اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

إلا أن يكون معناه : أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة ، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله ، فكان التأخير موجبا للعفو والرضوان ، فكان التأخير أولى.

فالجواب : أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل ، وذلك لم يقله أحد ، وأيضا عدم المسارعة إلى الامتثال يشبه عدم الالتفات ، وذلك يقتضي العقاب ، إلّا أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء ، وأيضا أن تفسير أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يبطل هذا التأويل ، [وروي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه سأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم ـ أي الأعمال أفضل؟ قال : «الصّلاة لميقاتها الأوّل» (١)](٢).

وأيضا قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الرّجل ليصلّي الصّلاة وقد فاته من أوّل الوقت ما هو خير له من أهله وماله» (٣).

وأيضا إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصّحابة المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشّديد بين أهل السّنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاما أم عليّا رضي الله عنهما ، وما ذاك إلا لاتفاقهم على أن المسابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل.

[وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة له : «بادروا بالأعمال الصّالحة قبل أن تشتغلوا» والصّلاة من الأعمال الصالحة (٤)](٥).

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (٤ / ٢٧٤) رقم (١٨٩٨) وأحمد (١ / ٤٥١) والطبراني في «الكبير» (١٠ / ٢٧) والدارقطني (١ / ٢٤٧) وابن أبي شيبة (٨ / ٣٥٢) وأبو نعيم في «تاريخ أصفهان» (٢ / ٣٠١).

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه بلفظ (الصلاة لوقتها) :

البخاري (٩ / ١٩١) ومسلم في الإيمان ١٣٧ وأحمد (١ / ٤١٨ ، ٤٣٩ ، ٤٤٢ ، ٤٤٤) ، (٥ / ٣٦٨) والبيهقي (٢ / ٢١٥) والحاكم (١ / ١٨٨) والطبراني (١٠ / ٢٤) وسعيد بن منصور (٢٣٠٢) وأبو عوانة (١ / ٦٣ ، ٦٤) وابن أبي شيبة (١ / ٣١٦) والطبراني في «الأوسط» (١ / ١٦٤) وأبو نعيم في «الحلية» (٧ / ٢٦٦) والخطيب (٢ / ٤٠١).

وأخرجه بلفظ : الصلاة لأول وقتها :

الترمذي رقم (١٧٠) وأحمد (٦ / ٣٧٤ ، ٣٧٥ ، ٤٤٠) والبيهقي (١ / ٤٣٤) والطبراني (١٠ / ٢٤) والدارقطني (١ / ٢٤٧) وأبو نعيم في «الحلية» (٢ / ٧٣).

(٢) سقط في ب.

(٣) الحديث ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٧ / ٥١٦) رقم (٢٠٠٣) وعزاه للطبراني عن طلق بن حبيب.

(٤) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣٤٣) رقم (١٠٨١). وقال البوصيري في «الزوائد» : إسناده ضعيف. والحديث ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (١ / ٥١١) و (٢ / ٥). والسيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٥٤).

وانظر إتحاف السادة المتقين للزبيدي (٨ / ٥٠٦).

(٥) سقط في ب.

٦١

وأيضا تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها ، فوجب أن يكون [الحال في أداء] حقوق الله ـ تعالى ـ كذلك لرعاية التعظيم.

وأيضا المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة ، والولوع بها ، والرغبة فيها وفي التأخير كسل عنها ، فيكون الأول أولى.

[وأيضا فإن المبادرة احتياط ، لأنه إذا أدّاها في أوّل الوقت تفرغت ذمته ، وإذا أخّرها ربما حصل له شغل ، فمنعه من أدائها ، فالوجه الذي يحصل به الاحتياط أولى.

فإن قيل : تنتقض هذه الدلائل بالظّهر في شدة الحر ، وبما إذا حصل له إدراك الجماعة ، أو وجود الماء.

قلنا : التأخير في هذه المواضع لأمور عارضة ، والكلام إنما هو في مقتضى الأصل](١).

فصل في التغليس في صلاة الفجر

قال الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ التّغليس في صلاة الفجر أفضل ، وهو مذهب أبي بكر وعمر ، وقول مالك وأحمد رضي الله عنهم.

وقال أبو محمد : يستحب أن يدخل فيها بالتّغليس.

واحتج الأولون بما تقدم من الآية ، وبما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم يصلي الصبح ، فينصرف والنساء متلفّعات بمروطهنّ ما يعرفهنّ أحد من الغلس.

فإن قيل : كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي بالغلس كيلا يعرفن.

وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغلس ، ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك.

قلنا : الأصل عدم النسخ ، وإن سلم النسخ فالمنسوخ إنما هو حضور النساء لا الصلاة.

وروى أنس عن زيد بن ثابت قال : تسحّرنا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم ـ ثم قمنا إلى الصلاة ، قال أنس : قلت لزيدكم كان قدر ذلك؟ قال : قدر خمسين آية (٢) ، وهذا يدلّ أيضا على التّغليس ، وروي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلّس بالصبح ، ثم أسفر مرة ، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٦٧) كتاب الصوم باب : قدر كم بين السحور (١٩٢١) عن زيد بن ثابت.

٦٢

وأيضا فإن النوم في ذلك الوقت أطيب ، فيكون تركه أشقّ ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر ، لقوله عليه‌السلام : «أفضل العبادات أحمزها» أي : أشقّها.

واحتج أبو حنيفة بوجوه :

أحدها : قوله عليه‌السلام : «أسفروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر» (١).

وروى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر ب «المزدلفة» فغلس ، ثم قال ابن مسعود : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر.

