اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

الأردن وفلسطين (١) قال القاضي (٢) : والتوفيق بين القولين : أنّ النّهر الممتد من بلد إلى بلد قد يضاف إلى أحد البلدين. وروى الزّمخشريّ أنّ الوقت كان قيظا ، فسلكوا مفازة فسألوا أن يجري الله لهم نهرا ، فقال : إنّ الله مبتليكم بما اقترحتموه من النّهر.

قوله : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ) منصوب على الاستثناء ، وفي المستثنى منه وجهان :

الصّحيح أنّه الجملة الأولى ، وهي : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ، والجملة الثانية معترضة بين المستثنى والمستثنى منه وأصلها التّأخير ، وإنّما قدّمت ، لأنها تدلّ عليها الأولى بطريق المفهوم ، فإنّه لمّا قال تعالى : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ، فهم منه أنّ من لم يشرب فإنّه منه ، فلمّا كانت مدلولا عليها بالمفهوم ، صار الفصل بها كلا فصل.

وقال الزمخشريّ : والجملة الثّانية في حكم المتأخّرة ، إلّا أنّها قدّمت للعناية ، كما قدّم «والصّابئون» في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩].

والثاني : أنّه مستثنى من الجملة الثّانية ، وإليه ذهب أبو البقاء (٣). قال شهاب الدين : وهذا غير سديد لأنه يؤدّي إلى أنّ المعنى : ومن لم يطعمه فإنّه منّي ، إلّا من اغترف غرفة بيده ؛ فإنه ليس مني ، لأنّ الاستثناء من النّفي إثبات ، ومن الإثبات نفي ، كما هو الصّحيح ، ولكن هذا فاسد في المعنى ؛ لأنهم مفسوح لهم في الاغتراف غرفة واحدة.

والاستثناء إذا تعقّب الجمل ، وصلح عوده على كلّ منها هل يختصّ بالأخيرة ، أم لا؟

خلاف مشهور ، فإن دلّ دليل على اختصاصه بإحدى الجمل عمل به ، والآية من هذا القبيل ، فإنّ المعنى يعود إلى عوده إلى الجملة الأولى ، لا الثّانية لما قرّرناه.

وقرأ الحرميّان (٤) وأبو عمرو : «غرفة» بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلف. والباقون بضمها. فقيل : هما بمعنى المصدر ، إلّا أنهما جاءا على غير الصّدر كنبات من أنبت ، ولو جاء على الصّدر لقيل : اغترافا. وقيل : هما بمعنى المغترف كالأكل بمعنى المأكول.

وقيل : المفتوح مصدر قصد به الدّلالة على الوحدة ، فإنّ «فعلة» يدلّ على المرّة الواحدة ، ومثله الأكلة يقال فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة والمضموم بمعنى المفعول ، فحيث جعلتهما مصدرا فالمفعول [محذوف ، تقديره : إلّا من اغترف ماء ، وحيث جعلتهما بمعنى المفعول] كانا مفعولا به ، فلا يحتاج إلى تقدير مفعول.

ويدل على الشّيء القليل الّذي يحصل بالكفّ كاللّقمة والحسوة والخطوة بالضم ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤٠) عن قتادة والربيع.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٥٣.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٤.

(٤) انظر : السبعة ١٨٧ ، والحجة ٢ / ٣٥٠ ، ٣٥١ ، وحجة القراءات ١٤٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ١١٣ ، وشرح شعلة ٢٩٤ ، والعنوان ٧٤ ، وإتحاف ١ / ٤٤٥.

٢٨١

والحزّة القطعة اليسيرة من اللحم. قال القرطبيّ (١) : وقال بعضهم : الغرفة بالكفّ الواحد ، والغرفة بالكفين.

وقال المبرّد «غرفة» بالفتح مصدر يقع على قليل ما في يده وكثيره وبالضّمّ اسم ملء الكف ، أو ما اغترف به ، فحيث جعلتهما مصدرا ، فالمفعول محذوف تقديره : إلّا من اغترف ماء ، وحيث جعلتهما بمعنى المفعول كان مفعولا به ، فلا يحتاج إلى تقديره مفعول ونقل عن أبي علي أنّه كان يرجّح قراءة الضّمّ ؛ لأنّه في قراءة الفتح يجعلها مصدرا ، والمصدر لا يوافق الفعل في بنائه ، إنّما جاء على حذف الزوائد وجعلها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح.

قوله : «بيده» يجوز أن يتعلّق ب «اغترف» وهو الظّاهر. ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنه نعت ل «غرفة» ، وهذا على قولنا : بأن «غرفة» ، بمعنى المفعول أظهر منه على قولنا : بأنها مصدر ، فإنّ الظّاهر من الباء على هذا أن تكون ظرفيّة ، أي : غرفة كائنة في يده.

فصل

قال ابن عباس : كانت الغرفة تشرب منها هو ، ودوابّه ، وخدمه ، ويحمل منها (٢). قال ابن الخطيب (٣) : وهذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّه كان مأذونا له أن يأخذ من الماء ما شاء مرّة واحدة بغرفة واحدة بحيث كان المأخوذ من المرّة الواحدة يكفيه ، ودوابّه ، وخدمه ، ويحمل باقيه.

والثاني : أنّه كان يأخذ القليل فيجعل الله فيه البركة حتّى يكفي كلّ هؤلاء ؛ فتكون معجزة لنبيّ ذلك الزّمان كما أنّه تعالى كان يروي الخلق العظيم من الماء القليل في زمن محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

فصل

قال القرطبي (٤) : قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) يدلّ على أنّ الماء طعام ، فإذا كان طعاما ، كان قوتا للأبدان به ، فوجب أن يجري فيه الرّبا.

قال ابن العربيّ وهو الصّحيح من المذهب ، وروى أبو عمر عن مالك قال : لا بأس ببيع الماء بالماء متفاضلا ، وإلى أجل ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف وقال محمّد بن الحسن : هو ممّا يكال ويوزن فعلى هذا لا يجوز عنده التفاضل.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٦٥.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن بمعناه كما في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٤)

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٥٤.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٦٥.

٢٨٢

فصل

قال ابن العربيّ : قال أبو حنيفة : إذا قال الرّجل إذا شرب عبدي من الفرات فهو حرّ ، فلا يعتق إلّا أن يكرع فيه ، والكرع : أن يشرب الرّجل بفيه من النّهر ، فإن شرب بيده ، أو اغترف منه بإناء ، لم يعتق ، لأنّ الله ـ تعالى ـ فرّق بين الكرع في النّهر ، وبين الشّرب باليد. قال : وهذا فاسد لأنّ شرب الماء يطلق على كلّ هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد ، أو كرع بالفم انطلاقا واحدا.

قال القرطبي (١) : وقول أبي حنيفة أصحّ ؛ لأنّ أهل اللّغة فرّقوا بينهما ، كما فرّق الكتاب والسّنّة.

