اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٨

وأمّا الوصل : وهو العطف بين قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) ، وبين قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) ؛ فلأنّهما جملتان متغايرتان في كلّ منهما حكم ليس في الأخرى. ومنه أيضا إبراز الجملة الأولى مبتدأ وخبرا ، وجعل الخبر فعلا ؛ لأنّ الإرضاع مما يتجدّد دائما. وأضيفت الوالدات للأولاد ؛ تنبيها على شفقتهنّ ، وحثا لهنّ على الإرضاع.

وجيء بالوالدات بلفظ العموم ، وإن كان جمع قلّة ؛ لأنّ جمع القلّة متى حلّي بأل ، عمّ ، وكذلك «أولادهنّ» عام ؛ لإضافته إلى ضمير العامّ ، وإن كان ـ أيضا ـ جمع قلّة.

وفيها أيضا إبراز الجملة الثانية مبتدأ وخبرا ، والخبر جارّ ومجرور بحرف «على» الدالّ على الاستعلاء المجازيّ في الوجوب ، وقدّم الخبر ؛ اعتناء به. وقدّم الرزق على الكسوة ؛ لأنه الأهمّ في بقاء الحياة ، ولتكرره كل يوم.

وأبرزت الثالثة فعلا ، ومرفوعه ، وجعل مرفوعه نكرة في سياق النفي ؛ ليعمّ ، ويتناول ما سبق لأجله من حكم الوالدات في الإرضاع ، والمولود له في الرزق ، والكسوة الواجبتين عليه للوالدة.

وأبرزت الرابعة كذلك ؛ لأنّها كالإيضاح لما قبلها ، والتفصيل بعد الإجمال ؛ ولذلك لم يعطف عليها كما ذكرته لك. ولمّا كان تكليف النفس فوق الطاقة ، ومضارّة أحد الزوجين للآخر ممّا يتكرّر ويتجدّد ، أتى بهاتين الجملتين فعليتين ، وأدخل عليهما حرف النّفي وهو «لا» ؛ لأنه موضوع للاستقبال غالبا.

وأمّا في قراءة من جزم ، فإنّها ناهية ، للاستقبال فقط ، وأضاف الولد إلى الوالدة والمولود له ؛ تنبيها على الشفقة والاستعطاف ، وقدّم ذكر عدم مضارّة الوالدة على ذكر عدم مضارة الوالد ؛ مراعاة لما تقدّم من الجملتين ، إذ قد بدأ بحكم الوالدات وثنّى بحكم الوالد.

قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) هذه جملة من مبتدأ وخبر ، قدّم الخبر ؛ اهتماما ، ولا يخفى ما فيها ، وهي معطوفة على قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) وما بينهما اعتراض ؛ لأنه كالتّفسير لقوله : «بالمعروف» كما تقدّم التنبيه عليه.

والألف واللّام في «الوارث» بدل من الضّمير عند من يرى ذلك ، ثم اختلفوا في ذلك الضّمير هل يعود على المولود له ، وهو الأب ، فكأنه قيل : وعلى وارثه ، أي : وارث المولود له ، أو يعود على الولد نفسه ، أي : وارث الولد؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث.

وقرأ يحيى بن يعمر (١) : «الورثة» بلفظ الجمع ، والمشار إليه بقوله : «مثل ذلك» إلى

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣١٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٢٦ ، والدر المصون ١ / ٥٧٣.

١٨١

الواجب من الرزق والكسوة ، وهذا أحسن من قول من يقول : أشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحد للاثنين ؛ كقوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨]. وإنما كان أحسن ؛ لأنه لا يحوج إلى تأويل ، وقيل : المشار إليه هو عدم المضارّة ، قاله الشعبيّ ، والزهري ، والضحاك ، وقيل: منهما وهو قول الجمهور.

وقيل : أجرة المثل.

فصل في المراد ب «الوارث»

في المراد ب «الوارث» أربعة أقوال :

أحدها : قال ابن عباس (١) : المراد وارث الأب ؛ لأنّ قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) معطوف على قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وما بينهما اعتراض لبيان المعروف ، والمعنى أنّ المولود له إن مات ، فعلى وارثه مثل ما وجب عليه ، أي : يقوم وارثه مقامه في رزقها وكسوتها بالمعروف وتجنّب الإضرار.

قال أبو مسلم الأصبهانيّ (٢) : وهذا ضعيف ؛ لأنّ الولد أيضا يرثه فيؤدّي ذلك إلى وجوب نفقته على غيره حال ما له مال ينفق منه ، وهذا غير جائز.

قال ابن الخطيب (٣) : ويمكن أن يجاب بأنّ الصبيّ إذا ورث من أبيه مالا ، فإنّه يحتاج إلى من يقوم بتعهّده والنّفقة عليه بالمعروف ، ويدفع الضّرر عنه ، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب.

القول الثاني : أنّ المراد وارث الصبيّ ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجبا على الأب ، هذا قول الحسن ، وقتادة ، وأبي مسلم ، والقاضي ، ثم اختلفوا في أنه أيّ وارث هو؟ فقيل : العصبات من الرّجال ، وهو قول عمر بن الخطّاب ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسفيان ، وإبراهيم (٤).

وقيل : هو وارث الصبيّ من الرّجال والنساء على قدر مواريثهم منه ، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى (٥) ، ومذهب أحمد وإسحاق.

وقيل : المراد من كان ذا رحم محرم دون غيرهم ؛ كابن العمّ والمولى ، وهو قول أبي حنيفة(٦).

وظاهر الآية يقتضي ألّا فرق بين وارث ووارث ، ولو لا أن الأمّ خرجت من حيث إنّه أوجب الحقّ لها ، لصحّ دخولها تحت الكلام ؛ لأنّها قد تكون وارثة للصبيّ كغيرها.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٤.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٥ ـ ٥٦).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤ ذ ـ ٥٥) عن قتادة.

(٦) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٤.

١٨٢

القول الثالث : المراد من الوارث الباقي من الأبوين ، كما جاء في الدعاء : «واجعله الوارث منّا» (١) أي : الباقي ، وهو قول سفيان (٢) وجماعة.

القول الرابع : المراد الصبيّ نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفّى ، فإن كان له مال ، وجب أجرة رضاعه في ماله ، وإن لم يكن له مال ، فعلى الأمّ ، ولا يجبر على نفقة الصبيّ إلّا الوالدان ، وهو قول مالك والشافعيّ.

قوله : «فإن أرادا فصالا».

في الفصال قولان :

أحدهما : أنّه الفطام ؛ لقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] وإنّما سمي الفطام بالفصال ؛ لأنّ الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمّه إلى غيره من الأقوات.

والثاني : قال أبو مسلم (٣) : ويحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأمّ ، إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ، ولم يرجع بسبب ذلك ضرر إلى الولد.

قال المبرّد : والفصال ، يقال : فصل الولد عن الأمّ فصلا وفصالا ، والفصال أحسن ؛ لأنّه إذا انفصل عن أمّه ، فقد انفصلت منه ، فبينهما فصال ، نحو القتال والضّراب ، وسمّي الفصيل فصيلا ؛ لأنّه مفصول عن أمّه ؛ ويقال : فصل من البلد ، إذا خرج عنها وفارقها ؛ قال تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) [البقرة : ٢٤٩] ، وحمل الفصال على الفطام هو قول أكثر المفسرين (٤).

