اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

«ويبسط» هاهنا وفي الأعراف بالسّين على الأصل ، والباقون بالصّاد لأجل الطاء. وقد تقدّم تحقيقه في (الصِّراطَ) [الفاتحة : ٦].

فصل

قوله : «يقبض» بإمساك الرّزق والنفس ، والتقتير ، و «يبسط» بالتّوسيع ، وقيل : يقبض بقبول التوبة الصّادقة ، ويبسط بالخلف ، والثّواب. وقيل : هو الإحياء والإماتة ، فمن أماته فقد قبضه ومن مدّ له في عمره فقد بسط له.

وقيل : يقبض بعض القلوب ، حتّى لا تقدم على هذه الطّاعة. والمعنى : أنّه كما أمرهم بالصّدقة أخبر أنّه لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه ، وإعانته ، وقيل : ذكر ذلك ليعلم الإنسان أنّ القبض والبسط بيد الله ، فإذا علم ذلك ؛ انقطع نظره عن مال الدّنيا ، وبقي اعتماده على الله ، فحينئذ يسهل عليه الإنفاق ثمّ قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجزيكم بأعمالكم ، حيث لا حاكم ولا مدبّر سواه.

وقال قتادة (١) : الهاء في «إليه» راجعة إلى التّراب كناية عن غير مذكور ، أي من التّراب خلقتم ، وإليه ترجعون ، وتعودون.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٢٤٦)

الملأ من القوم وجوههم ، وأشرافهم ، وهو اسم للجماعة من النّاس لا واحد له من لفظه كالرّهط والقوم ، والجيش. والملأ : الأشراف سمّوا بذلك ؛ لأنهم يملئون العيون هيبة ، أو المجالس إذا حضروا ؛ أو لأنهم مليئون بما يحتاج إليهم فيه ، وقال الفرّاء : «الملأ» الرجال في كلّ القرآن ، وكذلك القوم والرّهط والنّفر ، ويجمع على أملاء ؛ قال : [الطويل]

١١٥٨ ـ وقال لها الأملاء من كلّ معشر

وخير أقاويل الرّجال سديدها (٢)

قال القرطبي (٣) : والملأ أيضا حسن الخلق ، ومنه الحديث : «أحسنوا الملأ فكلّكم سيروى» أخرجه مسلم (٤).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٢٦.

(٢) ينظر البحر ٢ / ٢٥٧ ، الدر المصون ١ / ٥٩٧.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥٩.

(٤) أخرجه مسلم (٣ / ١٩٧ ـ نووي) كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب قضاء الصلاة الفائتة حديث (٣١١ / ٦٨١) من حديث أبي قتادة.

٢٦١

قوله تعالى : «من بني» فيه وجهان :

أحدهما : أنّه صلة للملأ على مذهب الكوفيين ؛ لأنهم يجعلون المعرّف بأل موصولا ؛ وينشدون : [الطويل]

١١٥٩ ـ لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيائه بالأصائل (١)

و «من بعد موسى» متعلّق بما تعلّق [به] الجارّ الأول ، وهو الاستقرار ، ولا يضرّ اتحاد الحرفين لفظا لاختلافهما معنى ، فإنّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداء الغاية. وقال أبو البقاء (٢) : «من بعد» متعلّق بالجار الأول ، أو بما تعلّق به الأول يعني بالأول : «من بني» ، وجعله عاملا في : «من بعد» لما تضمنّه من الاستقرار ، فلذلك نسب العمل إليه ، وهذا على رأي بعضهم ، ينسب العمل للظرف والجارّ الواقعين خبرا أو صفة أو حالا أو صلة ، فتقول في نحو : «زيد في الدار أبوه» أبوه : فاعل بالجارّ ، والتحقيق أنه فاعل بالاستقرار الذي تعلّق به الجارّ ، وهو الوجه الثاني. وقدّر أبو البقاء (٣) مضافا محذوفا.

تقديره : من بعد موت موسى ، ليصحّ المعنى بذلك.

قوله : «إذ قالوا» العامل في هذا الظرف أجازوا فيه وجهين :

أحدهما : أنه العامل في «من بعد» لأنّه بدل منه ، إذ هما زمانان ، قاله أبو البقاء (٤) : والثاني : أنه «ألم تر» قال شهاب الدين وكلاهما غير صحيح.

أمّا الأول فلوجهين :

أحدهما من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى. فأمّا الذي من جهة اللفظ فإنه على تقدير إعادة «من» و «إذ» لا تجرّ ب «من». الثاني : أنه ولو كانت «إذ» من الظروف التي تجرّ ب «من» وقت وحين لم يصحّ [ذلك أيضا لأنّ العامل في «من بعد» محذوف فإنه حال تقديره : كائنين من بعد ، ولو قلت : كائن من حين قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا لم يصحّ] هذا المعنى.

وأمّا الثاني فلأنه تقدّم أن معنى «ألم تر» تقرير للنفي ، والمعنى : ألم ينته علمك ، أو قد نظرت إلى الملأ وليس انتهاء علمه إليهم ولا نظره إليهم كان في وقت قولهم ذلك ، وإذا لم تكن ظرفا للانتهاء ولا للنظر فكيف تكون معمولا لهما أو لأحدهما؟

وإذ قد بطل هذان الوجهان فلا بدّ له من عامل يصحّ به المعنى وهو محذوف ، تقديره : ألم تر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ أو ما في معناه ؛ وذلك لأنّ الذوات لا يتعجّب منها ، إنما يتعجّب من أحداثها ، فصار المعنى : ألم تر إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها ، فالعامل هو ذلك المجرور ، ولا يصحّ المعنى إلا به لما تقدّم.

__________________

(١) تقدم برقم ١٠٧٣.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٣.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٣.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٢٦٢

قوله تعالى : «لنبيّ» متعلّق ب «قالوا» ، واللام فيه للتبليغ ، و «لهم» متعلق بمحذوف لأنه صفة لنبي ، ومحلّه الجرّ ، و «ابعث» وما في حيّزه في محلّ نصب بالقول. و «لنا» الظاهر أنه متعلّق بابعث ، واللام للتعليل أي : لأجلنا.

قوله : «نقاتل» الجمهور بالنون والجزم على جواب الأمر. وقرئ (١) بالياء والجزم على ما تقدّم ، وابن (٢) أبي عبلة بالياء ورفع اللام على الصفة لملكا ، فمحلّها النصب أيضا. [وقرئ بالنون ورفع اللام على أنها حال من «لنا» فمحلّها النصب أيضا] أي : ابعثه لنا مقدّرين القتال ، أو على أنها استئناف جواب لسؤال مقدّر كأنه قال لهم : ما يصنعون بالملك؟ فقالوا نقاتل.

قوله : «هل عسيتم» عسى واسمها ، وخبرها «أن لا تقاتلوا» والشرط معترض بينهما ، وجوابه محذوف للدلالة عليه ، وهذا كما توسّط في قوله : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) [البقرة : ٧٠] ، وهذا على رأي من يجعل «عسى» داخلة على المبتدأ والخبر ، ويقول إنّ «أن» زائدة لئلا يخبر بالمعنى عن العين. وأمّا من يرى أنّها تضمّن معنى فعل متعدّ فيقول : «عسيتم» فعل وفاعل ، و «أن» وما بعدها مفعول به تقديره : هل قاربتم عدم القتال ، فهي عنده ليست من النواسخ ، والأول هو المشهور.