قال الجوهريّ وغيره : كرع من الماء كروعا : إذا تناوله بفيه من موضعه ، من غير أن يشرب بكفيه ، أو بإناء ، وفيه لغة أخرى «كرع» بكسر الرّاء كرعا.

وأمّا السّنّة ، فما روي عن ابن عمر قال : مررنا على بركة ، فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثمّ اشربوا فيها ، فإنّها ليس إناء بأطيب من اليد» (٢) وقال عليه الصلاة والسلام : «من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التّواضع كتب الله بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إذ اطّرح القدح فقال أفّ هذا مع الدّنيا» (٣) أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر.

قوله : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً) هذه القراءة المشهورة ، وقرأ (٤) عبد الله ، وأبيّ والأعمش «إلّا قليل» وتأويله أنّ هذا الكلام وإن كان موجبا لفظا فهو منفيّ معنى ، فإنه في قوّة : لم يطيعوه إلا قليل منهم ، فلذلك جعله تابعا لما قبله في الإعراب. قال الزّمخشريّ : وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللّفظ جانبا ، وهو باب جليل من علم العربية ، فلمّا كان معنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معن ى «فلم يطيعوه» حمل عليه ، ونحوه قول الفرزدق : «لم يدع من المال إلّا مسحتا أو مجلّف» يشير إلى قوله : [الطويل]

١١٦٧ ـ وعضّ زمان يا بن مروان لم يدع

من المال إلّا مسحتا أو مجلّف (٥)

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١١٣٥) رقم (٣٤٣٣) وابن أبي شيبة (٨ / ٤١).

(٣) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٣٤) رقم (٣٤٣١) عن عبد الله بن عمر مرفوعا.

قال الحافظ البوصيري في «زوائد ابن ماجه» (٣ / ١١٣) هذا إسناد ضعيف لتدليس بقية بن الوليد.

(٤) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٧٥ ، والدر المصون ١ / ٦٠٥ ، والتخريجات النحوية ١٦٢.

(٥) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢ / ٢٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٣٧ ، ٨ / ٥٤٣ ، والخصائص ١ / ٩٩ ، ولسان العرب (سحت) ، (جلف) ، (ودع) ، وجمهرة أشعار العرب ص ٨٨٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٨٦ ، ١٢٥٩ ، والإنصاف ١ / ١٨٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٧٩ ، وشرح المفصل ١ / ٢٣١ ، ١٠ / ١٠٣ ، والمحتسب ١ / ١٨٠ ، ٢ / ٣٦٥. والدر المصون ١ / ٦٠٦.

٢٨٣

فإنّ معنى «لم يدع من المال إلّا مسحتا» لم يبق من المال إلّا مسحت ، فلذلك عطف عليه «مجلّف» بالرّفع مراعاة للمعنى المذكور. وفي البيت وجهان آخران ، أحدهما (١) ...

ولا بدّ من ذكر هذه المسألة لعموم فائدتها فأقول : إذا وقع في كلامهم استثناء موجب نحو : «قام القوم إلّا زيدا» فالمشهور وجوب النّصب على الاستثناء. وقال بعضهم : يجوز أن يتبع ما بعد «إلا» ما قبلها في الإعراب فتقول : «مررت بالقوم إلا زيد» بجرّ «زيد» واختلفوا في تابعيّة هذا ، فعبارة بعضهم أنّه نعت لما قبله ، ويقول : إنه ينعت بإلّا ، وما بعدها مطلقا سواء كان متبوعها معرفة ، أم نكرة مضمرا ، أم ظاهرا ، وهذا خارج عن قياس باب النّعت لما قد عرفت فيما تقدّم.

ومنهم من قال : لا ينعت بها إلّا نكرة ، أو معرفة بأل الجنسيّة لقربها من النّكرة. ومنهم من قال : قول النّحويين هنا نعت : إنّما يعنون به عطف البيان ؛ ومن مجيء الإتباع بما بعد «إلّا» قوله : [الوافر]

١١٦٨ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٢)

فصل

لما ذكر تعالى أنّ هذا الابتلاء ليتميز المطيع من المخالف ، أخبر بعد ذلك بأنّهم لما هجموا على النّهر شرب أكثرهم ، وأطاع قليل ، فلم يشربوا ، فأمّا الّذين شربوا فروي أنّهم اسودّت شفاههم وغلبهم العطش ، ولم يرووا ، وبقوا على شطّ النّهر وجبنوا عن لقاء العدوّ ، وأمّا الّذين أطاعوا ، فقوي قلبهم ، وصحّ إيمانهم.

قال السّدّيّ : كانوا أربعة آلاف (٣) ، وقال الحسن ، وهو الصّحيح : أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلاثمائة ، وبضعة عشر (٤) ، ويدلّ عليه قوله عليه الصّلاة والسّلام لأصحابه يوم بدر : «أنّتم اليوم على عدد أصحاب طالوت حين عبروا النّهر ، وما جاز معه إلّا مؤمن» (٥).

قال البراء بن عازب : وكنا يومئذ ثلاثمائة ، وثلاثة عشر رجلا (٦) ولا خلاف بين

__________________

(١) موضع النقط بياض في الأصل.

(٢) تقدم برقم ٦٢٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤٨).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤٧).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٤) وعزاه لابن جرير عن قتادة.

(٦) أخرجه البخاري (٥ / ١٨١) كتاب المغازي باب عدة أصحاب بدر رقم (٣٩٥٩) وأحمد (٤ / ٢٩٠) والطبري (٥ / ٣٤٦ ، ٣٤٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٤) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «دلائل النبوة».

٢٨٤

المفسّرين أنّ الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم ، وإنما اختلفوا هل كان رجوعهم بعد مجاوزة النهر أو قبله؟ والصّحيح : أنّهم لم يجاوزوا النّهر ، وإنّما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).

قال ابن عبّاس والسّدّيّ : كان المخالفون أهل شكّ ، ونفاق ، فقالوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) فانحرفوا ، ولم يجاوزوا النّهر (١).

وقال آخرون : بل جاوزوا النّهر ، وإنما كان رجوعهم بعد المجاوزة ، ومعرفتهم بجالوت ، وجنوده ؛ لقولهم (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ).

قوله : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) وهذا يدلّ على أنّهم حين لاقوا العدوّ ، وعاينوا كثرتهم انقسموا فرقتين إحداهما : رجعت وهي المخالفة ، وبقيت المطيعة.

قوله : (جاوَزَهُ هُوَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا) «هو» ضمير مرفوع منفصل مؤكّد للضّمير المستكنّ في «جاوز».

قوله : «والّذين» يحتمل وجهين :

أظهرهما : أنه عطف على الضّمير المستكنّ في «جاوز» لوجود الشّرط ، وهو توكيد المعطوف عليه بالضّمير المنفصل.

والثاني : أن تكون الواو للحال ، قالوا : ويلزم من الحال أن يكونوا جاوزوا معه ، وهذا القائل يجعل «الّذين» مبتدأ ، والخبر قالوا : «لا طاقة» ؛ فصار المعنى : «فلمّا جاوزه ، والحال أنّ الّذين آمنوا قالوا هذه المقالة» ، والمعنى ليس عليه.

