اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

وقال الواحديّ (١) : وأظهر التّضعيف مع الجزم ، ولسكون الحرف الثاني ، وهو أكثر في اللّغة من الإدغام.

و «منكم» متعلّق بمحذوف ؛ لأنّه حال من الضّمير المستكن في «يرتدد» ، و «من» للتّبعيض ، تقديره : ومن يرتدد في حال كونه كائنا منكم ، أي : بعضكم. و «عن دينه» متعلّق ب «يرتدد» ، و «فيمت» عطف على الشّرط ، والفاء مؤذنة بالتّعقيب.

«وهو كافر» جملة حالية من ضمير : «يمت» ، وكأنّها حال مؤكّدة ، ؛ لأنّها لو حذفت لفهم معناها ، لأنّ ما قبلها يشعر بالتّعقيب للارتداد ، وجيء بالحال هنا جملة ، مبالغة في التأكيد من حيث تكرّر الضّمير بخلاف ما لو جيء بها اسما مفردا.

وقوله : «فأولئك» جواب الشّرط.

قال أبو البقاء (٢) : و «من» في موضع مبتدأ ، والخبر هو الجملة التي هي قوله : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ) ، وكان قد سلف له عند قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) [البقرة : ٣٨] أن خبر اسم الشّرط هو فعل الشّرط لا جوابه ، وردّ على من يدّعي ذلك بما حكيته عنه ثمّة ، ويبعد منه توهّم كونها موصولة لظهور الجزم في الفعل بعدها ، ومثله لا يقع في ذلك.

و «حبط» فيه لغتان : كسر العين ـ وهي المشهورة ـ وفتحها ، وبها قرأ (٣) أبو السّمّال في جميع القرآن ، ورويت عن الحسن أيضا. والحبوط : أصله الفساد.

قال أهل اللّغة : أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئا يضرّها ، فتعظم بطونها ، فتهلك. وفي الحديث : «وإنّ ممّا ينبت الرّبيع ما يقتل حبطا» (٤) ، وذلك أنّ الإبل تأكل من المرعى إلى أن تنتفخ بطنها ؛ فتموت البطن.

ومنه : «حبط بطنه» ، أي : انتفخ ، ومنه «رجل حبنطى» ، أي : منتفخ البطن.

وحمل أوّلا على لفظ «من» فأفرد في قوله : «يرتدد ، فيمت ، وهو كافر» وعلى معناها ثانيا في قوله : «فأولئك» إلى آخره ، فجمع ، وقد تقدّم أنّ مثل هذا التّركيب أحسن الاستعمالين : أعني الحمل أوّلا على اللّفظ ، ثمّ على المعنى. وقوله «في الدّنيا» متعلّق ب «حبطت».

وقوله (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلى آخره تقدّم إعراب نظيرتها. واختلفوا في هذه

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣١.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٣.

(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٩١ ، والبحر المحيط ٢ / ١٦٠ ، والدر المصون ١ / ٥٣٣.

(٤) أخرجه البخاري (٣ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤) كتاب الزكاة : باب الصدقة على اليتامى حديث (١٤٦٥) ومسلم (٢ / ٧٢٨) كتاب الزكاة : باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا حديث (١٢٢ / ١٠٥٢) من حديث أبي سعيد الخدري.

٢١

الجملة : هل هي استئنافيّة ، أي : لمجرّد الإخبار بأنّهم أصحاب النّار ، فلا تكون داخلة في جزاء الشّرط ، بل تكون معطوفة على جملة الشّرط ، أو هي معطوفة على الجواب ؛ فيكون محلّها الجزم؟ قولان ، رجّح الأوّل بالاستقلال وعدم التّقييد ، والثّاني بأنّ عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشّرط ، والقرب مرجّح.

فصل فيمن خرج من كفر إلى كفر

قال القرطبيّ (١) : اختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر ؛ فقال جمهور الفقهاء : لا يتعرّض له ؛ لأنّه انتقل ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه وعن الشّافعيّ : أنّه يقتل ؛ بقوله عليه‌السلام : «من بدّل دينه فاقتلوه» (٢) وقال مالك : معناه : من خرج من الإسلام إلى الكفر ، فأمّا من خرج من كفر إلى كفر ، فلم يعنه الحديث.

فصل في اقتضاء الآية شرط الوفاة

ظاهر الآية يقتضي أنّ الوفاة شرط لثبوت الأحكام المذكورة. ويتفرّع عليه بحثان : بحث أصولي ، وبحث فروعي. فالأصوليّ : أنّ جماعة من المتكلّمين قالوا : شرط صحّة الإيمان والكفر حصول الوفاة ، فلا يكون الإيمان إيمانا ، إلّا إذا مات المؤمن ، ولا يكون الكفر كفرا ، إلّا إذا مات الكافر عليه.

وأما البحث الفروعيّ : فهو أنّ المسلم إذا صلّى ، ثم ارتدّ ، ثمّ أسلم في الوقت ؛ قال الشّافعيّ : لا إعادة عليه.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٣٣.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٤٧) كتاب الجهاد والسير باب لا يعذب بعذاب الله رقم (٧ / ٣٠) و (٩ / ٢٦) كتاب استتابة المرتدين باب حكم المرتد والمرتدة رقم (٦٩٢٢) وأبو داود كتاب الحدود باب ١ رقم (٤٣٥١) والنسائي (٧. ١٠٤ ـ ١٠٥) وابن ماجه (٢٥٣٥) والدارقطني (٣ / ١١٣) وأحمد (١ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣) والبيهقي (٨ / ٢٩٥) وابن أبي شيبة (١٠ / ١٣٩) وعبد الرزاق (٩٤١٣) من طريق عكرمة عن ابن عباس وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه أحمد (١ / ٣٢٢ ـ ٢٢٣) والطبراني في «الكبير» (١٠ / ٣٣٠ و ١١ / ٣٣٠) والبيهقي (٨ / ٢٠٢) عن ابن عباس.

وأخرجه الطبراني في «الأوسط» عن أبي هريرة كما في «مجمع الزوائد» (٦ / ٢٢٤) وقال الهيثمي : وإسناده حسن.

وأخرجه الطبراني في «الأوسط» أيضا عن عائشة كما في «المجمع» (٦ / ٢٢٤) وقال الهيثمي : وفيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف.

وأخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (١١ / ٣٣٠) عن معاوية بن حيدة وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ٢٢٤) وقال : رجاله ثقات وأخرجه الطبراني في «الكبير» عن عصمة كما في «المجمع» (٦ / ٢٢٤) وقال الهيثمي : وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف.

وأخرجه النسائي (٨ / ١٠٤ ـ ١٠٥) عن الحسن مرسلا.

٢٢

وقال أبو حنيفة : يلزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج ، حجة الشّافعي قوله تعالى : (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) شرط في إحباط العمل أن يموت وهو كافر ، وهذا الشّخص لم يوجد في حقّه هذا الشّرط ؛ فوجب ألّا يصير عمله محبطا.

فإن قيل : هذا معارض بقوله تعالى : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨] وقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥].

ولا يقال : حمل المطلق على المقيّد واجب (١) ؛ لأنّا نقول : ليس هذا من باب المطلق والمقيّد ؛ فإنّهم أجمعوا على أنّ من علّق حكما بشرطين ، وعلقه بشرط ، أنّ الحكم ينزل عند أيّهما وجد كمن قال لعبده : أنت حرّ ؛ إذا جاء يوم الخميس ، ولم يكن في ملكه ، ثم اشتراه ، ثم جاء يوم الخميس ؛ عتق ولو كان باعه ، فجاء يوم الخميس وهو في ملكه عتق بالتعليق الأوّل.