ويروى عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى الفجر ، فقرأ «آل عمران» ، فقالوا : كادت الشمس أن تطلع ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين.

وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين.

وأيضا فإن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار.

وقال عليه‌السلام : «المنتظر للصّلاة كمن هو في الصّلاة» ، فمن [أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولا ، ثم بها ثانيا](٢) ، ومن صلّاها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار.

وأيضا : فإن التنوير يفضي إلى كثرة الجماعة فيكون أولى.

والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي [يتفجر به ظلام](٣) المشرق ، فالفجر إنما يكون فجرا لو كانت الظلمة باقية في الهواء.

فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجرا.

وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور ، يقال : أسفرت المرأة عن وجهها إذا [كشفت عنه](٤) ، إذا ثبت هذا فنقول : ظهور الفجر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء ، فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد.

فقوله : «أسفروا بالفجر» يجب أن يكون محمولا على التّغليس ، أي : كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر [أظهر كان](٥) أكثر ثوابا.

وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر ، وهذا معنى قول الشافعي رضي الله

__________________

(١) أخرجه الترمذي (١٥٤) والنسائي (٢ / ٢٧٢) وأحمد (٤ / ١٤٢ ، ١٤٣) و (٥ / ٢٤٩) والبيهقي (١ / ٤٥٧) والطبراني (٤ / ٢٩٥) وابن حبان (٢٦٤ ـ زوائده) والطيالسي رقم (٣٠١) والدارمي (١ / ٢٧٧) والبغوي في «شرح السنة» (٢ / ١٩٦) وأبو نعيم (٧ / ٩٤) وقال الترمذي : حديث رافع حسن صحيح.

(٢) في أ : أخرها منتظرا لها ، فقد حصل له فضيلة الانتظار ، وفضيلة الصلاة.

(٣) في ب : ينفى به الظلام.

(٤) في أ : أظهرت.

(٥) سقط في ب.

٦٣

عنه : إن الإسفار المذكور في الحديث محمول على تيقّن طلوع الفجر ، وزوال الشك عنه ، والذي يدل على ما قلنا : أن الصلاة في ذلك الوقت أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثوابا.

وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير ، فهو عادة أهل الكسل ، وهذا جواب عن قول ابن مسعود أيضا وأما باقي الوجوه فمعارض لبعض ما قدمناه.

قوله : (أَيْنَما تَكُونُوا) «أين» اسم شرط تجزم فعلين ك «إن» ، و «ما» مزيدة عليها على سبيل الجواز ، وهي ظرف مكان ، وهي هنا في محلّ نصب خبرا ل «كان» ، وتقديمها واجب لتضمنها معنى ما له صدر الكلام.

و «تكونوا» أيضا مجزوم بها على الشرط ، وهو الناصب لها ، و «يأت» جوابها ، وتكون أيضا استفهاما فلا تعمل شيئا ، وهي مبنية على الفتح لتضمن معنى حرف الشرط أو الاستفهام.

[ودلت الآية على أنه قادر على جميع الممكنات ، فوجب أن يكون قادرا على الإعادة ؛ لأنها ممكنة ، وهذا وعد لأهل الطاعة ، ووعيد](١) لأهل المعصية.

قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٠)

«من حيث» متعلق بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ) و «خرجت» في محلّ جر بإضافة «حيث» إليها ، وقرأ عبد الله (٢) بالفتح ، وقد تقدم أنها إحدى اللغات ، ولا تكون هنا شرطية ، لعدم زيادة «ما» ، والهاء في قوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ) الكلام فيها كالكلام عليها فيما تقدّم.

وقرىء «تعلمون» بالياء والتاء ، وهما واضحتان كما تقدم.

فصل في الكلام على الآية

اعلم أنه ـ تبارك وتعالى ـ قال أولا : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤] ، وذكر هاهنا ثانيا قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

ثم ذكر ثالثا قوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) وقرأ بها عبد الله بن عمير كما في البحر : ١ / ٦١٣ ، وانظر الدر المصون : ١ / ٤٠٧.

٦٤

وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فما فائدة هذا التكرار؟ فيه أقوال :

أحدها : أن الأحوال ثلاثة :

أولها : أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.

وثانيها : أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد.

وثالثها : أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض.

فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى ، والثانية على الثانية ، والثالثة على الثالثة ؛ لأنه قد يتوهّم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد ، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله ـ تعالى ـ هذه الآيات.

والجواب : أنه علق بها كل مرة فائدة زائدة ، ففي الأولى بين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر هذه القبلة حقّ ؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل.

وفي الثانية بين أنه ـ تعالى ـ يشهد أن ذلك حقّ ، وشهادة الله بكونه حقّا مغايرة لعلم أهل الكتاب [حقّا].

وفي الثالثة بين [فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجّة](١) ، فلما اختلفت هذه الفوائد

حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة في المرات واحدة من هذه الفوائد ، ونظيره قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : ٧٩].

وثالثها : لما قال في الأولى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فربما توهم متوهم أن هذا التحويل لمجرد رضاه فأزال هذا الوهم الفاسد بقوله عزوجل ثانيا : (وَمِنْ حَيْثُ) ما (خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [وإنّه للحقّ من ربّك» أي : إن التحويل ليس لمجرد رضاك ، بل لأجل أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فاستقبالها ليس لمجرد الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي يقيمون عليها بمجرّد الهوى والميل.

ثم قال تعالى ثالثا : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)](٢) والمراد منه الدوام على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات ، وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخا.