وقرأ نافع (٣) «عسيتم» هنا وفي القتال : بكسر السين ، وهي لغة مع تاء الفاعل مطلقا ومع نا [ومع] نون الإناث نحو : عسينا وعسين ، وهي لغة الحجاز ، ولهذا غلط من قال : «عسى تكسر مع المضمر» وأطلق ، بل كان ينبغي له أن يقيّد الضمير بما ذكرنا ، إذ لا يقال : الزيدان عسيا والزيدون عسيوا بالكسر البتة.

وقال الفارسي : «ووجه الكسر قول العرب : «هو عس بكذا» مثل : حر وشج ، وقد جاء فعل وفعل في نحو : نقم ونقم ، فكذلك عسيت وعسيت ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم ـ أي بالكسر ـ أن يقال : «عسي زيد» مثل : «رضي زيد».

فإن قيل : فهو القياس ، وإن لم يقل فسائغ أن يؤخذ باللغتين ، فتستعمل إحداهما موضع الأخرى كما فعل ذلك في غيره» فظاهر هذه العبارة أنه يجوز كسر سينها مع الظاهر بطريق القياس على المضمر ، وغيره من النحويين يمنع ذلك حتى مع المضمر مطلقا ، ولكن لا يلتفت إليه لوروده متواترا ، وظاهر قوله «قول العرب : عس» أنه مسموع منهم

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٦٣ ، والدر المصون ١ / ٥٩٨.

(٢) وقرأ بها الضحاك.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٦٣ ، والدر المصون ١ / ٥٩٨ ، والقرطبي ٢ / ١٥٩.

(٣) انظر : السبعة ١٨٦ ، والحجة للقراء السبعة ٢ / ٣٤٩ ، والعنوان ٧٤ ، وحجة القراءات ١٣٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ١١٣ ، وشرح شعلة ٢٩٣ ، وإتحاف ١ / ٤٤٥.

٢٦٣

اسم فاعلها ، وكذلك حكاه أبو البقاء (١) أيضا عن ابن الأعرابي ، وقد نصّ النحاة على أن «عسى» لا تتصرّف.

واعلم أنّ مدلول «عسى» إنشاء لأنها للترجي أو للإشفاق ، فعلى هذا : فكيف دخلت عليها «هل» التي تقتضي الاستفهام؟ فالجواب أن الكلام محمول على المعنى ، قال الزمخشري : «والمعنى : هل قاربتم ألّا تقاتلوا ، يعني : هل الأمر كما أتوقّعه أنكم لا تقاتلون ، أراد أن يقول : عسيتم ألا تقاتلوا ، بمعنى أتوقّع جبنكم عن القتال ، فأدخل «هل» مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون ، وأراد بالاستفهام التقرير ، وثبت أنّ المتوقّع كائن وأنه صائب في توقعه ؛ كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان : ١] معناه التقرير» وهذا من أحسن الكلام ، وأحسن من قول من زعم أنها خبر لا إنشاء ؛ مستدلا بدخول الاستفهام عليها ؛ وبوقوعها خبرا ل «إنّ» في قوله : [الرجز]

١١٦٠ ـ لا تكثرن إنّي عسيت صائما (٢)

وهذا لا دليل فيه ؛ لأنه على إضمار القول ؛ كقوله : [البسيط]

١١٦١ ـ إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم

لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما (٣)

ولذلك لا توصل بها الموصولات ؛ خلافا لهشام.

قوله : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) هذه الواو رابطة لهذا الكلام بما قبله ، ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعا ممّا قبله. و «ما» في محلّ رفع بالابتداء ، ومعناها الاستفهام ، وهو استفهام إنكار. و «لنا» في محلّ رفع خبر ل «ما».

و (أَلَّا نُقاتِلَ) فيه ثلاثة أوجه.

أظهرها : أنّها على حذف حرف الجرّ وهو قول الكسائي والتقدير : وما لنا في ألّا نقاتل ، أي : في ترك القتال ، ثم حذفت «في» مع «أن» فجرى فيها الخلاف المشهور بين الخليل وسيبويه : أهي في محلّ جر أم نصب؟ وهذا الجارّ يتعلّق بنفس الجارّ الذي هو «لنا» ، أو بما يتعلّق هو به على حسب ما تقدّم في «من بعد موسى» (٤).

قال البغوي (٥) : فإن قيل : فما وجه دخول «أن» في هذا الموضع ، والعرب لا

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٣.

(٢) البيت لأبي مكعت ينظر أمالي ابن الشجري ١ / ٢١٢ ، الهمع ١ / ١٣٥ المغني ٢ / ٥٨٥ ، الدرر ١ / ١١٢ ، التصريح ١ / ٥٩٨ ، الخزانة ١٠ / ٢٤٩ ، الدر المصون ١ / ٥٩٩.

(٣) البيت لأبي مكعت أخي بني سعد بن مالك في خزانة الأدب ١٠ / ٢٤٧ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، والدرر ٢ / ١٧٠ ، وشرح التصريح ١ / ٢٩٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩١٤ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٨٥ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣٥. والدر المصون ١ / ٥٩٩.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٢٧.

(٥) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٦٥ ، والدر المصون ١ / ٦٠٠.

٢٦٤

تقول ما لك ألّا تفعل ، وإنما يقال : ما لك لا تفعل؟ قيل : دخول «أن» وحذفها لغتان صحيحتان ، فالإثبات كقوله تعالى : (ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر : ٣٢] ، والحذف كقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الحديد : ٨] وقال الفراء : الكلام هاهنا محمول على المعنى ؛ لأن قولك : ما لك لا تقاتل؟ معناه : ما يمنعك أن تقاتل ، فلما كان معناه المنع حسن إدخال «أن» فيه كقوله (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) [ص : ٧٥] وقوله : (أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر : ٣٢] ورجح الفارسي قول الكسائي على قول الفراء.

قال : لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر تقديره ما يمنعنا من أن نقاتل فإذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ، فعلى قول الكسائي يبقي الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى ، فكان قول الكسائي أولى.

الثاني : مذهب الأخفش أنّ «أن» زائدة ، ولا يضرّ عملها مع زيادتها ، كما لا يضرّ ذلك في حروف الجر الزائدة ، وعلى هذا فالجملة المنفيّة بعدها في محلّ نصب على الحال ، كأنه قيل : ما لنا غير مقاتلين ، كقوله : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ) [المائدة ٨٤] وقول العرب : «ما لك قائما» ، وقول الله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] وهذا المذهب ضعيف لأنّ الأصل عدم الزيادة ، فلا يصار إليها دون ضرورة.

الثالث : ـ وهو أضعفها ـ وهو مذهب الطبري أنّ ثمّ واوا محذوفة قبل قوله : «أن لا نقاتل». قال : «تقديره : وما لنا ولأن لا نقاتل ، كقولك : إياك أن تتكلّم ، أي : إياك وأن تتكلم ، فحذفت الواو» وهذا كما ترى ضعيف جدا. وأمّا قوله : إنّ قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو ؛ فليس كما زعم ، بل «إياك» ضمّنت معنى الفعل المراد به التحذير ، و «أن تتكلم» في محلّ نصب به تقديره : احذر التكلم.

