اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

بعض ، وأمّا قياسه على الباري تعالى ، فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلام الزمخشريّ ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال : وقرأ (١) الأعمش : «يغفر» بغير فاء مجزوما على البدل من «يحاسبكم» ؛ كقوله : [الطويل]

١٣٠٣ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٢)

وهذا فيه نظر ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك ؛ كما تقدّم حكايته عنه ؛ لأن البيت قد أبدل فيه من فعل الشرط ، لا من جوابه ، والآية الكريمة قد أبدل فيها من نفس الجواب ، ولكنّ الجامع بينهما كون الثاني بدلا ممّا قبله وبيانا له.

وقرأ أبو عمرو (٣) بإدغام الراء في اللام ، والباقون بإظهارها ، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلاف [عنه] ، وورش عن نافع ، والباقون (٤) بالإدغام ، وقد طعن قوم على قراءة أبي عمرو ؛ لأنّ إدغام الراء في اللام عندهم ضعيف.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : «كيف يقرأ الجازم»؟ قلت : يظهر الراء ، ويدغم الباء ، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا ، وراويه عن أبي عمرو مخطئ مرتين ؛ لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم ، والسبب في هذه الروايات قلّة ضبط الرواة ، وسبب قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النّحو» قال شهاب الدين (٥) : وهذا من أبي القاسم غير مرضيّ ؛ إذ القرّاء معتنون بهذا الشأن ؛ لأنهم تلقّوا عن شيوخهم الحرف [بعد الحرف] ، فكيف يقلّ ضبطهم؟ وهو أمر يدرك بالحسّ السمعيّ ، والمانع من إدغام الراء في اللام والنون هو تكرير الراء وقوتها ، والأقوى لا يدغم في الأضعف ، وهذا مذهب البصريّين : الخليل وسيبويه ومن تبعهما ، وأجاز ذلك الفراء والكسائيّ والرّؤاسيّ ويعقوب الحضرميّ ورأس البصريّين أبو عمرو ، وليس قوله : «إن هذه الرواية غلط عليه» بمسلّم ، ثم ذكر أبو حيان (٦) نقولا عن القراء كثيرة ، وهي منصوصة في كتبهم ، فلم أر لذكرها هنا فائدة ؛ فإنّ مجموعها ملخّص فيما ذكرته ، [وكيف] يقال : إنّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطئ مرتين ، ومن جملة رواته اليزيديّ إمام النّحو واللغة ، وكان ينازع الكسائيّ رئاسته ، ومحلّه مشهور بين أهل هذا الشّأن.

__________________

(١) انظر : الدر المصون ١ / ٦٩١ ، والتخريجات النحوية ١٤٤.

(٢) تقدم برقم ١٨٣.

(٣) انظر : السبعة ١٢١ ، إتحاف ١ / ٤٦٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٧٧ ، والدر المصون ١ / ٩١ د.

(٤) وقرأ بالإدغام هنا قالون ، وحمزة ، بخلاف عنهما ، وأبو عمرو ، والكسائي وخلف ، ووافقهم اليزيدي والأعمش انظر : إتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٦١ ، والدر المصون ١ / ٦٩١.

(٥) ينظر : الدر المصون ١ / ٣٩٢.

(٦) ينظر : الكتاب لسيبويه ٢ / ٤١٧.

٥٢١

روى طاوس عن ابن عبّاس : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الذّنب العظيم (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) على الذّنب الصّغير ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١).

قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قد بيّن بقوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أنه كامل الملك والملكوت ، وبيّن بقوله : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أنه كامل العلم والاحاطة ، ثم بيّن بقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أنه كامل القدرة ، مستول على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتّكوين والإعدام ، ومن كان موصوفا بهذه الصّفات ، يجب على كلّ عاقل أن يكون عبدا له منقادا خاضعا لأوامره ونواهيه.

قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٢٨٥)

في كيفية النّظم وجوه :

الأول : لما بيّن في الآية المتقدّمة كمال الملك والعلم والقدرة له ـ تعالى ـ ، وأنّ ذلك يوجب كمال صفة الرّبوبيّة ، أتبع ذلك ببيان كون المؤمن في نهاية الانقياد والطّاعة والخضوع لله ـ تعالى ـ ، وذلك هو كمال العبوديّة.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ لمّا قال : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وبيّن أنه لا يخفى عليه من سرّنا وجهرنا شيء ألبتّة ، ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا ؛ فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) كأنّه بفضله يقول : عبدي ، أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك ، فلا أذكر منها إلّا ما يكون مدحا لك ، حتى تعلم أنّي الكامل في العلم والقدرة ، فأنا كامل في الجود والرّحمة ، وفي إظهار الحسنات ، وفي السّتر على السّيّئات.

الثالث : أنه بدأ السّورة بمدح المتّقين (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] بيّن في آخر السّورة أنّ الّذين مدحهم في أوّل السّورة هم أمّة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله» وهذا هو المراد بقوله في أوّل السّورة : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ثم قال ههنا : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [البقرة : ٢٨٥]. وهو المراد بقوله في أوّل السّورة : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] ، ثم قال ههنا (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) وهو المراد بقوله أوّل السّورة : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] ثم

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١١٤) عن ابن عباس.

٥٢٢

حكى عنهم ههنا كيفيّة تضرّعهم في قولهم : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ...) إلى آخر السّورة ، وهو المراد بقوله أوّل السورة : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥].

فصل في بيان سبب النّزول

قال القرطبيّ (١) : سبب نزول هذه الآية : الآية الّتي قبلها ، وهو قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] فإنه لمّا نزل هذا على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأتوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم بركوا على الرّكب ، فقالوا : أي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إذ كلّفنا من الأعمال ما نطيق ؛ الصّلاة والصّيام والجهاد ، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ، بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير» فلما قرأها القوم وذلّت بها أنفسهم ، أنزل الله في إثرها (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) إلى قوله : (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما فعلوا ذلك ، نسخها الله ، فأنزل الله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) قال : نعم ، (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قال : نعم (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال : نعم (وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال : نعم أخرجه مسلم ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ (٢).

فصل

معنى قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) : أنه عرف بالدّلائل القاهرة ؛ أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشّرائع والأحكام منزّل من عند الله ـ تعالى ـ ، وليس من إلقاء الشّياطين ولا السّحر والكهانة ، بل بما ظهر من المعجزات على يد جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

وقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ) فيه احتمالان :

أحدهما : أنّه يتمّ الكلام عند قوله ـ تعالى ـ (وَالْمُؤْمِنُونَ) ، فيكون المعنى : آمن الرّسول والمؤمنون بما أنزل إليهم من ربّهم ، ثم ابتدأ [بعد] ذلك بقوله : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) والمعنى : كلّ أحد من المذكورين وهم الرّسول والمؤمنون آمن بالله.

والاحتمال الثّاني : أن يتمّ الكلام عند قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) ثم يبتدئ

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٧٥.