ورابعها : أنه قرن كل آية بمعنى ، فقرن الأولى وهي القبلة التي يرضاها ويحبّها بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقرن الآية الثانية

__________________

(١) في أ : العلة ، وهي قطع حجة اليهود.

(٢) سقط في ب.

٦٥

بقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) أي : لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها حقّ ، وقرن الثالثة بقطع الله ـ تعالى ـ حجّة من خاض من اليهود في أمر القبلة ، فكانت هذه عللا ثلاثا قرن بكل واحدة منها أمرا بالتزام القبلة.

نظيره أن يقال : الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها ، ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى ، وهو قوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك ، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٦] وكذلك ما كرر في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٨].

وخامسها : أن هذه الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النّسخ فيها في شرعنا ، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير ، وإزالة الشبهة ، وإيضاح البينات.

أما قوله سبحانه وتعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يعني : ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق ، وهم يعرفونه ، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] وبأنه قد اشتاق إلى مولده ، ودين آبائه ، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله. [وقد تقدم الكلام على نفي الغفلة وعدم ذكر العلم](١).

قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) هذه لام «كي» بعدها «أن» المصدرية الناصبة للمضارع ، و «لا» نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه ، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ) [الأنفال : ٧٣] و «أن» هنا واجبة الإظهار ، إذ لو أضمرت لثقل اللّفظ بتوالي لامين ، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ).

وقال أبو البقاء : متعلّقة بمحذوف تقديره : فعلنا ذلك لئلا ، ولا حاجة إلى ذلك ، و «للناس» خبر ل «يكون» مقدّم على اسمها ، وهو «حجّة» ، و «عليكم» في محل نصب على الحال ؛ لأنه في الأصل صفة النكرة ، فلما تقدم عليها انتصب حالا ، ولا يتعلق ب «حجة» لئلّا يلزم تقديم معمول المصدر عليه ، وهو ممتنع ؛ لأنه في تأويل صلة وموصول ، وقد قال بعضهم : يتعلّق ب «حجة» وهو ضعيف ، ويجوز أن يكون «عليكم» خبرا ل «يكون» ، ويتعلق «للناس» ب «يكون» على رأي من يرى أن «كان» الناقصة تعمل في الظرف وشبهه ، وذكر الفعل في قوله «يكون» ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي ، وحسن ذلك الفصل أيضا. [وقال أبو روق : المراد ب «النّاس» : أهل الكتاب.

ونقل عن قتادة والربيع : أنهم وجدوا في كتابهم أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحوّل إلى القبلة ، فلما حوّلت بطلت حجّتهم.

__________________

(١) سقط في ب.

٦٦

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) ؛ بسبب أنهم كتموا ما عرفوا.

وقيل : لما أوردوا تلك الشبهة معتقدين أنها حجّة سماها تعالى حجّة ، بناء على معتقدهم ، أو لعله ـ تعالى ـ سمّاها حجّة تهكّما بهم.

وقيل : أراد بالحجة المحاجّة ، فقال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فإنهم يحاجونكم بالباطل](١).

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ) قرأ الجمهور «إلّا» بكسر «الهمزة» وتشديد «اللام».

وقرأ (٢) ابن عباس ، وزيد بن علي ، وابن زيد بفتحها ، وتخفيف «اللام» على أنها للاستفتاح.

فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أربعة أقوال :

أظهرها : وهو اختيار الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيره أنه استثناء متصل.

قال الزمخشري : معناه لئلا يكون حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه ، وحبّا لهم ، وأطلق على قولهم : «حجّة» ؛ لأنهم ساقوه مساق الحجة.

والحجّة كما أنها تكون صحيحة ، فقد تكون أيضا باطلة ، قال الله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشورى : ١٦].

وقال تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) [آل عمران : ٦١] والمحاجّة هي أن يورد كل واحد من المحق والمبطل على صاحبه حجّة ، وهذا يقتضي أن الذي يورده المبطل يسمى بالحجّة ، ولأن الحجّة اشتقاقها من حجّة إذا علا عليه ، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجّة.

وقال بعضهم : إنها مأخوذة من محجّة الطريق ، فكل كلام يتّخذه الإنسان مسلكا لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجّة.

وقال ابن عطية : المعنى أنه لا حجّة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم الذين تكلموا في النازلة ، وسماها حجّة وحكم بفسادها حين كانت من ظالم.

الثاني : أنه استثناء منقطع ، فيقدر ب «لكن» عند البصريين ، وب «بل» عند الكوفيين ؛ لأنه استثناء من غير الأول ، والتقدير : لكن الذين ظلموا ، فإنهم يتعلقون عليكم

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٢٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٦١٥ ، والشواذ : ١٠ ، والدر المصون : ١ / ٤٠٧.

ونسبها صاحب البحر إلى ابن عامر.

٦٧

بالشبهة يضعونها موضع الحجة [نظيره قوله : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل : ١٠ ـ ١١].

وقال : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٣].

ويقال : ما له عليّ من حقّ إلّا التعدي ، أي : لكنه يتعدى](١).

ومثار الخلاف هو : هل الحجّة هي الدليل الصحيح ، أو الاحتجاج صحيحا كان أو فاسدا؟

فعلى الأولى يكون منقطعا ، وعلى الثاني يكون متصلا.

الثالث : وهو قول أبي عبيدة أن «إلا» بمعنى «الواو» العاطفة وجعل من ذلك قوله : [الوافر]

٨٤٣ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٢)

يعني : والفرقدان.

وقول الآخر : [البسيط]

٨٤٤ ـ ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلّا دار مروانا (٣)

تقدير ذلك عنده : «ولا الذين ظلموا ، والفرقدان ، ودار مروان» وقد خطأه النحاة في ذلك كالزجاج وغيره.