قوله : (وَقَدْ أُخْرِجْنا) هذه الجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيها : «نقاتل» ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال. وهذه قراءة الجمهور ، أعني بناء الفعل للمفعول.

وقرأ عمرو (١) بن عبيد : «أخرجنا» على البناء للفاعل. وفيه وجهان :

أحدهما : أنه ضمير الله تعالى ، أي : وقد أخرجنا الله بذنوبنا.

والثاني : أنه ضمير العدوّ.

«وأبنائنا» عطف على «ديارنا» أي : ومن أبنائنا ، فلا بدّ من حذف مضاف تقديره :

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٣.

٢٦٥

«ومن بين أبنائنا» كذا قدره أبو البقاء (١). وقيل : إنّ هذا على القلب ، والأصل : وقد أخرج أبناؤنا منا ، ولا حاجة إلى هذا.

قوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) ، فاعلم أن في الكلام محذوفا تقديره : فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال فتولوا.

قوله : «إلّا قليلا» نصب على الاستثناء المتصل من فاعل «تولّوا» فإن قيل المستثنى لا يكون مبهما ، لو قلت : «قام القوم لا رجالا» لم يصحّ ، فالجواب إنما صحّ هذا لأنّ «قليلا» في الحقيقة صفة لمحذوف ، ولأنه قد تخصّص بوصفه بقوله : «منهم» ، فقرب من الاختصاص بذلك.

وقرأ أبي (٢) : «إلّا أن يكون قليل منهم» وهو استثناء منقطع ، لأنّ الكون معنى من المعاني والمستثنى منه جثث. ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها. وذلك أنّ العرب تقول : «قام القوم إلا أن يكون زيد وزيدا» بالرفع والنصب ، فالرفع على جعل «كان» تامة ، و «زيد» فاعل ، والنصب على جعلها ناقصة ، و «زيدا» خبرها ، واسمها ضمير عائد على اليعض المفهوم من قوة الكلام ، والتقدير : قام القوم إلا أن يكون هو ـ أي بعضهم ـ زيدا ، والمعنى : قام القوم إلا كون زيد في القائمين ، وإذا انتفى كونه قائما انتفى قيامه ، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين ، أعني «قام القوم إلا زيدا» و «قاموا إلا أن يكون زيدا» ، إلا أن الأول استثناء متصل ، والثاني منقطع لما قررناه.

فصل

وجه تعلّق هذه الآية بما قبلها أنّه تعالى لما فرض القتال بقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، ثمّ أمر بالإنفاق فيه بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) ذكر بعد ذلك هذه القصة تحريضا على عدم تركهم مخالفة الأمر بالقتال ، فإنّهم لما أمروا تولّوا ، وخالفوا ؛ فذمهم الله تعالى ونسبهم إلى الظّلم بقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) والمراد التّرغيب في الجهاد.

فصل فيمن هو النبي الذي نادى بالبعث في الآية

اختلفوا في ذلك النبيّ الذي قالوا له (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) من هو فقال قتادة : هو يوشع ابن نون بن أفرائيم بن يوسف لقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ مُوسى)(٣) وهذا ضعيف ؛ لأنّ قوله (مِنْ بَعْدِ مُوسى) كما لا يحتمل الاتصال بالتّعاقب يحتمل البعديّة بغير تعاقب ، وإن كان

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٩٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٥٩) وعزاه لعبد الرزاق عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣) عن السدي.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ـ ٢٩٧). وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٥٧ ـ ٥٥٨ ـ ٥٥٩) وزاد نسبته لابن إسحق.

٢٦٦

بينهما غير يوشع ؛ لأنّ البعديّة حاصلة ، وذكر ابن عطيّة في تضعيف هذا القول أنّ مدّة داود بعد موسى بقرون من النّاس ، ويوشع هو فتى موسى عليهما الصّلاة والسّلام.

وقال السّدّيّ : اسمه شمعون سمّته أمّه بذلك ؛ لأنّها دعت الله أن يرزقها غلاما ، فاستجاب الله دعاءها ، فسمته سمعون ، أي : سمع الله دعائي (١) ، والسّين تصير شيئا بالعبرانية وهو شمعون ابن صفيّة بنت علقمة ، من ولد لاوي بن يعقوب.

وقال سائر المفسّرين : هو اشمويل بن هلقايا.

فصل

كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك ؛ لأنّه لمّا مات موسى خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التّوراة ، وأمر الله ، حتى قبضه الله ، ثمّ خلف فيهم «كالب بن يوفنا» ؛ حتى قبضه الله ، ثمّ حزقيل حتى قبضه الله ، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، ونسوا عهد الله ؛ حتى عبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم «إلياس» نبيا ، فدعاهم إلى الله ، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى ، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التّوراة ، ثم خلف بعد «إلياس» «أليسع» ، وكان فيهم ما شاء الله ؛ حتّى قبضه الله ، وخلف فيهم الخلوف ، وعظمت الخطايا وظهر لهم عدوّ يقال له البلثاثا ، وهم قوم «جالوت» ، كانوا يسكنون ساحل بحر الرّوم ، بين مصر ، وفلسطين ، وهم العمالقة ، فظهروا على بني إسرائيل ، وغلبوا على كثير من أرضهم ، وسبوا كثيرا من ذراريهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام ، وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء شديدا ، ولم يكن لهم نبيّ يدبّر أمرهم ، وكان سبط النّبوّة قد هلكوا ، فلم يبق منهم إلّا امرأة حبلى ؛ فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية ، فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها ، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها الله غلاما ؛ فولدت غلاما فسمته شمويل تقول : سمع الله دعائي ، فكبر الغلام فأسلموه ليتعلم التّوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبنّاه ، فلمّا بلغ الغلام أتاه جبريل ، وهو نائم إلى جنب الشّيخ ، وكان لا يأتمن عليه أحدا ، فدعاه جبريل بلحن الشيخ : يا أشمويل ، فقام الغلام فزعا إلى الشّيخ وقال : يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشّيخ أن يقول : لا فيفزع الغلام ، فقال : يا بنيّ ارجع فنم ، فرجع الغلام ، فنام ، ثمّ دعاه الثّانية ، فقال الغلام : يا أبت دعوتني!؟ فقال : ارجع فنم فإن دعوتك الثّالثة ؛ فلا تجبني ، فلمّا كانت الثّالثة ظهر له جبريل فقال له : اذهب إلى قومك ؛ فبلغهم رسالة ربّك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبيّا ، فلمّا أتاهم كذّبوه ، وقالوا له : استعجلت بالنّبوّة ، ولم تنلك ، وقالوا : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوّتك ، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤٦.

٢٦٧

الملوك ، وطاعة الملوك لأنبيائهم ، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع ، والنّبيّ يقوم له بأمره ، ويشير عليه برشده ، ويأتيه بالخبر من عند ربّه (١).