اعلم أنّه لمّا بيّن تمام مدّة الرضاع بقوله : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) وجب حمل هذه الآية على غير ذلك ، حتى لا يلزم التّكرار ، واختلفوا في ذلك : فمنهم من قال : إنّها تدلّ على جواز الفطام قبل الحولين وبعدهما ، وهو مرويّ عن ابن عبّاس (٥).

قوله تعالى : (عَنْ تَراضٍ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلّق بمحذوف ؛ إذ هو صفة ل «فصالا» فهو في محلّ نصب ، أي : فصالا كائنا عن تراض ، وقدّره الزمخشريّ : صادرا عن تراض ، وفيه نظر من حيث كونه كونا مقيّدا.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٨٤) كتاب الدعوات : باب (٦٧) حديث (٣٤٨٠) من طريق حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة به وقال الترمذي : حسن غريب سمعت محمدا يقول حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئا.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٥.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٥.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٥.

١٨٣

والثاني : أنه متعلق ب «أرادا» ، قاله أبو البقاء (١) ، ولا معنى له إلّا بتكلّف. والفصال ، والفصل : الفطام ، وأصله التفريق ، فهو تفريق بين الصبيّ والثّدي ، ومنه سمّي الفصيل ؛ لأنّه مفصول عن أمه.

و «عن» للمجاوزة مجازا ؛ لأنّ التّراضي معنّى ، لا عين.

و «تراض» مصدر تفاعل ، فعينه مضمومة ، وأصله : تفاعل تراضو ، ففعل فيه ما فعل ب «أدل» جمع دلو ، من قلب الواو ياء ، والضمة قلبها كسرة ، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفا.

قوله تعالى : «منهما» في محلّ جرّ صفة ل «تراض» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : تراض كائن أو صادر منهما ، و «من» لابتداء الغاية.

وقوله : «وتشاور» [حذفت «منهما» لدلالة ما قبلها عليها ، والتقدير : وتشاور منهما] ، ويحتمل أن يكون التّشاور من أحدهما ، مع غير الآخر ؛ لتتفق الآراء منهما ، ومن غيرهما على المصلحة.

قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) الفاء جواب الشّرط ، وقد تقدّم نظير هذه الجملة ، ولا بدّ قبل هذا الجواب من جملة قد حذفت ؛ ليصحّ المعنى بذلك ، تقديره : ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه ، فلا جناح عليهما في الفصال ، أو في الفصل.

فصل في التشاور

التشاور في اللّغة : استخراج الرّأي ، وكذلك المشورة كالمعونة ، وشرت العسل ، إذا استخرجته.

وقال أبو زيد : شرت الدّابّة ، وشوّرتها ، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابّ ، يقال له : الشّوار ، والشّوار بالفتح متاع البيت ؛ لأنّه يظهر للنّاظر ، ويقال : شوّرته فتشوّر ، أي : خجلته ، والشّارة : هيئة الرّجل ؛ لأنّه ما يظهر من زينته ويبدو منها ، والإشارة : إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنّطق وغيره.

فصل في مدة الفطام

دلّت الآية على أن الفظام في أقلّ من حولين لا يجوز إلّا عند رضا الوالدين ، وعند المشاورة مع أرباب التّجارب ، وذلك لأنّ الأمّ قد تملّ من الرّضاع فتحاول الفطام ؛ والأب أيضا قد يملّ من عطاء الأجرة على الإرضاع ، فيحاول الفطام ؛ دفعا لذلك ، لكنهما قلّما يتوافقان على الإضرار بالولد ؛ لغرض النّفس ، ثم بتقدير توافقهما : اعتبر

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٨.

١٨٤

المشاورة مع غيرهما ، وعند ذلك يبعد حصول موافقة الكلّ على ما يكون فيه ضرر الولد ، فعند اتّفاق الكلّ على أنّ الفطام قبل الحولين لا يضرّ الولد ألبتّة يجوز الفطام.

فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير ، كم شرط في جواز فطامه من الشروط ؛ دفعا للمضارّ عنه ، ثم عند اجتماع هذه الشّرائط لم يصرّح بالإذن ، بل قال : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما).

قوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ).

«أن» وما في حيّزها في محلّ نصب ، مفعولا ب «أراد» وفي «استرضع» قولان للنّحويين :

أحدهما : أنه يتعدّى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجرّ ، والتقدير : أن تسترضعوا المراضع لأولادكم ، فحذف المفعول الأوّل وحرف الجر من الثاني ، فهو نظير «أمرت الخير» ، ذكرت المأمور به ، ولم تذكر المأمور ؛ لأنّ الثاني منهما غير الأوّل ، وكلّ مفعولين كانا كذلك ، فأنت فيهما بالخيار بين ذكرهما وحذفهما ، وذكر الأوّل ، دون الثاني والعكس.

قال الواحديّ : (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) ، أي : لأولادكم وحذف اللام ، اجتزاء بدلالة الاسترضاع (١) ؛ لأنّه لا يكون إلّا للأولاد ، ولا يجوز : «دعوت زيدا» وأنت تريد لزيد ؛ لأنّه لا يلتبس (٢) ها هنا خلاف ما قلنا في الاسترضاع ، ونظير حذف «اللّام» قوله تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين : ٣] أي : كالوا لهم ، أو وزنوا لهم.

والثاني : أنه متعدّ إليهما بنفسه ، ولكنه حذف المفعول الأول ، وهذا رأي الزمخشريّ ، ونظّر الآية الكريمة بقولك : «أنجح الحاجة» «واستنجحته الحاجة» وهذا يكون نقلا بعد نقل ؛ لأنّ الأصل «رضع الولد» ، ثم تقول : «أرضعت المرأة الولد» ، ثم تقول : «استرضعتها الولد» ؛ هكذا قال أبو حيّان.

قال شهاب الدين : وفيه نظر ؛ لأنّ قوله «رضع الولد» يشعر أنّ هذا لازم ، ثم عدّيته بهمزة النقل ، ثم عدّيته ثانيا بسين الاستفعال ، وليس كذلك ، لأنّ «رضع الولد» متعدّ ، غاية ما فيه أنّ مفعوله غير مذكور ، وتقديره : رضع الولد أمّه ؛ لأنّ المادّة تقتضي مفعولا به ؛ كضرب ، وأيضا فالتعدية بالسين قول مرغوب عنه ، والسين للطلب على بابها ؛ نحو : استسقيت زيدا ماء ، واستطعمته خبزا ؛ فكما أنّ ماء وخبزا منصوبان ، لا على إسقاط الخافض كذلك «أولادكم» ، وقد جاء [استفعل] للطّلب ، وهو معدّى إلى الثاني بحرف جرّ ، وإن كان «أفعل» الذي هو أصله متعدّيا لاثنين ، نحو : «أفهمني زيد المسألة» واستفهمته عنها ، ويجوز حذف «عن» ، فلم يجئ مجيء «استسقيت» و «استطعمت» من كون ثانيهما منصوبا ، لا على إسقاط الخافض.

