اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

وأصله من التّخويف تقول أنذرت القوم إنذارا بالتخويف ، وفي الشرع على ضربين : مفسر ، كقوله لله عليّ عتق رقبة ، ولله عليّ حجّ فهاهنا يلزم الوفاء ، ولا يجزيه غيره ، وغير مفسّر كقوله : نذرت لله تعالى ألّا أفعل كذا ، ثم يفعله ، أو يقول : لله عليّ نذر ، ولم يسمّه ، فيلزمه كفارة يمين ؛ لقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من نذر نذرا ، وسمّى فعليه ما سمّى ، ومن نذر نذرا ، ولم يسمّ فعليه كفّارة يمين» (١).

قوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) جواب الشرط ؛ إن كانت «ما» شرطية ، أو زائدة في الخبر ، إن كانت موصولة.

فإن قيل : لم وحّد الضمير في «يعلمه» وقد تقدم شيئان النفقة ، والنذر؟

فالجواب أن العطف هنا ب «أو» ، وهي لأحد الشيئين ، تقول : «إن جاء زيد ، أو عمرو أكرمته» ، ولا يجوز : أكرمتهما ، بل يجوز أن تراعي الأول نحو : زيد أو هند منطلق ، أو الثاني ، نحو : زيد أو هند منطلقة ، والآية من هذا ، ولا يجوز أن يقال : منطلقان. ولهذا أوّل النحاة : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومن مراعاة الأول قوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] ، على هذا لا يحتاج إلى تأويلات ذكرها المفسرون. وروي عن النّحاس (٢) أنه قال : التقدير : وما أنفقتم من نفقة ، فإنّ الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر ، فإنّ الله يعلمه ، فحذف ، ونظّره بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤] وقوله : [المنسرح]

١٢٣٤ ـ نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف (٣)

وقول الآخر في هذا البيت : [الطويل]

١٢٣٥ ـ رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطويّ رماني (٤)

وهذا لا يحتاج إليه ؛ لأنّ ذلك إنما هو في الواو المقتضية للجمع بين الشيئين ، وأمّا

__________________

(١) ذكره الزيلعي في «نصب الراية» (٣ / ٣٠٠) وقال : غريب وأخرجه أبو داود (٣٣٢٢) وابن ماجه (٢١٢٧ ، ٢١٢٨) والدارقطني (٤ / ١٦٠) والطحاوي في شرح معاني الآثار (٣ / ١٣٠) والطبراني في «الكبير» (١١ / ٤١٢) عن ابن عباس بلفظ : من نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين وأخرجه الترمذي (١ / ١٩٧) عن عقبة بن عامر مرفوعا بلفظ : كفارة النذر إذا لم تسم كفارة يمين.

وقال : حديث حسن صحيح غريب.

وأخرجه مسلم (٢ / ٤٥) بلفظ كفارة النذر كفارة يمين.

(٢) ينظر : إعراب القرآن للنحاس ١ / ٢٩٠.

(٣) البيت لمالك بن العجلان وقيل لقيس بن الخطيم وهو في ديوانه (١٧٣) ينظر الكتاب ١ / ٣٨ ، الأشموني ٣ / ١٥٢ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٩٦ ، الدر المصون ١ / ٦٤٩.

(٤) البيت لعمرو بن أحمر ينظر ديوانه ص ١٨٧ ، والدرر ٢ / ٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٤٩ ، والكتاب ١ / ٧٥ ، وله أو للأزرق بن طرفة بن العمرد في لسان العرب (جول) ، والدر المصون ١ / ٦٤٩.

٤٢١

«أو» المقتضية لأحد الشيئين ، فلا. وقال الأخفش : الضمير عائد إلى الأخير كقوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] وقيل : يعود إلى «ما» في قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ) لأنها اسم كقوله : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) [البقرة : ٢٣١] ، ولا حاجة إلى هذا أيضا ؛ لما عرفت من حكم «أو».

قوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) أفاد : الوعد العظيم للمطيعين ، والوعيد الشديد للمتمردين ، لأنه يعلم ما في قلب المتصدق من الإخلاص فيتقبل منه تلك الطاعة ؛ كما قال : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] ، وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨].

قوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) اعلم أنّ الظالم قسمان :

الأول : من ظلم نفسه وهو يشتمل على كل المعاصي.

الثاني : من ظلم غيره بأن لا ينفق أو لا يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غيره ، أو ينفق على المستحقّ رياء وسمعة ، أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظّلم على الغير ، بل من باب الظلم على النّفس.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة في إنكار الشفاعة

تمسّك المعتزلة بهذه الآية ، في نفي الشّفاعة عن أهل الكبائر ، قالوا : لأنّ ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه ، فلو اندفعت العقوبة عنهم بالشفاعة ، لكان أولئك الشفعاء أنصارا لهم ، وذلك يضاد الآية.

وأجيبوا بوجوه :

الأول : أن الشفييع لا يسمّى في العرف ناصرا ، بدليل قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ١٢٣] ففرّق تعالى بين الشفيع ، والناصر ؛ فلا يلزم من نفي الناصر نفي الشفيع.

الثاني : أن الشفيع إنما يشفع عن المشفوع عنده على سبيل استعطافه ، والناصر ينصره عليه ، والفرق ظاهر.

وأجاب آخرون : بأنه ليس لمجموع الظالمين من أنصار.

فإن قيل : لفظ «الظّالمين» ، ولفظ «الأنصار» جمع ، والجمع إذا قوبل بالجمع ، توزع الفرد على الفرد ، فكان المعنى : ليس لأحد من الظالمين ، أحد من الأنصار.

قلنا لا نسلّم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد ؛ لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد.

الوجه الثالث : أن هذا الدليل النافي للشفاعة عامّ في حقّ الكلّ في الأشخاص ،

٤٢٢

والأوقات ، ودليل إثبات الشفاعة خاصّ في بعض الأوقات ، والخاصّ مقدم على العامّ.

الوجه الرابع : ما بينا أن اللفظ العامّ لا يكون قاطعا في الاستغراق ؛ بل ظاهر على سبيل الظن القويّ ، فصار الدليل ظنيا ، والمسألة ليست ظنّية ، فسقط التمسّك بها.

و «الأنصار» جمع نصير ؛ كأشراف ، وشريف ، وأحباب ، وحبيب.

قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٢٧١)

قوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) أي تظهرونها (فَنِعِمَّا هِيَ).

الفاء جواب الشرط ، و «نعم» فعل ماض للمدح ، نقيض بئس ، وحكمها في عدم التصرف ، والفاعل ، واللغات حكم بئس ، كما تقدّم.

و «ما» في محلّ الرفع. و «هي» في محل النصب ، كما تقول : نعم الرجل رجلا ، فإذا عرّفت ، رفعت فقلت : نعم الرجل زيد.

قال الزجاج (١) : «ما» في تأويل الشيء ، أي : نعم الشيء هو.

