيّ ، والحلبيّ عن عبد الوارث ، وقال تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ف «ما» : في موضع خفض لأنه عطف على الضمير المخفوض في (فيهنّ) وقال تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ف «المقيمين» في موضع خفض بالعطف على الكاف في (إليك) والتقدير فيه : يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة ، يعني : من الأنبياء عليهم‌السلام ، ويجوز أيضا أن يكون عطفا على الكاف في (قبلك) والتقدير فيه : ومن قبل المقيمين الصلاة يعني : من أمتك ، وقال تعالى : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فعطف (المسجد الحرام) على الهاء من (به) وقال تعالى : وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ف «من» في موضع خفض بالعطف على الضمير المخفوض في (لكم) فدلّ على جوازه ، وقال الشاعر :

فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب

ف «الأيام» : خفض بالعطف على الكاف في «بك» والتقدير : بك وبالأيام وقال الآخر :

أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أفيها كان حتفي أم سواها

فعطف «سواها» بأم على الضمير في «فيها» والتقدير : أم في سواها وقال الآخر :

تعلّق في مثل السّواري سيوفنا

وما بينها والكعب غوط نفانف

فالكعب : مخفوض بالعطف على الضمير المخفوض في «بينها» والتقدير : وما بينها وبين الكعب غوط نفانف ، يعني : أن قومه طوال ، وأن السيف على الرجل منهم كأنه على سارية من طوله ، وبين السيف وكعب الرجل منهم غائط ـ وهو المكان المطمئن من الأرض ـ ونفانف : واسعة ، أي : بين السيف والكعب مسافة ، فعطف «الكعب» على الضمير المخفوض في «بينها». وقال الآخر :

هلّا سألت بذي الجماجم عنهم

وأبي نعيم ذي اللّواء المحرق

ف «أبي نعيم» : خفض بالعطف على الضمير المخفوض في «عنهم» ، فهذه كلها شواهد ظاهرة تدل على جوازه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إنه لا يجوز ؛ وذلك لأن الجار مع المجرور بمنزلة شيء واحد ، فإذا عطفت على الضمير المجرور ـ والضمير إذا كان مجرورا اتصل بالجار ، ولم ينفصل منه ، ولهذا لا يكون إلا متصلا ، بخلاف ضمير المرفوع والمنصوب ـ فكأنك قد عطفت الاسم على الحرف الجار ، وعطف الاسم على الحرف لا يجوز.

ومنهم من تمسك بأن قال : إنما قلنا ذلك ؛ لأن الضمير قد صار عوضا عن التنوين ، فينبغي ألّا يجوز العطف عليه ، كما لا يجوز العطف على التنوين ؛ والدليل على استوائهما أنهم يقولون : «يا غلام» فيحذفون الياء كما يحذفون التنوين ، وإنما اشتبها ؛ لأنهما على حرف واحد ، وأنهما يكملان الاسم ، وأنهما لا يفصل بينهما وبينه بالظرف ، وليس كذلك الاسم المظهر ومنهم من تمسك بأن قال : أجمعنا ـ

١٣

أحدهما : أنّ قوله : «قتال فيه» مبتدأ ، وقوله : (كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ)

__________________

على أنه لا يجوز عطف المضمر المجرور على المظهر المجرور ؛ فلا يجوز أن يقال : «مررت بزيد وبك» فكذلك ينبغي أن لا يجوز عطف المظهر المجرور على المضمر المجرور ؛ فلا يقال : «مررت بك وزيد» لأن الأسماء مشتركة في العطف ، فكما لا يجوز أن يكون معطوفا لا يجوز أن يكون معطوفا عليه ، والاعتماد من هذه الأدلة على الأول.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما احتجاجهم بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) فلا حجة لهم فيه من وجهين :

أحدهما : أن قوله (وَالْأَرْحامَ) ليس مجرورا بالعطف على الضمير المجرور وإنما هو مجرور بالقسم ، وجواب القسم قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) والوجه الثاني : أن قوله : (وَالْأَرْحامَ) مجرور بياء مقدرة غير الملفوظ بها ، وتقديره : وبالأرحام ، فحذفت لدلالة الأولى عليها ، وله شواهد كثيرة في كلامهم سنذكر طرفا منها مستوفى في آخر المسألة إن شاء الله تعالى.