__________________

(١) في ب : الاسترجاع.

(٢) في ب : يريد.

١٨٥

وفي هذا الكلام التفات وتلوين ، أمّا الالتفات : فإنه خروج من ضمير الغيبة في قوله : «فإن أرادوا» إلى الخطاب في قوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ) ؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات ، وأمّا التلوين في الضمائر ، فإنّ الأول ضمير تثنية ، وهذا ضمير جمع ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضا ؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولود له ، ولكنه غلّب المذكّر ، وهو المولود له ، وإن كان مفردا لفظا ، و (فَلا جُناحَ) جواب الشرط.

قوله : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ) «إذا» شرط حذف جوابه ؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه ، قال أبو البقاء (١) : وذلك المعنى هو العامل في «إذا» وهو متعلّق بما تعلّق به «عليكم» ، وهذا خطأ في الظاهر ؛ لأنه جعل العامل فيها أولا ذلك المعنى المدلول عليه بالشّرط الأوّل وجوابه ، فقوله ثانيا «وهو متعلّق بما تعلّق به عليكم» تناقض ، اللهم إلا أن يقال : قد يكون سقطت من الكاتب ألف ، وكان الأصل «أو هو متعلّق» فيصحّ ، إلّا أنه إذا كان كذلك ، تمحّضت «إذا» للظرفية ، ولم تكن للشرط ، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطية في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه.

وليس التّسليم شرطا للجواز والصحّة ، وإنّما هو ندب إلى الأولى ، والمقصود منه أن يسلّم الأجرة إلى المرضعة يدا بيد ، حتى تطيب نفسها ، ويصير ذلك سببا لصلاح حال الطّفل ، والاحتياط في مصالحه.

وقرأ الجمهور : «آتيتم» بالمدّ هنا وفي الرّوم : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) [الروم : ٣٩] وقصرهما ابن كثير (٢). وروى شيبان (٣) عن عاصم «أوتيتم» مبنيّا للمفعول ، أي : ما أقدركم الله عليه ، فأمّا قراءة الجمهور ، فواضحة ؛ لأنّ «آتى» بمعنى «أعطى» ، فهي تتعدّى لاثنين ، أحدهما ضمير يعود على «ما» الموصولة ، والآخر ضمير يعود على المراضع ، والتقدير : ما آتيتموهنّ إيّاه ، ف «هنّ» هو المفعول الأوّل ؛ لأنه الفاعل في المعنى ، والعائد هو الثاني ؛ لأنه هو المفعول في المعنى ، والكلام على حذف هذا الضمير ، وهو منفصل قد تقدّم ما عليه من الإشكال ، والجواب عند قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣].

وأمّا قراءة القصر ، فمعناها جئتم وفعلتم يقال : أتيت جميلا ، إذا فعلته ؛ قال زهير : [الطويل]

١١٢٩ ـ وما كان من خير أتوه فإنّما

توارثه آباء آبائهم قبل (٤)

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٨.

(٢) ينظر : السبعة ١٨٣ ، والحجة ٢ / ٣٣٥ ، والعنوان ٧٤ ، وحجة القراءات ١٣٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٠٣ ، وشرح شعلة ٢٩١ ، وإتحاف ١ / ٤٤٠.

(٣) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٢٩ ، والدر المصون ١ / ٥٧٥.

(٤) ينظر ديوانه ١١٥ ، القرطبي ٣ / ١٧٣ ، الدر المصون ١ / ٥٧٥.

١٨٦

أي : فعلوه ، والمعنى : إذا سلّمتم ما جئتم وفعلتم.

فعلى هذه القراءة يكون التّسليم بمعنى الطّاعة ، والانقياد ، لا بمعنى تسليم الأجرة ، يعني : إذا سلّمتم لأمره وانقدتم لحكمه.

وقال أبو عليّ : ما أتيتم نقده أو إعطاءه ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو عائد الموصول ، فصار : آتيتموه ، أي : جئتموه.

وأما قراءة عاصم ، فمعناها : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، وهو في معنى قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧].

ثم حذف عائد الموصول ، وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير : ما جئتم به ، فحذف ، يعني : حذف على التّدريج بأن حذف حرف الجرّ أولا ؛ فاتّصل الضمير منصوبا بفعل ، فحذف.

و «ما» فيها وجهان :

أظهرهما : أنها بمعنى «الّذي» وأجاز أبو عليّ فيها أن تكون موصولة حرفيّة ، ولكن ذكر ذلك مع قراءة القصر خاصّة ، والتقدير : إذا سلّمتم الإتيان ، وحينئذ يستغنى عن ذلك الضّمير المحذوف ، ولا يختصّ ذلك بقراءة القصر ، بل يجوز أن تكون مصدريّة مع المدّ أيضا ؛ على أن المصدر واقع موقع المفعول ، تقديره : إذا سلّمتم الإعطاء ، أي : المعطى.

والظاهر في «ما» أن يكون المراد بها الأجرة التي تتعاطاها المرضع ، والخطاب على هذا في قوله : «سلّمتم» و «آتيتم» للآباء خاصّة ، وأجازوا أن يكون المراد بها الأولاد ، قاله قتادة والزهري ، وفيه نظر ؛ من حيث وقوعها على العقلاء ؛ وعلى هذا فالخطاب في «سلّمتم» للآباء والأمّهات.

قوله تعالى : «بالمعروف» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلّق ب «سلّمتم» أي : بالقول الجميل.

والثاني : أن يتعلّق ب «آتيتم».

والثالث : أن يكون حالا من فاعل «سلّمتم» ، أو «آتيتم» ، فالعامل فيه حينئذ محذوف ، أي : ملتبسين بالمعروف.

فصل

قد تقدّم أنّ الأمّ أحقّ بالرّضاع ، فإن حصل ثمّ مانع عن ذلك ، جاز العدول عنها إلى غيرها ، مثل أن تتزوّج بزوج آخر ، فإنّ قيامها بحقّ ذلك الزوج يمنعها من الرّضاع.

ومنها : إذا طلّقها الزوج الأوّل ، فقد تكره الرّضاع ؛ حتى يتزوّج بها زوج آخر.

ومنها : أن تأبى المرأة إرضاع الولد ؛ إيذاء للزّوج المطلّق وإيحاشا له.

١٨٧

ومنها : أن تمرض ، أو ينقطع لبنها.

فعند أحد هذه الوجوه ، إذا وجدنا مرضعة أخرى ، وقبل الطفل لبنها ، جاز العدول عن الأمّ إلى غيرها.

فأمّا إذا لم نجد مرضعة أخرى أو وجدناها ، لكنّ الطفل لا يقبل لبنها ، فها هنا الإرضاع واجب على الأمّ.