(٢) تقدم.

٥٢٣

(الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) ويكون المعنى : أن الرّسول آمن بكلّ ما أنزل إليه من ربّه ، وأمّا المؤمنون فإنّهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.

فالوجه الأول يشعر بأنه ـ عليه‌السلام ـ ما كان مؤمنا بربّه ، ثم صار مؤمنا به ، ويحتمل عدم الإيمان إلى وقت الاستدلال.

وعلى الوجه الثاني يشعر اللّفظ بأنّ الّذي حدث هو إيمانه بالشّرائع التي نزلت عليه ؛ كما قال ـ تعالى ـ (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] فأمّا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال ، فقد كان حاصلا منذ خلق من أوّل الأمر ، وكيف يستبعد ذلك مع أنّ عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ حين انفصل عن أمّه ، قال (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) [مريم : ٣٠] فإذا لم يبعد أن يكون عيسى رسولا من عند الله حين كان طفلا ، فكيف يستبعد أن يقال : إن محمّدا كان عارفا بربّه من أوّل [ما] خلق كامل العقل.

فصل

دلّت الآية على أنّ الرّسول آمن بما أنزل إليه من ربّه ، والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وإنما خصّ الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بذلك ؛ لأنّ الذي أنزل إليه من ربّه قد يكون كلاما متلوّا يسمعه الغير ويعرفه ، فيمكنه أن يؤمن به ، وقد يكون وحيا لا يعلمه سواه ، فيكون ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مختصّا بالإيمان به ، ولا يتمكّن غيره من الإيمان به ، فلهذا السّبب كان الرّسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مختصّا في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.

قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ) : يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه مرفوع بالفاعلية عطفا على «الرّسول» ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فيكون الوقف هنا ، ويدلّ على صحّة هذا قراءة عليّ بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ : «وآمن المؤمنون» ، فأظهر الفعل ، ويكون قوله : «كلّ آمن» جملة من مبتدأ وخبر يدلّ على أنّ جميع من تقدّم ذكره آمن بما ذكر.

والثاني : أن يكون «المؤمنون» مبتدأ ، و «كلّ» مبتدأ ثان ، و «آمن» خبر عن «كلّ» وهذا المبتدأ وخبره خبر الأوّل ؛ وعلى هذا فلا بدّ من رابط بين هذه الجملة وبين ما أخبر بها عنه ، وهو محذوف ، تقديره : «كلّ منهم» وهو كقولهم : «السّمن منوان بدرهم» ، تقديره : منوان منه ، قال الزمخشريّ : «والمؤمنون إن عطف على الرسول ، كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في «كلّ» راجعا إلى «الرّسول» ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ و «المؤمنون» أي : كلّهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من المذكورين. ووقف عليه ، وإن كان مبتدأ كان الضمير للمؤمنين».

٥٢٤

فإن قيل : هل يجوز أن يكون «المؤمنون» مبتدأ ، و «كلّ» تأكيد له ، و «آمن» [خبر هذا] المبتدأ؟ فالجواب : أنّ ذلك لا يجوز ؛ لأنهم نصّوا على أنّ «كلّا» وأخواتها لا تقع تأكيدا للمعارف ، إلا مضافة لفظا لضمير الأول ، ولذلك ردّوا قول من قال : إنّ كلّا في قراءة من قرأ : إنا كلا فيها [غافر : ٤٨] تأكيد لاسم «إنّ» وقرأ (١) الأخوان هنا «وكتابه» بالإفراد ، والباقون بالجمع ، وفي سورة التحريم [آية ١٢] قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم بالجمع ، والباقون بالإفراد ؛ فتلخّص من ذلك أنّ الأخوين يقرآن بالإفراد في الموضعين ، [وأنّ أبا عمرو وحفصا يقرآن بالجمع في الموضعين] ، وأنّ نافعا وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصم قرءوا بالجمع هنا ، وبالإفراد في التحريم.

فأمّا الإفراد ، فإنه يراد به الجنس ، لا كتاب واحد بعينه ، وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «الكتاب أكثر من الكتب» قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ، والجنسية قائمة في وحدات الجنس كلّها ، لم يخرج منه شيء ، وأمّا الجمع ، فلا يدخل تحته إلّا ما فيه الجنسية من الجموع. قال أبو حيان : «وليس كما ذكر ؛ لأنّ الجمع متى أضيف ، أو دخلته الألف واللام [الجنسية] ، صار عامّا ، ودلالة العامّ دلالة على كلّ فرد فرد ، فلو قال : «أعتقت عبيدي» ، لشمل ذلك كلّ عبد له ، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد ، سواء كانت فيه الألف واللام أو الإضافة ، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد ، إلّا بقرينة لفظيّة ، كأن يستثنى منه أو يوصف بالجمع ؛ نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ـ ٣] «أهلك النّاس الدّينار الصّفر والدّرهم البيض» أو قرينة معنوية ؛ نحو : «نيّة المؤمن أبلغ من عمله» وأقصى حاله : أن يكون مثل الجمع العامّ ، إذا أريد به العموم». قال شهاب الدّين (٢) : للناس خلاف في الجمع المحلّى بأل أو المضاف : هل عمومه بالنسبة إلى مراتب الجموع ، أم إلى أعمّ من ذلك ، وتحقيقه في علم الأصول.

وقال الفارسيّ : هذا الإفراد ليس كإفراد المصادر ، وإن أريد بها الكثير ؛ كقوله تعالى : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) [الفرقان : ٢٤] ولكنه كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، نحو : كثر الدّينار والدّرهم ، ومجيئها بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، ومن الإضافة : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] وفي الحديث : «منعت العراق درهمها وقفيزها» (٣) يراد به الكثير ، كما يراد بما فيه لام التعريف. قال أبو حيان : «انتهى

__________________

(١) يعني حمزة والكسائي ، وانظر : السبعة ١٩٥ ، ١٩٦ ، والكشف ١ / ٣٢٣ ، والحجة ٢ / ٤٥٥ ، وحجة القراءات ١٥٢ ، ١٥٣ ، والعنوان ٧٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٣٨ ، وشرح شعلة ٣٠٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٦ ، وإتحاف ١ / ٤٦٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ١ / ٦٩٣.

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٢٠) كتاب الفتن : باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات (٣٣ / ٢٨٩٦) وأبو داود ـ (١ / ١٦٦) كتاب الخراج باب إيقاف أرض السواد وأرض العنوة (٣٥٣٥) وأحمد (٢ / ٢٦٢) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٦٦٢) عن أبي هريرة.

٥٢٥

ملخصا ، ومعناه أنّ المفرد المحلّى بالألف واللام يعمّ أكثر من المفرد المضاف».

قال شهاب الدين : وليس في كلامه ما يدلّ على ذلك ألبتة ، إنما فيه أنّ مجيئها في الكلام معرّفة بأل أكثر من مجيئها مضافة ، وليس فيه تعرّض لكثرة عموم ولا قلّته.

