اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

له سبعمائة حسنة ، ثمّ قال (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) يعني على سبعمائة ، فيكون مثل المتصدق مثل الزّارع ، إن كان حاذقا في عمله فيكون البذر جيّدا ، وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر ، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا ، والمال طيّبا ، ويضعه موضعه ، فيصير الثواب أكثر.

فإن قيل : لم نر سنبلة فيها مائة حبّة ، فكيف ضرب المثل بها؟

فالجواب (١) : قال القفّال : المقصود أنه لو علم طالب الزيادة والرّبح أنّه إذا بذر حبّة واحدة ، أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك ، فكذلك ينبغي لطالب الآخرة والأجر عند الله ألّا يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة ، وإذا كان المراد منه هذا المعنى فسواء وجدت هذه السنبلة ، أو لم توجد ، فإنّ المعنى حاصل مستقيم. وقيل : وجد ذلك في الدّخن.

«والله يضاعف لمن يشاء».

قيل : معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء.

وقيل يضاعف على هذا ، ويزيد لمن يشاء ، ما بين سبع إلى سبعين ، إلى سبعمائة ، إلى ما شاء الله من الأضعاف ، مما لا يعلمه إلا الله تعالى. (وَاللهُ واسِعٌ) أي : القدرة على سبيل المجازاة على الجود ، والإفضال عليهم بنية من ينفق ماله.

فصل في الاستدلال بالآية على فضل الزراعة

قال القرطبيّ (٢) : دلّت هذه الآية على أنّ حرفة الزّرع من أعلى الحرف ، التي يتخذها الناس ، والمكاسب التي يشتغل بها العمّال ، ولذلك ضرب الله به المثل وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ما من مسلم يغرس غرسا ، أو يزرع زرعا فتأكل منه الطّير ، أو إنسان ، أو بهيمة ، إلّا كان له صدقة» (٣) رواه مسلم.

وروى الترمذي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت ـ : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «التمسوا الرّزق في خبايا الأرض» (٤) ، يعني : الزّرع ، والزّراعة من فروض الكفايات ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٣٩.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٩٨.

(٣) أخرجه البخاري كتاب الحرث والمزارعة باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه رقم (٢٣٢٠) ، وكتاب الأدب باب رحمة الناس والبهائم (٦٠١٢) ومسلم كتاب المساقاة باب فضل الغرس والزرع رقم (١٥٥٣) وأحمد (٣ / ١٤٧ ، ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ، ٢٤٣). والترمذي كتاب الأحكام باب ما جاء في فضل الغرس (١٣٨٢) والبيهقي (٦ / ١٣٧) وأبو يعلى (٥ / ٢٣) رقم (٢٨٥١) من طرق عن قتادة عن أنس مرفوعا.

(٤) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» رقم (١٢٣٤ ، ١٢٣٥) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٤ / ٢١) رقم (٩٣٠٣) وزاد نسبته للدارقطني في «الأفراد» عن عائشة وابن عساكر عن عبد الله بن أبي عياش بن ربيعة.

٣٨١

يجب على الإمام أن يجبر النّاس عليها ، وما كان في معناها من غرس الأشجار.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٢٦٢)

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون مرفوعا بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) ، ولم يضمّن المبتدأ هنا معنى الشّرط ، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره ، لأنّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها ؛ لأنّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشّيء الثّابت المفروغ منه ، وهو تشبيه نفقتهم بالحبّة المذكورة ، فجاءت هذه الجملة كذلك ، والخبر فيها أخرج مخرج الثّابت المستقرّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [غيره] ما قبله.

والثاني : أنّ «الّذين» خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ينفقون ، وفي قوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) على هذا وجهان :

أحدهما : أنّها في محل نصب على الحال.

والثاني : ـ وهو الأولى ـ أن تكون مستأنفة ، لا محلّ لها من الإعراب ، كأنها جواب سائل قال : هل لهم أجر؟ وعطف ب «ثمّ» جريا على الأغلب ؛ لأنّ المتصدّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنّ عقيب صدقته ، ولا يؤذي على الفور ، فجرى هذا على الغالب ، وإن كان حكم المنّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك.

قال الزّمخشريّ : ومعنى «ثمّ» : إظهار التّفاوت بين الإنفاق ، وترك المنّ والأذى ، وأنّ تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيرا من الدّخول فيه بقوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠] ، فجعلها للتّراخي في الرّتبة ، لا في الزّمان ، وقد تكرّر له ذلك غير مرّة.

و «ما» في قوله تعالى : (ما أَنْفَقُوا) يجوز أن تكون موصولة اسميّة ، فالعائد محذوف ، أي : ما أنفقوه ، وأن تكون مصدرية ، فلا تحتاج إلى عائد ، أي : لا يتبعون إنفاقهم. ولا بدّ من حذف بعد «منا» ، أي : منا على المنفق عليه ، ولا أذى له ، فحذف للدّلالة عليه.

والمنّ : الاعتداد بالإحسان ، وهو في الأصل : القطع ، ولذلك يطلق على النّعمة ؛ لأنّ المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه. يقال : قد منّ الله على فلان ، إذا أنعم عليه ، ولفلان عليّ منّة ، أي : نعمة ؛ وأنشد ابن الأنباريّ : [الطويل]

١٢١٨ ـ فمنّي علينا بالسّلام فإنّما

كلامك ياقوت ودرّ منظّم (١)

__________________

(١) ينظر : الرازي ٧ / ٤١.

٣٨٢

ومنه قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ما من أحد من النّاس أمنّ علينا في صحبته ، ولا ذات يده من ابن أبي قحافة» (١) يريد أكثر إنعاما بماله ، وأيضا فالله تعالى يوصف بأنّه منّان ، أي : منعم ، و «المنّ» أيضا النّقص من الحقّ. قال تبارك وتعالى (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) [القلم : ٣] أي : غير مقطوع وغير ممنوع ؛ ومنه سمي الموت منونا ؛ لأنه ينقص الحياة ، ويقطعها ، ومن هذا الباب : المنّة المذمومة ؛ لأنّها تنقص النّعمة ، وتكدّرها ، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنّعمة قال قائلهم : [الرمل]

١٢١٩ ـ زاد معروفك عندي عظما

أنّه عندك مستور حقير

تتناساه كأن لم تأته

وهو في العالم مشهود كثير (٢)

والمنّ : الذي يوزن به ، ويقال في هذا : «منا» مثل : عصا. وتقدّم اشتقاق الأذى.

و «منّا» مفعول ثان ، و «لا أذى» عطف عليه ، وأبعد من جعل «ولا أذّى» مستأنفا ، فجعله من صفات المتصدّق ، كأنّ قال : الذين ينفقون ، ولا يتأذّون بالإنفاق ، فيكون «أذى» اسم لا ، وخبرها محذوف ، أي : ولا أذى حاصل لهم ، فهي جملة منفية في معنى النّهي.