فصل في محل إحباط العمل

ليس المراد من إحباط العمل نفس العمل ؛ لأنّ العمل شيء كما وجد ، فني وزال ، وإعدم المعدوم محال. ثمّ اختلف المتكلّمون فيه ؛ فقال المثبتون للإحباط والتّكفير : المراد منه أنّ عقاب الرّدّة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السّابق ، إمّا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة ، أو لا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي (٢).

وقال المنكرون للإحباط : هذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله ، هو أنّ المرتدّ إذا أتى بالرّدّة فتلك الرّدة عمل محبط ؛ لأنّ الآتي بالرّدّة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثوابا ، فإذا لم يأت بذلك العمل الجيّد ، وأتى بدله بهذا العمل الرّديء ، لا يستفيد منه نفعا ، بل يستفيد منه أعظم المضارّ ، يقال : إنّه حبط عمله ، أي : بعمل باطل ، ليس فيه فائدة ، بل فيه مضرّة.

__________________

(١) انظر في المطلق والمقيّد المصادر التالية : البحر المحيط للزركشي ٣ / ٤١٥ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٣ / ٣ ، سلاسل الذهب للزركشي ص ٢٨٠ ، نهاية السول للإسنوي ٢ / ٣١٩ ، زوائد الأصول له ٢٩٨ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص ٨٢ ، التحصيل من المحصول للأرموي ١ / ٤٠٧ ، المستصفى للغزالي ٢ / ١٨٥ ، حاشية البناني ٢ / ٤٤ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٣ / ٧٦ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص ٢٦٢ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ٢ / ٧٩ ، المعتمد لأبي الحسين ١ / ٢٨٨ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه ١ / ٢٣٨ ، ميزان الأصول للسمرقندي ١ / ٥٦١ ، كشف الأسرار للنسفي ١ / ٤٢٢ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ٢ / ١٥٥ ، الوجيز للكراماستي ص ١٤ ، تقريب الوصول لابن جزيّ ص ٨٣ ، إرشاد الفحول للشوكاني ص ١٦٤ ، شرح الكوكب المنير للفتوحي ص ٤٢٠ ، نشر البنود للشنقيطي ١ / ٢٥٨ ، وينظر الروضة لابن قدامة (١٣٦) الحدود للباجي (١٤٧) ، المدخل ٢٦٠.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣٣.

٢٣

فصل في الإحباط في الدنيا

أمّا إحباط الأعمال في الدّنيا ، فهو أنّه يقتل عند الظّفر به ، ويقاتل إلى أن يظفر به ، ولا يستحقّ من المؤمنين موالاة ولا نصرا ، ولا ثناء حسنا ، وتبين زوجته منه ، ولا يستحقّ الميراث من المسلمين. ويجوز أن يكون المعنى في إحباط أعمالهم في الدّنيا ، هو أنّ ما يريدونه بعد الرّدّة من الإضرار بالمسلمين ، ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله ، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره ؛ فتكون الأعمال على هذا التّأويل ما يعملونه بعد الرّدّة ، وأمّا إحباط أعمالهم في الآخرة ، فعند القائلين بالإحباط معناه : إنّ هذه الرّدّة تبطل استحقاقهم للثّواب الذي استحقّوه بأعمالهم السّالفة. وعند المنكرين لذلك معناه : أنّهم لا يستفيدون من تلك الرّدّة ثوابا ، ونفعا في الآخرة ، بل يستفيدون منه أعظم المضارّ ، ثمّ بين كيفيّة تلك المضرّة فقال : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

فصل

قال القرطبيّ (١) : قالت طائفة : يستتاب المرتدّ ؛ فإن تاب وإلّا قتل.

وقال بعضهم : يستتاب ساعة واحدة.

وقال آخرون : يستتاب شهرا.

وقال آخرون : يستتاب ثلاثا ، على ما روي عن عمر وعثمان ، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم.

وقال الحسن (٢) : يستتاب مائة مرّة ، وروي عنه أنّه يقتل دون استتابة ، وهو أحد قولي الشّافعيّ.

واحتجّ من قال بأنّه يقتل ولا يستتاب ، بحديث معاذ ، وأبي موسى : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل ، فلمّا قدم عليه قال : انزل ، وألقى له وسادة ، وإذا رجل عنده موثق ، قال : ما هذا؟ قال : كان يهوديا ، فأسلم ، ثم راجع دينه ، فتهوّد ، قال : لا أجلس حتّى يقتل ، قضاء الله ورسوله ثلاث مرّات ، وأمر به فقتل. أخرجه «مسلم» وغيره (٣).

وقال مالك : يقتل الزّنديق ، ولا يستتاب.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٣٢.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه البخاري (١٢ / ٢٦٨ ـ فتح) ومسلم (٣ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ـ نووي) وأبو عوانة (١ / ١٩٣) وأبو داود (٥٣٥٤) وأحمد (٤ / ٤٠٩) وابن حبان رقم (١٠٦٨) والبيهقي (٨ / ١٩٥) من طرق عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري.

٢٤

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢١٨)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا).

إنّ واسمها و «أولئك» مبتدأ ، و «يرجون» خبره ، والجملة خبر «إنّ» ، وهو أحسن من كون «أولئك» بدلا من «الّذين» ، و «يرجون» خبر «إنّ». وجيء بهذا الأوصاف الثّلاثة مترتّبة على حسب الواقع ، إذ الإيمان أول ، ثم المهاجرة ، ثم الجهاد.

وأفرد الإيمان بموصول وحده ؛ لأنّه أصل الهجرة والجهاد ، وجمع الهجرة ، والجهاد في موصول واحد ، لأنّهما فرعان عنه ، وأتى بخبر «إنّ» اسم إشارة ؛ لأنّه متضمّن للأوصاف السّابقة. وتكرير الموصول بالنّسبة إلى الصّفات ، لا الذّوات ، فإنّ الذّوات متّحدة موصوفة بالأوصاف الثّلاثة ، فهو من باب عطف بعض الصّفات على بعض ، والموصوف واحد. ولا نقول : إنّ تكرير الموصوف يدلّ على تغاير الذّوات الموصوفة ؛ لأنّ الواقع كان كذلك. وأتى ب «يرجون» ؛ ليدلّ على التّجدّد وأنهم في كلّ وقت يحدثون رجاء.

والمهاجرة : مفاعلة من الهجر ، وهي الانتقال من أرض إلى أرض ، وأصل الهجر التّرك. والمجاهدة مفاعلة من الجهد ، وهو استخراج الوسع وبذل المجهود ، والإجهاد : بذل المجهود في طلب المقصود ، والرّجاء : الطمع.

وقال الرّاغب (١) : هو ظنّ يقتضي حصول ما فيه مسرّة ، وقد يطلق على الخوف ؛ وأنشد: [الطويل] :

١٠٦٤ ـ إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عواسل (٢)

أي : لم يخف ، وقال تعالى : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [يونس : ٧] أي : لا يخافون ، وهل إطلاقه عليه بطريق الحقيقة ، أو المجاز؟ فزعم قوم أنه حقيقة ، ويكون من الاشتراك اللّفظي ، وزعم قوم أنه من الأضداد ، فهو اشتراك لفظيّ أيضا. قال ابن عطيّة : «وليس هذا بجيّد» ، يعني : أنّ الرّجاء والخوف ليسا بضدّين إذ يمكن اجتماعهما ، ولذلك قال الرّاغب (٣) ـ بعد إنشاده البيت المتقدّم ـ «ووجه [ذلك] : أنّ الرّجاء والخوف يتلازمان» ، وقال ابن عطيّة : «والرّجاء أبدا معه خوف ، كما أنّ الخوف معه رجاء». وزعم قوم أنه مجاز للتلازم الّذي ذكرناه عن الرّاغب وابن عطيّة.