قال أبو علي (٢) : الجيد في تمثيل هذا أن يقال : «ما» في تأويل شيء ؛ لأن «ما» هاهنا نكرة فتمثيله بالنكرة أبين ، والدليل على أن «ما» هاهنا نكرة أنها لو كانت معرفة ، فلا بد لها من صلة ، وليس ها هنا ما يوصل به ؛ لأن الموجود بعد «ما» هو «هي» وكلمة «هي» مفردة ، والمفرد لا يكون صلة ل «ما» وإذا بطل هذا ، فنقول «ما» نصب على التمييز ، والتقدير : نعم شيئا هي إبداء الصدقات ، فحذف المضاف ؛ لدلالة الكلام عليه

وقرأ ابن عامر (٣) ، وحمزة ، والكسائيّ ، هنا وفي النساء : «فنعما» بفتح النون ، وكسر العين ، وهذه على الأصل ؛ لأنّ الأصل على «فعل» كعلم ، وقرى ابن كثير ، وورش (٤) ، وحفص : بكسر النون والعين ، وإنما كسر النون إتباعا لكسرة العين ، وهي لغة هذيل.

قيل : وتحتمل قراءة كسر العين أن يكون أصل العين السكون ، فلمّا وقعت بعدها «ما» وأدغم ميم «نعم» فيها ، كسرت العين ؛ لالتقاء الساكنين ، وهو محتمل.

وقرأ أبو عمرو (٥) ، وقالون ، وأبو بكر : بكسر النون ، وإخفاء حركة العين.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٦٤.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : السبعة ١٩٠ ، والكشف ١ / ٣١٦ ، والحجة ٢ / ٣٩٦ ، وحجة القراءات ١٤٦ ، ١٤٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٠ ، ١٠٢ ، والعنوان ٧٥ ، وشرح طيبة النشر ٤ / ١٢٨ ، وشرح شعلة ٣٠٢ ، وإتحاف ١ / ٤٥٥ ، ٤٥٦.

(٤) السابق.

(٥) السابق.

٤٢٣

وروي عنهم الإسكان أيضا ، واختاره أبو عبيد ، وحكاه لغة للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في [نحو] قوله : «نعمّا المال الصالح مع الرجل الصالح» (١).

والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان ، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو ، وممّن أنكره المبرد ، والزجاج (٢) والفارسي ، قالوا : لأنّ فيه جمعا بين ساكنين على غير حدّهما. قال المبرد : «لا يقدر أحد أن ينطق به ، وإنما يروم الجمع بين ساكنين فيحرّك ، ولا يشعر» وقال الفارسي : «لعل أبا عمرو أخفى فظنّه الراوي سكونا».

وقد تقدّم الكلام على «ما» اللاحقة لنعم ، وبئس. و «هي» مبتدأ ضمير عائد على الصدقات على حذف مضاف ، أي : فنعم إبداؤها ، ويجوز ألّا يقدّر مضاف ، بل يعود الضمير على «الصّدقات» بقصد صفة الإبداء ، تقديره : فنعمّا هي ، أي : الصدقات المبداة. وجملة المدح خبر عن «هي» ، والرابط العموم ، وهذا أولى الوجوه ، وقد تقدّم تحقيقها.

والضمير في (وَإِنْ تُخْفُوها) يعود على الصدقات. قيل : يعود عليها لفظا ومعنى ، وقيل: يعود عليها لفظا لا معنى ؛ لأنّ المراد بالصدقات المبداة : الواجبة ، وبالمخفاة : المتطوّع بها ، فيكون من باب «عندي درهم ، ونصفه» ، أي : ونصف درهم آخر ؛ وكقول القائل : [الوافر]

١٢٣٦ ـ كأنّ ثياب راكبه بريح

خريق وهي ساكنة الهبوب (٣)

أي : وريح أخرى ساكنة الهبوب ، ولا حاجة إلى هذا في الآية.

والفاء في قوله : «فهو» جواب الشرط ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من «تخفوها» أي : فالإخفاء ، كقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] و «لكم» صفة لخير ، فيتعلّق بمحذوف. و «خير» يجوز أن يكون للتفضيل ، فالمفضّل عليه محذوف ، أي : خير من إبدائها ، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريّة ، أي : خير لكم من الخيور.

وفي قوله : (إِنْ تُبْدُوا) ، (وَإِنْ تُخْفُوها) نوع من البديع ، وهو الطّباق اللّفظيّ. وفي قوله (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) طباق معنوي ؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الأغنياء الصدقات ، وإن يخف الأغنياء الصدقات ، ويؤتوها الفقراء ، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظا ، والأغنياء بالفقراء معنى.

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٢٣٦) وأحمد (٤ / ٢٠٢) وابن أبي شيبة (٧ / ١٨) والطبراني في «الأوسط» و «الكبير» وأبو يعلى كما في «المجمع» (٩ / ٣٥٦) وقال الهيثمي : ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم وقال الذهبي صحيح.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥٣.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٣٨ ، الدر المصون ١ / ٦٥٠.

٤٢٤

والصّدقة : قال أهل اللغة : موضوع : «ص د ق» على هذا الترتيب للصحة ، والكمال ومنه قولهم : رجل صدق النّظر ، وصدق اللقاء ، وصدقوهم القتال ، وفلان صادق المودّة ، وهذا خلّ صادق الحموضة ، وشي صادق الحلاوة ، وصدق فلان في خبره ، إذا أخبر به على وجه الصّحة كاملا ، والصّديق يسمى صديقا ؛ لصدقه في المودّة ، وسمّي [الصّداق صداقا لأن](١) مقصود العقد يتمّ به ويكمل ، وسميت الزكاة صدقة ؛ لأن المال بها يصحّ ويكمل ، فهي إمّا سبب لكمال المال ، وبقائه ، وإما أنها يستدلّ بها على صدق إيمان العبد ، وكماله فيه.

فصل في بيان فضيلة صدقة السّر

سئل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : صدقة السرّ أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية.

وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ..» إلى أن قال «... ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (٢).

وقيل : الآية في صدقة التطوّع ؛ أما الزكاة المفروضة ، فالإظهار فيها أفضل ؛ حتى يقتدي الناس به ؛ كالصلاة المكتوبة في الجماعة ، والنافلة في البيت أفضل.

وقيل : الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيرا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمّا في زماننا ، فالإظهار فيها أفضل ؛ حتى لا يساء به الظن.

واعلم أنّ الصدقة تطلق على الفرض والنّفل ؛ قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) [التوبة : ١٠٣] وقال : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة : ٦٠] ، وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «نفقة المرء على عياله صدقة» (٣) والزكاة لا تطلق إلّا على الفرض.

قوله : (وَيُكَفِّرُ) قرأ الجمهور (٤) : «ويكفّر» بالواو ، والأعمش : بإسقاطها ، والياء ، وجزم الراء ؛ وفيها تخريجان :

أحدهما : أنه بدل من موضع قوله : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ؛ لأنه جواب الشرط ، كأنّ التقدير : وإن تخفوها ، يكن خيرا لكم ، ويكفّر.

__________________

(١) في ب : الصدقات لأن.