قال شهاب الدّين : وهذا تكلّف ، وحقّ هذا القائل أن يقرأ «ولا أذى» بالألف غير منوّن ؛ لأنّه مبنيّ على الفتح على مشهور مذهب النّحاة.

فصل في سبب النزول

قال الكلبيّ (٣) : نزلت في عثمان بن عفّان ، وعبد الرّحمن بن عوف.

أمّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة «تبوك» ، بألف بعير بأقتابها ، وأحلاسها ، وألف دينار.

قال عبد الرّحمن بن سمرة : جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة ، فصبّها في حجر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فرأيت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها ، ويقول : «ما ضرّ ابن عفّان ما عمل بعد اليوم». وقال «يا ربّ ؛ عثمان رضيت عنه فارض عنه» (٤) فنزلت هذه الآية الكريمة.

وأمّا عبد الرحمن بن عوف ، فإنّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٧ / ٤١).

(٢) ينظر : الرازي ٧ / ٤١.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٤٩.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٨٥) رقم (٣٧٠١) والحاكم (٣ / ١٠٢) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٢١٥) عن عبد الرحمن بن سمرة.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وأخرجه الترمذي (٥ / ٥٨٤) رقم (٣٧٠٠) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٢١٤ ـ ٢١٥) من حديث عبد الرحمن بن خباب.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

٣٨٣

ـ فقال : كانت عندي ثمانية آلاف ، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف ، وأربعة آلاف أقرضتها ربّي ، فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «بارك الله لك فيما أمسكت ، وفيما أعطيت» (١) فنزلت الآية. وقال بعض المفسّرين (٢) : إن الآية المتقدّمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره ، فبين تعالى أنّ الإنفاق على الغير ، يوجب الثّواب المذكور في الآية المتقدّمة ، إذا لم يتبعه «منّ» ، «ولا أذى» قال القفّال (٣) : وقد يحتمل أن يكون هذا الشّرط معتبرا أيضا فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمؤمنين ، ولا يؤذي أحدا من المؤمنين ، مثل أن يقول : لو لم أحضر لما تمّ هذا الأمر ، ويقول لغيره : أنت ضعيف لا منفعة بك في الجهاد.

وقال بعضهم : «في سبيل» ، أي : طاعة الله ـ تعالى ـ ؛ ولا يمنّ بعطائه ، ولا يعدّ عليه نعمه ، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره ، فيقول : إلى كم تسأل ، وكم تؤذيني؟ وقيل : الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.

وقال سفيان : (مَنًّا وَلا أَذىً) : هو أن يقول : قد أعطيتك ، فما شكرت (٤). قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان أبي يقول : إذا أعطيت رجلا شيئا ، ورأيت أنّ سلامك يثقل عليه ، فكف سلامك عنه ، فحظر الله على عباده المنّ بالصّنيعة (٥) ، واختصّ به صفة لنفسه ؛ لأنّه من العباد تعيير وتكدير ، ومن الله إفضال ، وتذكير ، وإنّما كان المنّ ، والأذى مذموما ، لأنّ الفقير الآخذ للصّدقة منكسر القلب ، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي ، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك : إظهار ذلك الإنعام ، زاد ذلك في انكسار قلبه ، فيكون في حكم المضرّة بعد المنفعة ، وينفّر أهل الحاجة عن الرّغبة في صدقته (٦) إذا اشتهر بتلك الطّريقة ، وأمّا «الأذى» ، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين ، وليس بظاهر ، بل اختصاصه بما تقدّم من أذى الفقير أولى.

فإن قيل : ظاهر اللّفظ : أنّ مجموع المنّ ، والأذى يبطلان الأجر ، فيلزم منه أنّه لو وجد أحدهما دون الآخر ، لا يبطل الأجر.

قلنا : بل الشّرط ألّا يوجد واحد منهما ؛ لأن قوله (لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) يقتضي ألّا يقع منه ، لا هذا ، ولا ذاك.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

قالت المعتزلة : الآية الكريمة دلّت على أنّ الكبائر تحبط ثواب فاعلها ؛ وذلك لأنّ الله ـ تعالى ـ بين أنّ هذا الثّواب إنّما يبقى إذا لم يوجد المنّ والأذى ؛ لأنّه لو ثبت مع

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٠.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٥٠.

(٥) في ب : بالنفقة بما.

(٦) في ب : رغبته.

٣٨٤

فقدهما ، ومع وجودهما ؛ لم يكن لهذا الاشتراط فائدة (١).

وأجيبوا بأنّ المراد منها أنّ حصول المنّ والأذى يخرجان الإنفاق عن أن يكون فيه أجر وثواب أصلا من حيث يدلّان على أنّه إنّما أنفق لكي يمنّ ، ولم ينفق (٢) لطلب رضوان الله ، ولا على وجه القربة والعبادة ، فلا جرم ، بطل الأجر.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجّت المعتزلة بقوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) على أنّ العمل موجب للأجر على الله ـ تعالى ـ.

وأجيبوا بأنّ حصول الأجر بسبب الوعد ، لا بسبب نفس العمل ؛ لأن العمل واجب على العبد ، وأداء الواجب لا يوجب الأجر.

فصل

وأجمعت الأمّة على أنّ قوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مشروط بعدم الكفر ، وذلك يدلّ على جواز التّكلّم بالعام لإرادة الخاصّ ، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللّفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية ، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التّمسّك بالعمومات على القطع بالوعيد.

قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فيه قولان :

أحدهما : أنّ إنفاقهم في سبيل الله ، لا يضيع ، بل يجدونه يوم القيامة ، فلا يخافون فقد ه «ولا يحزنون» بسبب ألّا يوجد ، ونظيره (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه : ١١٢].

الثاني : أنهم يوم القيامة ، لا يخافون العذاب ألبتة ، ونظير (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل : ٨٩] وقال (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣].

قوله تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)(٢٦٣)

في قوله «معروف» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ ، وساغ الابتداء بالنّكرة لوصفها ، وللعطف عليها. و «مغفرة» عطف عليه ، وسوّغ الابتداء بها العطف ، أو الصّفة المقدّرة ، إذ التّقدير : ومغفرة من السّائل ، أو من الله. و «خير» خبر عنهما. وقال أبو البقاء (٣) في هذا الوجه : «والتّقدير :

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٢.

(٢) في ب : إنما أنفق.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٢.

٣٨٥

وسبب مغفرة ، لأنّ المغفرة من الله تعالى ، فلا تفاضل بينها ، وبين فعل العبد ، ويجوز أن تكون المغفرة : مجاوزة المتصدّق ، واحتماله للفقير ، فلا يكون فيه حذف مضاف».

الثاني : أنّ «قول معروف» مبتدأ وخبره محذوف ، أي : أمثل ، أو أولى بكم ، و «مغفرة» مبتدأ ، و «خير» خبرها ، فهما جملتان ، ذكره المهدوي وغيره. قال ابن عطيّة : «وهذا ذهاب برونق المعنى».

والثالث : أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره : المأمور به قول معروف.