وأجاب الجاحظ عن البيت بأنّ معناه لم يرج برء لسعها وزواله فالرّجاء على بابه.

__________________

(١) ينظر : المفردات ١٩٥.

(٢) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ينظر ديوانه : ١ / ١٤٣ ، الكشاف ٤ / ٤٤٩ والدر المصون ١ / ٥٣٤.

(٣) ينظر : المفردات للراغب ١٩٦.

٢٥

وأمّا قوله : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [يونس : ٧] أي لا يرجون ثواب لقائنا ، فالرّجاء أيضا على بابه ، قاله ابن عطيّة.

وقال الأصمعيّ : «إذا اقترن الرّجاء بحرف النّفي ، كان بمعنى الخوف» كهذا البيت والآية.

وفيه نظر إذ النّفي لا يغيّر مدلولات الألفاظ.

والرّجاء مقصود ناحية البئر ، وحافّاته من كل ناحية ، وجاؤوا بقوام (١) من النّاس يخطّون في قولهم بأعظم الرّجاء ، فيقصرون ، ولا يمدّون ، وكتبت «رحمة» هنا بالتّاء : إمّا جريا على لغة من يقف على تاء التّأنيث بالتّاء ، وإما اعتبارا بحالها في الوصل ، وهي في القرآن في سبعة مواضع ، كتبت في الجميع تاء ، هنا وفي الأعراف : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ) [آية : ٥٦] ، وفي هود : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) [آية : ٧٣] ، وفي مريم : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) [آية : ٢] ، وفي الرّوم : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) [آية : ٥٠] ، وفي الزخرف : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ) [آية : ٣٢].

فصل

في تعلّق هذه الآية بما قبلها ، وجهان :

الأول : أنّ عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله ، هب أنّه لا عقاب علينا فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجرا ، وثوابا ، فنطمع أن يكون سفرنا هذا غزوا ؛ فأنزل الله هذه الآية ؛ لأنّ عبد الله كان مؤمنا ، ومهاجرا ، وسبب هذه المقاتلة ، كان مجاهدا.

الثاني : أنّه تعالى أوجب الجهاد من قبل بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] وبين أن تركه سبب الوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ولا يكاد يوجد وعيد إلّا ويعقبه وعد.

فصل في المراد بالرجاء

وفي هذا الرجاء قولان :

الأوّل : عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى هنا : أنّهم يظنّون في ثواب الله ؛ لأن عبد الله بن جحش ما كان قاطعا بالفوز والثّواب في عمله ، بل كان يتوقّعه ، ويرجوه.

فإن قيل : لم جعل الوعد مطلقا بالرّجاء ، ولم يقطع به ، كما في سائر الآيات؟

فالجواب من وجوه :

__________________

(١) في ب : رجاء لعوام.

٢٦

أحدها : أنّ الثّواب على الإيمان ، والعمل غير واجب عقلا ، بل بحكم الوعد فلذلك علّقه بالرّجاء.

وثانيها : هب أنّه واجب عقلا ، ولكنّه تعلّق بأنه لا يكفر ، وهذا الشّرط مشكوك لا متيقّن ، فلا جرم ذكر الرّجاء ، لا القطع.

وثالثها : أنّ المذكور هاهنا هو الإيمان ، والهجرة ، والجهاد ، ولا بدّ للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها ، كما وفّقه لهذه الثّلاثة ، فلا جرم علقه على الرّجاء.

ورابعها : ليس المراد من الآية أنّ الله تعالى شكّك العبد في هذه المغفرة ، بل المراد وصفهم بأنّهم يفارقون الدّنيا مع الهجرة والجهاد ، ومستقصرين أنفسهم في حقّ الله تعالى يرون أنّهم يعبدونه حقّ عبادته ، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه ، فيقدمون على الله مع الخوف والرّجاء ، كما قال : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون : ٦٠].

وأجاب القرطبيّ عن هذا السّؤال بوجهين آخرين :

الأول : أنّ الإنسان لو بلغ في طاعة الله كلّ مبلغ ، لا يدري بماذا يختم له.

الثاني : لئلّا يتّكل على عمله.

القول الثاني : أنّ المراد من الرّجاء القطع في أصل الثّواب ، والظّن إنّما دخل في كميّته وفي وقته ، وفيه وجوه تقدّمت في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦].

وقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أي : إنّ الله تعالى يحقّق لهم رجاءهم ، إذا ماتوا على الإيمان ، والعمل الصّالح.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٢٠)

قوله : (عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مراد ، والتّقدير : عن حكم الخمر والميسر.

الخمر : هو المعتصر من العنب إذا غلى ، وقذف بالزّبد ، ويطلق على ما غلى ، وقذف بالزّبد من غير ماء العنب مجازا.

٢٧

وفي تسميتها «خمرا» أربعة أقوال :

أشهرها : أنّها سمّيت بذلك ؛ لأنها تخمر العقل ، أي : تستره ، ومنه : خمار المرأة لستره وجهها ، والخمر : ما واراك من شجر ، وغيره من وهدة ، وأكمة ، والخامر هو الذي يكتم شهادته ؛ [و : «خامري حضاجر ، أتاك ما تحاذر» يضرب للأحمق ، وحضاجر : علم للضبع ، أي : استتر عن النّاس ، ودخل في خمار النّاس ، وغمارهم].

ومنه يقال : «أخمرت الأرض» كثر خمرها ـ بفتح الميم ـ الشّجر الملتفّ.

قال : [الوافر]

١٠٦٥ ـ ألا يا زيد والضّحّاك سيرا

فقد جاوزتما خمر الطّريق (١)

أي : ما يستركما من شجر وغيره ، وقال العجّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان: [الرجز]

١٠٦٦ ـ في لامع العقبان لا يمشي الخمر (٢)

والثاني : لأنّها تغطّى حتّى تدرك وتشتدّ ، فهو من التّغطية ومنه «خمّروا آنيتكم».

والثالث : ـ قال ابن الأنباري من المخالطة ـ لأنّها تخامر العقل ، أي : تخالطه ، يقال : خامره الدّاء ، أي : خالطه.

وأنشد لكثير : [الطويل]

١٠٦٧ ـ هنيئا مريئا غير داء مخامر

 ..........(٣)

ويقال : خامر السّقام كبده. فهذه الاشتقاقات دالّة على أن الخمر ما يكون ساترا للعقل ، كما سمّيت مسكرا ؛ لأنّها تسكر العقل أي : تحجزه.

والرابع : لأنّها تترك حتى تدرك ، ومنه : «اختمر العجين» أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرّأي ، أي : تركه ، حتّى ظهر له فيه وجه الصّواب ، وهي أقوال متقاربة. وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدرا مرادا به اسم الفاعل واسم المفعول.

__________________

(١) ينظر لسان العرب (خمر) ، والدرر د / ١٦٨ ، وشرح المفصل ١ / ١٢٩ ، وشرح قطر الندى ص ٢١٠ ، والأزهية ص ١٦٥ ، واللمع ص ١٩٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٢. والدر المصون ١ / ٥٣٥.

(٢) ينظر ديوانه ١ / ٣٨ ، والطبري ٤ / ٣٢١ ، القرطبي ٣ / ٥١ ، الدر المصون ١ / ٥٣٥.

