اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

ذلك حال رفعها ، أو نصبها على المفعول ؛ كما تقدّم تفصيله.

والثاني : أنه منصوب بفعل : إمّا من لفظه ، أي : متّعوهنّ متاعا ، أي : تمتيعا ، أو من غير لفظه ، أي : جعل الله لهنّ متاعا.

الثالث : أنه صفة لوصية.

الرابع : أنه بدل منها.

الخامس : أنه منصوب بما نصبها ، أي : يوصون متاعا ، فهو مصدر أيضا على غير الصدر ؛ ك «قعدت جلوسا» ، هذا فيمن نصب «وصيّة».

السادس : أنه حال من الموصين : أي ممتّعين أو ذوي متاع.

السابع : أنه حال من أزواجهم ، [أي] : ممتّعات أو ذوات متاع ، وهي حال مقدّرة إن كانت الوصية من الأزواج.

وقرأ أبيّ : «متاع لأزواجهم» بدل «وصيّة» ، وروي عنه «فمتاع» ، ودخول الفاء في خبر الموصول ؛ لشبهه بالشرط ، وينتصب «متاعا» في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر ، فإنه بمعنى التمتيع ؛ نحو : «يعجبني ضرب لك زيدا ضربا شديدا» ، ونظيره : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) [الإسراء : ٦٣] ، و «إلى الحول» متعلّق ب «متاع» أو بمحذوف ؛ على أنه صفة له.

قوله تعالى : (غَيْرَ إِخْراجٍ) في نصبه ستة أوجه :

أحدها : أنه نعت ل «متاعا».

الثاني : أنه بدل منه.

الثالث : أنه حال من الزوجات ، أي : غير مخرجات.

الرابع : أنه حال من الموصين ، أي : غير مخرجين.

الخامس : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : لا إخراجا ، قاله الأخش (١).

السادس : أنه على حذف حرف الجرّ ، تقديره : من غير إخراج ، قاله أبو البقاء (٢) ، قال شهاب الدين : وفيه نظر.

فصل في المراد بقوله (غَيْرَ إِخْراجٍ)

معنى قوله : (غَيْرَ إِخْراجٍ) أي : ليس لأولياء الميّت ووارثي المنزل ؛ إخراجها ، «فإن خرجن» أي : باختيارهن قبل الحول (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ، أي : لا حرج على وليّ أحد ولّي ، أو حاكم ، أو غيره ؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا.

وقيل : لا جناح في قطع النّفقة عنهن ، أو لا جناح عليهنّ في التشرّف إلى الأزواج ،

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للأخفش ١٧٨.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠١.

٢٤١

إذ قد انقطعت عنهنّ مراقبتكم أيّها الورثة ، ثم عليها أنها لا تتزوج قبل انقضاء العدّة بالحول أو لا جناح في تزويجهنّ بعد انقضاء العدّة ، لأنه قال : «بالمعروف» ، وهو ما يوافق الشرع.

و «الله عزيز» صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحدّ في هذه النازلة ، في إخراج المرأة ، وهي لا تريد الخروج «حكيم» ، أي محكم لما يريد من أمور عباده والله أعلم.

قوله : (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) هذان الجارّان يتعلّقان بما تعلّق به خبر «لا» وهو «عليكم» من الاستقرار ، والتقدير : لا جناح مستقرّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ ، و «ما» موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، تقديره : فعلنه ، و «من معروف» متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من ذلك العائد المحذوف ، وتقديره : فيما فعلنه كائنا من معروف.

وجاء في هذه الآية «من معروف» نكرة مجرورة ب «من» ، وفي الآية قبلها «بالمعروف» معرّفا مجرورا بالباء ؛ لأنّ هذه لام العهد ؛ كقولك : «رأيت رجلا فأكرمت الرّجل» إلّا أنّ هذه ، وإن كانت متأخرة في اللفظ ، فهي مقدّمة في التنزيل ، ولذلك جعلها العلماء منسوخة بها ، إلا عند شذوذ ، وتقدّم نظائر هذه الجمل ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها.

فصل في سبب النزول

في هذه الآية ثلاثة أقوال :

الأول : وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخة ، قالوا : نزلت الآية في رجل من أهل الطائف ، يقال له : حكيم بن الحرث ، هاجر إلى المدينة ، وله أولاد ، ومعه أبواه وامرأته ، فمات ، فأنزل الله هذه الآية ؛ فأعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والديه ، وأولاده ميراثه ، ولم يعط امرأته شيئا ، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا كاملا (١) ، وكانت عدّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولا ، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول ، وكان نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السّنة ، ما لم يخرج ، ولم يكن لها الميراث ، فإن خرجت من بيت زوجها ، سقطت نفقتها ، وكان على الرجل أن يوصي بها ، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث ، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالرّبع ، والثّمن ، ونسخ عدّة الحول ب (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

قال ابن الخطيب : دلّت هذه الآية على وجوب أمرين :

أحدهما : وجوب النفقة ، والسّكنى من مال الزّوج ، سواء قراءة «وصيّة ووصيّة» بالرفع ، أو بالنصب.

__________________

(١) أخرجه اسحق بن راهويه في «تفسيره» عن مقاتل بن حيان كما في «الدر المنثور» (١ / ٥٥٠).

٢٤٢

والثاني : وجوب الاعتداد. ثم نسخ الله تعالى هذين الحكمين ، أمّا الوصية بالنفقة ، والسكنى ، فلثبوت ميراثها بالقرآن ، والسنة ، دلّت على أنّه لا وصيّة لوارث ، فصار مجموع القرآن والسنّة ناسخا لوجوب الوصيّة لها بالنفقة والسكنى في الحول.

أمّا وجوب العدة في الحول ، فنسخ بقوله : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤].

القول الثاني : وهو قول مجاهد : أنّ الله تعالى أنزل في عدّة المتوفى عنها زوجها آيتين :

إحداهما : قوله (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] ، والأخرى هذه الآية ؛ فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين ، فنقول : إنّها إن لم تختر السّكنى في دار زوجها ، والأخذ من ماله ، وتركته ؛ فعدّتها هي الحول ، قال ابن الخطيب : وتنزيل (١) الآيتين على هذين التّقديرين أولى ؛ حتى يكون كل منهما معمولا به ، والجمع بين الدّليلين ، والعمل بهما أولى من اطراح أحدهما ، والعمل بالآخر.

القول الثالث : قال أبو مسلم الأصفهانيّ (٢) : معنى الآية : أنّ من يتوفّى منكم ، ويذرون أزواجا ، وقد وصّوا وصيّة لّأزواجهم ، بنفقة الحول ، وسكنى الحول ، فإن خرجن قبل ذلك ، وخالفن وصيّة أزواجهنّ ، بعد أن يقمن أربعة أشهر وعشرا ؛ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف ، أي : نكاح صحيح ؛ لأن إقامتهنّ بهذه الوصيّة غير لازمة.