قال وهب : بعث الله أشمويل نبيّا ، فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ، ثمّ كان من أمر جالوت ، والعمالقة ما كان فقالوا لأشمويل : «ابعث لنا ملكا نقاتل» ، فقال : «هل عسيتم»؟! استفهام شكّ ، أي : لعلكم «إن كتب» أي : فرض (عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) مع ذلك الملك ألا تفوا بما تقولون ، ولا تقاتلوا معه (قالُوا : وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) ، فجعلوا ذلك علّة قويّة توجب التّشديد في أمر الجهاد ؛ لأنّ من بلغ منه العدوّ هذا المبلغ ، فالظّاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوّه ومقاتلته ، وظاهر الكلام العموم ، والمراد الخصوص ؛ لأنّ الذين قالوا لنبيّهم : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ؛ كانوا في ديارهم وأوطانهم ، وإنّما أخرج من أسر منهم ، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيّهم : إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا ، لا يظهر علينا عدوّ ، فأمّا إذ بلغ ذلك منّا ، فنطيع ربّنا في الجهاد ، ونمنع نساءنا ، وأولادنا ، (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) : أعرضوا عن الجهاد ، وضيّعوا أمر الله (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) ـ وهم الذين عبروا النّهر مع طالوت ، واقتصروا على الغرفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

قيل (٢) : كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر.

قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٢٤٧)

قوله تعالى : (طالُوتَ مَلِكاً) : «ملكا» حال من «طالوت» فالعامل في الحال «بعث». و «طالوت» فيه قولان :

أظهرهما : أنه اسم أعجميّ فلذلك لم ينصرف للعلتين ، أعني : العلمية والعجمة الشّخصية.

والثاني : أنه مشتقّ من الطول ، ووزنه فعلوت كرهبوت ورحموت ، وأصله طولوت ، فقلبت الواو ألفا ؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وكأن الحامل لهذا القائل بهذا القول ما روي في القصّة أنه كان أطول رجل في زمانه وبقوله (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) إلا أنّ هذا القول مردود بأن لو كان مشتقا من الطّول ، لكان ينبغي أن ينصرف ، إذ ليس فيه إلّا العلمية. وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجميا لكنّه شبيه بالأعجمي ، من حيث إنّه

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٣.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤٧.

٢٦٨

ليس في أبنية العرب ما هو على هذه الصّيغة ، وهذا كما قالوا في حمدون ، وسراويل ، ويعقوب ، وإسحاق عند من جعلهما من سحق وعقب وقد تقدم.

وأجاب آخرون : بأنه اسم عبراني وافق عربيّا مثل حطة وحنطة ، وعلى هذا يكون أحد سببيه العجمة ؛ لكونه عبرانيا.

قوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) في «أنّى» وجهان :

أحدهما : أنّها بمعنى كيف ، وهذا هو الصّحيح.

والثاني : أنها بمعنى من أين ، اختاره أبو البقاء (١) ، وليس المعنى عليه. ومحلّها النّصب على الحال ، وسيأتي الكلام في عاملها ما هو. و «يكون» فيها وجهان :

أحدهما : أنها تامّة ، و «الملك» فاعل بها و «له» متعلّق [بها ، و «علينا» متعلق] بالملك ، تقول : «فلان ملك على بني فلان أمرهم» ، فتتعدى هذه المادة ب «على» ، ويجوز أن تتعلّق بمحذوف على أنه حال من «الملك» ، و «يكون» هي العاملة في «أنّى» ، ولا يجوز أن يعمل فيها أحد الظّرفين ، أعني «له» ، و «علينا» ؛ لأنه عامل معنوي والعامل المعنويّ لا تتقدّم عليه الحال على المشهور.

والثاني : أنها ناقصة ، و «له» الخبر ، و «علينا» متعلّق : إمّا بما تعلّق به هذا الخبر ، أو بمحذوف على أنه حال من «الملك» كما تقدّم ، والعامل في هذه الحال «يكون» عند من يجيز في «كان» الناقصة أن تعمل في الظرف وشبهه ، وإمّا بنفس الملك كما تقدّم تقريره ، والعامل في «أنّى» ما تعلّق به الخبر أيضا ، ويجوز أن يكون «علينا» هو الخبر ، و «له» نصب على الحال ، والعامل فيه الاستقرار المتعلّق به الخبر ، كما تقدّم تقريره ، أو «يكون» عند من يجيز ذلك في الناقصة ، ولم أر من جوّز أن تكون «أنى» في محلّ نصب خبرا ل «يكون» بمعنى «كيف يكون الملك علينا له» ولو قيل به لم يمتنع معنى ولا صناعة.

قوله : (وَنَحْنُ أَحَقُّ) : جملة حاليّة ، و «بالملك» و «منه» كلاهما متعلّق ب «أحقّ». (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً) هذه الجملة الفعلية عطف على الاسميّة قبلها ، فهي في محلّ نصب على الحال ، ودخلت الواو على المضارع ؛ لكونه منفيا و «سعة» مفعول ثان ليؤت ، والأول قام مقام الفاعل.

و «سعة» وزنها «علة» بحذف الفاء ، وأصلها «وسعة» ، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملا له على المضارع ، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين ياء ـ وهي حرف المضارعة ـ وكسرة مقدّرة ، وذلك أنّ «وسع» مثل «وثق» ، فحقّ مضارعه أن يجيء على

__________________

(١) انظر التفسير الكبير (٦ / ١٤٧).

٢٦٩

يفعل بكسر العين ، وإنما منع ذلك في «يسع» كون لامه حرف حلق ، ففتح عين مضارعه لذلك ، وإن كان أصلها الكسر ، فمن ثم قلنا : بين ياء وكسرة [مقدرة ، والدّليل على ذلك أنّهم قالوا : وجل يوجل فلم يحذفوها لمّا كانت الفتحة أصلية غير عارضة ، بخلاف فتحة «يسع» و «يهب» وبابهما.

فإن قيل : قد رأيناهم يحذفون هذه الواو ، وإن لم تقع بين ياء وكسرة] ، وذلك إذا كان حرف المضارعة همزة نحو : «أعد» ، أو تاء نحو : «تعد» أو نونا نحو : «نعد» ، وكذلك في الأمر والمصدر نحو : «عد عدة حسنة».

فالجواب أنّ ذلك بالحمل على المضارع مع الياء طردا للباب ، كما تقدّم لنا في حذف همزة أفعل ، إذا صار مضارعا لأجل همزة المتكلّم ، ثم حمل باقي الباب عليه. وفتحت سين «السّعة» لمّا فتحت في المضارع لأجل حرف الحلق ، كما كسرت عين «عدة» لمّا كسرت في «يعد» إلا أنّه يشكل على هذا : وهب يهب هبة ، فإنهم كسروا الهاء في المصدر ، وإن كانت مفتوحة في المضارع لأجل أنّ العين حرف حلق ، فلا فرق بين «يهب» ، و «يسع» في كون الفتحة عارضة والكسرة مقدرة ، ومع ذلك فالهاء مكسورة في «هبة» ، وكان من حقّها الفتح لفتحها في المضارع ك «سعة».

و «من المال» فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق بيؤت.

والثاني : أنه متعلق بمحذوف لأنه صفة لسعة ، أي : سعة كائنة من المال.

فصل

اعلم أنّه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنّه لمّا أجابهم إلى سؤالهم تولّوا ، بيّن في هذه الآية أنّ أوّل تولّيهم إنكارهم إمرة طالوت ، وذلك أنّهم لمّا طلبوا من نبيّهم أن يطلب من الله أن يعيّن لهم ملكا ؛ فأجابهم : بأنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، أظهروا التّولي عن طاعة الله ، وأعرضوا عن حكمه ، وقالوا : «أنّى يكون له الملك علينا» ، واستبعدوا ذلك.