(٣) صدر بيت وعجزه :

لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

ينظر ديوانه ١ / ٤٩ ، والأمالي الشجرية ١ / ١٦٥ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧٦ ، والشعر والشعراء ١ / ٤٩٦ ومجمع الأمثال للميداني ٢ / ٣٨٧ (٤٤٩٤) ، وتهذيب اللغة (خمر) ، والرازي ٦ / ٣٧ ، والدر المصون ٢ / ٣٠٨.

٢٨

فصل

قال أبو حنبفة : الخمر : هو ما كان من عصير العنب وغيره.

حجّة أبي حنيفة : قول تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٦٧] فمنّ الله تعالى علينا باتخاذ السّكر ، والرّزق الحسن ؛ فوجب أن يكون مباحا ؛ لأنّ المنّة لا تكون إلّا بالمباح.

وروى ابن عبّاس أنّه ـ عليه‌السلام ـ أتى السّقاية عام حجّة الوداع ، فاستند إليها وقال : اسقوني ، فقال العبّاس : لنسقينّك ممّا ننبذه في بيوتنا؟ فقال : «ممّا يسقى النّاس» فجاءه بقدح من نبيذ ؛ فشمّه فقطب وجهه وردّه ، فقال العبّاس : يا رسول الله أفسدت على أهل مكّة شرابهم. فقال : «ردّوا عليّ القدح» فردّوه عليه ؛ فدعا بماء زمزم ؛ فصبّ عليه وشرب وقال : «إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا نتنها بالماء» (١).

وجه الاستدلال به : أن التقطيب لا يكون إلّا من الشّديد ، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدّة بالنّصّ ، ولأنّ اغتلام الشّراب شدّته ، كاغتلام البعير سكره.

وأيضا وردت عند الصّحابة فيه آثار ؛ روي أنّ عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى بعض عماله أن أرزاق المسلمين من الطّلاء ما ذهب ثلثاه ، وبقي ثلثه (٢) ، ورأى أبو عبيدة ، ومعاذ : شرب الطّلاء على الثّلث (٣).

وحجّة القائلين بأنّ الخمر من عصير العنب وغيره ما روى أبو داود عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : «نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب ، والتّمر ، والحنطة ، والشّعير ، والذّرة» (٤).

والخمر ما خامر العقل.

وفي «الصّحيحين» عن عمر أنّه قال على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا إنّ الخمر قد حرّمت ، وهي من خمسة : من العنب ، والتّمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير والخمر ما

__________________

(١) أخرجه النسائي (٨ / ٣٢٤) والدار قطني (٤ / ٢٦٤) والبيهقي (٨ / ٣٠٥) وابن أبي شيبة (٧ / ٥٠٥).

وقال البيهقي : هذا حديث يعرف بعبد الملك بن نافع وهو رجل مجهول وقال النسائي : وعبد الملك بن نافع غير مشهور ولا يحتج بحديثه.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (١ / ١٩٢).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه البخاري (٥ / ١٠٥) كتاب التفسير باب سورة المائدة رقم (٢٦١٩) ومسلم (٨ / ٢٤٥) وأبو داود (٣٦٦٩) والنسائي (٢ / ٣٢٥) والترمذي (١ / ٣٤٣) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٣٢٣) وابن الجارود في «المنتقى» (٨٥٢) والدار قطني (٥٣٢) والبيهقي (٨ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩) من طريق ابن عمر عن عمر قال ... فذكره.

٢٩

خامر العقل (١). وروى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ مسكر خمر ، وكلّ خمر حرام» (٢) وفي «الصّحيحين» أنه عليه‌السلام سئل عن البتع ، فقال : «كلّ شراب أسكر ، فهو حرام» (٣) والبتع شراب يتخذ من العسل.

قال الخطابيّ : والدّلالة من وجهين :

أحدهما : أنّ الآية لما دلّت على تحريم الخمر ، وكان مسمّى الخمر مجهولا من القوم ، حسن من الشّارع أن يقال : مراد الله تعالى من هذه اللّفظة هذا ، ويكون على سبيل إحداث لغة ، كما في الصّلاة والصّوم وغيرهما.

والوجه الآخر : أن يكون معناه : أنّه كالخمر في الحرمة ؛ لأن قوله هذا خمر ، فإن كان حقيقة ؛ فحصل المدّعى ، وإن كان مجازا ؛ فيكون حكمه كحكمه ؛ لأنّا بيّنا أنّ الشّارع ليس مقصوده تعليم اللّغات على تعليم الأحكام ، وحديث البتع يبطل كلّ تأويل ذكره أصحاب تحليل الأنبذة ، وإفساد قول من قال : إنّ القليل من المسكر من الأنبذة مباح ؛ لأنّه ـ عليه‌السلام ـ سئل عن نوع واحد من الأنبذة ، وأجاب بتحريم الجنس ، فدخل فيه القليل والكثير ، ولو كان ثمّ تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله ، وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (٤) ، وقال : «ما

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٢٦٥) كتاب المظالم باب : صب الخمر في الطريق رقم (٢٤٦٤) عن أنس بن مالك.

وأخرجه الطبراني في «الأوسط» عن أم سليم كما في «مجمع الزوائد» (٤ / ٩٣) وقال الهيثمي : وفيه الوليد بن محمد الموقري وهو ضعيف.

(٢) أخرجه مسلم (٦ / ١٠٠ ـ ١٠١) وأبو داود (٣٦٧٩) والنسائي (٢ / ٣٢٥) والترمذي (١ / ٣٤١) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ٣٢٥) وابن الجارود في «المنتقى» (٨٥٧) والدارقطني (٤ / ٢٤٩) والبيهقي (٨ / ٢٩٣) وأحمد (٢ / ٢٩ ، ١٣٤ ، ١٣٧) من طريق نافع عن ابن عمر قال النسائي: قال أحمد : وهذا حديث صحيح.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه النسائي (٢ / ٣٢٦) وابن ماجه (٣٣٩٠) وابن الجارود في «المنتقى» (٨٥٩) والطحاوي (٢ / ٣٢٥) والدارقطني (٤ / ٢٤٩) وأحمد (٢ / ١٦) من طريق محمد بن عمرو عن ابن عمر.

وأخرجه ابن ماجه (٣٣٩٢) من طريق أبي حازم عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : كل مسكر حرام وما أسكر كثيرة فقليله حرام.

(٣) أخرجه البخاري (١ / ١١٧) كتاب الأشربة باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ (٢٤٢) و (٧ / ١٩٢) كتاب الأشربة باب الخمر من العسل رقم (٥٥٨٥ ، ٥٥٨٦) ومسلم (٦ / ٩٩) وأبو داود (٣٦٨٢) و ، النسائي (٢ / ٣٢٦) والترمذي (١ / ٣٤٢) وابن ماجه (٣٣٨٥) والطحاوي (٢ / ٣٢٦) والدارقطني (٤ / ٢٥١) وأحمد (٦ / ٣٦ ، ٩٦ ، ١٩٠).

(٤) أخرجه البيهقي (٨ / ٢٩٦) والدارقطني (٤ / ٢٦٢) وإسحق بن راهويه في «مسنده» كما في «نصب الراية» (٤ / ٣٠٤) من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مرفوعا. ـ

٣٠

أسكر الفرق منه فمسك الكف منه حرام» (١).

قال الخطابي : «الفرق» : مكيال يسع ستّة عشر رطلا وروى أبو داود عن أمّ سلمة قالت : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كلّ مسكر ومفتر (٢).