وأما قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) فلا حجّة لهم فيه أيضا من وجهين : أحدهما : أنا لا نسلم أنه في موضع جر ، وإنما هو في موضع رفع بالعطف على (الله) والتقدير فيه : الله يفتيكم فيهن ويفتيكم فيهن ما يتلى عليكم ، وهو القرآن ، وهو أوجه الوجهين.

والثاني : أنا نسلّم أنه في موضع جر ، ولكن بالعطف على (النساء) من قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) لا على الضمير المجرور في (فيهن).

وأما قوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ) فلا حجة لهم فيه أيضا من وجهين :

أحدهما : أنا لا نسلم أنه في موضع جر ، وإنما هو في موضع نصب على المدح بتقدير فعل ، وتقديره : أعني المقيمين ؛ وذلك لأن العرب تنصب على المدح عند تكرر العطف والوصف ، وقد يستأنف فيرفع ، قال الله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) فرفع (الموفون) على الاستئناف ؛ فكأنه قال : وهم الموفون ، ونصب (الصابرين) على المدح ؛ فكأنه قال : اذكر الصابرين ، ثم قالت الخرنق امرأة من العرب :

لا يبعدن قومي الّذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلون بكلّ معترك

والطّيّبين معاقد الأزر

فنصبت «الطيبين» على المدح ، فكأنها قالت : أعني الطيبين ، ويروى أيضا «والطيّبون» بالرفع ، أي : وهم الطيبون ، وقال الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وذا الرّأي حين تغمّ الأمور

بذات الصّليل وذات اللّجم

فنصب «ذا الرأي» على المدح ؛ فكذلك ها هنا. وقال الآخر :

وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم

إلّا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحدا

والقائلون لمن دار نخلّيها

فرفع «القائلون» على الاستئناف ، ولك أن ترفعهما جميعا ، ولك أن تنصبهما جميعا ، ولك أن تنصب الأول وترفع الثاني ، ولك أن ترفع الأول وتنصب الثاني ، لا خلاف في ذلك بين النحويين.

والوجه الثاني : أنا نسلّم أنه في موضع جر ، ولكن بالعطف على «ما» من قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فكأنه ـ

١٤

خبر بعد خبر ، والتّقدير : إن قتالا فيه محكوم عليه بأنه كبير ، وبأنه صدّ عن سبيل الله ، وبأنّه كفر بالله.

والطريق الثاني : أن يكون قوله : (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) جملة مبتدأ وخبر وقوله : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، فهو مرفوع بالابتداء. وكذا قوله «وكفر به» والخبر محذوف لدلالة ما

__________________

ـ قال : يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين ، على أنه قد روي عن عائشة ـ عليها‌السلام ـ أنها سئلت عن هذا الموضع ، فقالت : هذا خطأ من الكاتب ، وروي عن بعض ولد عثمان أنه سئل عنه ، فقال : إن الكاتب لما كتب : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) قال : ما أكتب؟ فقيل له : اكتب والمقيمين الصلاة ، يعني : أن المملّ أعمل قوله : «اكتب» في (الْمُقِيمِينَ) على أن الكاتب يكتبها بالواو كما كتب ما قبلها ، فكتبها على لفظ المملّ.

وأما قوله تعالى : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فلا حجة لهم فيه ؛ لأن (المسجد الحرام) مجرور بالعطف على (سبيل الله) ، لا بالعطف على (به) والتقدير فيه : وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ؛ لأن إضافة الصد عنه أكثر في الاستعمال من إضافة الكفر به ؛ ألا ترى أنهم يقولون : «صددته عن المسجد» ولا يكادون يقولون : «كفرت بالمسجد».

وأما قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) فلا حجّة لكم فيه ؛ لأن (من) في موضع نصب بالعطف على (معايش) أي : جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء.