قال المفسّرون (١) : وسبب هذا الاستبعاد : أنّ النّبوّة كانت مخصوصة بسبط معيّن من أسباط بني إسرائيل ، وهم سبط لاوي بن يعقوب ، ومنه «موسى وهارون» وسبط المملكة سبط «يهوذا» ، ومنه «داود ، وسليمان» و «طالوت» لم يكن من أحد هذين السّبطين ، بل كان من ولد «بنيامين» فلهذا السّبب ؛ أنكروا كونه ملكا عليهم ، وزعموا أنّهم أحقّ بالملك منه ، ثمّ أكدوا هذه الشّبهة بشبهة أخرى وهي قولهم : «ولم يؤت سعة من المال» ، أي : فقير.

__________________

(١) انظر : المصدر السابق.

٢٧٠

قال وهب : كان دبّاغا (١).

وقال السدّيّ : مكاريا (٢).

وقال آخرون : كان سقّاء (٣) ، واسمه بالعبرانية ساول بن قيس ، وكان من سبط بنيامين ابن يعقوب ، وكانوا عملوا ذنبا عظيما ، كانوا ينكحون النّساء على ظهر الطّريق نهارا ، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمون سبط الإثم ، ثمّ إنّ الله تعالى أجابهم عن شبهتهم بقوله : «إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم».

والاصطفاء : أخذ الملك من غيره صافيا ، واصطفاه واستصفاه ، بمعنى : الاستخلاص ، وهو أخذ الشّيء خالصا.

وقال الزّجّاج : مأخوذ من الصّفوة ، فأصله اصتفى بالتاء ، فأبدل التّاء بالطّاء ليسهل النّطق بها بعد الصّاد.

فصل

أحدهما : كونه ليس من بيت المملكة.

والثاني : كونه فقيرا ؛ ردّ الله عليهم ذلك بأنه قد حصل فيه وصفان :

أحدهما : العلم.

والثاني : القدرة ، وهذان الوصفان أشدّ مناسبة لاستحقاق الملك من الوصفين الأوّلن لوجوه :

أحدها : أنّ العلم ، والقدرة من باب الكمالات الحقيقيّة ، والمال والجاه ليس كذلك.

الثاني : أنّ العلم ، والقدرة يمكن التوصّل بهما إلى المال والجاه ، ولا ينعكس.

الثالث : أنّ المال والجاه ، يمكن سلبهما عن الإنسان ، والعلم والقدرة ، لا يمكن سلبهما عنه.

الرابع : أنّ العالم بأمر الحرب ، والقويّ الشّديد على المحاربة ، ينتفع به في حفظ مصلحة الملك ، ودفع شرّ الأعداء ، أكثر من الانتفاع بالرجل النّسيب الغنيّ الذي لا قدرة له على دفع الأعداء ، ولا يحفظ مصلحة الملك.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٠٨ ، ٣٠٩) وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (١ / ٥٥٩) عن السدي.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣١١) وزاد نسبته السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٠) لعبد بن حميد.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤٨.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٤.

٢٧١

فصل

دلّت هذه الآية على بطلان قول من يقول : إنّ الإمامة موروثة ، وذلك ؛ لأنّ بني إسرائيل لمّا أنكروا أن يكون الملك من غير بيت المملكة ؛ أسقط الله هذا الشّرط ، وبيّن أنّ المستحقّ للملك من خصّه الله به فقال : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) ، وهذه الآية نظير قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦].

فصل

والمراد بالبسطة في الجسم : الجمال ، وقيل : المراد : طول القامة. قيل : كان أطول من كل أحد برأسه ، وبمنكبه. وقيل : المراد القوّة.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا القول عندي أصحّ ؛ لأنّ المنتفع به في دفع الأعداء هو القوّة ، والشّدة ، لا الطّول ، والجمال.

قوله : «في العلم» فيه وجهان :

أحدهما : أنّه متعلّق ب «بسطة» كقولك : «بسطت له في كذا».

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «بسطة» ، أي : بسطة مستقرة أو كائنة.

قوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ).

قال بعض المفسّرين : هذا من كلام الله تعالى لمحمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، والمشهور : أنّه من قول أشمويل ، قال لهم ذلك ، لمّا علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج ، فأراد أن يتمّم كلامه بالقطعي ، الذي لا اعتراض عليه فقال : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) ، وأضاف ملك الدّنيا إلى الله إضافة مملوك إلى ملك.

قوله (وَاللهُ واسِعٌ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه على النسب ، أي : ذو سعة رحمة ، كقولهم : لابن ، وتامر ، أي : صاحب تمر ولبن.

والثاني : أنّه جاء على حذف الزوائد من أوسع ، وأصله موسع. وهذه العبارة إنّما يتداولها النّحويون في المصادر فيقولون : مصدر على حذف الزوائد.

والثالث : أنه اسم فاعل من «وسع» ثلاثيا ؛ قال أبو البقاء (٢) : «فالتّقدير على هذا : واسع الحلم ؛ لأنّك تقول وسع حلمه».

فصل في تفسير قوله (واسِعٌ عَلِيمٌ)

في قوله : (واسِعٌ عَلِيمٌ) ثلاثة أقوال :

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٣٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٧٠ ، والدر المصون ١ / ٦٠٣.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٧١ ، والدر المصون ١ / ٦٠٣.

٢٧٢

أحدها : أنّه واسع الفضل ، والرّزق ، والرّحمة ، وسعت رحمته كلّ شيء ، والتّقدير : أنتم طعنتم في طالوت ، لكونه فقيرا ، فالله تعالى واسع الفضل ، يفتح عليه أبواب الرّزق ، والسّعة ، كما في المال ؛ لأنه فوّض إليه الملك ، والملك لا يتمشّى إلّا بالمال.

والثاني ، والثالث : ما تقدّم في الإعراب آنفا من كونه بمعنى : «موسع» وذو سعة ، والعليم العالم وقيل : العالم بما كان ، والعليم بما يكون.

قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢٤٨)

اعلم أنّه لما أخبرهم نبيهم : بأنّ الله تعالى ، بعث لهم طالوت ملكا ، وأبطل حجّتهم قالوا : «فما آية ملكه»؟ قال : (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ).

قوله تعالى : (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) : «أن» ، وما في حيّزها في محلّ رفع خبر ل «إنّ» تقديره : إنّ علامة ملكه إيتاؤكم التّابوت.

وفي «التّابوت» ، قولان :

أحدهما : أنه فاعول ، ولا يعرف له اشتقاق ، ومنع قائل هذا أن يكون وزنه فعلوتا مشتقا من تاب يتوب كملكوت من الملك ورهبوت من الرّهب ، قال : لأنّ المعنى لا يساعد على ذلك.

الثاني : أن وزنه فعلوت كملكوت ، وجعله مشتقا من التّوب وهو الرّجوع ، وجعل معناه صحيحا فيه ، لأنّ التّابوت هو الصّندوق الذي توضع فيه الأشياء ، فيرجع إليه صاحبه عند احتياجه إليه ، فقد جعلنا فيه معنى الرجوع.