ثم إنّه تعالى ختم الآية بالتّحذير ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(٢٣٤)

في «الّذين» أوجه :

أحدها : أنّها مبتدأ لا خبر له ، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنّ به ؛ لأنّ الحديث معهنّ في الاعتداد ، فجاء الخبر عن المقصود ، إذ المعنى : من مات عنها زوجها ، تربّصت ، وإليه ذهب الكسائيّ والفراء (١) ؛ وأنشد الفراء : [الطويل]

١١٣٠ ـ لعلّي إن مالت بي الرّيح ميلة

على ابن أبي ذبّان أن يتندّما (٢)

فقال : «لعلّي» ثم قال : «أن يتندّم» فأخبر عن ابن أبي ذبّان ، فترك المتكلم ؛ إذ التقدير : لعلّ ابن أبي ذبّان أن يتندّم إن مالت بي الرّيح ميلة. وقال آخر : [الطويل]

١١٣١ ـ بني أسد إنّ ابن قيس وقتله

بغير دم دار المذلّة حلّت (٣)

فأخبر عن قتله بأنه دار مذلّة ، وترك الإخبار عن ابن قيس (٤).

وتحرير مذهب الكسائيّ والفرّاء : أنه إذا ذكر اسم ، وذكر اسم مضاف إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول ، وأخبر عن الثاني ؛ نحو : «إنّ زيدا وأخته منطلقة» ، المعنى : إن أخت زيد منطلقة ، لكنّ الآية الكريمة والبيت الأول ليسا من هذا الضّرب ، وإنما الذي أورده شبيها بهذا الضرب. قوله : [الوافر]

١١٣٢ ـ فمن يك سائلا عنّي فإنّي

وجروة لا ترود ولا تعار (٥)

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٥١.

(٢) ينظر : معاني الفراء ١ / ١٥٠ ، الطبري ٢ / ٥٢٥ ، البحر ٢ / ٢٣٢ والدر المصون ١ / ٥٧٦.

(٣) ينظر الطبري ٥ / ٧٨ ، الصاحبي ١٨٥ ، البحر ٢ / ٢٣٢ ، الدر المصون ١ / ٥٧٦.

(٤) في الأصل : بني أسد وهو سبق قلم.

(٥) البيت لشداد العبسي ينظر الكتاب ١ / ١٥٢ ، البحر ٢ / ١٣٢ الأغاني ١٦ / ٣٢ ، الارتشاف ٢ / ٣٢ ، النقائض (٩٧) ، اللسان : جبر ، الدر المصون ١ / ٥٧٦.

١٨٨

وأنكر المبرد والزجاج ذلك ؛ قالا : لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال ، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله.

الثاني : أنّ له خبرا اختلفوا فيه على وجوه :

أحدها : أنه «يتربّصن» ، ولا بدّ من حذف يصحّح وقوع هذه الجملة خبرا عن الأول ؛ لخلوّها من الرابط ، والتقدير : وأزواج الّذين يتوفّون يتربّصن ؛ ويدلّ على هذا المحذوف قوله : (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه. والتقدير : يتربّصن بعدهم ، أو بعد موتهم ، قاله الأخفش (١).

وثالثها : أنّ «يتربّصن» خبر لمبتدأ محذوف ، التقدير : أزواجهم يتربّصن ، وهذه الجملة خبر عن الأوّل ، قاله المبرّد.

ورابعها : أنّ الخبر محذوف بجملته قبل المبتدأ ، تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفّون ، ويكون قوله «يتربّصن» جملة مبيّنة للحكم ، ومفسّرة له ، فلا موضع لها من الإعراب ، ويعزى هذا لسيبويه.

قال ابن عطيّة : وحكى المهدويّ عن سيبويه أنّ المعنى : «وفيما يتلى عليكم الذين يتوفّون» ، ولا أعرف هذا الذي حكاه ؛ لأنّ ذلك إنما يتّجه إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد المبتدأ ، نحو قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) [المائدة : ٣٨] (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) [النور : ٢] وهذه الآية فيها معنى الأمر ، لا لفظه ، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر.

وخامسها : أن بعض الجملة قام مقام شيء مضاف إلى عائد المبتدأ ، والتقدير : «والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يتربّص أزواجهم» فحذف «أزواجهم» بجملته ، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنّ بقيد إضافتهنّ إلى ضمير المبتدأ.

وقال القرطبيّ : المعنى : والرّجال الّذين يموتون منكم» «ويذرون» ـ أي : يتركون ـ «أزواجا» ـ أي : ولهم زوجات ـ فالزّوجات «يتربّصن» قال معناه الزّجّاج واختاره النّحاس ، وحذف المبتدأ في القرآن كثير ، قال تعالى : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) [الحج : ٧٢] أي هو النّار.

وقرأ الجمهور «يتوفّون» مبنيّا لما لم يسمّ فاعله ، ومعناه : يموتون ويقبضون ؛ قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] ، وأصل التوفي أخذ الشيء وافيا كاملا ، فمن مات ، فقد وجد عمره وافيا كاملا.

__________________

(١) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٧٦.

١٨٩

وقرأ (١) علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ورواها المفضّل عن عاصم ـ بفتح الياء على بنائه للفاعل ، ومعناه : يستوفون آجالهم ، قاله الزمخشريّ.

ويحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازة ، فقال له رجل : من المتوفّي؟ بكسر الفاء ، فقال: الله ، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ على أن أمره بوضع كتاب في النّحو.

وقد تقدّم البحث في قوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وهل «بأنفسهنّ» تأكيد أو لا؟ وهل نصب «قروء» على الظرف ، أو المفعوليّة؟ وهو جار ها هنا.

قوله : «منكم» في محلّ نصب على الحال من مرفوع «يتوفّون» والعامل فيه محذوف ، تقديره : حال كونهم منكم ، و «من» تحتمل التبعيض وبيان الجنس والأزواج ها هنا.

فصل في معنى «التربص»

و «التّربّص» : التأنّي والتصبّر عن النّكاح ، وترك الخروج عن مسكن النكاح بألّا تفارقه ليلا ، ولم يذكر الله تعالى السّكنى للمتوفّى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلّقة بقوله : (أَسْكِنُوهُنَ) [الطلاق : ١] ، وليس في لفظ العدّة في القرآن ما يدلّ على الإحداد (٢) وإنما قال : «يتربّصن» فبينت السّنّة جميع ذلك.

__________________

(١) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٣١٤ ، والبحر المحيط ٢ / ٣٢٣ ، ونسبها أبو حيان إلى علي والمفضل عن عاصم.

وانظر : الدر المصون ١ / ٥٧٧.

(٢) الإحداد مأخوذ من الحد وهو المنع ، يقال : حددت الرجل من كذا ، إذا منعته ، ومنه الحدود الشرعية ، لأنها تمنع من ارتكاب سببها ويقال للبواب : حداد أي : مانع ، ويقال : مزيدا ومجردا ؛ أحدت وحدت.

وفي الشرع : قال ابن عرفة : ترك ما هو زينة ولو مع غيره ، فيدخل فيه ترك الخاتم فقط للمبتذلة ، وقوله مع غيره ، معناه : أن ترك ما هو زينة وحده أي ما تتزين به كثوب الزينة وحده واجب ؛ وكذا ما تتزين به مع غيره ، فيدخل في ذلك من كان لها خاتم فقط ، وهي مبتذلة ولا زينة لها فيجب عليها طرح الخاتم ولو حديدا اه من الخرشي قال العلامة العدوي : هذا التعريف غير مانع لشموله من تركت ما هو زينة ، وهي غير معتدة ، سواء كانت ذات زوج أو لا ، مع أنه ليس من الإحداد ولو قال في التعريف : ترك ما هو زينة ، ولو مع غيره لزوجة مات زوجها المسلم ـ لسلم من ذلك اه.