وقيل : المراد بالكتاب هنا القرآن ؛ فيكون المراد الإفراد الحقيقيّ. وأمّا الجمع ، فلإرادة كلّ كتاب ؛ إذ لا فرق بين كتاب وكتاب ، وأيضا ؛ فإنّ فيه مناسبة لما قبله وما بعده من الجمع.

ومن قرأ بالتّوحيد في التحريم ، فإنما أراد به الإنجيل ؛ كإرادة القرآن هنا ، ويجوز أن يراد به أيضا الجنس ، وقد حمل على لفظ «كلّ» في قوله : «آمن» فأفرد الضمير ، وعلى معناه ، فجمع في قوله : (وَقالُوا سَمِعْنا) ، قال الزمخشريّ : ووحّد ضمير «كلّ» في «آمن» على معنى : كلّ واحد منهم آمن ، وكان يجوز أن يجمع ؛ كقوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧].

وقرأ يحيى (١) بن يعمر ـ ورويت عن نافع ـ «وكتبه ورسله» بإسكان العين فيهما ، وروي عن (٢) الحسن وأبي عمرو تسكين سين «رسله».

فصل

دلّت هذه الآية الكريمة على أنّ معرفة هذه المراتب الأربع من ضرورات الإيمان :

فالمرتبة الأولى : هي الإيمان بالله ـ سبحانه ـ بأنّه الصّانع القادر العالم بجميع المعلومات ، الغنيّ عن كلّ الحاجات.

والمرتبة الثانية : الإيمان بالملائكة ؛ لأنّه ـ سبحانه ـ إنّما يوحي إلى الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ بواسطة الملائكة ، قال : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [النحل : ٢] ، وقال : (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١] وقال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤] ، وقال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥] ، وإذا ثبت أنّ وحي الله إنّما يصل إلى البشر بواسطة الملائكة ، فالملائكة واسطة بين الله وبين البشر ؛ فلهذا السّبب ذكر الملائكة في المرتبة الثانية ، ولهذا قال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨].

والمرتبة الثالثة : الكتب ؛ وهو الوحي الذي يتلقّاه الملك من الله ـ تعالى ـ ، ويوصله إلى البشر ، فلمّا كان الوحي هو الّذي يتلقّاه الملك من الله ؛ فلهذا السّبب جعل في المرتبة الثالثة.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٩٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٧٩ ، والدر المصون ١ / ٦٩٤.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧٩ ، والدر المصون ١ / ٦٩٤. ـ

٥٢٦

المرتبة الرابعة : الرسل ؛ وهم الّذين يأخذون الوحي من الملائكة ، فيكونون متأخّرين عن الكتب ؛ فلهذا جعلوا في المرتبة الرابعة.

قوله : «لا نفرّق» هذه الجملة منصوبة بقول محذوف ، تقديره : «يقولون : لا نفرّق» ، ويجوز أن يكون التقدير : «يقول» يعني يجوز أن يراعى لفظ «كلّ» تارة ، ومعناها أخرى في ذلك القول المقدّر ، فمن قدّر «يقولون» ، راعى معناها ومن قدّر «يقول» ، راعى لفظها ، وهذا القول المضمر في محلّ نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في محلّ رفع ؛ لأنه خبر بعد خبر ، قاله الحوفيّ.

والعامّة على «لا نفرّق» بنون الجمع.

وقرأ ابن جبير (١) وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب ـ ورويت عن أبي عمرو أيضا ـ «لا يفرّق» بياء الغيبة ؛ حملا على لفظ «كلّ» ، وروى هارون أنّ في مصحف عبد الله (٢) «لا يفرّقون» بالجمع ؛ حملا على معنى «كلّ» ؛ وعلى هاتين القراءتين ، فلا حاجة إلى إضمار قول ، بل الجملة المنفية بنفسها : إمّا في محلّ نصب على الحال ، وإمّا في محلّ رفع خبرا ثانيا ؛ كما تقدّم في ذلك القول المضمر.

قوله : «بين أحد» متعلّق بالتفريق ، وأضيف «بين» إلى أحد ، وهو مفرد ، وإن كان يقتضي إضافته إلى متعدد ؛ نحو : «بين الزّيدين» أو «بين زيد وعمرو» ، ولا يجوز «بين زيد» ، ويسكت ـ إمّا لأنّ «أحدا» في معنى العموم ، وهو «أحد» الذي لا يستعمل إلا في الجحد ، ويراد به العموم ؛ فكأنّه قيل : لا نفرّق بين الجميع من الرسل ، قال الزمخشريّ : كقوله : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] ، ولذلك دخل عليه «بين» وقال الواحدي : و «بين» تقتضي شيئين فصاعدا ، وإنما جاز ذلك مع «أحد» ، وهو واحد في اللفظ ؛ لأنّ «أحدا» يجوز أن يؤدّى عن الجميع ؛ قال الله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) وفي الحديث : «ما أحلّت الغنائم لأحد سود الرّءوس غيركم» ، يعني : فوصفه بالجمع ؛ لأنّ المراد به جمع ، قال : وإنّما جاز ذلك ؛ لأنّ «أحدا» ليس كرجل يجوز أن يثنّى ويجمع ، وقولك : «ما يفعل هذا أحد» ، تريد ما يفعله الناس كلّهم ، فلما كان «أحد» يؤدّى عن الجميع ، جاز أن يستعمل معه لفظ «بين» ، وإن كان لا يجوز أن تقول : «لا نفرّق بين رجل منهم».

قال شهاب الدين : وقد ردّ بعضهم هذا التأويل ؛ فقال : وقيل إنّ «أحدا» بمعنى «جميع» ، والتقدير : «بين جميع رسله» ويبعد عندي هذا التقدير ، لأنه لا ينافي كونهم مفرّقين بين بعض الرسل ، والمقصود بالنفي هو هذا ؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٩٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٨٠ ، والدر المصون ١ / ٦٩٤.

(٢) انظر : السابق.

٥٢٧

يفرّقون بين كلّ الرسل ، بل البعض ، وهو محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ فثبت أنّ التأويل الذي ذكروه باطل ، بل معنى الآية : لا نفرّق بين أحد من رسله ، وبين غيره في النبوّة.

فصل

قال شهاب الدين : وهذا وإن كان في نفسه صحيحا ، إلا أنّ القائلين بكون «أحد» بمعنى «جميع» ، وإنما يريدون في العموم المصحّح لإضافة «بين» إليه ؛ ولذلك ينظّرونه بقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) [الحاقة : ٤٧] ، وبقوله : [الرجز]

١٣٠٤ ـ إذا أمور النّاس ديكت دوكا

لا يرهبون أحدا رأوكا (١)

فقال : «رأوك» ؛ اعتبارا بمعنى الجميع المفهوم من «أحد».