قال (٣) : والسّبب : أنّهم كانوا في الجاهليّة يوصون بالنّفقة ، والسّكنى حولا كاملا ، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيّن الله تعالى في هذه الآية أنّ ذلك غير واجب ، وعلى هذا التّقدير ، فالنّسخ زائل ، واحتجّ على ذلك بوجوه :

أحدها : أنّ النّسخ خلاف الأصل ؛ فوجب المصير إلى عدمه ، بقدر الإمكان.

الثاني : أنّ النّاسخ يكون متأخّرا عن المنسوخ في النّزول ، وإذا كان متأخّرا عنه في النّزول ، يجب أن يكون متأخّرا عنه في التّلاوة ، وهو إن كان جائزا في الجملة إلّا أنّ قولنا يعدّ من سوء التّرتيب ، وتنزيه كلام الله واجب بقدر الإمكان ، ولمّا كانت هذه الآية متأخّرة عن تلك في التّلاوة ؛ كان الأولى ألّا يحكم بكونها منسوخة بتلك.

الثالث : أنّه ثبت عند الأصوليّين متى وقع التّعارض بين التّخصيص ، والنّسخ ، كان النّسخ أولى ، وهاهنا إن خصّصنا هاتين الآيتين بحالتين على ما هو قول مجاهد ؛ اندفع النّسخ ، فكان قول مجاهد أولى من التزام النّسخ من غير دليل ، وأمّا على قول أبي مسلم ، فيكون أظهر ؛ لأنكم تقولون : تقدير الآية : فعليهم وصيّة لأزواجهم ، أو تقديرها :

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣٥.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٢٤٣

فليوصوا وصيّة ، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى ، وأبو مسلم يقول : بل تقدير الآية : والذين يتوفون منكم ، ولهم وصيّة لأزواجهم ، أو تقديرها : وقد أوصوا وصيّة لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزّوج ، وإذا كان لا بدّ من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضمارنا ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكره أبو مسلم ؛ لم يلزم تطرّق النّسخ إلى الآية ، فيكون أولى.

وإذا ثبت هذا فنقول : الآية من أولها إلى آخرها ، تكون جملة واحدة شرطيّة ، فالشّرط هو قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) ، فهذا كلّه شرط والجزاء هو قوله : (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) فهذا تقرير قول أبي مسلم.

قال ابن الخطيب (١) : وهو في غاية الصّحّة ، وعلى تقدير باقي المفسّرين ، فالمعنى : والذين يتوفّون منك أيّها الرّجال ، ويذرون زوجات فليوصوا وصيّة ، وكتب عليكم الوصيّة بأن تمتّعوهنّ متاعا ، أي : نفقة سنة لطعامها ، وكسوتها ، وسكناها ، غير مخرجين لهن ، فإن خرجن من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة ، فلا جناح عليكم يا أولياء الميّت ، فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف ، يعني : التّزين للنّكاح ، ولرفع الجناح عن الرّجال ، وجهان :

أحدهما : لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج ؛ لأنّ مقامها في بيت زوجها حولا ، غير واجب عليها ، فخيّرها الله تعالى بين : أن تقيم حولا ، ولها النّفقة والسّكنى ، وبين أن تخرج إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشرا.

فإن قيل : إن الله تعالى ذكر الوفاة ، ثم أمرنا بالوصيّة ، فكيف يوصي المتوفى؟!

فالجواب أنّ معناه : والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا ، فجعل المقاربة للوفاة عبارة عنها.

وقيل : إنّ هذه الوصيّة يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى ، بمعنى : «أمره ، وتكليفه» ، كأنّه قيل : وصيّة من الله لأزواجهم ، كقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١].

فصل

المعتدّة من فرقة الوفاة ، لا نفقة لها ، ولا كسوة حاملا كانت ، أو حائلا.

وروي عن عليّ ، وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ لها النّفقة إذا كانت حاملا (٢) ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣٥.

٢٤٤

وعن جابر ، وابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنهما قالا : لا نفقة لها ، حسبها الميراث ، وهل تستحقّ السّكنى؟ قال عليّ ، وابن عباس ، وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ : لا تستحقّ السّكنى ، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ.

وقال عمر ، وابن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأمّ سلمة : إنها تستحقّ السّكنى ، وبه قال مالك ، والثّوريّ ، وأحمد.

واحتجّ كلّ من الطّائفتين بخبر فريعة بنت مالك ، أخت أبي سعيد الخدريّ ، قتل زوجها ؛ فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إنّي أرجع إلى أهلي ، فإنّ زوجي ما تركني في منزل يملكه ؛ فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «نعم» ، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد ، أو في الحجرة دعاني فقال : «امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله» (١) ، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث.

فقيل : لم يوجب في الابتداء ، ثمّ أوجب ؛ فصار الأوّل منسوخا.

وقيل : أمرها بالمكث في بيتها أجرا على سبيل الاستحباب ، لا على سبيل الوجوب.

واحتجّ المزنيّ على أنّه لا سكنى لها فقال : أجمعنا على أنّه لا نفقة لها ؛ لأنّ الملك انقطع بالموت ، فكذلك السّكنى بدليل : أنهم أجمعوا على أنّ من وجب له نفقة ، وسكنى عن ولد ووالد على رجل ؛ فمات ؛ انقطعت نفقتهم ، وسكناهم ؛ لأنّ ماله صار ملكا للوارث ، فكذا هاهنا.

وأجيب بأنّه لا يمكن قياس السّكنى على النفقة ؛ لأنّ المطلقة ثلاثا تستحقّ السّكنى بكلّ حال ، ولا تستحقّ النّفقة لنفسها عند المزنيّ. ولأن النّفقة وجبت في مقابلة التّمكين من الاستمتاع ، ولا يمكن هاهنا ، وأمّا السّكنى وجبت لتحصين النساء ، وهو موجود هاهنا فافترقا.

قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢)

إنّما أعاد ذكر المتعة هاهنا ؛ لزيادة معنى ؛ وذلك أنّ في غيرها بيان حكم غير الممسوسة ، وفي هذه الآية : بيان حكم جميع المطلّقات في المتعة.

وقيل : لأنّه لما نزل قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) ، إلى قوله : (حَقًّا

__________________

(١) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٥٩١) رقم (٨٧) وأبو داود (٢٣٠٠) والترمذي (١ / ٢٢٧) والنسائي (٢ / ١١٣) وابن ماجه (٢٠٣١) وأحمد (٦ / ٣٧٠ ، ٤٢٠ ـ ٤٢١) وابن أبي شيبة (٥ / ١٨٤) والدارمي (٢ / ١٦٨) ، والشافعي (١٧٠٤) والبيهقي (٧ / ٤٣٤).

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

٢٤٥

عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦] قال رجل من المسلمين : إن أردت ؛ فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل فقال الله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) جعل المتعة لهن بلام الملك ، وقال : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يعني المؤمنين المتّقين الشّرك.