(٢) أخرجه البخاري (٢ / ٢٢٦) كتاب الزكاة باب الصدقة باليمين (١٤٢٣) ، (٨ / ١٨١) كتاب الرقاق باب البكاء من خشية الله (٦٤٧٩) ومسلم (٣ / ٩٣) والترمذي (٢ / ٦٣) وأحمد (٢ / ٤٣٩) والنسائي (٢ / ٣٠٣).

(٣) أخرجه البخاري (٥ / ١٩٨) كتاب المغازي باب ١٢ رقم (٤٠٠٦) والترمذي (١٩٦٥) وابن أبي شيبة (٩ / ١٠٦).

(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٦٦ ، والبحر المحيط ، ٢ / ٣٣٨ ، والدر المصون ١ / ٦٥١ والتخريجات النحوية ١٥٠.

٤٢٥

والثاني : أنه حذف حرف العطف ، فتكون كالقراءة المشهورة ، والتقدير : «ويكفّر» وهذا ضعيف جدا.

وقرأ ابن كثير (١) ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : بالنون ورفع الراء ، وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : بالنون وجزم الراء ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : بالياء ورفع الراء ، والحسن (٢) : بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش أيضا : بالياء ونصب الراء ، وابن عباس : «وتكفّر» بتاء التأنيث وجزم الراء ، وعكرمة : كذلك ؛ إلا أنه فتح الفاء ؛ على ما لم يسمّ فاعله ، وابن هرمز : بالتاء ورفع الراء ، وشهر بن حوشب ـ ورويت عن عكرمة أيضا ـ : بالتاء ونصب الراء ، وعن الأعمش إحدى عشرة قراءة ، والمشهور منها ثلاث.

فمن قرأ بالياء ، ففيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه أضمر في الفعل ضمير الله تعالى ؛ لأنه هو المكفّر حقيقة ، وتعضده قراءة النون ؛ فإنها متعيّنة له.

والثاني : أنه يعود على الصّرف المدلول عليه بقوة الكلام ، أي : ويكفّر صرف الصدقات.

والثالث : أنه يعود على الإخفاء المفهوم من قوله : (وَإِنْ تُخْفُوها) ، ونسب التكفير للصّرف ، والإخفاء مجازا ؛ لأنّهما سبب للتكفير ، وكما يجوز إسناد الفعل إلى فاعله ، يجوز إسناده إلى سببه.

ومن قرأ بالتاء ففي الفعل ضمير الصّدقات ، ونسب التكفير إليها مجازا كما تقدّم ، ومن بناه للمفعول ؛ فالفاعل هو الله تعالى ، أو ما تقدّم.

ومن قرأ بالنون ، فهي نون المتكلّم المعظّم نفسه.

ومن جزم الراء ؛ فللعطف على محلّ الجملة الواقعة جوابا للشرط ؛ ونظيره قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦] في قراءة من جزم «ويذّرهم».

ومن رفع ، فعلى ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مستأنفا لا موضع له من الإعراب ، وتكون الواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام آخر.

والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، وذلك المبتدأ : إمّا ضمير الله تعالى ، أو الإخفاء ،

__________________

(١) انظر : السبعة ١٩١ ، والحجة للقراء السبعة ٢ / ٣٩٩ ، ٤٠٠ ، وحجة القراءات ١٤٧ ، والعنوان ٧٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٢ ، وشرح شعلة ٣٠٢ ، ٣٠٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٣١ ، وإتحاف ١ / ٤٥٦.

(٢) انظر هذه الروايات في :

المحرر الوجيز ١ / ٣٦٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٣٨ ، ٣٣٩ ، والدر المصون ١ / ٦٥١.

٤٢٦

أي : وهو يكفّر ؛ فيمن قرأ بالياء ، ونحن نكفّر ؛ فيمن قرأ بالنون ، أو وهي تكفّر ؛ فيمن قرأ بتاء التأنيث.

والثالث : أنه عطف على محلّ ما بعد الفاء ، إذ لو وقع مضارع بعدها ، لكان مرفوعا ؛ كقوله تبارك وتعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] ، ونظيره (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦] في قراءة من رفع.

ومن نصب ، فعلى إضمار «أن» ؛ عطفا على مصدر متوهّم ، مأخوذ من قوله : (فَهُوَخَيْرٌ لَكُمْ) ، والتقدير : وإن تخفوها يكن ، أو يوجد خير لكم وتكفير. ونظيرها قراءة من نصب : «فيغفر» بعد قوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] ، إلّا أنّ تقدير المصدر في قوله : «يحاسبكم» ثمّ أسهل منه هنا ؛ لأنّ ثمّة فعلا مصرّحا به ، وهو «يحاسبكم» ، والتقدير: يقع محاسبة فغفران ، بخلاف هنا ، إذ لا فعل ملفوظ به ، وإنما قدّرنا المصدر من مجموع قوله : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

وقال الزمخشريّ : «ومعناه : وإن تخفوها ، يكن خيرا لكم ، وأن يكفّر» قال أبو حيّان(١): «وظاهر كلامه هذا أنّ تقديره : «وأن يكفّر» يكون مقدّرا بمصدر ، ويكون معطوفا على «خيرا» الذي هو خبر «يكن» التي قدّرها ، كأن قال : يكن الإخفاء خيرا لكم وتكفيرا ، فيكون «أن يكفّر» في موضع نصب ، والذي تقرّر عند البصريّين : أنّ هذا المصدر المنسبك من : «أن» المضمرة مع الفعل المنصوب بها ، هو معطوف على مصدر متوهّم مرفوع ، تقديره من المعنى. فإذا قلت : «ما تأتينا فتحدثنا» فالتقدير : ما يكون منك إتيان فحديث ، وكذلك : «إن تجىء وتحسن إليّ ، أحسن إليك» التقدير : إن يكن منك مجيء ، وإحسان أحسن إليك ، فعلى هذا يكون التقدير : وإن تخفوها ، وتؤتوها الفقراء ، فيكون زيادة خير للإخفاء على خير الإبداء وتكفير». انتهى. قال شهاب الدين : ولم أدر ما حمل الشيخ على العدول عن تقدير أبي القاسم ، إلى تقديره وتطويل الكلام في ذلك ؛ مع ظهور ما بين التقديرين؟

وقال المهدويّ : «هو مشبّه بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء ، لوجوب غيره كالاستفهام». وقال ابن عطيّة : «الجزم في الراء أفصح هذه القراءات ؛ لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء ، وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء ، وأمّا رفع الراء ، فليس فيه هذا المعنى» قال أبو حيان (٢) : «ونقول إنّ الرفع أبلغ وأعمّ ؛ لأنّ الجزم يكون على أنّه معطوف على جواب الشرط الثاني ، والرفع يدلّ على أنّ التكفير مترتّب من جهة المعنى على بذل الصدقات أبديت ، أو أخفيت ، لأنّا نعلم أنّ هذا التكفير متعلّق بما قبله ، ولا يختصّ التكفير بالإخفاء فقط ، والجزم يخصّصه به ، ولا يمكن أن

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٣٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٣٩.