وأما قول الشاعر :

فاذهب فما بك والايّام من عجب

فلا حجة فيه أيضا ؛ لأنه مجرور على القسم ، لا بالعطف على الكاف في «بك» ، وأما قول الآخر :

أفيها كان حتفي أم سواها

فلا حجة فيه أيضا ؛ لأن «سواها» في موضع نصب على الظرف ، وليس مجرورا على العطف ؛ لأنها لا تقع إلا منصوبة على الظرف ، وقد ذكرنا ذلك في موضعه.

وأما قول الآخر :

وما بينها والكعب غوط نفانف

فلا حجة فيه أيضا ؛ لأنه ليس مجرورا على ما ذكروا ، وإنما هو مجرور على تقدير تكرير «بين» مرة أخرى ؛ فكأنه قال : وما بينها وبين الكعب ، فحذف الثانية ؛ لدلالة الأولى عليها ؛ كما تقول العرب : ما كلّ بيضاء شحمة ولا سوداء تمرة ، يريدون : «ولا كلّ سوداء» فيحذفون «كل» الثانية : لدلالة الأولى عليها ، وقال الشاعر :

أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونار توقّد باللّيل نارا

أراد «وكل نار» فاستغنى عن تكرير «كل» وهذا كثير في كلامهم ، وبهذا يبطل قول من توهّم منكم أن ياء النسب في قولهم : «رأيت التّيميّ تيم عديّ» اسم في موضع خفض ؛ لأنه أبدل منها «تيم عديّ» فخفضه على البدل ؛ لأن التقدير فيه : صاحب تيم عديّ ، فحذف «صاحب» وجر ما بعده بالإضافة ؛ لأنه في تقدير الثبات ، وهذا هو الجواب عن قول الآخر :

وأبي نعيم ذي اللّواء المحرق

ثم لو حمل ما أنشدوه من الأبيات على ما ادّعوه ، لكان من الشاذ الذي لا يقاس عليه ، والله أعلم ، فالخلاف على هذا لفظيّ صوريّ لا معنوي حقيقيّ ، فتنبّه!!

١٥

تقدّم عليه ، والتّقدير : قل : قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله كبير وكفر به كبير ونظيره : زيد منطلق وعمرو ، وتقديره : وعمرو منطلق. وطعن البصريّون في هذا فقالوا : أمّا قولكم تقدير الآية : يسألونك عن قتال في الشّهر الحرام وفي المسجد الحرام ؛ فهو ضعيف ؛ لأنّ السّؤال كان واقعا عن القتال في الشّهر الحرام ، لا عن القتال في المسجد الحرام ، وطعنوا في الوجه الأوّل بأنّه يقتضى أن يكون القتال في الشّهر الحرام كفرا بالله ، وهو خطأ بالإجماع.

الثاني : بأنّه قال بعد ذلك «وإخراج أهله منه أكبر» أي : أكبر من كلّ ما تقدّم ، فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام أكبر عند الله من الكفر ، وهو خطأ بالإجماع.

قال ابن الخطيب (١) : وللفرّاء أن يجيب عن الأوّل بأنّه : من الذي أخبركم بأنّه ما وقع السّؤال عن القتال في المسجد الحرام ، بل الظّاهر أنّه وقع ؛ لأنّ القوم كانوا مستعظمين للقتال في الشّهر الحرام في البلد الحرام ، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم ، فالظّاهر أنّهم جمعوهما في السّؤال ، وقولهم : على الوجه الأوّل يلزم أن يكون قتال في الشّهر الحرام وكفر ، فنحن نقول به لأنّ النّكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم.

وعندنا أنّ قتالا واحدا في الشّهر الحرام كفر.

وقولهم على الثّاني : يلزم أن يكون إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر.

قلنا : المراد أهل المسجد : وهم الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وأصحابه ، وإخراج الرّسول من المسجد على سبيل الإذلال لا شكّ أنه كفر ، وهو مع كونه كفرا فهو ظلم لأنّه إيذاء للإنسان من غير جرم سابق ، ولا شكّ أن الشيء الّذي يكون ظلما وكفرا أكبر ، وأقبح عند الله ممّا يكون كفرا وحده ، ولما ذكر أبو البقاء هذا القول ـ وهو أن يكون معطوفا على الشّهر الحرام ـ أي يسألونك عن الشّهر الحرام وعن المسجد الحرام.