واعلم أن الأصل فيه حديث الصحيحين : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ، أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» أي : فإنه يحل لها الإحداد عليه ، أي : يجب ؛ للإجماع على إرادته والتقييد بالإيمان جرى على الغالب ، وإلا فالكتابية كذلك إذا مات زوجها المسلم.

اعلم أنه يجب على المرأة الكبيرة في عدة الوفاة دون الطلاق ترك التزين ، وعلى ولي الصغيرة أن يجنبها ما تتجنبه الكبيرة ، ولا فرق بين أن تكون مسلمة أو كتابية مات زوجها المسلم أن تحقق موته ، بل وإن كان مفقودا فإن زوجته تعتد عدة وفاة ، وتترك التزين مدة العدة لأنه ميت حكما.

١٩٠

قوله : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) إنما قال «عشرا» من غير تاء تأنيث في العدد والمراد عشرة أيام ؛ لوجوه :

الأول : أنّ المراد «عشر ليال» مع أيامها ، وإنما أوثرت الليالي على الأيام في التاريخ لسبقها ؛ قال الزمخشريّ : «وقيل «عشرا» ذهابا إلى الليالي ، والأيام داخلة فيها ، ولا تراهم قطّ يستعملون التذكير ذاهبين فيه إلى الأيام ، تقول : «صمت عشرا» ، ولو ذكّرت خرجت من كلامهم ، ومن البيّن قوله تعالى : (إِلَّا عَشْراً) [طه : ١٠٣] ، (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه : ١٠٤].

الثاني : قال المبرّد : إنّ حذف التاء ؛ لأجل أنّ التقدير عشر مدد كلّ مدة منها يوم وليلة ، تقول العرب : «سرنا خمسا» أي : بين يوم وليلة ؛ قال : [الطويل]

١١٣٣ ـ فطافت ثلاثا بين يوم وليلة

وكان النّكير أن تضيف وتجأرا (١)

والثالث : أنّ المعدود مذكر وهو الأيام ، وإنما حذفت التاء ؛ لأنّ المعدود المذكر ، إذا ذكر وجب لحاق التاء في عدده ؛ قالوا «صمنا خمسة أيّام» ، وإذا حذف لفظا ، جاز في العدد الوجهان : ذكر التاء وعدمها ، حكى الكسائيّ : «صمنا من الشّهر خمسا» ، ومنه الحديث : «وأتبعه بستّ من شوّال» ، وقال الشاعر : [الطويل]

١١٣٤ ـ وإلّا فسيري مثل ما سار راكب

تيمّم خمسا ليس في سيره أمم (٢)

نصّ النحويون على ذلك.

قال أبو حيّان : «فلا يحتاج إلى تأويلها بالليالي ولا بالمدد ؛ كما قدّره الزّمخشريّ والمبرّد على هذا» ، قال : «وإذا تقرر هذا ، فجاء قوله : «وعشرا» على أحد الجائزين ، وإنما حسن حذف التاء هنا ؛ لأنه مقطع كلام ، فهو شبيه بالفواصل ؛ كما حسّن قوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) [طه : ١٠٣] كونه فاصلة ، فقوله : «ولو ذكّرت لخرجت من كلامهم» ليس كما ذكر ، بل هو الأفصح ، وفائدة ذكره (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) بعد قوله «إلّا عشرا» أنه على زعمه أراد الليالي ، والأيام داخلة معها ، فقوله «إلّا يوما» دليل على إرادة الأيّام». قال أبو حيان : «وهذا عندنا يدلّ على أنّ المراد بالعشر الأيّام ؛ لأنهم اختلفوا في مدّة اللّبث ، فقال بعضهم : «عشرا» وقال بعضهم : «يوما» فدلّ على أنّ المقابل باليوم إنما هو أيام ؛ إذ لا يحسن في المقابلة أن يقول بعضهم : عشر ليال ، فيقول البعض : يوم».

الرابع : أنّ هذه الأيّام [أيّام حزن ومكروه ، ومثل هذه الأيّام](٣) تسمّى بالليالي على

__________________

(١) البيت للنابغة الجعدي ينظر ديوانه ٦٤ ، الكتاب ٢ / ١٧٤ ، البحر ٢ / ٣٣ ، المقرب ١ / ٣١١ ، الدر المصون ١ / ٥٧٧.

(٢) ينظر : البحر ٢ / ٢٣٤ ، الدر المصون ١ / ٥٧٨.

(٣) سقط في ب.

١٩١

سبيل الاستعارة ؛ كقولهم : «خرجنا ليالي الفتنة ، وجئنا ليالي إمارة الحجّاح».

الخامس : أنّ المراد بها الليالي ، وإليه ذهب الأوزاعيّ وأبو بكر الأصمّ ، وبعض الفقهاء قالوا : إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال ، حلّت للأزواج (١).

فصل

لما ذكر الله تعالى عدّة الطلاق ، واتصل بذكرها ذكر الرّضاع ، ذكر عدّة الوفاة أيضا ؛ لئلّا يتوهّم أن عدة الوفاة مثل عدّة الطلاق.

فصل فيمن تستثنى من هذه العدّة

هذه العدّة واجبة على كلّ امرأة مات عنها زوجها ، إلّا في صورتين :

الأولى : أن تكون أمة ، فإنّها تعتدّ عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرّة.

وقال أبو بكر الأصمّ (٢) : عدتها عدّة الحرّة ؛ لظاهر هذه الآية ، ولأن الله تعالى جعل وضع الحمل في حقّ الحامل بدلا عن هذه المدّة ؛ فوجب أن يشتركا فيه.

وأجاب الفقهاء بأنّ التنصيف في هذه المدة ممكن ، وفي وضع الحمل غير ممكن ، فظهر الفرق (٣).

الصوّرة الثانية : أن تكون حاملا ، فعدّتها بوضع الحمل ، ولو كان بعد وفاة الزّوج بلحظة.

وعن عليّ ـ رضي الله عنه ـ : أن تتربّصن بأبعد (٤) الأجلين.

واستدلّ الجمهور بقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق: ٤].

فإن قيل : هذه الآية إنما وردت عقيب ذكر المطلّقات ؛ [فيكون للمطلّقات](٥) لا للمتوفّى عنها زوجها.

فالجواب : أنّ دلالة الاقتران ضعيفة ، والاعتبار إنّما هو بعموم اللفظ.

وأيضا : قال عبد الله بن مسعود (٦) : «أنزلت سورة النّساء القصرى بعد الطّولى» أراد بالقصرى «سورة الطّلاق» ، وبالطّولى «سورة البقرة» ، وأراد به قوله تعالى في سورة الطلاق : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) نزلت بعد قوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فحمله على الفسخ ، وعامّة الفقهاء خصّوا الآية بحديث سبيعة ، وهو ما

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٨.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٨.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) في ب : بعد.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٥١.