قال الخطّابيّ : «المفتر» كلّ شراب يورث الفتور ، والخدر في الأعضاء.

واستدلّوا أيضا بالاشتقاق المتقدّم وأيضا بقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [المائدة : ٩١].

وهذه العلّة موجودة في الأنبذة ؛ لأنّها مظنّته.

وأيضا فإنّ عمر ، ومعاذ قالا : يا رسول الله ، إنّ الخمر مسلبة للعقل مذهبة للمال ؛ وهذه العلّة موجودة في الأنبذة.

والجواب عن دلائل أبي حنيفة : أنّ قوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً) [النحل : ٦٧] نكرة في سياق الإثبات ، فلم قلتم إنّ ذلك السّكر هو هذا النّبيذ.

ثمّ أجمع المفسّرون على أنّ هذه الآية قبل الآيات الدّالّة على تحريم الخمر ، فتكون ناسخة ، أو مخصّصة.

__________________

ـ وأخرجه البيهقي (٨ / ٢٩٦) من طريق نافع عن ابن عمر وللحديث شواهد منها عن جابر بن عبد الله : أخرجه أبو داود (٣٦٨١) والترمذي (١ / ٣٤٢) وابن ماجه (٣٣٩٣) والطحاوي في «شرح المعاني» (٢ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦) وابن الجارود في «المنتقى» (٨٦٠) وأحمد (٣ / ٣٤٣).

وقال الترمذي : حديث حسن غريب من حديث جابر.

ومنها عن عبد الله بن عمرو :

أخرجه النسائي (٢ / ٣٢٧) وابن ماجه (٣٣٩٤) والطحاوي (٢ / ٣٢٥) والدارقطني (٤ / ٣٥٤) والبيهقي (٨ / ٢٩٦) وأحمد (٢ / ١٦٧ ، ١٦٩). ومنها عن سعد بن أبي وقاص :

أخرجه النسائي (٢ / ٣٢٨) والدارمي (٢ / ١١٣) وابن الجارود (٨٦٢) وابن حبان (١٣٨٦).

ومنها عن زيد بن ثابت :

أخرجه الطبراني في المعجم «الكبير» و «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٥ / ٦٠) وقال الهيثمي : وفيه إسماعيل بن قيس بن سعد وهو ضعيف جدا. ومنها عن خوات بن جبير :

أخرجه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٥ / ٦٠) وقال الهيثمي : وفيه إسماعيل بن قيس بن سعد وهو ضعيف جدا. ومنها عن خوات بن جبير : أخرجه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٥ / ٦٠) وقال الهيثمي : وفيه عبد الله بن إسحق الهاشمي قال العقيلي : له أحاديث لا يتابع منها على شيء وذكر له الذهبي هذا الحديث.

(١) أخرجه أبو داود (٣٦٨٧) والترمذي (١ / ٣٤٢) والطحاوي (٢ / ٣٢٤) وابن الجارود في «المنتقى» (٨٦١) وابن حبان (١٣٨٨) والدارقطني (٤ / ٢٥٥) والبيهقي (٨ / ٢٩٦) وأحمد (٦ / ٧١ ، ١٣١) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعا.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٣٥٤) كتاب الأشربة : باب النهي عن المسكر حديث (٣٦٨٦) وأحمد (٦ / ٩٥) من طريق شهر بن حوشب عن أم سلمة قالت : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كل مسكر ومفتر.

٣١

وأمّا حديث النّبيذ فلعلّه كان ماءا نبذت فيه تمرات ؛ لتذهب ملوحته فتغيّر طعم الماء قليلا إلى الحموضة ، وطبعه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان في غاية اللّطافة ، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطّعم ؛ فلذلك قطّب وجهه ، وإنما صبّ الماء فيه ؛ إزالة لتلك الحموضة ، أو الرائحة. وأمّا آثار الصّحابة ، فمتدافعة متعارضة.

فصل في عدد الآيات التي نزلت بمكة في تحريم الخمر

قالوا : نزل في الخمر أربع آيات بمكّة :

قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) [النحل : ٦٧] وكان المسلمون يشربونها ، وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصّحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر ، فإنّها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزل قول تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ)(١) [البقرة : ٢١٩] ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تقدّم في الخمر» ، فتركها قوم لقوله (إِثْمٌ كَبِيرٌ) وشربها قوم لقوله (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ). إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتاهم بخمر ، فشربوا ، وسكروا ، وحضرت صلاة المغرب ؛ فتقدّم بعضهم ليصلّي بهم فقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) هكذا إلى آخر السورة بحذف «لا» ، فأنزل الله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)(٢) [النساء : ٤٣] فحرّم السّكر في أوقات الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية ، تركها قوم ، وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصّلاة وتركها قوم في أوقات الصّلاة ، وشربوها في غير وقت الصّلاة ، حتّى كان الرّجل يشرب بعد صلاة العشاء ، فيصبح ، وقد زال عنه السّكر ، ويشرب بعد صلاة الصّبح ، فيصحو إذا جاء وقت الظّهر ، واتخذ عتبان بن مالك صبغا ودعا رجالا من المسلمين ، فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير ، فأكلوا منه ، وشربوا الخمر ، حتى أخذت منهم ، ثمّ إنّهم افتخروا عند ذلك ، وانتسبوا ، وتناشدوا ، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار ، وفخر لقومه ، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير ، فضرب به رأس سعد ؛ فشجّه موضّحة (٣)

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧) رقم (٣٠٤٩) والنسائي (٨ / ٢٨٦) رقم (٥٥٤٠) وأبو داود (٢ / ٣٤٩) رقم (٣٦٧٠) والحاكم (٢ / ٢٧٨) وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٥٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ وابن مردويه والضياء المقدسي في «المختارة» عن عمر.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٢٩٣).

(٣) الموضحة لغة : هي الشّجة التي توضح العظم أي : تظهره. انظر : الصحاح ١ / ٤١٦.

اصطلاحا :

عرفها الحنفية بأنها : هي التي توضح العظم ، أي تبينه.

عرفها الشافعية بأنها : التي توضح العظم ، وإن لم يشاهد من أجل الدم الذي يستره.

عرفها المالكية بأنها : ما أوضحت عظم الرأس ، والجبهة ، والخدين.

٣٢

فانطلق سعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكى إليه الأنصاريّ ، فقال عمر : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فأنزل الله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) [المائدة : ٩٠] إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيّام ، فقال عمر: انتهينا يا ربّ (١).

قال ابن الخطيب (٢) : والحكمة في وقوع التّحريم على هذا التّرتيب أنّ الله تعالى علم أنّ القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم بذلك كثيرا ، فعلم أنّه لو منعهم دفعة واحدة لشقّ ذلك عليهم ، فلا جرم درّجهم في التّحريم رفقا بهم ، ومن النّاس من قال : إن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية ، ثم نزل قوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] فاقتضى ذلك تحريم شربها ؛ لأنّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلّي مع السّكر ، فكان المنع من ذلك منعا من الشّرب ضمنا ، ثم نزلت آية المائدة ، فكانت في غاية القوّة في التّحريم.

وعن الرّبيع بن أنس أنّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر (٣).

فصل

قال أنس : حرمت عليهم الخمر ، ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها ، وما حرّم عليهم شيء أشدّ من الخمر (٤).

وقال أنس بن مالك : ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا ، وفلانا ، إذ جاء رجل فقال : حرمت الخمر. قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس ؛ قال : فما سألوا عنها ، ولا راجعوها بعد خبر الرّجل (٥).