وقوله : (يَتْبَعُها أَذىً) في محلّ جرّ صفة لصدقة ، فإن قيل لم يعد ذكر المنّ فيقول : يتبعها منّ ، وأذى. فالجواب ؛ لأنّ الأذى يشمل المنّ ، وغيره ، وإنّما نصّ عليه في قوله : (لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) لكثرة وقوعه من المتصدّقين ، وعسر تحفظّهم منه ، ولذلك قدّم على الأذى.

فصل

القول المعروف : هو القول الذي تقبله القلوب ، والمراد منه هنا : ردّ السّائل بطريق حسن.

وقال عطاء : عدة حسنة (١).

وقال القرطبيّ : وروي من حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إذا سأل السّائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها ، ثمّ ردّوا عليه بوقار ، ولين ، أو ببذل يسير ، أو ردّ جميل ، فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جانّ ينظرون صنيعكم فيما خوّلكم الله تعالى» (٢).

وأمّا المغفرة فقيل : هي العفو عن بذاءة الفقير ، والصّفح عن إساءته فإنه إذا ردّ بغير مقصوده ؛ شقّ عليه ذلك ، فربّما حمله ذلك على بذاءة اللّسان.

وقيل المراد ونيل مغفرة من الله بسب ذلك الردّ الجميل.

وقال الضّحّاك : نزلت في إصلاح ذات البين (٣).

وقيل المراد : أن يستر حاجة الفقير ، فلا يهتك ستره ، ولا يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله.

وقيل : إن قوله (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) خطاب مع المسؤول بأن يردّ السّائل بأحسن الطّرق.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٣.

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» (٣ / ٢٠١) فقال : روي عن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٥٠.

٣٨٦

وقوله «مغفرة» : خطاب مع السائل بأن يعذر المسؤل في ذلك الرد ، فإنه ربما لم يقدر على ذلك المطلوب في تلك الحالة ، ثم بين تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى ؛ لأنه إذا أعطى ، وأتبع الإعطاء بالأذى ، فقد جمع بين النفقة والإضرار.

وأما القول المعروف ، ففيه نفع بلا ضرر ؛ لأنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ، فكان خيرا من الأول.

قال بعضهم : الآية الكريمة واردة في التطوع ؛ لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل منه ، ويحتمل أن يراد به الواجب ، فإنه قد يعدل به عن سائل إلى سائل ، وعن فقير إلى فقير. ثم قال : «والله غني» عن صدقة العباد ، وإنما أمركم بها ليثيبكم عليها «حليم» لم يتعجل بالعقوبة على من يمن ، ويؤذي بصدقته.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢٦٥)

اعلم أنّه تعالى ، لم ذكر هذين النّوعين من الإنفاق ضرب واحدا منهما مثلا.

قوله : «كالذي» الكاف في محلّ نصب ، فقيل : نعتا لمصدر محذوف ، أي : لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي ينفق رئاء النّاس ، وقيل : في محلّ نصب على الحال من ضمير المصدر المقدّر كما هو رأي سيبويه (١) ، وقيل : حال من فاعل «تبطلوا» ، أي : لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النّاس.

أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف تقديره : إنفاقا رئاء النّاس ، كذا ذكره مكي (٢).

والثاني : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل رئاء النّاس ، واستكمل شروط النّصب.

الثالث : أنه في محلّ حال ، أي : ينفق مرائيا.

والمصدر هنا مضاف للمفعول ، وهو «النّاس» ، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالا ، والأصل : «رئايا» فالهمزة الأولى عين الكلمة ، والثانية بدل من ياء هي لام الكلمة ، لأنها

__________________

(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١١٦.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ١٠٣.

٣٨٧

وقعت طرفا بعد ألف زائدة. والمفاعلة في «راءى» على بابها ، لأنّ المرائي يري النّاس أعماله ؛ حتى يروه الثّناء عليه ، والتّعظيم له. وقرأ (١) طلحة ـ ويروى عن عاصم ـ : «رياء» بإبدال الهمزة الأولى ياء ، وهو قياس الهمزة تخفيفا ؛ لأنّها مفتوحة بعد كسرة.

قوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ) مبتدأ وخبر ، ودخلت الفاء ، قال أبو البقاء (٢) : «لتربط الجملة بما قبلها» كما تقدّم ، والهاء في «فمثله» فيها قولان :

أظهرهما : أنها تعود على «الّذي ينفق رئاء النّاس» ؛ لأنّه أقرب مذكور فيكون المعنى أنّ الله شبّه المانّ المؤذي بالمنافق ، ثم شبّه المنافق بالحجر.

والثاني : أنها تعود على المانّ المؤذي ، كأنه تعالى شبّهه بشيئين : بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه تراب ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة ، ومن جمع إلى إفراد.

والصّفوان : حجر كبير أملس ، وفيه لغتان :

أشهرهما سكون الفاء ، والثانية فتحها ، وبها قرأ ابن المسيّب والزّهريّ ، وهي شاذّة ؛ لأنّ «فعلان» إنّما يكون في المصادر نحو : النّزوان ، والغليان ، والصفات نحو : رجل طغيان وتيس عدوان ، وأمّا في الأسماء فقليل جدا. واختلف في «صفوان» فقيل : هو جمع مفرده : صفا ، قال أبو البقاء (٣) : «وجمع «فعل» على «فعلان» قليل». وقيل : هو اسم جنس.

قال أبو البقاء (٤) : «وهو الأجود ، ولذلك عاد الضّمير عليه مفردا في قوله : عليه».

وقيل : هو مفرد ، واحده «صفيّ» قاله الكسائي ، وأنكره المبرّد. قال : «لأنّ صفيّا جمع صفا نحو : عصيّ في عصا ، وقفيّ في قفا». ونقل عن الكسائي أيضا أنه قال : «صفوان مفرد ، ويجمع على صفوان بالكسر». قال النّحاس (٥) : «ويجوز أن يكون المكسور الصّاد واحدا أيضا ، وما قاله الكسائيّ غير صحيح ، بل صفوان ـ يعني بالكسر ـ جمع لصفا ك «ورل» وورلان ، وأخ وإخوان وكرى وكروان».

وحكى أبو عبيد عن الأصمعي أن الصّفوان ، والصّفا ، والصّفو واحد والكلّ مقصور.

وقال بعضهم (٦) : الصّفوان : جمع صفوانة ، كمرجان ، ومرجانة ، وسعدان ، وسعدانة.

__________________

(١) وقرأ بها عليّ كما في الشواذ ١٦ ، وانظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٥٨. والبحر المحيط ٢ / ٣٢١ ، والدر المصون ١ / ٦٣٧ ، وإتحاف ١ / ٤٥٢ وفيه نسبها إلى أبي جعفر.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٢.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : إعراب القرآن للنحاس ١ / ٢٨٧.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٧.

٣٨٨

وقال بعضهم (١) : الصّفوان : هو الحجر الأملس ، وهو واحد وجمع.