قال أبو البقاء (٢) وضعف هذا بأنّ القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشكّوا في تعظيمه ، وإنّما سألوا عن القتال في الشّهر الحرام.

والثاني : القتال في المسجد الحرام ؛ لأنّهم لم يسألوا عن ذات الشّهر ولا عن ذات المسجد ، إنما سألوا عن القتال فيهما ؛ فأجيبوا بأنّ القتال في الشّهر الحرام كبير ، وصدّ عن سبيل الله تعالى ، فيكون [قتال] أخبر عنه بأنه كبير ، وبأنه صدّ عن سبيل الله ، وأجيبوا بأنّ القتال في المسجد الحرام وإخراج أهله أكبر من القتال فيه. وفي الجملة ، فعطفه على الشّهر الحرام متكلّف جدّا يبعد عنه نظم القرآن ، والتركيب الفصيح.

الرابع : أن يتعلّق بفعل محذوف دلّ عليه المصدر تقديره : ويصدّون عن المسجد ، كما قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الفتح : ٢٥] قاله أبو

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٢٩.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٣٢.

١٦

البقاء (١) ، وجعله جيّدا ، وهذا غير جيّد ؛ لأنه يلزم منه حذف حرف الجرّ وإبقاء عمله ، ولا يجوز ذلك إلا في صور ليس هذا منها ، على خلاف في بعضها ، ونصّ النّحويّون على أنّه ضرورة ؛ كقوله : [الطويل]

١٠٦٣ ـ إذا قيل : أيّ النّاس شرّ قبيلة

أشارت كليب بالأكفّ الأصابع (٢)

أي : إلى كليب فهذه أربعة أوجه ، أجودها الثاني.

ونقل بعضهم أنّ الواو في المسجد هي واو القسم فيكون مجرورا.

وأمّا رفعه فوجهه أنّه عطف على «وكفر» على حذف مضاف تقديره «وكفر بالمسجد» فحذفت الباء ، وأضيف «كفر» إلى المسجد ، ثمّ حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ولا يخفى ما فيه من التّكلّف.

فصل

وفي الصّدّ عن سبيل الله وجوه :

أحدها : أنّه صدّ عن الإيمان بالله ورسوله.

وثانيها : صدّ المسلمين عن الهجرة للرّسول عليه‌السلام.

وثالثها : صدّ المسلمين عام الحديبية عن العمرة.

ولقائل أن يقول : دلّت الرّوايات على أنّ هذه الآية ، نزلت قبل غزوة بدر باعثا للرّسول مستحقّا للعبادة قادرا على البعث ، وأما «المسجد الحرام» فإن عطفناه على الضّمير في «به» ؛ كان المعنى : وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منع النّاس عن الصّلاة ، والطّواف به ، فقد كفروا بما هو السّبب في فضيلته الّتي بها يتميّز سائر البقاع. وإن عطفناه على «سبيل الله» كان المعنى : وصدّ عن المسجد الحرام ، وذلك لأنّهم صدّوا الطّائفين ، والعاكفين ، والرّكّع السّجود عن المسجد الحرام.

قوله : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) عطف على «كفر» ، أو «صدّ» على حسب الخلاف المتقدّم ، وهو مصدر حذف فاعله ، وأضيف إلى مفعوله ، تقديره : «وإخراجكم أهله».

والضّمير في «أهله» و «منه» عائد على المسجد وقيل : الضّمير في «منه» عائد على سبيل الله ، والأوّل أظهر و «منه» متعلّق بالمصدر.

قوله : «أكبر» فيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر عن الثلاثة ، أعني : صدّا وكفرا ، وإخراجا كما تقدّم ، وفيه حينئذ احتمالان :

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) تقدم برقم ٣١٣.

١٧

أحدهما : أن يكون خبرا عن المجموع ، والاحتمال الآخر أن يكون خبرا عنها باعتبار كلّ واحد ، كما تقول : «زيد وبكر وعمرو أفضل من خالد» ، أي : كلّ واحد منهم على انفراده أفضل من خالد. وهذا هو الظّاهر. وإنّما أفرد الخبر ؛ لأنه أفضل من تقديره : أكبر من القتال في الشّهر الحرام. وإنّما حذف لدلالة المعنى.

