اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

قال القرطبي (١) رحمة الله عليه : فإن قيل : قد روى الثّقات أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تخيّروا بين الأنبياء ولا تفضّلوا بين أنبياء الله» ، فأجاب بعض العلماء عن ذلك ، فقال : كان هذا قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وقبل أن يعلم أنه سيّد ولد آدم ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التّفضيل.

وقال قوم : إنّ المنع من التّفضيل إنما هو من جهة النّبوة ، التي هي خصلة واحدة ، لا تفاضل فيها ، وإنّما التّفاضل في زيادة الأحوال ، والكرامات ، والألطاف ، والمعجزات المتباينة.

وأما النّبوّة في نفسها ، فلا تفاضل فيها ، وإنما التّفاضل في أمور أخر زائدة عليها ؛ ولذلك منهم «أولو العزم» ، ومنهم من اتّخذ خليلا ، ومنهم من كلّم الله ، ورفع بعضهم درجات.

قال القرطبي (٢) : وهذا أحسن الأقوال ، فإنّه جمع بين الآي ، والأحاديث من غير نسخ ، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصّحبة ، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب ، والوسائل ، مع أنّ الكلّ شملتهم الصّحبة والعدالة.

قال ابن الخطيب (٣) : فإن قيل إنّ معجزات سائر الأنبياء ، كانت أعظم من معجزاته ، فإن آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ جعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النّار العظيمة ؛ فانقلبت بردا وسلاما عليه ، وموسى أوتي تلك المعجزات العظيمة من قلب العصا حية تسعى ، وتلقفها ما صنعوا ، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء ، وفلق البحر ، وفلق الحجر ، ومكالمة ربه ، وداود ألان له الحديد ، وسخّر الجبال يسبحن معه والطّير ، وسخر لسليمان الجن ، والإنس ، والطير والوحوش والرّياح ، وعيسى أنطقه في المهد ، وأقدره على إحياء الموتى ، ونفخ فيه من روحه ، وجعله يبرئ الأكمه ، والأبرص ، ولم يكن ذلك حاصلا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «لا تفضّلوني على يونس بن متّى» (٤) وقال : «لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بين زكريّا» (٥) ، وذكر أنه لم يعمل سيئة قط.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧١.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٦٨.

(٤) أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الفضائل : باب في ذكر يونس عليه‌السلام حديث (١٦٦ ـ ١٦٧) من حديث أبي هريرة.

(٥) ذكره بهذا اللفظ المتقي الهندي في «كنز العمال» (١١ / ٥٢١) رقم (٣٢٤٣٥) عن يحيى بن جعفر مرسلا وعزاه إلى ابن عساكر.

٣٠١

فالجواب : أن كون آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مسجودا للملائكة ؛ لا يوجب أنّ يكون أفضل من محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة». وقال : «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطّين» ، وروي أنّ جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أخذ بركاب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة المعراج ، وهذا أعظم من السّجود. وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فصلّى بنفسه على محمّد ، وأمر الملائكة ، والمؤمنين بالصّلاة عليه ، وذلك أفضل من سجود الملائكة ، وأيضا ، فإنّ سجود الملائكة لآدم كان تأديبا ، وأمرهم بالصّلاة على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تقريبا ، وأيضا فالصّلاة على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ [دائمة إلى يوم القيامة وسجود الملائكة لآدم عليه‌السلام](١) لم يكن إلا مرّة واحدة ، وأيضا فإنّ الملائكة ، إنّما أمروا بالسّجود لآدم لأجل أنّ نور محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في جبهة آدم.

قال القرطبي (٢) : وقال ابن قتيبة : إنّما أراد بقوله «أنا سيّد ولد آدم» يوم القيامة ؛ لأنّه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض ، وأراد بقوله : «لا تخيّروني على يونس بن متّى» على طريق التواضع ، لأنّ قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) [القلم : ٤٨] يدل على أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفضل منه.

فإن قيل : إنه تعالى خصّ آدم بالعلم فقال : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] وقال في حقّ محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] وأيضا فمعلم آدم هو الله تعالى ومحمد معلمه جبريل كما قال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥].

فالجواب : أن الله تعالى قال في علم محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء : ١١٣] ، وقال : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ١ ـ ٢] وقال : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] ، وأما قوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ، فذلك بحسب التلقين والمعلم هو الله كقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١] وقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢].

فإن قيل : قال نوح ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) [هود : ٢٩] وذلك خلق منه. وقيل لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الأنعام : ٥٢].

فالجواب (٣) : قد قيل لنوح : (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [نوح : ١] فكان أوّل أمره العذاب. وقيل لنبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ، وعاقبة نوح أن قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] وعاقبة النّبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الشّفاعة. قال تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] فما

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧١.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٦٩.

٣٠٢

أوتي نبي آية إلا أوتي نبينا مثل تلك الآية ، وفضل على غيره بآيات مثل انشقاق القمر بإشارته ، وحنين الجذع على مفارقته ، وتسليم الحجر والشّجر عليه ، وكلام البهائم ، والشّهادة برسالته ، ونبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من المعجزات ، والآيات الّتي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السّماء والأرض عن الإتيان بمثله.

قوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) هذه الجملة تحتمل وجهين :

أحدهما (١) : أن تكون لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها.

والثاني : أنها بدل من جملة قوله «فضّلنا». والجمهور على رفع الجلالة على أنه فاعل ، والمفعول محذوف وهو عائد الموصول أي : من كلّمه الله كقوله : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ٧١].

وقرئ بالنصب (٢) على أنّ الفاعل ضمير مستتر وهو عائد الموصول أيضا ، والجلالة نصب على التّعظيم.

وقرأ أبو المتوكل (٣) وابن السّميفع : «كالم الله» على وزن فاعل ، ونصب الجلالة ، و «كليم» على هذا معنى مكالم نحو : جليس بمعنى مجالس ، وخليط بمعنى مخالط. وفي هذا الكلام التفات ؛ لأنه خروج من ضمير المتكلّم المعظّم نفسه في قوله : «فضّلنا» إلى الاسم الظّاهر الّذي هو في حكم الغائب.