الرابع : أن «إلا» بمعنى بعد ، أي : بعد الذين ظلموا ، وجعل منه قول الله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦].

وقوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] تقديره : بعد الموتة ، وبعد ما قد سلف ، وهذا من أفسد الأقوال ، وأنكرها ، وإنما ذكرته لغرض التنبيه على ضعفه.

و «الذين» في محل نصب على الاستثناء على القولين اتّصالا وانقطاعا ، وأجاز قطرب أن يكون في موضع جرّ بدلا من ضمير الخطاب في «عليكم» ، والتقدير : لئلا تثبت حجّة للناس على غير الظالمين منهم ، وهم أنتم أيها المخاطبون بتولية وجوهكم إلى القبلة.

ونقل عنه أنه كان (٤) يقرأ : «إلّا على الذين» كأنه يكرر العامل في البدل على حدّ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) تقدم.

(٣) البيت للفرزدق ينظر الكتاب : ٢ / ٣٤٠ ، وليس في ديوانه ، وتذكرة النحاة : ص ٥٩٦ ، والجنى الداني : ص ٥١٩ ، والمقتضب : ٤ / ٤٢٥ ، والدر المصون : ١ / ٤٠٨.

(٤) وذكرها أبو حيان عن قطرب.

انظر البحر المحيط : ١ / ٦١٥ ، والدر المصون : ١ / ٤٠٨.

٦٨

قوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥].

وهذا عند جمهور البصريين ممتنع ؛ لأنه يؤدي إلى بدل ظاهر من ضمير حاضر بدل كلّ من كل ، ولم يجزه من البصريين إلا الأخفش ، وتأول غيره ما ورد من ذلك.

وأما قراءة ابن عباس ب «ألا» للاستفتاح ، ففي محل «الذين» حينئذ ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مبتدأ ، وخبره قوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) ، وإنما دخلت «الفاء» في الخبر ؛ لأن الموصول تضمن معنى الشرط ، والماضي الواقع صلة مستقبل معنى كأنه قيل : من يظلم الناس فلا تخشوهم ، ولو لا دخول الفاء لترجّح النصب على الاشتغال ، أي : لا تخشوا الذين ظلموا لا تخشوهم.

الثاني : أن يكون منصوبا بإضمار فعل على الاشتغال ، وذلك على قول الأخفش ، فإنه يجيز زيادة الفاء.

الثالث : نقله ابن عطية أن يكون منصوبا على الإغراء.

ونقل عن ابن مجاهد أنه قرأ (١) : «إلى الّذين ظلموا» وجعل «إلى» حرف جر متأولا لذلك بأنها بمعنى «مع» ، والتقدير : لئلا يكون للناس عليكم حجة مع الذين ، والظاهر أن هذا الراوي وقع في سمعه «إلا الذين» بتخفيف «إلا» فاعتقد ذلك فيها ، وله نظائر مذكورة عندهم.

و «فهم» في محل نصب على الحال فيتعلّق بمحذوف ، ويحتمل أن تكون «من» للتبعيض ، وأن تكون للبيان.

فصل في الكلام على هذه الحجة

اعلم أن هذا الكلام يوهم حجاجا وكلاما تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجّة تزول الآن باستقبال الكعبة.

وفي كيفية تلك الحجة روايات :

إحداها : أن اليهود قالوا : تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا.

وثانيها : قالوا : ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه؟

وثالثها : أن العرب قالوا : إنه كان يقول : أنا على دين إبراهيم ، والآن ترك التوجه إلى الكعبة ، ومن ترك التوجّه إلى الكعبة ، فقد ترك دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ فصارت هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام ، إلّا أن الله ـ تعالى ـ لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من

__________________

(١) ينظر تخريج القراءة السابقة.

٦٩

المصلحة في الدين ؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح ، وقد بينا من قبل تلك المصلحة ، وهي تمييز من اتبعه ب «مكة» ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلّا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة ، فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة ، فلهذا قال الله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) يعني أنّ تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أن يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى ، وهو قول بعض العرب : إن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية ، وكان التمسك بهذه الشبهة ، والاستمرار عليها سببا للبقاء على الجهل والكفر ، وذلك ظلم [للنفس](١) على ما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] فلا جرم ، قال الله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ) اخشون».

أي : لا تخشوا من يتعنّت ويجادل ، ولا تخافوا طعنهم في قبلتكم ، فإنهم لا يضرونكم ، واخشوني ، واحذروا عقابي إن عدلتم عما ألزمتكم ، وفرضت عليكم.

و «الخشية» : أصلها : طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف ، و «الخوف» : فزع في القلب تخف له الأعضاء ، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفا ، ومعنى التحقير لكل من سوى الله تعالى ، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.

قال بعضهم : الخوف أوّل المراتب ، وهو الفزع ، ثم بعده الوجل ، ثم الخشية ، ثم الرّهبة](٢).

قوله : «ولأتمّ» فيه أربعة أوجه :

أظهرها : أنه معطوف على قوله : «لئلّا يكون» كأن المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معلّلا بهاتين العلّتين :

[إحداهما : لانقطاع حجّتهم عنه.

والثانية : لإتمام النعمة. وقد بيّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة ، وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون ، فلما حوّل ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى «بيت المقدس» لحقهم ضعف قلب ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحب التحوّل إلى الكعبة ، لما فيها من شرف البقعة ، فهذا موضع النعمة](٣) ، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل إذ هو من متعلق العلة الأولى.

الثاني : أنه معطوف على علّة محذوفة ، وكلاهما [معلولها](٤) الخشية السابقة ،

__________________

(١) في ب : على النفس.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : معلول.