الثاني من الوجهين في «أكبر» : أن يكون خبرا عن الأخير ، ويكون خبر «وصدّ» و «كفر» محذوفا لدلالة خبر الثّالث عليه تقديره : وصدّ وكفر أكبر. قال أبو البقاء (١) في هذا الوجه : ويجب أن يكون المحذوف على هذا أكبر لا «كبير» كما قدّره بعضهم ؛ لأنّ ذلك يوجب أن يكون إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر ، وليس كذلك. وفيما قاله أبو البقاء نظر ؛ لأنّ هذا القائل يقول : حذف خبر «وصدّ» و «كفر» لدلالة خبر «قتال» عليه ، أي : القتال في الشّهر الحرام كبير ، والصّدّ والكفر كبيران أيضا ، وإخراج أهل المسجد أكبر من القتال في الشّهر الحرام. ولا يلزم من ذلك أن يكون أكبر من مجموع ما تقدّم حتّى يلزم ما قاله من المحذور.

و «عند الله» متعلّق ب «أكبر» ، والعندية هنا مجاز لما عرف.

فصل في المراد بهذا الإخراج

والمراد بهذا الإخراج أنّهم أخرجوا المسلمين من المسجد ، بل من م) ة وإنما جعلهم أهلا له؛ لأنّهم القائمون بحقوق البيت كقوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) [الفتح : ٢٦] وقال تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤] فأخبر تعالى : أنّ المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء ، وحكم عليها بأنها أكبر ، أي : كلّ واحد منها أكبر من قتال في الشّهر الحرام ، وهذا تفريع على قول الزّجّاج ؛ لأن كلّ واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام ، فالكفر أعظم من القتل ، أو نقول : كلّ واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشّهر الحرام ، وهو القتال الّذي صدر عن عبد الله بن جحش ؛ لأنّه ما كان قاطعا بوقوع ذلك القتال في الشّهر الحرام ، وهؤلاء الكفّار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشّهر الحرام ؛ فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر حجما.

قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ذكروا في الفتنة قولين :

أحدهما ـ وعليه أكثر المفسّرين (٢) ـ : أنّها الكفر ، أي : الشّرك الّذي أنتم عليه أكبر من قتل ابن الحضرميّ في الشّهر الحرام.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٢.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣٠.

١٨

قال ابن الخطيب (١) : وهذا يستقيم على قول الفرّاء ، وضعيف على قول الزّجّاج ؛ لأنّه قد تقدّم ذكر ذلك ، فإنّه تعالى قال : (وَكُفْرٌ بِهِ أَكْبَرُ) فحمل الفتنة على الكفر يكون تكرارا.

والقول الثاني : أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشّبهات في قلوبهم ، وتارة بالتّعذيب كفعلهم ببلال ، وعمّار ، وصهيب.

قال محمّد بن إسحاق (٢) : لأن الفتنة عبارة عن الامتحان ، يقال : فتنت الذّهب بالنّار : إذا أدخلته فيها لتزيل غشّه قال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن : ١٥] ، أي: امتحان ؛ لأنّه إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله ، تفكّر في ولده ؛ فصار ذلك مانعا عن الإنفاق وقال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ١ ـ ٢] ، أي : لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء ، وقال : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [طه : ٤٠] وقال : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] والمراد أنهم آذوهم ، وعذبوهم لبقائهم على دينهم. وقال : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء : ١٠١] ، وقال : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) [الصافات : ١٦٢] وقال : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [آل عمران : ٧] أي : ابتغاء المحبّة في الدّين. وقال : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) [المائدة : ٤٩] وقال : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) [يونس : ٨٥] والمعنى : أن يفتنوا بها عن دينهم ، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر ؛ وقال : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) [القلم : ٥ ـ ٦] قيل : المفتون المجنون ؛ لأنّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنة وعدول عن سبيل العقلاء ، وإذا ثبت أنّ الفتنة هي المحنة ، فالفتنة أكبر من القتل ؛ لأنّ الفتنة عن الدّين تفضي إلى القتل الكبير في الدّنيا وإلى استحقاق العذاب الدّائم في الآخرة ، فصحّ أنّ الفتنة أكبر من القتل فضلا عن ذلك القتل الّذي وقع السّؤال عنه ، وهو قتل ابن الحضرميّ.