و «عليه تراب» : يجوز أن يكون جملة من مبتدأ ، وخبر ، وقعت صفة لصفوان ، ويجوز أن يكون «عليه» وحده صفة له ، و «تراب» فاعل به ، وهو أولى لما تقدّم عند قوله «في كلّ سنبلة مائة حبّة». والتّراب معروف وهو اسم جنس ، لا يثنّى ، ولا يجمع.

وقال المبرّد : وهو جمع واحدته «ترابة». وذكر النّحّاس له خمسة عشر اسما : تراب وتورب ، وتوراب ، وتيراب وإثلب وأثلب وكثكث وكثكث ودقعم ودقعاء ورغام بفتح الراء ، ومنه : أرغم الله أنفه أي : ألصقه بالرّغام وبرى ، وقرى بالفتح مقصورا [كالعصا وكملح وعثير](٢) وزاد غيره تربة وصعيد.

ويقال : ترب الرّجل : افتقر. ومنه : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد : ١٦] كأنّ جلده لصق به لفقره ، وأترب ، أي : استغنى ، كأنّ الهمزة للسّلب ، أو صار ماله كالتّراب.

قوله «فأصابه» عطف على الفعل الذي تعلّق به قوله : «عليه» ، أي : استقرّ عليه تراب ، فأصابه. والضّمير يعود على الصّفوان ، وقيل : على التّراب. وأمّا الضّمير في «فتركه» فعلى الصفوان فقط. وألف «أصابه» من واو ؛ لأنه من صاب يصوب.

والوابل : المطر الشّديد ، وبلت السّماء تبل ، والأرض موبولة ، ويقال أيضا : أوبل ، فهو موبل ، فيكون ممّا اتفق فيه فعل ، وأفعل ، وهو من الصّفات الغالبة كالأبطح ، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوف. قال النّضر بن شميل :

أول ما يكون المطر رشا ، ثم طشا ، ثم طلّا ، ورذاذا ، ثم نضحا ، وهو قطر بين قطرين ، ثم هطلا وتهتانا ، ثم وابلا و؟؟؟ جودا. والوبيل : الوخيم ، والوبيلة : حزمة الحطب ، ومنه قيل للغليظة : وبيلة على التّشبيه بالحزمة.

قوله : «فتركه صلدا» كقوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) [البقرة : ١٧]. والصّلد : الأجرد الأملس ، ومنه : «صلد جبين الأصلع» : أي برق ، والصّلد أيضا صفة ، يقال : صلد بكسر اللام يصلد بفتحها ، فهو صلد. قال النّقّاش : «الصّلد بلغة هذيل». وقال أبان بن تغلب : «الصّلد : اللّيّن من الحجارة» وقال علي بن عيسى : «هو من الحجارة ما لا خير فيه ، وكذلك من الأرضين وغيرها ، ومنه : «قدر صلود» أي : بطيئة الغليان» ، وصلد الزّند : إذا لم يورد نارا.

قوله : (لا يَقْدِرُونَ) في هذه الجملة قولان :

أحدهما : أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب.

والثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من «الّذي» في قوله : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ) ،

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٥١.

(٢) في ب : كالقضاه وكملح وغيره.

٣٨٩

وإنما جمع الضّمير حملا على المعنى ، لأنّ المراد بالذي الجنس ، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرّة في قوله : «ماله» و «لا يؤمن» ، «فمثله» وعلى معناه أخرى. وصار هذا نظير قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ثم قال : (بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ) [البقرة : ١٧] ، وقد تقدّم.

وزعم ابن عطيّة أنّ مهيع كلام العرب الحمل على اللّفظ أولا ، ثم المعنى ثانيا ، وأنّ العكس قبيح ، وتقدّم الكلام معه في ذلك. وقيل : الضّمير في «يقدرون» عائد على المخاطبين بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وفيه بعد.

وقيل : يعود على ما يفهم من السّياق ، أي : لا يقدر المانّون ، ولا المؤذون على شيء من نفع صدقاتهم. وسمّى الصّدقة كسبا.

قال أبو البقاء (١) : «ولا يجوز أن يكون «لا يقدرون» حالا من «الّذي» ؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله : «فمثله» وما بعده». ولا يلزم ذلك ؛ لأنّ هذا الفصل فيه تأكيد ، وهو كالاعتراض».

فصل

قال القاضي : إنه تبارك وتعالى أكّد النّهي عن إبطال الصّدقة بالمنّ ، والأذى ، وأزال كلّ شبهة للمرجئة ، وبيّن أنّ المنّ والأذى يبطلان الصّدقة ، ومعلوم أنّ الصّدقة قد وقعت ، فلا يصحّ أن تبطل ، فالمراد إبطال أجرها ، لأنّ الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل ، فيصحّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى.

واعلم أنّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصّدقة بالمنّ والأذى مثلين ، فمثله أوّلا : بمن ينفق ماله رئاء النّاس ، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله ، واليوم الآخر ؛ لأنّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر ، أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها بالمنّ ، والأذى. ثم مثّله ثانيا : ب «الصّفوان» الذي وقع عليه تراب ، وغبار ، ثم أصابه المطر القويّ ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلا ، فالكافر كالصّفوان ، والتّراب مثل ذلك الإنفاق ، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر ، وكالمنّ والأذى اللّذين يحبطان عمل هذا المنفق.

قال : فكما أنّ الوابل أزال التّراب الذي وقع على الصّفوان ، فكذلك المنّ والأذى ، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريح في القول بالإحباط.

قال الجبّائيّ (٢) : وكما دلّ هذا النّص على صحّة قولنا فالعقل دلّ عليه أيضا ؛ لأن

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٢.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٤.

٣٩٠

من أطاع ، فلو استحقّ ثواب طاعته ، وعقاب معصيته لوجب أن يستحقّ النّقيضين (١) ؛ لأنّ شرط الثّواب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال ، وشرط العقاب أن يكون مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإهانة فلو لم تقع المحابطة ، لحصل استحقاق النّقيضين وذلك محال ، ولأنّه حين يعاقبه ، فقد منعه الإثابة ، ومنع الإثابة ظلم ، وهذا العقاب عدل ، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلا من حيث إنّه حقّه ، وأن يكون ظلما من حيث إنّه منع الإثابة ، فيكون ظالما بنفس الفعل الذي هو عادل فيه ؛ وذلك محال ، فصحّ بهذا النّصّ ودلالة العقل صحّة قولنا في الإحباط والتّكفير. وأجيبوا بأنه ليس المراد بقوله (لا تُبْطِلُوا) النّهي عن إزالة هذا الثّواب بعد ثبوته ، بل المراد به ألّا يأتي بهذا العمل باطلا ؛ لأنّه إذا قصد به غير وجه الله تعالى ، فقد أتى به من الابتداء موصوفا بالبطلان.

قال ابن الخطيب (٢) : ويدلّ على بطلان قول المعتزلة وجوه :

أولها : أنّ الباقي والطّارئ إن لم يكن بينهما منافاة ، لم يلزم من طريان الطّارئ زوال الباقي ، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن زوال الباقي أولى من اندفاع الطّارئ ، بل ربّما كان اندفاع الطّارئ أولى ؛ لأن الدفع أسهل من الرفع (٣).