واختلف الفقهاء في الخمر على ما تقدّم ؛ فقال قوم : هو عصير العنب والرّطب الّذي اشتدّ وغلا من غير عمل النّار فيه ، واتّفقت الأمّة على أنّ هذا الخمر نجس يحدّ شاربها ، ويفسّق ، ويكفر مستحلها ، وذهب سفيان الثّوريّ ، وأبو حنيفة ، وجماعة إلى أنّ التّحريم لا يتعدّى هذا ولا يحرم ما يتّخذ من غيرها ، كالحنطة ، والشّعير ، والذّرة ، والعسل ، والفانيذ إلّا أن يسكر منه فيحرم ، وقال : إذا طبخ عصير العنب والرّطب ، حتّى

__________________

ـ وعند الحنابلة : تطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس.

انظر : تبيين الحقائق ٦ / ١٣٢ ، مغني المحتاج ٢٦ ، مواهب الجليل ٦ / ٢٤٦ ، المبدع ٩ / ٥.

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣٥.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٣٦) عن الربيع بن أنس.

(٤) أخرجه البخاري (٧ / ٩٠) كتاب الأشربة باب الخمر من العنب رقم (٥٥٨٠).

(٥) أخرجه البخاري (٨ / ١٢٦) كتاب التفسير باب : لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم رقم (٤٦١٧) عن أنس.

٣٣

ذهب نصفه ، فهو حلال ، ولكنه يكره ، وإن طبخ ، حتّى يذهب ثلثاه قالوا : هو حلال مباح شربه إلّا أنّ السّكر منه حرام.

وقال قوم : إذا طبخ صار العصير أدنى طبخ ، صار حلالا ، وهو قول إسماعيل بن علية ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنّ كل شراب أسكر كثيره ، فهو خمر قليله حرام يحدّ شاربه ، وقد تقدّم ما أجابوا به.

والميسر : القمار ، مفعل من اليسر ، يقال : يسر ييسر ؛ قال علقمة : [البسيط]

١٠٦٨ ـ لو ييسرون بخيل قد يسرت بها

وكلّ ما يسر الأقوام مغروم (١)

وقال آخر : [الطويل]

١٠٦٩ ـ أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني

ألم تيئسوا أنّي ابن فارس زهدم (٢)

وفي اشتقاقه أربعة أقوال :

أحدها : من اليسر وهو السّهولة ؛ لأنّ أخذه سهل من غير كدر ولا تعب قاله مقاتل.

والثاني : من اليسار ، وهو الغنى ؛ لأنّه يسلبه يساره.

قال ابن عباس (٣) : كان الرّجل في الجاهليّة يخاطر الرّجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ؛ ذهب بأهله ، وماله ، فنزلت الآية.

الثالث : قال الواحديّ (٤) : إنه من قولهم : يسر لي هذا الشّيء ييسر يسرا وميسرا ، إذا وجب ، والياسر الواجب بسبب القداح. وحكاه الطبريّ عن مجاهد ، ورد ابن عطيّة عليه.

الرابع : من يسر إذا جزر ، والياسر الجازر ، وهو الذي يجزّئ الجزور أجزاء. قال ابن عطيّة : «وسمّيت الجزور التي يستهم عليها ميسرا ؛ لأنّها موضع اليسر ، ثمّ سمّيت السّهام ميسرا للمجاورة» واليسر : الذي يدخل في الضّرب بالقداح ، ويجمع على أيسار ، وقيل : بل «يسّر» جمع ياسر كحارس وحرّس وأحراس.

وللميسر كيفيّة ، وتسمّى سهامه القداح والأزلام والأقلام. وقيل : هي عشرة أقداح ، وقيل : أحد عشر ، لسبعة منها حظوظ ، وعلى كلّ منها خطوط ، فالخطّ يقدّر الحظّ ، وتلك القداح هي : الفذّ وله سهم واحد ، والتّوءم وله اثنان ، والرّقيب وله ثلاثة ، والحلس

__________________

(١) ينظر ديوانه (٧٧) ، البحر ٢ / ١٦٤ ، الدر المصون ١ / ٥٣٥.

(٢) البيت لسحيم ذكره ابن منظور ينظر اللسان : (يسر) ، ومشكل القرآن (١٩٢) ، الكشاف ٤ / ٥١٧ ، البحر ٢ / ١٦٣ ، الدر المصون ١ / ٥٣٥.

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣٩ ، والقرطبي ٣ / ٣٦.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣٩.

٣٤

وله أربعة ، والنّافس وله خمسة ، والمسبل وله ستّة ، والمعلّى وله سبعة ، وثلاثة أغفال لا خطوط عليها ، وهي المنيح ، والسّفيح ، والوغد.

وأنشد فيها بعضهم : [الرمل]

١٠٧٠ ـ لي في الدّنيا سهام

ليس فيهنّ ربيح

وأساميهنّ وغد

وسفيح ومنيح (١)

ومن زاد رابعا سمّاه المضعّف ، وإنّما كثروا بهذه الأغفال ليختلط على الحرضة ، وهو الضّارب ، فلا يميل مع أحد ، وهو رجل عدل عندهم ، فيجثو ، ويلتحف بثوب ، ويخرج رأسه ، فيجعل تلك القداح في خريطة وتسمى الرّبابة بكسر الرّاء مشبّهة بالكتابة فيها سهام الميسر ، وربّما يسمّون جميع السّهام ربابة ، ثمّ يخلخلها ويدخل يده فيها ، ويخرج باسم رجل رجل قدحا فمن خرج على اسمه قدح : فإن كان من ذوات السّهام ؛ فاز بذلك النّصيب ، وأخذه ، وإن كان من الأغفال غرّم من الجزور ؛ ولا يأخذ شيئا.

وقال بعضهم : لا يأخذ شيئا ، ولا يغرم ، ويكون ذلك القدح لغزا.

وكانوا يفعلون هذا في الشّتوة ، وضيق العيش ، ويقسّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئا ، ويفتخرون بذلك ، ويسمّون من لم يدخل معهم فيه : البرم ويذمونه ، والجزور تقسم عند الجمهور على عدد القداح ، فتقسم على عشرة أجزاء ، وعند الأصمعي على عدد خطوط القداح ، فتقسّم على ثمانية وعشرين جزءا. وخطّأ ابن عطية الأصمعيّ في ذلك ، وهذا عجيب منه ؛ لأنّه يحتمل أنّ العرب كانت تقسّمها مرّة على عشرة ، ومرّة على ثمانية وعشرين.

فهذا أصل القمار التي كانت تفعله العرب.

واختلفوا في الميسر ؛ هل هو اسم لذلك القمار المعيّن أو اسم الجميع أنواع القمار ، فقال بعض العلماء : المراد من الآية جميع أنواع القمار قال عليه الصلاة والسلام : «إيّاكم وهاتين الكعبتين الموسومتين فإنّها من ميسر العجم» (٢).

وعن ابن سيرين ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس : كلّ شيء فيه قمار فهو الميسر ، حتّى لعب الصّبيان بالجوز ، والكعاب (٣).

__________________

(١) ينظر : الرازي ٦ / ٤٠.

(٢) عزاه الهيثمي في «المجمع» (٨ / ١١٦) لأحمد والطبراني وقال : ورجال الطبراني رجال الصحيح.

وأخرجه أحمد ١ / ٤٤٦) بلفظ : إياكم وهاتان الكعبتان ...

وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (١ / ٢١٦) بلفظ : إياكم وهاتين الكعبتين الموسومتين.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٢٣) عن مجاهد وابن سيرين وعطاء وطاوس.