فصل في كلام الله المسموع

اختلفوا في ذلك الكلام ، فقال الأشعري (٤) وأتباعه هو الكلام القديم الأزليّ الذي ليس بحرف ، ولا صوت قالوا : كما أنّه لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ، فهكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف.

وقال الماتريديّ : سماع ذلك الكلام محال إنّما المسموع هو الحرف والصّوت.

فصل في المراد بالمكلّم

اختلفوا هل المراد بقوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) : هل هو موسى وحده أم هو وغيره فقيل : موسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحده ، وقيل : بل هو وغيره.

قالوا : وقد سمع من قوم موسى السّبعون المختارون ، وسمع محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة المعراج بدليل قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] فإن قيل : قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) إنّما ذكره في بيان غاية المنقبة والشّرف لأولئك الأنبياء الذين كلّمهم

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٠.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٨٢ ، والدر المصون ١ / ٦١٠.

(٣) وقرأ بها أبو نهشل. انظر المصدر السابق.

٣٠٣

الله تعالى ، وقد جاء في القرآن ، مكالمة بين الله ، وبين إبليس ، حيث قال : (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) إلى آخر الآيات [الحجر : ٣٦ ـ ٣٨] وظاهرها يدلّ على مكالمة كثيرة بين الله ، وبين إبليس ، فإن كان ذلك يوجب غاية الشّرف ، فكيف حصل لإبليس؟ فإن لم يوجب شرفا ، فكيف ذكره في معرض التّشريف لموسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث قال : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤].

فالجواب : من وجهين :

أحدهما (١) : أنّه ليس في قصّة إبليس ما يدلّ على أنّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة ، فلعلّ الواسطة كانت موجودة.

الثاني : هب أنّه كان من غير واسطة ، ولكن مكالمة بالطّرد واللّعن فإنّ الله يكلّم خاصّته بما يحبّون من التّقرّب والإكرام ، ويكلّم من يهينه بالطّرد واللّعن (٢) والكلام الموحش فإنه وإن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التّقرّب والتّشريف والإكرام ، والأخرى توجب البعد ، والإهانة والطّرد.

قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ).

في نصبه ستّة أوجه :

أحدها : أنه مصدر واقع موقع الحال.

الثاني : أنّه حال على حذف مضاف ، أي : ذوي درجات.

الثالث : أنّه مفعول ثان ل «رفع» على أنّه ضمّن معنى بلّغ بعضهم درجات.

الرابع : أنه بدل اشتمال ، أي : رفع درجات بعضهم ، والمعنى : على درجات بعض.

الخامس : أنه مصدر على معنى الفعل لا لفظه ؛ لأنّ الدّرجة بمعنى الرّفعة ، فكأنه قيل : ورفع بعضهم رفعات.

السادس : أنه على إسقاط الخافض ، وذلك الخافض يحتمل أن يكون «على» أو «في» ، أو «إلى» تقديره : على درجات أو في درجات أو إلى درجات ، فلمّا حذف حرف الجر انتصب ما بعده.

فصل في المراد بالدّرجات

في تلك الدّرجات وجوه :

أحدها : أنّ المراد منه بيان أنّ مراتب الرّسل ، ومناصبهم متفاوتة ؛ وذلك لأنّه تعالى اتّخذ إبراهيم خليلا ، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لداود بين الملك ، والنّبوّة ، ولم يحصل هذا لغيره ، وسخّر لسليمان الجنّ والإنس ، والطير ، والريح ، ولم يحصل هذا

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٠.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٠.

٣٠٤

لأبيه داود ، وخصّ محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأنّه مبعوث إلى الجن والإنس ، وبأنّ شرعه نسخ سائر الشّرائع.

الثاني : أنّ المراد منه المعجزات ، فإنّ كل واحد من الأنبياء أوتي نوعا آخر من المعجزات على ما يليق بزمانه ، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة ، واليد البيضاء ، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدّمين فيه ، وهو السّحر. ومعجزات عيسى ، وهي إبراء الأكمه ، والأبرص ، وإحياء الموتى كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدّمين فيه ، وهو الطّبّ.

ومعجزة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة ، والبلاغة والخطب ، والأشعار ، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلّة والكثرة وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوّة.

الثالث : أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدّنيا من كثرة الأتباع والأصحاب وقوّة الدّولة ، وإذا تأمّلت هذه الوجوه ؛ علمت أنّ محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان جامعا للكلّ ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى ، وأقوى ، وقومه أكثر ، ودولته أعظم وأوفر.

الرابع : أنّ المراد بقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) هو محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ لأنّه هو المفضل على الكلّ ، وإنما قال (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ) على سبيل الرّمز ، لمن فعل فعلا عظيما فيقال له : من فعل هذا الفعل ؛ فيقول : أحدكم ، أو بعضكم ، ويريد به نفسه وذلك أفخم من التّصريح به ، وقد سئل الحطيئة عن أشعر النّاس ، فذكر زهيرا ، والنّابغة ، ثم قال : «ولو شئت لذكرت الثّالث» أراد نفسه.

وقيل : المراد إدريس عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم : ٥٧] ومراتب الأنبياء في السّموات.

فإن قيل : المفهوم من قوله (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) هو المفهوم من قوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، فما فائدة التكرير؟

فالجواب (١) : أنّ قوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض ، ولكنّه لا يدلّ على أنّ ذلك التّفضيل ، حصل بدرجة ، أو بدرجات ، فبيّن بالثّاني أنّ التّفضيل بدرجات.

فإن قيل : قوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ)](٢) كلام كلي ، وقوله بعد ذلك (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) ، إعادة لذلك الكلام الكلّي ، ومعلوم أنّ إعادة الكلام الكليّ بعد الشّروع في تفصيل جزئيّاته ، يكون تكرارا.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧١.

(٢) سقط في ب.

٣٠٥

فالجواب : أنّ فيه زيادة على الأوّل بقوله : «درجات» إذ التفصيل أعمّ درجة ودرجات ، فلا تكرار في شيء من ذلك.

قوله : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ). فيه سؤالان (١) :

السّؤال الأوّل : قال في أوّل الآية (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [ثمّ عدل عن هذا النّوع من الكلام إلى المغايبة فقال : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ])(٢) ، ثم عدل من المغايبة إلى النّوع الأوّل فقال : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة (٣) ، ثم عوده إلى المخاطبة مرّة أخرى.