٧٠

فكأنه قيل : واخشوني [لأوفقكم](١) ولأتم نعمتي عليكم.

الثالث : أنه متعلّق بفعل محذوف مقدر بعده تقديره : ولأتمّ نعمتي عليكم عرفتكم أمر قبلتكم».

الرابع : وهو أضعفها أن تكون متعلقة بالفعل قبلها ، و «الواو» زائدة ، تقديره : واخشوني لأتم نعمتي.

وهذه لام «كي» و «أن» مضمرة بعدها ناصبة للمضارع ، فينسبك منهما مصدر مجرور باللام وتقدم تحقيقه ، و «عليكم» فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب «أتمّ».

الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «نعمتي» ، أي : كائنة عليكم.

فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ أنزل عند قرب وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم ، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)؟!

فالجواب : أنا قلنا تمام النعمة اللّائقة في كل وقت هو الذي خصه به.

وعن عليّ رضي الله عنه : تمام النعمة الموت على الإسلام.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فيه سؤال ، وهو أن لفظه التّرجّي ، وهو في حق الله ـ تعالى ـ محال ؛ لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه.

وأجيب عن ذلك بوجهين :

الأول : أن الترجي في الآية الكريمة بالنسبة إلى المخاطبين أي : بإتمام النعمة ترجون الثّواب والاهتداء إلى دلائل التوحيد.

الثاني : قال بعض المفسرين : كل لفظ «لعلّ» في القرآن الكريم المراد به التحقيق كقول الملك لمن طلب منه حاجة وأراد ذلك قضاها ، فنقول لطالب الحاجة : لعلّ حاجتك تقضى.

والاهتداء يطلق ، ويراد به بيان الأدلة كقوله تعالى : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل : ١٦] الآية ، ويطلق ويراد به الاهتداء إلى الحق.

قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(١٥١)

قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا) : الكاف من قوله : «كما» فيها قولان :

__________________

(١) في ب : لأوفيكم.

٧١

أظهرهما : أنها للتشبيه.

والثاني : أنها للتعليل ، فعلى القول الأول تكون نعت مصدر محذوف.

واختلفوا في متعلقها حينئذ على خمسة أوجه :

أحدها : أنها متعلقة بقوله : «ولأتم» تقديره : ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل إتمام الرسول فيكم ، ومتعلّق الإتمامين مختلف ، فالأول بالثواب في الآخرة ، والثاني بإرسال الرسول في الدنيا ، أو الأول بإيجاب الدعوة الأولى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٣٨].

والثاني بإجابة الدعوى الثانية في قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] [قاله ابن جرير](١) ، ورجحه مكي ؛ لأن سياق اللفظ يدلّ على أن المعنى : ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم ، كما أجبنا دعوته فيكم ، فأرسلنا إليكم رسولا منكم.

الثاني : أنها متعلّقة ب «تهتدون» ، تقديره : يهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولا ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقيق والثبوت أي : اهتداء متحققا كتحقيق إرسالنا.

الثالث : وهو قول أبي مسلم : أنها متعلقة بقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ، أي : جعلا مثل إرسالنا.

وهذا بعيد جدا ؛ لطول الفصل المؤذن بالانقطاع.

الرابع : أنها متعلقة بما بعدها وهو «اذكروني» [قال مجاهد وعطاء والكلبي : وروي عن علي رضي الله عنه ، واختاره الزّجاج : كما أرسلنا فيكم رسولا تعرفونه بالصدق ، فاذكروني بالتوحيد والتصديق به ، وعلى هذا فالوقف على «تهتدون» جائز](٢).

قال الزمخشري (٣) : كما ذكرتكم بإرسال الرسل ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب ، فيكون على تقدير مصدر محذوف ، وعلى تقدير مضاف أي : اذكروني ذكرا مثل ذكرنا لكم بالإرسال ، ثم صار : مثل ذكر إرسالنا ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فإنه يكرمك ، و «الفاء» غير مانعة من ذلك.

قال أبو البقاء : «كما» لم تمنع في باب الشرط يعني أن ما بعد فاء الجزاء يعمل فيما قبلها.

وقد ردّ مكي هذا بأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه ، و «اذكروني» قد أجيب بقوله : «أذكركم» فلا يتعلق به ما قبله.

قال : ولا يجوز ذلك إلا في التشبيه بالشرط الذي يجاب بجوابين ، نحو : إذا أتاك فلان فأكرمه ترضه ، فيكون «كما» ، و «فأذكركم» جوابين للأمر ، والأول أفصح وأشهر ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر الكشاف : ١ / ٢٠٦.

٧٢

وتقول : «كما أحسنت إليك فأكرمني» فيصح أن تجعل الكاف متعلقة ب «أكرمني» إذ لا جواب له.

وهذا الشرط منعه مكّي قال أبو حيان : «لا نعلم خلافا في جوازه».

وأما قوله : إلا أن يشبه بالشرط ، وجعله «كما» جوابا للأمر ، فليس بتشبيه صحيح ، ولا يتعقل ، وللاحتجاج عليه موضع غير هذا الكتاب.

قال أبو حيان : وإنما يخدش هذا عندي وجود الفاء ، فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتبعد زيادتها. انتهى

وقد تقدم [قول](١) أبي البقاء في أنها غير مانعة من ذلك.

الخامس : أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من «نعمتي» والتقدير : ولأتم نعمتي مشبهة إرسالنا فيكم رسولا ، أي : مشبهة نعمة الإرسال ، فيكون على حذف مضاف. [وقال مكي : في «إعراب المشكل» : فإن شئت جعلت «الكاف» في موضع نصب على الحال من الكاف والميم في «عليكم»](٢).