٤٢٧

يقال إن الذي يبدي الصدقات ، لا يكفّر من سيئاته ، فقد صار التكفير شاملا للنوعين : من إبداء الصدقات ، وإخفائها ؛ وإن كان الإخفاء خيرا».

قوله تعالى : (مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) في «من» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها للتّبعيض ، أي : بعض سيئاتكم ، لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات ، وعلى هذا فالمفعول في الحقيقة [محذوف] ، أي : شيئا من سيئاتكم ، كذا قدّره أبو البقاء.

والثاني : أنها زائدة وهو جار على مذهب الأخفش ، وحكاه ابن عطية عن الطبري عن جماعة ، وجعله خطأ ؛ يعني من حيث المعنى.

والثالث : أنها للسببية ، أي : من أجل ذنوبكم ؛ وهذا ضعيف.

والسيئات : جمع سيّئة ، ووزنها : فيعلة ، وعينها واو ، والأصل : سيوءة ، ففعل بها ما فعل بميّت ، كما تقدّم.

قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) إشارة إلى تفضيل صدقة السرّ على العلانية ؛ كأنه يقول : أنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاة الله ، وقد حصل مقصودكم في السر ؛ فما معنى الإبداء؟ فكأنّهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ؛ ليكون أبعد من الرياء ، وكسر قلب الفقير.

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(٢٧٢)

هذا الكلام متصل بما قبله من ذكر الصدقات ، كأنه بيّن فيه جواز الصدقة على المشركين.

قوله : (هُداهُمْ) : اسم ليس ، وخبرها الجارّ والمجرور. و «الهدى» مصدر مضاف إلى المفعول ، أي : ليس عليك أن تهديهم ، ويجوز أن يكون مضافا لفاعله ، أي : ليس عليك أن يهتدوا ، يعني : ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء.

وفيه طباق معنويّ ، إذ التقدير : هدي الضّالّين ، وفي قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي) مع قوله تعالى : (هُداهُمْ) جناس مغاير ؛ لأنّ إحدى الكلمتين اسم ، والأخرى فعل ، ومفعول «يشاء» محذوف ، أي : هدايته.

فصل في بيان سبب النزول

روي في سبب النزول وجوه :

أحدها : أن قتيلة أمّ أسماء بنت أبي بكر ، أتت إليها ؛ تسألها شيئا ، وكذلك جدّتها ،

٤٢٨

وهما مشركتان ؛ فقالت : لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإنكما لستما على ديني ، فاستأمرته في ذلك ؛ فنزلت هذه الآية ؛ فأمرها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن تتصدق عليهما (١).

الثاني : كان أناس من الأنصار ، لهم قرابة من قريظة والنّضير ، وكانوا لا يتصدقون عليهم ، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئا ؛ فنزلت هذه الآية الكريمة (٢).

الثالث : قال سعيد بن جبير : كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين ، نهى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن التصدق على المشركين ؛ كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام ؛ فنزلت الآية (٣) الكريمة فتصدق عليهم والمعنى على جميع الروايات : ليس عليك هدى من خالفك ؛ حتى تمنعهم الصدقة ؛ لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدق عليهم ، لوجه الله ، ولا توقف ذلك على إسلامهم ، والمراد بهذه الهداية هداية التوفيق ، وأما هداية البيان ، والدعوة ، فكان على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

وظاهر هذه الآية أنها خطاب مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكن المراد به هو ، وأمّته ؛ ألا تراه قال : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) وهذا عامّ ، ثم قال : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) وظاهره خاصّ ، ثم قال بعده (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) وهذا عامّ ، فيفهم من عموم ما قبل الآية الكريمة ، وعموم ما بعدها : عمومها أيضا.

فصل في بيان هداية الله للمؤمنين

دلّت هذه الآية الكريمة على أن هداية الله تبارك وتعالى غير عامّة ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين ، لأن قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إثبات للهداية المنفيّة بقوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ولكنّ المنفي بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) هو حصول الاهتداء ، على سبيل الاختيار ، فكان قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار ، وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعا بتقدير الله تعالى ، وتخليقه وتكوينه ؛ وهو المطلوب.

وحمله المعتزلة على أنه يهدي بالإثابة ، والألطاف ، وزيادة الهدى ؛ وهو مردود بما قررناه.

قوله : (فَلِأَنْفُسِكُمْ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فهو لأنفسكم شرط وجوابه ، «والخير» في هذه الآية المال ؛ لأنه اقترن بذكر الإنفاق ، فهذه القرينة تدل على أنه المال ، ومتى لم يقترن بما يدلّ على أنه المال ، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال ؛ نحو قوله : (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤] وقوله : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] ونحوه.

__________________

(١) انظر : تفسير الفخر الرازي (٧ / ٦٧).

(٢) انظر : المصدر السابق.

(٣) انظر : المصدر السابق.

٤٢٩

وقوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل ابتغاء وجه الله ، والشروط هنا موجودة.

والثاني : أنه مصدر في محلّ الحال ، أي : إلّا مبتغين ، وهو في الحالين استثناء مفرّغ ، والمعنى : وما تنفقون نفقة معتدا بقبولها ؛ إلّا ابتغاء وجه [الله] ، أو يكون المخاطبون بهذا ناسا مخصوصين ، وهم الصحابة ، لأنهم كانوا كذلك ، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين ؛ لأنّ كثيرا ينفق لابتغاء غير وجه الله.

قال بعض المفسرين (١) : هذا جحد لفظه نفي ، ومعناه نفي ، أي : لا تنفقوا إلّا ابتغاء وجه.

قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) تأكيد وبيان ؛ كقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ).

وقوله : (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جواب الشرط ، وقد تقدّم أنه يقال : «وفّى» بالتشديد و «وفى» بالتخفيف و «أوفى» رباعيا.

وإنما حسن قوله : «إليكم» مع التوفية ؛ لأنها تضمّنت معنى التّأدية ، ومعناه (٢) يوفّ لكم جزاؤه في الآخرة.

وقوله : (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) جملة من مبتدأ ، وخبر : في محلّ نصب على الحال من الضمير في «إليكم» ، والعامل فيها «يوفّ» ، وهي تشبه الحال المؤكّدة ؛ لأنّ معناها مفهوم من قوله : (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ؛ لأنهم إذا وفّوا حقوقهم ، لم يظلموا. ويجوز أن تكون مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب ، أخبرهم فيها أنه لا يقع عليهم ظلم ، فيندرج فيه توفية أجورهم ؛ بسب إنفاقهم في طاعة الله تعالى ، اندراجا أوّليا.

فصل في المراد من الآية

في معنى الآية وجوه :

الأول : أن معناه : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين لا تقصدون إلّا وجه الله تعالى ، وقد علم الله هذا من قلوبكم ، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله تعالى في صلة رحم ، وسدّ خلّة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم ، حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم.

الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبرا ، إلّا أن معناه النهي ، أي : ولا تنفقوا إلّا ابتغاء وجه الله وورود الخبر بمعنى الأمر ، والنهي كثير ؛ قال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣] (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٢٨].

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٥٨.

(٢) في ب : ومعنى.

٤٣٠

الثالث : معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح ؛ حتى تبتغوا بذلك وجه الله.

فصل في ذكر الوجه في قوله (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ)

إذا قلت : فعلته لوجه زيد ، فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له ؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، وإذا قلت : فعلت هذا الفعل له ، فيحتمل أن يقال فعلته له ولغيره ، أما إذا قلت : فعلت هذا الفعل لوجهه ، فهذا يدل على أنّك فعلت هذا الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة.

فصل في بيان عدم صرف الزكاة لغير المسلم

أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير مسلم ؛ فتكون هذه الآية مختصة بصدقة التطوع ، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره ؛ وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله ، لكان لك ثواب نفقتك.

قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٢٧٣)

قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ) الآية : في تعلّق هذا الجارّ خمسة أوجه :

أحدها : ـ وهو الظاهر ـ أنه متعلّق بفعل مقدر ، يدلّ عليه سياق الكلام ، واختلفت عبارات المعربين فيه ، فقال مكي (١) ـ ولم يذكر غيره ـ : «أعطوا للفقراء» ، وفي هذا نظر ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى ، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل : إمّا بتقدّم معموله ؛ كقوله تعالى : (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] ، وإمّا لكونه فرعا ؛ نحو قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] ويبعد أن يقال : لمّا أضمر العامل ، ضعف ؛ فقوي باللام ، على أنّ بعضهم يجيز ذلك ، وإن لم يضعف العامل ، وجعل منه (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقدّره أبو البقاء (٢) : «اعجبوا للفقراء» وفيه نظر ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب. وقدّره الزمخشريّ : «اعمدوا ، أو اجعلوا ما تنفقون للفقراء» والأحسن من ذلك ما قدّره مكي ، لكن فيه ما تقدّم.

الثاني : أنّ هذا الجارّ خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء ، وهو في المعنى جواب لسؤال مقدّر ، كأنهم لما حثّوا على الصدقات ، قالوا : فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء ، وفيها بيان مصرف الصّدقات. وهذا اختيار ابن الأنباري.

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ١١٥.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٦.

٤٣١

قال ابن الخطيب (١) : لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق ، قال بعدها «للفقراء» أي : ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل ، فتقول : عاقل لبيب ، والمعنى : أن ذلك الذي مرّ وصفه عاقل لبيب ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس يجعلون فيه الذهب ، والفضّة : ألفان ، أو مائتان ، أي : ذلك الذي في الكيس ألفان ، أو مائتان.

وأنشد ابن الأنباري : [الرجز]

١٢٣٧ ـ تسألني عن زوجها أيّ فتى

خبّ جروز وإذا جاع بكى (٢)

يريد : هو خبّ.

الثالث : أنّ اللام تتعلّق بقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) وهو مذهب القفّال ، واستبعده الناس ؛ لكثرة الفواصل.

الرابع : أنه متعلّق بقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) وفي هذا نظر ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب ، فيصير نظير قولك : من يكرم أحسن إليه زيدا. وقد صرّح الواحديّ بالمنع من ذلك ، معلّلا بما ذكرناه ، فقال : ولا يجوز أن يكون العامل في هذه اللام «تنفقوا» الأخير في الآية المتقدمة الكريمة ؛ لأنه لا يفصل بين العامل ، والمعمول بما ليس منه ، كما لا يجوز : «كانت زيدا الحمّى تأخذ».

الخامس : أنّ «للفقراء» بدل من قوله : (فَلِأَنْفُسِكُمْ) ، وهذا مردود ؛ قال الواحدي ، وغيره : «لأنّ بدل الشيء من غيره ، لا يكون إلا والمعنى مشتمل عليه ، وليس كذلك ذكر النفس ههنا ؛ لأنّ الإنفاق من حيث هو عائد عليها ، وللفقراء من حيث هو واصل إليهم ، وليس من باب (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ؛ لأنّ الأمر لازم للمستطيع خاصة» قال شهاب الدين رحمه‌الله تعالى : يعني أنّ الفقراء ليست هي الأنفس ، ولا جزءا منها ، ولا مشتملة عليها ، وكأن القائل بذلك توهّم أنه من باب قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] في أحد التأويلين.

والفقير : قيل : أصله من : «فقرته الفاقرة» ، أي : كسرت فقارات ظهره الداهية. قال الراغب (٣) : وأصل الفقير : هو المكسور الفقار ، يقال : «فقرته الفاقرة» أي : الداهية تكسر الفقار ، و «أفقرك الصّيد [فارمه»] أي أمكنك من فقاره ، وقيل : هو من الفقرة ، أي : الحفرة ، ومنه قيل لكلّ حفرة يجتمع فيها الماء : فقير. وفقرت للفسيل : حفرت له حفرة ؛ غرسته فيها ؛ قال : [السريع أو الرجز]

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٧٠.

(٢) البيت للشماخ : ينظر ديوانه (١٠٧) ، المحتسب ١ / ٦٠ ، الدر المصون ١ / ٦٥٤.

(٣) ينظر : المفردات للراغب ٣٩٧.

٤٣٢

١٢٣٨ ـ ما ليلة الفقير إلّا شيطان

(١) قيل : هو اسم بئر ، وفقرت الخرز : ثقبته.

وقال الهروي : يقال «فقره» إذا أصاب فقار ظهره ، نحو : رأسه ، أي : أصاب رأسه ، وبطنه ، أي : أصاب بطنه. وقال الأصمعي : «الفقر : أن يحزّ أنف البعير ، حتى يخلص الحزّ إلى العظم ، ثم يلوي عليه جريرا يذلّل به الصّعب من الإبل ، ومنه قيل : عمل به الفاقرة». والفقرات ـ بكسر الفاء ، وفتح القاف ـ : جمع فقرة : الأمور العظام ، ومنه حديث السّعي : «فقرات ابن آدم ثلاث : يوم ولد ، ويوم يموت ، ويوم يبعث». والفقر ـ بضم الفاء ، وفتح القاف ـ : جمع فقرة ؛ وهي الحزّ ، وخرم الخطم ، ومنه قول أبي زياد : «يفقر الصّعب ثلاث فقر في خطمه» ومنه حديث سعد : «فأشار إلى فقر في أنفه» ، أي : شقّ ، وحزّ. وقد تقدّم الكلام في الإحصار عند قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ).

قوله : (فِي سَبِيلِ) في هذا الجار وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق بالفعل قبله ؛ فيكون ظرفا له.

والثاني : أن يكون متعلّقا بمحذوف على أنه حال من مرفوع «أحصروا» ، أي : مستقرين في سبيل الله. وقدّره أبو البقاء (٢) بمجاهدين في سبيل الله ، فهو تفسير معنى لا إعراب ؛ لأنّ الجارّ لا يتعلّق إلّا بالكون المطلق.