والجواب : أنّ قوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) أهيب وأكثر وقعا من أن يقال : منهم من كلمنا ، ولذلك قال : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) فلهذا اختار لفظ الغيبة.

وأمّا قوله (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) فإنّما اختار لفظ المخاطبة ؛ لأن الضّمير في قوله (وَآتَيْنا) ضمير التّعظيم ، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلّ على عظمة الإيتاء.

السّؤال الثاني : لم خصّ موسى ، وعيسى ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ بذكر معجزاتهما؟

والجواب : سبب التّخصيص : أنّ معجزاتهما أبهر ، وأقوى من معجزات غيرهما ، وأيضا ، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزّمان ، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين ، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطّعن في أمتهما ، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما ، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما ، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما (٤).

السّؤال الثالث : تخصيص عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بإيتاء البيّنات يوهم أنه مخصوص بالبيّنات دون غيره ، وليس الأمر كذلك ، فإن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوتي أقوى منها ، أو مساو.

والجواب : أنّ المقصود من هذا الكلام : التّنبيه على قبح أفعال اليهود ، حيث شاهدوا هذه البيّنات الواضحة الباهرة ، وأعرضوا عنها.

السّوال الرابع : «البيّنات» جمع قلّة ، وذلك لا يليق بهذا المقام!

والجواب : لا نسلّم أنه جمع قلة ؛ لأنّ جمع السّلامة إنما يكون جمع قلّة إذا لم يعرّف بالألف واللام ، فأما إذا عرف بهما ؛ فإنه يصير للاستغراق ، ولا يدلّ على القلّة.

قوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) «القدس» تثقله أهل الحجاز ، وتخففه تميم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧١.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : المعاينة.

(٤) في ب : طلعتهما.

٣٠٦

واختلفوا في تفسيره ، فقال الحسن : القدس ، هو الله ـ تعالى ـ وروحه جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ والإضافة للتّشريف (١).

والمعنى أعناه بجبريل في أوّل أمره ، ووسطه ، وآخره.

أمّا أوله ؛ فلقوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢].

وأما الوسط ، فلأن جبريل علّمه العلوم ، وحفظه من الأعداء.

وأما آخر أمره ، فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ورفعه إلى السّماء ، ويدلّ على أنّ روح القدس جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ؛ قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) [النحل : ١٠٢].

ونقل عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي عيسى عليه‌السلام به الموتى (٢).

وقال أبو مسلم (٣) : روح القدس الذي أيّده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وميزه بها عن غيره من المخلوقات ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) مفعوله محذوف ، فقيل : تقديره : ألّا تختلفوا وقيل : ألّا تقتتلوا.

وقيل : ألّا تؤمروا بالقتال.

وقيل : أن يضطرّهم إلى الإيمان ، وكلّها متقاربة.

و (مِنْ بَعْدِهِمْ) متعلّق بمحذوف ، لأنه صلة ، والضّمير يعود على الرّسل.

وقيل يعود على موسى ، وعيسى ، والاثنان جمع.

قال القرطبيّ (٤) : والأوّل ظاهر اللّفظ ، وأنّ القتال إنّما وقع ممّن جاءوا بعدهم وليس كذلك ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كلّ نبي ، وهذا كما تقول : «اشتريت خيلا ، ثمّ بعتها». وهذه عبارة جائزة ، وأنت إنّما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النّوازل (٥) ، إنما اختلف النّاس بعد كلّ نبي ، فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر بغيا وحسدا.

و (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ) فيه قولان :

أحدهما : أنه بدل من قوله : (مِنْ بَعْدِهِمْ) بإعادة العامل.

والثاني : أنه متعلّق باقتتل ، إذ في البيّنات ـ وهي الدلالات الواضحة ـ ما يغني عن

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٢.

(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ١٧٢) عن ابن عباس.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٢.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧٣.

(٥) في ب : هو النوازل.

٣٠٧

التّقاتل والاختلاف. والضّمير في «جاءتهم» يعود على الّذين من بعدهم ، وهم أمم الأنبياء.

فصل

تعلق هذه الآية بما قبلها : أنّ الرسل ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ لما جاءوا بالبيّنات ، وأوضحوا الدّلائل ، والبراهين ، اختلف أقوامهم فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا ، وتحاربوا ، ولو شاء الله ألّا يقتتلوا لم يقتتلوا.

واستدلّوا بهذه الآية على أنّ الحوادث إنّما تحدث بقضاء الله وقدره.

ثم قال : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) وإذا اختلفوا ، فلا جرم اقتتلوا.

وهذه الآية دالّة على أنّ الفعل لا يقع إلّا بعد حصول الدّاعي ؛ لأنّه بيّن أن الاختلاف مستلزم للتقاتل ، والمعنى : أنّ اختلافهم في الدّين يدعو إلى المقاتلة ، وذلك يدلّ على أنّ المقاتلة لا تقع إلا لهذا الدّاعي ، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكلّ بقضاء الله وقدره ؛ لأنّ الدّواعي تستند لا محالة إلى داعية خلق الله تبارك وتعالى في العبد (١) دفعا للتّسلسل ، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه أيضا على صحّة هذا المذهب.

قوله : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) وجه الاستدراك واضح ، فإنّ «لكن» واقعة بين ضدّين ، إذ المعنى : ولو شاء الله الاتّفاق لاتّفقوا ؛ ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا. وقال أبو البقاء (٢) رحمه‌الله : «لكن» استدراك لما دلّ الكلام عليه ، لأنّ اقتتالهم كان لاختلافهم ، ثم بيّن الاختلاف بقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) ، فلا محلّ حينئذ لقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ).

وكسرت النّون من (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) لالتقاء السّاكنين ويجوز حذفها في غير القرآن الكريم ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

١١٧٢ ـ فلست بآتيه ، ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (٣)

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) فيه قولان :

__________________

(١) في ب : الخلق.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٦٠.