والمشهور أن يوقف على تائه بتاء من غير إبدالها هاء ؛ لأنّها : إمّا أصل إن كان وزنه فاعولا ، وإمّا زائدة لغير التّأنيث كملكوت ، ومنهم من يقلبها هاء ، وقد قرئ بها شاذّا ، قرأها أبيّ (١) ، وزيد بن ثابت ، وهي لغة الأنصار ، ويحكى أنهم لمّا كتبوا المصاحف زمن عثمان ـ رضي الله عنه ـ اختلفوا فيه فقال زيد : «بالهاء» ، وقال : [أبيّ :] «بالتّاء» ، فجاءوا عثمان فقال : «اكتبوه على لغة قريش» يعني بالتّاء.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٢٦) والحاكم (٢ / ٤٦٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق أبي الأحوص عن علي بن أبي طالب.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه الطبري (٥ / ٣٢٧) من طريق خالد بن عرعرة عن علي وأخرجه الطبري أيضا (٥ / ٣٢٦) وسفيان بن عيينة كما في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٢) من طريق سلمة بن كهيل عن علي بن أبي طالب.

٢٧٣

وهذه الهاء هل هي أصل بنفسها ، فيكون فيه لغتان ، ووزنه على هذا فاعول ليس إلّا ، أو بدل من التّاء ؛ لأنها قريبة منها لاجتماعهما في الهمس ، أو إجراء لها مجرى تاء التّأنيث؟ قال الزّمخشريّ : «فإن قلت : ما وزن التابوت؟ قلت : لا يخلو أن يكون فعلوتا ، أو فاعولا ، فلا يكون فاعولا لقلته نحو سلس وقلق» يعني : في الأوزان العربيّة ، ولا يجوز ترك المعروف [إليه] فهو إذا فعلوت من التّوب وهو الرّجوع ؛ لأنّه ظرف تودع فيه الأشياء ، فيرجع إليه كلّ وقت.

وأمّا من قرأ بالهاء فهو فاعول عنده ، إلّا من يجعل هاءه بدلا من التّاء لاجتماعهما في الهمس ، ولأنّهما من حروف الزّيادة ، ولذلك أبدلت من تاء التّأنيث.

قوله : «فيه سكينة» يجوز أن يكون «فيه» وحده حالا من التّابوت ، فيتعلّق بمحذوف ، ويرتفع «سكينة» بالفاعليّة ، والعامل فيه الاستقرار ، والحال هنا من قبيل المفردات ، ويجوز أن يكون «فيه» خبرا مقدّما ، و «سكينة» مبتدأ مؤخرا ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، والحال هنا من قبيل الجمل ، و «سكينة» فعيلة من السكون ، وهو الوقار. أي هو سبب سكون قلوبكم ، فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت ، ونظيره (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) [التوبة : ٤٠] قيل : كان التّابوت سبب سكون قلوبهم ، فأينما كانوا سكنوا إليه ، ولم يفرّوا عن التّابوت ، إذا كان معهم في الحرب.

وقرأ أبو السّمّال بتشديد الكاف ، قال الزّمخشريّ : «وهو غريب».

قوله : «من ربّكم» يجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه صفة ل «سكينة» ، ومحلّه الرّفع. ويجوز أن يتعلّق بما تعلّق به «فيه» من الاستقرار. و «من» يجوز أن تكون لابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض. وثمّ مضاف محذوف ، أي : من سكينات ربكم.

فصل

اعلم أنّ مجيء التّابوت لا بدّ وأن يكون على وجه خارق للعادة ؛ حتّى يصح كونه آية من عند الله دالّة على صدق تلك الدّعوة ، وذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون المعجز نفس التّابوت.

قال أصحاب الأخبار : إنّ الله تعالى ، أنزل على آدم تابوتا فيه صور الأنبياء من أولاده ، وكان من عود من الشمشار نحوا من ثلاثه أذرع في ذراعين ، فكان عند آدم إلى أن مات فتوارثه أولاده إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه ، وكان عنده إلى أن مات ، ثمّ تداولته أنبياء بني إسرائيل ، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلّم ، وحكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم ، ليستفتحوا على عدوّهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر ، ثمّ يقاتلون العدوّ ، فإذا سمعوا من

٢٧٤

التّابوت صيحة ؛ استيقنوا النّصر ، فلمّا عصوا ، وفسدوا سلّط الله عليهم العمالقة ، فغلبوهم على التّابوت وسلبوه ، فلمّا سألوا نبيّهم البيّنة على ملك طالوت ؛ قال لهم النّبيّ : «إنّ آية ملكه» أنكم تجدون التّابوت في داره ، ثمّ إنّ الكفّار حين سلبوا التّابوت ؛ جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا نبيّ ذلك الوقت عليهم ، فسلّط الله عليهم البلاء حتى كل من بال ، أو تغوّط ابتلاه الله بالبواسير ، فعلم الكفّار أن ذلك سبب استخفافهم بالتّابوت ، فأخرجوه ووضعوه على ثورين ، فأقبل الثّوران يسيران ، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما ، حتى أتوا منزل طالوت ، ثمّ إنّ قوم ذلك النّبيّ رأوا التّابوت عند طالوت ، فعلموا أنّ ذلك دليل على كونه ملكا لهم.

وقيل : إنّ التّابوت صندوق كان موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يضع التوراة فيه ، وكان من خشب يعرفونه ، ثم إنّ الله ـ تعالى ـ رفعه لمّا قبض موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لسخطه على بني إسرائيل ، ثمّ قال نبيّ أولئك القوم : إنّ آية ملك طالوت أن يأتيكم التّابوت من السّماء ، والملائكة يحفظونه ، والقوم كانوا ينظرون إليه ؛ حتّى نزل عند طالوت ، وهذا قول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين ، لأنّ من حفظ شيئا في الطّريق ؛ جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء ، وإن لم يحمله ، كقول القائل : حملت الأمتعة إلى زيد ، إذا حفظها في الطّريق ، وإن كان الحامل غيره.

الثاني : ألا يكون التّابوت معجزا ، بل يكون المعجز فيه بأن يشاهدوا التّابوت خاليا ، ثمّ إنّ ذلك النّبيّ يضعه بمحضر من القوم في بيت ، ويغلقون البيت عليه ، ثمّ يدعي ذلك النّبي أنّ الله تعالى يخلق فيه ما يدلّ على ما وصفنا ، فإن فتحوا باب البيت ، ونظروا في التّابوت ؛ رأوا فيه كتابا يدلّ على أنّ ملكهم هو طالوت ، وأنّ الله ينصرهم على عدوّهم ، فهذا يكون معجزا قاطعا دالا على أنّه من عند الله ، ولفظ القرآن محتمل للوجهين.

فصل في المراد بالسكينة

اختلفوا في السّكينة : قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : هي ريح تخرج ، أي : شديدة هفّافة لها رأسان ، ووجه كوجه الإنسان (١).

وقال ابن عبّاس ، ومجاهد : هي صورة من زبرجد وياقوت لها رأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه ، ولها جناحان ، وقيل : لها عينان لهما شعاع ، وكانوا إذا سمعوا صوتها تيقنوا بالنّصر ، وكانوا إذا خرجوا ، وضعوا التّابوت قدّامهم ، فإذا سار ساروا ، وإذا وقف وقفوا (٢).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٢) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٢٧) عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٢٨) عن ابن عباس.

٢٧٥

وعن ابن عبّاس : هي طست من ذهب من الجنّة ؛ كان يغسل فيها قلوب الأنبياء.