وأما على القول بأنها للتعليل ، فتتعلّق بما بعدها وهو قوله : «فاذكروني» أي : اذكروني لأجل إرسالنا فيكم رسولا ، وكون «الكاف» للتعليل واضح ، وجعل بعضهم منه : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨] ، وقول الآخر : [الرجز]

٨٤٥ ـ لا تشتم النّاس كما لا تشتم (٣)

أي : لا تشتم لامتناع النّاس من شتمك.

وفي «ما» المتّصلة بهذه «الكاف» ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها مصدرية ، وقد تقدم تحريره.

والثاني : أنها بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، و «رسولا» بدل منه ، والتقدير : كالذي أرسلناه رسولا ، وهذا بعيد جدا.

وأيضا فإن فيه قوع «ما» على آحاد العقلاء ، وهو قول مرجوح.

الثالث : أنها كافة «للكاف» كهي في قوله : [الوافر]

٨٤٦ ـ لعمرك إنّني وأبا حميد

كما النّشوان والرّجل الحليم (٤)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : ما نقلته عن.

(٣) البيت لرؤبة. ينظر ملحقات ديوانه : (١٨٣) ، شواهد الكتاب : ٣ / ١١٦ ، الإنصاف : (٣٤٥) ، رصف المباني : (٢١٤) ، الدرر : ٢ / ٤٣ ، الخزانة : ٤ / ٢٨٢ ، الكتاب : ٣ / ١١٦ ، شواهد العيني : ٤ / ٤٠٩ ، الدر المصون : ١ / ٤١١.

(٤) البيت لزياد الأعجم. ينظر ديوانه : ص ٩٧ ، والجنى الداني : ص ٤٨١ ، وشرح شواهد المغني : ص ٥٠١ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٣٤٨ ، وبلا نسبة في مغني اللبيب : ١ / ١٧٨ ، والدر المصون : ١ / ٤١١.

٧٣

ولا حاجة إلى هذا ، فإنه لا يصار إلى ذلك إلّا حيث تعذّر أن ينسبك منها ومما بعدها مصدر ، كما إذا اتصلت بجملة اسمية كالبيت المتقدم.

و «منكم» في محلّ نصب ؛ لأنه صفة ل «رسولا» ، وكذلك ما بعده من الجمل ، ويحتمل أن تكون الجمل بعده حالا لتخصيص النكرة بوصفها بقوله : «منكم» ، وأتي بهذه الصفات بصيغة المضارع ؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث ، وهو مقصود هاهنا ، بخلاف كون «منهم» ، فإنه وصف ثابت له ، [وقوله : «فيكم» و «منكم» ، أي : من العرب ، وفي إرساله فيهم رسولا ، ومنهم نعم عليهم عظيمة ؛ لما لهم فيه من الشّرف ، وأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد إلى الغير ، فبعثه الله ـ تعالى ـ من واسطتهم ليقرب قبولهم.

وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ) فيه نعم عليكم عظيمة ؛ لأنه معجزة باقية تتأدّى به العبادات ، ومستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة.

واعلم أنه إن كان المراد بالآيات القرآن ، فالتلاوة فيه ظاهرة.

وإن كان المراد بالآيات المعجزات ، فمعنى التلاوة لها تتابعها ؛ لأنّ الأصل في التلاوة التتابع ، يقال : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا أي بعضهم إثر بعض](١) ، وهنا قدم التزكية على التعليم ، وفي دعاء إبراهيم بالعكس.

والفرق أن المراد بالتزكية هنا التطهير من الكفر ، وكذلك فسروه.

وهناك المراد بها الشهادة بأنهم خيار أزكياء ، وذلك متأخر عن تعلم الشرائع والعمل بها. [وقال الحسن : «يزكّيكم» يعلّمكم ما إذا تمسّكتم به صرتم أزكياء.

وقال أبو مسلم : «التزكية» عبارة عن التّنمية ، كأنه قال : يكثركم ؛ كقوله تعالى : (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف : ٨٦] ، وذلك بأن يجمعهم على الحق ، فيتواصلوا ويكثروا](٢).

وقوله : (يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) بعد قوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) من باب ذكر العام بعد الخاص ، وهو قليل بخلاف عكسه. [وقوله عزوجل : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) بعد قوله : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) ليس بتكرار ؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم.

وأما الحكمة فهي العلم بسائر الشرائع التي لم يشتمل القرآن على تفصيلها.

وقال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة هي سنّة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

وفي قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) تنبيه على أنه ـ تعالى ـ أرسله على حين فترة من الرسل ، وجهالة الأمم](٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

٧٤

قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢)

اعلم أن الله ـ تعالى ـ كلفنا في هذه الآية بأمرين : الذكر ، والشكر.

أما الذكر فقد يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب ، وقد يكون بالجوارح.

فذكر اللسان الحمد ، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتابه.

وذكر القلب التفكّر في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ، والتفكر في الجواب على الشبهة العارضة في تلك الدلائل ، والتفكّر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، فإذا عرفوا كيفية التّكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم ، والتفكر في أسرار مخلوقاته.

وأما الذكر بالجوارح ، فهو عبارة عن كون الجوارح مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها ، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها ، وعلى هذا سمى الله الصلاة ذكرا ، بقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] فقوله : «اذكروني» يتضمن جميع الطاعات ، ولهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي (١) فأجمله حتى يدخل الكل فيه.

فصل في ورود الذكر في القرآن

الذكر ورد على ثمانية أوجه :

الأول : بمعنى الطاعة كهذه الآية أي : أطيعوني أغفر لكم.