(٣) البيت للنجاشي ينظر ديوانه ص ١١١ ، والأزهية ص ٢٩٦ ، خزانة الأدب ١٠ / ٤١٨ ، ٤١٩ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ١٩٥ ، شرح التصريح ١ / ١٩٦ ، شواهد المغني ٢ / ٧٠١ ، الكتاب ١ / ٢٧ ، المنصف ٢ / ٢٢٩ ، الأشباه والنظائر ٢ / ١٣٣ ، ٣٦١ ، الإنصاف ٢ / ٦٨٤ ، أوضح المسالك ١ / ٦٧١ ، تخليص الشواهد ص ٢٦٩ ، الجنى الداني ص ٥٩٢ ، سر الصناعة ٢ / ٤٤٠ ، شرح الأشموني ١ / ١٣٦ ، شرح المفصل ٩ / ١٤٢ ، اللامات ١٥٩ ، لسان العرب : لكن ، مغني اللبيب ١ / ٢٩١ ، همع الهوامع ٢ / ١٥٦ (١١٧٢).

٣٠٨

أحدهما : أنها الجملة الأولى كرّرت تأكيدا قاله الزمخشري.

وقال الواحدي (١) ـ رحمه‌الله ـ إنما كرّر ذلك تأكيدا للكلام ، وتكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء من الله ، ولا قدر.

الثاني : أنها ليست لتأكيد الأولى ، بل أفادت فائدة جديدة ، والمغايرة حصلت بتغاير متعلّقهما ، فإنّ متعلّق الأولى مغاير لمتعلّق المشيئة الثانية ، والتقدير في الأولى : ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، وفي الثانية : ولو شاء لم يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن شاء أمرهم بذلك.

قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من اختلافهم ، فيوفق من يشاء ، ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله ، وهذه الآية دالّة على أنّه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين ، والخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن.

ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد ، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى ، ولما دلّت على أنه يفعل ما يريد ، فلو كان يريد الإيمان من الكفّار لفعل فيهم الإيمان ، ولكانوا مؤمنين ، ولما لم يكن كذلك ، دلّ على أنّه تعالى لا يريد الإيمان منهم فدلّت الآية على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات.

وقالت المعتزلة (٢) : يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه ، وهذا ضعيف لوجهين :

أحدهما : أنه تقييد للمطلق.

والثاني : أنّه على هذا التّقييد تصير الآية من باب إيضاح الواضحات ؛ لأنه يصير معنى الآية : أنّه يفعل ما يفعله.

سأل رجل عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : يا أمير المؤمنين ؛ أخبرني عن القدر! فقال : طريق مظلم فلا تسلكه. فأعاد السّؤال فقال : بحر عميق لا تلجه ، فأعاد السّؤال ، فقال : «سرّ الله في الأرض ، قد خفي عليك ، فلا تفتشه» (٣).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٢٥٤)

اعلم أنه تعالى لما أمر بالقتال بقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أعقبه بالحض على النفقة في الجهاد فقال : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] والمقصود منه الإنفاق في الجهاد ، ثمّ إنّه أكد الأمر بالقتال بذكر قصّة طالوت ، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد في هذه الآية الكريمة.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٣.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٤.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ٢٣٧).

٣٠٩

قوله : «أنفقوا» : مفعوله محذوف ، تقديره : شيئا ممّا رزقناكم ، فعلى هذا (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) متعلّق بمحذوف في الأصل لوقوعه صفة لذلك المفعول ، وإن لم تقدّر مفعولا محذوفا ، فتكون متعلّقة بنفس الفعل. و «ما» يجوز أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : رزقناكموه ، وأن تكون مصدريّة ، فلا حاجة إلى عائد ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق ، فالمراد به اسم المفعول ، وأن تكون نكرة موصوفة وقد تقدّم تحقيق هذا عند قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣].

قوله : «من قبل» متعلّق أيضا بأنفقوا ، وجاز تعلّق حرفين بلفظ واحد بفعل واحد لاختلافهما معنى ؛ فإنّ الأولى للتّبعيض والثانية لابتداء الغاية ، و «أن يأتي» في محلّ جرّ بإضافة «قبل» إليه ، أي : من قبل إتيانه.

وقوله : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) إلى آخره : الجملة المنفيّة صفة ل «يوم» فمحلّها الرّفع. وقرأ (١) «بيع» وما بعده مرفوعا منونا نافع والكوفيون وابن عامر ، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير ، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) [البقرة : ١٩٧].

والخلّة : الصّداقة ، كأنها تتخلّل الأعضاء ، أي : تدخل خلالها ، أي وسطها.

والخلّة : الصديق نفسه ؛ قال : [الطويل]

١١٧٣ ـ وكان لها في سالف الدّهر خلّة

يسارق بالطّرف الخباء المستّرا (٢)

وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي : كان لها ذو خلّة ، والخليل : الصّديق لمداخلته إيّاك ، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل ، أو مفعول ، وجمعه «خلّان» ، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات ، وإنما يكثر في الجوامد نحو : «رغفان».

قال القرطبيّ : والخلّة : خالص المودّة [مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخلالة والخلالة ، والخلالة : الصداقة ، والمودة](٣) ؛ قال الشاعر : [المتقارب]

١١٧٤ ـ وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب (٤)

وأبو مرحب كنية الظّلّ ، ويقال : هو كنية عرقوب الذي قيل فيه : «مواعيد عرقوب»(٥).

__________________

(١) انظر السبعة ١٨٧ ، والحجة ٢ / ٣٥٤ ، وحجة القراءات ١٤١ ، والعنوان ٧٥ ، وشرح شعلة ٢٩٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١١٤ ، وإتحاف ١ / ٤٤٧.

(٢) البيت لامرئ القيس ينظر ديوانه (٦٠) ، البحر ٢ / ٢٨١ ، الدر المصون ١ / ٦١٢.

(٣) سقط في ب.

(٤) البيت للنابغة الجعدي. ينظر : اللسان (خلل) ، القرطبي ٣ / ١٧٣.

(٥) قال أبو عبيد : هو رجل من العماليق ، أتاه أخ له يسأله ، فقال له عرقوب : إذا أطلعت هذه النّخلة فلك ـ

٣١٠

والخلّة ـ بالضّمّ ـ أيضا ـ ما خالل من النبت يقال : الخلة خبز الإبل ، والحمض فاكهتها.