وقيل : المراد بهذه المتعة : النّفقة ، والنّفقة قد تسمّى متاعا ، فاندفع التّكرار.

واعلم أنّ القائل بوجوب المتعة لكلّ المطلقات : هو سعيد بن جبير ، وأبو العالية والزّهريّ(١).

وقال الشّافعيّ : لكلّ مطلقة إلّا المطلقة التي فرض لها المهر ، ولم يوجد في حقّها المسيس.

قال أبو حنيفة : لا تجب المتعة إلّا للمطلّقة التي لم يفرض لها ، ولم يوجد المسيس.

وقول الله تعالى في زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) [الأحزاب : ٢٨] محمول على أنّه تطوّع من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا على سبيل الوجوب.

وقوله : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَ) [الأحزاب : ٤٩] محمول على غير المفروض لها أيضا.

قال القرطبيّ (٢) : وأوجب الشّافعيّ المتعة للمختلعة ، والمبارئة. وقال أصحاب مالك : كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطى ، فكيف تأخذ متاعا ، لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة ، أو مفتدية ، أو مبارئة ، أو مصالحة ، أو ملاعنة ، أو معتقة تختار الفراق ، دخل بها أم لا ، سمى لها صداقا أم لا ؛ وقد تقدّم ذلك ، ثم قال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٢٤٣)

اعلم أنّ عادته تعالى : أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسّامع.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) : هذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النّفي ، فصيّرت النّفي تقريرا ، وكذا كلّ استفهام دخل على نفي نحو : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] فيمكن أن يكون المخاطب علم هذه القصّة قبل نزول هذه الآية ، فيكون التّقرير ظاهرا ، أي : قد رأيت حال هؤلاء ، كقول

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣٧.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥٠.

٢٤٦

الرّجل لغيره يريد تعريفه ابتداء : «ألم تر إلى ما جرى على فلان»؟.

قال القرطبيّ (١) : والمعنى عند سيبويه : تنبّه إلى أمر الذين ، ولا تحتاج هذه الرواية إلى مفعولين والمخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كل سامع ، إلّا أنّه قد وقع الخطاب معه ابتداء كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] ويجوز أن يكون المراد بهذا الاستفهام : التعجب من حال هؤلاء ، وأكثر ما يرد كذلك : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً) [المجادلة : ١٤] (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥] ؛ وقال الشّاعر : [الطويل]

١١٥١ ـ ألم تر أنّي كلّما جئت طارقا

وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب (٢)

والرّؤية هنا علميّة ، فكان من حقّها أن تتعدّى لاثنين ، ولكنّها ضمّنت معنى ما يتعدّى بإلى.

والمعنى : ألم ينته علمك إلى كذا. وقال الرّاغب (٣) : «رأيت : يتعدّى بنفسه دون الجارّ ، لكن لما استعير قولهم : «ألم تر» بمعنى ألم تنظر ؛ عدّي تعديته ، وقلّما يستعمل ذلك في غير التقدير ، لا يقال : رأيت إلى كذا».

وقرأ السّلمي : «تر» بسكون الرّاء ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنه توهّم أنّ الراء لام الكلمة ، فسكّنها للجزم ؛ كقوله : [الرجز]

١١٥٢ ـ قالت سليمى اشتر لنا سويقا

واشتر فعجّل خادما لبيقا (٤)

وقيل : هي لغة قوم ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلّة.

والثاني : أنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذا أولى ، فإنّه كثير في القرآن ؛ نحو : «الظّنونا» ، و «الرّسولا» ، و «السّبيلا» ، و «لم يتسنّه» ، و «بهداهم اقتده» وقوله : «ونصله» ، و «نؤته» ، و «يؤدّه» ، وسيأتي ذلك ، إن شاء الله تعالى.

قوله : «وهم ألوف» مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة في [موضع] نصب على الحال ، وهذا أحسن مجيئها ، إذ قد جمع فيها بين الواو والضمير ، و «ألوف» فيه قولان :

أظهرهما : أنه جمع «ألف» لهذا العدد الخاصّ ، وهو جمع الكثرة ، وجمع القلّة : آلاف كحمول ، وأحمال.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥١.

(٢) البيت لامرئ القيس ينظر ديوانه ص ٤١ ، الأشباه والنظائر ٨ / ٨٥ ، والخصائص ٣ / ٢٨١ ، والدر المصون ١ / ٥٩٢.

(٣) ينظر : المفردات للراغب ١٨٨.

(٤) تقدم برقم ٥٠٠.

٢٤٧

والثاني : أنه جمع «آلف» على فاعل كشاهد وشهود ، وقاعد وقعود ، أي : خرجوا وهم مؤتلفون ، قال الزّمخشريّ : «وهذا من بدع التّفاسير».

قوله تعالى : (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي من خوف الموت وهو مفعول من أجله ، وفيه شروط النّصب ، أعني المصدرية ، واتحاد الفاعل ، والزمان.

قوله : (ثُمَّ أَحْياهُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على معنى : فقال لهم الله : موتوا ، لأنّه أمر في معنى الخبر تقديره : فأماتهم الله ثم أحياهم.

والثاني : أنه معطوف على محذوف ، تقديره : فماتوا ثم أحياهم بعد موتهم ، و «ثم» تقتضي تراخي الإحياء عن الإماتة. وألف «أحيا» عن ياء ؛ لأنّه من «حيي» ، وقد تقدّم تصريف هذه المادّة عند قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) [البقرة : ٢٦٥].

فصل

قال السّدّيّ وأكثر المفسرين (١) : «كانت قرية يقال لها : «داوردان» قيل واسط ، وقع بها الطّاعون ، فخرج عامّة أهلها ، وبقيت طائفة ، فهلك أكثر الباقين وبقي منهم بقيّة في المرض والبلاء ، فلما ارتفع الطّاعون ؛ رجع الّذين هربوا سالمين فقال من بقي من المرضى : هؤلاء أحزم منّا ، لو صنعنا كما صنعوا لنجونا ، ولئن وقع الطّاعون ثانية لنخرجنّ إلى أرض لا وباء فيها ، فوقع الطاعون من قابل ؛ فهرب عامّة أهلها ، وهم بضعة وثلاثون ألفا ؛ حتى نزلوا واديا أفيح فلمّا نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النّجاة ، ناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه : «أن موتوا» فماتوا جميعا وبليت أجسامهم ، فمرّ بهم نبيّ يقال له «حزقيل بن يوذي» : ثالث خلفاء بني إسرائيل ، بعد موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون ثم كالب بن يوفنا ، ثم حزقيل ، وكان يقال له : ابن العجوز ؛ لأنّه أمّه كانت عجوزا ، فسألت الله الولد بعد ما كبرت ، وعقمت ، فوهبه الله لها» (٢).