الثاني : العمل ، قال تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) [البقرة : ٦٣] أي : اعملوا بما فيه.

الثالث : العظة ، قال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥] أي : العظة ، ومثله (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) [الأنعام : ٤٤] أي : ما وعظوا به.

الرابع : الشّرف قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] ومثله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) [المؤمنون : ٧١] أي : بشرفهم ، وقوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) [الأنبياء : ٢٤] أي : شرف.

الخامس : القرآن قال تعالى : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] أي : القرآن ، ومثله : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٥٠].

السادس : التوراة قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [النحل : ٤٣] أي : التوراة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢١١) عن سعيد بن جبير والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٧٣) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

٧٥

السابع : البيان ، قال تعالى : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٦٣].

الثامن : الصلاة ، قال تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩].

قوله : «أذكركم» هذا خطاب لأهل «مكة» والعرب.

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : اذكروني بطاعتي أذكركم بمعرفتي (١).

وقيل : اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء.

بيانه قوله سبحانه وتعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات : ١٤٣ ـ ١٤٤].

وقيل : اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة.

قال تبارك وتعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] قاله أبو مسلم.

وقيل : اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، وقيل : اذكروني بمحامدي أذكركم بهدايتي.

روى الحسن عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ـ تعالى ـ يقول : يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم ، وإن دنوت منّي شبرا دنوت منك ذراعا ، وإن دنوت منّي ذراعا دنوت منك باعا ، وإن مشيت إليّ هرولت إليك ، وإن هرولت إليّ سعيت إليك ، وإن سألتني أعطيتك ، وإن لم تسألني غضبت عليك» (٢).

وقال أبو عثمان النهدي : إني لأعلم الساعة التي يذكرون منها.

قيل : ومن أين تعلمها؟ قال : اتقوا الله عزوجل : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

قوله : (وَاشْكُرُوا لِي).

تقدم أن «شكر» يتعدّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر على حد سواء على الصحيح.

وقال بعضهم : إذا قلت : شكرت لزيد ، فمعناه شكرت لزيد صنيعه ، فجعلوه متعديا لاثنين :

أحدهما : بنفسه ، والآخر بحرف الجر ، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله : «واشكروا لي ما أنعمت به عليكم».

وقال ابن عطية : «واشكروا لي ، واشكروني بمعنى واحد».

و «لي» أفصح وأشهر مع الشّكر ، ومعناه : نعمتي وأياديّ ، وكذلك إذا قلت :

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٧٣) وعزاه لأبي الشيخ والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا.

(٢) أخرجه البغوي (١ / ١٢٦) وأخرجه بلفظ قريب منه مسلم في الذكر والدعاء ١٩ وأحمد (٢ / ٣٩١) وابن حبان (٢٣٩٣ ، ٢٣٩٤) والحاكم (١ / ٤٩٦) وأبو نعيم في «الحلية» (٩ / ٣٠٦).

٧٦

شكرتك ، فالمعنى شكرت لك صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ؛ إذ معنى الشكر ذكر اليد ، وذكر مسديها معا ، فما حذف من ذلك ، فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف.

وأصل الشكر في اللغة : الظهور ، فشكر العبد لله ـ تعالى ـ ثناؤه عليه بذكر إحسانه ، وشكر الله سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له ، إلا أن شكر العبد نطق باللسان ، وإقرار بالقلب بإنعام الرب.

وقوله تعالى : (وَلا تَكْفُرُونِ) نهي ولذلك حذفت منه نون الجماعة ، وهذه نون المتكلم ، وحذفت الياء ؛ لأنها رأس آية وإثباتها أحسن في غير القرآن ، أي : لا تكفروا نعمتي ، فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(١٥٣)

أعلم أنه ـ تعالى ـ لما أوجب بقوله : «فاذكروني» جميع العبادات ، وبقوله : (وَاشْكُرُوا لِي) ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما ، فقال : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) وإنما خصّهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات.

أما الصبر فهو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله ـ تعالى ـ وتوطينها على تحمّل المشاقّ ، ومن كان كذلك سهل عليه فعل الطاعات ، وتحمل مشاق العبادات ، وتجنّب المحظورات.

وأما الصلاة فلقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥].

ومن الناس من حمل الصبر على الصوم.

ومنهم من حمله على الجهاد ، لقوله تعالى بعده : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) ولأنه ـ تعالى ـ أمره بالتثبت في الجهاد ، فقال تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) [الأنفال : ٤٥] وبالتثبّت في الصلاة وفي الدعاء ، فقال تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٤٧].

فصل في أقسام الصبر وذكر الاستعانة

والقول الأول أولى لعموم اللفظ وعدم تقيّده الاستعانة ، ذكر الاستعانة بالصلاة ولم يذكر فيماذا يستعان.

فظاهره يدل على أن الاستعانة في كل الأمور ، وذكر الصبر ، وهو ينقسم إلى قسمين :

أحدهما : الصبر على الطاعات.

٧٧

والثاني : الصبر على الشدائد فهو يشملهما وتقدم الكلام على المراد بالصلاة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

فالمعيّة على قسمين :

أحدهما : معيّة عامة ، وهي المعيّة بالعلم والقدرة ، وهذه عامة في حق كل أحد.

والثاني : معيّة خاصة وهي المعيّة بالعون والنصر ، وهذه خاصة بالمتقين والمحسنين والصابرين ، ولهذا قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨] وقال هاهنا : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي : بالعون والصبر.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)(١٥٤)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت الآية في قتلى «بدر» ، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا : ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار.