ويجوز إدغام هاء «جاوزه» في هاء «هو» ، ولا يعتدّ بفصل صلة الهاء ؛ لأنها ضعيفة ، وإن كان بعضهم استضعف الإدغام ، قال : «إلّا أن تختلس الهاء» ، يعني : فلا يبقى فاصل. وهي قراءة أبي عمرو (٢) ، وأدغم أيضا واو «هو» في واو العطف بخلاف عنه ، فوجه الإدغام ظاهر لالتقاء مثلين بشروطهما. ومن أظهر وهو ابن مجاهد ، وأصحابه قال : «لأنّ الواو إذا أدغمت سكنت ، وإذا سكنت صدق عليها أنها واو ساكنة قبلها ضمّة ، فصارت نظير : (آمَنُوا وَكانُوا) [يونس : ٦٣] فكما لا يدغم ذاك لا يدغم هذا. وهذه العلّة فاسدة لوجهين :

أحدهما : أنها ما صارت مثل «آمنوا ، وكانوا» إلا بعد الإدغام ، فكيف يقال ذلك؟

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٥٠) عن ابن عباس.

(٢) انظر : الإدغام الكبير ٥٠ ، ٩٤ ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٤٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٧٦ ، والدر المصون ١ / ٦٠٦.

٢٨٥

وأيضا فإنّهم أدغموا : (يَأْتِيَ يَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٤] وهو نظير : (فِي يَوْمٍ) [إبراهيم : ١٨] و (الَّذِي يُوَسْوِسُ) [الناس : ٤] بعين ما علّلوا به.

وشرط هذا الإدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمّ الهاء ، كهذه الآية ، ومثله : (هُوَ وَالْمَلائِكَةُ) [آل عمران : ١٨] (هُوَ وَجُنُودُهُ) [القصص : ٣٩] ، فلو سكنت الهاء ؛ امتنع الإدغام نحو (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) [الأنعام : ١٢٧] ولو جرى فيه الخلاف أيضا لم يكن بعيدا ، فله أسوة بقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ) [الأعراف : ١٩٩] بل أولى لأنّ سكون هذا عارض بخلاف : «العفو وأمر».

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).

ليس المراد منه المعيّة في الإيمان ، لإنّ إيمانهم لم يكن مع إيمان طالوت ، بل المراد : أنّهم جاوزا النّهر معه لأنّ لفظ «مع» لا تقتضي المعيّة لقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥] واليسر لا يكون مع العسر.

قوله : (لا طاقَةَ لَنَا) [لنا] هو : خبر «لا» ، فيتعلّق بمحذوف ، ولا يجوز أن يتعلّق بطاقة ، وكذلك ما بعده من قوله «اليوم» و «بجالوت» ؛ لأنه حينئذ يصير مطوّلا والمطوّل ينصب منونا ، وهذا كما تراه مبنيّا على الفتح ، بل «اليوم» و «بجالوت» متعلّقان بالاستقرار الّذي تعلّق به «لنا».

وأجاز أبو البقاء (١) : أن يكون «بجالوت» هو خبر «لا» ، و «لنا» حينئذ : إمّا تبيين أو متعلّق بمحذوف على أنّه صفة لطاقة.

والطّاقة : القدرة وعينها واو ؛ لأنّها من الطّوق وهو القدرة ، وهي مصدر على حذف الزّوائد ، فإنّها من «أطاق» ونظيرها : أجاب جابة ، وأغار غارة ، وأطاع طاعة.

و «جالوت» اسم أعجميّ ممنوع الصرف ، لا اشتقاق له ، وليس هو فعلوتا من جال يجول ، كما تقدّم في طالوت ، ومثلهما داود.

قوله : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) «كم» خبرية ، فإنّ معناها التّكثير ، ويدلّ على ذلك قراءة أبي (٢) : «وكائن» ، وهي للتكثير ، ومحلّها الرّفع بالابتداء ، و «من فئة» تمييزها ، و «من» زائدة فيه. وأكثر ما يجيء مميّزها ، ومميّز «كائن» مجرورا بمن ، ولهذا جاء التنزيل على ذلك ، وقد تحذف «من» ، فيجرّ مميّزها بالإضافة لا بمن مقدرة على الصّحيح ، وقد ينصب حملا على مميّز «كم» الاستفهامية ، كما أنّه قد يجرّ مميّز الاستفهاميّة حملا عليها ، وذلك بشروط ذكرها النّحاة.

قال الفرّاء : لو ألغيت «من» هاهنا جاز فيه الرّفع والنّصب والخفض.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٥.

(٢) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٣٦ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٧٧ ، الدر المصون ١ / ٦٠٧.

٢٨٦

أمّا النّصب فلأنّ «كم» بمنزلة عدد ، فينصب ما بعده نحو : عشرون رجلا. وأمّا الخفض ، فبتقدير دخول حرف «من» عليه.

وأمّا الرّفع ، فعلى نيّة تقديم الفعل تقديره «كم غلبت فئة» ومن مجيء مميّز «كائن» منصوبا قول الشاعر : [الخفيف]

١١٦٩ ـ أطرد اليأس بالرّجاء فكائن

آلما حمّ يسره بعد عسر (١)

وأجازوا أن يكون «من فئة» في محلّ رفع صفة ل «كم» فيتعلّق بمحذوف. و «غلبت» هذه الجملة هي خبر «كم» والتقدير : كثير من الفئات القليلة غالب الفئات الكثيرة.

وفي اشتقاق «فئة» قولان :

أحدهما : أنها من فاء يفيء ، أي : رجع فحذفت عينها ووزنها فلة.

والثاني : أنّها من فأوت رأسه أي : كسرته ، فحذفت لامها ووزنها فعة كمئة ، إلّا أنّ لام مئة ياء ، ولام هذه واو ، والفئة : الجماعة من النّاس قلّت ، أو كثرت ، وهي جمع لا واحد له من لفظه ، وجمعها : فئات وفئون في الرّفع ، وفئين في النّصب والجرّ ، ومعناها على كلّ من الاشتقاقين صحيح ، فإنّ الجماعة من النّاس يرجع بعضهم إلى بعض ، وهم أيضا قطعة من النّاس كقطع الرّأس المكسّرة.

قوله : «بإذن الله» فيه وجهان.

أظهرهما : أنّه حال فيتعلّق بمحذوف ، والتّقدير : ملتبسين بتيسير الله لهم.

والثاني : أنّ الباء للتّعدية ، ومجرورها مفعول به في المعنى ، ولهذا قال أبو البقاء (٢) : «وإن شئت جعلتها مفعولا به».

وقوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) مبتدأ وخبر ، وتحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون محلّها النّصب على أنها من مقولهم.

والثاني : أنّها لا محلّ لها من الإعراب ، على أنّها استئناف أخبر الله تعالى بها.