قال الحسن ، ومقاتل (٣) : هو ذو الكفل ، وسمّي : ذا الكفل ؛ لأنّه تكفّل بسبعين نبيّا ، وأنجاهم من القتل ، فلمّا مرّ حزقيل على أولئك الموتى ، وقف متفكّرا فيهم متعجّبا ، فأوحى الله إليه أتريد أن أريك آية؟ قال : نعم ، فقيل له : ناد! يا أيّها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي ، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض ، حتى تمّت العظام ، ثم أوحى الله

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٢٣ ، وتفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣٨.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٢٤.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٢٤٨

إليه ثانيا أن ينادي : يا أيّتها العظام ؛ إنّ الله يأمرك أنّ تكتسي لحما ودما ، ثم نادي : إنّ الله يأمرك أن تقومي ؛ فقامت ، فلمّا صاروا أحياء قاموا ، وكانوا يقولون : «سبحانك ربّنا وبحمدك ، لا إله إلّا أنت» ثم رجعوا إلى قريتهم ، بعد حياتهم ، وكانت أمارات موتهم ظاهرة في وجوههم ، ثمّ بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم (١).

روى عبد الله بن عامر بن ربيعة أنّ عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ : خرج إلى الشّام ، فلمّا جاء «سرغ» بلغه أنّ الوباء قد وقع بالشّام ؛ فأخبره عبد الرحمن بن عوف : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها ؛ فلا تخرجوا فرارا» ؛ فرجع عمر من «سرغ» (٢).

وقال ابن عبّاس ، والكلبيّ ومقاتل والضّحّاك : إنّ ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال ؛ فخافوا القتال ، وجبنوا ، وكرهوا الموت ، فاعتلّوا ، وقالوا لملكهم : إنّ الأرض التي تذهب إليها بها الوباء ، فلا نأتيها حتى يزول ذلك الوباء منها ؛ فأرسل الله عليهم الموت ؛ فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، فلما رأى الملك ذلك قال : اللهمّ ربّ يعقوب ، وإله موسى ، وهارون قد ترى معصية عبادك ، فأرهم آية في أنفسهم ، حتى يعلموا أنّهم لا يستطيعون الفرار منك ، فلمّا خرجوا قال لهم الله «موتوا» ، فماتوا جميعا ، وماتت دوابهم كموت رجل واحد ، وبقوا ثمانية أيّام ، حتّى انتفخوا وأروحت أجسادهم ، وبلغ بني إسرائيل موتهم ، فخرجوا لدفنهم ؛ فعجزوا لكثرتهم ، فحظروا عليهم حظائر دون السّباع ، فأحياهم الله بعد الثمانية أيّام ، وبقي فيهم شيء من ذلك النتن ، وفي أولادهم إلى هذا اليوم (٣).

واحتجّوا على هذه الرّواية بقوله عقيب ذلك : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٤] وقال مقاتل والكلبي كانوا قوم حزقيل ، أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيّام ، وذلك أنه لمّا أصابهم ذلك ، خرج حزقيل في طلبهم ، فوجدهم موتى ؛ فبكى وقال : «يا ربّ ؛ كنت من قوم يحمدونك ويسبّحونك ويقدّسونك ، ويكبّرونك ، ويهللونك ؛ فبقيت واحدا لا قوم

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٢٧٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٥١) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه البخاري (٧ / ٢٣٨) كتاب الطب باب الطاعون رقم (٥٧٢٩) ومسلم كتاب السلام ٩٨ ، ١٠٠ وأبو داود (٣١٠٣) والبيهقي (٣ / ٢٧٦) ، (٧ / ٢١٨) وعبد الرزاق (٢٠١٥٩) والطبراني في «الكبير» (١ / ٩٤) والبغوي (٢ / ٢٧٨) وابن عبد البر في «التمهيد» (٦ / ٢١٠ ، ١٠ / ٦٥) عن عبد الرحمن بن عوف.

وأخرجه البخاري (٧ / ٢٣٨) كتاب الطب باب الطاعون رقم (٥٧٢٨) وأحمد (٥ / ١٦٠) عن أسامة بن زيد بلف : إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا ...

(٣) انظر : التفسير الكبير (٦ / ١٣٨) للفخر الرازي.

٢٤٩

لي» ؛ فأوحى الله إليه : إنّي جعلت حياتهم إليك ، فقال حزقيل : احيوا بإذن الله تعالى ؛ فعاشوا (١).

قال مجاهد : إنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك ربنا ، وبحمدك لا إله إلّا أنت ، فرجعوا إلى قومهم ، وعاشوا دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوبا إلّا عاد دنسا مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتب لهم (٢).

قال ابن عباس : إنّها لتوجد اليوم في ذلك السّبط من اليهود تلك الرّيح (٣).

قال الحسن : أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم ، ثم بعثهم إلى بقيّة آجالهم (٤).

قال ابن العربيّ : أماتهم الله عقوبة لهم ، ثم أحياهم ، وميتة العقوبة بعدها حياة ، وميتة الأجل لا حياة بعدها.

قوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا).

قال ابن الخطيب (٥) : قيل : هو من قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] والمراد سرعة وقوع المراد ، ولا قول هناك.

وقيل : أمر الرّسول أن يقول لهم : «موتوا» أو الملك ، والأوّل أقرب.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَحْياهُمْ) يقتضي أنهم أحيوا بعد موتهم ، وذلك ممكن ، وقد أخبر الصّادق به ؛ فوجب القطع.

وقالت المعتزلة (٦) : إحياء الميّت فعل خارق للعادة ، ولا يجوز إظهاره إلا معجزة للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن الخطيب (٧) : وأصحابنا يجوّزون خرق العادة كرامة للأولياء ، ولغير ذلك.

قالت المعتزلة (٨) : وهذا الإحياء ، وقع في زمن حزقيل ببركة دعائه. وهاهنا بحث وهو أنّه قد ثبت بالدّليل أن المعارف تصير ضروريّة عند القرب من الموت ومعاينة الأهوال والشدائد ، فهؤلاء إن كانوا عاينوا تلك الأهوال الموجبة للعلم الضّروريّ ؛ وجب

__________________

(١) انظر : التفسير الكبير (٦ / ١٣٨) للفخر الرازي.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٥١ ـ ٥٥٢) عن مجاهد وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٢٤.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٧٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٥٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن الحسن.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣٩.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) ينظر : المصدر السابق.

٢٥٠

إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين لذلك ؛ لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل ؛ لتبقى لهم تلك العلوم ، ومع بقائها يمتنع التّكليف كما في الآخرة ، ولا مانع يمنع من بقائهم غير مكلّفين وإن كان جاءهم الموت بغتة ، كالنّوم ولم يعاينوا شدّة ، ولا هولا ، فذلك أيضا ممكن.

وقال قتادة : إنّما أحيوا ليستوفوا بقيّة آجالهم (١).

فصل

واختلفوا في عدّتهم.

قال الواحديّ (٢) ـ رحمه‌الله ـ : لم يكنوا دون ثلاثة آلاف ، ولا فوق سبعين ألفا.