١٩٢

روي في «الصّحيحين» : أنّ سبيعة الأسلميّة كانت تحت سعد بن خولة ، فتوفّي عنها في حجّة الوداع ، وهي حامل ، فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر ، فلمّا طهرت من دمها تجمّلت للخطّاب ، فدخل عليها أبو السّنابل بن بعكك ، رجل من بني عبد الدّار ، فقال لها : ما لي أراك متجمّلة ، لعلّك تريدين النّكاح ، والله ما أنت بناكح حتّى تمرّ عليك أربعة أشهر وعشر ، قالت سبيعة : فسألت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، قالت : فأفتاني بأنّي قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتّزويج ، إن بدا لي (١).

ولا فرق في عدّة الوفاة بين الصّغيرة والكبيرة ، وقال ابن عبّاس : لا عدّة عليها قبل الدّخول(٢).

فصل في عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها

اختلفوا في عدّة أمّ الولد ، إذا توفّي عنها سيّدها ، فقال سعيد بن المسيّب ، والزّهريّ ، والحسن البصريّ (٣) ، وجماعة : عدّتها أربعة أشهر وعشر ، وبه قال الأوزاعيّ ، وإسحاق.

وروي عن عليّ ، وابن مسعود : أن عدّتها ثلاث حيض ، وهو قول عطاء وإبراهيم النّخعيّ وسفيان الثوريّ وأصحاب الرّأي.

قال مالك : لا تنقضي عدّتها في هذه المدّة حتى ترى عادتها من الحيض في تلك المدّة ، مثل إن كانت عادتها أن تحيض في كلّ شهر فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كلّ أربعة أشهر مرّة ، فها هنا يكفيها الشّهور ، وهذا خلاف ظاهر الآية ، فإن ارتابت ، استبرأت نفسها من الرّيبة ؛ كما أنّ ذات الأقراء ، لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط.

فصل

إذا مات الزوج ، وقد بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيّام ، فالشّهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ (٤) بالأهلّة ، سواء خرجت ناقصة أو كاملة ، ثم تكمل الشهر الأوّل من الخامس ثلاثين يوما ، ثم تضمّ إليها عشرة أيّام.

وإن مات ، وقد بقي من الشهر أقلّ من عشرة أيام ، اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلّة ، وكمل العشرين من الشّهر السادس.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨) ومسلم (٤ / ٢٠١) ومالك (٢ / ٥٩٠) رقم (٨٦) والنسائي (٢ / ١١١) والترمذي (١ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥) والدارمي (٢ / ١٦٥ ـ ١٦٦) وابن الجارود (٧٦٢) والبيهقي (٧ / ٤٢٩) وأحمد (٦ / ٣١٢).

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٩.

(٣) أخرجه مالك عن سعيد بن المسيب كما في «الدر المنثور» (١ / ٥١٧).

(٤) في ب : يوجب.

١٩٣

فصل في كون الآية ناسخة

أجمع الفقهاء على أنّ هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول ، وإن كانت متقدّمة في التّلاوة غير أبي مسلم الأصفهانيّ (١) ، فإنّه أبى نسخها ، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى. والتقدّم في التلاوة لا يمنع التأخّر في النزول.

فصل في ابتداء هذه المدّة

اختلفوا في ابتداء هذه المدّة ، فقال بعضهم : ابتداؤها من حين العلم بالوفاة ؛ لقوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) والتربص بأنفسهن لا يحصل إلّا بقصد التربّص ، والقصد لا يكون إلا مع العلم.

وقال الأكثرون : ابتداؤها من حيث الموت ؛ لأنّه سببها ، فلو انقضت المدّة أو أكثرها ، ثم بلغها خبر الوفاة ، اعتدّت بما انقضى من المدّة ، ويدلّ على ذلك أنّ الصّغيرة الّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدّتها مضيّ هذه المدة.

فصل في وجوب نفقة الحامل

قال القرطبيّ (٢) : أجمع العلماء على أنّ نفقة المطلّقة إذا كانت حاملا واجبة ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٦] ، واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفّى عنها زوجها ، فقال ابن عبّاس ، وسعيد بن المسيّب ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة ، ويحيى الأنصاريّ ، وربيعة ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق (٣) : ليس لها نفقة ، وحكاه أبو عبيد عن أصحاب الرأي.

وروي عن عليّ ، وعبد الله : أنّ لها النفقة من جميع المال ، وبه قال ابن عمر ، وشريح ، وابن سيرين ، والشّعبيّ ، وأبو العالية ، والنّخعيّ ، وحماد بن أبي سلمان ، وأيّوب السّختيانيّ وسفيان الثوريّ ، وأبو عبيد (٤).

فصل

روي عن أبي العالية وسعيد بن المسيّب ؛ أن الله تعالى حدّ العدة بهذا القدر ؛ لأنّ الولد ينفخ فيه الرّوح في العشر بعد الأربعة ، وهو منقول عن الحسن البصريّ (٥).

فصل

احتجّ من قال إنّ الكفّار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام ؛ بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٩.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢٢.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢٢.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٩٢) عن سعيد المسيب.

١٩٤

يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) قالوا : هذا خطاب مع المؤمنين ، فاختصّ بهم ، وجوابه أنّ المؤمنين ، لمّا كانوا هم العاملين بذلك ، خصّهم بالذّكر ؛ كقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] مع أنّه كان منذرا للكلّ ؛ لقوله تعالى : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١].

قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) : أي إذا انقضت هذه المدة ، (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) قيل الخطاب مع الأولياء ؛ لأنّهم الذين يتولّون العقد.

وقيل الخطاب للحكّام.

قوله : (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) أي : من اختيار الأزواج دون العقد ، فإن العقد إلى الوليّ.

وقيل : فيما فعلن من التّزيّن للرجال زينة لا يشكرها الشّرع.

فصل في وجوب الإحداد في عدّة الوفاة

يجب عليها الإحداد في عدّة الوفاة ، وهو الامتناع من الزّينة والطّيب ، فلا يجوز لها تدهين رأسها بأيّ دهن كان ، سواء كان فيه طيب أو [لم يكن](١) ، [ولها تدهين جسدها بدهن لا طيب فيه ، فإن كان فيه طيب ، فلا يجوز](٢) ، ولا يجوز لها أن تكتحل بكحل فيه طيب وفيه زينة ، كالكحل الأسود ، ولا بأس بالكحل الفارسيّ الذي لا زينة فيه ، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فرخص فيه كثير من أهل العلم منهم سالم بن عبد الله ، وسليمان بن يسار ، وعطاء والنخعيّ (٣) ، وبه قال مالك وأصحاب الرأي.

وقال الشّافعيّ : تكتحل به ليلا وتمسحه نهارا.

قالت أمّ سلمة : دخل عليّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين توفّي أبو سلمة ، وقد جعلت عليّ صبرا ، فقال : إنّه يشبّ الوجه ، فلا تجعليه إلّا باللّيل وتنزعيه بالنّهار (٤).

ولا يجوز لها الخضاب ، ولا لبس الوشي والدّيباج والحليّ ، ويجوز لها لبس البيض من الثّياب ، ولبس الصوف والوبر ، ولا تلبس الثّوب المصبوغ ؛ كالأحمر ، والأصفر ، والأخضر النّاضر ، ويجوز ما صبغ لغير زينة ؛ كالسّواد والكحليّ.