وإمّا لأن ثمّ معطوفا محذوفا ؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : «لا نفرّق بين أحد من رسله ، وبين أحد» وعلى هذا : فأحد هنا ليس الملازم للجحد ، ولا همزته أصلية ، بل هو «أحد» الذي بمعنى واحد ، وهمزته بدل من الواو ، وحذف المعطوف كثير جدّا ، نحو : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي : والبرد ، وقوله : [الطويل]

١٣٠٥ ـ فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلّا ليال قلائل (٢)

أي : بين الخير وبيني.

و «من رسله» في محلّ جرّ ؛ لأنه صفة ل «أحد» ، و «قالوا» عطف على «آمن» ، وقد تقدّم أنه حمل على معنى «كلّ».

فصل

قال الواحديّ (٣) ـ رحمه‌الله ـ : قوله : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي : سمعنا قوله ، وأطعنا أمره ، إلّا أنه حذف المفعول.

قال ابن الخطيب (٤) : وحذف المفعول (٥) في هذا الباب ظاهرا وتقديرا ، أولى ؛ لأنّك إذا جعلت التّقدير : سمعنا قوله وأطعنا أمره ، أفاد أن ههنا قول آخر غير قوله ، وأمر آخر يطاع سوى أمره ، فأمّا إذا لم يقدّر فيه ذلك المفعول ، أفاد أنّه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلّا قوله ، وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلّا أمره ، فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى.

__________________

(١) البيت لرؤبة ينظر القرطبي ٣ / ٤٢٩ ، البحر ٢ / ٣٨٠ ، الدر المصون ١ / ٦٩٤.

(٢) تقدم برقم ٨١٣.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١١٨.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) في ب : المعقولات.

٥٢٨

فصل

لما وصفهم بقوله : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، علمنا أنه ليس المراد منه السّماع الظّاهر ؛ لأن ذلك لا يفيد المدح ، بل المراد : عقلناه وعلمنا صحّته ، وتيقّنا أنّ كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إلينا ، فهو حقّ صحيح واجب قبوله وسمعه ، والسّمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن ؛ قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧] ، المعنى : لمن سمع الذّكرى بفهم حاضر ، وعكسه قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) [لقمان : ٧] ، وقولهم بعد ذلك : «وأطعنا» فدلّ على أنّهم ما أخلّوا بشيء من التّكاليف ، فجمع تعالى بهذين اللّفظين كلّ ما يتعلّق بأحوال التّكاليف علما وعملا.

قوله : «غفرانك» منصوب : إمّا على المصدرية ، قال الزمخشريّ : «منصوب بإضمار فعله ، يقال : «غفرانك ، لا كفرانك» أي : نستغفرك ولا نكفرك» ، فقدّره جملة خبرية ، وهذا ليس مذهب سيبويه (١) ـ رحمه‌الله ـ ، إنما مذهبه تقدير ذلك بجملة طلبية ؛ كأنه قيل : «اغفر غفرانك» ويستغنى بالمصدر عن الفعل نحو : «سقيا ورعيا» ونقل ابن عطيّة هذا قولا عن الزّجّاج (٢) ، والظاهر أنّ هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها ؛ لنيابتها عنه ، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور (٣) ، فعدّها تارة مع ما يلزم فيه إضمار الناصب ؛ نحو : «سبحان الله ، [وريحانه»] ، و «غفرانك لا كفرانك» ، وتارة مع ما يجوز إظهار عامله ، والطلب في هذا الباب أكثر ، وقد تقدّم في أول الفاتحة نحو من هذا.

وقال الفرّاء : هو مصدر وقع موقع الأمر ، فنصب وهو أولى من قول من يقول : «نسألك غفرانك» لأن هذه الصّيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ، فقد كانت أدلّ عليه ؛ ونظيره : حمدا وشكرا ، أي : أحمد حمدا وأشكر شكرا.

فإن قيل : إن القوم لما قبلوا التّكاليف ، وعملوا بها ، فأيّ حاجة لهم إلى طلب المغفرة؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أنّهم وإن بذلوا جهدهم في أداء التّكاليف ، فهم خائفون من صدور تقصير ، فلمّا جوّزوا ذلك ، طلبوا المغفرة للخوف من التّقصير.

الثاني : قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «[إنّه ليغان] على قلبي ، حتّى أنّي أستغفر الله في اليوم واللّيلة سبعين مرّة» (٤) ، وذكروا لهذا الحديث تأويلات ؛ من جملتها : أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يترقّى في

__________________

(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١٦٤.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٣٧٠.

(٣) ينظر : شرح المجمل ١ / ٤٠٧.

(٤) أخرجه مسلم كتاب الذكر ٤١ وأبو داود (١٥١٥) وأحمد (٤ / ٢١١) والبيهقي (٧ / ٥٢) والطبراني في «الكبير» (١ / ٢٨٠) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ٤٣) والبغوي في تفسيره (٦ / ١٨٠).

٥٢٩

جملة العبوديّة ، فكان كلما ترقّى عن مقام إلى مقام أعلى من الأوّل ، رأى الأوّل حقيرا ، فيستغفر الله منه ؛ فكذلك طلب الغفران في هذه الآية.

والمصير : اسم مصدر من صار يصير ، أي : رجع ، وقد تقدّم في قوله : (الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢] أنّ في المفعل من الفعل المعتلّ [العين] بالياء ثلاثة مذاهب ، وهي : جريانه مجرى الصحيح ، فيبنى اسم المصدر منه على مفعل بالفتح ، والزمان والمكان بالكسر ، نحو : ضرب يضرب مضربا ، أو يكسر مطلقا ، أو يقتصر فيه على السّماع ، فلا يتعدّى ، وهو أعدلها ، ويطلق المصير على المعى ، ويجمع على مصران ، كرغيف ورغفان ، ويجمع مصران على مصارين.

فصل

في قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فائدتان :

إحداهما : أنّهم كما أقرّوا بالمبدإ ؛ فكذلك أقرّوا بالمعاد ؛ لأن الإيمان بالمبدإ أصل الإيمان بالمعاد.

والثانية : أن العبد متى علم أنّه لا بدّ من المصير إليه ، والذهاب إلى حيث لا حكم إلّا حكم الله ـ تعالى ـ ، ولا يستطيع أحد [أن] يشفع إلّا بإذن الله ، كان إخلاصه في الطّاعات أتمّ ، واحترازه عن السّيّئات أكمل.

قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٨٦)

قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) : «وسعها» مفعول ثان ، وقال ابن عطية : «يكلّف يتعدّى إلى مفعولين ، أحدهما محذوف ، تقديره : عبادة أو شيئا». قال أبو حيان : «إن عنى أنّ أصله كذا ، فهو صحيح ؛ لأنّ قوله : (إِلَّا وُسْعَها) استثناء مفرّغ من المفعول الثاني ، وإن عنى أنّه محذوف في الصناعة ، فليس كذلك ، بل الثاني هو «وسعها» ؛ نحو : «ما أعطيت زيدا إلّا درهما» ، و «ما ضربت إلّا زيدا» هذا في الصناعة هو المفعول ، وإن كان أصله : ما أعطيت زيدا شيئا إلّا درهما» ، والوسع : ما يسع الإنسان ، ولا يضيق عليه ، ولا يخرج منه.