وثانيها : أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي ، وهو محال ؛ لأنّ الماضي قد انقضى ، ولم يبق في الحال ، وإعدام المعدوم محال ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضا محال ؛ لأنّ الموجود في الحال ، لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محال ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محال ، لأنّ الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال ، وإعدام ما لم يوجد بعد محال.

وثالثها : أنّ شرط طريان الطّارئ ، زوال الباقي ، فلو جعلنا زوال النافي معلّلا بطريان الطّارئ ، لزم الدّور ، وهو محال.

ورابعها : أنّ الطّارئ إذا طرأ وأعدم الثّواب السّابق ، فالثّواب السّابق إمّا أن يعدم

__________________

(١) في ب : النقيضان.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٤.

(٣) وهذه قاعدة من قواعد الشرع ذكرها السيوطي في الأشباه والنظائر ص ١٣٨ وقال :

ولهذا الماء المستعمل ، إذا بلغ قلتين ، في عوده طهورا وجهان. ولو استعمل القلتين ابتداء ، لم يصر مستعملا ، بلا خلاف.

والفرق أن الكثرة في الابتداء دافعة ، وفي الأثناء رافعة ؛ والدفع أقوى من الرفع.

ومن ذلك : للزوج منع زوجته من حج الفرض ، ولو شرعت فيه بغير إذنه ؛ ففي جواز تحليلها قولان.

ووجود الماء قبل الصلاة للمتيمم ، يمنع الدخول فيها ، وفي أثنائها لا يبطلها ؛ حيث تسقط به.

واختلاف الدين ـ المانع من النكاح ـ يدفعه ابتداء ، ولا يرفعه في الأثناء ، بل يوقف على انقضاء العدة.

والفسق : يمنع انعقاد الإمامة ابتداء ، ولو عرض في الأثناء ، لم ينعزل.

٣٩١

من هذا الطّارئ شيئا ، أو لا يعدم منه شيئا ، والأول هو الموازنة ، وهو قول أبي هاشم (١) ، وهو باطل ، وذلك لأنّ الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر ، فلو حصل العدمان معا اللّذان هما معلولان ، لزم حصول الموجودين اللّذين هما علّتان ، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما موجودا حال كون كلّ واحد منهما معدوما وهو محال.

والثاني ، وهو قول أبي علي الجبّائي (٢) : هو أيضا باطل ؛ لأنّ العقاب الطّارئ لما أزال الثّواب السّابق ، وذلك الثّواب السّابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشّيء من هذا العقاب الطّارئ ، فحينئذ لا يحصل له من العلم الذي أوجب الثّواب السّابق فائدة أصلا ، لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب ، وذلك على مضادة النّصّ الصّريح في قوله تبارك وتعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] ، لأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقّة الطّاعة ، ولم يظهر له منها أثر ، لا في جلب منفعة ، ولا في دفع مضرة.

خامسها : أنكم تقولون الصّغيرة تحبط بعض أجزاء الثّواب دون البعض وذلك محال ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهيّة ، فالصّغيرة الطّارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكلّ في الماهيّة كان ذلك ترجيحا للممكن من غير مرجّح ، وهو محال فلم يبق إلّا أن يقال بأنّ الصّغيرة الطّارئة تزيل كلّ تلك الاستحقاقات ، وهو باطل بالاتّفاق ، أو لا تزيل شيئا منها ، وهو المطلوب.

سادسها : أنّ عقاب الكبيرة ، إذا كان أكثر من ثواب العمل المتقدّم ، فإمّا أن يقال : بأنّ المؤثر في إبطال الثّواب بعض أجزاء العقاب الطّارئ ، أو كلها ، والأوّل باطل ؛ لأنّ اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثريّة دون البعض مع استواء كلّها في الماهيّة ترجيح للممكن من غير مرجّح ، وهو محال. الثاني باطل ؛ لأنّه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثّواب جزان من العقاب مع أنّ كلّ واحد من ذينك الجزأين مستقلّ بإبطال ذلك الثّواب ، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران كلّ واحد منهما مستقلّ وذلك محال ؛ لأنّه يستغني بكلّ واحد منهما عن كلّ واحد منهما فيكون غنيّا عنهما معا ، حال كونه محتاجا إليهما معا ، وهو محال.

سابعها : أنّه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين ؛ لأنّ السّيّد إذا قال لعبده : احفظ هذا المتاع لئلّا يسرقه السّارق ، ثم في ذلك الوقت جاء العدوّ ، وقصد قتل السّيّد ، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدوّ ، وقتله ، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح ، والتعظيم حيث دفع القتل عن سيّده ، ويوجب استحقاقه للذّمّ ، حيث عرض ماله للسّرقة ، وكلّ واحد من الاستحقاقين ثابت ، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى التّرجيح أو إلى المهايأة ، فأمّا أن يحكموا بانتفاء الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوع في بداية العقول.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٥.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٣٩٢

ثامنها : أنّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدّم ، فهذا الطّارئ إمّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق ، أو لا يكون. والأوّل محال ؛ لأنّ ذلك العل إنّما يكون موجودا في الزّمان الماضي ، فلو كان لهذا الطّارئ أثر في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعا للتّأثير في الزّمان الماضي ، وهو محال ، وإن لم يكن لهذا الطّارئ [أثر] في اقتضاء ذلك الفعل السّابق لذلك الاستحقاق ، وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألّا يزول.

وتاسعها : أنّ المعتزلة يقولون : إنّ شرب جرعة من الخمر ، يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة على سبيل الإخلاص ، وذلك محال ؛ لأنّا نعلم بالضّرورة أنّ ثواب هذه الطّاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة ، والأعظم لا يحيط بالأقلّ.

قال الجبّائي (١) : لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كلّ طاعة ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه ، وإحسانه ، كما أنّ استحقاق قيام الرّبّانيّة ، وقد ربّاه وملكه ، وبلغه إلى النّهاية [العظيمة أعظم](٢) من قيامه بحقّه لكثرة نعمه ، فإذا كانت نعم الله على عباده ، بحيث لا تضبط عظما ، وكثرة لم يمتنع أن يستحقّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الّذي يعلو على ثواب جملة الطّاعات.

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا العذر ضعيف ؛ لأنّ الملك الّذي عظمت نعمه على عبده ، ثمّ إنّ ذلك العبد قام بحقّ عبوديّته خمسين سنة ، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصدا ، فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكلّ أحد يذمّه ، وينسبه إلى ترك الإنصاف والقسوة ، ومعلوم أنّ جميع المعاصي بالنّسبة إلى جلال الله تعالى أقلّ من كسر رأس القلم ، فظهر أنّ قولهم على [خلاف] قياس العقول.

عاشرها : أنّ إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة ، وهذا ممّا لا يقبله العقل ، والله أعلم.

قوله (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) يحتمل أمرين :

أحدهما : لا تأتوا به باطلا ، وذلك أن ينوي بالصّدقة الرّياء والسّمعة.