وقال أبو مسلم (١) : كان في التّابوت بشارات من كتب الله المنزّلة على موسى وهارون ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ ومن بعدهما من الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام بأن الله تعالى ينصر طالوت ، وجنوده ، ويزيد خوف العدوّ عنهم.

وعن وهب بن منبّه قال : هي روح من الله تتكلّم إذا اختلفوا إلى شيء من أمورهم تخبرهم ببيان ما يريدون. وقال أبو بكر الأصمّ : معنى السّكينة ؛ أي : تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك ، وتزول نفرتكم عنه ؛ لأنه متى جاءهم التّابوت من السّماء ، وشاهدوا تلك الحالة ، فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم.

وقال قتادة ، والكلبيّ : السّكينة فعيلة من السّكون ، أي : طمأنينة من ربكم (٢) ، ففي أي مكان كان التّابوت اطمأنوا إليه وسكنوا.

قوله «وبقيّة» وزنها فعيلة والأصل : بقيية بياءين ، الأولى زائدة ، والثانية لام الكلمة ، ثم أدغم ، ولا يستدلّ على أنّ لام «بقيّة» ياء بقولهم : «بقي» في الماضي ، لأنّ الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء ، ألا ترى أنّ «رضي» و «شقي» أصلهما من الواو : الشّقوة والرّضوان.

و «ممّا ترك» في محلّ رفع ؛ لأنه صفة ل «بقيّة» فيتعلّق بمحذوف ، أي : بقية كائنة. و «من» للتّبعيض ، أي : من بقيّات ربّكم ، و «ما» موصولة اسمية ، ولا تكون نكرة ولا مصدرية.

و «آل» تقدم الكلام فيه ، وقيل : هو هنا زائد ؛ كقوله : [الطويل]

١١٦٢ ـ بثينة من آل النّساء وإنّما

يكنّ لوصل لا وصال لغائب (٣)

يريد «بثينة» من النساء. قال الزّمخشريّ : ويجوز أن يريد : ممّا ترك موسى وهارون ، والآل مقحم لتفخيم شأنهما ، أي زائد للتعظيم ، واستشكل أبو حيان كيفيّة إفادة التّفخيم بزيادة الآل. و «هارون» أعجميّ. قيل : لم يرد في شيء من لغة العرب ، قاله الراغب (٤) ، أي : لم ترد مادته في لغتهم.

فصل في المقصود بالبقية

اختلفوا في البقية ، فقيل : (مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى ، وَآلُ هارُونَ) من الدّين ، والشّريعة ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٥١.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس بمعناه كما في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٢).

(٣) البيت لجميل ينظر الطبري ٢ / ٣٧ ، البحر ٢ / ٢٧٢ ، الدر المصون ١ / ٦٠٤.

(٤) ينظر : المفردات للراغب ٥٤٠.

٢٧٦

والمعنى : أنّ بسبب هذا التّابوت ينتظم ما بقي من دينهما ، وشريعتيهما.

وقيل : كان فيه لوحان من التّوراة ، ورضاض الألواح الّتي تكسّرت ، وعصا موسى ونعلاه ، وثيابه ، وعمامة هارون وعصاه ، وقفيز من المنّ الذي كان ينزل على بني إسرائيل ، واختلفوا في الآل على قولين (١) :

أحدهما : المراد موسى ، وهارون نفسهما كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأبي موسى الأشعريّ : «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» (٢) وأراد به داود نفسه ؛ لأنه لم يكن لأحد من آل داود من الصّوت الحسن مثل ما كان لداود.

الثاني : قال القفّال : إنّما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون ؛ لأنّ ذلك التّابوت تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت ، وما في التّابوت توارثه العلماء عن أتباع موسى وهارون ، فيكون الآل : هم الأتباع قال تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦].

قوله : (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) هذه الجملة تحتمل أن يكون لها محلّ من الإعراب على أنها حال من التّابوت أي : محمولا للملائكة وألّا يكون لها محلّ لأنها مستأنفة ، إذ هي جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : كيف يأتي؟ فقيل : تحمله الملائكة.

وقرأ مجاهد (٣) «يحمله» بالياء من أسفل ؛ لأنّ الفعل مسند لجمع تكسير ، فيجوز في فعله الوجهان. و «ذلك» مشار به قيل : إلى التّابوت. وقيل : إلى إتيانه ، وهو الأحسن ليناسب آخر الآية أولها [و «إن»] الأظهر فيها [أنها] على بابها من كونها شرطية وجوابها محذوف. وقيل : هي بمعنى «إذ» فإنّ هذه الآية معجزة باهرة للمؤمنين.

قال ابن عبّاس : إنّ التّابوت ، وعصا موسى في بحيرة طبرية وإنهما يخرجان قبل يوم القيامة(٤).

من النّاس من قال : إن طالوت كان نبيّا ؛ لأن الله تعالى أظهر المعجزة على يديه ، ومن كان كذلك كان نبيّا.

فإن قيل : هذه من باب الكرامات ، قلنا : الفرق بين الكرامة والمعجزة : أنّ الكرامة لا تكون على سبب التّحدّي ؛ فتكون معجزة ، وقد يجاب بأن ذلك معجزة لنبيّ ذلك الزّمان وأنه آية قاطعة في ثبوت ملك طالوت.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٥١.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٧١٠) كتاب فضائل القرآن باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن (٥٠٤٨) ومسلم (١ / ٥٤٦) صلاة المسافرين باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (٢٣٥ / ٧٩٣).

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٢٧٢ ، والدر المصون ١ / ٦٠٤.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٢٢) رقم (٥٦٦٠) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

٢٧٧

قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٢٤٩)

[قوله تعالى : «فصل» : أي : انفصل ، فلذلك كان قاصرا. وقيل : إنّ أصله التّعدّي إلى مفعول ولكن حذف ، والتقدير : فصل نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعل كالقاصر.

و «بالجنود» متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من «طالوت» أي مصاحبا لهم]. وبين جملة قوله : «فلمّا فصل» وبين ما قبلها من الجمل جمل محذوفة يدلّ عليها فحوى الكلام وقوته ، تقديره : فلما أتاهم بالتّابوت أذعنوا له وأجابوا فملّكوا طالوت ، وتأهّبوا للخروج ، وهي كقوله : (فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [يوسف : ٤٥ ، ٤٦]. ومعنى الفصل : القطع.

يقال : فصلت اللّحم عن العظم فصلا ، وفاصل الرّجل شريكه وامرأته فصالا. ويقال للفطام فصال ؛ لأنّه يقطع عن الرّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه ، قال تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) [يوسف : ٩٤] والجنود جمع جند ، وكل صنف من الخلق جند على حدة ، يقال للجراد الكثيرة : إنّها جنود الله ، ومنه قوله عليه الصّلاة والسّلام : «الأرواح جنود مجنّدة»(١).