والخلّة : ـ بالفتح ـ الحاجة والفقر ، يقال : سدّ خلته ، أي : فقره.

والخلّة بالكسر ابن مخاض ، عن الأصمعي : يقال أتاهم بقرض كأنّه فرسن خلة.

والأنثى خلّة أيضا ، والخلّة : الخمرة الحامضة.

والخلّة ـ بالكسر ـ واحدة خلل السّيوف ، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السّيوف منقوشة بالذّهب وغيره ، وهي أيضا سيور تلبس ظهور سيتي القوس ، والخلّة أيضا ما يبقى بين الأسنان.

و «هم» يجوز أن تكون فصلا ، أو مبتدأ ثانيا ، و «الظّالمون» خبره والجملة خبر الأوّل.

فصل

قالت المعتزلة (١) : لما أمر بالإنفاق من كلّ ما كان رزقا ، وبالإجماع لا يجوز الإنفاق من الحرام وجب القطع بأنّ الرّزق لا يكون إلّا حلالا.

وأجاب ابن الخطيب (٢) : بأنّ الأصحاب مخصّصة بالأمر بإنفاق ما كان رزقا حلالا أو حراما. واختلفوا في هذه النّفقة ، فقال الحسن : هذا الأمر مختص بالزكاة (٣) قال : لأنّ قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) كالوعد والوعيد ، ولا يتوجه الوعيد إلّا على الواجب ، وهو قول السّدي.

وقال الأكثرون : هذا الأمر يتناول الواجب ، والمندوب (٤) وليس في الآية وعيد ، فكأنه قال : حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدّنيا ، فإنكم في الآخرة لا يمكنكم تحصيلها.

__________________

ـ طلعها ، فلمّا أطلعت ، أتاه للعدة ، فقال : دعها حتى تصير بلحا ، فلمّا أبلحت ، قال : دعها حتى تصير زهوا ، فلمّا زهت ، قال : دعها حتى تصير رطبا ، فلمّا أرطبت ، قال : دعها حتى تصير تمرا ، فلمّا أتمرت ، عمد إليها عرقوب من الليل ، فجدّها ولم يعط أخاه شيئا ، فصار مثلا في الخلف ، وفيه يقول الأشجعيّ:

وعدت وكان الخلف منك سجيّة

مواعيد عرقوب أخاه بيترب

ينظر : مجمع الأمثال ٣ / ٣٣٠ (٤٠٧٠) ، اللسان (عرقب) والقرطبي ٣ / ١٧٣.

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٤.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٤.

(٣) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (١ / ٢٨٥) وانظر تفسير البغوي (١ / ٢٣٧) وغرائب النيسابوري (٣ / ١٠) والوجيز (١ / ٧٣).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٧١) وزاد نسبته لابن المنذر عن ابن جريج بمعناه.

٣١١

وقال الأصمّ (١) : المراد منه الإنفاق في الجهاد.

وفي المراد من البيع هنا وجهان :

أحدهما : أنّه بمعنى الفدية كما قال : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) [الحديد : ١٥] وقال : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة : ١٢٣] ، وقال : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) [الأنعام : ٧٠] فكأنه قيل من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه ، فتكسب ما تفتدي به من العذاب.

الثاني : أن يكون المعنى : قدّموا لأنفسكم من المال الذي هو ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة يكتسب بسببها شيء من المال.

«ولا خلّة» ولا صداقة ، ونظيره قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] وقال (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة : ١٦٦].

وقوله : (وَلا شَفاعَةٌ) يقتضي نفي كلّ الشّفاعات ، فقوله : (وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) عام في الكل إلّا أنّ سائر الدّلائل دلّت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين ، وعلى ثبوت الشفاعة بين المؤمنين والسبب في عدم الخلة والشفاعة أمور :

أحدها : أنّ كل واحد يكون مشغولا بنفسه. قال تبارك وتعالى : [(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧].

الثاني : أنّ الخوف الشّديد يغلب على كلّ أحد](٢)(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) [الحج : ٢].

الثالث : أنّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر ، أو الفسق صار مبغضا لهذين الأمرين وإذا صار مبغضا لهما ؛ صار مبغضا لمن اتّصف بهما.

وقوله : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) نقل عن ابن يسار أنّه كان يقول : الحمد لله الذي قال : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، ولم يق ل «والظّالمون هم الكافرون» (٣).

وذكروا في تأويل هذه الآية وجوها :

أحدها : أنّ نفي الخلّة ، والشّفاعة مختص بالكافرين ، لأنّه أطلقه ثم عقبه بقوله (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وعلى هذا تصير الآية دالّة على إثبات الشّفاعة في حقّ الفسّاق.

قال القاضي (٤) : هذا التأويل غير صحيح ؛ لأنّ قوله (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) كلام مبتدأ ، فلم يجب تعليقه بما تقدّم.

والجواب : أنّا لو جعلناه كلاما مبتدأ تطرق الخلف إلى كلام الله تعالى ؛ لأنّ غير

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٥.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧٦.

٣١٢

الكافرين قد يكون ظالما ، وإذا علّقناه بما تقدّم زال الإشكال.

الثاني : أنّ معناه أنّ الله لم يظلم الكافر بإدخاله النّار ، وإنّما الكافر هو الذي ظلم نفسه ، حيث اختار الكفر والفسق ، ونظيره قوله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩].

الثالث : معناه : أنّكم أيّها الحاضرون لا تقتدوا بالكفّار حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم ، وحاجتهم ، ولكن قدّموا لأنفسكم ما يفديها يوم القيامة.

الرابع : (الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) حيث وضعوا أنفسهم في غير مواضعها لتوقعهم الشّفاعة بمن لا يشفع لهم عند الله ، لأنهم كانوا يقولون عن الأوثان (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) وقالوا : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى.

الخامس : المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى : (آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] أي أعطت فلم تمنع فيكون معنى الآية الكريمة والكافرون هم التاركون للإنفاق في سبيل الله ، وأمّا المسلم فلا بدّ أن ينفق شيئا قلّ أو كثر.

السادس : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي هم الكاملون في الظلم البالغون الأمر العظيم فيه. ذكر هذه الوجوه القفال.