روي أنّه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكّة : إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشّهر الحرام ؛ فعيروهم بالكفر ، وإخراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقتال من مكّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام (٣).

وصرح هنا بالمفضول في قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف.

قوله : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) هذا فعل لا مصدر له ، قال الواحديّ : ما زال يفصل ولا يقال منه : فاعل ، ولا مفعول ، ومثاله في الأفعال كثير نحو «عسى» ليس له مصدر ،

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣١

١٩

ولا مضارع ، وكذلك : ذو ، وما فتئ ، وهلمّ ، وهاك وهات وتعال وتعالوا. ومعنى «لا يزالون»: نفي ، فإذا دخلت عليه «ما» كان ذلك نفيا للنّفي ، فيكون دليلا على الثّبوت الدّائم.

قوله تعالى : (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ) حتى حرف جرّ ، ومعناها يحتمل وجهين :

أحدهما : الغاية.

والثاني : التّعليل بمعنى كي ، والتّعليل أحسن ؛ لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل ، والغاية ليس فيها ذلك ولذلك لم يذكر الزّمخشريّ غير كونها للتّعليل قال : «وحتّى» معناها التّعليل كقولك : «فلان يعبد الله ، حتّى يدخل الجنّة» ، أي : يقاتلونكم كي يردّوكم». ولم يذكر ابن عطيّة غير كونها غاية قال : و «يردّوكم» نصب ب «حتّى» ؛ لأنّها غاية مجرّدة. وظاهر قوله : «منصوب بحتّى» أنه لا يضمر «أن» لكنّه لا يريد ذلك ، وإن كان بعضهم يقول بذلك. والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوبا.

و «يزالون» مضارع زال النّاقصة التي ترفع الاسم ، وتنصب الخبر ، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدّمها نفي ، أو نهي ، أو دعاء ، وقد يحذف النّافي باطّراد إذا كان الفعل مضارعا في جواب قسم ، وإلّا فسماعا ، وأحكامها في كتب النّحو ، ووزنها فعل بكسر العين ، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائيّ في مضارعها : يزيل ، وإن كان الأكثر يزال ، فأمّا زال التّامّة ، فوزنها فعل بالفتح ، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول ، ومعناها التّحوّل. و «عن دينكم» متعلق ب «يردّوكم» وقوله : (إِنِ اسْتَطاعُوا) شرط جوابه محذوف للدلالة عليه ، أي : إن استطاعوا ذلك ، فلا يزالوا يقاتلونكم ، ومن رأى جواز تقديم الجواب ، جعل «لا يزالون» جوابا مقدّما ، وقد تقدّم الرّدّ عليه بأنّه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم : «أنت ظالم إن فعلت».

قوله : (مَنْ يَرْتَدِدْ) «من» شرطيّة في محلّ رفع بالابتداء ، ولم يقرأ أحد هنا بالإدغام ، وفي المائدة [آية ٥٤] اختلفوا فيه ، فنؤخّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى.

ويرتدد يفتعل من الرّدّ وهو الرّجوع كقوله : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) [الكهف: ٦٤]. قال أبو حيّان : «وقد عدّها بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين إذ كانت عنده بمعنى صيّر ، وجعل من ذلك قوله : (فَارْتَدَّ بَصِيراً) [يوسف : ٩٦] أي : رجع» وهذا منه سهو ؛ لأنّ الخلاف إنّما هو بالنّسبة إلى كونها بمعنى صار ، أم لا ، ولذلك مثلوا بقوله : (فَارْتَدَّ بَصِيراً) فمنهم من جعلها بمعنى : «صار» ، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالا ، وإلّا فأين المفعولان هنا؟ وأمّا الذي عدّوه يتعدّى لاثنين بمعنى : «صيّر» ، فهو ردّ لا ارتدّ ، فاشتبه عليه ردّ ب «ارتدّ» وصيّر ب «صار».

٢٠