فصل

روي أنّ طالوت خرج من بيت المقدس بالجنود ، وهم يومئذ سبعون ألفا ، وقيل : ثمانون ألف مقاتل ، وذلك أنّهم لمّا رأوا التّابوت لم يشكوا في النّصر ، فساروا إلى الجهاد ، فقال طالوت : لا حاجة لي في كلّ ما أرى ، لا يخرج معي رجل بنى بيتا لم يفرغ منه ، ولا تاجر مشتغل بالتّجارة ، ولا من تزوّج امرأة لم يبن بها ، ولا يتبعني إلا الشاب النّشيط الفارغ ، فاجتمع إليه مما اختار ثمانون ألفا ، وكان في حرّ شديد ، فشكوا قلّة الماء بينهم ، وبين عدوّهم وقالوا : إنّ المياه قليلة لا تحملنا ، فادع الله أن يجري لنا نهرا فقال : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) ، واختلفوا في هذا القائل ، فقال الأكثرون هو طالوت ؛ لأنّه المذكور السّابق ، وعلى هذا ، فإنّه لم يقله عن نفسه ، فلا بدّ وأن يكون عن وحي أتاه عن ربّه وذلك يقتضي أنّه كان مع الملك نبيّ ، وقيل : القائل هو النّبيّ المذكور في أول

__________________

(١) أخرجه البخاري ٦ / ٤٢٦ كتاب الأنبياء : باب الأرواح جنود مجندة (٣٣٣٦) ومسلم (٤ / ٢٠٣١) كتاب البر والصلة : باب الأرواح جنود مجندة (١٥٩ ـ ٢٦٣٨).

٢٧٨

القصّة ، وهو أشمويل عليه الصّلاة والسّلام ، وعلى هذا التّقدير إن قلنا : هذا الكلام من طالوت ، فيكون تحمّله عن ذلك النّبي ، وحينئذ لا يكون طالوت نبيّا ، وإن قلنا : الكلام من النّبيّ فتقديره : فلمّا فصل طالوت بالجنود قال لهم نبيهم : إن الله مبتليكم بنهر ، وفي هذا الابتلاء وجهان :

الأول : قال القاضي (١) : كان المشهور من أمر بني إسرائيل مخالفة الأنبياء ، والملوك مع ظهور الآيات ، والمعجزات ، فأراد الله تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدوّ يتميز بها الصّابر على الحرب من غيره.

الثاني : أنّه تعالى ابتلاهم ليتعوّدوا الصّبر على الشّدائد والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من «بلا يبلو» و «ابتلى يبتلي» ؛ قال : [الكامل]

١١٦٣ ـ ولقد بلوتك وابتليت خليفتي

ولقد كفاك مودّتي بتأدّب (٢)

فجاء باللّغتين ، وأصل الياء في مبتليكم واو لأنّه من بلا يبلو ؛ وابتلى يبتلي ، أي : اختبر ، وإنّما قلبت لانكسار ما قبلها.

قوله (بِنَهَرٍ) الجمهور على قراءته بفتح الهاء وهي اللّغة الفصيحة ، وفيه لغة أخرى : تسكين الهاء ، وبها قرأ مجاهد (٣) وأبو السّمّال في جميع القرآن وكلّ ثلاثي حشوه حرف حلق ، فإنّه يجيء على هذين الوجهين ؛ كقوله : صخر وصخر وشعر وشعر وبحر وبحر ؛ قال : [البسيط]

١١٦٤ ـ كأنّما خلقت كفّاه من حجر

فليس بين يديه والنّدى عمل

يرى التّيمّم في برّ وفي بحر

مخافة أن يرى في كفّه بلل (٤)

وتقدم اشتقاق هذه اللّفظة عند قوله تعالى : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥].

قوله : (فَلَيْسَ مِنِّي) ، أي : من أشياعي وأصحابي ، و «من» للتّبعيض ؛ كأنه يجعل أصحابه بعضه ؛ ومثله قول النّابغة : [الوافر]

١١٦٥ ـ إذا حاولت في أسد فجورا

فإنّي لست منك ولست منّي (٥)

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٥٢.

(٢) ينظر : الرازي ٦ / ١٥٣.

(٣) قرأ بها حميد الأعرج.

انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣٤٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٧٣ ، والدر المصون ١ / ٦٠٤.

(٤) ينظر : الرازي ٦ / ١٥٣.

(٥) ينظر : ديوانه (١٢٣) ، الكتاب ٤ / ١٨٦ ، شرح الحماسة ١ / ٤٧٤ ، القرطبي ٣ / ٢٥٢ ، البحر ٢ / ٢٧٣ ، الدر المصون ١ / ٦٠٤.

٢٧٩

ومعنى يطعمه : يذقه ؛ تقول العرب : «طعمت الشّيء» أي : ذقت طعمه ؛ قال : [الطويل]

١١٦٦ ـ فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (١)

والنقاخ : الماء العذب المروي ، والبرد : هو النّوم.

فصل

قال أهل اللّغة : وإنّما اختير هذا اللّفظ لوجهين :

أحدهما : أنّ الإنسان إذا عطش جدّا ، ثم شرب الماء ، وأراد وصف ذلك الماء ، فإنّه يصفه بالطّعوم اللّذيذة ، فقوله (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) ، أي : وإن بلغ به العطش إلى حيث يكون الماء في فمه موصوفا بالطّعوم الطّيّبة ؛ فإنه يجب عليه الاحتراز عنه ، وألا يشرب.

الثاني : أنّ من جعل الماء في فمه ، وتمضمض به ، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أنّه ذاقه وطعمه ، ولا يصدق عليه أنّه شربه ، فلو قال : ومن لم يشربه فإنّه مني ، كان المنع مقصورا على الشّرب. فلما قال (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) حصل المنع في الشّرب ، والمضمضة ، ومعلوم أنّ هذا التّكليف أشقّ ، فإنّ الممنوع من الشّرب ، إذا تمضمض بالماء وجد نوع خفّة وراحة.

فإن قيل : هلّا قيل : «ومن لم يطعم منه» ليكون آخر الآية مطابقا لأوّلها؟

فالجواب : إنّما اختير ذلك لفائدة وهي أنّ الفقهاء اختلفوا في أنّ من حلف ألّا يشرب من هذا النّهر. قال أبو حنيفة : لا يحنث إلا إذا كرع منه ؛ حتى لو اغترف بكوز من النّهر ، وشرب لا يحنث ؛ لأنّ الشّرب من الشّيء هو : أن يكون ابتداء شربه متّصلا بذلك الشّيء ، وهذا لا يحصل إلّا بالشّرب من النّهر.

وقال الباقون : يحنث بالشّرب من الكوز ، إذا اغترف به من النّهر ؛ لأنّ هذا وإن كان مجازا ، فهو مجاز معروف ، وإذا تقرّر هذا فقوله : «من شرب منه فليس منّي» ظاهره : أنّ النّهي مقصور على الشّرب من النّهر ، حتّى لو اغترف بكوز ، وشرب ، لا يكون داخلا تحت النّهي فلما كان هذا الاحتمال قائما في اللّفظ الأوّل ذكر في اللّفظ الثّاني ما يزيل هذا الاحتمال ، فقال : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أضاف الطّعم والشّرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الاحتمال.

فصل

قال ابن عبّاس ، والسّدّيّ : إنّه نهر فلسطين (٢) ، وقال قتادة والرّبيع : هو نهر بين

__________________

(١) البيت للعرجي ينظر ديوانه (١٠٩) ، البحر ٢ / ٢٧٣ ، الأضداد (٦٤) التهذيب ١٤ / ١٠٥ ، الكشاف ١ / ٢٢٤ ، اللسان : برد ، الدر المصون ١ / ٦٠٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤٠ ـ ٣٤١) عن ابن عباس وقتادة والسدي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٦٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

٢٨٠