[قال القرطبيّ (٤) : إنّ الله تعالى عبّر عن عدم القبول ، وحرمان الثوب] بالإبطال ، والمراد الصّدقة الّتي يمنّ بها ، ويؤذي لا غيرها ، فالمنّ والأذى في صدقة ؛ لا يبطل صدقة غيرها.

قال جمهور العلماء في هذه الآية : إنّ الصّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ ، أو يؤذي بها ، فإنّها لا تقبل.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٧ / ٤٦.

(٢) في ب : العظمى أبلغ.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٦.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٠٢.

٣٩٣

وقيل : إنّ الله جعل للملك عليها أمارة ، فهو لا يكتبها.

قال القرطبيّ (١) : وهذا حسن.

والثاني : أن يأتوا بها على وجه يوجب الثّواب ، ثمّ يتبعوها بالمنّ والأذى ، فيزيلوا ثوابها ، وضرب لذلك مثلين :

أحدهما : يطابق الأوّل وهو قوله (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ) ، إذ من المعلوم [أنّ المراد من كونه عمل] هذا باطلا أنّه دخل في الوجود باطلا ، لا أنّه دخل صحيحا ، ثم يزول ؛ لأنّ الكفر مقارن له فيمتنع دخوله صحيحا في الوجود.

والمثال الثاني : وهو الصّفوان الّذي وقع عليه تراب ، ثمّ أصابه وابل فهذا يشهد لتأويل المعتزلة ؛ لأنّه جعل الوابل مزيلا لذلك التّراب بعد وقوع التّراب على الصّفوان ، فكذا هاهنا : يجب أن يكون المنّ والأذى مزيلين للأجر والثّواب بعد حصول استحقاق الأجر.

ويمكن أن يجاب عنه : بأنّا لا نسلّم أنّ المشبه بوقوع التّراب على الصّفوان حصول الأجر للكافر ؛ بل المشبّه بذلك صدور هذا العمل الّذي لو لا كونه مقرونا بالنّيّة الفاسدة ، لكان موجبا لحصول الأجر والثواب ؛ لأنّ التّراب إذا وقع على الصّفوان ، لم يكن ملتصقا به ، ولا غائصا فيه ألبتّة ، بل يكون ذلك الاتّصال كالانفصال ، فهو في مرأى العين متّصل ، وفي الحقيقة منفصل ، فكذا الإنفاق المقرون بالمنّ والأذى ، يرى في الظّاهر أنّه عمل من أعمال البرّ ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فظهر أنّ استدلالهم بهذه ضعيف.

فصل

قال ابن عبّاس قوله (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ) على الله بسبب صدقتكم ، وبالأذى لذلك السّائل (٢).

وقال الباقون : بالمنّ على الفقير وبالأذى للفقير (٣) «كالذي ينفق ماله رئاء النّاس» ؛ لأنّ المنافق ، والمرائي يأتيان بالصّدقة لا لوجه الله ـ تعالى ـ ومن يقرن الصّدقة بالمنّ والأذى ، فقد أتى بتلك الصّدقة لا لوجه الله ـ تعالى ـ أيضا ، إذ لو كان غرضه من تلك الصّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما منّ على الفقير ، ولا آذاه ، فثبت اشتراك الصّورتين في كون الصّدقة لم يأت بها لوجه الله ـ تعالى ـ وتقدّم الكلام على الإلقاء.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٠٢.

(٢) انظر : تفسير الرازي (٧ / ٤٧) وتفسير «البحر المحيط» لأبي حيان (٢ / ٢٣١).

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٧.

٣٩٤

فصل في «هل تعطى الصّدقة للأقارب»

قال القرطبي (١) : كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرّجل صدقته الواجبة أقاربه ؛ لئلا يعتاض منهم الحمد ، والثّناء ، ويظهر منّته عليهم ، ويكافئوه عليها ، فلا تخلص لوجه الله ـ تعالى ـ واستحبّ أن يعطيها الأجانب ، واستحبّ أيضا أن يولّي غيره تفريقها ، إذا لم يكن الإمام عدلا ؛ لئلا تحبط بالمنّ والأذى ، والشّكر ، والثّناء ، والمكافأة بالخدمة من المعطى بخلاف صدقة التّطّوع السّرّ ؛ لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد.

فصل في كيفيّة التّشبيه في الآية

في كيفيّة هذا التّشبيه وجهان :

الأول : ما تقدّم أنّ العمل الظّاهر كالتّراب والمانّ والمؤذي والمنافق كالصّفوان يوم القيامة كالوابل ، هذا على قولنا ، وأما على قول المعتزلة فالمنّ والأذى كالوابل (٢).

الوجه الثاني : قال القفّال (٣) رحمه‌الله : إنّ أعمال العباد يجازون بها يوم القيامة ، فمن عمل بالإخلاص ، فكأنّه طرح بذرا في الأرض ، فهو ينمو ، ويتضاعف له ، حتى يحصده في وقته ، ويجده وقت حاجته ، والصّفوان محلّ بذر المنافق ، ومعلوم أنّه لا ينمو فيه شيء ، ولا يكون فيه قبول للبذر ، والمعنى أنّ عمل المانّ ، والمؤذي ، والمنافق كالبذر المطروح في تراب قليل على صفوان ، فإذا أصابه مطر بقي مستودع بذره خاليا ، لا شيء فيه ؛ ألا ترى أنّه تعالى : ضرب مثل المخلص بجنّة فوق ربوة؟ والجنّة ما يكون فيها أشجار ونخيل ، فمن أخلص لله ، كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض ، فهو يجني ثمر غراسه في أوقات حاجته «وهي تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها» متضاعفة زائدة.

ثم قال تعالى (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا).

وفيه قولان مبنيّان على ما تقدّم في الإعراب ، فعلى الأوّل لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التّراب الّذي كان على ذلك الصّفوان ، لزوال التّراب ، وما فيه من البذر بالمطر ، فلم يقدر أحد على الانتفاع به ، وهذا يقوّي تشبيه القفّال ، وإن عاد الضّمير إلى الّذي ينفق ، فإنما أشير به إلى الجنس والجنس في حكم العامّ ، ثم قال (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

فصل في التّحذير من الرّياء

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر» قالوا يا رسول الله : وما الشّرك الأصغر؟ قال : «الرّياء ، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٠٢.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٨.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٨.

٣٩٥

إلى الّذي كنتم تراءون في الدّنيا ، [فانظروا] هل تجدون عندهم جزاء» (١).