قال الفرّاء : هو اسم كالوجد والجهد.

وقال بعضهم : الوسع هو دون المجهود في المشقّة ، وهو ما يتّسع له قدرة الإنسان.

٥٣٠

وقرأ ابن أبي (١) عبلة : «إلا وسعها» جعله فعلا ماضيا ، وخرّجوا هذه القراءة على أنّ الفعل فيها صلة لموصول محذوف تقديره : «إلّا ما وسعها» وهذا الموصول هو المفعول الثاني ، كما كان «وسعها» كذلك في قراءة العامّة ، وهذا لا يجوز عند البصريّين ، بل عند الكوفيّين ، على أنّ إضمار مثل هذا الموصول ضعيف جدّا ؛ إذ لا دلالة عليه ؛ وهذا بخلاف قول الآخر حيث قال : [الخفيف]

١٣٠٦ ـ ما الّذي دأبه احتياط وحزم

وهواه أطاع يستويان (٢)

وقال حسّان أيضا : [الوافر]

١٣٠٧ ـ أمن يهجو رسول الله منكم

وينصره ويمدحه سواء (٣)

وقد تقدّم تحقيق هذا ، وهل لهذه الجملة محلّ من الإعراب ، أم لا؟ الظاهر الثاني ؛ لأنها سيقت للإخبار بذلك ، وقيل : بل محلّها نصب ؛ عطفا على «سمعنا» و «أطعنا» ، أي : وقالوا أيضا : لا يكلّف الله نفسا ، وقد خرّجت هذه القراءة على وجه آخر ؛ وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفا لفهم المعنى ، وتجعل هذه الجملة الفعليّة في محلّ نصب لهذا المفعول ، والتقدير : لا يكلّف الله نفسا شيئا إلا وسعها. قال ابن عطية : وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوّز ؛ لأنه مقلوب ، وكان يجوز وجه اللفظ : إلا وسعته ؛ كما قال : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [طه : ٩٨] ، ولكن يجيء هذا من باب «أدخلت القلنسوة في رأسي».

فصل في كيفيّة النّظم

إن قلنا إنّه من كلام المؤمنين ، فإنّهم لمّا قالوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فكأنّهم قالوا : كيف نسمع ولا نطيع ، وهو لا يكلّفنا إلّا ما في وسعنا وطاقتنا بحكم الرّحمة الإلهيّة.

وإن قلنا : إنه من كلام الله ـ تبارك وتعالى ـ ، فإنّهم لمّا قالوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ثم قالوا بعده : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) ، طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التّقصير على سبيل الغفلة [والسّهو ؛ لأنّهم لمّا سمعوا وأطاعوا ، لم يتعمّدوا التّقصير ، فطلبوا المغفرة لما يقع منهم على سبيل الغفلة](٤) ، فلا جرم خفّف الله عنهم ، وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) والتّكليف : هو إلزام ما فيه كلفة ومشقّة ، يقال : كلّفته فتكلّف.

فصل في بيان مسألة تكليف ما لا يطاق

استدلّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة ونظائرها ؛ كقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

__________________

(١) انظر : الكشاف ١ / ٣٣٢ ، والمحرر الوجيز ١ / ٣٩٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٨١ ، والدر المصون ١ / ٦٩٦.

(٢) تقدم برقم ٨٦٣.

(٣) تقدم برقم ٨٦٧.

(٤) سقط في ب.

٥٣١

حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] ، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [النساء : ٢٨] على أنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق ، وإذا ثبت هذا فههنا أصلان :

الأول : أن العبد موجد لأفعال نفسه ؛ لأنه لو كان موجدها هو الله تعالى ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفا بما لا يطاق ، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ، ولا قدرة للعبد ألبتّة على فعله ولا تركه ؛ أمّا أنّه لا قدرة له على الفعل ؛ فلأنّ ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى ، والموجود لا يوجد ثانيا ، وأمّا أنّه لا قدرة للعبد على الدّفع ، فلأنّ قدرته أضعف من قدرة الله تعالى ، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى ، وإذا لم يخلق الله الفعل ، استحال أن يكون للعبد قدرة على تحصيل الفعل ؛ فثبت أنّه لو كان موجد فعل العبد هو الله ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفا بما لا يطاق.

الثاني : أن الاستطاعة قبل الفعل ، وإلّا لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادرا على الإيمان ، فكان ذلك تكليفا بما لا يطاق.

وأجيبوا : بأنّ الدّلائل العقليّة دلّت على وقوع هذا التّكليف ، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية ، وذلك من وجوه :

أحدها : أنّ من مات على الكفر ، تبيّنّا بموته على الكفر أنّ الله تعالى كان في الأزل عالما بأنّه يموت على الكفر ، ولا يؤمن أصلا ، فكان العلم بعدم الإيمان موجودا ، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان ، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفا بالجمع بين النّقيضين ، وهذه الحجّة كما جرت في العلم ، فتجري أيضا في الجبر.

وثانيها أيضا : أن صدور الفعل عند العبد يتوقّف على الدّاعي ، وتلك الدّاعية مخلوقة لله تعالى ، ومتى كان الأمر كذلك ، لزم تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ قدرة العبد لمّا كانت صالحة للفعل والترك ، فلو ترجّح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجّح ، لزم وقوع الممكن من غير مرجّح ، وذلك نفي للصّانع.

وإنما قلنا : إن تلك الدّاعية من الله تعالى ؛ لأنّها لو كانت من العبد ، لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التّسلسل ، وإنما قلنا : إنه متى كان الأمر كذلك ، لزم الجبر ، لأنّ عند حصول الدّاعية المرجّحة لأحد الطّرفين ، صار الطّرف الآخر مرجوحا ، والمرجوح ممتنع الوقوع ، وإذا كان المرجوح ممتنعا ، كان الرّاجح واجبا ضرورة أنّه لا خروج عن النّقيضين ؛ فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعا وهو مكلّف به ، فلزم تكليف ما لا يطاق.

وثالثها : أنه تعالى كلّف «أبا لهب» بالإيمان ، والإيمان تصديق الله في كلّ ما أخبر عنه ، ومن جملة ما أخبر عنه أنه لا يؤمن ، فقد صار «أبو لهب» مكلّفا بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن ، وذلك تكليف ما لا يطاق.