والوجه من حيث اللّفظ : أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف ؛ لأنّ الألوف جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف ، وقيل : إنّ الألوف جمع ألف ، كقعود وقاعد ، وجلوس ، وجالس ، والمعنى : أنّهم كانوا مؤتلفي القلوب.

قال القاضي (٣) : والوجه الأوّل أولى ؛ لأنّ ورود الموت عليهم دفعة واحدة ، وهم كثرة عظيمة ، تفيد مزيد اعتبار بحالهم ؛ لأنّ موت الجمع العظيم دفعة واحدة لا يتّفق وقوعه ، وأمّا ورود الموت على قوم تآلفوا حب الحياة ، وبينهم ائتلاف ومحبة كوروده وبينهم اختلاف ، فوجه الاعتبار لا يتغيّر.

قال ابن الخطيب (٤) : ويمكن أن يجاب بأنّ المراد كون كلّ واحد منهم آلفا لحياته ، محبا لهذه الدّنيا ، فرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ (٥) عَلى حَياةٍ) [البقرة : ٩٦] ، ثم إنهم مع غاية حبّهم للحياة وألفهم بها أماتهم الله تعالى ، وأهلكهم ليعلم أنّ حرص الإنسان على الحياة ، لا يعصمه من الموت ، فهذا القول ليس ببعيد.

فصل

قال القرطبيّ (٥) : الطّاعون وزنه فاعول من الطّعن ، غير أنّه لما عدل به عن أصله ؛ وضع دالا على الموت العام بالوباء. قاله الجوهريّ. وروت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فناء أمّتي بالطّعن والطّاعون» قالت : الطّعن قد عرفناه فما الطّاعون ، قال : «غدّة كغدّة البعير (٦) تخرج في المراقّ والآباط» قال

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٧٥) عن قتادة.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٣٩.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥٣.

(٦) أخرجه أحمد (٤ / ٤١٧) والطيالسي (٥٣٤ ـ منحة) عن أبي موسى وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ / ٣١٢) وقال : رواه أحمد بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح ورواه أبو يعلى والبزار والطبراني ـ

٢٥١

العلماء : وهذا الوباء يرسله الله نقمة ، وعقوبة على من يشاء من عصاة عبيده ، وكفرتهم ، وقد يرسله الله شهادة ، ورحمة للصّالحين ، كقول معاذ في طاعون عمواس : إنّه شهادة ورحمة لكم ، ودعوة نبيكم ، وهي قوله عليه الصّلاة والسّلام : «اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك» (١) ، فطعن في كفّه ـ رضي الله عنه ـ.

فصل

وروى البخاريّ : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين ذكر الوباء : «إنّه رجز ، أو عذاب عذّب به بعض الأمم ، ثمّ بقي منه بقيّة ، فيذهب المرّة ، ويأتي الأخرى ، فمن سمع به بأرض ، فلا يقدمنّ عليه ، ومن كان بأرض وقع بها ، فلا يخرج فرارا منه» وعمل عمر ـ رضي الله عنه ـ بمقتضى هذا الحديث لمّا رجعوا من «سرغ» حين أخبرهم ابن عوف بهذا الحديث. وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ «الفارّ من الوباء كالفارّ من الزّحف» (٢).

قال الطّبريّ : يجب على المرء توقّي المكاره قيل نزولها ، وتجنّب الأشياء المخيفة قبل هجومها ، وكذلك كلّ متّقى من غوائل الأمور ، سبيله إلى ذلك سبيل الطّاعون ، ونظيره قوله عليه الصّلاة والسّلام : «لا تتمنّوا لقاء العدّو واسألوا الله العفو والعافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا» (٣) ، ولما خرج عمر ـ رضي الله عنه ـ مع أبي عبيدة إلى الشّام فسمع عمر أنّ الوباء بها فرجع ، فقال له أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ، فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله ، والمعنى لا محيص للإنسان عمّا قدّره الله عليه ، لكن أمرنا الله من التّحرّز من المخاوف ، والمهلكات ، وباستفراع الوسع في التّوقّي من المكروهات ، ثمّ قال له : أرأيت لو كانت لك إبل ، فهبطت واديا له عدوتان ، إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة ، رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة.

قوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ).

__________________

في الثلاث. وله شاهد من حديث عائشة :

أخرجه أحمد (٦ / ١٣٣ ، ١٤٥ ، ٢٥٥) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد : (٢ / ٣١٤ ـ ٣١٥) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط والبزار ورجال أحمد ثقات وبقية الأسانيد حسان.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٥٣) وزاد نسبته لابن أبي الدنيا في كتاب الطواعين.

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٣ / ١٥٣ ـ ١٥٤).

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥٢.

(٣) أخرجه مسلم كتاب الجهاد باب ٦ رقم (٢٠) وأبو داود كتاب الجهاد ٩٧٥ والبيهقي (٩ / ٧٦ ، ١٥٢) وعبد الرزاق (٩٥١٣ ، ٩٥١٨) والدارمي (٢ / ٢١٦).

٢٥٢

أتى بهذه الجملة مؤكّدة ب «إن» واللام ، وأتى بخبر «إنّ» : «ذو» الدّالة على الشّرف بخلاف «صاحب». و «على النّاس» متعلق بفضل تقول : تفضّل فلان عليّ ، أو بمحذوف ؛ لأنه صفة له فهو في محلّ جرّ ، أي : فضل كائن على النّاس. وأل في النّاس للعموم. والمعنى أنّ هذه القصّة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى ، وتزيل عن قلبه الخوف ، فكان ذكر هذه القصّة سببا لبعد العبد عن المعصية ، وقربه من الطّاعة ، فكان ذكر هذه القصّة فضلا وإحسانا من الله على عبده وقيل للعهد والمراد بهم : الّذين أماتهم لأنهم خرجوا من الدّنيا على المعصية ، ثم أعادهم إلى الدّنيا ؛ حتى تابوا.

وقيل : المراد بالعهد أنّ العرب الذين كانوا منكرين للمعاد ؛ كانوا متمسّكين بقول اليهود في كثير من الأمور إذا سمعوا بهذه الواقعة ، فالظّاهر أنّهم يرجعون من الدين الباطل الّذي هو الإنكار إلى الدّين الحقّ ، وهو الإقرار بالبعث ، فيتخلّصون من العقاب ، وكان ذكر هذه القصّة ؛ فضلا من الله في حقّ هؤلاء.

قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) هذا استدراك ممّا تضمّنه قوله (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ؛ لأنّ تقديره : فيجب عليهم أن يشكروه لتفضّله عليهم بالإيجاد ، والرّزق ، ولكنّ أكثرهم غير شاكر. وهو كقوله : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الإسراء : ٨٩].

قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٤٤)

قوله تعالى : «وقاتلوا» هذه الجملة فيها أقوال :

أحدها : أنه عطف على قوله : «موتوا» وهو أمر لمن أحياهم الله بعد الإماتة بالجهاد ، [أي] فقال لهم : موتوا وقاتلوا ، روي ذلك عن ابن عبّاس ، والضّحاك. قال الطّبريّ : «ولا وجه لهذا القول».

والثاني : [أنها معطوفة على قوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) وما بينهما اعتراض.

والثالث] : أنّها معطوفة على محذوف تقديره : «فأطيعوا وقاتلوا ، أو فلا تحذروا الموت كما حذره الذين من قبلكم ، فلم ينفعهم الحذر» قاله أبو البقاء (١).

والظّاهر أنّ هذا أمر لهذه الأمة بالجهاد ، بعد ذكره قوما لم ينفعهم الحذر من الموت ، فهو تشجيع لهم ، فيكون من عطف الجمل ؛ فلا يشترط التوافق في أمر ولا غيره.

قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) فالسّبيل : هو الطّريق ، وسمّيت العبادات سبيلا إلى الله من حيث إنّ الإنسان بسلوكها يتوصّل إلى ثواب الله.

قال القرطبي (٢) : وهذا قول الجمهور ، وهو الّذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠١.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥٤.

٢٥٣

العليا ، وسبل الله كثيرة ، فهي عامّة في كلّ سبيل. قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨] قال مالك : سبل الله كثيرة ، وما من سبيل إلّا يقاتل عليها أو فيها أو لها ، وأعظمها دين الإسلام ، فلا جرم كان المجاهد مقاتلا في سبيل الله. ثمّ قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : يسمع كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد ، أو في ترعيب الغير عنه ، و «عليم» بما في ضمائركم من البواعث ، والأعراض : أنّ ذلك الجهاد لغرض الدّين ، أو لغرض الدّنيا.

قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٤٥)

«من» للاستفهام ومحلّها الرّفع على الابتداء ، و «ذا» اسم إشارة خبره ، و «الّذي» وصلته نعت لاسم الإشارة ، أو بدل منه ، ويجوز أن يكون «من ذا» كلّه بمنزلة اسم واحد تركّبا كقولك : «ماذا صنعت» كما تقدّم في قوله : (ما ذا أَرادَ اللهُ) [البقرة : ٢٦]. ومنع أبو البقاء (١) هذا الوجه وفرّق بينه وبين قولك : «ماذا» حيث يجعلان اسما واحدا بأنّ «ما» أشدّ إبهاما من «من» ؛ لأنّ «من» لمن يعقل. ولا معنى لهذا المنع بهذه العلة ، والنحويون نصّوا على أنّ حكم «من ذا» حكم «ماذا».

ويجوز أن يكون «ذا» بمعنى الّذي ، وفيه حينئذ تأويلان :

أحدهما : أنّ «الّذي» الثاني تأكيد له ؛ لأنّه بمعناه ، كأنّه قيل : من الّذي يقرض الله قرضا.

والثاني : أن يكون «الذي» خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة ذا ، تقديره : «من الذي [هو الّذي] يقرض ، وذا وصلته خبر «من» الاستفهاميّة. أجاز هذين الوجهين ابن مالك ، قال شهاب الدين وهما ضعيفان ، والوجه ما قدّمته.

وانتصب «قرضا» على المصدر على حذف الزّوائد ، إذ المعنى : إقراضا كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ، وعلى هذا فالمفعول الثاني محذوف تقديره : «يقرض الله مالا وصدقة» ، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره : يقرض عباد الله المحاويج ، لتعاليه عن ذلك ، أو يكون على سبيل التّجّوز ، ويجوز أن يكون بمعنى المفعول نحو : الخلق بمعنى المخلوق ، وانتصابه حينئذ على أنه مفعول ثان ل «يقرض».

قال الواحديّ (٢) : والقرض في هذه الآية اسم لا مصدر ، ولو كان مصدرا ؛ لكان إقراضا. و «حسنا» يجوز أن يكون صفة لقرضا بالمعنيين المذكورين ، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف ، إذا جعلنا «قرضا» بمعنى مفعول أي : إقراضا حسنا.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠١.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤٣.

٢٥٤

قوله : «فيضاعفه» قرأ عاصم (١) وابن عامر هنا ، وفي الحديد بنصب الفاء ، إلّا أنّ ابن عامر وعاصما ويعقوب يشدّدون العين من غير ألف وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعها ، إلّا أنّ ابن كثير يشدّد العين من غير ألف ؛ فحصل فيها أربع قراءت.

أحدها : قرأ أبو عمرو ونافع ، وحمزة ، والكسائيّ فيضاعفه بالألف ورفع الفاء.

والثانية : قراءة عاصم «فيضاعفه» بالألف ونصب الفاء.

والثالثة : قرأ ابن كثير : «فيضعّفه» بالتّشديد ، ورفع الفاء.

والرابعة : قرأ ابن عامر فيضعّفه بالتّشديد ، ونصب الفاء. فالرّفع من وجهين :

أحدهما : أنّه عطف على «يقرض» الصّلة.

والثاني : أنّه رفع على الاستئناف أي : فهو يضاعفه ، والأول أحسن لعدم الإضمار.

والنصب من وجهين :

أحدهما : أنّه منصوب بإضمار «أن» عطفا على المصدر المفهوم من «يقرض» في المعنى ، فيكون مصدرا معطوفا على مصدر تقديره : من ذا الذي يكون منه إقراض فمضاعفة من الله تعالى كقوله : [الوافر]

١١٥٣ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (٢)

والثاني : أنه نصب على جواب الاستفهام في المعنى ؛ لأنّ الاستفهام وإن وقع عن المقرض لفظا ، فهو عن الإقراض معنى كأنه قال : أيقرض الله أحد فيضاعفه.

قال أبو البقاء (٣) : «ولا يجوز أن يكون جواب الاستفهام على اللفظ ؛ لأنّ المستفهم عنه في اللّفظ المقرض أي الفاعل للقرض ، لا عن القرض ، أي : الذي هو الفعل» وقد منع بعض النّحوييّن النّصب بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسند إليه الحكم لا عن الحكم ، وهو محجوج بهذه الآية وغيرها ، كقوله : «من يستغفرني ؛ فأغفر له ، من يدعوني ؛ فأستجيب له» بالنصب فيهما.

قال أبو البقاء (٤) : فإن قيل : لم لا يعطف [الفعل على] المصدر الذي هو «قرضا» كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار «أن» كقول الشاعر [الوافر]

__________________

(١) انظر : السبعة ١٨٥ ، والحجة ٢ / ٣٤٣ ، ١٤٤ ، والعنوان ٧٤ ، وحجة القراءات ١٣٨ ، ١٣٩ ، وشرح شعلة ٢٩٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٠٧ ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٤٣.