٣٥

وروي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ في النرد ، والشّطرنج (١) : أنّه من الميسر (٢). وقال الشّافعيّ ـ رضي الله عنه ـ : إذا خلا الشّطرنج عن الرهان واللّسان عن الطّغيان ، والصّلاة عن النّسيان ؛ لم يكن حراما ، وهو خارج عن الميسر ؛ لأنّ الميسر ما يوجب دفع مال ، أو أخذ مال ، وهذا ليس كذلك ، فلا يكون قمارا ولا ميسرا.

وأمّا السّبق (٣) في الخفّ ، والحافر ، والنّشاب ، فخصّ بدليل.

قوله : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) الجارّ خبر مقدّم ، و «إثم» مبتدأ مؤخّر ، وتقديم الخبر هنا ليس بواجب ، وإن كان المبتدأ نكرة ، لأنّ هنا مسوغا آخر ، وهو الوصف ، أو العطف ، ولا بدّ من حذف مضاف أيضا ، أي : في تعاطيهما إثمّ ؛ لأنّ الإثم ليس في ذاتهما.

وقرأ (٤) حمزة والكسائيّ : «كثير» بالثّاء المثّلثة ، والباقون بالباء ثانية الحروف. ووجه قراءة الجمهور واضح ، وهو أنّ الإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذّنب ، ومنه آية (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) [النساء : ٢]. وسمّيت الموبقات : «الكبائر» ، ومنه قوله تعالى : (يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) [الشورى : ٣٧] ، و (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١] وشرب الخمر ، والقمار من الكبائر ، فناسب وصف إثمهما بالكبر ، وقد أجمعت السّبعة على قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) بالباء الموّحدة ، وهذه توافقها لفظا.

وأمّا وجه قراءة الأخوين : فإمّا باعتبار الآثمين من الشّاربين ، والمقامرين ، فلكلّ واحد إثم ، وإمّا باعتبار ما يترتّب [على تعاطيهما من توالي العقاب ، وتضعيفه ، وإمّا

__________________

(١) هو بكسر أوله وفي لغة بالسين ، وفيه أربع لغات كسر الشين وفتحها والإعجام. والإهمال ، والأشهر الإعجام مع الكسر ويجمع على شطارج ، وأصله في اللغة الأعجمية : «شش رنك» ومعناه : ستة ألوان ؛ لأن «شش» ستة و «رنك» ألوان وهي أعني : الستة الشاه ـ والفرزان ـ والفيل ـ والفرس ـ والرخ ـ والبيدق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٢٤) عن القاسم بن محمد بمعناه.

(٣) السبق ـ بالسكون ـ مصدر سبق أي : تقدم ، وبالتحريك المال الموضوع بين أهل السباق ، والرمي يشمل الرمي بالسهام والمزاريق وغيرهما.

وهذا الباب من مبتكرات إمامنا الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ التي لم يسبق إليها كما قاله المزني وغيره.

والمسابقة الشاملة للمناضلة سنة للرجال المسلمين ؛ بقصد الجهاد بالإجماع ، ولقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)[الأنفال : ٦٠] الآية. وفسّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القوة بالرمي ؛ ولخبر أنس : كانت العضباء ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن حقا على الله ألّا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه»

(٤) انظر : السبعة ١٨٢ ، والكشف ١ / ٢٩١ ، والعنوان ٧٤ ، ووقع فيه : بالتاء [المثناة] وهو تحريف أو خطأ مطبعي.

وانظر : حجة القراءات ١٣٢ ، ١٣٣ ، والحجة ٢ / ٣٠٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٩ ، وشرح شعلة ٢٨٩ ، وإتحاف ١ / ٤٣٧.

٣٦

باعتبار ما يترتّب] على شربهما ممّا يصدر من شربها من الأقوال السّيئة ، والأفعال القبيحة.

وإمّا باعتبار ما يترتّب على تعاطيهما من توالي العقاب ، وتضعيفه.

وإمّا باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنبا إلى أن شربت ، فقد لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخمر ، ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها وغيرهما ، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة. وأيضا فإنّ قوله : «إثم» ، مقابل ل «منافع» ، و «منافع» جمع ، فناسب أن توصف مقابلة بمعنى الجمعيّة ، وهو الكثرة. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن ، وهو أن يذكر لكلّ قراءة توجيها من غير تعرّض لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم ، وقد تقدّم فصل صالح من ذلك في قراءتي : «ملك» ، و (مالِكِ) [الفاتحة : ٣].

وقال أبو البقاء (١) : الأحسن القراءة بالباء ، لأنه يقال : إثم كبير وصغير ، ويقال في الفواحش العظام : «الكبائر» ، وفيما دون ذلك «الصّغائر» وقد قرئ بالثّاء وهو جيد في المعنى ؛ لأنّ الكثرة كبر ، والكثير كبير ، كما أنّ الصّغير حقير ويسير.

وقرأ عبد الله (٢) ـ وكذلك هي في مصحفه ـ : «وإثمهما أكثر» بالمثلّثة ، وكذلك الأولى في قراءته ، ومصحفه.

فصل

دلّ قوله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) على تحريم الخمر كقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف : ٣٣] والإثم يستحق به ؛ فدلّ مجموع الآيتين على التّحريم ، وأيضا فإنّ الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به : ما يستحق به العقاب من الذّنوب ، وأيّهما كان ، فلا يصحّ أن يوصف به إلّا المحرّم.

وأيضا قد قال تعالى (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، فصرّح برجحان الإثم ، وذلك يوجب التّحريم.

فإن قيل : لا تدلّ الآية على أنّ شرب الخمر حرام ، بل تدلّ على أنّ فيه إثما ، فهب أنّ ذلك الإثم حرام ، فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم ؛ وجب أن يكون حراما؟

فالجواب أنّ السّؤال كان واقعا عن مطلق الخمر ، فلمّا بين تعالى أنّ فيه إثما ، كان المراد أنّ ذلك الإثم لازم له على جميع التّقديرات ، فكان شرب الخمر مستلزما لهذه الملازمة المحرّمة ، ومستلزم المحرّم محرّم ؛ فوجب أن يكون الشّرب محرّما.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٣.

(٢) انظر : الشواذ ١٣ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٩٤ ، والبحر المحيط ٢ / ١٦٧ ، والدر المصون ١ / ٥٣٧.

٣٧

فإن قيل هذه الآية لا تدلّ على حرمة الخمر لوجوه :

أحدها : أنّه تعالى أثبت فيها منافع للنّاس والمحرّم لا يكون فيه منفعة.

الثاني : لو دلّت الآية على حرمتها ، فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصّلاة؟

الثالث : أنّه أخبر أنّ فيها إثم كبير ، فمقتضاه أنّ ذلك الكبير ملازما لها ما دامت موجودة ، ولو كان ذلك سببا لحرمتها ؛ لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشّرائع.

فالجواب عن الأوّل : أنّ حصول النّفع فيها ليس مانعا من حرمتها ؛ لأن صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ.

وعلى الثاني : أنّا روينا عن ابن عباس أنّها نزلت في تحريم الخمر والتّوقف الذي ذكروه ، غير مرويّ عنهم ، وقد يجوز بطلب الكبار من الصّحابة نزول ما هو أكبر من هذه الآية في التّحريم كما التمس إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ مشاهدة إحياء الموتى ، ليزداد سكونا ، وطمأنينة.