٥٣٢

ورابعها : أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله ؛ لأن من حرّك أصبعه ، لم يعرف عدد الأحيان التي حرّك أصبعه فيها ، ولم يخطر بباله أنه حرّك أصبعه في بعض الأوقات ، وسكن في بعضها وأنّه أين تحرّك وأين سكن ، وإذا لم يكن عالما بتفاصيل فعله ، لم يكن موجدا لها ، وإذا لم يكن موجدا ، لزم تكليف ما لا يطاق.

فصل في تأويل هذه الآية

اختلفوا في تأويل هذه الآية :

فقال ابن عباس (١) وعطاء وأكثر المفسّرين : أراد به حديث النّفس المذكور في قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ).

وروي عن ابن عباس (٢) ؛ أنه قال : هم المؤمنون خاصّة ، وسّع الله عليهم أمر دينهم ، ولم يكلّفهم فيه إلّا ما يطيقونه ؛ كقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨].

قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) هذه الجملة لا محلّ لها ؛ لاستئنافها ، وهي كالتفسير لما قبلها ؛ لأنّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها ، واحتمالها ما حصّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [لا] تسعه ، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنى ، أم لا؟ فقال بعضهم : نعم ، وفرّق بأنّ الكسب أعمّ ، إذ يقال : «كسب» لنفسه ولغيره ، و «اكتسب» أخصّ ؛ إذ لا يقال : «اكتسب لغيره» ؛ وأنشد قول الحطيئة : [البسيط]

١٣٠٨ ـ ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة

 .......... (٣)

ويقال : هو كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله.

ويقال الزمخشريّ : «فإن قلت : لم خصّ الخير بالكسب ، والشرّ بالاكتساب؟ قلت : في الاكتساب اعتمال ، ولمّا كان الشرّ ممّا تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وآجد ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه ، ولمّا لم تكن كذلك في باب الخير ، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال».

وقال ابن عطيّة : وكرّر فعل الكسب ، فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام ؛ كقوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ) [الطارق : ١٧] ، قال شهاب الدين : «والذي يظهر لي في هذا : أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلّف ؛ إذ كاسبها على جادّة أمر الله تعالى ،

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٧٤.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) صدر بيت وعجزه :

فاغفر عليك سلام الله يا عمر

ينظر ديوانه (٢٠٨) ، خزانة الأدب ٣ / ٢٩٤ ، الدر المصون ١ / ٦٩٦.

٥٣٣

ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة ؛ إذ كاسبها يتكلّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ، ويتجاوز إليها ؛ فحسن في الآية مجيء التصريفين ؛ إحرزا لهذا المعنى».

وقال آخرون : «افتعل» يدلّ على شدّة الكلفة ، وفعل السّيّئة شديد لما يئول إليه.

وقال الواحديّ (١) : «الصّحيح عند أهل اللغة : أنّ الكسب والاكتساب واحد ، لا فرق بينهما.

وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد ؛ قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : ٣٨]. وقال تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤] وقال تعالى : (بَلى) ما (كَسَبَ سَيِّئَةً) [البقرة : ٨١] ، وقال تعالى : (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) [الأحزاب : ٥٨] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشرّ».

قال ذو الرّمّة : [البسيط]

١٣٠٩ ـ ..........

ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب (٢)

وإنما أتى في الكسب باللام ، وفي الاكتساب ب «على» ؛ لأنّ اللام تقتضي الملك ، والخير يحبّ ويسر به ، فجيء معه بما يقتضي الملك ، ولمّا كان الشرّ يحذر ، وهو ثقل ووزر على صاحبه جيء معه ب «على» المقتضية لاستعلائه عليه.

وقال بعضهم : «فيه إيذان أنّ أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرّما من الله على عبده ؛ حتّى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به ؛ لأنه من كسبه في الجملة ، بخلاف العقوبة ؛ فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدّ فيها واجتهد» ، وهذا مبنيّ على القول بالفرق بين البنائين ، وهو الأظهر.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجت المعتزلة بهذه الآية على أنّ فعل العبد بإيجاده ؛ قالوا : لأنّ الآية صريحة في إضافة خيره وشرّه إليه ، ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى ، لبطلت هذه الإضافة ، ويجري صدور أفعاله مجرى لونه ، وطوله ، وشكله ، وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتّة.

قال القاضي (٣) : لو كان تعالى خالقا أفعالهم ، فما فائدة التّكليف. والكلام فيه معلوم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٢٣.

(٢) عجز بيت وصدره :

ومطعم الصيد هبّال لبغيته

ينظر ديوانه (٩٩) ، اللسان : هبل ، الدر المصون ١ / ٦٩٧.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٢٤.

٥٣٤

فصل

احتجوا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة ؛ لأنّه ـ تعالى ـ أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع ، فبيّن أن لها ثواب ما كسبت ، وعليها عقاب (١) ما اكتسبت ، وهذا صريح في اجتماع هذين الاستحقاقين ، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر.

قال الجبّائي (٢) : ظاهر الآية وإن دلّ على الإطلاق ، إلّا أنّه مشروط ، والتّقدير : لها ما كسبت من ثواب العمل الصّالح إذا لم يبطله ، وعليها ما اكتسبت من العقاب إذا لم يكفّره بالتّوبة ، وإنّما صرنا إلى إضمار هذا الشّرط ، لمّا ثبت أن الثّواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة ، والجمع بينهما محال في العقول ، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محال.

فصل

تمسّك الفقهاء بهذه الآية في أنّ الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار ؛ لأن اللام في قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) تدلّ على ثبوت الاختصاص ، ويؤكّد ذلك قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «كلّ امرئ أحقّ بكسبه من والده وولده وسائر النّاس أجمعين» (٣) ، وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة :

منها : أن المضمونات لا تملك إلّا بأداء الضّمان (٤) ؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائم.

ومنها : إذا غصب ساجة فأدرجها في بنائه ، أو حنطة فطحنها ، لا يزول الملك.

ومنها : أن القطع في السّرقة لا يمنع وجوب الضّمان ؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائم ، وهو قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) ويجب ردّ المسروق إن كان باقيا.

__________________

(١) في ب : عذاب.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٢٤.

(٣) تقدم.

(٤) الضمان ، والحمالة ، والكفالة : ألفاظ مترادفة ، معناها لغة : الحفظ ، ويقال لها : إذانة ، وضمانة ، وقبالة ، وزعامة. قال الله تعالى : وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ، وفي مختار الصحاح : القبيل الكفيل. وقول العرب : هو ضمين وحميل وأذين بكذا بمعنى : حافظ له ، وقال عزوجل : وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا وتطلق الزعامة على السيادة ، فكأن الضامن لمّا تكفل بالمضمون ، صار له عليه سيادة ، وتطلق الإذانة كالإذان والإذن على الإعلام وفي عرف الفقهاء : هو التزام مكلف غير سفيه دينا على غيره ، أو طلبه من عليه الحق لمن هو له بما يدلّ عليه.