(٢) تقدم برقم ٧٦٢.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٢.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٢٥٥

١١٥٤ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

 .......... (١)

قيل : هذا لا يصحّ لوجهين :

أحدهما : أنّ «قرضا» هنا مصدر مؤكّد ، والمصدر المؤكّد لا يقدّر ب «أن» والفعل.

والثاني : أنّ عطفه عليه يوجب أن يكون معمولا ليقرض ، ولا يصحّ هذا في المعنى ؛ لأنّ المضاعفة ليست مقرضة ، وإنّما هي فعل الله تعالى ، وتعليله في الوجه الأول يؤذن بأنه يشترط في النصب أن يعطف على مصدر يتقدّر ب «أن» والفعل ، وهذا ليس بشرط ؛ بل يجوز ذلك وإن كان الاسم المعطوف عليه غير مصدر ؛ كقوله : [الطويل]

١١٥٥ ـ ولو لا رجال من رزام أعزّة

وآل سبيع أو أسوءك علقما (٢)

ف «أسوءك» منصوب ب «أن» ؛ عطفا على «رجال» ، فالوجه في منع ذلك أن يقال : لو عطف على «قرضا» ؛ لشاركه في عامله ، وهو «يقرض» فيصير التّقدير : من ذا الذي يقرض مضاعفة ، وهذا ليس صحيحا معنى.

وقد تقدّم أنّه قرئ «يضاعف» ، و «يضعّف» فقيل : هما بمعنى ، وتكون المفاعلة بمعنى فعل المجرد ، نحو عاقبت ، وقيل : بل هما مختلفان ، فقيل : إنّ المضعّف للتكثير. وقيل : إنّ «يضعّف» لما جعل مثلين ، و «ضاعفه» لما زيد عليه أكثر من ذلك.

والقرض : القطع ، ومنه : «المقراض» لما يقطع به وانقطع القوم هلكوا وانقطع أثرهم وقيل للقرض «قرض» ؛ لأنه قطع شيء من المال ، وهذا أصل الاشتقاق ، ثم اختلف أهل العلم في «القرض» فقيل : هو اسم لكلّ ما يلتمس الجزاء عليه. وقيل : أن يعطي شيئا ليرجع إليه مثله. وقال الزّجّاج والكسائي (٣) : «هو البلاء حسنا كان أو سيئا» ، تقول العرب : لك عندي قرض حسن وسيّئ ، والمراد منه الفعل الذي يجازى عليه.

قال أميّة بن الصّلت : [البسيط]

١١٥٦ ـ كلّ امرئ سوف يجزى قرضه حسنا

أو سيّئا ومدينا مثل ما دانا (٤)

واختلفوا في أنّ إطلاق لفظ القرض على هذا ، هل هو حقيقة أو مجاز.

__________________

(١) تقدم برقم ٧٦٢.

(٢) البيت للحصين بن الحمام ينظر في خزانة الأدب ٣ / ٣٢٤ ، والدرر ٤ / ٧٨ ، وشرح اختيارات المفضل ص ٣٣٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٤٤ ، وشرح المفصل ٣ / ٥٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤١١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٧٢ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٥٩ ، والمحتسب ١ / ٣٢٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠ ، ١٧ ، والدر المصون ١ / ٥٩٦.

(٣) ينظر : معاني القرآن للزجاج ١ / ٣١٩.

(٤) ينظر : ديوانه (٨٠) ، القرطبي ٣ / ١٥٦ ، الرازي ٦ / ١٤٢.

٢٥٦

قال الزّجّاج (١) : هو حقيقة ، واستدلّ بما ذكرناه ، وقيل : مجاز ، لأنّ القرض : هو أن يعطي الإنسان ليرجع إليه مثله وهنا إنّما ينفق ليرجع إليه بدله ، و «القرض» بالكسر ـ لغة فيه حكاها الكسائيّ ، نقله القرطبي (٢).

قوله : «أضعافا» فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّه حال من الهاء في «فيضاعف» ، وهل هذه حال مؤكّدة أو مبيّنة ، الظّاهر أنها مبيّنة ؛ لأنّها وإن كانت من لفظ العامل ، إلّا أنّها اختصّت بوصفها بشيء آخر ، ففهم منها ما لا يفهم من عاملها ، وهذا شأن المبيّنة.

والثاني : أنه مفعول به على تضمين «يضاعف» معنى يصيّر ، [أي : يصيّره] بالمضاعفة أضعافا.

الثالث : أنه منصوب على المصدر.

قال أبو حيان : [قيل] ويجوز أن ينتصب على المصدر باعتبار أن يطلق الضّعف ـ وهو المضاعف ، أو المضعّف ـ بمعنى المضاعفة ، أو التضعيف ، كما أطلق العطاء ، وهو اسم المعطى بمعنى الإعطاء. وجمع لاختلاف جهات التضعيف باعتبار اختلاف الأشخاص ، واختلاف المقرض واختلاف أنواع الجزاء. وسبقه إلى هذا أبو البقاء (٣) ، وهذه عبارته ، وأنشد : [الوافر]

١١٥٧ ـ أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المائة الرّتاعا (٤)

والأضعاف جمع «ضعف» ، والضّعف مثل قدرين متساويين. وقيل : مثل الشّيء في المقدار. ويقال : ضعف الشّيء : مثله ثلاث مرات ، إلّا أنه إذا قيل «ضعفان» ، فقد يطلق على الاثنين المثلين في القدر من حيث إنّ كلّ واحد يضعّف الآخر ، كما يقال زوجان ، من حيث إنّ كلا منهما زوج للآخر.

فصل

لما أمر الله تعالى بالجهاد ، والقتال على الحقّ ؛ إذ ليس شيء من الشّريعة ، إلّا ويجوز القتال عليه وعنه ، وأعظمها دين الإسلام ، حرّض تعالى على الإنفاق في ذلك ؛ فدخل في ذلك : المقاتل في سبيل الله ، فإنّه يقرض رجاء الثّواب ، كما فعل عثمان ـ رضي الله عنه ـ في جيش العسرة.

فصل

اختلف المفسّرون (٥) في هذه الآية على قولين :

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤٢.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥٦.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٠٢.

(٤) تقدم برقم ٣٣٩.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤١.

٢٥٧

أحدهما : أنّ هذه الآية متعلّقة بما قبلها ، والمراد منها القرض في الجهاد خاصّة ، فندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر عليه ، وأمر القادر على الجهاد : أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد ، ثمّ أكد ذلك بقوله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَ) يبسط».

القول الثاني : أنّ هذا الكلام مبتدأ لا تعلّق له بما قبله ، ثم اختلفوا هؤلاء ، فمنهم من قال: المراد من القرض إنفاق المال ، ومنهم من قال : إنّه غيره والقائلون بأنّه إنفاق المال ، اختلفوا على ثلاثة أقوال :

الأول : أنّه الصّدقة غير الواجبة ، وهو قول الأصم (١) ، واحتجّ بوجهين :

أحدهما : أنّه تعالى سمّاه قرضا والقرض لا يكون إلّا تبرعا.