فمن المهاجرين : عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ، وعمرو بن أبي وقاص ، وذو الشمالين ، وعمرو بن نفيلة ، وعامر بن بكر ، ومهجع بن عبد الله ، ومن الأنصار : سعيد بن خيثمة ، وقيس بن عبد المنذر ، وزيد بن الحرث ، وتميم بن الهمام ، ورافع بن المعلى ، وحارثة بن سراقة ، ومعوذ بن عفراء ، وعوف بن عفراء رضوان الله تعالى عليهم وكانوا يقولون : مات فلان ومات فلان ، فنهى الله ـ تعالى ـ أن يقال فيهم : إنهم ماتوا. وقال بعضهم : إن الكفار والمنافقين قالوا : إنّ الناس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية.

فصل في المراد بحياة الشهداء

اختلفوا في هذه الحياة.

فقال أكثر المفسرين : إنهم في القبر أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم ، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور.

فإن قيل : نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور ، فكيف يصح ما ذهبتم إليه؟

فالجواب : قال ابن الخطيب : أما عندنا فالبنية ليست شرطا في الحياة ، ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كلّ واحد من تلك الذّرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف.

وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بدّ منها في ماهية الحي ، ولا يعتبر بالأطراف.

ويحتمل أيضا أن يحييهم إذا لم يشاهدوا.

وقال الأصم : يعني لا تسمّوهم بالموتى ، وقولوا لهم : الشهداء الأحياء ، ويحتمل أن المشركين قالوا : هم أموات في الدين كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)

٧٨

[الأنعام : ١٢٢] فقال : ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون ، ولكن قولوا : هم أحياء في الدين ، ولكن لا يشعرون [يعني المشركين لا يعلمون من قتل على دين محمد صلوات الله وسلامه عليه حيّ في الدين](١) وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن المشركين كانوا يقولون : إن أصحاب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقتلون أنفسهم ، ويخسرون حياتهم ، فيخرجون من الدنيا بلا فائدة ، ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء. وهؤلاء الذين قالوا ذلك ، يحتمل أنهم كانوا دهرية ينكرون المعاد ، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلذلك قالوا هذا الكلام ، فقال الله تعالى : ولا تقولوا كما قال المشركون : إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدّنيا ، ولكن اعلموا أنهم أحياء ، أي : سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة ، وتفسير قوله : «أحياء» بأنهم سيحيون غير بعيد ، قال الله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٣ ـ ١٤] ، وقال : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) [الكهف : ٢٩].

وقال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] وقال (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الحج : ٥٦].

والقول الأول هو المشهور ويدل عليه وجوه :

أحدها : الآيات الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] ، [والموتتان لا تحصلان إلا عند حصول الحياة في القبر](٢) وقال الله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥] و «الفاء» للتعقيب.

وقال : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضا ؛ لأن العذاب حقّ الله ـ تعالى ـ على العبد ، والثواب حق للعبد على الله تعالى.

وثانيها : أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) معنى ؛ لأن الخطاب للمؤمنين ، وقد [كانوا يعلمون أنهم ماتوا على هدى وكون أنهم](٣) كانوا لا يعلمون ؛ أي أنهم سيحيون يوم القيامة.

وثالثها : أن قوله تعالى : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) [آل عمران : ١٧٠] دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث.

ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام أعوذ بك من عذاب القبر وقوله : القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران (٤).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» للهيثمي ، وقال : وفيه محمد بن أيوب بن سويد وهو ضعيف. ـ

٧٩

وخامسها : أنه لو كان المراد من قوله : «إنهم أحياء» أنهم سيحيون ، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة.

قال القرطبي : والشهداء أحياء كما قال الله تعالى ، وليس معناه أنهم سيحيون ، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سيحيا.

ويدل على هذا (١) قوله تبارك وتعالى : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون.

وأجاب عنه أبو مسلم بأنه ـ تعالى ـ إنما خصهم بالذكر ؛ لأن درجتهم في الجنة أرفع ، ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء : ٦٩] فأرادهم بالذكر تعظيما.

قال ابن الخطيب (٢) : هذا الجواب ضعيف ؛ لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله ـ تعالى ـ ما خصهم بالذكر.

وفي هذا الجواب نظر ؛ لأن الآية الكريمة ليست في النبيين والصديقين ، إنما هي في الشهداء.

واحتج أبو مسلم بأنه ـ تعالى ـ ذكر هذه الآية في «آل عمران» فقال : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] وهذه العندية ليست بالمكان ، بل بالكون في الجنة ، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد (٣) القيامة.

وقال ابن الخطيب (٤) : لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة ، بل بإعلاء الدرجات ، وإيصال البشارات إليه ، وهو في القبر ، أو في موضع آخر.

وقال بعضهم : ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب ، والكلام في هذه المسألة مذكور في غير هذا المكان.

[قال الحسن : إن الشهداء هم أحياء عند الله ـ تعالى ـ تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح والفرج ، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية ، فيصل إليهم الوجع](٥).

قوله تعالى : (أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) خبر مبتدأ محذوف أي : لا تقولوا : هم أموات ، وكذلك «أحياء» خبر مبتدأ محذوف أي : بل هم أحياء.

__________________

ـ وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٤ / ٢٣٨) وانظر إتحاف السادة المتقين (٦ / ٣٠١) و (١٠ / ٣٨٠).

(١) في أ : على هذا.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٤ / ١٣٣.

(٣) في ب : بعد.

(٤) ينظر الفخر الرازي : ٤ / ١٣٣.

(٥) سقط في ب.

٨٠