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٢٥٥)

اعلم أنّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التّوحيد ، وعلم الأحكام ، وعلم القصص ، فإنّ الإنسان إذا بقي في النّوع الواحد ، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر ، كان كأنّه انشرح صدره ، وفرح قلبه ، فكأنه سافر من بلد إلى بلد آخر ، وانتقل من بستان إلى بستان آخر ، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر ، ولا شكّ أنه يكون ألذّ ، وأشهى ، فلمّا تقدّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة ، ذكر الآن ما يتعلّق بالتّوحيد.

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْحَيُ]) : مبتدأ وخبر وهو مرفوع محمول على المعنى ، أي : ما إله إلّا هو ، ويجوز في غير القرآن لا إله إلّا إيّاه ، نصب على الاستثناء.

وقيل «الله» مبتدأ ، «ولا إله» مبتدأ ثان ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود.

و «الحيّ» فيه سبعة أوجه :

أحدها : أن يكون خبرا ثانيا للجلالة.

الثاني : أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : هو الحيّ.

٣١٣

الثالث : بدل من موضع : «لا إله إلّا الله هو» فيكون في المعنى خبرا للجلالة ، وهذا في المعنى كالأول ، إلا أنّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلّا بخبر واحد بخلاف الأول.

الرابع : أن يكون بدلا من «هو» وحده ، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ، لأنّ جملة النّفي خبر عن الجلالة ، وإذا جعلته بدلا حلّ محلّ الأول ، فيصير التقدير : الله لا إله إلا الله.

الخامس : أن يكون مبتدأ وخبره (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ).

السادس : أنه بدل من «الله».

السابع : أنه صفة لله ، وهو أجودها ، لأنه قرئ (١) بنصب «الحيّ القيّوم» على القطع ، والقطع إنّما هو في باب النّعت ، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصّفة والموصوف بالخبر ، لأنّ ذلك جائز حسن [تقول : زيد قائم العاقل].

و «الحيّ» فيه قولان :

أحدهما : أن أصله حيي بياءين من حيي يحيا فهو حيّ ، وإليه ذهب أبو البقاء (٢).

والثاني : أنّ أصله حيو فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرّفة ، وهذا لا حاجة إليه ، وكأنّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادّعاء ذلك أنّ كون العين ، واللام من واد واحد هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه ، ولذلك كتبوا «الحياة» بواو في رسم المصحف العزيز تنبيها على هذا الأصل ، ويؤيده «الحيوان» لظهور الواو فيه. ولناصر القول الأول أن يقول : قلبت الياء الثانية واوا تخفيفا ؛ لأنّه لمّا زيد في آخره ألف ونون استثقل المثلان.

وفي وزنه أيضا قولان :

أحدهما : أنه فعل.

والثاني : أنّه فيعل فخفّف ، كما قالوا ميت ، وهين ، والأصل : هيّن وميّت.

قال السّدّيّ المراد ب «الحيّ» الباقي ؛ قال لبيد : [الطويل]

١١٧٥ ـ فإمّا تريني اليوم أصبحت سالما

فلست بأحيا من كلاب وجعفر (٣)

وقال قتادة : والحيّ الذي لا يموت (٤) والحيّ اسم من أسمائه الحسنى ، ويقال إنه اسم الله الأعظم.

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٨٧ ، والدر المصون ١ / ٦١٢ ، وقال القرطبي ٣ / ١٧٦ : «ويجوز في غير القرآن النصب على المدح».

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٦.

(٣) ينظر : ديوانه ص ٤٧ ، القرطبي ٣ / ١٧٧.

(٤) أخرجه الطبري (٥ / ٣٨٧) عن الربيع بمعناه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٩ ، ٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن الربيع.

٣١٤

وقيل إنّ عيسى ابن مريم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء «يا حيّ يا قيّوم» (١).

ويقال : إنّ آصف بن برخيا ، لمّا أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ دعا بقول ه «يا حيّ يا قيّوم» (٢).

ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم «أيا هيا شراهيا» يعني «يا حي يا قيوم» ، ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي ـ رضي الله عنه ـ لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو ساجد يقول «يا حيّ يا قيّوم» ، فترددت مرات ، وهو على حاله لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له (٣).

وهذا يدلّ على عظمة هذا الاسم.

والقيّوم : فيعول من : قام بالأمر يقوم به ، إذا دبّره ؛ قال أميّة : [الرجز]

١١٧٦ ـ لم تخلق السّماء والنّجوم

والشّمس معها قمر يعوم

قدّره مهيمن قيّوم

والحشر والجنّة والنّعيم

إلّا لأمر شأنه عظيم (٤)

وأصله «قيووم» ، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيّوما.

وقرأ ابن مسعود (٥) والأعمش ويروى عن عمر : «الحيّ القيّام» ، وقرأ علقمة (٦) : «القيّم» وهذا كما يقولون : ديّور ، وديار ، وديّر. ولا يجوز أن يكون وزنه فعّولا ك «سفّود» إذ لو كان كذلك ؛ لكان لفظه قوّوما ؛ لأنّ العين المضاعفة أبدا من جنس الأصليّة كسبّوح ، وقدّوس ، وضرّاب ، وقتّال ، فالزّائد من جنس العين ، فلمّا جاء بالياء دون الواو ؛ علمنا أنّ أصله فيعول ، لا فعّول ؛ وعدّ بعضهم فيعولا من صيغ المبالغة كضروب ، وضرّاب.

قال بعضهم : هذه اللّفظة عبريّة ؛ لأنّهم يقولون «حيا قياما» ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنا قد بيّنا أن له وجها صحيحا في اللّغة.

__________________

(١) حكاه القرطبي في «تفسيره» الجامع لأحكام القرآن (٣ / ١٧٦).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٤٩) والخبر ذكره ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٢ / ١٧) وذكره أيضا ابن كثير في «البداية والنهاية» (٣ / ٢٦٧).

(٤) ينظر : ديوانه (٥٧) الطبري ٥ / ٣٨٨ ، القرطبي ٣ / ٢٧١ ، البحر ٢ / ٢٨٧ ، الدر المصون ١ / ٦١٣.