وقال سفيان : لا تلبس المصبوغ بحال (٥).

فصل في العدة في بيت الزوج

قال القرطبيّ (٦) : إذا كان الزّوج يملك رقبة المسكن ، فإنّ للزوجة العدّة فيه ، وعليه

__________________

(١) في ب : لا.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٤.

(٤) أخرجه أبو داود (١ / ٧٠٣ ـ ٧٠٤) والنسائي (٦ / ٢٠٤) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ٤٩).

(٥) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٤.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١١٧.

١٩٥

أكثر الفقهاء ، وإن كان للزّوج السكنى دون الرّقبة ، فلها السكنى في مدّة العدّة ؛ خلافا لأبي حنيفة والشّافعيّ ؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ للفريعة ـ وقد علم أن زوجها يملك رقبة المسكن ـ : «أمكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله».

وهذا إذا كان قد أدّى الكراء ، فإن كان لم يؤدّ الكراء ، فالذي في «المدوّنة» أنّه لا سكنى لها في مال الميّت ، وإن كان موسرا ؛ لأنّ حقّها إنما يتعلق بما يملكه من السّكنى ملكا تامّا ، وما لم ينقد عوضه لم يملكه ملكا تامّا ، وإنّما ملك العوض الذي بيده ، ولا حقّ في ذلك للزّوجة إلّا بالميراث ، دون السّكنى ؛ لأنّ ذلك مال ، وليس بسكنى (١). وروي عن مالك : أن الكراء (٢) لازم للميّت في ماله.

فصل

ولها أن تخرج في حوائجها نهارا إلى بعد العتمة ، ولا تبيت إلّا في منزلها ، وقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر» يدلّ على أنّ الكتابيّة لا إحداد عليها ، وبه قال أبو حنيفة ، وروي عن مالك أنّ عليها الإحداد ؛ كالمسلمة ، وبه قال الشافعيّ.

فصل

والإحداد واجب على جميع الزّوجات الحرائر والإماء والصغار والكبار ، وذهب أبو حنيفة أنّه لا إحداد على أمة ، ولا على صغيرة ، وقال الحسن : الإحداد ليس بواحب (٣).

قوله : «بالمعروف» فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون حالا من فاعل «فعلن» ، أي : فعلن ملتبسات بالمعروف ومصاحبات له.

والثاني : أنه مفعول به ، أي : تكون الباء باء التعدية.

الثالث : أن يكون نعت مصدر محذوف ، أي : فعلن فعلا بالمعروف ، أي : كائنا ، ويجيء فيه مذهب سيبويه (٤) : أنه حال من ضمير المصدر المعرفة ، أي : فعلنه ـ أي الفعل ـ ملتبسا بالمعروف ، وهو الوجه الرابع.

قوله (بِما تَعْمَلُونَ) متعلق ب «خبير» ، وقدّم لأجل الفاصلة ، و «ما» يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى «الذي» أو نكرة موصوفة ، وهو ضعيف ، وعلى هذين القولين ، فلا بدّ من عائد محذوف ، وعلى الأوّل لا يحتاج إليه ، إلا على رأي ضعيف.

__________________

(١) في ب : مسكن.

(٢) في ب : الكراء.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١١٩.

(٤) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١١٦.

١٩٦

فصل

تمسّك أصحاب أبي حنيفة في جواز النّكاح بغير وليّ بقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) قالوا : وإضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة ؛ لأنّ هذا هو الحقيقة في اللفظ.

والجواب أنّ هذا الخطاب مع الأولياء ، أو الحكّام ؛ كما تقدّم ، وتقدير الآية : لا جناح على النّساء وعليكم ، ثم قال : (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي : ما يحسن عقلا وشرعا ؛ لأنّ المعروف ضدّ المنكر الذي لا يحسن ، وذلك هو الحلال من التزوج (١) إذا كان مستجمعا لشرائط الصّحّة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٣٥)

قال القرطبيّ : لا جناح ، أي : لا إثم (٢) والجناح : الإثم ، وهو أصح في الشّرع.

وقيل : بل هو الأمر الشاقّ ، وهو أصحّ في اللغة ؛ قال الشّمّاخ : [الوافر]

١١٣٥ ـ إذا تعلو براكبها خليجا

تذكّر ما لديه من الجناح (٣)

و «التّعريض» في اللغة : ضدّ التصريح ، ومعناه : أن يضمّن كلامه ما يصلح للدّلالة على مقصوده ، ويصلح للدّلالة على غير مقصوده ، إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتمّ وأرجح.

وأصله من عرض الشيء ، وهو جانبه ؛ كأنّه يحوم حوله ؛ ولا يظهر ، ونظيره أن يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ، ولأنظر إلى وجهك الكريم ؛ ولذلك قال : [الطويل]

١١٣٦ ـ ..........

وحسبك بالتّسليم منّي تقاضيا (٤)

والتعريض قد يسمّى تلويحا ؛ لأنّه يلوح منه ما يريده ، والفرق بين الكناية والتعريض : أنّ الكناية ذكر الشّيء بذكر لوازمه ؛ كقولك فلان طويل النجاد ، كثير الرماد ؛ لأنّ النجاد عبارة عن حميلة السّيف ، إذا كانت حميلة سيفه طويلة ، لزم منه أن يكون الرّجل طويلا ، وكذلك إذا كان كثير الرماد ، لزم منه أن يكون كثير الطّبخ للأضياف ،

__________________

(١) في ب : الزوج.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢٤.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢٤.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٢٨٣ ، الرازي ٦ / ١١١.

١٩٧

وغيرهم ، والتعريض أن يذكر كلاما يحتمل المقصود وغيره ، إلّا أنّ قرينة الحال تؤكّد حمله على المقصود.

وقال الفراء (١) : الخطبة مصدر بمعنى الخطب ، وهي مثل قولك : إنّه لحسن القعدة والجلسة تريد : القعود والجلوس والخطبة مصدر في الأصل بمعنى الخطب ، والخطب : الحاجة ، ثم خصّت بالتماس النكاح ؛ لأنه بعض الحاجات ، يقال : ما خطبك؟ أي : ما حاجتك. وفي اشتقاقه وجهان :

الأول : الأمر والشأن يقال ما خطبك؟ أي : ما شأنك؟ فقولهم : خطب فلان فلانة ، أي : سألها أمرا وشأنا في نفسها.

والثاني : أصل الخطبة من الخطابة الّذي هو الكلام ، يقال : خطب المرأة ، أي : خاطبها في أمر النّكاح ، والخطب : الأمر العظيم ؛ لأنّه يحتاج لخطاب كثير. والخطبة بالضّم ، الكلام المشتمل على الوعظ والزّجر ، وكلاهما من الخطب الذي هو الكلام ، وكانت سجاح يقال لها خطب فتقول : نكح.

قوله تعالى : (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) في محلّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : الهاء المجرورة في «به».