ينظر : تحرير التنبيه ٢٢٧ ، مختار الصحاح ٣٨٤ ، ولسان العرب ٤ / ٢٦١٠ ، شرح فتح القدير ٧ / ١٦٣ ، المحلي على المنهاج ٢ / ٣٢٣ ، مواهب الجليل ٥ / ٩٦ ، الإقناع ٢ / ٣٧ ، كشاف القناع ٣ / ٣٦٢ أسهل المدارك ٣ / ١٩.

٥٣٥

قوله : «لا تؤاخذنا» يقرأ (١) بالهمزة ، وهو من الأخذ بالذّنب ، ويقرأ بالواو ، ويحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون من الأخذ أيضا ، وإنما أبدلت الهمزة واوا ؛ لفتحها وانضمام ما قبلها ، وهو تخفيف قياسيّ ، ويحتمل أن يكون من : واخذه بالواو ، قاله أبو البقاء (٢). وجاء هنا بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحد ؛ لأنّ المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ؛ فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه ، ويأخذ به على نفسه.

قال ابن الخطيب (٣) : وعندي فيه وجه آخر ، وهو أنّ الله تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة ، فالمذنب كأنّه يأخذ ربّه بالمطالبة بالعفو والكرم ، فإنّه لا يجد من يخلّصه من عذابه إلّا هو ، فلهذا يتمسّك العبد عند الخوف منه به ، فلمّا كان كلّ واحد منهما يأخذ الآخر ، عبّر عنه بلفظ المؤاخذة ، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت.

قوله : (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا).

في النّسيان وجهان :

الأول : أنّ المراد النّسيان الذي هو ضدّ الذّكر.

فإن قيل : أليس فعل النّاسي في محلّ العفو بحكم دليل العقل ؛ حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق ، وبدليل السّمع ؛ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه» (٤) وإن كان كذلك ، فما معنى طلب العفو عنه؟

فالجواب من وجوه :

الأول : أن النّسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ، ومنه ما لا يعذر ؛ ألا ترى أنّ من رأى في ثوبه نجاسة ، فأخّر إزالتها عنه إلى أن نسي فصلّى وهي على ثوبه ، عدّ مقصّرا ؛ إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالتها ، وأمّا إذا لم ير في ثوبه نجاسة ، فإنه يعذر فيه ، ومن رمى صيدا فأصاب إنسانا ، فقد يكون بحيث لا يعلم الرّامي أنه يصيب ذلك الصّيد أو غيره ، فإذا رمى ولم يحترز ، كان ملوما ، وأمّا إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ، ثم رمى فأصاب إنسانا ؛ كان ههنا معذورا ، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدّرس والتّكرار ، حتى نسي القرآن يكون ملوما ، وأمّا إذا واظب على القراءة ونسي القرآن ، فههنا يكون معذورا ؛ فثبت أن النّسيان على قسمين : منه ما يعذر فيه ، ومنه ما لا يعذر فيه ، وهو ما إذا ترك التّحفّظ ،

__________________

(١) أبدل ورش من طريقيه ، وأبو جعفر همز «تؤاخذنا» واوا مفتوحة.

انظر : إتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٦٢ ، والدر المصون ١ / ٦٩٧.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢٢.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٢٥.

(٤) تقدم.

٥٣٦

وأعرض عن أسباب التذكّر ، فهذا يصحّ طلب غفرانه بالدّعاء.

الثاني : أن هذا دعاء على سبيل التّقدير ؛ لأن هؤلاء الّذين ذكروا هذا الدّعاء كانوا متّقين لله حقّ تقاته ، فلم يكن يصدر عنهم ما لا ينبغي إلّا على وجه النّسيان والخطأ ، فكان وصفهم بذلك إشعارا ببراءة ساحتهم عمّا يؤاخذون به ؛ كأنه قيل : إذا كان النّسيان ممّا تجوز المؤاخذة به ، فلا تؤاخذنا به.

الثالث : أنّ المقصود من هذا الدّعاء إظهار التّضرّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل ؛ لأن الدّاعي كثيرا ما يدعو بما يقطع بأنّ الله تعالى يفعله ، سواء دعا أو لم يدع ؛ قال : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢] ، وقال : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] ، وقالت الملائكة : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [غافر : ٧] فكذا ههنا.

الرابع : أن مؤاخذة النّاسي ممتنعة عقلا ، لأنّ الإنسان إذا علم أنه بعد النّسيان يكون مؤاخذا ، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر (١) ، فحينئذ لا يصدر عنه ، إلّا أنّ استدامة ذلك الذّكر يشقّ على النّفس ، فلمّا جاز ذلك في العقول ، حسن طلب المغفرة منه.

الخامس : أن الّذين جوّزوا تكليف ما لا يطاق تمسّكوا بهذه الآية ، فقالوا : النّاسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل ، فلو لا أنّه جائز عقلا أن يعاقبه الله عليه ، لما طلب بالدّعاء ترك المؤاخذة به.

القول الثاني : أن المراد بالنّسيان : التّرك ؛ قال الله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] ، أي : تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم ، ويقول الرّجل لصاحبه «لا تنسني من عطيّتك» ، أي : لا تتركني ، فالمراد بهذا النّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد ، والمراد بالخطأ : أن يفعل الفعل لتأويل فاسد.

قوله : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً).

الإصر : في الأصل : الثّقل والشّدّة ؛ قال النابغة : [البسيط]

١٣١٠ ـ يا مانع الضّيم أن يغشى سراتهم

والحامل الإصر عنهم بعد ما غرقوا (٢)

وأطلق على العهد والميثاق لثقلهما ؛ كقوله تعالى : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) [آل عمران : ٨١] أي : عهدي ، (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) [الأعراف : ١٥٧] أي : التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلّ ما يثقل ، حتى يروى عن بعضهم أنه فسّر الإصر هنا بشماتة الأعداء ؛ وأنشد : [الكامل]

__________________

(١) في ب : مسندا للذكر.

(٢) ينظر : ديوانه (٢٣١) والزاهر ٢ / ٥٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٥٩ ، والرازي ٧ / ١٢٧ ، والدر المصون ١ / ٦٩٨ ، والقرطبي ٣ / ٢٧٩.

٥٣٧

١٣١١ ـ أشمتّ بي الأعداء حين هجرتني

والموت دون شماتة الأعداء (١)

ويقال : الإصر أيضا : العطف والقرابة ، يقال : «[ما] يأصرني عليه آصرة» أي : ما يعطفني عليه قرابة ولا رحم ؛ وأنشد للحطيئة : [مجزوء الكامل]

١٣١٢ ـ عطفوا عليّ بغير آ

صرة فقد عظم الأواصر (٢)

ويقال : ما يأصرني عليه آصرة أي : رحم وقرابة ، وإنما سمّي العطف إصرا ؛ لأن من عطفت عليه ، ثقل على قلبك كلّ ما يصل إليه من المكاره.