وروى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حدّثه «أنّ الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضى بينهم ، وكلّ أمّة جاثية ، فأوّل من يدعون رجلا جمع القرآن ، ورجلا قتل في سبيل الله ورجلا كثير المال ، فيقول الله للقارئ : ألم أعلّمك ما أنزلت على رسولي؟ قال : بلى يا ربّ ، قال : فماذا عملت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله ـ تبارك وتعالى ـ بل أردت أن يقال : فلان قارئ ، وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى له : ألم أوسع عليك حتّى [لم] أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال : بلى يا ربّ قال : فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال : كنت أصل الرّحم ، وأتصدّق ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله ـ تعالى ـ بل أردت أن يقال : فلان جواد ، وقد قيل ذلك ، ويؤتى بالّذي قتل في سبيل الله فيقول له : في ماذا قتلت؟ فيقول : يا ربّ أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتّى قتلت ، فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت. ويقول الله تعالى بل أردت أن يقال فلان جريء ، وقد قيل ذلك ثمّ ضرب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على ركبتي ، ثمّ قال يا أبا هريرة أولئك الثّلاثة أوّل خلق الله تعالى تسعّر بهم النّار يوم القيامة (٢).

قوله (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

قوله (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) كقوله (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ) في جميع التّقادير فليراجع. وقرأ الجحدريّ «كمثل حبّة» بالحاء المهملة والباء.

في قوله : «ابتغاء» وجهان :

أحدهما : أنّه مفعول من أجله ، وشروط النّصب متوفّرة.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٢٢٨) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٢٨٥) والطبراني في «الكبير» كما في المجمع (١٠ / ٢٢٥) والبيهقي في «شعب الإيمان» رقم (٦٨٣١).

وقال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(٢) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (٢٣٨٣) باب ما جاء في الرياء والسمعة والحاكم (١ / ٤١٨ ـ ٤١٩) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٣) وابن حبان (٢٥٠٢ ـ موارد) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٢٣) وزاد نسبته لابن المنذر.

وكذلك ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (١ / ٦٢ ـ ٦٤) وقال : ورواه ابن خزيمة في صحيحه نحو هذا لم يختلف إلا في حرف أو حرفين.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وأخرجه مسلم مختصرا كتاب الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة (١٩٠٥) والنسائي (٦ / ٢٣ ـ ٢٤) والبيهقي (٩ / ١٦٨).

٣٩٦

والثاني : أنّه حال ، و «تثبيتا» عطف عليه بالاعتبارين ، أي : لأجل الابتغاء والتّثبيت ، أو مبتغين متثبّتين. ومنع ابن عطيّة أن يكون «ابتغاء» مفعولا من أجله ، قال : «لأنّه عطف عليه تثبيتا ، وتثبيتا لا يصحّ أن يكون مفعولا من أجله ، [لأنّ الإنفاق لا يكون لأجل التّثبيت». وحكى عن مكي (١) كونه مفعولا من أجله] قال : «وهو مردود بما بيّنّاه».

وهذا الّذي ردّه لا بدّ فيه من تفصيل ، وذلك أنّ قوله تبارك وتعالى : «وتثبيتا» إمّا أن يجعل مصدرا متعدّيا ، أو قاصرا ، فإن كان قاصرا ، أو متعدّيا ، وقدّرنا المفعول هكذا : «وتثبيتا من أنفسهم الثّواب على تلك النّفقة» ، فيكون تثبيت الثّواب وتحصيله من الله حاملا لهم على النّفقة ، وحينئذ يصحّ أن يكون «تثبيتا» مفعولا من أجله.

وإن قدّرنا المفعول غير ذلك ، أي : وتثبيتا من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية ، أو جعلنا «من أنفسهم» هو المفعول في المعنى ، وأنّ «من» بمعنى اللام ، أي : لأنفسهم ، كما تقول : «فعلته كسرا من شهوتي» فلا يتضح فيه أن يكون مفعولا لأجله.

وأبو البقاء (٢) قد قدّر المفعول المحذوف «أعمالهم بإخلاص النية» ، وجوّز أيضا أن يكون «من أنفسهم» مفعولا ، وأن تكون «من» بمعنى اللام ، وقد كان قدّم أولا أنه يجوز فيهما المفعول من أجله ، والحالية ؛ وهو غير واضح كما تقدّم.

وتلخّص أنّ في «من أنفسهم» قولين :

أحدهما : أنه مفعول بالتجوّز في الحرف.

والثاني : أنه صفة ل «تثبيتا» ، فهو متعلّق بمحذوف ، وتلخّص أيضا أن التثبيت يجوز أن يكون متعدّيا ، وكيف يقدّر مفعوله ، وأن يكون قاصرا.

فإن قيل : «تثبيت» مصدر ثبّت ؛ وثبّت متعدّ ، فكيف يكون مصدره لازما؟

فالجواب : أنّ التثبيت مصدر تثبّت ، فهو واقع موقع التثبّت ، والمصادر تنوب عن بعضها ؛ قال تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] والأصل : «تبتّلا» ويؤيّد ذلك قراءة مجاهد (٣) «وتثبّتا» ، وإلى هذا نحا أبو البقاء (٤).

قال أبو حيان : «وردّ هذا القول ؛ بأنّ ذلك لا يكون إلا مع الإفصاح بالفعل المتقدّم على المصدر ، نحو الآية ، وأمّا أن يؤتى بالمصدر من غير نيابة على فعل مذكور ، فلا يحمل على غير فعله الذي هو له في الأصل» ، ثم قال : «والذي نقول : إنّ ثبت ـ يعني

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ١١٢.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٣.

(٣) انظر : البحر المحيط ٢ / ٣٢٣ ، والدر المصون ١ / ٦٣٩.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٣.

٣٩٧

مخفّفا ـ فعل لازم ، معناه تمكّن ورسخ ، وثبّت معدّى بالتضعيف ، ومعناه مكّن وحقّق ؛ قال ابن رواحة : [البسيط]

١٢٢٠ ـ فثبّت الله ما أتاك من حسن

تثبيت عيسى ونصرا كالّذي نصروا (١)

فإذا كان التثبيت مسندا إليهم ، كانت «من» في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر ، وتكون للتبعيض ، مثلها في : «هزّ من عطفه» ، و «حرّك من نشاطه» وإن كان مسندا في المعنى إلى أنفسهم ، كانت «من» أيضا في موضع نصب ؛ صفة لتثبيتا».

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : فما معنى التبعيض؟ قلت : معناه أنّ من بذل ماله لوجه الله تعالى ، فقد ثبّت بعض نفسه ، ومن بذل روحه ، وماله معا ، فقد ثبّت نفسه كلّها». قال أبو حيان : «والظاهر أنّ نفسه هي التي تثبّته ، وتحمله على الإنفاق في سبيل الله ، ليس له محرّك إلا هي ؛ لما اعتقدته من الإيمان والثواب» يعني : فيترجّح أنّ التثبيت مسند في المعنى إلى أنفسهم. والابتغاء : افتعال من بغيت ، أي : طلبت ، وسواء قولك : بغيت ، وابتغيت.

فصل

معنى قوله : (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ، أي : طلب رضى الله (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قال قتادة : احتسابا (٢).

وقال الشعبيّ ، والكلبيّ : تصديقا من أنفسهم (٣) ، أي : يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم ، على يقين الثواب ، وتصديق بوعد الله ، ويعلمون أنّ ما أخرجوا خير لهم مما تركوا ، وقيل : على يقين بإخلاف الله عليهم.