فصل في بيان سبب النزول

نزلت في فقراء المهاجرين ، وكانوا نحو أربعمائة ، وهم أصحاب الصّفّة ، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة ، وكانوا ملازمين المسجد ؛ يتعلمون القرآن الكريم ، ويرضخون النوى بالنهار ويخرجون في كل سريّة يبعثها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فحث الله عليهم الناس ؛ فكان من عنده فضل أتاهم به ، إذا أمسى (٣).

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : وقف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوما على أصحاب الصفة ، فرأى فقرهم ، وجهدهم ؛ فطيّب قلوبهم ، فقال : «أبشروا يا أصحاب الصّفّة فإنّه من لقي الله من أمّتي على النّعت الّذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنّه من رفقائي» (٤).

واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفات :

الأولى : قوله : (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) والإحصار : أن يعرض للرجل ما

__________________

(١) البيت للجليخ. ينظر المفردات للراغب (٥٧٧) ، الدر المصون ١ / ٦٥٤ ، جمهرة ابن دريد ٢ / ٧٨٤.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٦.

(٣) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٧ / ٧٠).

(٤) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١٣ / ٢٧٧) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٦٥٧٧) وعزاه للخطيب في تاريخه.

٤٣٣

يحول بينه وبين سفره من مرض ، أو كسر ، أو عدوّ ، أو ذهاب نفقة ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء ، يقال : أحصر الرجل : فهو محصر ، وفي معنى هذا الإحصار ، وجوه :

الأول : أنّهم حصروا أنفسهم ، ووقفوها على الجهاد ؛ لأن قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) مختصّ بالجهاد في عرف القرآن.

الثاني : قال قتادة ـ رحمه‌الله ـ وابن زيد : منعو أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش ؛ خوف العدوّ (١) ؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة ، وكانوا متى وجدوهم ، قتلوهم (٢).

الثالث : قال سعيد بن جبير ؛ وهو اختيار الكسائي : إنّ هؤلاء القوم أصابتهم جراحات مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصاروا زمنى ، فأحصرهم المرض ، والزمانة عن الضّرب في الأرض (٣).

الرابع : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هؤلاء القوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله ، فعذرهم الله (٤).

الصفة الثانية : قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ فِي الْأَرْضِ) في هذه الجملة احتمالان :

أظهرهما : أنها حال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنه «الفقراء» ، وثانيهما : أنه مرفوع «أحصروا».

والاحتمال الثاني : أن تكون مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب ؛ و «ضربا» مفعول به ، وهو هنا السفر للتجارة ؛ قال : [الوافر]

١٢٣٩ ـ لحفظ المال أيسر من بقاه

وضرب في البلاد بغير زاد (٥)

ويقال : ضربت في الأرض ضربا ، ومضربا ، أي : سرت.

فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية

عدم استطاعتهم : إمّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدّين ، بأمر الجهاد ؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة ، وإمّا لخوفهم من الأعداء ، وإمّا لمرضهم ، وعجزهم ؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكّ في احتياجهم إلى من يعينهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٩٣) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٣٣) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) في ب : المعدوم.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٣٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

(٤) ذكره الفخر الرازي في «تفسيره» (٧ / ٧٠).

(٥) ينظر : الدر المصون ١ / ٦٥٥.

٤٣٤

الصفة الثالثة : قوله : «يحسبهم» يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف ، وكذلك ما بعدها.

«يحسبهم» هو الظّنّ ، أي : إنّهم من الانقباض ، وترك المسألة ، والتوكل على الله ، بحيث يظنهم الجاهل أغنياء.

وقرأ ابن عامر (١) ، وعاصم ، وحمزة : «يحسب» ـ حيث ورد ـ بفتح السين ، والباقون : بكسرها. فأمّا القراءة الأولى ؛ فجاءت على القياس ؛ لأنّ قياس فعل ـ بكسر العين ـ يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخفّ اللفظ ، وهي لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، وبها قرأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وقد شذّت ألفاظ أخر ؛ جاءت في الماضي ، والمضارع بكسر العين منها : نعم ينعم ، وبئس يبئس ، ويئس ييئس ، ويبس ييبس من اليبوسة ، وعمد يعمد ، وقياسها كلّها الفتح ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال ، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة : أبو عمرو ـ وكفى به ـ ، والكسائي ، وقارئا الحرمين : نافع ، وابن كثير.

والجاهل هنا : اسم جنس لا يراد به واحد بعينه.

ولم يرد ـ هنا ـ به الجهل الذي هو ضدّ العلم ، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدّ الاختبار ، يقول : يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء ، و «أغنياء» هو المفعول الثاني.

قوله : (مِنَ التَّعَفُّفِ) في «من» هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها سببية ، أي : سبب حسبانهم أغنياء تعفّفهم ، فهو مفعول من أجله ، وجرّه بحرف السبب هنا واجب ، لفقد شرط من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، وذلك أنّ فاعل الحسبان الجاهل ، وفاعل التعفّف هم الفقراء ، ولو كان هذا المفعول له مستكملا لشروط النصب ، لكان الأحسن جرّه بالحرف ؛ لأنه معرّف بأل ، وقد تقدّم أنّ جرّ هذا النوع أحسن من نصبه ؛ نحو : جئت للإكرام ، وقد جاء نصبه ؛ قال القائل : [الرجز]

١٢٤٠ ـ لا أقعد الجبن عن الهيجاء

ولو توالت زمر الأعداء (٢)

والثاني : أنها لابتداء الغاية ، والمعنى أنّ محسبة الجاهل غناهم ، نشأت من تعفّفهم ؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعفف ، إنما يحسبه غنى مال ، فقد نشأت محسبته من تعفّفهم ، وهذا على أنّ تعفّفهم تعفف تام.

والثالث : أنها لبيان الجنس ، وإليه نحا ابن عطية ، قال : يكون التعفف داخلا في

__________________

(١) انظر : السبعة ١٩١ ، والكشف ١ / ٣١ ، وحجة القراءات ١٤٨ ، والحجة ٢ / ٤٠٢ ، والعنوان ٧٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٠٣ ، وشرح شعلة ٣٠٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٣١ ـ ١٣٣ ، وإتحاف ١ / ٤٥٧.

(٢) تقدم برقم (٢٥٢).

٤٣٥

المحسبة ، أي : إنه لا يظهر لهم سؤال ، بل هو قليل ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه ، ف «من» لبيان الجنس على هذا التأويل.

قال أبو حيّان : «وليس ما قاله من أنّ «من» هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدّر «من» بموصول ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف ؛ كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] يصح أن يقال : الذي هو الأوثان ، ولو قلت هنا : «يحسبهم الجاهل أغنياء الّذي هو التّعفف» لم يصحّ هذا التقدير ، وكأنه سمّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بيّنت بأيّ جنس وقع غناهم ، أي : غناهم بالتعفف لا غنى بالمال ، فسمّى «من» الداخلة على ما يبيّن جهة الغنى ببيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدّمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أنّ «من» سببية ، لكنها تتعلق بأغنياء ، لا بيحسبهم». انتهى.