وعن الثالث : أنّ قوله (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أنّ شرب الخمر مفسدة لهم ، وليس مفسدة للّذين من قبلهم.

فصل في بيان الإثم الكبير في الآية

الإثم الكبير في الخمر أمور :

أحدها : أنّه مزيل للعقل الذي هو أشرف صفات الإنسان ، وإذا كان الخمر عدوّا ، لا شرفا ؛ فيلزم أن يكون أخسّ الأمور ؛ وذلك لأن العقل إنّما سمّي عقلا أخذا من عقال النّاقة ، فإنّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح ، كان عقله مانعا من الإقدام عليه ، فإذا شرب الخمر بقي طبعه الدّاعي إلى فعل القبائح خاليا عن العقل العاقل له عن فعل القبيح.

ذكر ابن أبي الدنيا : أنّه مرّ على سكران ، وهو يبول في يده ، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضّئ ، ويقول : الحمد لله ، الذي جعل الإسلام نورا ، والماء طهورا.

وعن العبّاس (١) بن مرداس أنّه قيل له في الجاهليّة : لم لا تشرب الخمر ؛ فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي ، فأدخله في جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيّد قوم ، وأمسي سفيههم (٢).

وثانيها : ما ذكره الله ـ تعالى ـ من إيقاع العداوة ، والبغضاء ، والصّدّ عن ذكر الله ، وعن الصّلاة.

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ٤٠).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٣٨

وثالثها : أنّ هذه المعصية من خواصّها أنّ الإنسان إذا اشتغل بها وواظب عليها ، كان ميله ونفسه عليها أقوى ، بخلاف سائر المعاصي ، فإنّ الزّاني مثلا إذ فعل مرّة واحدة فترت رغبته ، وكلمّا زاد فعله ؛ كان فتوره أكثر ؛ بخلاف الشّرب فإنّه كلّما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليها ورغبته فيه أكثر ، فإذا واظب عليه ؛ صار غارقا في اللّذّات البدنيّة معرضا عن تذكر الآخرة ، حتّى يدخل في الّذين نسوا الله ، فأنساهم أنفسهم.

وبالجملة إذا زال العقل ؛ حصلت القبائح بأسرها ، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام : «اجتنبوا الخمر فإنّها أمّ الخبائث» (١). ويصدر عن الشّارب المخاصمة ، والمشاتمة وقول الفحش والزّور.

وأما الإثم الكبير في الميسر ، فإنّه يفضي إلى العداوة أيضا لما يجري بينهم من الشّتم ، والمنازعة ؛ لأنّه أكل مال بالباطل ، وذلك يورث العداوة ؛ لأنّ صاحبه إذا أخذ ماله مجّانا ؛ أبغضه جدّا ، وهو يشغل عن ذكر الله ، وعن الصّلاة أيضا.

وأمّا المنافع المذكورة فيهما ، فمنافع الخمر أنّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النّواحي ، وكان المشتري ، إذا ترك المماكسة في الثّمن ؛ كانوا يعدّون ذلك فضيلة ، ومكرمة ، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السّبب ، ومنها أنّها تقوّي الضّعيف ، وتهضم الطّعام ، وتعين على الباءة (٢) وتسلي المحزون ، وتشجّع الجبان ، وتسخي البخيل ، وتصفي اللّون وتنعش الحرارة الغريزيّة ، وتزيد من الهمّة ، والاستعلاء (٣). ومن منافع الميسر : التّوسعة على ذوي الحاجات ؛ لأنّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئا وإنما يفرّقه في المحتاجين ؛ وذكر الواقديّ (٤) أنّ الواحد كان ربّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعير ، فيحصل له مال من غير كدّ ، ولا تعب ، ثم يصرفه إلى المحتاجين ، فيكتسب فيه الثّناء ، والمدح ، وكانوا يشترون الجزور ، ويضربون سهامهم ، فمن خرج سهمه ؛ أخذ نصيبه من اللّحم ، ولا يكون عليه شيء من الثّمن ، ومن بقي سهمه آخرا ، كان عليه ثمن الجزور كلّه ، ولا يكون له من اللّحم شيء.

__________________

(١) أخرجه الدار قطني (٤ / ٢٤٧) والبيهقي (١ / ٢٨٧) والطبراني في «الكبير» (١١ / ١٦٤ ، ٢٠٣).

وانظر كنز العمال (١٣١٨١ ، ١٣١٨٢).

(٢) ليس للخمر أي أثر في تقوية الباءة ، بل على العكس كثيرا ما يسبب الارتخاء في الرجال ، والعقم عند النساء ، أما ما يحدث من التهيج للشهوة عند الشراب فهو أثر مؤقّت ينتج من ضعف الإرادة. «أثر الخمور في الجهاز الدوري والكلى» : يصاب المدمنون على الخمر عادة بتشحم القلب ، وتصلب الشرايين ، مما قد يؤدّي بهم إلى هبوط القلب ، وضعف الدورة الدموية ؛ كما يصابون كثيرا بالالتهاب الكلوي المزمن.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤١.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٣٩

قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) قرأ (١) أبيّ : «أقرب من نفعهما».

وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان إلى الفاعل ، لأنّ الخمر والميسر سببان فيهما ، فهما فاعلان ، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلّهما. وقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢١٥] قد تقدّم الكلام عليه. وقرأ أبو عمرو (٢) : «قل العفو» رفعا والباقون نصبا. فالرّفع على أنّ «ما» استفهامية ، و «ذا» موصولة ، فوقع جوابها مرفوعا خبرا لمبتدأ محذوف ، مناسبة بين الجواب والسّؤال والتّقدير : إنفاقكم العفو. والنّصيب على أنّهما بمنزلة واحدة ، فيكون مفعولا مقدّما ، تقديره : أيّ شيء ينفقون؟ فوقع جوابها منصوبا بفعل مقدّر للمناسبة أيضا ، والتّقدير : أنفقوا العفو. وهذا هو الأحسن ، أعني أن يعتقد في حال الرّفع كون «ذا» موصولة ، وفي حال النّصب كونها ملغاة. وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاة مع رفع جوابها ، وموصولة مع نصبه. وقد تقدم الكلام عليها مستوفى وإنما اختصرت القول هنا ؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [البقرة : ٢٦].

فصل

اعلم أنّ هذا السؤال ، قد تقدم ، وأجيب بذكر المصرف ، وهنا أجيب بذكر الكمية.

قال الواحدي (٣) رحمه‌الله : أصل العفو في اللّغة الزّيادة ، قال الله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ٩٥] ، أي : الزّيادة وقال : (حَتَّى عَفَوْا) [الأعراف : ٩٥].

وقال القفّال (٤) : العفو ما سهل وتيسّر ممّا فضل عن الكفاية ، وهو قول قتادة ، وعطاء ، والسّدّي (٥) ، وكانت الصّحابة يكتسبون المال ، ويمسكون قدر النّفقة ، ويتصدّقون بالفضل.

قال القرطبيّ (٦) : فالجواب خرج على وفق السّؤال ، فإنّ السّؤال الثّاني في هذه الآية على قدر الإنفاق ، وهو في شأن عمرو بن الجموح فإنّه لما نزل : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ٢١٥] قال : كم أنفق ؛ فنزل «قل العفو».

والعفو : ما سهل ، وتيسّر وفضل ، ولم يشقّ على القلب إخراجه ؛ قال الشّاعر : [الطويل]

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ٢ / ١٦٨ ، والدر المصون ١ / ٥٣٧.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ١٦٨ ، والدر المصون ١ / ٥٣٩.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٢.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٩٣.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ٤٢.

٤٠