(٥) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٤٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٨٧ ، والدر المصون ١ / ٦١٣.

(٦) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٨٧ ، والدر المصون ١ / ٦١٣.

٣١٥

فصل

اعلم أنّ تفسير الجلالة قد تقدّم في أوّل الكتاب ، والإله ؛ قال بعضهم : هو المعبود (١) ، وهو خطأ من وجهين :

الأول : أنه تبارك وتعالى كان إلها في الأزل ، وما كان معبودا.

الثاني : أنّه تعالى أثبت معبودا سواه في قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأنبياء : ٩٨].

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله : وإنما «الإله» هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقا للعبادة ، وأما «الحيّ» قال المتكلّمون : هو كلّ ذات يصحّ أن يعلم ، ويقدر ، واختلفوا في أنّ هذا المفهوم صفة وجوديّة أم لا ، فقال بعضهم : إنّه عبارة عن كون الشّيء بحيث لا يمتنع أنّه يعلم ويقدر ، وعدم الامتناع صفة موجودة ، أم لا؟

قال المحقّقون : لما كانت الحياة عبارة عن عدم الامتناع ، وقد ثبت أنّ الامتناع أمر عدمي ، إذ لو كان وصفا موجودا ؛ لكان الموصوف به موجودا ، فيكون ممتنع الوجود موجودا ، وهو محال ، وإذا ثبت أنّ الامتناع عدم وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع ، وثبت أنّ عدم العدم : وجود ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة ، وهو المطلوب.

قال ابن الخطيب (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ولقائل أن يقول لمّا كان الحيّ أنّه الذي يصحّ أن يعلم ، ويقدر ، وهذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات.

والذي عندي في هذا الباب : أنّ الحيّ عبارة عن الكامل في نفسه ، ولما لم يكن كذلك مقيدا بأنه كامل في هذا دون ذاك دلّ على أنه كامل على الإطلاق.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه كان يقول : أعظم أسماء الله ـ تعالى ـ (الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

روي أنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر.

والقيوم ؛ قال مجاهد : القائم على كلّ شيء (٣) وتأويله قائم بتدبير الخلائق في إيجادهم وأرزاقهم.

وقال الكلبيّ : القائم على كلّ نفس بما كسبت (٤).

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٧.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٨٨) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٧٩) وزاد نسبته لآدم بن أبي إياس والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن مجاهد.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٣٨.

٣١٦

وقال الضحاك : القيّوم الدّائم الوجود (١) الذي يمتنع عليه التغيير.

وقيل : القيّوم الذي لا ينام ، وهذا القول بعيد ؛ لأنه يصير قوله ـ تعالى ـ (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) تكرارا.

وقال أبو عبيدة (٢) : القيّوم الذي لا يزول.

قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) في هذه الجملة خمسة أوجه :

أحدها : أنها في محلّ رفع خبرا للحيّ كما تقدّم في أحد أوجه رفع الحيّ.

الثاني : أنّها خبر عن الله تعالى عند من يجيز تعدّد الخبر.

الثالث : أنها في محلّ نصب على الحال من الضّمير المستكنّ في «القيّوم» كأنّه قيل : يقوم بأمر الخلق غير غافل ، قال أبو البقاء (٣) رحمه‌الله تعالى.

الرابع : أنها استئناف إخبار ، أخبر ـ تبارك وتعالى ـ عن ذاته القديمة بذلك.

الخامس : أنها تأكيد للقيّوم ؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيّوما ، قاله الزّمخشريّ ، فعلى قوله إنّها تأكيد يجوز أن يكون محلّها النصب على الحال المؤكّدة ، ويجوز أن تكون استئنافا ، وفيها معنى التأكيد ، فتصير الأوجه أربعة.

والسّنة : النّعاس ، وهو ما يتقدّم النّوم من الفتور ؛ قال عديّ بن الرقاع : [الكامل]

١١٧٧ ـ وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم (٤)

وهي مصدر وسن يسن ؛ مثل : وعد ، يعد ، وقد تقدّم علة الحذف عند قوله (سَعَةً مِنَ الْمالِ) [البقرة : ٢٤٧].

فإن قيل : إذا كانت السّنة عبارة عن مقدّمة النّوم ، فقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) يدلّ على أنّه لا يأخذه نوم بطريق الأولى ، فيكون ذكر النّوم تكرارا.

فالجواب : تقدير الآية : لا تأخذه سنة ، فضلا عن أن يأخذه نوم.

وقيل هذا من باب التكميل.

وقال ابن زيد : «الوسنان : الّذي يقوم من النّوم وهو لا يعقل ؛ حتّى إنّه ربّما جرّد السّيف على أهله» ، وهذا القول ليس بشيء ، لأنّه لا يفهم من لغة العرب ذلك ، وقال المفضّل : «السّنة : ثقل في الرّأس ، والنّعاس في العينين ، والنّوم في القلب».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٨٩) عن الضحاك وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٢٨٧).

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٣٨.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٦.

(٤) ينظر : الحماسة الشجرية ٢ / ٦٨٢ ، البحر ٢ / ٢٨١ ؛ تهذيب اللغة ٢ / ١٠٥ ، الزمخشري ١ / ٣٠٠ ، اللسان نعس ، الدر المصون ١ / ٦١٣.

٣١٧

وكرّرت «لا» في قوله تعالى : (وَلا نَوْمٌ) تأكيدا ، وفائدتها انتفاء كلّ واحد منهما ، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع ، ولا يلزم منه نفي كلّ واحد منهما على حدته ، ولذلك تقول : «ما قام زيد ، وعمرو ، بل أحدهما» ، [ولو قلت : «ما قام زيد ولا عمرو ، بل أحدهما»] لم يصحّ.

فصل في تفسير «الوسنان»

والوسنان : بين النّائم ، واليقظان ، والنّوم : هو الثّقيل المزيل للقوّة والعقل.

وقيل السّنة : أوّل النّوم ، وهو النّعاس ، والنّوم : غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء.

قيل إنّ النّوم عبارة عن ريح تخرج من أعصاب الدّماغ فإذا وصلت العينين ، حصل النّعاس ، وإذا وصلت إلى القلب ، حصل النوم.