فصل في المقصود بالظن في الآية

اختلفوا في الظن المذكور في قوله تعالى (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ). وذكروا فيه وجوها :

أحدها : قال قتادة : المراد من لقاء الله الموت. قال عليه الصلاة والسلام : «من

__________________

(١) ينظر : أوضح المسالك ٤ / ٢٧٦ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٥١٣ ، مغني اللبيب ص ١ / ١٨٦ ، الهمع ١ / ٢٢٥ ، الأشموني ٤ / ٨٥ ، الدرر ١ / ٢١٢ ، الدر المصون ١ / ٦٠٧.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٥.

٢٨٧

أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» (١). وهؤلاء المؤمنون ، لما وطّنوا أنفسهم على القتل ، وغلب على ظنهم أنّهم يموتون وصفهم بأنهم يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله.

وثانيها : قال أبو مسلم (٢) : معناه يظنون أنّهم ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك لأنّ أحدا لا يعلم بما فيه عاقبة أمره وإنّما يكون ظانا راجيا وإن بلغ في طاعة الله ما بلغ.

وثالثها : أنّهم ذكروا في تفسير السّكينة قول بعض المفسّرين : إنّ التّابوت كان فيه كتب إلهيّة ، نزلت على الأنبياء المتقدّمين دالّة على حصول النّصر ، والظّفر لطالوت ، وجنوده ولكنه لم يكن في تلك الكتب أنّ النّصر والظّفر يحصل في المرة الأولى ، أو بعدها ، فهم وإن كانوا قاطعين بالنصر ولكنهم ظنّوا : هل هو في تلك المرّة ، أو بعدها؟!

رابعها : قال كثير من المفسرين : يظنون : أي يعلمون ، فأطلق الظن وأراد به العلم كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦] ووجه المجاز ما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكيد الاعتقاد.

والمراد من قولهم : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) تقوية قلوب الّذين قالوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) ، والمعنى : لا عبرة بكثرة العدد ، وإنّما العبرة بالتّأييد الإلهي ، ثم قال : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). وهذا من تمام قولهم ، ويحتمل أن يكون قولا من الله تعالى ، والأوّل أظهر.

قوله تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢٥٠)

قوله تعالى : (بَرَزُوا لِجالُوتَ) في هذه اللام وجهان :

أحدهما : أنّها تتعلّق ب «برزوا».

والثاني : أنها تتعلّق بمحذوف على أنّها ومجرورها حال من فاعل : «برزوا» قال أبو البقاء : «ويجوز أن تكون حالا أي : برزوا قاصدين لجالوت». ومعنى برزوا : صاروا إلى براز من الأرض ، وهو ما انكشف منها واستوى ، وسميت المبارزة لظهور كلّ قرن

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ١٩١) كتاب الرقاق باب من أحب لقاء الله .. رقم (٦٥٠٧) ومسلم الذكر والدعاء (١٤ ، ١٥ ، ١٦ ، ١٧ ، ١٨) والترمذي رقم (١٠٦٦ ، ١٠٦٧ ، ١٠٦٨ ، ٢٣٠٩) والنسائي (٤ / ٩ ، ١٠) وابن ماجه (٤٢٦٤) وأحمد (٢ / ٣١٣ ، ٣٤٦ ، ٤٢٠) ، (٣ / ١٠٧) والدارمي (١ / ٣٤٥ ، ٢ / ٣١٢) وعبد الرزاق (٦٧٤٨) والطبراني في «الكبير» (١٩ / ٣٩١) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٢٦٣) والخطيب (٦ / ٢٧٢) والحميدي في «مسنده» (٢٢٥).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٥٦.

٢٨٨

لصاحبه ، واعلم أنّ عسكر طالوت لما برزوا إلى عسكر جالوت ، ورأوا قلّة جانبهم ، وكثرة عدوهم ، لا جرم اشتغلوا بالدّعاء ، والتّضرع ، فقالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً). وفي ندائهم بقولهم : «ربّنا» : اعتراف منهم بالعبوديّة ، وطلب لإصلاحهم ؛ لأنّ لفظ «الرّبّ» يشعر بذلك دون غيرها ، وأتوا بلفظ «على» في قولهم : (أَفْرِغْ عَلَيْنا) طلبا ؛ لأن يكون الصّبر مستعليا عليهم ، وشاملا لهم كالظرف. ونظيره ما حكى الله عن قوم آخرين أنّهم قالوا حين لاقوا عدّوهم : وما كانوا قولهم إلّا أن قالوا : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) إلى قوله (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٤٧] وكذلك كان عليه الصّلاة والسّلام يفعل في المواطن كما روي عنه في قصّة بدر أنه عليه الصّلاة والسّلام لم يزل يصلّي ، ويستنجز من الله وعده ، وكان إذا لقي عدوّا قال : «اللهمّ إنّي أعوذ بك من شرورهم واجعل كيدهم في نحورهم» وكان يقول : «اللهمّ بك أصول وأجول» (١).

والإفراغ : الصّبّ ، يقال : أفرغت الإناء : إذا صببت ما فيه ، أصله : من الفراغ يقال : فلان فارغ معناه : خال ممّا يشغله ، والإفراغ : إخلاء الإناء من كلّ ما فيه.

واعلم أنّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة :

الأول : الصّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا).

الثاني : أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت ، ولا يصير ملجأ إلى الفرار.

الثالث : زيادة القوّة على العدوّ ؛ حتى يقهره ، وهو المراد من قولهم (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال

احتجّ أهل السّنّة بقوله : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ..) الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنه لا معنى للصّبر إلّا : القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلّا السّكون والاستقرار ، وهذه الآية دالّة على أنّ ذلك القصد المسمّى بالصّبر من الله تعالى.

أجاب القاضي (٢) : بأنّ المراد من الصبر ، وتثبيت الأقدام : تحصيل أسباب الصّبر ، وأسباب ثبات القدم : إمّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف ، فيعتقد بعضهم أنّ البعض الآخر على الباطل ، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء ، كالموت ، والوباء ، أو يبتليهم بالموت ، والمرض الذي يعمهم ، أو يموت رئيسهم ، ومن يدبّر أمرهم ، فيكون ذلك سببا لجرأة المسلمين عليهم.

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن» (٣ / ٢٥٦).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٥٨.

٢٨٩

والجواب عما (١) قاله القاضي من وجهين :

الأول : أنّا بيّنّا أنّ الصّبر عبارة عن القصد إلى السكون والثبات عبارة عن السكون وهو الذي أراده العبد من الله ـ تعالى ـ ، وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره ، وتحملونه على أسباب الصّبر ، وترك الظّاهر لغير دليل لا يجوز.