وتتعلّق «من» على الوجهين الأولين بيحسبهم. قال أبو البقاء (١) رحمه‌الله : «ولا يجوز أن تتعلّق بمعنى «أغنياء» ؛ لأنّ المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أنّ معنى الآية : أنّ حالهم يخفى على الجاهل بهم ؛ فيظنّهم أغنياء ، ولو علّقت بأغنياء ، صار المعنى : أنّ الجاهل يظنّ أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغنيّ بالتعفف فقير من المال». انتهى ، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثا.

وأما على الوجه الثالث ـ وهو كونه لبيان الجنس ـ فقد صرّح أبو حيان بتعلّقها بأغنياء ؛ لأن المعنى يعود إليه ، ولا يجوز تعلّقها في هذا الوجه بالحسبان ، وعلى الجملة : فكونها لبيان [الجنس ، قلق المعنى].

والتعفّف : تفعّل من العفّة ، وهو ترك الشيء ، والإعراض عنه ، مع القدرة على تعاطيه ؛ قال رؤبة : [الرجز]

١٢٤١ ـ فعفّ عن أسرارها بعد الغسق

ولم يدعها بعد فرك وعشق (٢)

وقال عنترة : [الكامل]

١٢٤٢ ـ يخبرك من شهد الوقيعة أنّني

أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم (٣)

ومنه : «عفيف الإزار» كناية على حصانته ، وعرّف التعفف ، لأنه سبق منهم مرارا فصار كالمعهود ، ومتعلّق التعفف ، محذوف ؛ اختصارا ، أي : عن السؤال ، والأحسن ألّا يقدّر.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٦.

(٢) ينظر : ديوانه (١٠٤) ، البحر ٢ / ٣٢٩ ، الدر المصون ١ / ٦٥٦.

(٣) البيت من معلقته : ينظر ديوانه (٢٠٩) ، شرح القصائد العشر (٣٦٢) ، الشنقيطي (١١٦) ، الدر المصون (١ / ٦٥٦).

٤٣٦

الصفة الرابعة : قوله : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) السّيما : العلامة بالقصر ويجوز مدّها ، وإذا مدّت ، فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد ، للإلحاق : إمّا واو ، وإمّا ياء ، فهي كعلباء ملحقة بسرداح ، فالهمزة فيه للإلحاق ، لا للتأنيث ؛ وهي منصرفة لذلك.

و «سيما» مقلوبة ، قدّمت عينها على فائها ؛ لأنها مشتقة من الوسم فهي بمعنى السّمة ، أي : العلامة ، فلما وقعت الواو بعد كسرة قلبت ياء ، فوزن سيما : عفلا ، كما يقال اضمحلّ ، وامضحلّ ، [و] «وخيمة» ، و «خامة» ، وله جاه ، ووجه ، أي : وجاهة.

وفي الآية الكريمة طباق في موضعين :

أحدهما : «أحصروا» مع قوله : (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ).

والثاني : قوله تعالى : «أغنياء» ، مع قوله : «للفقراء» نحو : (أَضْحَكَ وَأَبْكى) و (أَماتَ وَأَحْيا). ويقال «سيميا» بياء بعد الميم ، وتمدّ كالكيمياء ؛ وأنشد : [الطويل]

١٢٤٣ ـ غلام رماه الله بالحسن يافعا

له سيمياء لا تشقّ على البصر (١)

والباء تتعلّق ب «تعرفهم» ومعناها السببية ، أي : إنّ سبب معرفتك إياهم هي سيماهم.

والسّيما : العلامة ، وقال قوم : السّيما : الارتفاع ، لأنّها علامة وضعت للظّهور.

فصل

قال القرطبيّ (٢) : هذه الآية تدلّ على أن للسّيما أثر في اعتبار من يظهر عليه ذلك ، حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام ، وعليه زنّار ، وهو غير مختون ؛ لا يدفن في مقابر المسلمين ، ويقدّم ذلك على حكم الدار ؛ في قول أكثر العلماء ، ومنه قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فدلّت هذه الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب ، وكسوة وزيّ في التجمل.

فصل في تفسير «السّيما»

قال مجاهد : هو التخشع ، والتواضع (٣).

وقال الربيع ، والسديّ : أثر الجهد من الفقر ، والحاجة (٤).

وقال الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع (٥) ، والضر.

__________________

(١) البيت لابن عنقاء الفزاري ، ينظر أمالي القالي ١ / ٢٣٧ ، الطبري ٥ / ٥٩٥ ، الدر المصون ١ / ٦٥٧.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٢١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٩٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٣٤) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٤) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٧ / ٧١).

(٥) انظر : المصدر السابق.

٤٣٧

وقال ابن زيد : رثاثة ثيابهم (١).

قال ابن الخطيب (٢) : وعندي أنّ الكلّ فيه نظر ؛ لأن كل ما ذكروه علامات دالّة على حصول الفقر ، وذلك يناقض قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) بل المراد شيء آخر ، وهو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعا في قلوب الخلق ، كل من رآهم تأثر منهم ، وتواضع لهم ؛ وذلك إدراكات روحانية ، لا علات جسمانية ؛ ألا ترى أنّ الأسد إذا مرّ هابته جميع السباع بطباعها ، لا بالتجربة ؛ لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت ، وكذلك البازي (٣) ، إذا طار فرّت منه الطيور الضّعيفة ، وكل ذلك إدراكات روحانية ، لا جسمانية فكذا هاهنا ، روي أنهم كانوا يقومون الليل ، للتهجّد ، ويحتطبون بالنهار ؛ للتعفف.

الصفة الخامسة : قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) في نصبه «إلحافا» ثلاثة أوجه :

أحدها : نصبه على المصدر بفعل مقدّر ، أي : يلحفون إلحافا ، والجملة المقدرة حال من فاعل «يسألون».

والثاني : أن يكون مفعولا من أجله ، أي : لا يسألون ؛ [لأجل الإلحاف.

والثالث : أن يكون مصدرا في موضع الحال ، تقديره : لا يسألون] ملحفين.

فصل في تفسير الإلحاف

الإلحاف : هو الإلحاح ؛ قال عطاء : إذا كان عنده غداء لا يسأل عشاء ، وإذا كان عنده عشاء لا يسأ غداء (٤).

وعن ابن مسعود : إن الله يحب العفيف المتعفف ، ويبغض الفاحش البذيء السّائل الملحف ، الذي إن أعطي كثيرا ، أفرط في المدح ، وإن أعطي قليلا أفرط في الذّمّ (٥).

وعن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا يفتح أحد باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر ، ومن

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٩٧) وانظر فتح القدير (١ / ٢٩٣).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٧١.