الوجه الثاني : قال ابن عبّاس : إنّ هذه الآية نزلت في أبي الدّحداح ، قال : يا رسول الله! إنّ لي حديقتين ، فإن تصدّقت بأحدهما ، فهل لي مثلها في الجنّة.

قال : «نعم» ، قال : وأمّ الدّحداح معي؟ قال : «نعم». فتصدق بأفضل حديقتيه ، وكانت تسمّى «الحنيبة» قال : فرجع أبو الدّحداح إلى أهله ، وكانوا في الحديقة التي تصدّق بها ، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدّحداح : بارك الله لك فيما اشتريت ، ثمّ خرجوا منها وسلموها ؛ فكان عليه الصّلاة والسّلام يقول : كم من نخلة رداح تدلي عروقها في الجنّة لأبي الدّحداح (٢).

القول الثاني : أنّ المراد من هذا القرض : الإنفاق الواجب في سبيل الله. قالوا : لأنّه تعالى ذكر في آخر الآية قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، وذلك كالزّجر وهو إنّما يليق بالواجب.

القول الثالث : أنّه يشتمل قسمين كقوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) [البقرة : ٢٦١] وأمّا من قال : إنّ المراد : إنفاق شيء سوء المال. قالوا : روي عن بعض أصحاب ابن مسعود (٣) أنه قول الرّجل سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر. قال ابن الخطيب (٤) [قال القاضي] وهذا بعيد ؛ لأنّ لفظ الإقراض لا يقع في عرف اللّغة عليه ، ولا يمكن حمل هذا القول على الصّحّة إلّا أن نقول : إذا كان

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٨٤ ـ ٢٨٥) وأبو يعلى والطبراني والبزار كما في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣٢٠) ، (٩ / ٣٢٤) وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥٥٤ ـ ٥٥٥) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤٢.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٢٥٨

الفقير لا يملك شيئا ، وكان في قلبه أنه لو قدر على الإنفاق لأنفق ، وأعطى ، فحينئذ تكون نيته قائمة مقام الإنفاق ، فقد روي أنّه عليه الصّلاة والسّلام قال : «من لم يكن عنده ما يتصدّق به ؛ فليلعن اليهود ، فإنّه له صدقة» (١).

فصل

قال القرطبي (٢) : وذكر القرض ها هنا إنّما هو تأنيس ، وتقريب للنّاس بما يفهمونه ، والله هو الغنيّ الحميد ، لكنّه تعالى شبّه عطاء المؤمنين في الدّنيا ، بما يرجون به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبّه إعطاء النّفوس ، والأموال في أخذ الجنّة ، بالبيع والشراء.

قوله تعالى (٣) : «حسنا» قال الواقديّ : محتسب طيبة به نفسه.

وقال عمرو بن عثمان الصّدفيّ : «لا يتبعه منّا ، ولا أذى».

وقال سهل بن عبد الله : لا يعتقد في قرضه عوضا.

واعلم : أنّ هذا الإقراض إذا قلنا : المراد به الإنفاق في سبيل الله ، فهو يخالف القرض من وجوه :

الأول : أنّ القرض إنّما يأخذه من يحتاج إليه لفقره ، وذلك في حقّ الله تعالى محال.

الثاني : أنّ البدل في القرض المعتاد لا يكون إلّا المثل ، وفي هذا الإنفاق هو الضّعف.

الثالث : أنّ المال الذي يأخذه المستقرض ، لا يكون ملكا له ، وها هنا المال المأخوذ ملك له ، ومع هذه الفروق سمّاه الله تعالى قرضا ، والحكمة فيه التّنبيه على أنّ ذلك لا يضيع عند الله كما أنّ القرض يجب أداؤه ، ولا يجوز الإخلال به ، فكذا الثّواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة.

فصل

قال القرطبيّ (٤) : القرض : قد يكون بالمال ، وقد بيّنّا حكمه ، كما قال عليه الصّلاة

__________________

(١) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١٤ / ٢٧٠) من طريق علي بن الحسين بن حبان قال : وجدت في كتاب أبي ـ بخط يده ـ قال أبو زكريا : يعقوب بن محمد الزهري صدوق ولكن لا يبالي عمن حدث ، حدث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود».

قال ابن معين : هذا كذب وباطل لا يحدث بهذا أحد يعقل. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (٢ / ١٥٧) من طريق الخطيب وقال : يعقوب قال أحمد بن حنبل : لا يساوي شيئا.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥٧.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥٨.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٥٨.

٢٥٩

والسّلام «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ، كان إذا خرج من بيته قال : اللهمّ إنّي تصدّقت بعرضي على عبادك» (١).

وقال ابن عمر : «أقرض من عرضك ليوم فقرك» يعني من سبّك فلا تأخذ منه حقّا ، ولا تقم عليه حدّا ، حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر.

وقال أبو حنيفة : لا يجوز التّصدّق بالعرض ؛ لأنّه حقّ الله تعالى وهو مروي عن مالك.

قال ابن العربيّ : وهذا فاسد لقوله عليه الصّلاة والسّلام : «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» هذا يقتضي أن تكون هذه المحرمات الثّلاث تجري مجرّى واحدا ، في كونها باحترامها حقا للآدمي.

فصل

وكون القرض حسنا يحتمل (٢) وجوها :

أحدها : أنه أراد به أن يكون حلالا خالصا من الحرام.

الثاني : ألّا يتبع ذلك منّا ولا أذى.

الثالث : أن يفعله بنية التّقرّب إلى الله تعالى.

والمراد من التّضعيف ، والإضعاف ، والمضاعفة واحد ، وهو : الزّيادة على أصل الشّيء حتّى يصير مثليه ، أو أكثر ، وفي الآية حذف والتقدير : فيضاعف ثوابه.

فصل

والمراد بالأضعاف الكثيرة :

قال السّدّيّ (٣) : هذا التّضعيف لا يعلمه إلّا الله ـ عزوجل ـ وإنّما أبهم ذلك ؛ لأنّ ذكر المبهم في باب التّرغيب ، أقوى من المحدود وقال غيره : هو المذكور في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [البقرة : ٢٦١] ، فيحمل المجمل على المفسّر ؛ لأنّ كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَ) يبسط» قرأ أبو عمرو (٤) ، وحمزة ، وحفص ، وقنبل

__________________

(١) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٦٢) عن أنس مرفوعا وأخرجه أبو داود (٤٨٨٦) من طريق معمر عن قتادة عن أنس موقوفا وله طريق آخر عن أنس مرفوعا أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (٣٨٦).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤٣.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٤٣.

(٤) انظر : السبعة ١٨٦ ، والحجة ٢ / ٣٤٦ ، ٣٤٧ ، والعنوان ٧٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٠٨ ـ ١١٢ ، وحجة القراءات ١٣٩ ، وإتحاف ١ / ٤٤٣ ـ ٤٤٥ ، وشرح شعلة ٢٩٢.

٢٦٠