الثاني : أنّ هذه الأسباب التي سلمتم أنّها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في التّرجيح الدّاعي ، أو ليس لها أثر فيه؟ وإن لم يكن لها أثر فيه لم يكن لطلبها من الله تعالى فائدة ، وإن كان لها أثر في التّرجيح ؛ فعند صدور هذه الأسباب المرجحة يحصل الرجحان ، وعند حصول الرّجحان ، يمتنع الطّرف المرجوح ، فيجب حصول الطّرف الرّاجح ، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب.

قوله تعالى : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(٢٥١)

«الهزم» : أصله الكسر ، يقال «سقاء متهزّم» إذا انشق و «قصب متهزّم» ، أي متكسّر.

والهزمة : نقرة في الجبل ، أو في الصّخرة. قال سفيان بن عيينة في زمزم : وهي هزمة جبريل ، يريد هزمها برجله فخرج الماء. ويقال : سمعت هزيمة الرعد كأنّه صوت تشقّق. ويقال للسّحاب هزيم ؛ لأنّه ينشق بالمطر.

قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) فيه الوجهان المتقدّمان أعني كونه حالا ، أو مفعولا به.

فصل

أخبر تعالى أنّ تلك الهزيمة كانت بإذن الله تعالى وإعانته وتيسيره ، ثم قال : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ).

قال القرطبيّ (٢) : وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم ، ظلّه ميل ويقال : إنّ البربر من نسله.

قال ابن عبّاس : إنّ داود ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان راعيا ، له سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم «إيشا» ؛ أرسل إليهم داود ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجياد إلى البراز ، وكان من قوم عاد ، فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا فذهب إلى ناحية أخرى من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت ، وهو يحرض الناس.

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٦٧.

٢٩٠

فقال له داود : ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟

فقال طالوت : أنكحه ابنتي ، وأعطيه نصف ملكي ، فقال داود : فأنا أخرج إليه ؛ وكانت عادته أنه يقاتل الأسد والذّيب بالمقلاع في المرعى ، وكان طالوت عارفا بجلادته ، فلما همّ داود بالخروج إلى جالوت ، مرّ بثلاثة أحجار فقلن : يا داود ، خذنا معك ففينا منيّة جالوت ، ثمّ لما خرج إلى جالوت ، رماه ، فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه ، وقتل بعده ناسا كثيرة ، فهزم الله جنود جالوت ، وقتل داود جالوت (١) وهو داود بن إيشى بكسر الهمزة. وقيل داود بن زكريّا بن مرشوى من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وكان من أهل بيت المقدس ، فحسده طالوت ، وأخرجه من مملكته ، ولم يف له بوعده ، ثم ندم على صنعه ، فذهب يطلبه إلى أن قتل ، وملك داود ، وحصلت له النّبوّة ، وهو المراد من قوله : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) هو العلم مع العمل والحكمة : هي وضع الأمور موضعها على الصّواب ، والصّلاح.

قوله : (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ...).

قال الكلبيّ وغيره : «صنعة (٢) الدّروع».

قال تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ : ١٠ ـ ١١] وقيل : منطق الطّير والنّمل ، وقيل الزّبور ، وعلم الدّين ، وكيفية الحكم ، والفصل.

قال تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٩].

وقيل : الألحان الطّيّبة. قيل كان إذا قرأ الزّبور ؛ تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها ، وتظله الطّير مصغية له ، ويركد الماء الجاري ، وتسكن الرّيح.

وروى الضّحّاك (٣) عن ابن عباس : هو أنّ الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرّة ، ورأسها عند صومعته ، وقوّتها قوّة الحديد ، ولونها لون النّار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر ، مدسّرة بقضبان اللّؤلؤ الرطب ، فلا يحدث في الهواء حدث إلّا صلصلت السلسلة ، فيعلم داود ذلك الحدث ، ولا يمسّها ذو عاهة إلّا برأ ، فكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدّى على صاحبه ، وأنكر حقه أتى إلى السّلسلة ، فمن كان صادقا مدّ يده إلى السّلسلة ، فنالها ، ومن كان كاذبا ، لم ينلها ، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة ، فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلا جوهرة ثمينة ، فلما استردّها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكّازه ، فنقرها وضمنها الجوهرة ، واعتمد عليها حتى حضروا السلسلة ، فقال صاحب الجوهرة :

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ١٥٩) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٣٥.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٢٩١

ردّ عليّ الوديعة. فقال له صاحبه : ما أعرف لك عندي من وديعة ، فإن كنت صادقا فتناول السلسلة ، فقام صاحب الجوهرة ، فتناولها بيده. فقيل للمنكر قم أنت ، فتناولها.

فقال لصاحب الجوهرة : خذ عكّازي هذا ، فاحفظها حتى أتناول السّلسلة ، فأخذها فقال الرجل : «اللهم إن كنت تعلم أنّ هذه الوديعة التي يدّعيها ، قد وصلت إليه فقرب مني السّلسلة ، فمد يده فتناولها ، فتعجب القوم ، وشكّوا فيها ، فأصبحوا وقد رفع الله السّلسلة.

قوله (مِمَّا يَشاءُ) : فاعل ، «يشاء» ضمير الله تعالى.

وقيل : ضمير داود ، والأول أظهر.

قوله : «ولو لا دفع» ؛ قرأ (١) نافع هنا ، وفي الحج : «دفاع» ، والباقون : «دفع». فأمّا «دفع» ، فمصدر «دفع» «يدفع» ثلاثيا ، وأمّا «دفاع» فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مصدر «دفع» الثلاثيّ أيضا ، نحو : كتب كتابا ، وأن يكون مصدر «دافع» ؛ نحو : قاتل قتالا ؛ قال أبو ذؤيب : [الكامل]

١١٧٠ ـ ولقد حرصت بأن أدافع عنهم

فإذا المنيّة أقبلت لا تدفع (٢)

قالوا وفعال كثيرا يجيء مصدرا للثلاثي من فعل وفعل ، تقول : جمح جماحا وطمح طماحا وتقول لقيته لقاء ، وقمت قياما ، وأن يكون مصدر لدفع تقول : دفعته ، دفعا ، ودفاعا نحو : قتل قتلا وقتالا.

و «فاعل» هنا بمعنى فعل المجرد ، فتتّحد القراءتان في المعنى ويحتمل أن يكون من المفاعلة ، والمعنى أنه سبحانه إنّما يكفّ الظّلمة ، والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ، ورسله ، وأئمة دينه ، وكان يقع بين أولئك المحقين ، وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات ، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كقوله تعالى : (يُحارِبُونَ اللهَ) [المائدة : ٣٣] و (شَاقُّوا اللهَ) [الأنفال : ١٣] ونظائره كثيرة.

ومن قرأ «دفاع» ، وقرأ في الحجّ (يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٣٨] أو قرأ «دفع» ، وقرأ «يدفع» ـ وهما أبو عمرو وابن كثير ـ فقد وافق أصله ، فجاء بالمصدر على وفق الفعل ، وأمّا من قرأ هنا : «دفع» ، وفي الحجّ «يدافع» ، وهم الباقون ، فقد جمع بين اللّغتين ، فاستعمل الفعل من الرّباعي والمصدر من الثلاثي. والمصدر هنا مضاف لفاعله وهو الله تعالى ، و «النّاس» مفعول أول ، و «بعضهم» بدل من «الناس» بدل بعض من كلّ.