وقال عطاء ، ومجاهد : يتثبتون ، أي : يضعون أموالهم (٤).

قال الحسن : كان الرجل إذا همّ بصدقة يتثبت ، فإن كان لله ، أمضى ، وإن كان يخالطه شكّ ، أمسك (٥) ، ثم إنه تعالى لمّا بين أن غرضهم من الإنفاق هذان الأمران ، ضرب الإنفاق مثلا ، فقال : «كمثل جنّة بربوة».

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٩٤) ، والبحر المحيط ٢ / ٣٢٣ ، والدر المصون ١ / ٦٤٠.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٣٤) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٠١) وعزاه لابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٣٢) عن عامر الشعبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٠١) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٣٢) وعبد بن حميد كما في «الدر المنثور» (١ / ٦٠١) عن مجاهد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٣٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٦٠١) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن.

٣٩٨

قال القرطبي (١) : الجنة هي البستان ، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار ، حتى تغطيها ، مأخوذة من لفظ الجنّ والجنين ، لاستتارهم.

قوله : «بربوة» في محلّ جرّ ؛ لأنه صفة لجنة. والباء ظرفية بمعنى «في» ، أي : جنة كائنة في ربوة. والربوة : أرض مرتفعة طيبة ، قاله الخليل. وهي مشتقة من : ربا يربو ، أي : ارتفع ، وتفسير السدّيّ لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال : ربوة ورباوة ، بتثليث الراء فيهما ، ويقال ـ أيضا ـ : رابية ، قال القائل : [الطويل]

١٢٢١ ـ وغيث من الوسميّ حوّ تلاعه

أجابت روابيه النّجاء هواطله (٢)

وقرأ (٣) ابن عامر ، وعاصم : «ربوة» بالفتح ، والباقون : بالضمّ ، قال الأخفش (٤) : «ونختار الضمّ ؛ لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلا الرّبا» يعني فدلّ ذلك على أن المفرد مضموم الفاء ، نحو برمة ، وبرم ، وصورة ، وصور. وقرأ ابن عباس (٥) : «ربوة» بالكسر ، [والأشهب] العقيلي : «رباوة» ، مثل رسالة ، وأبو جعفر : «رباوة» مثل كراهة ، وقد تقدّم أنّ هذه لغات.

فصل

تقدم أنّ الربوة : هي المرتفع من الأرض ، ومنه الرابية ، لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الرّبو إذا أصابه نفس في جوفه زائد ، ومنه الرّبا ؛ لأنه الزيادة قال المفسّرون (٦) : إن البستان إذا كان في ربوة من الأرض ، كان أحسن ، وأكثر ريعا.

قال ابن الخطيب (٧) : وفيه إشكال : وهو أن البستان إذا كان في موضع مرتفع من الأرض ، فلا ترتفع إليه الأنهار ، وتضر به الرياح كثيرا ؛ فلا يحسن ريعه وإذا كان في وهدة من الأرض ، انصبت إليه مياه الأنهار ، ولا يصل إليه إثارة الرياح ، فلا يحسن أيضا ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ، ولا وهدة فإذن ليس المراد من هذه الربوة ، ما ذكروه ، بل المراد منه كون الأرض طينا حرّا بحيث إذا نزل المطر عليها ، انتفخ وربا ونما ، فإن الأرض متى كانت بهذه الصفة يكثر ريعها ، وتكمل أشجارها ، ويؤيد هذا التأويل قوله تبارك تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٢٠٤.

(٢) البيت لزهير : ينظر ديوانه (١٢٧) ، البحر ٢ / ٣١٤ ، والدر المصون ١ / ٦٤٠.

(٣) انظر : السبعة ١٩٠ ، والكشف ١ / ٣١٣ ، وحجة القراءات ١٤٦ ، والعنوان ٧٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٢٠ ، وشرح شعلة ٢٩٧ ، وإعراب القراءات ١ / ٩٨ ، ٩٩ ، وإتحاف ١ / ٤٥٢.

(٤) ينظر : معاني القرآن للأخفش ١٨٤.

(٥) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٥٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٢٤ ، والدر المصون ١ / ٦٤٠.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٥٠.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

٣٩٩

أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج : ٥] والمراد من ربوها ما ذكرنا ، فكذا هاهنا.

وأيضا فإنه تبارك تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول ، وهو الصّفوان الذي لا يؤثر فيه المطر ، ولا يربو ، ولا ينمو ؛ بسبب نزول المطر عليه ، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو ، وتنمو والله أعلم.

قال ابن عطيّة : ورياض الحزن ليست من هذا ، كما زعم الطبريّ ؛ بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد ؛ لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ، ونسيمه أبرد وأرقّ ، ونجد يقال لها حزن وقلّما يصلح هواء تهامة إلّا بالليل ، ولذلك قالت الأعرابية : «زوجي كليل تهامة» (١).

قوله : (أَصابَها وابِلٌ) هذه الجملة فيها أربعة أوجه :

أحدها : أنها صفة ثانية لجنة ، وبدئ هنا بالوصف بالجارّ والمجرور ، ثم بالجملة ؛ لأنه الأكثر في لسانهم ؛ لقربه من المفرد ، وبدئ بالوصف الثابت المستقرّ وهو كونها بربوة ، ثم بالعارض ، وهو إصابة الوابل. وجاء قوله في وصف الصّفوان بقوله : «عليه تراب» ثم عطف على الصفة «فأصابه وابل» وهنا لم يعطف بل أخرج صفة.

والثاني : أن تكون صفة ل «ربوة».

قال أبو البقاء (٢) : «لأنّ الجنة بعض الرّبوة» كأنه يعني أنه يلزم من وصف الربوة بالإصابة ، وصف الجنّة به.

الثالث : أن تكون حالا من الضمير المستكنّ في الجارّ ؛ لوقوعه صفة.

الرابع : أن تكون حالا من «جنة» ، وجاز ذلك ؛ لأنّ النكرة قد تخصّصت بالوصف.

قوله : (فَآتَتْ أُكُلَها) أي أعطت و «أكلها» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : وهو الأصحّ أنّ «آتت» تتعدّى لاثنين ، حذف أولهما وهو «صاحبها» ، أو «أهلها». والذي حسّن حذفه ، أنّ القصد الإخبار عمّا تثمر ، لا عمّن تثمر له ؛ ولأنه مقدر في قوله : (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) أي : غارس جنّة ، أو صاحب جنة ؛ كما تقدّم. و «أكلها» هو المفعول الثاني. و «ضعفين» نصب على الحال من «أكلها».

والثاني : أنّ «ضعفين» هو المفعول الثاني ، وهذا غلط.

والثالث : أنّ «آتت» هنا بمعنى أخرجت ، فهو متعدّ لمفعول واحد. قال أبو البقاء (٣) : «لأنّ معنى «آتت» : أخرجت ، وهو من الإتاء ، وهو الرّيع». قال أبو حيان (٤) :

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٥٩.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٣.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٣.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٢٤.

٤٠٠