والثاني : «ما» المجرورة ب «في» ، والعامل على كلا التقديرين محذوف ، وقال أبو البقاء (٢) : حال من الهاء المجرورة ، فيكون العامل فيه «عرّضتم» ، ويجوز أن يكون حالا من «ما» فيكون العامل فيه الاستقرار. قال شهاب الدين : وهذا على ظاهره ليس بجيّد ؛ لأنّ العامل فيه محذوف ؛ على ما تقرّر ، إلا أن يريد من حيث المعنى لا الصناعة ، فقد يجوز له ذلك.

والخطبة بكسر الخاء ـ فعل الخاطب ـ : من كلام وقصد ، واستلطاف ، بفعل أو قول. يقال : خطبها يخطبها خطبا ، أو خطبة ، ورجل خطّاب كثير التصرف في الخطبة ، والخطيب : الخاطب ، والخطّيبى : الخطبة ، والخطبة فعله : كجلسة ، وقعدة ، وخطبة ـ بضّم الخاء ـ هي الكلام الذي يقال في النكاح ، وغيره.

قال النحاس : «والخطبة» ما كان لها أوّل وآخر ، وكذلك ما كان على فعله ، نحو الأكلة ، والضّغطة (٣).

فصل في جواز التعريض بالخطبة في عدة الوفاة

التعريض بالخطبة مباح في عدّة الوفاة ، وهو أن يقول : ربّ راغب فيك ، ومن يجد

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٥٢.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٨.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٢٥.

١٩٨

مثلك ، إنّك لجميلة إنّك لصالحة ، إنّك عليّ كريمة ، إنّي فيك لراغب ، وإن من غرضي أن أتزوّج ، وإن جمع الله بيني وبينك بالحلال أعجبتني ، وإن تزوّجتك لأحسن إليك ، ونحو ذلك من الكلام ، من غير أن يقول : أنحكيني.

والمرأة تجيبه بمثله ، إن رغبت فيه.

وقال إبراهيم : لا بأس أن يهدي لها ويقوم بشغلها في العدة ، إذا كانت غير شابة (١).

روي أنّ سكينة بنت حنظلة ؛ بانت من زوجها ، فدخل عليها أبو جعفر محمّد بن علي الباقر في عدّتها ، وقال : يا ابنة حنظلة ، أنا من قد علمت قرابتي من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحقّ جدّي عليّ ، وقدمي في الإسلام ، فقالت له سكينة : أتخطبني وأنا في العدّة ، وأنت يؤخذ عنك؟ فقال أو قد فعلت؟ إنّما أخبرتك بقرابتي من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٢).

وقد دخل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أمّ سلمة ، وهي في عدّة من زوجها ، أبي سلمة ، فذكر لها منزلته من الله ـ عزوجل ـ وهو متحامل على يده ؛ حتّى أثّر الحصير في يده من شدّة تحامله على يده (٣).

فصل

والنّساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام :

الأول : التي يجوز خطبتها تعريضا ، وتصريحا ؛ وهي الخالية عن الأزواج والعدد إلّا أن يكون خطبها غيره ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا يخطبنّ أحدكم على خطبة أخيه» ، وهذا الحديث وإن كان مطلقا ففيه ثلاثة أجوال :

الحالة الأولى : أن يخطب الرجل ، فيجاب صريحا ؛ فها هنا لا يحلّ لغيره أن يخطبها.

الحالة الثانية : أن يجاب بالردّ صريحا ؛ فها هنا يحلّ لغيره أن يخطبها.

الحالة الثالثة : ألّا يوجد صريح الإجابة ، ولا صريح الرّدّ ؛ فها هنا فيه خلاف.

فقال بعضهم تجوز خطبتها ؛ لأن السكوت لم يدلّ على الرّضا وهو الجديد عن الشّافعيّ.

وقال مالك : لا يجوز ، وهو القديم ؛ لأنّ السكوت وإن لم يدلّ على الرضا ، لكنه لا يدلّ أيضا على الكراهة ، فربّما حصلت الرغبة من بعض الوجوه ؛ فتصير هذه الخطبة الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢١٦.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٩٩ ـ ١٠٠) وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ٥٦٧).

١٩٩

القسم الثاني : التي لا تجوز خطبتها ؛ لا تصريحا ، ولا تعريضا ، وهي زوجة الغير ؛ لأنّ خطبتها ربما صارت سببا لتشويش الأمر على زوجها ، من حيث إنها إذا علمت رغبة الخاطب ، فربما حملها ذلك على الامتناع من تأدية حقوق الزوج ، والتسبب إلى هذا حرام ، والرجعية كذلك ؛ لأنها في حكم الزوجة ؛ لصحة طلاقها ، وظهارها ، ولعانها ، وعدّتها منه عدّة الوفاة إذا مات عنها ويتوارثان.

القسم الثالث : أن يفصل في حقّها بين التعريض ، والتّصريح ، وهي المعتدة غير (١) الرجعيّة ، وهي ثلاثة أقسام :

الأول : المعتدة عدّة الوفاة ، يجوز خطبتها تعريضا ؛ لقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) فظاهره أنها المتوفّى عنها زوجها ؛ لأنها مذكورة عقب تلك الآية ، ولمّا خصّص التعريض بعدم الجناج ، دلّ على أنّ التصريح بخلافه ، والمعنى يؤكّده ؛ لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فربما حملها الحرص على النكاح ، على الإخبار بانقضاء العدّة قبل أوانها بخلاف التعريض ، فإنّه يحتمل غير ذلك ، فلا يدعوها إلى الكذب.

الثاني : المعتدة عن الطلاق الثلاث ، والبائن باللّعان والرّضاع ففي جواز التعريض بخطبتها خلاف.

فقيل : يجوز التعريض بخطبتها ، لأنّها ليست في نكاح ، فأشبهت المتوفى عنها.

وقيل : لا يجوز لأنّ عدتها بالأقراء ، فلا يؤمن عليها الكذب في الإخبار بانقضاء عدّتها ؛ لرغبتها في الخطّاب.

الثالث : البائن لطلاق أو فسخ ، وهي التي يجوز لزوجها نكاحها في عدّتها كالمختلعة ، والتي انفسخ نكاحها بعيب أو عنّة ، أو إعسار نفقة ، فهذه يجوز لزوجها التصريح ، والتعريض ؛ وأمّا غير الزوج ، فلا يحلّ له التصريح ، وفي التعريض خلاف ، والصحيح : أنّه لا يحلّ لأنها معتدة ، تحلّ للزوج أن يستنكحها في عدّتها ، فلم يحلّ التعريض لها كالرجعية.

وقيل : هي كالمتوفّى عنها زوجها ، والمطلقة ثلاثا.

قوله تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) «أو» هنا للإباحة ، أو التخيير ، أو التفصيل ، أو الإبهام على المخاطب ، «وأكنّ» في نفسه شيئا ، أي : أخفاه ، وكنّ الشيء بثوب ونحوه : أي ستره به ، فالهمزة في «أكنّ» للتفرقة بين الاستعمالين ك «أشرقت ، وشرقت».

وقال الفراء (٢) : للعرب في «أكننت الشيء» أي : سترته ، لغتان : كننته ، وأكننته في

__________________

(١) في ب : عن.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١١٢.

٢٠٠