__________________

(١) انظر : السبعة ١٨٧ ، والحجة ٢ / ٣٥٢ ، وحجة القراءات ١٤٠ ، والعنوان ٧٤ ، وإعراب القراءات السبع ١ / ٩١ ، وشرح الطيبة ٤ / ١١٤ وشرح شعلة ٢٩٣ ، وإتحاف ١ / ٤٤٦.

(٢) ينظر : ديوان الهذليين ١ / ٢ ، البحر ٢ / ٢٧٨ ، الدر المصون ١ / ٦٠٨.

٢٩٢

و «ببعض» متعلّق بالمصدر ، والباء للتعدية ، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى ، والباء إنّما تكون للتعدية في اللّازم ، نحو : «ذهب به» فأمّا المتعدّي لواحد فإنّما يتعدّى بالهمزة ، تقول : «طعم زيد اللّحم ، وأطعمته اللّحم» ولا تقول : «طعمته باللّحم» ، فتعدّيه إلى الثاني بالباء ، إلّا فيما شذّ قياسا ، وهو «دفع» ، و «صكّ» ، نحو : صككت الحجر بالحجر ، أي : جعلت أحدهما يصكّ الآخر ، ولذلك قالوا : صككت الحجرين أحدهما بالآخر.

فصل في المدفوع والمدفوع به

اعلم أنّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع ، والمدفوع به ، وأمّا المدفوع عنه ، فغير مذكور ، وهو يحتمل وجوها :

الأول : أن يكون المعنى : ولو لا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض ، فيكون الدّافعون هم الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام والأئمة الذين يمنعون النّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدّلائل.

قال تعالى : (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم : ١].

الثاني : دفع بعض الناس عن المعاصي ، والمنكرات بسبب البعض ، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ؛ لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠].

الثالث : ولو لا دفع الله بعض الناس عن الهرج ، والمرج ، وإثارة الفتن في الدّنيا بسبب البعض ، فيكون الدّافعون هم الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ ثم الأئمة والملائكة الذّابّون عن شرائعهم ، وذلك أنّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده ، ما لم يخبز هذا لذاك ، ويطحن ذاك لهذا ، ويبني هذا لذاك ، وينسج ذاك لهذا ، ولا تتمّ مصلحة الإنسان.

فالظّاهر أن مصلحته لا تتمّ إلّا باجتماع جمع في موضع واحد ، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيّ بالطبع ، ثم إنّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة ، ثم إلى المقاتلة ، فلا بدّ في الحكمة الإلهيّة من وضع شريعة بين الخلق ليقطع بها الخصومات ، والمنازعات ، فبعث الله الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ بالشّرائع ؛ ليدفع بهم ، وبشرائعهم الآفات ، والفساد عن الخلق فإنّ الخلق ما داموا متمسكين بالشّرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة ، ولهذا قال عليه الصّلاة والسّلام : «الإسلام والسّلطان أخوان» (١) وقال أيضا : «الإسلام أمير ، والسّلطان حارس ، فمن لا أمير له فهو منهزم ، ومن لا حارس له فهو ضائع» (٢).

__________________

(١) أخرجه الديلمي عن ابن عباس كما في «كنز العمال» (٦ / ١٠) رقم (١٤٥١٣).

(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ١٦٢). ووقع في المخطوطة أبلفظ : الإسلام أس

٢٩٣

وعلى هذا الوجه فيكون تفسير قوله : (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) ، أي : لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي ، وذلك يسمّى فسادا. قال تعالى : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] وقال : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [القصص : ١٩].

الرابع : ولو لا دفع الله بالمؤمنين ، والأبرار عن الكفّار ، والفجّار ، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها. قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «إنّ الله ليدفع بالمسلم الصّالح عن مائة أهل بيت من جيرانه» (١). وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «إنّ الله يدفع بمن يصلّي من أمّتي عمّن لا يصلّي ، وبمن يزكّي عمن لا يزكّي ، وبمن يصوم عمّن لا يصوم وبمن يحجّ عمّن لا يحجّ ، وبمن يجاهد عمّن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين» ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (٢).

ويدلّ على صحّة هذا القول قوله تعالى : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) [الكهف : ٨٢]. وقال تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الفتح : ٢٥] وقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣]. وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله : (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) ، أي : لأهلك الله أكثر أهلها لكثرة الكفّار والعصاة.

قال القرطبيّ (٣) : وقيل : هم الأبدال ، وهم أربعون رجلا ، كلّما مات واحد أبدل آخر ، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم اثنان وعشرون بالشّام ، وثمانية عشر بالعراق.

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الأبدال يكونون بالشّام وهم أربعون رجلا كلّما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلا يستقى بهم الغيث وينصرهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء» (٤).

__________________

ـ والسلطان حارس فما لا أس له فهو متهدم وما لا حارس له فهو ضائع.

والحديث لم أجده في شيء من كتب الحديث.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٧٤) والبغوي في «تفسيره» (١ / ٢٥٦) وابن عدي في «الكامل» (٢ / ٧٩٠) والعقيلي في «الضعفاء» (٤ / ٤٠٤) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٨ / ١٦٤) وقال الهيثمي : وفيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف.

وقال العقيلي : يحيى بن سعيد العطار شامي منكر الحديث لا يتابع على حديثه.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» «الجامع لأحكام القرآن» (٢ / ١٦٩).

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٦٩.

(٤) أخرجه أحمد (١ / ١١٢) وابن عساكر (١ / ٦١ ـ تهذيب) والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» كما في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٧) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

٢٩٤

ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ، وخرج أيضا عن أبي الدرداء قال : إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض ، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد يقال لهم الأبدال ، لم يفضلوا النّاس بكثرة صوم ، ولا صلاة ، ولكن بحسن خلق ، وصدق الورع ، وحسن النّية ، وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنّصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله ، بصبر ، وحلم ، ولبّ ، وتواضع في غير مذلّة فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله سبحانه لنفسه ، واستخلصهم بعلمه لنفسه ، وهم أربعون صدّيقا ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن بهم يرفع الله المكاره ، والبلايا عن النّاس ، وبهم يمطرون ، ويرزقون ، لا يموت الرّجل منهم ، حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه(١).

وقال سفيان الثّوري : «هم الشّهود الذين تستخرج بهم الحقوق».

الخامس : قال ابن عبّاس ومجاهد : ولو لا دفع الله بجنود المسلمين ؛ لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المؤمنين ، وخربوا المساجد ، والبلاد (٢).

السادس : أن يحمل اللفظ على الكل ؛ لأن بين هذه الأقسام قدرا مشتركا ، وهو دفع المفسدة ، فإذا حملنا اللّفظ عليه ، دخلت الأقسام بأسرها فيه.