(٣) البازي فيها لغات : «بازي» مخففة الياء ، والثانية «باز» والثالثة «بازيّ» بتشديد الياء ، حكاهما ابن سيده ، وهو مذكر لا اختلاف فيه ، ويقال في التثنية : بازيان ، وفي الجمع : بزاة ؛ كقاضيان وقضاة ، ويقال للبزاة والشواهين وغيره مما يصيد : صقورا ، ولفظه مشتق من البزوان وهو الوثب. وكنيته : أبو الأشعث ، وأبو البهلول ، وأبو لاحق ، وهو من أشد الحيوانات تكبرا وأضيقها خلقا. قال القزويني في «عجائب المخلوقات» : قالوا إنه لا يكون إلا أنثى وذكرها من نوع آخر ، كالحدإ والشواهين ، ولهذا اختلفت أشكالها. ينظر حياة الحيوان ١ / ٩٩.

(٤) انظر : تفسير الرازي (٧ / ٧١).

(٥) انظر : المصدر السابق.

٤٣٨

يستغن ، يغنه الله ، ومن يستعفف ، يعفّه الله ، لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب فيه فيبيعه بمدّ من تمر خير له من أن يسأل النّاس» (١).

فصل

اعلم : أنّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه ، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد ؛ نحو : «ما رأيت رجلا صالحا» ، الأكثر على أنك رأيت رجلا ، ولكن ليس بصالح ، ويجوز أنّك لم تر رجلا ألبتة ؛ لا صالحا ولا طالحا ، فقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) المفهوم أنهم يسألون ، لكن لا بإلحاف ، ويجوز أن يكون المعنى : أنهم لا يسألون ، ولا يلحفون ؛ والمعنيان منقولان في التفسير ، والأرجح الأول عندهم ، ومثله في المعنى : «ما تأتينا فتحدّثنا» يجوز أنه يأتيهم ، ولا يحدّثهم ، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدّثهم ، انتفى السبب ، وهو الإتيان ، فانتفى المسبّب ، وهو الحديث.

وقد شبّه الزجاج ـ رحمه‌الله تعالى ـ معنى ههذ الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس ؛ وهو قوله: [الطويل]

١٢٤٤ ـ على لاحب لا يهتدى بمناره

إذا سافه العود النّباطيّ جرجرا (٢)

قال أبو حيّان : «تشبيه الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين ، أي : لا سؤال ولا إلحاف ، وكذلك هذا : لا منار ولا هداية ، لا أنه مثله في خصوصيّة النفي ، إذ كان يلزم أن يكون المعنى : لا إلحاف ، فلا سؤال ، وليس تركيب الآية على هذا المعنى ، ولا يصحّ : لا إلحاف ، فلا سؤال ؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، كما لزم من نفي المنار ، نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه ، وإنما يؤدّي معنى النفي على طريقة النّفي في البيت أن لو كان التركيب : «لا يلحفون الناس سؤالا» لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف ، إذ نفي العامّ يدلّ على نفي الخاص ؛ فتلخّص من هذا : أنّ نفي الشيئين : تارة يدخل حرف النفي على شيء ، فتنتفي جميع عوارضه ، وينبّه على بعضها بالذكر لغرض ما ، وتارة يدخل حرف النفي على عارض من عوارضه ، والمقصود نفيه ، فتنتفي لنفيه عوارضه».

قال شهاب الدين : قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال : «تشبيهه ليس مثله في خصوصية النفي ؛ لأنّ انتفاء المنار في البيت يدلّ على نفي الهداية ، وليس انتفاء الإلحاح ،

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٤١٨) والطبري في تهذيب الآثار كما في «كنز العمال» (١٦٧٤٦) وأبو يعلى (١٢ / ٤٧) رقم (٦٦٩١) الشطر الأول منه وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣ / ٩٥) وقال : رواه أبو يعلى من رواية محمد بن عبد الرحمن عن سهيل والعلاء ولم أعرفه.

(٢) ينظر ديوانه (٩٥) ، أمالي ابن الشجري ١ / ١٩٢ ، الخصائص ٣ / ١٦٥ ، معاني الزجاج ١ / ٣٥٧ ، أمالي المرتضى ١ / ١٦٥ ، اللسان : سوق ، الدر المصون ١ / ٦٥٧.

٤٣٩

يدلّ على انتفاء السؤال في الآية». وأطال ابن عطية في تقرير هذا ، وجوابه ما تقدم : من أنّ المراد نفي الشيئين ، لا بالطريق المذكور في البيت ، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفا : «ونظير هذا : ما تأتينا فتحدثنا» فعلى الوجه الأول : يعني نفي القيد وحده : ما تأتينا محدّثا ، إنما تأتي ولا تحدّث.

وعلى الوجه الثاني : يعني نفي الحكم بقيده ب «ما يكون منك إتيان ، فلا يكون حديث» ، وكذلك هذا : لا يقع منهم سؤال ألبتّة ، فلا يقع إلحاح ، ونبّه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح ؛ لقبح هذا الوصف ، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ، ووجود غيره ؛ لأنه كان يصير المعنى الأول ، وإنما يراد بنفي هذا الوصف ، نفي المترتبات على المنفيّ الأول ؛ لأنه نفى الأولى على سبيل العموم ، فتنتفي مترتّباته ، كما أنك إذا نفيت الإتيان ، فانتفى الحديث ، انتفى جميع مترتّبات الإتيان : من المجالسة ، والمشاهدة ، والكينونة في محلّ واحد ، ولكن نبّه بذكر مترتّب واحد ؛ لغرض ما على ذكر سائر المترتّبات» وهذا يقرر ما تقدّم.

وأمّا الزمخشريّ : فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج ، فإنه قيل : «وقيل : هو نفي للسؤال والإلحاف جميعا ؛ كقوله : [الطويل]

١٢٤٥ ـ على لاحب لا يهتدى بمناره

 ..........(١)

يريد نفي المنار والاهتداء به».

قال شهاب الدين : وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه ، قد قبلها الناس ، ونصروها ، واستحسنوا تنظيرها بالبيت ؛ كالفارسيّ ، وأبي بكر بن الأنباريّ ، قال أبو عليّ : لم يثبت في قوله: (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) مسألة فيهم ؛ لأن المعنى : ليس منهم مسألة ، فيكون منهم إلحاف ، ومثل ذلك قول الشاعر : [السريع]

١٢٤٦ ـ لا يفزع الأرنب أهوالها

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر (٢)

أي : ليس فيها أرنب ؛ فيفزع لهولها ، ولا ضبّ فينجحر ، وليس المعنى : أنه ينفي الفزع عن الأرنب ، والانجحار عن الضب.

وقال أبو بكر : تأويل الآية : لا يسألون ألبتة ، فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف ؛ فجرى هذا مجرى قولك : فلان لا يرجى خيره ، أي : لا خير عنده ألبتة فيرجى ؛ وأنشد قول امرئ القيس : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ١ / ٦٥٨.

(٢) البيت لابن أحمر : ينظر أمالي ابن الشجري ١ / ١٩٢ ، الخصائص ٣ / ١٦٥ ، أمالي المرتضى ١ / ٢٢٩ ، خزانة الأدب ١٠ / ١٩٢ ، الدر المصون ١ / ٦٥٨.

٤٤٠