وقيل : الإصر : الأمر الذي تربط به الأشياء ؛ ومنه «الإصار» للحبل الشديد الذي تشدّ به الأحمال ، يقال : أصر يأصر أصرا بفتح الهمزة ، فأما بكسرها ، فهو اسم ، ويقال بضمّها أيضا ، وقد قرئ (٣) به شاذّا.

وقرأ أبيّ (٤) : «ربّنا ولا تحمّل علينا» بتشديد الميم.

قال الزّمخشريّ (٥) : «فإن قلت : أيّ فرق بين هذه التّشديدة والتي في (وَلا تُحَمِّلْنا)؟

قلت : هذه للمبالغة في حمله عليه ، وتلك لنقل حمله من مفعول واحد إلى مفعولين» انتهى.

يعني : أن التّضعيف في الأوّل للمبالغة ، ولذلك لم يتعدّ إلّا لمفعول واحد ، وفي الثانية للتّعدية ، ولذلك تعدّى إلى اثنين : أوّلهما : «نا» ، والثاني : ما لا طاقة لنا به.

فصل

قال مجاهد وعطاء وقتادة والسّدّيّ والكلبيّ وجماعة : المراد عهدا ثقيلا ومشاقّ لا نستطيع القيام به ، فتعذّبنا بنقضه وتركه (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا)(٦) ، يعني : اليهود.

__________________

(١) ينظر : البحر ٢ / ٣٨٤ ، الدر المصون ١ / ٦٩٨.

(٢) ينظر : ديوانه (١٧٤) ، الدر المصون ١ / ٦٩٨.

(٣) وقد رويت قراءة الضم عن عاصم.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٩٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٨٤ ، والدر المصون ١ / ٦٩٨.

(٤) انظر : البحر المحيط ٢ / ٣٨٤ ، والدر المصون ١ / ٦٩٨.

(٥) ينظر : تفسير الكشاف للزمخشري ١ / ٣٣٣.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٣٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٦٦) وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد.

وأخرجه الطبري (٦ / ١٣٧) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٦٦) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٦٦) وعزاه للطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس ... فذكره.

٥٣٨

وقال عثمان بن عفّان ، ومالك بن أنس ، وأبو عبيدة ، وجماعة : معناه : لا تشدّد علينا في التّكاليف ما لا نستطيع المقام معه ، فتعذّبنا بنقضه وتركه ؛ كما شدّدت على الذين من قبلنا ، يعني : اليهود ، فلم يقوموا به فيعذّبهم (١).

قال المفسّرون (٢) : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزّكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها ، ومن أصاب ذنبا ، أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، وكانوا إذا نسوا شيئا عجّلت لهم العقوبة في الدّنيا ، وكانوا إذا أتوا بخطيئة ، حرم عليهم من الطّعام بعض ما كان حلالا لهم ؛ قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) [النساء : ١٦٠] ، ونحو ذلك ؛ كتحريمه على قوم طالوت الشّرب من النّهر ، وتعجيل تعذيبهم في الدّنيا بكونهم مسخوا قردة وخنازير.

قال القفّال ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ومن نظر (٣) في السّفر الخامس من التّوراة التي تدّعيها هؤلاء اليهود ، وقف على ما أخذ عليه من غلظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة ، فالمؤمنون سألوا ربّهم أن يصونهم عن أمثال هذه التّغليظات ، وهو بفضله ورحمته قد أزال عنهم ذلك.

قال تعالى في صفة هذه الأمة : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧].

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «دفع عن أمّتي الخسف والمسخ والغرق» (٤).

وقال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣]. وقال عليه الصلاة والسلام : «بعثت بالحنيفيّة السّمحة» (٥) والمؤمنون إنّما طلبوا هذا التّخفيف ؛ لأن التّشديد مظنّة التّقصير ، والتّقصير موجب للعقوبة ، ولا طاقة لهم بعذاب الله ، فلا جرم طلبوا تخفيف التّكاليف.

وقيل : الإصر ذنب لا توبة له ، معناه : اعصمنا من مثله ، قالوا : والأصل فيه العقد والإحكام.

قوله : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ).

الطّاقة : القدرة على الشيء ، وهي في الأصل ، مصدر ، جاءت على حذف الزوائد ، وكان من حقّها «إطاقة» ؛ لأنها من أطاق ، ولكن شذّت كما شذّت أليفاظ ؛ نحو : أغار

__________________

(١) انظر : التفسير الكبير للفخر الرازي (٧ / ١٢٧).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٢٧.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٧ / ١٢٧).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) تقدم.

٥٣٩

غارة ، وأجاب جابة ، وقالوا : «ساء سمعا ؛ فساء جابة» ؛ ولا ينقاس ؛ فلا يقال : طال طالة ، ونظير أجاب جابة : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] وأعطى عطاء في قوله : [الوافر]

١٣١٣ ..........

وبعد عطائك المائة الرّتاعا (١)

فصل في المراد بالآية

معناه : لا تكلّفنا من العمل ما لا نطيق (٢).

وقيل : هو حديث النّفس والوسوسة المتقدّم في الآية الأولى ، وحكي عن مكحول : أنّه الغلمة (٣).

وعن إبراهيم : هو الحبّ ، وعن محمّد بن عبد الوهّاب : هو العشق.

وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير (٤) ، وقيل : هو شماتة الأعداء.

وقيل : هو الفرقة والقطيعة (٥).

فإن قيل : لم خصّ الآية الأولى بالحمل ، فقال (لا تَحْمِلْ عَلَيْنا) وهذه الآية بالتّحميل؟

فالجواب : أن الشّاقّ (٦) يمكن حمله ، أمّا ما لا يكون مقدورا ، فلا يمكن حمله ، فالحاصل فيما لا يطاق هو التّحميل (٧) فقط ، فإن التّحمّل غير ممكن.

وأمّا الشاقّ : فالحمل ، والتّحميل فيه ممكنان ، فلهذا السّبب خصّ الآية الأخيرة بالتّحميل.

فإن قيل : ما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بلفظ الجمع في قوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ، ولفظ الإفراد أكثر تذلّلا وخضوعا من التّلفّظ (٨) بنون الجمع.

فالجواب : أن قبول الدّعاء عند الاجتماع أكثر ، وذلك لأن للهمم (٩) تأثيرات ، فإذا اجتمعت الأرواح والدّواعي على شيء واحد ، كان حصوله أكمل.

فصل

استدلّوا بهذه الآية الكريمة على جواز التّكليف بما لا يطاق ، قالوا : إذ لو لم يكن

__________________

(١) تقدم برقم ٣٣٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٣٩) عن الضحاك.

(٣) انظر : المصدر السابق.

(٤) انظر : المصدر السابق.

(٥) في ب : والعطية.

(٦) في ب : التعليق.

(٧) في ب : التحمل.

(٨) في ب : اللفظ.

(٩) في ب : لهم.

٥٤٠