فصل في بطلان مذهب الجبر

قال القاضي (٣) : هذه الآية من أقوى الدّلائل على بطلان الجبر ؛ لأنه إذا كان الفساد من خلقه لم يكن لقوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) تأثير في زوال الفساد ؛ لأن على قولهم إنّما لا يقع الفساد بسبب ألا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى النّاس ، والجواب : أنّ الله تعالى لمّا كان عالما بوقوع الفساد ، فإذا صح مع ذلك العلم ألّا يقع الفساد كان المعنى أنه لا يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد ، فيلزم أن يكون العبد قادرا على الجمع بين النّفي والإثبات ، وهو محال ويؤيد ذلك قوله تعالى مستدركا (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) بين أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم فلو كان دفع الفساد بهذا الطريق فعل العبد لكان الفضل للعبد ؛ لأنه الدّافع على قولهم ، ولم يكن لله تعالى على العالمين فضل سبب ذلك الدّفع. فإن قالوا : نحمل هذا على البيان ، والإرشاد.

قلنا : كلّ ذلك قائم في حقّ الكفّار ، والفجّار ، ولم يحصل منهم دفاع.

قوله : (وَلكِنَّ اللهَ) وجه الاستدراك أنه لمّا قسّم النّاس إلى مدفوع ومدفوع به ، وأنّه بهذا الدّفع امتنع فساد الأرض ، فقد يهجس في نفس من غلب عمّا يريد من الفساد أنّ الله

__________________

(١) أخرجه ابن أبي الدنيا في «كتاب الأولياء» كما في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٧٣) عن مجاهد بمعناه.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٦٣.

٢٩٥

غير متفضّل عليه ، حيث لم يبلغه مقاصده وطلبه ، فاستدرك عليه [أنّه] وإن لم يبلغ مقاصده أنّ الله متفضّل عليه ، ومحسن إليه ؛ لأنه مندرج تحت العالمين ، وما من أحد إلّا ولله عليه فضل ، وله فضل الاختراع [والإيجاد].

و «على» يتعلّق ب «فضل» ؛ لأنّ فعله يتعدّى بها ، وربّما حذفت مع تخفيف الفعل ؛ وقد جمع [بين] الحذف والإثبات في قوله : [الوافر]

١١٧١ ـ وجدنا نهشلا فضلت فقيما

كفضل ابن المخاض على الفصيل (١)

أمّا إذا ضعّف ، فإنه لا تحذف «على» أصلا كقوله : (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، ويجوز أن تتعلّق «على» بمحذوف لوقوعها صفة لفضل.

قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٢٥٢)

قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ) : مبتدأ وخبر ، و «نتلوها» فيه قولان :

أحدهما : أن تكون حالا ، والعامل فيها معنى الإشارة.

والثاني : أن تكون مستأنفة فلا محلّ لها. ويجوز غير ذلك ، وهو يؤخذ مما تقدم.

قال القرطبيّ (٢) : وإن شئت كان «آيات الله» بدلا ، والخبر نتلوها عليك بالحقّ وأشير إليها إشارة البعيد لما بينا في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢] أن «تلك» و «ذلك» يرجع إلى معنى هذه ، وهذا ، وأيضا فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشّيء الذي انقضى ، ومضى ، فكانت في حكم الغائب ، فلهذا التأويل قال : «تلك» وأشير إليها إشارة البعيد لما تقدّم في قوله : «ذلك الكتاب». قوله : «بالحقّ» يجوز فيه أن يكون حالا من مفعول «نتلوها» ، أي : ملتبسة بالحقّ ، أو من فاعله ؛ أي : نتلوها ومعنا الحقّ ، أو من مجرور «عليك» ، أي : ملتبسا بالحقّ.

قوله : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). قال القرطبيّ (٣) : خبر إن أي : وإنك لمرسل.

فصل

اعلم أنّه أشار بقوله : «تلك» إلى القضيّة المذكورة من نزول التّابوت ، وغلب الجبابرة على يد داود ، وهو صبيّ فقير. ولا شكّ أنّ هذه الأحوال آيات باهرة دالّة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ، وفي معنى قوله : «بالحقّ» وجوه :

أحدها : أنّ المراد : أن تعتبر بها يا محمّد أنت ، وأمتك في احتمال الشّدائد في الجهاد ، كما احتملها المؤمنون ، فيما مضى ، وقال «نتلوها» ، أي : يتلوها جبريل ، وأضاف ذلك إليه تشريفا له كقوله : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ورسوله [الفتح : ١٠].

__________________

(١) تقدم برقم ٤٦١.

(٢) ينظر تفسير القرطبي ٣ / ١٧٠.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٢٩٦

وثانيها : «بالحقّ» أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب ؛ لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلا.

وثالثها : أنّا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالّة على نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة.

ورابعها : «بالحقّ» ، أي : يجب عليك أن تعلم : أنّ نزول هذه الآيات من قبل الله تعالى ، وليس من قبل الشياطين ، ولا تحريف الكهنة والسحرة ، وقوله عقيب ذلك : «وإنّك لمن المرسلين» يحتمل وجهين :

الأول : أن إخبارك عن هذه القصص من غير تعلّم ، ولا دراسة دليل على أنّك رسول وإنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى.

الثاني : أن يكون المراد منه تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى أنك إذا عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء من الخلاف والرد لقولهم ، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك ، وخلاف من خالفك ، لأنّ لك بهم أسوة وإنّما بعثوا لتأدية الرّسالة على سبيل الاختبار ، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك إنّما يرجع عليهم.

قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)(٢٥٣)

قال القرطبيّ (١) : قال «تلك» ، ولم يقل «ذلك» مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة ، وهي رفع بالابتداء ، و «الرّسل» نعته ، وخبر الابتداء الجملة وقيل : «الرسل» عطف بيان ، و «فضّلنا» الخبر.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها

قال أبو مسلم (٢) : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أنّه أخبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخبار الأنبياء المتقدّمين ، وأقوال أممهم لهم ، كسؤال قوم موسى : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ، وقولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨]. وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، فكذبوه ، وراموا قتله ، ثم أقام فريق منهم على الكفر به ، وهم اليهود ، وزعم فريق منهم أنّهم أولياؤه ، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت ،

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٧٠.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٦٥.

٢٩٧

ودفعوا ملكه بعد المسألة ، وكذلك ما جرى من أمر النهر ، فذكر ذلك كلّه تسلية للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّا رأى من قومه من التّكذيب والحسد ، فقال : هؤلاء الرّسل الذين كلّم الله بعضهم ، ورفع الباقين درجات ، وأيّد عيسى بروح القدس ، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك من مشاهدة المعجزات ، فلا يحزنك ما ترى من قومك ، فلو شاء الله لم يختلف أمم أولئك ، ولكن ما قضى الله فهو كائن ، وما قدّره ، فهو واقع.