فصل

والمعنى : لا يغفل عن شيء دقيق ، ولا جليل ، فعبّر بذلك عن الغفلة ، لأنه سببها ، فأطلق اسم السّبب على مسببه.

نفى الله ـ تعالى ـ عن نفسه النّوم ، لأنّه آفة وهو منزّه عن الآفات ؛ ولأنّه تغيّر ، ولا يجوز عليه التّغيّر.

عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس كلمات ، فقال : «إنّ الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، ولكنّه يخفض بالقسط ، ويرفعه ويرفع إليه عمل اللّيل قبل عمل النّهار وعمل النّهار قبل عمل اللّيل حجابه النّور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١).

يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه حكى عن موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أنّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى! فأرسل إليه ملكا فأرّقه ثلاثا ، ثمّ أعطاه قارورتين في كلّ يد واحدة ، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرّز بجهده ألا ينام ، فنام في آخر الأمر ، فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله ـ تعالى ـ ذلك مثلا له في بيان أنّه لو كان ينام ؛ لم يقدر على حفظ السّموات والأرض (٢).

__________________

(١) أخرجه مسلم كتاب الإيمان (٢٩٤ ، ٢٩٥) وابن ماجه (١٩٥) وأحمد (٤ / ٣٩٥ ، ٤٠١ ، ٤٠٥) والطيالسي (٦ ـ منحة) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ١٧٣) وفي «تفسيره» (١ / ٢٦٩) وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ٢٧٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٩٤) عن أبي هريرة مرفوعا وأخرجه الطبري أيضا (٥ / ٣٩٣) من حديث ابن عباس وذكر حديث ابن عباس السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٧٩) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة» وابن مردويه والضياء في «المختارة».

٣١٨

واعلم أنّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فإن كلّ من جوّز النّوم على الله ـ تعالى ـ أو كان شاكا في جوازه كفر ، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ فإن صحّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السّؤال إلى جهال قومه.

قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هي كالتي قبلها إلّا في كونها تأكيدا ، و «ما» للشّمول ، واللّام في «له» للملك ، وكرّر «ما» تأكيدا ، وذكرها هنا المظروف دون الظرف ؛ لأنّ المقصود نفي الإلهيّة عن غير الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلّا هو ، لأنّ ما عبد من دونه في السّماء كالشّمس ، والقمر ، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم ، فكلّهم ملكه تعالى تحت قهره ، واستغنى عن ذكر أنّ السّموات ، والأرض ملك له بذكره قبل ذلك أنه خالق السّموات والأرض.

فصل

لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق ، والملك ، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.

قالوا : لأنّ قوله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يتناول كل ما في السموات والأرض ، وأفعال العباد من جملة ما في السّموات والأرض ، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق.

فإن قيل : لم قال (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ولم يقل من في السموات.

فالجواب : لما كان المراد إضافة كلّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة ، وكان الغالب عليه ما لا يعقل ، أجرى الغالب مجرى الكلّ ، فعبر عنه بلفظة «ما» ، وأيضا فهذه الأشياء إنّما أسندت إليه من حيث إنّها مخلوقة ، وهي غير عاقلة ، فعبر عنه بلفظ «ما» للتنبيه على أنّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة.

قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) كقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) [البقرة : ٢٤٥].

قال القرطبيّ (١) : «من» رفع بالابتداء ، و «ذا» خبره ، و «الّذي» نعت ل «ذا» ، أو بدل ولا يجوز أن تكون «ذا» زائدة كما زيدت مع «ما» ؛ لأنّ «ما» مبهمة ، فزيدت «ذا» معها لشبهها بها.

و «من» ، وإن كان لفظها استفهاما فمعناه النّفي ، ولذلك دخلت «إلّا» في قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ).

و «عنده» فيه وجهان :

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧٨.

٣١٩

أحدهما : أنّه متعلّق بيشفع.

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف لكونه [حالا] من الضّمير في «يشفع» ، أي : يشفع مستقرا عنده ، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريب منه فشفاعة غيره أبعد وضعّف بعضهم الحاليّة بأنّ المعنى : يشفع إليه.

و «إلّا بإذنه» متعلّق بمحذوف ، لأنّه حال من فاعل «يشفع» فهو استثناء مفرّغ ، والباء للمصاحبة ، والمعنى : لا أحد يشفع عنده إلّا مأذونا له منه ، ويجوز أن يكون مفعولا به ، أي : بإذنه يشفعون كما تقول : «ضرب بسيفه» ، أي : هو آلة للضّرب ، والباء للتعدية.

و «يعلم» هذه الجملة يجوز أن تكون خبرا لأحد المبتدأين المتقدمين ، أو استئنافا ، أو حالا. والضّمير في «أيديهم» و «خلفهم» يعود على «ما» في قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إلا أنّه غلّب من يعقل على غيره. وقيل : يعود على العقلاء ممّن تضمّنه لفظ «ما» دون غيرهم. وقيل : يعود على ما دلّ عليه «من ذا» من الملائكة والأنبياء. وقيل : من الملائكة خاصّة.

فصل

قال مجاهد وعطاء والسديّ : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما كان قبلهم من أمور الدّنيا (وَما خَلْفَهُمْ) ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم (١).

وقال الضّحّاك والكلبي : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يعني الآخرة ؛ لأنّهم يقدمون عليها. (وَما خَلْفَهُمْ) يعني الدّنيا ؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم (٢).

وقال عطاء عن ابن عبّاس : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من السماء إلى الأرض (وَما خَلْفَهُمْ) يريد ما في السّموات (٣).

وقال ابن جريج : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : مضيّ آجالهم (وَما خَلْفَهُمْ) : ما يكون بعدهم(٤).

وقال مقاتل : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما كان قبل الملائكة. (وَما خَلْفَهُمْ) أي : ما كان بعد (٥) خلقهم.

وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما قدموا من خير وشر (وَما خَلْفَهُمْ) ما هم فاعلوه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٩٦) عن مجاهد والسدي.

(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٧ / ١٠).

(٣) انظر : التفسير الكبير للرازي (٧ / ١٠).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٩٦) عن ابن جريج.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٣٩.

٣٢٠