فصل

أحدها : أنّ المراد من تقدم ذكرهم من الأنبياء في القرآن كإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى وغيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ.

الثاني : أنّ المراد من تقدّم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل ، وداود ، وطالوت على قول من يجعله نبيّا.

الثالث : قال الأصمّ (١) : المراد منه الرّسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد ، وأشار إليهم بقوله : ولو لا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض».

قوله تعالى : (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ) : يجوز أن يكون حالا من المشار إليه ، والعامل معنى الإشارة كما تقدّم ، وقال «تلك» ولم يقل أولئك الرّسل ؛ لأنه ذهب إلى معنى الجماعة كأنه قيل : تلك الجماعة ، ويجوز أن يكون مستأنفا ، ويجوز أن يكون خبر «تلك» على أن يكون «الرّسل» نعتا ل «تلك» ، أو عطف بيان أو بدلا.

فصل في تفاضل الأنبياء

أجمع الأمّة على أنّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعض ، وأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من الكلّ ، ويدلّ على ذلك وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] فلما كان رحمة للعالمين ، لزم أن يكون أفضل من كلّ العالمين.

الثاني : قوله : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤] قيل فيه لأنه قرن ذكره بذكره في الشّهادتين والأذان ، والتّشهد ، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء.

الثالث : أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] وبيعته ببيعته فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] وعزته بعزته فقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) [المنافقون : ٨] ورضاه برضاه فقال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] ، وإجابته بإجابته فقال : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال : ٢٤].

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٦٥.

٢٩٨

الرابع : أنّ معجزات سائر الأنبياء قد ذهبت ، ومن بعض معجزاته ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ القرآن ، وهو باق إلى آخر الدّهر.

الخامس : قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] فأمر محمدا بالاقتداء بهم ، وليس هو الاقتداء في أصول الدين ؛ لأن شرعه نسخ سائر الشّرائع ، فلم يبق إلا أن يكون الاقتداء في محاسن الأخلاق ، فكأنه تعالى قال : إنّي أطلعتك على أحوالهم وسيرهم ، فاختر أنت أجودها ، وأحسنها. فمقتضى ذلك أنه اجتمع فيه من الخصال ما كان متفرقا فيهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم.

السادس : أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بعث إلى الخلق كلهم ، فوجب أن يكون مشقتة أكثر من بعث إلى بعضهم ، فإذا كانت مشقته أكثر كان أجره أكثر ، فوجب أن يكون أفضل.

السابع : أن دين محمّد أفضل الأديان ؛ فيلزم أن يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء.

بيان الأول : أنّ الله تعالى جعل دينه ناسخا لسائر الأديان ، والنّاسخ أفضل من المنسوخ ، قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠]. وإنّما نالت الأمة هذه الفضيلة لمتابعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع.

الثامن : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة» (١) وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ، ومن كل أولاده ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّا سيّد ولد آدم ولا فخر» (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنّة أحد النّبيّين حتّى أدخلها أنا ، ولا يدخلها أحد من الأمم حتّى تدخلها أمّتي» وروى أنس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أوّل النّاس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشّرهم إذا أيسوا ، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي ولا فخر» (٣).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : جلس ناس من الصّحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثهم فقال بعضهم : عجبأ إنّ الله اتخذ إبراهيم خليلا ، وقال آخر : ما ذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليما ، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر :

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٢٨١ ، ٢٩٥) وأبو داود الطيالسي في «مسنده» (٢ / ٢٢٦ ـ منحة) رقم (٢٧٩٨) وأبو يعلى (٤ / ٢١٥ ـ ٢١٦) رقم (٢٣٢٨) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣) وقال : وفيه علي بن زيد وقد وثق على ضعفه وبقية رجالهما رجال الصحيح.

وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري :

أخرجه الترمذي (٥ / ٢٨٨) رقم (٣١٤٨) وابن ماجه كتاب الزهد باب ذكر الشفاعة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح. وله شاهد من حديث عبد الله بن سلام :

أخرجه ابن حبان (٨ / ١٣٧) رقم (٦٤٤٤) وأبو يعلى (٧٤٩٣).

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٨٥) رقم (٣٦١٠) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٤٨٤).

٢٩٩

آدم اصطفاه الله ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «سمعت كلامكم ، وحجّتكم أنّ إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسى نجيّ الله ، وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ، ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أوّل من يحرّك حلقة الجنّة فيفتح لي ، فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ، وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر» (١).

التاسع : روى البيهقي في «فضائل الصّحابة» ـ رضي الله عنهم ـ أنه ظهر علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من بعيد ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا سيّد العرب» فقالت عائشة رضي الله عنها : ألست أنت سيّد العرب؟ فقال : «أنا سيّد العالمين وهو سيّد العرب» (٢).

العاشر : جاء في الصحيحين أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي ، ولا فخر ، بعثت إلى الأحمر ، والأسود ، وكان النّبي قبل يبعث إلى قومه ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرّعب أمامي مسيرة شهر ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشّفاعة ، فادّخرتها لأمّتي ، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله شيئا»(٣).

الحادي عشر : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله تعالى اتّخذ إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتّخذني حبيبا. قال : وعزّتي لأوثرنّ حبيبي على خليلي» (٤).

الثاني عشر : أنّ الله تعالى كلما نادى نبيّا في القرآن ناداه باسمه قال : (يا آدَمُ اسْكُنْ) [البقرة : ٣٥] (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ) [المائدة : ١١٦] (يا نُوحُ اهْبِطْ) [هود : ٤٨] (يا داوُدُ) [ص : ٢٦] (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) [الصافات : ١٠٤] (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه : ١١] وأما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فناداه بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) [الأنفال : ٦٤] (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة : ٤١] وذلك يفيد التفضيل.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٣٠) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الحاكم (٣ / ١٢٤) والطبراني في «الكبير» (٣ / ٩٠) عن عائشة مرفوعا.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وفي إسناده عمر بن الحسن وأرجو أنه صدوق.

ورده الذهبي بقوله : قلت : أظن أنه هو الذي وضع هذا.

(٣) أخرجه البخاري (١ / ١٩٠) كتاب التيمم باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلت لي الأرض ... الخ رقم (٤٣٨) ومسلم كتاب المساجد ٣ والنسائي (٤٣٢) وأحمد (٣ / ٣٠٤) والدارمي (٢ / ٢٢٤) والبيهقي (١ / ٢١٢) وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ٣١٦).

(٤) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» رقم (١٤٩٤) وأورده ابن عراق في تنزيه الشريعة (١ / ٣٣٣) من رواية ابن الجوزي في الموضوعات.

وقال ابن الجوزي : لا يصح تفرد به مسلمة بن علي الخشني وهو متروك وتعقبه السيوطي في «اللآلئ» (١ / ١٤١) بأن البيهقي أخرجه في «الشعب» وضعفه والخشني وإن ضعف فلم يكذب وهو من رجال ابن ماجه.

٣٠٠